الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج ***
المتن إذَا عَادَ إلَى مِنًى بَاتَ بِهَا لَيْلَتَيْ التَّشْرِيقِ، وَرَمَى كُلَّ يَوْمٍ إلَى الْجَمَرَاتِ الثَّلَاثِ كُلَّ جَمْرَةٍ سَبْعَ حَصَيَاتٍ، فَإِذَا رَمَى الْيَوْمَ الثَّانِيَ وَأَرَادَ النَّفْرَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ جَازَ، وَسَقَطَ مَبِيتُ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ وَرَمَى يَوْمَهَا، فَإِنْ لَمْ يَنْفِرْ حَتَّى غَرَبَتْ وَجَبَ مَبِيتُهَا وَرَمَى الْغَدَ، وَيَدْخُلُ رَمْيُ التَّشْرِيقِ بِزَوَالِ الشَّمْسِ وَيَخْرُجُ بِغُرُوبِهَا وَقِيلَ يَبْقَى إلَى الْفَجْرِ.
الشَّرْحُ (فَصْلٌ) فِي الْمَبِيتِ بِمِنًى لَيَالِيَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ (إذَا عَادَ إلَى مِنًى) بَعْدَ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ إنْ لَمْ يَكُنْ سَعَى بَعْدَ قُدُومٍ (بَاتَ بِهَا) حَتْمًا (لَيْلَتَيْ) يَوْمَيْ (التَّشْرِيقِ) وَالثَّالِثَةَ أَيْضًا لِلِاتِّبَاعِ الْمَعْلُومِ مِنْ الْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ مَعَ خَبَرِ {خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ} وَالْوَاجِبُ مُعْظَمُ اللَّيْلِ كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَبِيتُ بِمَكَانٍ لَا يَحْنَثُ إلَّا بِمُعْظَمِ اللَّيْلِ، وَإِنَّمَا اُكْتُفِيَ بِسَاعَةٍ فِي نِصْفِهِ الثَّانِي مُزْدَلِفَةَ كَمَا مَرَّ؛ لِأَنَّ نَصَّ الشَّافِعِيِّ وَقَعَ فِيهَا بِخُصُوصِهَا، إذْ بَقِيَّةُ الْمَنَاسِكِ يَدْخُلُ وَقْتُهَا بِالنِّصْفِ، وَهِيَ كَثِيرَةُ مَشَقَّةٍ، فَسُومِحَ فِي التَّخْفِيفِ لِأَجْلِهَا، وَسُمِّيَتْ هَذِهِ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ لِإِشْرَاقِ نَهَارِهَا بِنُورِ الشَّمْسِ وَلَيْلِهَا بِنُورِ الْقَمَرِ، وَقِيلَ: لِأَنَّ النَّاسَ يُشَرِّقُونَ اللَّحْمَ فِيهَا فِي الشَّمْسِ، وَهَذِهِ الْأَيَّامُ هِيَ الْمَعْدُودَاتُ فِي قَوْله تَعَالَى فِي الْبَقَرَةِ {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} وَأَمَّا الْمَعْلُومَاتُ فِي قَوْله تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَجِّ {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} فَهِيَ الْعَشْرُ الْأُوَلُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ (وَرَمَى كُلَّ يَوْمٍ) مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ الثَّلَاثَةِ، وَهِيَ حَادِيَ عَشَرَ ذِي الْحِجَّةِ وَتَالِيَاهُ (إلَى الْجَمَرَاتِ الثَّلَاثِ) وَالْأُولَى مِنْهَا تَلِي مَسْجِدَ الْخَيْفِ، وَهِيَ الْكُبْرَى، وَالثَّانِيَةُ الْوُسْطَى، وَالثَّالِثَةُ جَمْرَةُ الْعَقَبَةِ وَلَيْسَتْ مِنْ مِنًى، بَلْ مِنًى تَنْتَهِي إلَيْهَا، وَيَرْمِي (كُلَّ جَمْرَةٍ سَبْعَ حَصَيَاتٍ) لِلِاتِّبَاعِ الْمَعْلُومِ مِنْ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، فَمَجْمُوعُ الْمَرْمِيِّ بِهِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ثَلَاثَةٌ وَسِتُّونَ حَصَاةً. وَيُسَنُّ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ فِي هَذِهِ الْجَمَرَاتِ (فَإِذَا رَمَى الْيَوْمَ) الْأَوَّلَ، وَ (الثَّانِيَ) مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ (وَأَرَادَ النَّفْرَ) مَعَ النَّاسِ (قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ) فِي الْيَوْمِ الثَّانِي (جَازَ وَسَقَطَ مَبِيتُ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ وَرَمَى يَوْمَهَا) وَلَا دَمَ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ} وَلِإِتْيَانِهِ بِمُعْظَمِ الْعِبَادَةِ. وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا التَّعْلِيلِ أَنَّ مَحِلَّ ذَلِكَ إذَا بَاتَ اللَّيْلَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ. فَإِنْ لَمْ يَبِتْهُمَا لَمْ يَسْقُطْ مَبِيتُ الثَّالِثَةِ وَلَا رَمْيُ يَوْمِهَا، وَهُوَ كَذَلِكَ فِيمَنْ لَا عُذْرَ لَهُ كَمَا نَقَلَهُ فِي الْمَجْمُوعِ عَنْ الرُّويَانِيِّ عَنْ الْأَصْحَابِ وَأَقَرَّهُ، وَكَذَا لَوْ نَفَرَ بَعْدَ الْمَبِيتِ وَقَبْلَ الرَّمْيِ كَمَا يُفْهِمُهُ تَقْيِيدُ الْمُصَنِّفِ بِبَعْدِ الرَّمْيِ، وَبِهِ صَرَّحَ الْعِمْرَانِيُّ عَنْ الشَّرِيفِ الْعُثْمَانِيِّ قَالَ: لِأَنَّ هَذَا النَّفْرَ غَيْرُ جَائِزٍ. قَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ: وَهُوَ صَحِيحٌ مُتَّجَهٌ. وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَالشَّرْطُ أَنْ يَنْفِرَ بَعْدَ الزَّوَالِ وَالرَّمْيِ. قَالَ الْأَصْحَابُ: وَالْأَفْضَلُ تَأْخِيرُ النَّفْرِ إلَى الثَّالِثِ، لَا سِيَّمَا لِلْإِمَامِ كَمَا قَالَهُ فِي الْمَجْمُوعِ لِلِاقْتِدَاءِ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا لِعُذْرٍ كَغَلَاءٍ وَنَحْوِهِ، بَلْ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ: لَيْسَ لِلْإِمَامِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَتْبُوعٌ، فَلَا يَنْفِرُ إلَّا بَعْدَ كَمَالِ الْمَنَاسِكِ حَكَاهُ عَنْهُ فِي الْمَجْمُوعِ، وَيَتْرُكُ حَصَى الْيَوْمِ الثَّالِثِ أَوْ يَدْفَعُهَا لِمَنْ لَمْ يَرْمِ وَلَا يَنْفِرُ بِهَا. وَأَمَّا مَا يَفْعَلُهُ النَّاسُ مِنْ دَفْنِهَا فَلَا أَصْلَ لَهُ (فَإِنْ لَمْ يَنْفِرْ) بِكَسْرِ الْفَاءِ وَضَمِّهَا: أَيْ يَذْهَبْ. وَأَصْلُهُ لُغَةً: الِانْزِعَاجُ (حَتَّى غَرَبَتْ) أَيْ الشَّمْسُ (وَجَبَ مَبِيتُهَا وَرَمْيُ الْغَدِ) لِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مَوْقُوفٍ عَلَيْهِ، وَلَوْ غَرَبَتْ الشَّمْسُ وَهُوَ فِي شُغْلِ الِارْتِحَالِ فَلَهُ النَّفْرُ؛ لِأَنَّ فِي تَكْلِيفِهِ حَلَّ الرَّحْلِ وَالْمَتَاعِ مَشَقَّةً عَلَيْهِ كَمَا لَوْ ارْتَحَلَ وَغَرَبَتْ الشَّمْسُ قَبْلَ انْفِصَالِهِ مِنْ مِنًى فَإِنَّ لَهُ النَّفْرَ، وَهَذَا مَا جَزَمَ ابْنُ الْمُقْرِي تَبَعًا لِأَصْلِ الرَّوْضَةِ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ خِلَافًا لِمَا فِي مَنَاسِكِ الْمُصَنِّفِ مِنْ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ النَّفْرُ، وَإِنْ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: إنَّ مَا فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ غَلَطٌ، وَلَوْ نَفَرَ قَبْلَ الْغُرُوبِ ثُمَّ عَادَ إلَى مِنًى زَائِرًا أَوْ مَارًّا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْغُرُوبِ أَمْ بَعْدَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ مَبِيتُ تِلْكَ اللَّيْلَةِ وَلَا رَمْيُ يَوْمِهَا بَلْ لَوْ بَاتَ هَذَا مُتَبَرِّعًا سَقَطَ عَنْهُ الرَّمْيُ لِحُصُولِ الرُّخْصَةِ لَهُ بِالنَّفْرِ وَيَجِبُ بِتَرْكِ مَبِيتِ لَيَالِي مِنًى دَمٌ لِتَرْكِهِ الْمَبِيتَ الْوَاجِبَ كَمَا يَجِبُ فِي تَرْكِ مَبِيتِ مُزْدَلِفَةَ دَمٌ، وَفِي تَرْكِ مَبِيتِ اللَّيْلَةِ الْوَاحِدَةِ مُدٌّ وَاللَّيْلَتَيْنِ مُدَّانِ مِنْ طَعَامٍ، وَفِي تَرْكِ الثَّلَاثِ مَعَ لَيْلَةِ مُزْدَلِفَةَ دَمَانٍ لِاخْتِلَافِ الْمَبِيتَيْنِ مَكَانًا، وَيُفَارِقُ مَا يَأْتِي فِي تَرْكِ الرَّمْيَيْنِ بِأَنَّ تَرْكَهُمَا يَسْتَلْزِمُ تَرْكَ مَكَانَيْنِ وَزَمَانَيْنِ، وَتَرْكُ الرَّمْيَيْنِ لَا يَسْتَلْزِمُ إلَّا تَرْكَ زَمَانَيْنِ، فَلَوْ نَفَرَ مَعَ تَرْكِ مَبِيتِ لَيْلَتَيْنِ مِنْ أَيَّامِ مِنًى فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ، أَوْ الثَّانِي لَزِمَهُ دَمٌ لِتَرْكِهِ جِنْسَ الْمَبِيتِ بِمِنًى فِيهِمَا، وَيَسْقُطُ مَبِيتُ مِنًى وَمُزْدَلِفَةَ وَالدَّمُ عَنْ الرِّعَاءِ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَبِالْمَدِّ إنْ خَرَجُوا مِنْهُمَا قَبْلَ الْغُرُوبِ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ لِرِعَاءِ الْإِبِلِ أَنْ يَتْرُكُوا الْمَبِيتَ بِمِنًى، وَقِيسَ بِمِنًى مُزْدَلِفَةَ، وَصُورَتُهُ أَنْ يَأْتِيَهَا قَبْلَ الْغُرُوبِ ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْهَا حِينَئِذٍ عَلَى خِلَافِ الْعَادَةِ، فَإِنْ لَمْ يَخْرُجُوا قَبْلَ الْغُرُوبِ بِأَنْ كَانُوا بِهَا بَعْدَهُ لَزِمَهُمْ مَبِيتُ تِلْكَ اللَّيْلَةِ وَالرَّمْيُ مِنْ الْغَدِ. وَأَمَّا أَهْلُ السِّقَايَةِ، وَهِيَ بِكَسْرِ السِّينِ: مَوْضِعٌ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ يُسْقَى فِيهِ الْمَاءُ وَيُجْعَلُ فِي حِيَاضٍ يُسَبَّلُ لِلشَّارِبِينَ فَيَسْقُطُ عَنْهُمْ الْمَبِيتُ، وَلَوْ نَفَرُوا بَعْدَ الْغُرُوبِ وَكَانَتْ السِّقَايَةُ مُحْدَثَةً لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ لِلْعَبَّاسِ أَنْ يَبِيتَ بِمَكَّةَ لَيَالِي مِنًى لِأَجْلِ السِّقَايَةِ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، وَغَيْرُ الْعَبَّاسِ مِمَّنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ السِّقَايَةِ فِي مَعْنَاهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَبَّاسِيًّا، وَإِنَّمَا لَمْ يُقَيَّدْ ذَلِكَ بِخُرُوجِهِمْ قَبْلَ الْغُرُوبِ؛ لِأَنَّ عَمَلَهُمْ بِاللَّيْلِ بِخِلَافِ الرِّعَاءِ، وَمَا ذُكِرَ فِي السِّقَايَةِ الْحَادِثَةِ هُوَ مَا صَحَّحَهُ الْمُصَنِّفُ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ خِلَافًا لِلرَّافِعِيِّ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ تَصْحِيحِ الْمَنْعِ، وَلِرِعَاءِ الْإِبِلِ وَأَهْلِ السِّقَايَةِ تَأْخِيرُ الرَّمْيِ يَوْمًا فَقَطْ وَيُؤَدُّونَهُ فِي تَالِيهِ قَبْلَ رَمْيِهِ لَا رَمْيَ يَوْمَيْنِ مُتَوَالِيَيْنِ، وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِوَقْتِ الِاخْتِيَارِ وَإِلَّا فَقَدْ مَرَّ أَنَّ وَقْتَ الْجَوَازِ يَمْتَدُّ إلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَقَوْلُ الْمَجْمُوعِ: قَالَ الرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُ: لَا يُرَخَّصُ لِلرِّعَاءِ فِي تَرْكِ رَمْيِ يَوْمِ النَّحْرِ: أَيْ فِي تَأْخِيرِهِ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُرَخَّصُ لَهُ فِي الْخُرُوجِ عَنْ وَقْتِ الِاخْتِيَارِ، وَيُعْذَرُ فِي تَرْكِ الْمَبِيتِ وَعَدَمِ لُزُومِ الدَّمِ خَائِفٌ عَلَى نَفْسٍ أَوْ مَالٍ أَوْ فَوْتِ أَمْرٍ يَطْلُبُهُ كَآبِقٍ أَوْ ضَيَاعِ مَرِيضٍ بِتَرْكِ تَعَهُّدِهِ؛ لِأَنَّهُ ذُو عُذْرٍ فَأَشْبَهَ الرِّعَاءَ وَأَهْلَ السِّقَايَةِ، وَلَهُ أَنْ يَنْفِرَ بَعْدَ الْغُرُوبِ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ التَّشْبِيهِ بِأَهْلِ السِّقَايَةِ، وَصَرَّحَ بِهِ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ الْمَشْغُولَ بِتَدَارُكِ الْحَجِّ عَنْ مَبِيتِ مُزْدَلِفَةَ وَمَنْ أَفَاضَ مِنْ عَرَفَةَ لِيَطُوفَ لِلْإِفَاضَةِ أَنَّهُ يُعْذَرُ فِي تَرْكِ الْمَبِيتِ، وَيُسَنُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَخْطُبَ بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى خُطْبَةً يُعَلِّمُهُمْ فِيهَا حُكْمَ الطَّوَافِ وَالرَّمْيِ وَالنَّحْرِ وَالْمَبِيتِ وَمَنْ يُعْذَرُ فِيهِ، ثُمَّ يَخْطُبُ بِهِمْ بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ بِمِنًى خُطْبَةَ ثَانِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ لِلِاتِّبَاعِ، وَيُعَلِّمُهُمْ فِيهَا جَوَازَ النَّفْرِ فِيهِ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ طَوَافِ الْوَدَاعِ وَغَيْرِهِ، وَيُوَدِّعُهُمْ وَيَأْمُرُهُمْ بِخَتْمِ الْحَجِّ بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَاتَانِ الْخُطْبَتَانِ لَمْ نَرَ مَنْ يَفْعَلُهُمَا فِي زَمَانِنَا (وَيَدْخُلُ رَمْيُ) كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ (التَّشْرِيقِ بِزَوَالِ الشَّمْسِ) مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ لِلِاتِّبَاعِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَيُسَنُّ تَقْدِيمُهُ عَلَى صَلَاةِ الظُّهْرِ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ، وَمَحِلُّهُ مَا لَمْ يَضِقْ الْوَقْتُ وَإِلَّا قَدَّمَ الصَّلَاةَ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُسَافِرًا فَيُؤَخِّرَهَا بِنِيَّةِ الْجَمْعِ (وَيَخْرُجُ) أَيْ وَقْتُهُ اخْتِيَارِيٌّ (بِغُرُوبِهَا) مِنْ كُلِّ يَوْمٍ. أَمَّا وَقْتُ الْجَوَازِ فَلَا يَخْرُجُ بِذَلِكَ كَمَا عُلِمَ مِمَّا مَرَّ وَمِمَّا سَيَأْتِي مِنْ أَنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ إلَّا بِغُرُوبِهَا مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ (وَقِيلَ يَبْقَى إلَى الْفَجْرِ) كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَمَحِلُّ هَذَا الْوَجْهِ فِي غَيْرِ الْيَوْمِ الثَّالِثِ. أَمَّا هُوَ فَيَخْرُجُ وَقْتُ رَمْيِهِ بِغُرُوبِ شَمْسِهِ جَزْمًا لِخُرُوجِ وَقْتِ الْمَنَاسِكِ بِغُرُوبِ شَمْسِهِ،.
