الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج ***
المتن تَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِإِفْسَادِ صَوْمِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ بِجِمَاعٍ أَثِمَ بِهِ بِسَبَبِ الصَّوْمِ
الشَّرْحُ (فَصْلٌ) فِي مُوجِبِ كَفَّارَةِ الصَّوْمِ (تَجِبُ الْكَفَّارَةُ) مَعَ التَّعْزِيرِ كَمَا قَالَهُ الْبَغَوِيّ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُمَا عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ (بِإِفْسَادِ صَوْمِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ) بِالْفِطْرِ لِصَوْمِ نَفْسِهِ (بِجِمَاعٍ أَثِمَ بِهِ بِسَبَبِ الصَّوْمِ) وَلَا شُبْهَةَ لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ {جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: هَلَكْتُ، قَالَ: وَمَا أَهْلَكَكَ ؟ قَالَ: وَاقَعْتُ امْرَأَتِي فِي رَمَضَانَ، قَالَ: هَلْ تَجِدُ مَا تَعْتِقُ رَقَبَةً ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَهَلْ تَجِدُ مَا تُطْعِمُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ؟ قَالَ: لَا، ثُمَّ جَلَسَ فَأُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ فَقَالَ: تَصَدَّقْ بِهَذَا فَقَالَ: عَلَى أَفْقَرَ مِنَّا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَوَاَللَّهِ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا - أَيْ جَبَلَيْهَا - أَهْلُ بَيْتٍ أَحْوَجُ إلَيْهِ مِنَّا، فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ، ثُمَّ قَالَ: اذْهَبْ فَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ} وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ {فَأَعْتِقْ رَقَبَةً فَصُمْ شَهْرَيْنِ فَأَطْعِمْ سِتِّينَ} بِالْأَمْرِ وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُد {فَأُتِيَ بِعَرَقِ تَمْرٍ قَدْرُ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا}. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَهِيَ أَصَحُّ مِنْ رِوَايَةِ فِيهِ عِشْرُونَ صَاعًا. وَالْعَرَقُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالرَّاءِ مِكْتَلٌ يُنْسَجُ مِنْ خَوْصِ النَّخْلِ، وَسَيَأْتِي مُحْتَرَزُ بَعْضِ هَذَا الضَّابِطِ فِي كَلَامِهِ. وَأَوْرَدُوا عَلَيْهِ أُمُورًا طَرْدًا وَعَكْسًا، فَمِنْ الْأَوَّلِ مَا إذَا جَامَعَ الْمُسَافِرُ وَنَحْوُهُ امْرَأَتَهُ فَفَسَدَ صَوْمُهَا لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ بِإِفْسَادِهِ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَهَذَا خَرَجَ بِمَا قَدَّرْته فِي كَلَامِهِ. فَلَوْ زَادَهُ كَانَ أَوْلَى، وَمِنْهُ مَا لَوْ ظَنَّ غُرُوبَ الشَّمْسِ بِلَا أَمَارَةٍ فَجَامَعَ ثُمَّ بَانَ نَهَارًا فَلَا كَفَّارَةَ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ الْهَتْكَ. قَالَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَغَيْرُهُ. قَالَهُ فِي الْمَجْمُوعِ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَصْحَابُ إلَّا الْإِمَامَ. قَالَ الشَّيْخَانِ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا مُفَرَّعًا عَلَى تَجْوِيزِ الْإِفْطَارِ بِالظَّنِّ وَإِلَّا فَلَا فَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ وَفَاءً بِالضَّابِطِ، لَكِنْ صَرَّحَ الْقَاضِي بِعَدَمِ وُجُوبِهَا وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَجُوزُ الْإِفْطَارُ بِالظَّنِّ بَلْ صَرَّحَ الْبَغَوِيّ بِخِلَافِ الْمُقْتَضِي الْمَذْكُورِ فِي مَسْأَلَةِ الشَّكِّ وَبِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ شَكِّهِ فِي دُخُولِ اللَّيْلِ وَخُرُوجِهِ، وَعُلِّلَ عَدَمُ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بِأَنَّهَا تَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْبَغَوِيَّ لَمْ يُصَرِّحْ فِي التَّهْذِيبِ بِمَسْأَلَةِ الظَّنِّ لَكِنَّهَا مَفْهُومَةٌ بِالْأُولَى مِنْ مَسْأَلَةِ الشَّكِّ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ وَإِنْ كَانَ مُشْكِلًا، وَمِنْهُ مَا لَوْ شَكَّ فِي النَّهَارِ هَلْ نَوَى لَيْلًا أَمْ لَا ثُمَّ جَامَعَ فِي حَالِ الشَّكِّ، ثُمَّ تَذَكَّرَ أَنَّهُ نَوَى فَإِنَّهُ يَبْطُلُ صَوْمُهُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا تَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ وَإِنْ قَالَ الْغَزِّيُّ: فِيهِ نَظَرٌ، وَمِنْهُ مَا إذَا نَوَى صَوْمَ يَوْمِ الشَّكِّ عَنْ قَضَاءٍ أَوْ نَذْرٍ ثُمَّ أَفْسَدَهُ نَهَارًا بِجِمَاعٍ ثُمَّ تَبَيَّنَ بَعْدَ الْإِفْسَادِ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ يَصْدُقُ أَنْ يُقَالَ: أَفْسَدَ صَوْمَ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ بِجِمَاعٍ أَثِمَ بِهِ لِأَجْلِ الصَّوْمِ وَمَعَ ذَلِكَ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِهِ عَنْ رَمَضَانَ، فَلَوْ أَبْدَلَ مِنْ رَمَضَانَ بِ (عَنْ) لَخَرَجَتْ هَذِهِ الصُّورَةُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ لَا عَنْ رَمَضَانَ، وَلَكِنْ يُحْتَاجُ أَنْ يَزِيدَ أَدَاءً لِئَلَّا يُرَدَّ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ فَإِنَّهُ عَنْ رَمَضَانَ وَلَيْسَ مِنْ رَمَضَانَ. وَمِنْ الثَّانِي مَا لَوْ طَلَعَ الْفَجْرُ وَهُوَ مُجَامِعٌ فَاسْتَدَامَ فَإِنَّ الْأَصَحَّ فِي الْمَجْمُوعِ أَنَّ الصَّوْمَ لَمْ يَنْعَقِدْ فَالْجِمَاعُ لَمْ يُفْسِدْ صَوْمًا وَمَعَ ذَلِكَ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ فَإِنَّ جِمَاعَهُ وَإِنْ لَمْ يُفْسِدْ الصَّوْمَ فَهُوَ فِي مَعْنَى مَا يُفْسِدُهُ فَكَأَنَّهُ انْعَقَدَ ثُمَّ فَسَدَ، عَلَى أَنَّ السُّبْكِيَّ اخْتَارَ أَنَّهُ انْعَقَدَ ثُمَّ فَسَدَ، وَعَلَى هَذَا لَا إيرَادَ، وَخَرَجَ بِالْمُكَلَّفِ الصَّبِيُّ فَلَا يَلْزَمُ بِجِمَاعِهِ كَفَّارَةٌ عَلَى الْأَصَحِّ.
المتن فَلَا كَفَّارَةَ عَلَى نَاسٍ وَلَا مُفْسِدٍ غَيْرَ رَمَضَانَ أَوْ بِغَيْرِ الْجِمَاعِ، وَلَا مُسَافِرٍ جَامَعَ بِنِيَّةِ التَّرَخُّصِ، وَكَذَا بِغَيْرِهَا فِي الْأَصَحِّ، وَلَا عَلَى مَنْ ظَنَّ اللَّيْلَ فَبَانَ نَهَارًا، وَلَا مَنْ جَامَعَ بَعْدَ الْأَكْلِ نَاسِيًا وَظَنَّ أَنَّهُ أَفْطَرَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ الْأَصَحُّ بُطْلَانُ صَوْمِهِ، وَلَا مَنْ زَنَى نَاسِيًا وَلَا مُسَافِرٍ أَفْطَرَ بِالزِّنَا مُتَرَخِّصًا.