المتن وَيُشْتَرَطُ رَمْيُ السَّبْعِ وَاحِدَةً وَاحِدَةً وَتَرْتِيبُ الْجَمَرَاتِ وَكَوْنُ الْمَرْمِيِّ حَجَرًا، وَأَنْ يُسَمِّيَ رَمْيًا فَلَا يَكْفِي الْوَضْعُ، وَالسُّنَّةُ أَنْ يَرْمِيَ بِقَدْرِ حَصَى الْخَذْفِ، وَلَا يُشْتَرَطُ بَقَاءُ الْحَجَرِ فِي الْمَرْمَى، وَلَا كَوْنُ الرَّامِي خَارِجًا عَنْ الْجَمْرَةِ، وَمَنْ عَجَزَ عَنْ الرَّمْيِ اسْتَنَابَ، وَإِذَا تَرَكَ رَمْيَ يَوْمٍ تَدَارَكَهُ فِي بَاقِي الْأَيَّامِ فِي الْأَظْهَرِ.
الشَّرْحُ وَلِلرَّمْيِ شُرُوطٌ ذَكَرَهَا فِي قَوْلِهِ (وَيُشْتَرَطُ) فِي رَمْيِ النَّحْرِ وَغَيْرِهِ (رَمْيُ) الْحَصَيَاتِ (السَّبْعِ وَاحِدَةً وَاحِدَةً) لِلِاتِّبَاعِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَالْمُرَادُ بِسَبْعِ رَمَيَاتٍ فَيُجْزِئُ وَإِنْ وَقَعْنَ مَعًا أَوْ سَبَقَتْ الْأَخِيرَةُ الْأُولَى فِي الْوُقُوعِ. فَلَوْ رَمَى السَّبْعَ مَرَّةً وَاحِدَةً، أَوْ حَصَاتَيْنِ كَذَلِكَ إحْدَاهُمَا بِيَمِينِهِ وَالْأُخْرَى بِيَسَارِهِ لَمْ يُحْسَبْ إلَّا وَاحِدَةً وَإِنْ تَعَاقَبَ الْوُقُوعُ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ وَجَبَ الْحَدُّ عَلَى إنْسَانٍ فَجُلِدَ بِمِائَةٍ مَشْدُودَةٍ فَإِنَّهَا تُحْسَبُ مِائَةً؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى التَّخْفِيفِ، وَأَيْضًا الْمَقْصُودُ مِنْ الضَّرَبَاتِ الْإِيلَامُ وَهُوَ حَاصِلٌ، وَأَمَّا الرَّمْيُ فَإِنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهِ التَّعَبُّدُ وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ لَوْ رَمَى حَصَاةً وَاحِدَةٌ سَبْعَ مَرَّاتٍ لَمْ يَكْفِ وَهُوَ وَجْهٌ رَجَّحَهُ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ، وَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: إنَّهُ الْأَقْوَى، وَاخْتَارَهُ الْأَذْرَعِيُّ إذْ الْمَقَامُ مَقَامُ اتِّبَاعٍ وَتَعَبُّدٍ، وَلَكِنَّ الْأَصَحَّ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ الْجَوَازُ، وَنَقَلَهُ فِي الْمَجْمُوعِ عَنْ اتِّفَاقِ الْأَصْحَابِ، وَلَوْ رَمَى جُمْلَةَ السَّبْعِ سَبْعَ مَرَّاتٍ أَجْزَأَهُ، وَكَلَامُ الْمَتْنِ يُفْهِمُ خِلَافَ ذَلِكَ وَلَوْ قَالَ كَالْمُحَرَّرِ: وَيُشْتَرَطُ رَمْيُ الْحَصَيَاتِ السَّبْعِ فِي سَبْعِ دُفُعَاتٍ لَكَانَ أَوْلَى (وَتَرْتِيبُ الْجَمَرَاتِ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَاحِدَتُهَا جَمْرَةٌ بِسُكُونِهَا بِأَنْ يَبْدَأَ بِالْجَمْرَةِ الَّتِي تَلِي مَسْجِدَ الْخَيْفِ، وَهِيَ أُولَاهُنَّ مِنْ جِهَةِ عَرَفَاتٍ، ثُمَّ الْوُسْطَى، ثُمَّ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ لِلِاتِّبَاعِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَلَوْ بَدَأَ بِجَمْرَةِ الْعَقَبَةِ ثُمَّ الْوُسْطَى، ثُمَّ الَّتِي تَلِي الْمَسْجِدَ حَصَلَتْ فَقَطْ، وَلَوْ تَرَكَ حَصَاةً وَشَكَّ فِي مَحِلِّهَا جَعَلَهَا مِنْ الْأُولَى احْتِيَاطًا فَيَرْمِي بِهَا إلَيْهَا وَيُعِيدُ رَمْيَ الْجَمْرَتَيْنِ، إذْ الْمُوَالَاةُ بَيْنَ الرَّمْيِ فِي الْجَمَرَاتِ لَا تَجِبُ، وَإِنَّمَا تُسَنُّ فِيهِ كَمَا فِي الطَّوَافِ، لَوْ تَرَكَ حَصَاتَيْنِ لَا يَعْلَمُ مَوْضِعَهُمَا احْتَاطَ وَجَعَلَ وَاحِدَةً مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ وَوَاحِدَةً مِنْ ثَالِثَةٍ وَهُوَ يَوْمُ النَّفْرِ الْأَوَّلِ مِنْ أَيِّ جَمْرَةٍ كَانَتْ أَخْذًا بِالْأَسْوَأِ (وَ) يُشْتَرَطُ (كَوْنُ) الرَّمْيِ بِالْيَدِ، وَكَوْنُ (الْمَرْمِيِّ حَجَرًا) لِلِاتِّبَاعِ فَلَا يَكْفِي الرَّمْيُ عَنْ قَوْسٍ، وَلَا الرَّمْيُ بِالرِّجْلِ، وَلَا بِالْمِقْلَاعِ، وَلَا بِالرَّمْيِ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ كَلُؤْلُؤٍ وَإِثْمِدٍ وَزَرْنِيخٍ وَجِصٍّ وَجَوْهَرٍ، وَيُجْزِئُ الْحَجَرُ بِأَنْوَاعِهِ كَيَاقُوتٍ وَحَجَرِ حَدِيدٍ وَبِلَّوْرٍ وَعَقِيقٍ وَذَهَبٍ وَفِضَّةٍ، وَيُجْزِئُ حَجَرُ نُورَةٍ لَمْ يُطْبَخْ بِخِلَافِ مَا طُبِخَ مِنْهُ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يُسَمَّى حَجَرًا بَلْ نُورَةً (وَأَنْ يُسَمَّى رَمْيًا فَلَا يَكْفِي الْوَضْعُ) فِي الْمَرْمَى لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى رَمْيًا، وَلِأَنَّهُ خِلَافُ الْوَارِدِ. فَإِنْ قِيلَ: ذِكْرُ اشْتِرَاطِ الرَّمْيِ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ عُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ: وَيُشْتَرَطُ رَمْيُ السَّبْعِ وَاحِدَةً وَاحِدَةً. أُجِيبَ بِأَنَّهُ إنَّمَا ذَكَرَهُ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ ذَلِكَ سِيقَ لِبَيَانِ التَّعَدُّدِ لَا لِلْكَيْفِيَّةِ فَنَصَّ عَلَيْهِ هُنَا احْتِيَاطًا، وَيُشْتَرَطُ أَيْضًا قَصْدُ الْجَمْرَةِ بِالرَّمْيِ، فَلَوْ رَمَى إلَى غَيْرِهَا كَأَنْ رَمَى فِي الْهَوَاءِ فَوَقَعَ فِي الْمَرْمَى لَمْ يَكْفِ، وَقَضِيَّةُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ لَوْ رَمَى إلَى الْعَلَمِ الْمَنْصُوبِ فِي الْجَمْرَةِ أَوْ الْحَائِطِ الَّتِي بِجَمْرَةِ الْعَقَبَةِ كَمَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَأَصَابَهُ ثُمَّ وَقَعَ فِي الْمَرْمَى لَا يُجْزِئُ. قَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ: وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدِي، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ فِيهِ بِفِعْلِهِ مَعَ قَصْدِ الرَّمْيِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَالثَّانِي مِنْ احْتِمَالَيْهِ أَقْرَبُ ا هـ. بَلْ الْأَقْرَبُ إلَى كَلَامِهِمْ الْأَوَّلُ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَلَمْ يَذْكُرُوا فِي الْمَرْمَى حَدًّا مَعْلُومًا، غَيْرَ أَنَّ كُلَّ جَمْرَةٍ عَلَيْهَا عَلَمٌ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَرْمِيَ تَحْتَهُ عَلَى الْأَرْضِ، وَلَا يَبْعُدَ عَنْهُ احْتِيَاطًا وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: الْجَمْرَةُ مُجْتَمَعُ الْحَصَى لَا مَا سَالَ مِنْ الْحَصَى، فَمَنْ أَصَابَ مُجْتَمَعَهُ أَجْزَأَهُ، وَمَنْ أَصَابَ سَائِلَهُ لَمْ يُجْزِهِ، وَحَدَّهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فَقَالَ: مَوْضِعُ الرَّمْيِ ثَلَاثَةُ أَذْرُعٍ مِنْ سَائِرِ الْجَوَانِبِ إلَّا فِي جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، فَلَيْسَ لَهَا إلَّا وَجْهٌ وَاحِدٌ، وَرَمْيُ كَثِيرِينَ مِنْ أَعْلَاهَا بَاطِلٌ ا هـ. وَهُوَ قَرِيبٌ مِمَّا تَقَدَّمَ (وَالسُّنَّةُ) فِي رَمْيِ النَّحْرِ وَغَيْرِهِ (أَنْ يَرْمِيَ) الْجَمْرَةَ لَا بِحَجَرٍ كَبِيرٍ وَلَا صَغِيرٍ جِدًّا بَلْ (بِقَدْرِ حَصَى الْخَذْفِ) وَهُوَ دُونَ الْأُنْمُلَةِ طُولًا وَعَرْضًا فِي قَدْرِ الْبَاقِلَّاءِ، فَلَوْ رَمَى بِأَكْبَرَ مِنْهُ أَوْ بِأَصْغَرَ كُرِهَ وَأَجْزَأَهُ، وَهَيْئَةُ الْخَذْفِ كَمَا قَالَ الرَّافِعِيُّ أَنْ يَضَعَ الْحَجَرَ عَلَى بَطْنِ الْإِبْهَامِ وَيَرْمِيَهُ بِرَأْسِ السَّبَّابَةِ، وَالْأَصَحُّ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ وَالْمَجْمُوعِ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ يَرْمِيهِ عَلَى غَيْرِ هَيْئَةِ حَصَى الْخَذْفِ. وَيُسَنُّ أَنْ يَرْفَعَ الذَّكَرُ يَدَهُ بِالرَّمْيِ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ إبِطِهِ بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ وَالْخُنْثَى، وَأَنْ يَكُونَ الرَّمْيُ بِالْيَدِ الْيُمْنَى، وَأَنْ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ فِي رَمْيِ التَّشْرِيقِ، وَأَنْ يَرْمِيَ رَاجِلًا لَا رَاكِبًا إلَّا فِي يَوْمِ النَّفْرِ، فَالسُّنَّةُ أَنْ يَرْمِيَ رَاكِبًا لِيَنْفِرَ عَقِبَهُ، وَأَنْ يَرْمِيَ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي كَمَا مَرَّ فِي رَمْيِ يَوْمِ النَّحْرِ، وَأَنْ يَرْمِيَ الْجَمْرَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنْ عُلْوٍ، وَأَنْ يَدْنُوَ مِنْ الْجَمْرَةِ فِي رَمْيِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ بِحَيْثُ لَا يَبْلُغُهُ حَصَى الرَّامِينَ، فَيَقِفُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ وَيَدْعُو وَيَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى وَيُهَلِّلُ وَيُسَبِّحُ بَعْدَ رَمْيِ الْجَمْرَةِ الْأُولَى بِقَدْرِ قِرَاءَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةَ، وَكَذَا بَعْدَ رَمْيِ الثَّانِيَةِ لَا الثَّالِثَةِ، بَلْ يَمْضِي بَعْدَ رَمْيِهَا لِلِاتِّبَاعِ فِي ذَلِكَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. إلَّا بِقَدْرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ فِعْلِ ابْنِ عُمَرَ (وَلَا يُشْتَرَطُ بَقَاءُ الْحَجَرِ فِي الْمَرْمَى) فَلَا يَضُرُّ تَدَحْرُجُهُ بَعْدَ الْوُقُوعِ فِيهِ لِحُصُولِ اسْمِ الرَّمْيِ (وَلَا كَوْنُ الرَّامِي خَارِجًا عَنْ الْجَمْرَةِ) فَلَوْ وَقَفَ بِبَعْضِهَا وَرَمَى إلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ مِنْهَا صَحَّ لِمَا مَرَّ مِنْ حُصُولِ اسْمِ الرَّمْيِ، وَلَوْ رَمَى الْحَجَرَ فَأَصَابَ شَيْئًا كَأَرْضٍ أَوْ مَحْمَلٍ فَارْتَدَّ إلَيْهِ الْمَرْمِيُّ لَا بِحَرَكَةِ مَا أَصَابَهُ أَجْزَأَهُ؛ لِحُصُولِهِ فِي الْمَرْمَى بِفِعْلِهِ لَا بِمُعَاوَنَةٍ بِخِلَافِ مَا لَوْ ارْتَدَّ بِحَرَكَةِ مَا أَصَابَهُ، وَلَوْ رَدَّتْ الرِّيحُ الْحَصَاةَ إلَى الْمَرْمَى أَوْ تَدَحْرَجَتْ إلَيْهِ مِنْ الْأَرْضِ لَمْ يَضُرَّ إلَّا إنْ تَدَحْرَجَتْ مِنْ ظَهْرِ بَعِيرٍ أَوْ نَحْوِهِ كَعُنُقِهِ وَمَحْمَلٍ فَلَا يَكْفِي، وَيُشْتَرَطُ إصَابَةُ الْمَرْمَى يَقِينًا فَلَوْ شَكَّ فِيهَا لَمْ يَكْفِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْوُقُوعِ فِيهِ وَبَقَاءُ الرَّمْيِ عَلَيْهِ، وَصُرِفَ الرَّمْيُ بِالنِّيَّةِ لِغَيْرِ النُّسُكِ كَأَنْ رَمَى إلَى شَخْصٍ أَوْ دَابَّةٍ فِي الْجَمْرَةِ كَصَرْفِ الطَّوَافِ بِهَا إلَى غَيْرِهِ فَيَنْصَرِفُ لِغَيْرِهِ، وَإِنْ بَحَثَ فِي الْمُهِمَّاتِ إلْحَاقَ الرَّمْيِ بِالْوُقُوفِ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يُتَقَرَّبُ بِهِ وَحْدَهُ كَرَمْيِ الْعَدُوِّ فَأَشْبَهَ الطَّوَافَ بِخِلَافِ الْوُقُوفِ. وَأَمَّا السَّعْيُ فَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا أَخْذًا مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ كَالْوُقُوفِ (وَمَنْ عَجَزَ عَنْ الرَّمْيِ) لِعِلَّةٍ لَا يُرْجَى زَوَالُهَا قَبْلَ فَوْتِ وَقْتِ الرَّمْيِ كَمَرَضٍ أَوْ حَبْسٍ (اسْتَنَابَ) مَنْ يَرْمِي عَنْهُ وُجُوبًا كَمَا قَالَ الْإِسْنَوِيُّ: إنَّهُ الْمُتَّجَهُ وَلَوْ بِأُجْرَةٍ حَلَالًا كَانَ النَّائِبُ أَوْ مُحْرِمًا، لِأَنَّ الِاسْتِنَابَةَ جَائِزَةٌ فِي النُّسُكِ، فَكَذَلِكَ فِي أَبْعَاضِهِ، فَلَيْسَ الْمُرَادُ الْعَجْزَ الَّذِي يَنْتَهِي إلَى الْيَأْسِ، كَمَا فِي اسْتِنَابَةِ الْحَجِّ، وَلَا فَرْقَ فِي الْحَبْسِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ بِحَقٍّ أَمْ لَا كَمَا قَالَهُ فِي الْمَجْمُوعِ خِلَافًا لِابْنِ الرِّفْعَةِ فِي الْحَبْسِ بِحَقٍّ. قَالَ الْإِسْنَوِيُّ: وَصُورَةُ الْمَحْبُوسِ بِحَقٍّ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ قَوَدٌ لِصَغِيرٍ فَإِنَّهُ يُحْبَسُ حَتَّى يَبْلُغَ وَمَا أَشْبَهَ هَذِهِ الصُّورَةَ. وَأَمَّا إذَا حُبِسَ بِدَيْنٍ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ فَلَيْسَ بِعَاجِزٍ عَنْ الرَّمْيِ، وَيُمْكِنُ حَمْلُ كَلَامِ ابْنِ الرِّفْعَةِ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ، وَيُشْتَرَطُ فِي النَّائِبِ أَنْ يَكُونَ رَمَى عَنْ نَفْسِهِ أَوَّلًا فَلَوْ لَمْ يَرْمِ وَقَعَ عَنْ نَفْسِهِ كَأَصْلِ الْحَجِّ وَيُنْدَبُ أَنْ يُنَاوِلَ النَّائِبَ الْحَصَى وَيُكَبِّرَ إنْ أَمْكَنَ وَإِلَّا تَنَاوَلَهَا النَّائِبُ وَكَبَّرَ بِنَفْسِهِ وَلَا يَنْعَزِلُ النَّائِبُ بِإِغْمَاءِ الْمُسْتَنِيبِ كَمَا لَا يَنْعَزِلُ عَنْهُ وَعَنْ الْحَجِّ بِمَوْتِهِ؛ لِأَنَّ الْإِغْمَاءَ زِيَادَةٌ فِي الْعَجْزِ الْمُبِيحِ لِلْإِنَابَةِ فَلَا يَكُونُ مُفْسِدًا لَهَا وَفَارَقَ سَائِرَ الْوَكَالَاتِ بِوُجُوبِ الْإِذْنِ هُنَا، فَلَوْ نَوَى فِي الْوَقْتِ بَعْدَ الرَّمْيِ لَمْ تَلْزَمْهُ الْإِعَادَةُ لَكِنَّهَا تُسَنُّ، أَمَّا إغْمَاءُ النَّائِبِ فَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ يَنْعَزِلُ بِهِ وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَمَا ذُكِرَ فِي هَذَا الْفَصْلِ مِنْ شُرُوطِ الرَّمْيِ وَمُسْتَحَبَّاتِهِ يَأْتِي فِي رَمْيِ يَوْمِ النَّحْرِ (وَإِذَا تَرَكَ رَمْيَ يَوْمٍ) أَوْ يَوْمَيْنِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا أَوْ جَهْلًا (تَدَارَكَهُ فِي بَاقِي الْأَيَّامِ) مِنْهَا (فِي الْأَظْهَرِ) بِالنَّصِّ فِي الرِّعَاءِ وَأَهْلِ السِّقَايَةِ، وَبِالْقِيَاسِ فِي غَيْرِهِمْ، إذْ لَوْ كَانَتْ بَقِيَّةُ الْأَيَّامِ غَيْرَ صَالِحَةٍ لِلرَّمْيِ لَمْ يَفْتَرِقْ الْحَالُ فِيهَا بَيْنَ الْمَعْذُورِ وَغَيْرِهِ كَمَا فِي الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَالْمَبِيتِ بِمُزْدَلِفَةَ، وَكَذَا يَتَدَارَكُ رَمْيَ يَوْمِ النَّحْرِ فِي بَاقِي الْأَيَّامِ إذَا تَرَكَهُ، وَالْيَوْمِ الْأَوَّلِ مِنْهَا فِي الثَّانِي أَوْ الثَّالِثِ، وَالثَّانِي أَوْ الْأَوَّلَيْنِ فِي الثَّالِثِ وَالثَّانِي لَا كَمَا يَتَدَارَكُ بَعْدَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ.
تَنْبِيهٌ: إذَا قُلْنَا بِالتَّدَارُكِ فَتَدَارَكَ فَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ أَدَاءٌ، وَالْوَقْتُ الْمَضْرُوبُ لَهُ وَقْتُ اخْتِيَارٍ كَمَا مَرَّتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ، وَقَضِيَّةُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ لَهُ أَنْ يَتَدَارَكَ قَبْلَ الزَّوَالِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ بِاللَّيْلِ فَإِنَّهُ عَبَّرَ بِالْأَيَّامِ، وَالْأَيَّامُ حَقِيقَةً لَا تَتَنَاوَلُ اللَّيَالِيَ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ الْمُعْتَمَدُ كَمَا جَزَمَ بِهِ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ وَالْمَجْمُوعِ وَالْمَنَاسِكِ وَاقْتَضَاهُ نَصُّ الشَّافِعِيِّ خِلَافًا لِمَا فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ مِنْ الْمَنْعِ، وَجَرَى عَلَيْهِ الْإِسْنَوِيُّ وَابْنُ الْمُقْرِي. وَأَمَّا الثَّانِي فَالْمُعْتَمَدُ فِيهِ أَيْضًا الْإِجْزَاءُ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي شَامِلِهِ وَابْنُ الصَّلَاحِ وَالْمُصَنِّفُ فِي مَنَاسِكِهِمَا، وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ خِلَافًا لِمُقْتَضَى عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ، وَإِنْ جَرَى عَلَيْهِ الْإِسْنَوِيُّ وَابْنُ الْمُقْرِي فِي رَوْضِهِ وَمَا عَلَّلَ بِهِ الْمَنْعَ فِي الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ وَقْتٌ لَمْ يُشْرَعْ فِيهِ رَمْيٌ فَصَارَ كَاللَّيْلِ بِالنِّسْبَةِ لِلصَّوْمِ، وَالْمَنْعَ فِي الثَّانِي بِأَنَّ الرَّمْيَ عِبَادَةُ النَّهَارِ كَالصَّوْمِ مَمْنُوعٌ فِي التَّدَارُكِ، فَجُمْلَةُ أَيَّامِ مِنًى بِلَيَالِيِهَا كَوَقْتٍ وَاحِدٍ، وَكُلُّ يَوْمٍ لِرَمْيِهِ وَقْتُ اخْتِيَارٍ، لَكِنْ لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ رَمْيُ كُلِّ يَوْمٍ عَلَى زَوَالِ شَمْسِهِ كَمَا مَرَّ. وَيَجِبُ التَّرْتِيبُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَمْيِ يَوْمِ التَّدَارُكِ بَعْدَ الزَّوَالِ، فَإِنْ خَالَفَ وَقَعَ عَنْ الْمَتْرُوكِ. فَلَوْ رَمَى إلَى كُلِّ جَمْرَةٍ أَرْبَعَ عَشَرَةَ سَبْعًا عَنْ أَمْسِهِ وَسَبْعًا عَنْ يَوْمِهِ لَمْ يُجْزِهِ عَنْ يَوْمِهِ، وَيُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ النَّائِبَ لَا بُدَّ أَنْ يَرْمِيَ عَنْ نَفْسِهِ الْجَمَرَاتِ الثَّلَاثَ قَبْلَ أَنْ يَرْمِيَ عَنْ مُنِيبِهِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَلَمْ أَرَ مَنْ ذَكَرَهُ. فَإِنْ قِيلَ: مَا اقْتَضَاهُ مَا تَقَرَّرَ مِنْ جَوَازِ تَرْكِ رَمْيِ يَوْمَيْنِ وَوُقُوعِهِ أَدَاءً بِالتَّدَارُكِ يُشْكِلُ بِقَوْلِهِمْ لِلْمَعْذُورِينَ أَنْ يَدَعُوا أَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ، وَأَنَّهُمْ يَقْضُونَ مَا فَاتَهُمْ. أُجِيبَ بِأَنَّ الْكَلَامَ هُنَا فِي تَدَارُكِهِ مَعَ الْبَيَاتِ بِمِنًى، وَالْكَلَامُ الَّذِي سَبَقَ فِي الرِّعَاءِ وَأَهْلِ السِّقَايَةِ إنَّمَا هُوَ فِيمَنْ تَرَكَ الْمَبِيتَ، فَامْتِنَاعُ تَأْخِيرِ رَمْيِ يَوْمَيْنِ فِي حَقِّهِمْ إنَّمَا هُوَ لِعَدَمِ الْإِتْيَانِ بِالْمَبِيتِ لَيْلَتَيْنِ، وَرَمْيِ يَوْمَيْنِ، فَامْتَنَعَ ذَلِكَ لِعَدَمِ الْإِتْيَانِ بِشَيْءٍ مِنْ الشِّعَارِ فِي الْيَوْمَيْنِ بِخِلَافِ مَنْ أَتَى بِالْبَيْتِ فَإِنَّهُ قَدْ أَتَى بِشِعَارِهِ فَسُومِحَ بِتَأْخِيرِ الرَّمْيِ يَوْمَيْنِ، هَذَا، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ مَا تَقَدَّمَ فِي وَقْتِ الِاخْتِيَارِ وَمَا هُنَا فِي وَقْتِ الْجَوَازِ، وَالتَّعْبِيرُ بِالْقَضَاءِ لَا يُنَافِي الْأَدَاءَ كَمَا مَرَّتْ الْإِشَارَةُ إلَى ذَلِكَ. فَإِذَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَعْذُورِينَ وَغَيْرِهِمْ وَإِنْ عَدَّ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ تَنَاقُضًا.
المتن وَلَا دَمَ، وَإِلَّا فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَالْمَذْهَبُ تَكْمِيلُ الدَّمِ فِي ثَلَاثِ حَصَيَاتٍ.
الشَّرْحُ (وَلَا دَمَ) مَعَ التَّدَارُكِ سَوَاءٌ أَجَعَلْنَاهُ أَدَاءً أَمْ قَضَاءً لِحُصُولِ الِانْجِبَارِ بِالْمَأْتِيِّ بِهِ (وَإِلَّا) بِأَنْ لَمْ يَتَدَارَكْهُ (فَعَلَيْهِ دَمٌ) فِي رَمْيِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ أَوْ يَوْمِ النَّحْرِ مَعَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ لِاتِّحَادِ جِنْسِ الرَّمْيِ فَأَشْبَهَ حَلْقَ الرَّأْسِ. وَقَدْ ذَكَرَ الرَّافِعِيُّ طُرُقًا وَاخْتِلَافًا كَثِيرًا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ (وَالْمَذْهَبُ تَكْمِيلُ الدَّمِ فِي ثَلَاثِ حَصَيَاتٍ) لِوُقُوعِ الْجَمْعِ عَلَيْهَا كَمَا لَوْ أَزَالَ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ مُتَوَالِيَةً كَمَا سَيَأْتِي. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ تَرَكَ نُسُكًا فَعَلَيْهِ دَمٌ} وَفِي الْحَصَاةِ الْوَاحِدَةِ مُدٌّ، وَفِي الثِّنْتَيْنِ مُدَّانِ. وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ الْجَمْرَةِ الْأَخِيرَةِ مِنْ الْيَوْمِ الْأَخِيرِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. أَمَّا لَوْ تَرَكَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ الْجَمْرَةِ الْأَخِيرَةِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَعَلَيْهِ دَمٌ لِبُطْلَانِ مَا بَعْدَهُ حَتَّى يَأْتِيَ بِهِ لِوُجُوبِ التَّرْتِيبِ بَيْنَ الْجَمَرَاتِ كَمَا مَرَّ. وَقِيلَ إنَّمَا يَكْمُلُ الدَّمُ فِي وَظِيفَةِ جَمْرَةٍ كَمَا يَكْمُلُ فِي وَظِيفَةِ يَوْمِ النَّحْرِ، وَفِي الْحَصَاةِ وَالْحَصَاتَيْنِ عَلَى الطَّرِيقَيْنِ الْأَقْوَالُ فِي حَقِّ الشَّعْرَةِ وَالشَّعْرَتَيْنِ أَظْهَرُهُمَا أَنَّ فِي الْحَصَاةِ الْوَاحِدَةِ مُدَّ طَعَامٍ وَالثَّانِي دِرْهَمًا، وَالثَّالِثُ ثُلُثُ دَمٍ عَلَى الْأَوَّلِ وَسُبْعَهُ عَلَى الثَّانِي، وَفِي الْحَصَاتَيْنِ ضِعْفُ ذَلِكَ. .
تَنْبِيهٌ: قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مَبِيتَ لَيَالِي مِنًى يَسْقُطُ عَنْ الْمَعْذُورِينَ. وَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَيَجِبُ عَلَيْهِ فِي تَرْكِ مَبِيتِ لَيَالِي التَّشْرِيقِ دَمٌ. وَفِي قَوْلٍ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ دَمٌ وَعَلَى الْأَوَّلِ فِي اللَّيْلَةِ مُدٌّ. وَفِي قَوْلٍ: دِرْهَمٌ. وَفِي آخَرَ: ثُلُثُ دِرْهَمٍ. وَفِي اللَّيْلَتَيْنِ ضِعْفُ ذَلِكَ إنْ لَمْ يَنْفِرْ قَبْلَ الثَّالِثِ، فَإِنْ نَفَرَ قَبْلَهَا فَفِي وَجْهٍ الْحُكْمُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ إلَّا لَيْلَتَيْنِ، وَالْأَصَحُّ وُجُوبُ الدَّمِ بِكَمَالِهِ لِتَرْكِ جِنْسِ الْمَبِيتِ بِمِنًى. قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ: وَتَرْكُ الْمَبِيتِ نَاسِيًا كَتَرْكِهِ عَامِدًا وَصَرَّحَ بِهِ الدَّارِمِيُّ وَغَيْرُهُ.
المتن وَإِذَا أَرَادَ الْخُرُوجَ مِنْ مَكَّةَ طَافَ لِلْوَدَاعِ، وَلَا يَمْكُثُ بَعْدَهُ وَهُوَ وَاجِبٌ يُجْبَرُ تَرْكُهُ بِدَمٍ، وَفِي قَوْلٍ سُنَّةٌ لَا يُجْبَرُ، فَإِنْ أَوْجَبْنَاهُ فَخَرَجَ بِلَا وَدَاعٍ وَعَادَ قَبْلَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ سَقَطَ الدَّمُ أَوْ بَعْدَهَا فَلَا عَلَى الصَّحِيحِ.