الشَّرْحُ ثُمَّ شَرَعَ فِي مُحْتَرَزِ بَقِيَّةِ الْقُيُودِ السَّابِقَةِ بِقَوْلِهِ (فَلَا كَفَّارَةَ عَلَى نَاسٍ) أَوْ مُكْرَهٍ أَوْ جَاهِلِ التَّحْرِيمِ، فَهُوَ مُحْتَرَزُ قَوْلِهِ بِإِفْسَادٍ؛ لِأَنَّ صَوْمَهُ لَمْ يَفْسُدْ بِذَلِكَ كَمَا مَرَّ، وَمَنْ نَسِيَ النِّيَّةَ وَأُمِرَ بِالْإِمْسَاكِ فَجَامَعَ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ قَطْعًا (وَلَا) عَلَى (مُفْسِدٍ غَيْرَ رَمَضَانَ) مِنْ نَفْلٍ أَوْ نَذْرٍ أَوْ قَضَاءٍ أَوْ كَفَّارَةٍ، وَهَذَا مُحْتَرَزُ قَوْلِهِ رَمَضَانَ؛ لِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ فِيهِ، وَهُوَ أَفْضَلُ الشُّهُورِ، وَمَخْصُوصٌ بِفَضَائِلَ لَمْ يُشَارِكْهُ فِيهَا غَيْرُهُ، فَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ غَيْرِهِ عَلَيْهِ (أَوْ) مُفْسِدِ رَمَضَانَ (بِغَيْرِ الْجِمَاعِ) كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالِاسْتِمْنَاءِ بِالْيَدِ وَالْمُبَاشَرَةِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ الْمُفْضِيَةِ إلَى الْإِنْزَالِ وَهَذَا مُحْتَرَزُ قَوْلِهِ بِجِمَاعٍ؛ لِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ فِي الْجِمَاعِ وَمَا عَدَاهُ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ (وَلَا) عَلَى صَائِمٍ (مُسَافِرٍ) أَوْ مَرِيضٍ (جَامَعَ بِنِيَّةِ التَّرَخُّصِ) وَهَذَا مُحْتَرَزُ قَوْلِهِ أَثِمَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْثَمْ لِوُجُودِ الْقَصْدِ مَعَ الْإِبَاحَةِ (وَكَذَا بِغَيْرِهَا) وَإِنْ قُلْنَا: يَأْثَمُ بِهِ (فِي الْأَصَحِّ) لِأَنَّ الْإِفْطَارَ مُبَاحٌ لَهُ فَيَصِيرُ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْكَفَّارَةِ. وَالثَّانِي: تَلْزَمُهُ لِأَنَّ الرُّخْصَةَ لَا تُبَاحُ بِدُونِ قَصْدِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُسَافِرَ إذَا أَخَّرَ الظُّهْرَ إلَى الْعَصْرِ إنْ كَانَ بِنِيَّةِ الْجَمْعِ جَمَعَ وَإِلَّا فَلَا، وَجَوَابُهُ أَنَّ الْفِطْرَ يَحْصُلُ بِلَا نِيَّةٍ بِدَلِيلِ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَلَا كَذَلِكَ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ، وَهَذِهِ الصُّورَةُ قَدْ تَرِدُ عَلَى الضَّابِطِ لِأَنَّهُ جِمَاعٌ أَثِمَ بِهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي التَّتِمَّةِ وَنَقَلَهُ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ فِي شَرْحِ التَّنْبِيهِ عَنْ الْأَصْحَابِ (وَلَا عَلَى مَنْ ظَنَّ) وَقْتَ الْجِمَاعِ (اللَّيْلَ) أَيْ بَقَاءَهُ أَوْ شَكَّ فِيهِ أَوْ ظَنَّ بِاجْتِهَادِهِ دُخُولَهُ (فَبَانَ) جِمَاعُهُ (نَهَارًا) لِانْتِفَاءِ الْإِثْمِ (وَلَا) عَلَى (مَنْ جَامَعَ) عَامِدًا (بَعْدَ الْأَكْلِ نَاسِيًا وَظَنَّ أَنَّهُ أَفْطَرَ بِهِ) أَيْ الْأَكْلِ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ غَيْرُ صَائِمٍ، وَقَوْلُهُ: نَاسِيًا مُتَعَلِّقٌ بِالْأَكْلِ (وَإِنْ كَانَ الْأَصَحُّ بُطْلَانُ صَوْمِهِ) بِهَذَا الْجِمَاعِ كَمَا لَوْ جَامَعَ عَلَى ظَنِّ بَقَاءِ اللَّيْلِ فَبَانَ خِلَافُهُ. وَالثَّانِي: لَا يَبْطُلُ كَمَا لَوْ سَلَّمَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ رُبَاعِيَّةٍ نَاسِيًا وَتَكَلَّمَ عَامِدًا فَإِنَّ صَلَاتَهُ لَا تَبْطُلُ. وَأَجَابَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الصَّلَاةَ إنَّمَا لَمْ تَبْطُلْ لِنَصِّ الشَّارِعِ فِي الصَّلَاةِ بِعَدَمِ الْبُطْلَانِ فِي قِصَّةِ ذِي الْيَدَيْنِ وَاغْتُفِرَ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ مَعَ أَنَّهَا أَضْيَقُ مِنْ الصَّوْمِ لِتَكَرُّرِهَا وَكَثْرَةِ حُصُولِ ذَلِكَ فِيهَا بِخِلَافِ الصَّوْمِ. أَمَّا إذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُفْطِرْ بِالْأَكْلِ ثُمَّ جَامَعَ فَإِنَّهُ يُفْطِرُ وَتَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ جَزْمًا (وَلَا) عَلَى (مَنْ زَنَى نَاسِيًا) لِلصَّوْمِ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْثَمْ بِسَبَبِ الصَّوْمِ، وَهَذَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ فَتَبِعَهُ فِي الْمُحَرَّرِ، وَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ السَّابِقِ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَى نَاسٍ (وَلَا) عَلَى (مُسَافِرٍ أَفْطَرَ بِالزِّنَا مُتَرَخِّصًا) بِالْفِطْرِ لِأَنَّ الْفِطْرَ جَائِزٌ لَهُ، وَإِثْمُهُ بِسَبَبِ الزِّنَا لَا بِالصَّوْمِ.
تَنْبِيهٌ: قَيَّدَ فِي الرَّوْضَةِ الْجِمَاعَ بِالتَّامِّ تَبَعًا لِلْغَزَالِيِّ احْتِرَازًا مِنْ الْمَرْأَةِ فَإِنَّهَا تُفْطِرُ بِهِ بِدُخُولِ شَيْءٍ مِنْ الذَّكَرِ فَرْجَهَا وَلَوْ دُونَ الْحَشَفَةِ، وَزَيَّفُوهُ بِخُرُوجِ تِلْكَ بِالْجِمَاعِ إذْ الْفَسَادُ فِيهِ بِغَيْرِهِ وَبِأَنَّهُ يُتَصَوَّرُ فَسَادُ صَوْمِهَا بِالْجِمَاعِ بِأَنْ يُولِجَ فِيهَا نَائِمَةً أَوْ نَاسِيَةً أَوْ مُكْرَهَةً ثُمَّ تَسْتَيْقِظُ أَوْ تَتَذَكَّرُ وَتَقْدِرُ عَلَى الدَّفْعِ وَتَسْتَدِيمُ فَفَسَادُهُ فِيهَا بِالْجِمَاعِ؛ لِأَنَّ اسْتِدَامَةَ الْجِمَاعِ جِمَاعٌ مَعَ أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْمَرْ بِهَا فِي الْخَبَرِ إلَّا الرَّجُلُ الْمُوَاقِعُ مَعَ الْحَاجَةِ إلَى الْبَيَانِ، وَلِنُقْصَانِ صَوْمِهَا بِتَعَرُّضِهِ لِلْبُطْلَانِ بِعُرُوضِ الْحَيْضِ أَوْ نَحْوِهِ فَلَمْ تَكْمُلْ حُرْمَتُهُ حَتَّى تَتَعَلَّقَ بِهَا الْكَفَّارَةُ فَتَخْتَصُّ بِالرَّجُلِ الْوَاطِئِ، وَلِأَنَّهَا غُرْمٌ مَالِيٌّ يَتَعَلَّقُ بِالْجِمَاعِ كَالْمَهْرِ فَلَا يَجِبُ عَلَى الْمَوْطُوءَةِ، وَلَا عَلَى الرَّجُلِ الْمَوْطُوءِ كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ، وَلِلِّوَاطِ وَإِتْيَانِ الْبَهِيمَةِ حُكْمُ الْجِمَاعِ هُنَا فِيمَا ذُكِرَ مِنْ وُجُوبِ كَفَّارَةِ الصَّوْمِ بِالْإِفْسَادِ لِأَنَّ الْجَمِيعَ وَطْءٌ.
المتن وَالْكَفَّارَةُ عَلَى الزَّوْجِ عَنْهُ، وَفِي قَوْلٍ عَنْهُ وَعَنْهَا وَفِي قَوْلٍ عَلَيْهَا كَفَّارَةٌ أُخْرَى.
الشَّرْحُ وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ مُوجِبِ الْكَفَّارَةِ شَرَعَ فِيمَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ فَقَالَ (وَالْكَفَّارَةُ عَلَى الزَّوْجِ عَنْهُ) فَقَطْ دُونَهَا لِمَا مَرَّ مِنْ التَّعْلِيلِ (وَفِي قَوْلٍ) الْكَفَّارَةُ (عَنْهُ وَعَنْهَا) أَيْ يَلْزَمُهُمَا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ وَيَتَحَمَّلُهَا الزَّوْجُ لِمُشَارَكَتِهَا لَهُ فِي السَّبَبِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْخَبَرِ، وَعَلَى هَذَا قِيلَ يَجِبُ كَمَا قَالَ الْمَحَامِلِيُّ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا نِصْفُهَا ثُمَّ يَتَحَمَّلُ الزَّوْجُ مَا وَجَبَ عَلَيْهَا. وَقِيلَ: يَجِبُ كَمَا قَالَهُ الْمُتَوَلِّي عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا كَفَّارَةٌ تَامَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، وَلَكِنْ يَحْمِلُهَا الزَّوْجُ عَنْهَا وَهَذَا مُقْتَضَى كَلَامِ الرَّافِعِيِّ، وَمَحَلُّ هَذَا الْقَوْلِ إذَا كَانَتْ زَوْجَتُهُ كَمَا يُرْشِدُ إلَيْهِ قَوْلُهُ عَلَى الزَّوْجِ. أَمَّا الْمَوْطُوءَةُ بِالشُّبْهَةِ أَوْ الْمَزْنِيُّ بِهَا فَلَا يُتَحَمَّلُ عَنْهَا قَطْعًا (وَفِي قَوْلٍ عَلَيْهَا كَفَّارَةٌ أُخْرَى) قِيَاسًا عَلَى الرَّجُلِ لِتُسَاوِيهِمَا فِي السَّبَبِ وَالْإِثْمِ كَحَدِّ الزِّنَا وَهَذَا فِي غَيْرِ الْمُتَحَيِّرَةِ. أَمَّا هِيَ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهَا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَمَحِلُّ هَذَا الْقَوْلِ إذَا وُطِئَتْ الْمَرْأَةُ فِي قُبُلِهَا فَإِنْ وُطِئَتْ فِي دُبُرِهَا فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهَا، ثُمَّ مَحِلُّ الْخِلَافِ فِيمَا إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ صَائِمَةً وَمَكَّنَتْهُ طَائِعَةً عَالِمَةً، فَإِنْ كَانَتْ فَاطِرَةً بِحَيْضٍ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ لَمْ يَبْطُلْ صَوْمُهَا لِكَوْنِهَا نَائِمَةً مَثَلًا فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهَا قَطْعًا.
المتن وَتَلْزَمُ مَنْ انْفَرَدَ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ وَجَامَعَ فِي يَوْمِهِ.
الشَّرْحُ (وَتَلْزَمُ) الْكَفَّارَةُ (مَنْ انْفَرَدَ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ) مِنْ رَمَضَانَ (وَجَامَعَ فِي يَوْمِهِ) لِهَتْكِ حُرْمَةِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ عِنْدَهُ بِالْجِمَاعِ فَصَدَقَ عَلَيْهِ الضَّابِطُ الْمُتَقَدِّمُ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ صَوْمُهُ، كَمَا أَنَّهُ إذَا رَأَى هِلَالَ شَوَّالٍ يَجِبُ فِطْرُهُ، وَإِذَا أَفْطَرَ هَلْ يُعَزَّرُ أَوْ لَا ؟ يُنْظَرُ إنْ شَهِدَ ثُمَّ أَفْطَرَ لَمْ يُعَزَّرْ لِعَدَمِ التُّهْمَةِ، وَإِنْ أَفْطَرَ ثُمَّ شَهِدَ سَقَطَتْ شَهَادَتُهُ لِلتُّهْمَةِ وَعُزِّرَ لِإِفْطَارِهِ فِي رَمَضَانَ فِي الظَّاهِرِ، وَحَقُّهُ إذَا أَفْطَرَ أَنْ يُخْفِيَهُ لِئَلَّا يُتَّهَمَ، وَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا أَنَّهُ عَلَى سَبِيلِ النَّدْبِ.
المتن وَمَنْ جَامَعَ فِي يَوْمَيْنِ لَزِمَهُ كَفَّارَتَانِ، وَحُدُوثُ السَّفَرِ بَعْدَ الْجِمَاعِ لَا يُسْقِطُ الْكَفَّارَةَ، وَكَذَا الْمَرَضُ عَلَى الْمَذْهَبِ.
الشَّرْحُ ثُمَّ شَرَعَ فِي تَعَدُّدِ الْكَفَّارَةِ بِتَعَدُّدِ الْفَسَادِ فَقَالَ (وَمَنْ جَامَعَ فِي يَوْمَيْنِ لَزِمَهُ كَفَّارَتَانِ) لِأَنَّ كُلَّ يَوْمٍ عِبَادَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ فَلَا تَتَدَاخَلُ كَفَّارَتَاهُمَا، سَوَاءٌ أَكَفَّرَ عَنْ الْجِمَاعِ الْأَوَّلِ قَبْلَ الثَّانِي أَمْ لَا، كَحَجَّتَيْنِ جَامَعَ فِيهِمَا، فَلَوْ جَامَعَ فِي جَمِيعِ أَيَّامِ رَمَضَانَ لَزِمَهُ كَفَّارَاتٌ بِعَدَدِهَا، فَإِنْ تَكَرَّرَ الْجِمَاعُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ فَلَا تَعَدُّدَ، وَإِنْ كَانَ بِأَرْبَعِ زَوْجَاتٍ عَلَى الْمَذْهَبِ. أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهَا وَيَتَحَمَّلُهَا الزَّوْجُ فَعَلَيْهِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَرْبَعُ كَفَّارَاتٍ (وَحُدُوثُ السَّفَرِ) وَلَوْ طَوِيلًا (بَعْدَ الْجِمَاعِ لَا يُسْقِطُ الْكَفَّارَةَ) جَزْمًا لِأَنَّ السَّفَرَ الْمُنْشَأَ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ لَا يُبِيحُ الْفِطْرَ فَلَا يُؤَثِّرُ فِيمَا وَجَبَ مِنْ الْكَفَّارَةِ، وَقِيلَ إنَّهُ كَحُدُوثِ الْمَرَضِ (وَكَذَا الْمَرَضُ) أَيْ حُدُوثُهُ لَا يُسْقِطُهَا (عَلَى الْمَذْهَبِ) لِأَنَّ الْمَرَضَ لَا يُنَافِي الصَّوْمَ فَيَتَحَقَّقُ هَتْكُ حُرْمَتِهِ. وَالثَّانِي يُسْقِطُهَا؛ لِأَنَّ حُدُوثَ الْمَرَضِ يُبِيحُ الْفِطْرَ فَيَتَبَيَّنُ بِهِ أَنَّ الصَّوْمَ لَمْ يَقَعْ وَاجِبًا، وَدُفِعَ بِأَنَّهُ هَتَكَ حُرْمَةَ الصَّوْمِ بِمَا فَعَلَ، هَذِهِ هِيَ الطَّرِيقَةُ الصَّحِيحَةُ، وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ الْقَطْعُ بِالْأَوَّلِ كَالسَّفَرِ، وَحُدُوثُ الرِّدَّةِ لَا يُسْقِطُهَا قَطْعًا، وَحُدُوثُ الْجُنُونِ أَوْ الْمَوْتِ يُسْقِطُهَا قَطْعًا، وَإِذَا قُلْنَا بِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهَا فَطَرَأَ عَلَيْهَا حَيْضٌ أَوْ نِفَاسٌ أَسْقَطَهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُنَافِي صِحَّةَ الصَّوْمِ فَهُوَ كَالْجُنُونِ.
المتن وَيَجِبُ مَعَهَا قَضَاءُ يَوْمِ الْإِفْسَادِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَهِيَ عِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا، فَلَوْ عَجَزَ عَنْ الْجَمِيعِ اسْتَقَرَّتْ فِي ذِمَّتِهِ فِي الْأَظْهَرِ، فَإِذَا قَدَرَ عَلَى خَصْلَةٍ فَعَلَهَا، وَالْأَصَحُّ أَنَّ لَهُ الْعُدُولَ عَنْ الصَّوْمِ إلَى الْإِطْعَامِ لِشِدَّةِ الْغُلْمَةِ.