الشَّرْحُ (وَإِذَا أَرَادَ) بَعْدَ قَضَاءِ مَنَاسِكِهِ (الْخُرُوجَ مِنْ مَكَّةَ) لِسَفَرٍ - وَلَوْ مَكِّيًّا - طَوِيلٍ أَوْ قَصِيرٍ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ (طَافَ لِلْوَدَاعِ) طَوَافًا كَامِلًا بِرَكْعَتَيْهِ لِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَنَسٍ {أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا فَرَغَ مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ طَافَ لِلْوَدَاعِ} وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ خَبَرَ {لَا يَنْفِرَنَّ أَحَدٌ حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ} أَيْ الطَّوَافِ بِهِ كَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، فَلَا طَوَافَ وَدَاعٍ عَلَى مُرِيدِ الْإِقَامَةِ وَإِنْ أَرَادَ السَّفَرَ بَعْدَهُ كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ، وَلَا عَلَى مُرِيدِ السَّفَرِ قَبْلَ فَرَاغِ الْأَعْمَالِ، وَلَا عَلَى الْمُقِيمِ بِمَكَّةَ الْخَارِجِ إلَى التَّنْعِيمِ وَنَحْوِهِ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَخَا عَائِشَةَ أَنْ يُعَمِّرَهَا مِنْ التَّنْعِيمِ وَلَمْ يَأْمُرْهَا بِوَدَاعٍ، وَهَذَا فِيمَنْ خَرَجَ لِحَاجَةٍ ثُمَّ يَعُودُ، وَمَا مَرَّ عَنْ الْمَجْمُوعِ فِيمَنْ أَرَادَ دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ فِيمَنْ خَرَجَ إلَى مَنْزِلِهِ أَوْ مَحِلٍّ يُقِيمُ فِيهِ كَمَا يَقْتَضِيه كَلَامُ الْعِمْرَانِيِّ وَغَيْرِهِ فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا (وَلَا يَمْكُثُ بَعْدَهُ) وَبَعْدَ رَكْعَتَيْهِ وَبَعْدَ الدُّعَاءِ الْمَحْبُوبِ عَقِبَهُ عِنْدَ الْمُلْتَزَمِ وَإِتْيَانِ زَمْزَمَ وَالشُّرْبِ مِنْ مَائِهَا لِخَبَرِ مُسْلِمٍ السَّابِقِ، فَإِنْ مَكَثَ لِغَيْرِ حَاجَةٍ أَوْ لِحَاجَةٍ لَا تَتَعَلَّقُ بِالسَّفَرِ كَالزِّيَارَةِ وَالْعِيَادَةِ وَقَضَاءِ الدَّيْنِ فَعَلَيْهِ إعَادَتُهُ، وَإِنْ اشْتَغَلَ بِرَكْعَتَيْ الطَّوَافِ أَوْ بِأَسْبَابِ الْخُرُوجِ كَشِرَاءِ الزَّادِ وَأَوْعِيَتِهِ وَشَدِّ الرَّحْلِ، أَوْ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَصَلَّاهَا مَعَهُمْ كَمَا قَالَ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ لَمْ يَلْزَمْهُ إعَادَتُهُ، وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ وَلَا الْعُمْرَةِ كَمَا قَالَهُ الشَّيْخَانِ، بَلْ هُوَ عِبَادَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ خِلَافًا لِأَكْثَرِ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ الْخِلَافِ فِي أَنَّهُ هَلْ يَفْتَقِرُ إلَى نِيَّةٍ أَوْ لَا ؟ وَفِي أَنَّهُ يَلْزَمُ الْأَجِيرَ فِعْلُهُ أَوْ لَا ؟ وَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ غَيْرِهِ مِنْ الْأَطْوِفَةِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ طَوَافٍ يَخُصُّهُ حَتَّى لَوْ أَخَّرَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ وَفَعَلَهُ بَعْدَ أَيَّامِ مِنًى وَأَرَادَ الْخُرُوجَ عَقِبَهُ لَمْ يَكْفِ كَمَا ذَكَرَهُ الرَّافِعِيُّ فِي أَثْنَاءِ تَعْلِيلِهِ (وَهُوَ وَاجِبٌ) لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ " أَنَّهُ قَالَ: {أُمِرَ النَّاسُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِمْ بِالْبَيْتِ إلَّا أَنَّهُ قَدْ خُفِّفَ عَنْ الْمَرْأَةِ الْحَائِضِ} (يُجْبَرُ تَرْكُهُ بِدَمٍ) وُجُوبًا كَسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ: (وَفِي قَوْلٍ سُنَّةٌ لَا يُجْبَرُ) بِدَمٍ كَطَوَافِ الْقُدُومِ تَحِيَّةً وَفَرَّقَ الْأَوَّلَ بِأَنَّ طَوَافَ الْقُدُومِ تَحِيَّةُ الْبُقْعَةِ، فَلَيْسَ مَقْصُودًا فِي نَفْسِهِ، وَلِذَلِكَ يَدْخُلُ تَحْتَ غَيْرِهِ.
تَنْبِيهٌ: لَا خِلَافَ فِي الْجَبْرِ كَمَا فِي الشَّرْحِ وَالرَّوْضَةِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي كَوْنِهِ وَاجِبًا أَوْ مَنْدُوبًا، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ مَنْدُوبٌ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي خِلَافًا لِمَا تُوهِمُهُ عِبَارَةُ الْمُصَنِّفِ (فَإِنْ أَوْجَبْنَاهُ فَخَرَجَ) مِنْ مَكَّةَ أَوْ مِنًى (بِلَا وَدَاعٍ) عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا بِوُجُوبِهِ (وَعَادَ) بَعْدَ خُرُوجِهِ (قَبْلَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ) مِنْ مَكَّةَ. وَقِيلَ: مِنْ الْحَرَمِ وَطَافَ لِلْوَدَاعِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْمُحَرَّرِ (سَقَطَ الدَّمُ) لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمُقِيمِ، وَكَمَا لَوْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ غَيْرَ مُحْرِمٍ ثُمَّ عَادَ إلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُمْ: لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمُقِيمِ فِيهِ نَظَرٌ إذَا سَوَّيْنَا بَيْنَ السَّفَرِ الطَّوِيلِ وَالْقَصِيرِ فِي وُجُوبِ الْوَدَاعِ. . أُجِيبَ بِأَنَّ سَفَرَهُ هُنَا لَمْ يَتِمَّ لِعَوْدِهِ بِخِلَافِهِ هُنَاكَ. أَمَّا إذَا عَادَ لِيَطُوفَ فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ لَمْ يَسْقُطْ الدَّمُ، فَلَا وَجْهَ لِإِسْقَاطِ مَا ذَكَرَهُ الْمُحَرَّرُ (أَوْ) عَادَ (بَعْدَهَا) وَطَافَ (فَلَا) يَسْقُطُ (عَلَى الصَّحِيحِ) لِاسْتِقْرَارِهِ بِالسَّفَرِ الطَّوِيلِ، وَوُقُوعُ الطَّوَافِ بَعْدَ الْعَوْدِ حَقٌّ لِلْخُرُوجِ الثَّانِي، وَالثَّانِي يَسْقُطُ كَالْحَالَةِ الْأُولَى، وَيَجِبُ الْعَوْدُ فِيهَا وَلَا يَجِبُ فِي الثَّانِيَةِ لِلْمَشَقَّةِ.
تَنْبِيهٌ: قَوْلُهُ أَوْ بَعْدَهَا يُفْهِمُ أَنَّ بُلُوغَهَا لَيْسَ كَذَلِكَ وَلَيْسَ مُرَادًا، وَاَلَّذِي فِي الْمَجْمُوعِ أَنَّ بُلُوغَهَا كَمُجَاوَزَتِهَا.
المتن وَلِلْحَائِضِ النَّفْرُ بِلَا وَدَاعٍ.
الشَّرْحُ (وَلِلْحَائِضِ النَّفْرُ بِلَا) طَوَافِ (وَدَاعٍ) لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ السَّابِقِ " وَعَنْ عَائِشَةَ {أَنَّ صَفِيَّةَ حَاضَتْ فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَنْصَرِفَ بِلَا وَدَاعٍ} نَعَمْ إنْ طَهُرَتْ قَبْلَ مُفَارَقَةِ بُنْيَانِ مَكَّةَ لَزِمَهَا الْعَوْدُ لِتَطُوفَ بِخِلَافِ مَا إذَا طَهُرَتْ خَارِجَ مَكَّةَ وَلَوْ فِي الْحَرَمِ، وَكَالْحَائِضِ النُّفَسَاءُ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ، وَخَرَجَ بِالْحَائِضِ الْمُتَحَيِّرَةُ فَإِنَّهَا تَطُوفُ. قَالَ الرُّويَانِيُّ: فَإِنْ لَمْ تَطُفْ طَوَافَ الْوَدَاعِ فَلَا دَمَ عَلَيْهَا لِلشَّكِّ فِي طُهْرِهَا. وَأَمَّا الْمُسْتَحَاضَةُ غَيْرُ الْمُتَحَيِّرَةِ فَإِنْ نَفَرَتْ فِي طُهْرِهَا لَزِمَهَا الْعَوْدُ عَلَى التَّفْصِيلِ الْمُتَقَدِّمِ، أَوْ فِي حَيْضِهَا فَلَا، وَمَنْ حَاضَتْ قَبْلَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ تَصِيرُ مُحْرِمَةً حَتَّى تَرْجِعَ لِمَكَّةَ فَتَطُوفَ وَلَوْ طَالَ ذَلِكَ سِنِينَ. قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: وَيَنْبَغِي أَنَّهَا إذَا وَصَلَتْ بَلَدَهَا وَهِيَ مُحْرِمَةٌ عَادِمَةُ النَّفَقَةِ وَلَمْ يُمْكِنْهَا الْوُصُولُ لِلْبَيْتِ الْحَرَامِ يَكُونُ حُكْمُهَا كَالْمُحْصَرِ فَتَتَحَلَّلُ بِذَبْحِ شَاةٍ وَتَقْصِيرٍ وَنِيَّةِ تَحَلُّلٍ، وَأَيَّدَ ذَلِكَ بِكَلَامٍ فِي الْمَجْمُوعِ ا هـ. وَهُوَ بَحْثٌ حَسَنٌ، وَبَحَثَ بَعْضٌ آخَرُ بِأَنَّهَا إنْ كَانَتْ شَافِعِيَّةً تُقَلِّدُ الْإِمَامَ أَبَا حَنِيفَةَ أَوْ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَهُ فِي أَنَّهَا تَهْجِمُ وَتَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَيَلْزَمُهَا تَوْبَةٌ وَتَأْثَمُ بِدُخُولِهَا الْمَسْجِدَ حَائِضًا، وَيُجْزِئُهَا هَذَا الطَّوَافُ عَنْ الْفَرْضِ لِمَا فِي بَقَائِهَا عَلَى الْإِحْرَامِ مِنْ الْمَشَقَّةِ. . وَإِذَا فَرَغَ مِنْ طَوَافِ الْوَدَاعِ الْمَتْبُوعِ بِرَكْعَتَيْهِ اُسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ الْبَيْتَ مَا لَمْ يُؤْذِ أَوْ يَتَأَذَّ بِزِحَامٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَأَنْ يَكُونَ حَافِيًا، وَأَنْ لَا يَنْظُرَ إلَى أَرْضِهِ، وَلَا يَرْفَعَ بَصَرَهُ إلَى سَقْفِهِ تَعْظِيمًا لِلَّهِ تَعَالَى وَحَيَاءً مِنْهُ، وَأَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ وَلَوْ رَكْعَتَيْنِ وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَقْصِدَ مُصَلَّى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَمْشِيَ بَعْدَ دُخُولِ الْبَابِ حَتَّى يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِدَارِ الَّذِي قِبَلَ وَجْهِهِ قَرِيبًا مِنْ ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ، وَأَنْ يَدْعُوَ فِي جَوَانِبِهِ، ثُمَّ يَدْعُوَ عِنْدَ الْمُلْتَزَمِ وَهُوَ بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الزَّايِ، سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُمْ يَلْتَزِمُونَهُ بِالدُّعَاءِ، وَيُسَمَّى الْمُدَّعَى وَالْمُتَعَوَّذَ. قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: يُسَنُّ لِمَنْ فَرَغَ مِنْ طَوَافِ الْوَدَاعِ أَنْ يَأْتِيَ الْمُلْتَزَمَ فَيُلْصِقَ بَدَنَهُ وَصَدْرَهُ بِحَائِطِ الْبَيْتِ وَيَبْسُطَ يَدَيْهِ عَلَى الْجِدَارِ فَيَجْعَلُ الْيُمْنَى مِمَّا يَلِي الْبَابَ وَالْيُسْرَى مِمَّا يَلِي الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ وَيَدْعُو بِمَا أَحَبَّ مِنْ الْمَأْثُورِ وَغَيْرِهِ لَكِنَّ الْمَأْثُورَ أَفْضَلُ، وَمِنْ الْمَأْثُورِ مَا فِي التَّنْبِيهِ وَهُوَ " اللَّهُمَّ الْبَيْتُ بَيْتُك، وَالْعَبْدُ عَبْدُك وَابْنُ أَمَتِك، حَمَلْتَنِي عَلَى مَا سَخَّرْت لِي مِنْ خَلْقِك حَتَّى صَيَّرْتَنِي فِي بِلَادِك، وَبَلَّغْتَنِي بِنِعْمَتِك حَتَّى أَعَنْتَنِي عَلَى قَضَاءِ مَنَاسِكِك، فَإِنْ كُنْت رَضِيَتْ عَنِّي فَازْدَدْ عَنِّي رِضًا، وَإِلَّا فَمُنَّ الْآنَ قَبْلَ أَنْ تَنْأَى عَنْ بَيْتِك دَارِي وَيَبْعُدَ عَنْهُ مَزَارِي، هَذَا أَوَانُ انْصِرَافِي إنْ أَذِنْت لِي غَيْرَ مُسْتَبْدِلٍ بِكَ وَلَا بَيْتِك وَلَا رَاغِبٍ عَنْك وَلَا عَنْ بَيْتِك. اللَّهُمَّ فَأَصْحِبْنِي الْعَافِيَةَ فِي بَدَنِي، وَالْعِصْمَةَ فِي دِينِي وَأَحْسِنْ مُنْقَلَبِي، وَارْزُقْنِي الْعَمَلَ بِطَاعَتِك مَا أَبْقَيْتَنِي " وَمَا زَادَ فَحَسَنٌ وَقَدْ زِيدَ فِيهِ " وَاجْمَعْ لِي خَيْرَيْ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إنَّك قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ " وَلَفْظُ فَمُنَّ الْآنَ يَجُوزُ فِيهِ ضَمُّ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ وَهُوَ الْأَجْوَدُ وَكَسْرُ الْمِيمِ وَتَخْفِيفُ النُّونِ مَعَ فَتْحِهَا وَكَسْرِهَا. قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ، ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنْ كَانَتْ حَائِضًا أَوْ نُفَسَاءَ اُسْتُحِبَّ أَنْ تَأْتِيَ بِجَمِيعِ ذَلِكَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ وَتَمْضِيَ. . وَيُسَنُّ الْإِكْثَارُ مِنْ الِاعْتِمَارِ وَالطَّوَافِ تَطَوُّعًا وَالصَّلَاةُ أَفْضَلُ مِنْ الطَّوَافِ،. وَأَنْ يَزُورَ الْمَوَاضِعَ الْمَشْهُورَةَ بِالْفَضْلِ بِمَكَّةَ، وَهِيَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ. مِنْهَا: بَيْتُ الْمَوْلِدِ، وَبَيْتُ خَدِيجَةَ، وَمَسْجِدُ دَارِ الْأَرْقَمِ، وَالْغَارُ الَّذِي فِي ثَوْرٍ وَاَلَّذِي فِي حِرَاءَ. وَقَدْ أَوْضَحَهَا الْمُصَنِّفُ فِي مَنَاسِكِهِ، وَأَنْ يُكْثِرَ النَّظَرَ إلَى الْبَيْتِ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا " لِمَا رَوَى الْأَزْرَقِيُّ عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ. قَالَ: مَنْ نَظَرَ إلَى الْكَعْبَةِ إيمَانًا وَتَصْدِيقًا خَرَجَ مِنْ الْخَطَايَا كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ ". وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ {إنَّ لِلَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ عِشْرِينَ وَمِائَةَ رَحْمَةٍ تَنْزِلُ عَلَى هَذَا الْبَيْتِ: سِتُّونَ لِلطَّائِفَيْنِ، وَأَرْبَعُونَ لِلْمُصَلِّينَ، وَعِشْرُونَ لِلنَّاظِرِينَ} وَأَنْ يُكْثِرَ مِنْ الصَّدَقَةِ وَأَنْوَاعِ الْبِرِّ وَالْقُرُبَاتِ، فَإِنَّ الْحَسَنَةَ هُنَاكَ بِمِائَةِ أَلْفِ حَسَنَةٍ. قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ الدُّعَاءُ يُسْتَحَبُّ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا بِمَكَّةَ فِي الطَّوَافِ، وَالْمُلْتَزَمِ، وَتَحْتَ الْمِيزَابِ وَفِي الْبَيْتِ، وَعِنْدَ زَمْزَمَ، وَعَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَفِي السَّعْيِ، وَخَلْفَ الْمَقَامِ، وَفِي عَرَفَاتٍ وَمُزْدَلِفَةَ وَمِنًى، وَعِنْدَ الْجَمَرَاتِ الثَّلَاثِ.
المتن وَيُسَنُّ شُرْبُ مَاءِ زَمْزَمَ.
الشَّرْحُ (وَيُسَنُّ شُرْبُ مَاءِ زَمْزَمَ) لِأَنَّهَا مُبَارَكَةٌ طَعَامُ طُعْمٍ وَشِفَاءُ سَقَمٍ. قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ: رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَقِيلَ شِفَاءُ سَقَمٍ لَمْ يَرْوِهَا مُسْلِمٌ وَإِنَّمَا رَوَاهَا أَبُو الطَّيَالِسِيِّ نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ الْإِسْنَوِيُّ. وَيُسَنُّ أَنْ يَشْرَبَهُ لِمَطْلُوبِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لِحَدِيثِ {مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ} رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ وَصَحَّحَهُ الْمُنْذِرِيُّ وَضَعَّفَهُ الْمُصَنِّفُ، وَحَسَّنَهُ ابْنُ حَجَرٍ لِوُرُودِهِ مِنْ طُرُقٍ عَنْ جَابِرٍ. وَيُسَنُّ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ عِنْدَ شُرْبِهِ، وَأَنْ يَتَضَلَّعَ مِنْهُ لِمَا رَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طُرُقٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : {آيَةُ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمُنَافِقِينَ أَنَّهُمْ لَا يَتَضَلَّعُونَ مِنْ زَمْزَمَ}. وَقَدْ شَرِبَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ فَنَالُوا مَطْلُوبَهُمْ. وَيُسَنُّ أَنْ يَقُولَ عِنْدَ شُرْبِهِ: اللَّهُمَّ إنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي عَنْ نَبِيِّك مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ {مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ} وَأَنَا أَشْرَبُهُ لِكَذَا، وَيَذْكُرُ مَا يُرِيدُ دِينًا وَدُنْيَا: اللَّهُمَّ فَافْعَلْ، ثُمَّ يُسَمِّي اللَّهَ تَعَالَى، وَيَشْرَبُ وَيَتَنَفَّسُ ثَلَاثًا. وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ إذَا شَرِبَهُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك عِلْمًا نَافِعًا، وَرِزْقًا وَاسِعًا، وَشِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ. وَقَالَ الْحَاكِمُ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ. وَيُسَنُّ الدُّخُولُ إلَى الْبِئْرِ وَالنَّظَرُ فِيهَا، وَأَنْ يَنْزِعَ مِنْهَا بِالدَّلْوِ الَّذِي عَلَيْهَا وَيَشْرَبَ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَيُسَنُّ أَنْ يَنْضَحَ مِنْهُ عَلَى رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ وَصَدْرِهِ، وَأَنْ يَتَزَوَّدَ مِنْ مَائِهَا، وَيَسْتَصْحِبَ مِنْهُ مَا أَمْكَنَهُ، فَفِي الْبَيْهَقِيّ {أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ تَحْمِلُهُ وَتُخْبِرُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَحْمِلُهُ فِي الْقِرَبِ، وَكَانَ يَصُبُّهُ عَلَى الْمَرْضَى وَيَسْقِيهِمْ مِنْهُ}. وَيُسَنُّ الشُّرْبُ مِنْ نَبِيذِ سِقَايَةِ الْعَبَّاسِ مَا لَمْ يُسْكِرْ، وَالْإِكْثَارُ مِنْ دُخُولِ الْحِجْرِ وَالصَّلَاةِ فِيهِ وَالدُّعَاءُ، فَإِنَّ أَكْثَرَهُ مِنْ الْبَيْتِ كَمَا مَرَّ. . وَيُسَنُّ أَنْ يَخْتِمَ الْقُرْآنَ بِمَكَّةَ، وَأَنْ يَنْصَرِفَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ مُسْتَدْبِرَ الْبَيْتِ كَمَا صَحَّحَهُ الْمُصَنِّفُ فِي مَنَاسِكِهِ وَصَوَّبَهُ فِي مَجْمُوعِهِ، وَقِيلَ: يَخْرُجُ وَهُوَ يَنْظُرُ إلَيْهِ إلَى أَنْ يَغِيبَ عَنْهُ مُبَالَغَةً فِي تَعْظِيمِهِ، وَجَرَى عَلَى ذَلِكَ صَاحِبُ التَّنْبِيهِ، وَقِيلَ يَلْتَفِتُ إلَيْهِ بِوَجْهِهِ مَا أَمْكَنَهُ كَالْمُتَحَزِّنِ عَلَى فِرَاقِهِ، وَجَرَى عَلَى ذَلِكَ ابْنُ الْمُقْرِي، وَيَقُولُ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ مَكَّةَ: اللَّهُ أَكْبَرُ ثَلَاثًا، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ آيِبُونَ عَابِدُونَ سَاجِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ، صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ. وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ.
المتن وَزِيَارَةُ قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ فَرَاغِ الْحَجِّ.
الشَّرْحُ (وَ) تُسَنُّ (زِيَارَةُ قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَنْ زَارَ قَبْرِي وَجَبَتْ لَهُ شَفَاعَتِي} رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا. وَمَفْهُومُهُ أَنَّهَا جَائِزَةٌ لِغَيْرِ زَائِرِهِ، {وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ جَاءَنِي زَائِرًا لَمْ تَنْزِعْهُ حَاجَةٌ إلَّا زِيَارَتِي كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْ أَكُونَ لَهُ شَفِيعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} رَوَاهُ ابْنُ السَّكَنِ فِي سُنَنِهِ الصِّحَاحِ الْمَأْثُورَةِ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ {مَنْ صَلَّى عَلَيَّ عِنْدَ قَبْرِي وَكَّلَ اللَّهُ بِهِ مَلَكًا يُبَلِّغُنِي وَكُفِيَ أَمْرَ دُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ، وَكُنْت لَهُ شَفِيعًا أَوْ شَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} فَزِيَارَةُ قَبْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَفْضَلِ الْقُرُبَاتِ وَلَوْ لِغَيْرِ حَاجٍّ وَمُعْتَمِرٍ، فَقَوْلُهُ (بَعْدَ فَرَاغِ الْحَجِّ) كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ لَيْسَ الْمُرَادُ اخْتِصَاصَ طَلَبِ الزِّيَارَةِ بِهَذِهِ الْحَالَةِ فَإِنَّهَا مَنْدُوبَةٌ مُطْلَقًا كَمَا مَرَّ بَعْدَ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ قَبْلَهُمَا أَوَّلًا مَعَ نُسُكٍ، بَلْ الْمُرَادُ تَأَكُّدُ الزِّيَارَةِ فِيهَا لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْغَالِبَ عَلَى الْحَجِيجِ الْوُرُودُ مِنْ آفَاقٍ بَعِيدَةٍ، فَإِذَا قَرُبُوا مِنْ الْمَدِينَةِ يَقْبُحُ تَرْكُهُمْ الزِّيَارَةَ، وَالثَّانِي لِحَدِيثِ {مَنْ حَجَّ وَلَمْ يَزُرْنِي فَقَدْ جَفَانِي}، رَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ وَغَيْرُهُ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَتَأَكَّدُ لِلْحَاجِّ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ، وَحُكْمُ الْمُعْتَمِرِ حُكْمُ الْحَاجِّ فِي تَأَكُّدِ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ تَشْمَلْهُ عِبَارَةُ الْمُصَنِّفِ. وَفِي الْحَدِيثِ {لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَمَسْجِدِي هَذَا} فَتُسَنُّ زِيَارَةُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَزِيَارَةُ الْخَلِيلِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا تَعَلُّقَ لَهُمَا بِالْحَجِّ، وَيُسَنُّ لِمَنْ قَصَدَ الْمَدِينَةَ الشَّرِيفَةَ لِزِيَارَةِ قَبْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُكْثِرَ فِي طَرِيقِهِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَزِيدَ فِيهِمَا إذَا أَبْصَرَ أَشْجَارَهَا مَثَلًا، وَيَسْأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَنْفَعَهُ بِهَذِهِ الزِّيَارَةِ وَيَتَقَبَّلَهَا مِنْهُ، وَأَنْ يَغْتَسِلَ قَبْلَ دُخُولِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَيَلْبَسَ أَنْظَفَ وَأَحْسَنَ ثِيَابِهِ، فَإِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ قَصَدَ الرَّوْضَةَ، وَهِيَ مَا بَيْنَ الْقَبْرِ وَالْمِنْبَرِ وَصَلَّى تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ بِجَنْبِ الْمِنْبَرِ، وَشَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى بَعْدَ فَرَاغِهِمَا عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ، ثُمَّ يَأْتِي الْقَبْرَ الشَّرِيفَ فَيَسْتَقْبِلُ رَأْسَهُ، وَيَسْتَدْبِرُ الْقِبْلَةَ وَيَبْعُدُ عَنْهُ نَحْوَ أَرْبَعَةِ أَذْرُعٍ، وَيَقِفُ نَاظِرًا إلَى أَسْفَلِ مَا يَسْتَقْبِلُهُ فِي مَقَامِ الْهَيْبَةِ وَالْإِجْلَالِ، فَارِغَ الْقَلْبِ مِنْ عَلَائِقِ الدُّنْيَا، وَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخَبَرِ {مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إلَّا رَدَّ اللَّهُ لَهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. وَأَقَلُّ السَّلَامِ عَلَيْهِ: السَّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَرْفَعُ صَوْتَهُ تَأَدُّبًا مَعَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا فِي حَيَاتِهِ، ثُمَّ يَتَأَخَّرُ إلَى صَوْبِ يَمِينِهِ قَدْرَ ذِرَاعٍ فَيُسَلِّمُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّ رَأْسَهُ عِنْدَ مَنْكِبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَتَأَخَّرُ قَدْرَ ذِرَاعٍ آخَرَ فَيُسَلِّمُ عَلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لِمَا رَوَى الْبَيْهَقِيُّ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا كَانَ إذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرِهِ دَخَلَ الْمَسْجِدَ ثُمَّ أَتَى الْقَبْرَ الشَّرِيفَ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ، السَّلَامُ عَلَيْك يَا أَبَا بَكْرٍ، السَّلَامُ عَلَيْك يَا أَبَتَاهُ، ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى مَوْقِفِهِ الْأَوَّلِ قُبَالَةَ وَجْهِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَتَوَسَّلُ بِهِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَيَسْتَشْفِعَ بِهِ إلَى رَبِّهِ لِمَا رَوَى الْحَاكِمُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا اقْتَرَفَ آدَم الْخَطِيئَةَ قَالَ: يَا رَبِّ أَسْأَلُك بِحَقِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا مَا غَفَرْتَ لِي، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَكَيْفَ عَرَفْت مُحَمَّدًا وَلَمْ أَخْلُقْهُ. قَالَ: يَا رَبِّ لِأَنَّك لَمَّا خَلَقْتَنِي وَنَفَخْت فِي مِنْ رُوحِك رَفَعْتُ رَأْسِي، فَرَأَيْتُ فِي قَوَائِمِ الْعَرْشِ مَكْتُوبًا: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فَعَرَفْت أَنَّك لَمْ تُضِفْ إلَى نَفْسِك إلَّا أَحَبَّ الْخَلْقِ إلَيْك، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى صَدَقْت يَا آدَم: إنَّهُ لَأَحَبُّ الْخَلْقِ إلَيَّ، إذْ سَأَلْتَنِي بِهِ فَقَدْ غَفَرْت لَك، وَلَوْلَا مُحَمَّدٌ مَا خَلَقْتُك} قَالَ الْحَاكِمُ هَذَا صَحِيحُ الْإِسْنَادِ. وَمِنْ أَحْسَنِ مَا يَقُولُهُ الزَّائِرُ بَعْدَ ذَلِكَ: يَا خَيْرَ مَنْ دُفِنَتْ بِالْقَاعِ أَعْظُمُهُ فَطَابَ مِنْ طِيبِهِنَّ الْقَاعُ وَالْأَكَمُ رُوحِي الْفِدَاءُ لِقَبْرٍ أَنْتَ سَاكِنُهُ فِيهِ الْعَفَافُ وَفِيهِ الْجُودُ وَالْكَرَمُ أَنْتَ الْحَبِيبُ الَّذِي تُرْجَى شَفَاعَتُهُ يَوْمَ الْحِسَابِ إذَا مَا زَلَّتْ الْقَدَمُ ثُمَّ يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ وَيَدْعُو لِنَفْسِهِ وَلِمَنْ شَاءَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. وَيُسَنُّ أَنْ يَأْتِيَ سَائِرِ الْمُشَاهَدِ بِالْمَدِينَةِ، وَهِيَ نَحْوُ ثَلَاثِينَ مَوْضِعًا يَعْرِفُهَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ. وَيُسَنُّ زِيَارَةُ الْبَقِيعِ وَقُبَاءَ، وَأَنْ يَأْتِيَ بِئْرَ أَرِيسٍ فَيَشْرَبَ مِنْهَا وَيَتَوَضَّأَ. وَكَذَلِكَ بَقِيَّةُ الْآبَارِ السَّبْعَةِ، وَقَدْ نَظَمَهَا بَعْضُهُمْ فِي بَيْتٍ، فَقَالَ: الطَّوِيلُ أَرِيسٌ وَغَرْسٌ رُومَةٌ وَبُضَاعَةٌ كَدَابِضَةٍ قُلْ بَيْرُحَاءَ مَعَ الْعِهْنِ وَيَنْبَغِي الْمُحَافَظَةُ عَلَى الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِهِ الَّذِي كَانَ فِي زَمَنِهِ، فَالصَّلَاةُ فِيهِ بِأَلْفِ صَلَاةٍ، وَلْيَحْذَرْ مِنْ الطَّوَافِ بِقَبْرِهِ، وَمِنْ الصَّلَاةِ دَاخِلَ الْحُجْرَةِ بِقَصْدِ تَعْظِيمِهِ. وَيُكْرَهُ إلْصَاقُ الظَّهْرِ وَالْبَطْنِ بِجِدَارِ الْقَبْرِ كَرَاهَةً شَدِيدَةً. وَيُكْرَهُ مَسْحُهُ بِالْيَدِ وَيُقَبِّلُهُ، بَلْ الْأَدَبُ أَنْ يَبْعُدَ عَنْهُ كَمَا لَوْ كَانَ بِحَضْرَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ. وَيُسَنُّ أَنْ يَصُومَ بِالْمَدِينَةِ مَا أَمْكَنَهُ، وَأَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَى جِيرَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُقِيمِينَ وَالْغُرَبَاءِ بِمَا أَمْكَنَهُ. وَإِذَا أَرَادَ السَّفَرَ اُسْتُحِبَّ أَنْ يُوَدِّعَ الْمَسْجِدَ بِرَكْعَتَيْنِ، وَيَأْتِيَ الْقَبْرَ الشَّرِيفَ، وَيُعِيدَ السَّلَامَ الْأَوَّلَ، وَيَقُولَ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْهُ آخِرَ الْعَهْدِ مِنْ حَرَمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَسِّرْ لِي الْعَوْدَ إلَى الْحَرَمَيْنِ سَبِيلًا سَهْلًا؛ وَارْزُقْنِي الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ، وَرُدَّنَا إلَى أَهْلِنَا سَالِمِينَ غَانِمِينَ، وَيَنْصَرِفُ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، وَلَا يَمْشِي الْقَهْقَرَى، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَسْتَصْحِبَ شَيْئًا مِنْ الْأُكَرِ الْمَعْمُولَةِ مِنْ تُرَابِ الْحَرَمَيْنِ، وَلَا مِنْ الْأَبَارِيقَ وَالْكِيزَانِ الْمَعْمُولَةِ مِنْ ذَلِكَ، وَمِنْ الْبِدَعِ تَقَرُّبُ الْعَوَامّ بِأَكْلِ التَّمْرِ الصَّيْحَانِيِّ فِي الرَّوْضَةِ. .