الشَّرْحُ (وَيَجِبُ) عَلَى الزَّوْجِ (مَعَهَا) أَيْ الْكَفَّارَةِ (قَضَاءُ يَوْمِ الْإِفْسَادِ عَلَى الصَّحِيحِ) وَفِي الرَّوْضَةِ الْأَصَحُّ لِأَنَّهُ إذَا وَجَبَ عَلَى الْمَعْذُورِ. فَعَلَى غَيْرِهِ أَوْلَى. وَالثَّانِي: لَا يَجِبُ لِأَنَّ الْخَلَلَ الْحَاصِلَ قَدْ انْجَبَرَ بِالْكَفَّارَةِ. وَالثَّالِثُ: إنْ كَفَّرَ بِالصَّوْمِ دَخَلَ فِيهِ الْقَضَاءُ، وَإِلَّا فَلَا لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَيَلْزَمُهَا الْقَضَاءُ جَزْمًا إذَا قُلْنَا بِأَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهَا، فَلَوْ قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَتَجِبُ عَلَيْهِ لَكَانَ أَوْلَى (وَهِيَ) أَيْ الْكَفَّارَةُ الْمَذْكُورَةُ مُرَتَّبَةٌ فَيَجِبُ أَوَّلًا (عِتْقُ رَقَبَةٍ) مُؤْمِنَةٍ (فَإِنْ لَمْ يَجِدْ) (فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ) صَوْمَهُمَا (فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا) أَوْ فَقِيرًا لِلْخَبَرِ الْمُتَقَدِّمِ أَوَّلَ الْفَصْلِ، وَهَذِهِ الْخِصَالُ الثَّلَاثُ صِفَتُهَا مَذْكُورَةٌ فِي كِتَابِ الظِّهَارِ، وَلَوْ شَرَعَ فِي الصَّوْمِ ثُمَّ وَجَدَ الرَّقَبَةَ نُدِبَ عِتْقُهَا، وَلَوْ شَرَعَ فِي الْإِطْعَامِ ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الصَّوْمِ نُدِبَ لَهُ (فَلَوْ عَجَزَ عَنْ الْجَمِيعِ) أَيْ جَمِيعِ الْخِصَالِ الْمَذْكُورَةِ (اسْتَقَرَّتْ) أَيْ الْكَفَّارَةُ (فِي ذِمَّتِهِ فِي الْأَظْهَرِ) لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ الْأَعْرَابِيَّ بِأَنْ يُكَفِّرَ بِمَا دَفَعَهُ إلَيْهِ مَعَ إخْبَارِهِ بِعَجْزِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا ثَابِتَةٌ فِي الذِّمَّةِ؛ لِأَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى الْمَالِيَّةَ إذَا عَجَزَ عَنْهَا الْعَبْدُ وَقْتَ وُجُوبِهَا، فَإِنْ كَانَتْ لَا بِسَبَبٍ مِنْهُ كَزَكَاةِ الْفِطْرِ لَمْ تَسْتَقِرَّ، وَإِنْ كَانَتْ بِسَبَبٍ مِنْهُ اسْتَقَرَّتْ فِي ذِمَّتِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ عَلَى وَجْهِ الْبَدَلِ: كَجَزَاءِ الصَّيْدِ وَفِدْيَةِ الْحَلْقِ أَمْ لَا كَكَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْقَتْلِ وَالْيَمِينِ وَالْجِمَاعِ وَدَمِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ. فَإِنْ قِيلَ لَوْ اسْتَقَرَّتْ لَأَمَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُوَاقِعَ بِإِخْرَاجِهَا بَعْدُ. أُجِيبَ بِأَنَّ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ لِوَقْتِ الْحَاجَةِ جَائِزٌ وَهُوَ وَقْتُ الْقُدْرَةِ (فَإِذَا قَدَرَ عَلَى خَصْلَةٍ) مِنْهَا (فَعَلَهَا) كَمَا لَوْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهَا حَالَ الْوُجُوبِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الثَّابِتَ فِي ذِمَّتِهِ أَحَدُ الْخِصَالِ، فَيَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَهَا، وَهُوَ كَمَا قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَكَلَامُ التَّنْبِيهِ يَقْتَضِي أَنَّ الثَّابِتَ فِي ذِمَّتِهِ هُوَ الْخَصْلَةُ الْأَخِيرَةُ، وَكَلَامُ الْجُمْهُورِ يَقْتَضِي أَنَّهُ الْكَفَّارَةُ وَأَنَّهَا مُرَتَّبَةٌ فِي الذِّمَّةِ، وَبِهِ صَرَّحَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ، وَهُوَ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا الْمُعْتَمَدُ. ثُمَّ إنْ قَدَرَ عَلَى خَصْلَةٍ فَعَلَهَا أَوْ أَكْثَرَ رَتَّبَ، وَالثَّانِي: لَا تَسْتَقِرُّ، بَلْ تَسْقُطُ كَزَكَاةِ الْفِطْرِ (وَالْأَصَحُّ أَنَّ لَهُ الْعُدُولَ عَنْ الصَّوْمِ إلَى الْإِطْعَامِ لِشِدَّةِ الْغُلْمَةِ) وَهِيَ بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ مَضْمُومَةٍ، وَلَامٍ سَاكِنَةٍ شِدَّةُ الْحَاجَةِ لِلنِّكَاحِ؛ لِأَنَّ حَرَارَةَ الصَّوْمِ وَشِدَّةَ الْغُلْمَةِ قَدْ يُفْضِيَانِ بِهِ إلَى الْوِقَاعِ، وَلَوْ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ مِنْ الشَّهْرَيْنِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي اسْتِئْنَافَهُمَا لِبُطْلَانِ التَّتَابُعِ، وَهُوَ حَرَجٌ شَدِيدٌ، وَالثَّانِي: لَا؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الصَّوْمِ فَلَمْ يَجُزْ الْعُدُولُ عَنْهُ كَصَوْمِ رَمَضَانَ.
المتن وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْفَقِيرِ صَرْفُ كَفَّارَتِهِ إلَى عِيَالِهِ.
الشَّرْحُ (وَ) الْأَصَحُّ (أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْفَقِيرِ صَرْفُ كَفَّارَتِهِ إلَى عِيَالِهِ) كَالزَّكَاةِ وَسَائِرِ الْكَفَّارَاتِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخَبَرِ {أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ} فَفِي الْأُمِّ كَمَا فِي الرَّافِعِيِّ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَمَّا أَخْبَرَهُ بِفَقْرِهِ صَرَفَهُ لَهُ صَدَقَةً، أَوْ أَنَّهُ مَلَّكَهُ إيَّاهُ وَأَمَرَهُ بِالتَّصَدُّقِ بِهِ، فَلَمَّا أَخْبَرَهُ بِفَقْرِهِ أَذِنَ لَهُ فِي صَرْفِهَا لَهُمْ لِلْإِعْلَامِ بِأَنَّهَا إنَّمَا تَجِبُ بَعْدَ الْكِفَايَةِ، أَوْ أَنَّهُ تَطَوَّعَ بِالتَّكْفِيرِ عَنْهُ وَسَوَّغَ لَهُ صَرْفَهَا لِأَهْلِهِ لِلْإِعْلَامِ بِأَنَّ لِغَيْرِ الْمُكَفِّرِ التَّطَوُّعَ بِالتَّكْفِيرِ عَنْهُ بِإِذْنِهِ، وَأَنَّ لَهُ صَرْفَهَا لِأَهْلِ الْمُكَفِّرِ عَنْهُ أَيْ وَلَهُ فَيَأْكُلُ هُوَ وَهُمْ مِنْهَا كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ السِّنْجِيُّ وَالْقَاضِي نَقْلًا عَنْ الْأَصْحَابِ. وَحَاصِلُ الِاحْتِمَالَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ أَنَّهُ صَرَفَ لَهُ ذَلِكَ تَطَوُّعًا. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَهُوَ الْأَقْرَبُ ا هـ. وَقَدْ يُقَالُ: إنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفُ: وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْفَقِيرِ صَرْفُ كَفَّارَتِهِ إلَى عِيَالِهِ قَدْ يَكُونُ احْتَرَزَ بِهِ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَإِنَّ الصَّارِفَ فِيهَا إنَّمَا هُوَ الْأَجْنَبِيُّ الْمُكَفِّرُ خَاتِمَةٌ: مَنْ فَاتَهُ شَيْءٌ مِنْ رَمَضَانَ اُسْتُحِبَّ أَنْ يَقْضِيَهُ مُتَتَابِعًا، وَيُكْرَهُ لِمَنْ عَلَيْهِ قَضَاءُ رَمَضَانَ أَنْ يَتَطَوَّعَ بِصَوْمٍ قَالَهُ الْجُرْجَانِيِّ: فَلَوْ نَذَرَ صَوْمَ شَعْبَانَ أَبَدًا وَأُسِرَ مَثَلًا فَتَحَرَّى وَصَامَ رَجَبًا عَلَى أَنَّهُ شَعْبَانَ، وَصَامَ شَعْبَانَ عَلَى أَنَّهُ رَمَضَانَ ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ الْحَالُ بَعْدَ رَمَضَانَ لَزِمَهُ قَضَاءُ شَهْرَيْنِ أَحَدُهُمَا عَنْ شَعْبَانَ وَالْآخَرُ عَنْ رَمَضَانَ وَلَا إطْعَامَ عَلَيْهِ قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. بَابُ صَوْمِ التَّطَوُّعِ
المتن يُسَنُّ صَوْمُ الِاثْنَيْنِ، وَالْخَمِيسِ.