المتن أَرْكَانُ الْحَجِّ خَمْسَةٌ: الْإِحْرَامُ، وَالْوُقُوفُ، وَالطَّوَافُ، وَالسَّعْيُ، وَالْحَلْقُ إذَا جَعَلْنَاهُ نُسُكًا وَلَا تُجْبَرُ بِدَمٍ، وَمَا سِوَى الْوُقُوفِ أَرْكَانٌ فِي الْعُمْرَةِ أَيْضًا.
الشَّرْحُ (فَصْلٌ) فِي بَيَانِ أَرْكَانِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَكَيْفِيَّةِ أَدَاءِ النُّسُكَيْنِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ (أَرْكَانُ الْحَجِّ خَمْسَةٌ) بَلْ سِتَّةٌ: أَحَدُهَا (الْإِحْرَامُ) أَيْ نِيَّةُ الدُّخُولِ فِيهِ لِخَبَرِ {إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ} (وَ) ثَانِيهَا: (الْوُقُوفُ) بِعَرَفَةَ لِخَبَرِ {الْحَجُّ عَرَفَةَ} (وَ) ثَالِثُهَا: (الطَّوَافُ) بِالْكَعْبَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} وَالْمُرَادُ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ (وَ) رَابِعُهَا: (السَّعْيُ) بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لِمَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ {أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فِي السَّعْيِ وَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اسْعَوْا فَإِنَّ السَّعْيَ قَدْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ} (وَ) خَامِسُهَا: (الْحَلْقُ) أَوْ التَّقْصِيرُ (إذَا جَعَلْنَاهُ نُسُكًا) وَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ الْقَوْلُ الْمَشْهُورُ لِتَوَقُّفِ التَّحَلُّلِ عَلَيْهِ مَعَ عَدَمِ جَبْرِ تَرْكِهِ بِدَمٍ كَالطَّوَافِ (وَ) سَادِسُهَا: (التَّرْتِيبُ) فِي مُعْظَمِ هَذِهِ الْأَرْكَانِ كَمَا بَحَثَهُ فِي الرَّوْضَةِ وَإِنْ عَدَّهُ فِي الْمَجْمُوعِ شَرْطًا بِأَنْ يُقَدِّمَ الْإِحْرَامَ عَلَى الْجَمِيعِ وَيُؤَخِّرَ السَّعْيَ عَنْ طَوَافِ رُكْنٍ أَوْ قُدُومٍ وَيُقَدِّمَ الْوُقُوفَ عَلَى طَوَافِ الرُّكْنِ وَالْحَلْقِ أَوْ التَّقْصِيرِ لِلِاتِّبَاعِ مَعَ خَبَرِ {خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ} (وَلَا تُجْبَرُ) هَذِهِ الْأَرْكَانُ وَلَا شَيْءَ مِنْهَا (بِدَمٍ) بَلْ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا لِأَنَّ الْمَاهِيَّةَ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِجَمِيعِ أَرْكَانِهَا. وَأَمَّا وَاجِبَاتُهُ فَخَمْسَةٌ أَيْضًا الْإِحْرَامُ مِنْ الْمِيقَاتِ، وَالرَّمْيُ فِي يَوْمِ النَّحْرِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَالْمَبِيتُ بِمُزْدَلِفَةَ، وَالْمَبِيتُ لَيَالِيَ مِنًى، وَاجْتِنَابُ مُحَرَّمَاتِ الْإِحْرَامِ. وَأَمَّا طَوَافُ الْوَدَاعِ فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْمَنَاسِكِ فَعَلَى هَذَا لَا يُعَدُّ مِنْ الْوَاجِبَاتِ فَهَذِهِ تُجْبَرُ بِدَمٍ، وَتُسَمَّى أَبْعَاضًا وَغَيْرُهَا يُسَمَّى هَيْئَةً (وَمَا سِوَى الْوُقُوفِ) مِنْ هَذِهِ السِّتَّةِ (أَرْكَانٌ فِي الْعُمْرَةِ أَيْضًا) لِشُمُولِ الْأَدِلَّةِ السَّابِقَةِ لَهَا، وَلَكِنَّ التَّرْتِيبَ يُعْتَبَرُ فِي جَمِيعِ أَرْكَانِهَا فَيَجِبُ تَأْخِيرُ الْحَلْقِ أَوْ التَّقْصِيرُ عَنْ سَعْيِهَا، وَوَاجِبُ الْعُمْرَةِ شَيْئَانِ: الْإِحْرَامُ مِنْ الْمِيقَاتِ، وَاجْتِنَابُ مُحَرَّمَاتِ الْإِحْرَامِ.
المتن وَيُؤَدَّى النُّسُكَانِ عَلَى أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا الْإِفْرَادُ بِأَنْ يَحُجَّ ثُمَّ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ: كَإِحْرَامِ الْمَكِّيِّ وَيَأْتِيَ بِعَمَلِهَا. الثَّانِي الْقِرَانُ بِأَنْ يُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ الْمِيقَاتِ وَيَعْمَلَ عَمَلَ الْحَجِّ فَيَحْصُلَانِ، وَلَوْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ بِحَجٍّ قَبْلَ الطَّوَافِ كَانَ قَارِنًا.
الشَّرْحُ (وَيُؤَدَّى النُّسُكَانِ عَلَى) ثَلَاثَةِ (أَوْجُهٍ) فَقَطْ، وَلِهَذَا عَبَّرَ بِجَمْعِ الْقِلَّةِ، وَوَجْهُ الْحَصْرِ فِي الثَّلَاثَةِ أَنَّ الْإِحْرَامَ إنْ كَانَ بِالْحَجِّ أَوَّلًا فَالْإِفْرَادُ أَوْ بِالْعُمْرَةِ فَالتَّمَتُّعُ، أَوْ بِهِمَا مَعًا فَهُوَ الْقِرَانُ عَلَى تَفْصِيلٍ وَشُرُوطٍ لِبَعْضِهَا سَتَأْتِي، وَعُرِفَ بِهَذَا أَنَّهُ لَوْ أَتَى بِنُسُكٍ عَلَى حَدَثِهِ لَيْسَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَوْجُهِ كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ النُّسُكَانِ بِالتَّثْنِيَةِ. أَمَّا أَدَاءُ النُّسُكِ مِنْ حَيْثُ هُوَ فَعَلَى خَمْسَةِ أَوْجُهٍ الثَّلَاثَةُ الْمَذْكُورَةُ، وَأَنْ يُحْرِمَ بِحَجٍّ فَقَطْ أَوْ عُمْرَةٍ فَقَطْ، وَقَدْ سَبَقَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: {خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ: فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ} رَوَاهُ الشَّيْخَانِ (أَحَدُهَا الْإِفْرَادُ) وَالْأَفْضَلُ يَحْصُلُ (بِأَنْ يَحُجَّ) أَيْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ مِنْ مِيقَاتِهِ وَيَفْرَغُ مِنْهُ (ثُمَّ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ كَإِحْرَامِ الْمَكِّيِّ) بِأَنْ يَخْرُجَ إلَى أَدْنَى الْحِلِّ فَيُحْرِمَ بِهَا (وَيَأْتِيَ بِعَمَلِهَا) أَمَّا غَيْرُ الْأَفْضَلِ فَلَهُ صُورَتَانِ. إحْدَاهُمَا: أَنْ يَأْتِيَ بِالْحَجِّ وَحْدَهُ فِي سَنَتِهِ، الثَّانِيَةُ أَنْ يَعْتَمِرَ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ يَحُجَّ مِنْ الْمِيقَاتِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِصِدْقِ الْإِفْرَادِ عَلَى هَذَا الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْإِمَامُ، وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ الْمُرَادُ إلَّا بِمَا قَدَّرْته. فَإِنَّ الْإِفْرَادَ هُوَ الْأَفْضَلُ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي كَلَامِهِ (الثَّانِي الْقِرَانُ) وَالْأَكْمَلُ يَحْصُلُ (بِأَنْ يُحْرِمَ بِهِمَا) مَعًا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ (مِنْ الْمِيقَاتِ) لِلْحَجِّ، وَغَيْرُ الْأَكْمَلِ أَنْ يُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ دُونِ الْمِيقَاتِ، وَإِنْ لَزِمَهُ دَمٌ فَتَقْيِيدُهُ بِالْمِيقَاتِ لِكَوْنِهِ أَكْمَلَ لَا لِكَوْنِ الثَّانِي لَا يُسَمَّى قِرَانًا (وَيَعْمَلَ عَمَلَ الْحَجِّ) فَقَطْ؛ لِأَنَّ عَمَلَ الْحَجِّ أَكْثَرُ (فَيَحْصُلَانِ) وَيَدْخُلُ عَمَلُ الْعُمْرَةِ فِي عَمَلِ الْحَجِّ فَيَكْفِيه طَوَافٌ وَاحِدٌ وَسَعْيٌ وَاحِدٌ لِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ {مَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ أَجْزَأَهُ طَوَافٌ وَاحِدٌ وَسَعْيٌ وَاحِدٌ عَنْهُمَا حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا} صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَهَذِهِ الصُّورَةُ الْأَصْلِيَّةُ لِلْقِرَانِ (وَلَوْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ) صَحِيحَةٍ (فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ) أَحْرَمَ (بِحَجٍّ قَبْلَ) الشُّرُوعِ فِي (الطَّوَافِ كَانَ قَارِنًا) بِإِجْمَاعٍ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ فَيَكْفِيه عَمَلُ الْحَجِّ لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا {أَحْرَمَتْ بِعُمْرَةٍ فَدَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدَهَا تَبْكِي، فَقَالَ مَا شَأْنُك ؟ قَالَتْ: حِضْت وَقَدْ حَلَّ النَّاسُ وَلَمْ أَحِلَّ وَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَهِلِّي بِالْحَجِّ فَفَعَلَتْ وَوَقَفَتْ الْمَوَاقِفَ حَتَّى إذَا طَهُرَتْ طَافَتْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ حَلَلْت مِنْ حَجِّك وَعُمْرَتِك جَمِيعًا}. .
المتن وَلَا يَجُوزُ عَكْسُهُ فِي الْجَدِيدِ.
الشَّرْحُ
تَنْبِيهٌ: قَضِيَّةُ كَلَامِهِ أَنَّهُ لَوْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهَا الْحَجَّ فِي أَشْهُرِهِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ وَلَا يَكُونُ قَارِنًا، وَلَيْسَ مُرَادًا. فَإِنْ الْأَصَحَّ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ وَفِي الْمَجْمُوعِ أَنَّهُ يَصِحُّ: أَيْ وَيَكُونُ قَارِنًا فَكَانَ يَنْبَغِي تَأْخِيرُ الْقَيْدِ فَيَقُولُ: وَلَوْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ ثُمَّ بِحَجٍّ قَبْلَ الطَّوَافِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ كَانَ قَارِنًا، وَقَوْلُهُ: قَبْلَ الطَّوَافِ اُحْتُرِزَ بِهِ عَمَّا إذَا طَافَ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ أَوْ شَرَعَ فِيهِ وَلَوْ بِخُطْوَةٍ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ؛ لِاتِّصَالِ إحْرَامِهَا بِمَقْصُودِهِ، وَهُوَ أَعْظَمُ أَفْعَالِهَا فَلَا يَنْصَرِفُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى غَيْرِهَا، وَلِأَنَّهُ أَخَذَ فِي التَّحَلُّلِ الْمُقْتَضِي لِنُقْصَانِ الْإِحْرَامِ فَلَا يَلِيقُ بِهِ إدْخَالُ الْإِحْرَامِ الْمُقْتَضِي لِقُوَّتِهِ، وَلَوْ اسْتَلَمَ الْحَجَرَ بِنِيَّةِ الطَّوَافِ فَفِي صِحَّةِ الْإِدْخَالِ وَجْهَانِ. قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ: يَنْبَغِي تَصْحِيحُ الْجَوَازِ لِأَنَّهُ مُقَدِّمَتُهُ لَا بَعْضُهُ، وَكَلَامُهُ يَشْمَلُ مَا لَوْ أَفْسَدَ الْعُمْرَةَ ثُمَّ أَدْخَلَ الْحَجَّ عَلَيْهَا، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ إحْرَامُهُ بِالْحَجِّ فَاسِدًا، وَلِذَا قُيِّدَتْ الْعُمْرَةُ بِالصَّحِيحَةِ، وَقِيلَ يَنْعَقِدُ صَحِيحًا ثُمَّ يَفْسُدُ، وَقِيلَ يَنْعَقِدُ صَحِيحًا وَيَسْتَمِرُّ، وَكَلَامُهُ كَمَا قَالَ الْإِسْنَوِيُّ مُحْتَمِلٌ لِكُلٍّ مِنْ الثَّلَاثَةِ (وَلَا يَجُوزُ عَكْسُهُ) هُوَ إدْخَالُ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ (فِي الْجَدِيدِ) لِأَنَّهُ لَا يَسْتَفِيدُ بِهِ شَيْئًا آخَرَ بِخِلَافِ إدْخَالِ الْحَجِّ عَلَيْهَا فَيَسْتَفِيدُ بِهِ الْوُقُوفَ وَالرَّمْيَ وَالْمَبِيتَ، وَلِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ إدْخَالُ الضَّعِيفِ عَلَى الْقَوِيِّ كَفِرَاشِ النِّكَاحِ مَعَ فِرَاشِ الْمِلْكِ لِقُوَّتِهِ عَلَيْهِ جَازَ إدْخَالُهُ عَلَيْهِ دُونَ الْعَكْسِ حَتَّى لَوْ نَكَحَ أُخْتَ أَمَتِهِ جَازَ وَطْؤُهَا بِخِلَافِ الْعَكْسِ وَالْقَدِيمُ الْجَوَازُ، وَصَحَّحَهُ الْإِمَامُ كَعَكْسِهِ فَيَجُوزُ مَا لَمْ يَشْرَعْ فِي أَسْبَابِ تَحَلُّلِهِ.
المتن الثَّالِثُ: التَّمَتُّعُ بِأَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ وَيَفْرُغَ مِنْهَا ثُمَّ يُنْشِئَ حَجًّا مِنْ مَكَّةَ.
الشَّرْحُ (الثَّالِثُ: التَّمَتُّعُ) وَيَحْصُلُ (بِأَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ) فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ (مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ) أَوْ غَيْرِهِ (وَيَفْرُغَ مِنْهَا ثُمَّ يُنْشِئَ حَجًّا مِنْ مَكَّةَ) أَوْ مِنْ الْمِيقَاتِ الَّذِي أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ مِنْهُ أَوْ مِنْ مِثْلِ مَسَافَتِهِ أَوْ مِيقَاتٍ أَقْرَبَ مِنْهُ.
تَنْبِيهٌ: عُلِمَ مِمَّا تَقَرَّرَ أَنَّ قَوْلَهُ: مِنْ بَلَدِهِ وَمِنْ مَكَّةَ لِلتَّمْثِيلِ لَا لِلتَّقْيِيدِ، وَسُمِّيَ الْآتِي بِذَلِكَ مُتَمَتِّعًا لِتَمَتُّعِهِ بِمَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ.
المتن وَأَفْضَلُهَا الْإِفْرَادُ وَبَعْدَهُ التَّمَتُّعُ وَبَعْدَ التَّمَتُّعِ الْقِرَانُ، وَفِي قَوْلٍ التَّمَتُّعُ أَفْضَلُ مِنْ الْإِفْرَادِ.