الشَّرْحُ بَابُ صَوْمِ التَّطَوُّعِ وَالتَّطَوُّعُ: التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَا لَيْسَ بِفَرْضٍ مِنْ الْعِبَادَاتِ، وَتَعْبِيرُ الْمُصَنِّفِ هُنَا بِهِ، وَفِي الصَّلَاةِ بِالنَّفْلِ مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا} الْآيَةَ {وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} وَلَا شَكَّ أَنَّ الصَّوْمَ مِنْ أَفْضَلِ الْعِبَادَاتِ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ {مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَاعَدَ اللَّهُ تَعَالَى وَجْهَهُ عَنْ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا} وَفِي الْحَدِيثِ {كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ} وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُ عَلَى أَقْوَالٍ تَزِيدُ عَلَى خَمْسِينَ قَوْلًا. قَالَ السُّبْكِيُّ: مِنْ أَحْسَنِهَا قَوْلُ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ: إنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَتَعَلَّقُ خُصَمَاءُ الْمَرْءِ بِجَمِيعِ أَعْمَالِهِ إلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُمْ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَبْقَ إلَّا الصَّوْمُ يَتَحَمَّلُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مَا بَقِيَ مِنْ الْمَظَالِمِ، وَيُدْخِلُهُ بِالصَّوْمِ الْجَنَّةَ. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَهَذَا مَرْدُودٌ بِحَدِيثِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَتَدْرُونَ مَنْ الْمُفْلِسُ ؟ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ رَجُلٌ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَدْ ظَلَمَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَانْتَهَكَ عِرْضَ هَذَا، وَيَأْتِي وَلَهُ صَلَاةٌ وَزَكَاةٌ وَصَوْمٌ، قَالَ: فَيَأْخُذُ هَذَا بِكَذَا إلَى أَنْ قَالَ: وَهَذَا بِصَوْمِهِ} فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يُؤْخَذُ فِي الْمَظَالِمِ، وَهُوَ يَنْقَسِمُ إلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ لَا يَتَكَرَّرُ كَصَوْمِ الدَّهْرِ، وَقِسْمٌ يَتَكَرَّرُ فِي أُسْبُوعٍ أَوْ سَنَةٍ أَوْ شَهْرٍ، وَقَدْ شَرَعَ فِي الْأَوَّلِ مِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي فَقَالَ: (يُسَنُّ صَوْمُ الِاثْنَيْنِ وَ) صَوْمُ (الْخَمِيسِ) لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {كَانَ يَتَحَرَّى صَوْمَهُمَا وَقَالَ: إنَّهُمَا يَوْمَانِ تُعْرَضُ فِيهِمَا الْأَعْمَالُ، فَأُحِبُّ أَنْ يُعْرَضَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ} رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ . وَالْمُرَادُ عَرْضُهَا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا رَفْعُ الْمَلَائِكَةِ لَهَا، فَإِنَّهُ فِي اللَّيْلِ مَرَّةٌ وَفِي النَّهَارِ مَرَّةٌ، وَلَا يُنَافِي هَذَا رَفْعَهَا فِي شَعْبَانَ كَمَا فِي خَبَرِ مُسْنَدِ أَحْمَدَ {أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ عَنْ إكْثَارِ الصَّوْمِ فِي شَعْبَانَ فَقَالَ: إنَّهُ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ} لِجَوَازِ رَفْعِ أَعْمَالِ الْأُسْبُوعِ مُفَصَّلَةً وَأَعْمَالِ الْعَامِ جُمْلَةً، وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِبِلَالٍ {لَا يَفُتْك صِيَامُ الِاثْنَيْنِ، فَإِنِّي وُلِدْتُ فِيهِ وَبُعِثْتُ فِيهِ وَأَمُوتُ فِيهِ أَيْضًا} وَأَغْرَبَ الْحَلِيمِيُّ فَعَدَّ مِنْ الْمَكْرُوهِ اعْتِيَادَ صَوْمِ يَوْمٍ بِعَيْنِهِ كَالِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَشْبِيهًا بِرَمَضَانَ، وَسُمِّيَ مَا ذُكِرَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِأَنَّهُ ثَانِي الْأُسْبُوعِ، وَالْخَمِيسَ لِأَنَّهُ خَامِسُهُ كَذَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ نَاقِلًا لَهُ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ. قَالَ الْإِسْنَوِيُّ: فَيُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّ أَوَّلَ الْأُسْبُوعِ الْأَحَدُ، وَنَقَلَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ الْأَكْثَرِينَ، وَسَيَأْتِي فِي بَابِ النَّذْرِ أَنَّ أَوَّلَهُ السَّبْتُ، وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: إنَّهُ الصَّوَابُ، وَقَوْلُ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً إلَّا ابْنَ جَرِيرٍ، وَجَمْعُ الِاثْنَيْنِ أَثَانِينُ، وَالْخَمِيسِ أَخْمِسَاءُ وَأَخْمِسَةٌ وَأخَامِيسُ.
المتن وَعَرَفَة.
الشَّرْحُ ثُمَّ شَرَعَ فِي الثَّانِي مِنْهُ، فَقَالَ (وَ) صَوْمُ يَوْمِ (عَرَفَةَ) وَهُوَ تَاسِعُ ذِي الْحِجَّةِ لِغَيْرِ الْحَاجِّ لِخَبَرِ مُسْلِمٍ {صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنَّهُ يُكَفِّرُ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ} وَهُوَ أَفْضَلُ الْأَيَّامِ لِخَبَرِ مُسْلِمٍ: {مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يَعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ مِنْ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ} وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ} فَمَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِ يَوْمِ عَرَفَةَ بِقَرِينَةِ مَا ذُكِرَ. قَالَ الْإِمَامُ: وَالْمُكَفَّرُ الصَّغَائِرُ دُونَ الْكَبَائِرِ. قَالَ صَاحِبُ الذَّخَائِرِ: وَهَذَا مِنْهُ تَحَكُّمٌ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ، وَالْحَدِيثُ عَامٌّ، وَفَضْلُ اللَّهِ وَاسِعٌ لَا يُحْجَرُ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ} هَذَا قَوْلٌ عَامٌّ يُرْجَى أَنَّهُ يُغْفَرُ لَهُ جَمِيعُ ذُنُوبِهِ صَغِيرِهَا وَكَبِيرِهَا. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ. وَلِلتَّكْفِيرِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: الْغُفْرَانُ، وَالثَّانِي: الْعِصْمَةُ حَتَّى لَا يُعْصَى، وَيُسَنُّ أَيْضًا صَوْمُ الثَّمَانِيَةِ أَيَّامٍ قَبْلَ يَوْمِ عَرَفَةَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الرَّوْضَةِ وَلَمْ يَخُصَّهُ بِغَيْرِ الْحَاجِّ، فَيُسَنُّ صَوْمُهَا لِلْحَاجِّ وَغَيْرِهِ. أَمَّا الْحَاجُّ فَلَا يُسَنُّ لَهُ صَوْمُ يَوْمِ عَرَفَةَ، بَلْ يُسَنُّ لَهُ فِطْرُهُ وَإِنْ كَانَ قَوِيًّا لِلِاتِّبَاعِ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَلِيَقْوَى عَلَى الدُّعَاءِ، فَصَوْمُهُ لَهُ خِلَافُ الْأَوْلَى، بَلْ فِي نُكَتِ التَّنْبِيهِ لِلْمُصَنِّفِ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ وَفِيهَا كَالْمَجْمُوعِ أَنَّهُ يُسَنُّ صَوْمُهُ لِحَاجٍّ لَمْ يَصِلْ عَرَفَةَ إلَّا لَيْلًا لِفَقْدِ الْعِلَّةِ. هَذَا كُلُّهُ فِي غَيْرِ الْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ. أَمَّا هُمَا فَيُسَنُّ لَهُمَا فِطْرُهُ مُطْلَقًا كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْإِمْلَاءِ.
المتن وَعَاشُورَاءَ وَتَاسُوعَاءَ.
الشَّرْحُ (وَ) صَوْمُ (عَاشُورَاءَ) وَهُوَ عَاشِرُ الْمُحَرَّمِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ {أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ} وَإِنَّمَا لَمْ يَجِبْ صَوْمُهُ لِلْأَخْبَارِ الدَّالَّةِ بِالْأَمْرِ بِصَوْمِهِ لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ {إنَّ هَذَا الْيَوْمَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ وَلَمْ يُكْتَبْ عَلَيْكُمْ صِيَامُهُ فَمَنْ شَاءَ فَلْيَصُمْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيُفْطِرْ} وَحَمَلُوا الْأَخْبَارَ الْوَارِدَةَ بِالْأَمْرِ بِصَوْمِهِ عَلَى تَأَكُّدِ الِاسْتِحْبَابِ. فَائِدَةٌ: الْحِكْمَةُ فِي كَوْنِ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ بِسَنَتَيْنِ، وَعَاشُورَاءَ بِسَنَةٍ أَنَّ عَرَفَةَ يَوْمٌ مُحَمَّدِيٌّ - يَعْنِي أَنَّ صَوْمَهُ مُخْتَصٌّ بِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَاشُورَاءَ يَوْمٌ مُوسَوِيٌّ، وَنَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ، فَكَانَ يَوْمُهُ بِسَنَتَيْنِ (وَ) صَوْمُ (تَاسُوعَاءَ) وَهُوَ تَاسِعُ الْمُحَرَّمِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَئِنْ بَقِيتُ إلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنَّ الْيَوْمَ التَّاسِعَ} فَمَاتَ قَبْلَهُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَحِكْمَةُ صَوْمِ يَوْمِ تَاسُوعَاءَ مَعَ عَاشُورَاءَ الِاحْتِيَاطُ لَهُ لِاحْتِمَالِ الْغَلَطِ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ، وَلِمُخَالَفَةِ الْيَهُودِ فَإِنَّهُمْ يَصُومُونَ الْعَاشِرَ، وَالِاحْتِرَازُ مِنْ إفْرَادِهِ بِالصَّوْمِ كَمَا فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَإِنْ لَمْ يَصُمْ مَعَهُ تَاسُوعَاءَ سُنَّ أَنْ يَصُومَ مَعَهُ الْحَادِيَ عَشَرَ، بَلْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ وَالْإِمْلَاءِ عَلَى اسْتِحْبَابِ صَوْمِ الثَّلَاثَةِ. وَعَاشُورَاءُ وَتَاسُوعَاءُ مَمْدُودَانِ عَلَى الْمَشْهُورِ.
المتن وَأَيَّامِ الْبِيضِ.