الشَّرْحُ (وَأَفْضَلُهَا) أَيْ أَوْجُهِ أَدَاءِ النُّسُكَيْنِ الْمُتَقَدِّمَةِ (الْإِفْرَادُ) إنْ اعْتَمَرَ عَامَهُ، فَلَوْ أُخِّرَتْ عَنْهُ الْعُمْرَةُ كَانَ الْإِفْرَادُ مَفْضُولًا؛ لِأَنَّ تَأْخِيرَهَا عَنْهُ مَكْرُوهٌ (وَبَعْدَهُ التَّمَتُّعُ وَبَعْدَ التَّمَتُّعِ الْقِرَانُ) لِأَنَّ الْمُتَمَتِّعَ يَأْتِي بِعَمَلَيْنِ كَامِلَيْنِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُنْشِئُ لَهُمَا مِيقَاتَيْنِ، وَأَمَّا الْقَارِنُ فَإِنَّهُ يَأْتِي بِعَمَلٍ وَاحِدٍ مِنْ مِيقَاتٍ وَاحِدٍ (وَفِي قَوْلٍ التَّمَتُّعُ أَفْضَلُ مِنْ الْإِفْرَادِ) وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ اخْتِلَافُ الرُّوَاةِ فِي إحْرَامِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ جَابِرٍ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا {أَنَّهُ أَفْرَدَ الْحَجَّ}. وَرَوَيَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ أَحْرَمَ مُتَمَتِّعًا وَرُجِّحَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ رُوَاتَهُ أَكْثَرُ، وَبِأَنَّ جَابِرًا مِنْهُمْ أَقْدَمُ صُحْبَةً وَأَشَدُّ عِنَايَةً بِضَبْطِ الْمَنَاسِكِ، وَبِالْإِجْمَاعِ، عَلَى أَنَّهُ لَا كَرَاهَةَ فِيهِ، وَبِأَنَّ التَّمَتُّعَ وَالْقِرَانَ يَجِبُ فِيهِمَا الدَّمُ، بِخِلَافِ الْإِفْرَادِ، وَالْجَبْرُ دَلِيلُ النُّقْصَانِ. قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ: وَالصَّوَابُ الَّذِي نَعْتَقِدُهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْرَمَ بِحَجٍّ ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهِ الْعُمْرَةَ وَخُصَّ بِجَوَازِهِ فِي تِلْكَ السَّنَةِ لِلْحَاجَةِ وَأَمَرَ بِهِ فِي قَوْلِهِ: لَبَّيْكَ عُمْرَةً فِي حَجَّةٍ، وَبِهَذَا يَسْهُلُ الْجَمْعُ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ فَعُمْدَةُ رُوَاةِ الْإِفْرَادِ وَهُوَ الْأَكْثَرُ أَوَّلُ الْإِحْرَامِ، وَعُمْدَةُ رُوَاةِ الْقِرَانِ آخِرُهُ، وَمَنْ رَوَى التَّمَتُّعَ أَرَادَ التَّمَتُّعَ اللُّغَوِيَّ وَهُوَ الِانْتِفَاعُ، وَقَدْ انْتَفَعَ بِالِاكْتِفَاءِ بِفِعْلٍ وَاحِدٍ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَعْتَمِرْ فِي تِلْكَ السَّنَةِ عُمْرَةً مُفْرَدَةً، وَلَوْ جُعِلَتْ حَجَّتُهُ مُفْرَدَةً لَكَانَ غَيْرَ مُعْتَمِرٍ فِي تِلْكَ السَّنَةِ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إنَّ الْحَجَّ وَحْدَهُ أَفْضَلُ مِنْ الْقِرَانِ، فَانْتَظَمَتْ الرِّوَايَاتُ فِي حَجِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَفْسِهِ، وَأَمَّا الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ، فَكَانُوا ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ أَحْرَمُوا بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ، أَوْ بِحَجٍّ وَمَعَهُمْ هَدْيٌ، وَقِسْمٌ بِعُمْرَةٍ فَفَرَغُوا مِنْهَا ثُمَّ أَحْرَمُوا بِحَجٍّ، وَقِسْمٌ بِحَجٍّ وَلَا هَدْيَ مَعَهُمْ، فَأَمَرَهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقْلِبُوهُ عُمْرَةً وَهُوَ مَعْنَى فَسْخِ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ، وَهُوَ خَاصٌّ بِالصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَمَرَهُمْ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَيَانِ مُخَالَفَةِ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ مِنْ تَحْرِيمِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ إيقَاعَهَا فِيهِ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ كَمَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَدْخَلَ الْعُمْرَةَ عَلَى الْحَجِّ كَذَلِكَ فَانْتَظَمَتْ الرِّوَايَاتُ فِي إحْرَامِهِمْ أَيْضًا، فَمَنْ رَوَى أَنَّهُمْ كَانُوا قَارِنِينَ أَوْ مُتَمَتِّعِينَ أَوْ مُفْرِدِينَ أَرَادَ بَعْضَهُمْ وَهُمْ الَّذِي عُلِمَ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَظَنَّ أَنَّ الْبَقِيَّةَ مِثْلُهُمْ. وَأَمَّا تَفْضِيلُ الْمُتَمَتِّعِ عَلَى الْقَارِنِ فَلِأَنَّ أَفْعَالَ النُّسُكَيْنِ فِيهِ أَكْمَلُ كَمَا مَرَّ وَقَوْلُنَا: وَبَعْدَهُ التَّمَتُّعُ ثُمَّ الْقِرَانُ: أَيْ وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ الْحَجِّ فَقَطْ ثُمَّ الْحَجُّ فَقَطْ أَفْضَلُ مِنْ الْعُمْرَةِ فَقَطْ. فَإِنْ قِيلَ: يَنْبَغِي أَنَّهُ لَوْ قَرَنَ وَاعْتَمَرَ بَعْدَ الْحَجِّ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ الْإِفْرَادِ؛ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْمَقْصُودِ مَعَ زِيَادَةِ عُمْرَةٍ أُخْرَى، وَهُوَ نَظِيرُ مَا قَالُوهُ فِي التَّيَمُّمِ أَنَّهُ إذَا رَجَا الْمَاءَ فَصَلَّى أَوَّلًا بِالتَّيَمُّمِ عَلَى قَصْدِ إعَادَتِهَا بِالْوُضُوءِ فَإِنَّهُ أَفْضَلُ لَا مَحَالَةَ، وَهَكَذَا إذَا اعْتَمَرَ الْمُتَمَتِّعُ بَعْدَ الْحَجِّ أَيْضًا خُصُوصًا إذَا كَانَ مَكِّيًّا وَعَادَ لِإِحْرَامِ الْحَجِّ إلَى الْمِيقَاتِ، فَإِنَّ فَوَاتَ هَذِهِ الشُّرُوطِ لَا تُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ مُتَمَتِّعًا وَإِنَّمَا سَقَطَ الدَّمُ. أُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا التَّفْضِيلَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ إنَّمَا هُوَ عِنْدَ إتْيَانِهِ بِنُسُكَيْنِ فَقَطْ، وَفِي هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ قَدْ أَتَى بِنُسُكٍ ثَالِثٍ، فَلَيْسَتْ هِيَ الصُّورَةَ الْمُتَكَلَّمَ عَلَيْهَا. فَإِنْ قِيلَ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْجَبْرَ دَلِيلُ النُّقْصَانِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ فِيمَا ذُكِرَ وُجُوبُ الدَّمِ. أُجِيبَ بِأَنَّ النُّسُكَ الثَّالِثَ جَبَرَ ذَلِكَ النَّقْصَ، وَهَذَا نَظِيرُ مَا قَالُوهُ فِي إفْرَادِ صَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَإِنَّهُمْ عَلَّلُوا الْكَرَاهَةَ بِضَعْفِهِ عَمَّا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ وَظَائِفِ الْعِبَادَاتِ، وَقَالُوا لَوْ صَامَ مَعَهُ غَيْرُهُ زَالَتْ الْكَرَاهَةُ؛ لِأَنَّ صَوْمَ ذَلِكَ الْيَوْمِ يَجْبُرُ مَا يَفُوتُهُ.
المتن وَعَلَى الْمُتَمَتِّعِ دَمٌ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَحَاضِرُوهُ مَنْ دُونَ مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ مَكَّةَ. قُلْت: الْأَصَحُّ مِنْ الْحَرَمِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَأَنْ تَقَعَ عُمْرَتُهُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ سَنَتِهِ، وَأَنْ لَا يَعُودَ لِإِحْرَامِ الْحَجِّ إلَى الْمِيقَاتِ.
الشَّرْحُ (وَعَلَى الْمُتَمَتِّعِ دَمٌ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ} وَالْمَعْنَى فِي إيجَابِ الدَّمِ كَوْنُهُ رَبِحَ مِيقَاتًا فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ قَدْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ أَوَّلًا مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ لَكَانَ يَحْتَاجُ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الْحَجِّ إلَى أَنْ يَخْرُجَ إلَى أَدْنَى الْحِلِّ فَيُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ. وَإِذَا تَمَتَّعَ اسْتَغْنَى عَنْ الْخُرُوجِ؛ لِأَنَّهُ يُحْرِمُ بِالْحَجِّ مِنْ جَوْفِ مَكَّةَ، وَالْوَاجِبُ شَاةٌ تُجْزِئُ فِي الْأُضْحِيَّةِ، وَيَقُومُ مَقَامَهَا سُبْعُ بَدَنَةٍ أَوْ سُبْعُ بَقَرَةٍ، وَكَذَا جَمِيعُ الدِّمَاءِ الْوَاجِبَةِ فِي الْحَجِّ إلَّا جَزَاءَ الصَّيْدِ، وَسَيَأْتِي بَسْطُ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} قَوْله تَعَالَى " ذَلِكَ " أَيْ مَا ذُكِرَ مِنْ الْهَدْيِ وَالصَّوْمِ عِنْدَ فَقْدِهِ. وَقَوْلُهُ " لِمَنْ " مَعْنَاهُ عَلَى مَنْ (وَحَاضِرُوهُ مَنْ) مَسَاكِنِهِمْ (دُونَ مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ مَكَّةَ) لِأَنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ حَقِيقَتَهُ بِالِاتِّفَاقِ بَلْ الْحَرَمُ عِنْدَ بَعْضِهِمْ وَمَكَّةُ عِنْدَ آخَرِينَ، وَحَمْلُهُ عَلَى مَكَّةَ أَقَلُّ تَجَاوُزًا مِنْ حَمْلِهِ عَلَى جَمِيعِ الْحَرَمِ (قُلْت: الْأَصَحُّ مِنْ الْحَرَمِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ) لِأَنَّ الْمَاوَرْدِيُّ قَالَ: إنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ ذَكَرَ اللَّهُ فِيهِ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فَهُوَ الْحَرَمُ إلَّا قَوْله تَعَالَى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} فَهُوَ نَفْسُ الْكَعْبَةِ فَإِلْحَاقُ هَذَا بِالْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ أَوْلَى، وَالْقَرِيبُ مِنْ الشَّيْءِ يُقَالُ إنَّهُ حَاضِرُهُ. قَالَ تَعَالَى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} أَيْ قَرِيبَةً مِنْهُ، وَالْمَعْنَى فِي ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمْ يَرْبَحُوا مِيقَاتًا أَيْ عَامًّا لِأَهْلِهِ وَلِمَنْ مَرَّ بِهِ فَلَا يُشْكِلُ مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ أَوْ الْحَرَمِ دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ إذَا عَنَّ لَهُ النُّسُكُ ثُمَّ فَاتَهُ وَإِنْ رَبِحَ مِيقَاتًا بِتَمَتُّعِهِ لَكِنَّهُ لَيْسَ مِيقَاتًا عَامًّا لِأَهْلِهِ وَلِمَنْ مَرَّ بِهِ، وَلَا يُشْكِلُ أَيْضًا بِأَنَّهُمْ جَعَلُوا مَا دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ كَالْمَوْضِعِ الْوَاحِدِ فِي هَذَا وَلَمْ يَجْعَلُوهُ فِي مَسْأَلَةِ الْإِسَاءَةِ، وَهُوَ إذَا كَانَ مَسْكَنُهُ دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ مِنْ الْحَرَمِ وَجَاوَزَهُ وَأَحْرَمَ كَالْمَوْضِعِ الْوَاحِدِ حَتَّى لَا يَلْزَمَهُ الدَّمُ كَالْمَكِّيِّ إذَا أَحْرَمَ مِنْ سَائِرِ بِقَاعِ مَكَّةَ بَلْ أَلْزَمُوهُ الدَّمَ وَجَعَلُوهُ مُسِيئًا كَالْآفَاقِيِّ؛ لِأَنَّ مَا خَرَجَ عَنْ مَكَّةَ مِمَّا ذُكِرَ تَابِعٌ لَهَا وَالتَّابِعُ لَا يُعْطَى حُكْمَ الْمَتْبُوعِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَلِأَنَّهُمْ عَمِلُوا بِمُقْتَضَى الدَّلِيلِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَهُنَا لَا يَلْزَمُهُ دَمٌ لِعَدَمِ إسَاءَتِهِ بِعَدَمِ عَوْدِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْحَاضِرِينَ بِمُقْتَضَى الْآيَةِ وَهُنَاكَ يَلْزَمُهُ دَمٌ لِإِسَاءَتِهِ بِمُجَاوَزَتِهِ مَا عُيِّنَ لَهُ بِقَوْلِهِ فِي الْخَبَرِ {وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَهُ حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ} عَلَى أَنَّ الْمَسْكَنَ الْمَذْكُورَ كَالْقَرْيَةِ بِمَنْزِلَةِ مَكَّةَ فِي جَوَازِ الْإِحْرَامِ مِنْ سَائِرِ بِقَاعِهِ وَعَدَمِ جَوَازِ مُجَاوَزَتِهِ بِلَا إحْرَامٍ لِمُرِيدِ النُّسُكِ فَإِنْ كَانَ لِلْمُتَمَتِّعِ مَسْكَنَانِ: أَحَدُهُمَا بَعِيدٌ وَالْآخَرُ قَرِيبٌ اُعْتُبِرَ فِي كَوْنِهِ مِنْ الْحَاضِرِينَ أَوْ غَيْرِهِمْ كَثْرَةُ إقَامَتِهِ بِأَحَدِهِمَا، فَإِنْ اسْتَوَتْ إقَامَتُهُ بِهِمَا اُعْتُبِرَ بِوُجُودِ الْأَهْلِ وَالْمَالِ، فَإِنْ كَانَ أَهْلُهُ بِأَحَدِهِمَا وَمَالُهُ بِالْآخَرِ اُعْتُبِرَ بِمَكَانِ الْأَهْلِ، ذَكَرَهُ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ. قَالَ: وَالْمُرَادُ بِالْأَهْلِ الزَّوْجَةُ وَالْأَوْلَادُ الَّذِينَ تَحْتَ حِجْرِهِ دُونَ الْآبَاءِ وَالْإِخْوَةِ فَإِنْ اسْتَوَيَا فِي ذَلِكَ اُعْتُبِرَ بِعَزْمِ الرُّجُوعِ إلَى أَحَدِهِمَا لِلْإِقَامَةِ فِيهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَزْمٌ اُعْتُبِرَ بِإِنْشَاءِ مَا خَرَجَ مِنْهُ، وَلِلْغَرِيبِ الْمُسْتَوْطِنِ فِي الْحَرَمِ أَوْ فِيمَا دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ مِنْهُ حُكْمُ أَهْلِ الْبَلَدِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، وَيَلْزَمُ الدَّمُ آفَاقِيًّا تَمَتَّعَ نَاوِيًا الِاسْتِيطَانَ بِمَكَّةَ وَلَوْ بَعْدَ الْعُمْرَةِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيطَانَ لَا يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ (وَأَنْ تَقَعَ عُمْرَتُهُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ سَنَتِهِ) أَيْ الْحَجِّ فَلَوْ وَقَعَتْ قَبْلَ أَشْهُرِهِ وَأَتَمَّهَا وَلَوْ فِي أَشْهُرِهِ ثُمَّ حَجَّ لَمْ يَلْزَمْهُ الدَّمُ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَهُمَا فِي وَقْتِ الْحَجِّ فَأَشْبَهَ الْمُفْرِدَ، وَأَنْ يَحُجَّ مِنْ عَامِهِ فَمَنْ لَمْ يَحُجَّ مِنْ عَامِهِ الَّذِي اعْتَمَرَ فِيهِ لَا دَمَ عَلَيْهِ لِمَا رَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ " كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْتَمِرُونَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَإِذَا لَمْ يَحُجُّوا مِنْ عَامِهِمْ ذَلِكَ لَمْ يُهْدُوا " (وَأَنْ لَا يَعُودَ لِإِحْرَامِ الْحَجِّ إلَى الْمِيقَاتِ) الَّذِي أَحْرَمَ مِنْهُ بِالْعُمْرَةِ أَوْ مِيقَاتٍ آخَرَ وَلَوْ أَقْرَبَ إلَى مَكَّةَ مِنْ مِيقَاتُ عُمْرَتِهِ أَوْ إلَى مِثْلِ مَسَافَةِ مِيقَاتِهَا، فَإِذَا عَادَ إلَيْهِ وَأَحْرَمَ مِنْهُ بِالْحَجِّ لَمْ يَلْزَمْهُ الدَّمُ؛ لِأَنَّ الْمُقْتَضِي لِإِيجَابِ الدَّمِ وَهُوَ رِبْحُ الْمِيقَاتِ قَدْ زَالَ بِعَوْدِهِ إلَيْهِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ مَا ذُكِرَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ قَطْعُ تِلْكَ الْمَسَافَةِ مُحْرِمًا.