الشَّرْحُ ثُمَّ شَرَعَ فِي الثَّالِثِ مِنْهُ فَقَالَ (وَ) صَوْمُ (أَيَّامِ) اللَّيَالِي (الْبِيضِ) وَهُوَ الْيَوْمُ الثَّالِثَ عَشَرَ وَتَالِيَاهُ لِلْأَمْرِ بِصَوْمِهَا فِي النَّسَائِيّ وَصَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ، وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرَةِ أَمْثَالِهَا فَصَوْمُهَا كَصَوْمِ الشَّهْرِ، وَمِنْ ثُمَّ سُنَّ صَوْمُ ثَلَاثَةٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَلَوْ غَيْرَ أَيَّامِ الْبِيضِ كَمَا فِي الْبَحْرِ وَغَيْرِهِ. قَالَ السُّبْكِيُّ: وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يُسَنُّ صَوْمُ ثَلَاثَةٍ، وَأَنْ تَكُونَ أَيَّامَ الْبِيضِ فَإِنْ صَامَهَا أَتَى بِالسُّنَّتَيْنِ، وَالْأَحْوَطُ صَوْمُهُ الثَّانِيَ عَشَرَ مَعَهَا أَيْضًا لِلْخُرُوجِ مِنْ خِلَافِ مَنْ قَالَ إنَّهُ أَوَّلُ الثَّلَاثَةِ، وَسُمِّيَتْ هَذِهِ الْأَيَّامُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا تَبْيَضُّ بِطُلُوعِ الْقَمَرِ مِنْ أَوَّلِهَا لِآخِرِهَا، وَيُسْتَثْنَى ثَالِثَ عَشَرَ ذِي الْحِجَّةِ فَإِنَّ صَوْمَهُ حَرَامٌ كَمَا مَرَّ، وَبَحَثَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ يَصُومُ بَدَلًا عَنْهُ السَّادِسَ عَشَرَ، وَيُسَنُّ صَوْمُ أَيَّامِ اللَّيَالِي السُّودِ، وَهُوَ الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ وَتَالِيَاهُ، وَيَنْبَغِي كَمَا قَالَ شَيْخُنَا أَنْ يَصُومَ مَعَهَا السَّابِعَ وَالْعِشْرِينَ احْتِيَاطًا، وَخُصَّتْ أَيَّامُ الْبِيضِ وَأَيَّامُ السُّودِ بِذَلِكَ لِتَعْمِيمِ لَيَالِي الْأُولَى بِالنُّورِ وَالثَّانِيَةِ بِالسَّوَادِ فَنَاسَبَ صَوْمَ الْأُولَى شُكْرًا، وَالثَّانِيَةِ لِطَلَبِ كَشْفِ السَّوَادِ، وَلِأَنَّ الشَّهْرَ ضَيْفٌ قَدْ أَشْرَفَ عَلَى الرَّحِيلِ فَنَاسَبَ تَزْوِيدَهُ بِذَلِكَ.
المتن وَسِتَّةٍ مِنْ شَوَّالٍ، وَتَتَابُعُهَا أَفْضَلُ.
الشَّرْحُ (وَ) صَوْمُ (سِتَّةٍ مِنْ شَوَّالٍ) وَهَذَا مِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي، فَيُسَنُّ صَوْمُهَا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعُهُ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ} رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَرَوَى النَّسَائِيُّ خَبَرَ {صِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ بِعَشَرَةِ أَشْهُرٍ، وَصِيَامُ سِتَّةِ أَيَّامٍ بِشَهْرَيْنِ، فَذَلِكَ صِيَامُ السَّنَةِ} أَيْ كَصِيَامِهَا فَرْضًا، وَإِلَّا فَلَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِرَمَضَانَ وَسِتَّةٍ مِنْ شَوَّالٍ؛ لِأَنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا.
تَنْبِيهٌ: قَضِيَّةُ إطْلَاقِ الْمُصَنِّفِ اسْتِحْبَابَ صَوْمِهَا لِكُلِّ أَحَدٍ، سَوَاءٌ أَصَامَ رَمَضَانَ أَمْ لَا، كَمَنْ أَفْطَرَ لِمَرَضٍ أَوْ صِبًا أَوْ كُفْرٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَهُوَ الظَّاهِرُ كَمَا جَرَى عَلَيْهِ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَإِنْ كَانَتْ عِبَارَةُ كَثِيرِينَ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ صَامَ رَمَضَانَ أَنْ يُتْبِعَهُ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ كَلَفْظِ الْحَدِيثِ، وَتَحْصُلُ السُّنَّةُ بِصَوْمِهَا مُتَفَرِّقَةً (وَ) لَكِنْ (تَتَابُعُهَا أَفْضَلُ) عَقِبَ الْعِيدِ مُبَادَرَةً إلَى الْعِبَادَةِ وَلِمَا فِي التَّأْخِيرِ مِنْ الْآفَاتِ، وَلَوْ صَامَ فِي شَوَّالٍ قَضَاءً أَوْ نَذْرًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، هَلْ تَحْصُلُ لَهُ السُّنَّةُ أَوْ لَا ؟ لَمْ أَرَ مَنْ ذَكَرَهُ، وَالظَّاهِرُ الْحُصُولُ. لَكِنْ لَا يَحْصُلُ لَهُ هَذَا الثَّوَابُ الْمَذْكُورُ خُصُوصًا مَنْ فَاتَهُ رَمَضَانُ وَصَامَ عَنْهُ شَوَّالًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصْدُقْ عَلَيْهِ الْمَعْنَى الْمُتَقَدِّمُ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُهُمْ: يُسْتَحَبُّ لَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَنْ يَصُومَ سِتًّا مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ لِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ قَضَاءُ الصَّوْمِ الرَّاتِبِ ا هـ. وَهَذَا إنَّمَا يَأْتِي إذَا قُلْنَا: إنَّ صَوْمَهَا لَا يَحْصُلُ بِغَيْرِهَا. أَمَّا إذَا قُلْنَا بِحُصُولِهِ وَهُوَ الظَّاهِرُ كَمَا تَقَدَّمَ فَلَا يُسْتَحَبُّ قَضَاؤُهَا، وَقَوْلُ الْمُصَنِّفُ: سِتَّةٌ بِإِثْبَاتِ التَّاءِ مَعَ حَذْفِ الْمَعْدُودِ لُغَةً، وَالْأَفْصَحُ حَذْفُهَا كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ، وَيُسَنُّ صَوْمُ آخِرِ كُلِّ شَهْرٍ لِمَا مَرَّ فِي صَوْمِ أَيَّامِ السَّوَادِ، فَإِنْ صَامَهَا أَتَى بِالسَّنَتَيْنِ وَلَا يَرِدُ عَلَى ذَلِكَ يَوْمُ الشَّكِّ فَإِنَّهُ آخِرُ شَهْرٍ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ تَقَدَّمَ عَلَيْهِ.
المتن وَيُكْرَهُ إفْرَادُ الْجُمُعَةِ.
الشَّرْحُ (وَيُكْرَهُ إفْرَادُ) يَوْمِ (الْجُمُعَةِ) بِالصَّوْمِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لَا يَصُمْ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إلَّا أَنْ يَصُومَ يَوْمًا قَبْلَهُ أَوْ يَوْمًا بَعْدَهُ} رَوَاهُ الشَّيْخَانِ. وَلِيَتَقَوَّى بِفِطْرِهِ عَلَى الْوَظَائِفِ الْمَطْلُوبَةِ فِيهِ، وَلِذَلِكَ خَصَّهُ الْبَيْهَقِيُّ وَجَمَاعَةٌ نَقْلًا عَنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ بِمَنْ يَضْعُفُ بِهِ عَنْ الْوَظَائِفِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ. فَقَدْ قِيلَ: إنَّ الْعِلَّةَ فِي ذَلِكَ لِئَلَّا يُبَالَغَ فِي تَعْظِيمِهِ كَالْيَهُودِ فِي السَّبْتِ، وَقِيلَ: لِئَلَّا يُعْتَقَدَ وُجُوبُهُ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ يَوْمُ عِيدٍ وَطَعَامٍ.
المتن وَإِفْرَادُ السَّبْتِ،
الشَّرْحُ (وَ) يُكْرَهُ أَيْضًا (إفْرَادُ السَّبْتِ) أَوْ الْأَحَدِ بِالصَّوْمِ لِخَبَرِ {لَا تَصُومُوا يَوْمَ السَّبْتِ إلَّا فِيمَا اُفْتُرِضَ عَلَيْكُمْ} رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلِأَنَّ الْيَهُودَ تُعَظِّمُ يَوْمَ السَّبْتِ وَالنَّصَارَى يَوْمَ الْأَحَدِ، وَخَرَجَ بِإِفْرَادِ كُلٍّ مِنْ الثَّلَاثَةِ جَمْعُهُ مِنْ غَيْرِهِ فَلَا يُكْرَهُ جَمْعُ الْجُمُعَةِ مَعَ السَّبْتِ، وَلَا السَّبْتِ مَعَ الْأَحَدِ؛ لِأَنَّ الْمَجْمُوعَ لَا يُعَظِّمُهُ أَحَدٌ، وَحُمِلَ عَلَى هَذَا مَا رَوَى النَّسَائِيُّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {كَانَ أَكْثَرَ مَا يَصُومُ مِنْ الْأَيَّامِ يَوْمَ السَّبْتِ وَالْأَحَدِ، وَكَانَ يَقُولُ: إنَّهُمَا يَوْمَا عِيدٍ لِلْمُشْرِكِينَ وَأُحِبُّ أَنْ أُخَالِفَهُمْ} قَالَ بَعْضُهُمْ: وَلَا يُعْرَفُ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَظِيرٌ، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا ضُمَّ مَكْرُوهٌ إلَى مَكْرُوهٍ آخَرَ تَزُولُ الْكَرَاهَةُ. فَإِنْ قِيلَ: التَّعْلِيلُ بِالتَّقَوِّي بِالْفِطْرِ فِي كَرَاهَةِ إفْرَادِ الْجُمُعَةِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ إفْرَادِهَا وَجَمْعِهَا؟. أُجِيبَ بِأَنَّهُ إذَا جَمَعَهَا حَصَلَ لَهُ بِفَضِيلَةِ صَوْمٍ غَيْرِهِ مَا يَجْبُرُ مَا حَصَلَ فِيهَا مِنْ النَّقْصِ قَالَهُ فِي الْمَجْمُوعِ.
تَنْبِيهٌ: مَحِلُّ كَرَاهَةِ إفْرَادِ مَا ذُكِرَ إذَا لَمْ يُوَافِقْ عَادَةً لَهُ، فَإِنْ كَانَ لَهُ عَادَةٌ كَأَنْ اعْتَادَ صَوْمَ يَوْمٍ وَفِطْرَ يَوْمٍ فَوَافَقَ صَوْمُهُ يَوْمًا مِنْهَا لَمْ يُكْرَهْ كَمَا فِي صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ، وَلِخَبَرِ مُسْلِمٍ {لَا تَخُصُّوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِصِيَامٍ مِنْ بَيْنِ الْأَيَّامِ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي صَوْمٍ يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ} وَقِيسَ بِالْجُمُعَةِ الْبَاقِي، وَلَا يُكْرَهُ إفْرَادُ عِيدٍ مِنْ أَعْيَادِ أَهْلِ الْمِلَلِ بِالصَّوْمِ كَالنَّيْرُوزِ وَالْمِهْرَجَانِ، وَإِطْلَاقُ الْمُصَنِّفُ كَرَاهَةَ إفْرَادِهِ مَحْمُولٌ عَلَى النَّفْلِ فَلَا يُكْرَهُ فِي الْمُعْتَادِ وَالْفَرْضِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ.
المتن وَصَوْمُ الدَّهْرِ غَيْرِ الْعِيدِ وَالتَّشْرِيقِ مَكْرُوهٌ لِمَنْ خَافَ بِهِ ضَرَرًا أَوْ فَوْتَ حَقٍّ، وَمُسْتَحَبٌّ لِغَيْرِهِ.
الشَّرْحُ ثُمَّ شَرَعَ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ فَقَالَ (وَصَوْمُ الدَّهْرِ غَيْرَ) يَوْمَيْ (الْعِيدِ، وَ) أَيَّامِ (التَّشْرِيقِ مَكْرُوهٌ لِمَنْ خَافَ بِهِ ضَرَرًا أَوْ فَوْتَ حَقٍّ) وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ لِخَبَرِ الْبُخَارِيِّ " أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخَى بَيْنَ سَلْمَانَ وَبَيْنَ أَبِي الدَّرْدَاءِ، فَجَاءَ سَلْمَانُ يَزُورُ أَبَا الدَّرْدَاءِ، فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُبْتَذَلَةً فَقَالَ: مَا شَأْنُك ؟ فَقَالَتْ: إنَّ أَخَاك لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي شَيْءٍ مِنْ الدُّنْيَا، فَقَالَ سَلْمَانُ: يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ، إنَّ لِرَبِّك عَلَيْك حَقًّا، وَلِأَهْلِك عَلَيْك حَقًّا، وَلِجَسَدِك عَلَيْك حَقًّا، فَصُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ، وَأْتِ أَهْلَك، وَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَذَكَرَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالَهُ سَلْمَانُ، فَقَالَ النَّبِيُّ مِثْلَ مَا قَالَ سَلْمَانُ " فَإِنْ صَامَ الْعِيدَيْنِ وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ أَوْ شَيْئًا مِنْهَا حَرُمَ، وَعَلَيْهِ حُمِلَ خَبَرُ الصَّحِيحَيْنِ {لَا صَامَ مَنْ صَامَ الْأَبَدَ} (وَمُسْتَحَبٌّ لِغَيْرِهِ) لِإِطْلَاقِ الْأَدِلَّةِ، وَلِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ {مَنْ صَامَ الدَّهْرَ ضُيِّقَتْ عَلَيْهِ جَهَنَّمُ هَكَذَا وَعَقَدَ تِسْعِينَ} رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ. وَمَعْنَى ضُيِّقَتْ عَلَيْهِ أَيْ عَنْهُ فَلَمْ يَدْخُلْهَا، أَوْ لَا يَكُونُ لَهُ فِيهَا مَوْضِعٌ.
تَنْبِيهٌ: قَوْلُهُ: وَمُسْتَحَبٌّ لِغَيْرِهِ كَذَا فِي الْمُحَرَّرِ وَشَرْحِ مُسْلِمٍ، وَجَرَى عَلَيْهِ ابْنُ الْمُقْرِي وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَإِنْ عَبَّرَ فِي الشَّرْحَيْنِ وَالرَّوْضَةِ وَالْمَجْمُوعِ بِعَدَمِ الْكَرَاهَةِ لَا الِاسْتِحْبَابِ. وَقَالَ الْأَذْرَعِيُّ: وَعِبَارَةُ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَمَعَ اسْتِحْبَابِهِ فَصَوْمُ يَوْمٍ وَفِطْرُ يَوْمٍ أَفْضَلُ مِنْهُ لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ {أَفْضَلُ الصِّيَامِ صِيَامُ دَاوُد كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا}، وَفِيهِ أَيْضًا " لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ " فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ صَوْمِ الدَّهْرِ كَمَا قَالَهُ الْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُ وَإِنْ أَفْتَى ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ بِالْعَكْسِ وَقَالَ: إنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا. وَحُمِلَ قَوْلُهُ فِي الْخَبَرِ " لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ " أَيْ لَك، وَلَوْ نَذَرَ صَوْمَ الدَّهْرِ انْعَقَدَ نَذْرُهُ. لَكِنْ مَحِلُّهُ كَمَا قَالَ السُّبْكِيُّ مَا لَمْ يَكُنْ مَكْرُوهًا، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي بَابِ النَّذْرِ. فَائِدَةٌ: قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: الدَّهْرُ الْأَبَدُ الْمَحْدُودُ، وَالْجَمْعُ أَدْهُرٌ وَدُهُورٌ، وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ فَإِنَّ الدَّهْرَ هُوَ اللَّهُ} فَمَعْنَاهُ أَنَّ مَا أَصَابَك مِنْ الدَّهْرِ فَاَللَّهُ فَاعِلُهُ لَيْسَ الدَّهْرُ، فَإِذَا سَبَبْت بِهِ الدَّهْرَ، فَكَأَنَّك أَرَدْت اللَّهَ سُبْحَانَهُ.
المتن وَمَنْ تَلَبَّسَ بِصَوْمِ تَطَوُّعٍ أَوْ صَلَاتِهِ فَلَهُ قَطْعُهُمَا وَلَا قَضَاءَ.
الشَّرْحُ (وَمَنْ تَلَبَّسَ بِصَوْمِ تَطَوُّعٍ أَوْ صَلَاتِهِ فَلَهُ قَطْعُهُمَا) أَمَّا الصَّوْمُ، فَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الصَّائِمُ الْمُتَطَوِّعُ أَمِيرُ نَفْسِهِ إنْ شَاءَ صَامَ وَإِنْ شَاءَ أَفْطَرَهُ} قَالَ الْحَاكِمُ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَأَمَّا الصَّلَاةُ فَقِيَاسًا عَلَى الصَّوْمِ، وَيُقَاسُ بِذَلِكَ بَقِيَّةُ النَّوَافِلِ غَيْرِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ كَاعْتِكَافٍ وَطَوَافٍ، وَوُضُوءٍ، وَقِرَاءَةِ سُورَةِ الْكَهْفِ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ أَوْ يَوْمَهَا، وَالتَّسْبِيحَاتِ عَقِبَ الصَّلَاةِ، وَلِئَلَّا يُغَيِّرَ الشُّرُوعُ حُكْمَ الْمَشْرُوعِ فِيهِ. أَمَّا التَّطَوُّعُ بِالْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ فَيَحْرُمُ قَطْعُهُ كَمَا يَأْتِي فِي بَابِهِ لِمُخَالَفَتِهِ غَيْرَهُ فِي لُزُومِ الْإِتْمَامِ وَالْكَفَّارَةِ بِالْجِمَاعِ، وَلَكِنْ يُكْرَهُ الْخُرُوجُ مِنْهُ بِلَا عُذْرٍ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} وَلِلْخُرُوجِ مِنْ خِلَافِ مَنْ أَوْجَبَ إتْمَامَهُ، فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ عُذْرٌ كَمُسَاعَدَةِ ضَيْفٍ فِي الْأَكْلِ إذَا عَزَّ عَلَيْهِ امْتِنَاعُ مَضِيفِهِ مِنْهُ أَوْ عَكْسُهُ، فَلَا يُكْرَهُ الْخُرُوجُ مِنْهُ بَلْ يُسْتَحَبُّ لِخَبَرِ {وَإِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْك حَقًّا} وَخَبَرِ {مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ} رَوَاهُمَا الشَّيْخَانِ. أَمَّا إذَا لَمْ يَعِزَّ عَلَى أَحَدِهِمَا امْتِنَاعُ الْآخَرِ مِنْ ذَلِكَ، فَالْأَفْضَلُ عَدَمُ خُرُوجِهِ مِنْهُ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ، وَإِذَا أَفْطَرَ لَمْ يَثْبُتْ عَلَى مَا مَضَى إنْ خَرَجَ بِغَيْرِ عُذْرٍ، وَيُثَابُ عَلَيْهِ إنْ خَرَجَ بِعُذْرٍ، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ قَوْلُ الْمُتَوَلِّي أَنَّهُ لَا يُثَابُ؛ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ لَمْ تَتِمَّ، وَمَا حُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُثَابُ عَلَيْهِ (وَلَا قَضَاءَ) وَاجِبٌ لِقَطْعِ التَّطَوُّعِ، بَلْ هُوَ مَنْدُوبٌ سَوَاءٌ أَخْرَجَ بِعُذْرٍ أَمْ بِغَيْرِهِ لِلْخُرُوجِ مِنْ خِلَافِ مَنْ أَوْجَبَ قَضَاءَهُ. أَمَّا مَنْ فَاتَهُ وَلَهُ عَادَةٌ بِصِيَامِهِ كَالِاثْنَيْنِ، فَلَا يُسَنُّ لَهُ قَضَاؤُهُ لِفَقْدِ الْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ كَمَا أَفْتَى بِهِ شَيْخِي.