تَنْبِيهٌ: أَفْهَمَ كَلَامُهُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الدَّمِ نِيَّةُ التَّمَتُّعِ وَلَا وُقُوعُ النُّسُكَيْنِ عَنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ وَلَا بَقَاؤُهُ حَيًّا وَهُوَ كَذَلِكَ، وَلَوْ خَرَجَ الْمُتَمَتِّعُ لِلْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ وَأَحْرَمَ خَارِجَهَا وَلَمْ يَعُدْ إلَى الْمِيقَاتِ وَلَا إلَى مِثْلِ مَسَافَتِهِ وَلَا إلَى مَكَّةَ لَزِمَهُ دَمٌ أَيْضًا لِلْإِسَاءَةِ الْحَاصِلَةِ بِخُرُوجِهِ مِنْ مَكَّةَ بِلَا إحْرَامٍ مَعَ عَدَمِ عَوْدِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الشُّرُوطَ الْمَذْكُورَةَ مُعْتَبَرَةٌ لِوُجُوبِ الدَّمِ. وَهَلْ تُعْتَبَرُ فِي تَسْمِيَتِهِ تَمَتُّعًا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: نَعَمْ فَلَوْ فَاتَ شَرْطًا كَانَ مُفْرِدًا وَأَشْهَرُهُمَا لَا تُعْتَبَرُ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْأَصْحَابُ يَصِحُّ التَّمَتُّعُ وَالْقِرَانُ مِنْ الْمَكِّيِّ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ.
المتن وَوَقْتُ وُجُوبِ الدَّمِ إحْرَامُهُ بِالْحَجِّ، وَالْأَفْضَلُ ذَبْحُهُ يَوْمَ النَّحْرِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ فِي مَوْضِعِهِ صَامَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ ثَلَاثَةً فِي الْحَجِّ.
الشَّرْحُ (وَوَقْتُ وُجُوبِ الدَّمِ) عَلَيْهِ (إحْرَامُهُ بِالْحَجِّ) لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَصِيرُ مُتَمَتِّعًا بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ. وَقَدْ يُفْهَمُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ عَلَيْهِ. وَلَيْسَ مُرَادًا بَلْ الْأَصَحُّ جَوَازُ ذَبْحِهِ إذَا فَرَغَ مِنْ الْعُمْرَةِ. وَقِيلَ: يَجُوزُ إذَا أَحْرَمَ بِهَا وَلَا يَتَأَقَّتُ ذَبْحُهُ بِوَقْتٍ كَسَائِرِ دِمَاءِ الْجُبْرَانَاتِ (وَ) لَكِنَّ (الْأَفْضَلَ ذَبْحُهُ يَوْمَ النَّحْرِ) لِلِاتِّبَاعِ وَخُرُوجًا مِنْ خِلَافِ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا لَا يَجُوزُ فِي غَيْرِهِ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ أَنَّهُ ذَبَحَ قَبْلَهُ (فَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ) حِسًّا بِأَنْ فَقَدَهُ أَوْ ثَمَنَهُ أَوْ شَرْعًا بِأَنْ وَجَدَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ مِثْلِهِ أَوْ كَانَ مُحْتَاجًا إلَيْهِ أَوْ إلَى ثَمَنِهِ أَوْ غَابَ عَنْهُ مَالٌ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ (فِي مَوْضِعِهِ) وَهُوَ الْحَرَمُ سَوَاءٌ أَقَدَرَ عَلَيْهِ بِبَلَدِهِ أَمْ غَيْرِهِ أَمْ لَا بِخِلَافِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ؛ لِأَنَّ الْهَدْيَ يَخْتَصُّ ذَبْحُهُ بِالْحَرَمِ وَالْكَفَّارَةُ لَا تَخْتَصُّ (صَامَ) بَدَلَهُ وُجُوبًا (عَشَرَةَ أَيَّامٍ ثَلَاثَةً فِي الْحَجِّ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} أَيْ الْهَدْيَ {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} أَيْ بَعْدَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ فَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا عَلَى الْإِحْرَامِ بِخِلَافِ الدَّمِ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ فَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا عَلَى وَقْتِهَا كَالصَّلَاةِ، وَالدَّمَ عِبَادَةٌ مَالِيَّةٌ فَأَشْبَهَ الزَّكَاةَ.
المتن تُسْتَحَبُّ قَبْلَ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَسَبْعَةً إذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ فِي الْأَظْهَرِ، وَيُنْدَبُ تَتَابُعُ الثَّلَاثَةِ، وَكَذَا السَّبْعَةُ، وَلَوْ فَاتَتْهُ الثَّلَاثَةُ فِي الْحَجِّ، فَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يُفَرِّقَ فِي قَضَائِهَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ السَّبْعَةِ.
الشَّرْحُ
تَنْبِيهٌ: قَدْ يُرَدُّ عَلَى الْمُصَنِّفِ مَا لَوْ عَدِمَ الْهَدْيَ فِي الْحَالِ وَعَلِمَ أَنَّهُ يَجِدُهُ قَبْلَ فَرَاغِ الصَّوْمِ فَإِنَّ لَهُ الصَّوْمَ عَلَى الْأَظْهَرِ مَعَ أَنَّهُ مَا عَجَزَ عَنْهُ فِي مَوْضِعِهِ وَلَوْ رَجَا وُجُودَهُ جَازَ لَهُ الصَّوْمُ وَفِي اسْتِحْبَابِ انْتِظَارِهِ مَا تَقَدَّمَ فِي التَّيَمُّمِ وَلَكِنْ (تُسْتَحَبُّ) لَهُ (قَبْلَ يَوْمِ عَرَفَةَ) لِأَنَّهُ يُسَنُّ لِلْحَاجِّ فِطْرُهُ فَيَحْرُمُ قَبْلَ سَادِسِ ذِي الْحَجَّةِ وَيَصُومُهُ وَتَالِيَيْهِ، وَإِذَا أَحْرَمَ فِي زَمَنٍ يَسَعُ الثَّلَاثَةَ وَجَبَ عَلَيْهِ تَقْدِيمُهَا عَلَى يَوْمِ النَّحْرِ فَإِنْ أَخَّرَهَا عَنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَثِمَ وَصَارَتْ قَضَاءً عَلَى الصَّحِيحِ وَإِنْ تَأَخَّرَ الطَّوَافُ وَصَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ فِي الْحَجِّ؛ لِأَنَّ تَأْخِيرَهُ نَادِرٌ فَلَا يَكُونُ مُرَادًا مِنْ الْآيَةِ. وَلَيْسَ السَّفَرُ عُذْرًا فِي تَأْخِيرِ صَوْمِهَا لِأَنَّ صَوْمَهَا مُتَعَيِّنٌ إيقَاعُهُ فِي الْحَجِّ بِالنَّصِّ؛ وَإِنْ كَانَ مُسَافِرًا فَلَا يَكُونُ السَّفَرُ عُذْرًا فِيهِ بِخِلَافِ رَمَضَانَ، وَلَا يَجُوزُ صَوْمُهَا فِي يَوْمِ النَّحْرِ وَكَذَا فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فِي الْجَدِيدِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي بَابِهِ وَإِذَا فَاتَهُ صَوْمُ الثَّلَاثَةِ فِي الْحَجِّ لَزِمَهُ قَضَاؤُهَا وَلَا دَمَ عَلَيْهِ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ تَقَدُّمُ الْإِحْرَامِ بِزَمَنٍ يَتَمَكَّنُ مِنْ صَوْمِ الثَّلَاثَةِ فِيهِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ خِلَافًا لِبَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي وُجُوبِ ذَلِكَ إذْ لَا يَجِبُ تَحْصِيلُ سَبَبِ الْوُجُوبِ، وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَحُجَّ فِي هَذَا الْعَامِ، وَيُسَنُّ لِلْمُوسِرِ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَهُوَ ثَامِنُ ذِي الْحَجَّةِ لِلِاتِّبَاعِ وَلِلْأَمْرِ بِهِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَسُمِّيَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ لِتَرَوِّيهِمْ فِيهِ الْمَاءَ، وَيُسَمَّى يَوْمَ النُّقْلَةِ لِانْتِقَالِهِمْ فِيهِ مِنْ مَكَّةَ إلَى مِنًى (وَ) صَامَ بَعْدَ الثَّلَاثَةِ (سَبْعَةً إذَا رَجَعَ إلَى) وَطَنِهِ، (وَأَهْلِهِ فِي الْأَظْهَرِ) إنْ أَرَادَ الرُّجُوعَ إلَيْهِمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ} ، {وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا فَلْيَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةً إذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ} رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فَلَا يَجُوزُ صَوْمُهَا فِي الطَّرِيقِ لِذَلِكَ. فَإِنْ أَرَادَ الْإِقَامَةَ بِمَكَّةَ صَامَهَا بِهَا كَمَا قَالَهُ فِي الْبَحْرِ، وَالثَّانِي: إذَا فَرَغَ مِنْ الْحَجِّ؛ لِأَنَّهُ الْمُرَادُ بِالرُّجُوعِ فَكَأَنَّهُ بِالْفَرَاغِ رَجَعَ عَمَّا كَانَ مُقْبِلًا عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ، وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي الْإِمْلَاءِ (وَيُنْدَبُ تَتَابُعُ) الْأَيَّامِ (الثَّلَاثَةِ) أَدَاءً كَانَتْ أَوْ قَضَاءً (وَكَذَا السَّبْعَةُ) بِالرَّفْعِ بِخَطِّهِ يُنْدَبُ تَتَابُعُهَا أَيْضًا كَذَلِكَ، لِأَنَّ فِيهِ مُبَادَرَةً لِأَدَاءِ الْوَاجِبِ وَخُرُوجًا مِنْ خِلَافٍ أَوْجَبَهُ. نَعَمْ إنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ سَادِسَ ذِي الْحَجَّةِ لَزِمَهُ صَوْمُ الثَّلَاثَةِ مُتَتَابِعَةً لِضِيقِ الْوَقْتِ لَا لِلتَّتَابُعِ نَفْسِهِ (وَلَوْ فَاتَتْهُ الثَّلَاثَةُ فِي الْحَجِّ) بِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِهِ (فَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ) قَضَاؤُهَا لِمَا مَرَّ وَ (أَنْ يُفَرِّقَ فِي قَضَائِهَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ السَّبْعَةِ) بِقَدْرِ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ يَوْمُ النَّحْرِ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ، وَمُدَّةُ إمْكَانِ السَّيْرِ إلَى أَهْلِهِ عَلَى الْعَادَةِ الْغَالِبَةِ كَمَا فِي الْأَدَاءِ، فَلَوْ صَامَ عَشَرَةً وَلَاءً حَصَلَتْ الثَّلَاثَةُ، وَلَا يَعْتَدُّ بِالْبَقِيَّةِ لِعَدَمِ التَّفْرِيقِ، وَالثَّانِي لَا يَلْزَمُهُ التَّفْرِيقُ.
تَنْبِيهٌ: ظَاهِرُ كَلَامِهِ الِاكْتِفَاءُ بِمُطْلَقِ التَّفْرِيقِ لَوْلَا مَا قَدَّرْته وَلَوْ بِيَوْمٍ، وَهُوَ قَوْلٌ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْإِمْلَاءِ.
المتن وَعَلَى الْقَارِنِ دَمٌ كَدَمِ التَّمَتُّعِ. قُلْت: بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الشَّرْحُ (وَعَلَى الْقَارِنِ دَمٌ) لِأَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَفِعْلُ الْمُتَمَتِّعِ أَكْثَرُ مِنْ فِعْلِ الْقَارِنِ، فَإِذَا لَزِمَهُ الدَّمُ فَالْقَارِنُ أَوْلَى، وَرَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا {أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَبَحَ عَنْ نِسَائِهِ الْبَقَرَ يَوْمَ النَّحْرِ}، قَالَتْ وَكُنَّ قَارِنَاتٍ (كَدَمِ التَّمَتُّعِ) فِي أَحْكَامِهِ السَّابِقَةِ جِنْسًا وَسِنًّا وَبَدَلًا عَنْ الْعَجْزِ؛ لِأَنَّهُ فَرْعٌ عَنْ دَمِ التَّمَتُّعِ (قُلْت) كَمَا قَالَ الرَّافِعِيُّ فِي الشَّرْحِ (بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ) الْقَارِنُ (مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) وَسَبَقَ بَيَانُ حَاضِرِيهِ وَأَنْ لَا يَعُودَ قَبْلَ الْوُقُوفِ لِلْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ مِنْ الْمِيقَاتِ فَإِنْ عَادَ سَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ (وَاَللَّهُ أَعْلَمُ) لِأَنَّ دَمَ الْقِرَانِ فَرْعٌ عَنْ دَمِ التَّمَتُّعِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَدَمُ التَّمَتُّعِ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى الْحَاضِرِ فَفَرْعُهُ كَذَلِكَ، وَذِكْرُ هَذَا الشَّرْطِ كَمَا قَالَ الْوَلِيُّ الْعِرَاقِيُّ إيضَاحٌ وَإِلَّا فَقَوْلُهُ: كَدَمِ التَّمَتُّعِ يُغْنِي عَنْهُ وَإِذَا ذَكَرَ ذَلِكَ كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَزِيدَ مَا قَدَّرْته. خَاتِمَةٌ لَوْ اسْتَأْجَرَ اثْنَانِ شَخْصًا أَحَدُهُمَا لِحَجٍّ وَالْآخَرُ لِعُمْرَةٍ فَتَمَتَّعَ عَنْهُمَا أَوْ اعْتَمَرَ أَجِيرُ الْحَجِّ عَنْ نَفْسِهِ ثُمَّ حَجَّ عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ. فَإِنْ كَانَ قَدْ تَمَتَّعَ بِالْإِذْنِ مِنْ الْمُسْتَأْجَرِينَ أَوْ أَحَدِهِمَا فِي الْأُولَى وَمِنْ الْمُسْتَأْجِرِ فِي الثَّانِيَةِ فَعَلَى كُلٍّ مِنْ الْآذِنَيْنِ أَوْ الْآذِنِ وَالْأَجِيرِ نِصْفُ الدَّمِ إنْ أَيْسَرَا، وَإِنْ أَعْسَرَا قَالَ شَيْخُنَا بَحَثْنَا. أَوْ أَحَدِهِمَا فَالصَّوْمُ عَلَى الْأَجِيرِ؛ لِأَنَّ بَعْضَهُ فِي الْحَجِّ، أَوْ تَمَتَّعَ بِلَا إذْنٍ مِمَّنْ ذُكِرَ لَزِمَهُ دَمَانِ: دَمٌ لِلتَّمَتُّعِ وَدَمٌ لِأَجْلِ الْإِسَاءَةِ بِمُجَاوَزَتِهِ الْمِيقَاتَ، وَلَوْ وَجَدَ فَاقِدُ الْهَدْيِ الْهَدْيَ بَيْنَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ وَالصَّوْمِ لَزِمَهُ الْهَدْيُ، لَا إنْ وَجَدَهُ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ بَلْ يُسَنُّ لَهُ لِلْخُرُوجِ مِنْ خِلَافِ مَنْ أَوْجَبَهُ وَإِذَا مَاتَ الْمُتَمَتِّعُ أَوْ الْقَارِنُ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ هَدْيٌ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ بَلْ يَخْرُجُ مِنْ تَرِكَتِهِ أَوْ يَصُومُ لِكَوْنِهِ مُعْسِرًا بِذَلِكَ فَكَرَمَضَانَ يَسْقُطُ عَنْهُ إنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ فِعْلِهِ وَيُصَامُ أَوْ يُطْعَمُ عَنْهُ مِنْ تَرِكَتِهِ لِكُلِّ يَوْمٍ مُدًّا إنْ تَمَكَّنَ.
|