تَنْبِيهٌ: لَوْ عَبَّرَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ تَلَبَّسَ بِتَطَوُّعٍ غَيْرِ حَجٍّ وَعُمْرَةٍ لَكَانَ أَوْلَى لِيَشْمَلَ مَا ذُكِرَ.
المتن وَمَنْ تَلَبَّسَ بِقَضَاءٍ حَرُمَ عَلَيْهِ قَطْعُهُ إنْ كَانَ عَلَى الْفَوْرِ، وَهُوَ صَوْمُ مَنْ تَعَدَّى بِالْفِطْرِ، وَكَذَا إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْفَوْرِ فِي الْأَصَحِّ: بِأَنْ لَمْ يَكُنْ تَعَدَّى بِالْفِطْرِ.
الشَّرْحُ (وَمَنْ تَلَبَّسَ بِقَضَاءٍ) لِصَوْمٍ فَاتَ عَنْ وَاجِبٍ (حَرُمَ عَلَيْهِ قَطْعُهُ) جَزْمًا (إنْ كَانَ) قَضَاؤُهُ (عَلَى الْفَوْرِ، وَهُوَ صَوْمُ مَنْ تَعَدَّى بِالْفِطْرِ) حَتَّى لَا يَجُوزَ التَّأْخِيرُ بِعُذْرِ السَّفَرِ كَمَا نَقَلَاهُ عَنْ الْبَغَوِيِّ وَأَقَرَّاهُ تَدَارُكًا لِمَا وَقَعَ فِيهِ مِنْ الْإِثْمِ (وَكَذَا إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْفَوْرِ) يَحْرُمُ قَطْعُهُ (فِي الْأَصَحِّ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ تَعَدَّى بِالْفِطْرِ) لِأَنَّهُ قَدْ تَلَبَّسَ بِالْفَرْضِ وَلَا عُذْرَ لَهُ فِي الْخُرُوجِ فَلَزِمَهُ إتْمَامُهُ كَمَا لَوْ شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، وَالثَّانِي: لَا يَحْرُمُ؛ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ فِي الشُّرُوعِ فِيهِ فَأَشْبَهَ الْمُسَافِرَ يَشْرَعُ فِي الصَّوْمِ ثُمَّ يُرِيدُ الْخُرُوجَ مِنْهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ ضَبْطَ الْفَوْرِ بِالتَّعَدِّي يَرِدُ عَلَيْهِ مَا لَوْ ضَاقَ وَقْتُهُ بِأَنْ لَمْ يَبْقَ مِنْ شَعْبَانَ إلَّا مَا يَسَعُ الْقَضَاءَ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْقَضَاءُ عَلَى الْفَوْرِ، سَوَاءٌ أَفَاتَ بِعُذْرٍ أَمْ لَا، وَقَضَاءُ يَوْمِ الشَّكِّ فَإِنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ كَمَا نَقَلَهُ فِي الْمَجْمُوعِ عَنْ الْمُتَوَلِّي وَغَيْرِهِ وَأَقَرَّهُ وَنَقَلَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ عَنْ الْمُتَوَلِّي. ثُمَّ قَالَ: وَفِيهِ نَظَرٌ، وَقَضِيَّةُ مَا قَالَ الْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُ الْقَضَاءُ عَلَى مَنْ نَسِيَ النِّيَّةَ عَلَى الْفَوْرِ؛ لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ قَضَاءُ يَوْمِ الشَّكِّ عَلَى الْفَوْرِ بِقَوْلِهِ: إنْ قُلْنَا: يَلْزَمُهُ التَّشْبِيهُ بِالصَّائِمِينَ، فَقَدْ أَلْحَقْنَاهُ بِمَنْ أَفْطَرَ بِغَيْرِ عُذْرٍ، وَلَكِنْ فِي الْمَجْمُوعِ أَنَّ قَضَاءَهُ عَلَى التَّرَاخِي بِلَا خِلَافٍ قَالَ: وَكَذَلِكَ عَلَى مَنْ أَكَلَ عَلَى ظَنِّ اللَّيْلِ. قَالَ فِي الْمُهِمَّاتِ: وَاَلَّذِي يَمِيلُ الْقَلْبُ إلَيْهِ إلْحَاقُ يَوْمِ الشَّكِّ بِذَلِكَ، وَيَأْتِي انْقِسَامُ الْقَضَاءِ إلَى مَا يَكُونُ بِالتَّعَدِّي وَإِلَى غَيْرِهِ أَيْضًا فِي الصَّلَاةِ وَفِي الِاعْتِكَافِ الْمَنْذُورِ فِي زَمَنٍ مُعَيَّنٍ وَفِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ. خَاتِمَةٌ: أَفْضَلُ الشُّهُورِ لِلصَّوْمِ بَعْدَ رَمَضَانَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ، وَأَفْضَلُهَا الْمُحَرَّمُ لِخَبَرِ مُسْلِمٍ {أَفْضَلُ الصَّوْمِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ ثُمَّ رَجَبٌ} خُرُوجًا مِنْ خِلَافِ مَنْ فَضَّلَهُ عَلَى الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ ثُمَّ بَاقِيهَا ثُمَّ شَعْبَانُ لِمَا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ {كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ} وَفِي رِوَايَةٍ {كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إلَّا قَلِيلًا}. قَالَ الْعُلَمَاءُ: اللَّفْظُ الثَّانِي مُفَسِّرٌ لِلْأَوَّلِ، فَالْمُرَادُ بِكُلِّهِ غَالِبُهُ، وَقِيلَ كَانَ يَصُومُهُ تَارَةً مِنْ أَوَّلِهِ، وَتَارَةً مِنْ آخِرِهِ، وَتَارَةً مِنْ وَسَطِهِ، وَلَا يَتْرُكُ مِنْهُ شَيْئًا بِلَا صِيَامٍ، لَكِنْ فِي أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ أَكْثَرَ مِنْ شَعْبَانَ مَعَ أَنَّ الْمُحَرَّمَ أَفْضَلُ مِنْهُ؟. أُجِيبَ بِلَعَلَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَعْلَمْ فَضْلَ الْمُحَرَّمِ إلَّا فِي آخِرِ الْحَيَاةِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ صَوْمِهِ، أَوْ لَعَلَّهُ كَانَتْ تَعْرِضُ لَهُ فِيهِ أَعْذَارٌ تَمْنَعُ مِنْ إكْثَارِ الصَّوْمِ فِيهِ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا {مَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إلَّا رَمَضَانَ}، قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَإِنَّمَا لَمْ يَسْتَكْمِلْ ذَلِكَ لِئَلَّا يُظَنَّ وُجُوبُهُ. وَيَحْرُمُ صَوْمُ الْمَرْأَةِ تَطَوُّعًا وَزَوْجُهَا حَاضِرٌ إلَّا بِإِذْنِهِ، لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ {لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ أَنْ تَصُومَ وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ إلَّا بِإِذْنِهِ} وَلِأَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ فَرْضٌ فَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ لِنَفْلٍ، فَلَوْ صَامَتْ بِغَيْرِ إذْنِهِ صَحَّ وَإِنْ كَانَ حَرَامًا كَالصَّلَاةِ فِي دَارٍ مَغْصُوبَةٍ، وَعِلْمُهَا بِرِضَاهُ كَإِذْنِهِ، وَسَيَأْتِي فِي النَّفَقَاتِ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهَا صَوْمُ عَرَفَةَ وَعَاشُورَاءَ. أَمَّا صَوْمُهَا فِي غَيْبَةِ زَوْجِهَا عَنْ بَلَدِهَا فَجَائِزٌ بِلَا خِلَافٍ. فَإِنْ قِيلَ هَلَّا جَازَ صَوْمُهَا مَعَ حُضُورِهِ، وَإِذَا أَرَادَ التَّمَتُّعَ بِهَا تَمَتَّعَ وَفَسَدَ صَوْمُهَا. أُجِيبَ بِأَنَّ صَوْمَهَا يَمْنَعُهُ التَّمَتُّعَ عَادَةً؛ لِأَنَّهُ يُهَابُ انْتِهَاكُ حُرْمَةِ الصَّوْمِ بِالْإِفْسَادِ، وَلَا يَلْحَقُ بِالصَّوْمِ صَلَاةُ النَّفْلِ الْمُطْلَقِ لِقِصَرِ زَمَنِهِ.
المتن هُوَ مُسْتَحَبٌّ كُلَّ وَقْتٍ وَفِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ أَفْضَلُ لِطَلَبِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَمَيْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ إلَى أَنَّهَا لَيْلَةُ الْحَادِي أَوْ الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ.
الشَّرْحُ (كِتَابُ الِاعْتِكَافِ) هُوَ لُغَةً: اللُّبْثُ وَالْحَبْسُ وَالْمُلَازَمَةُ عَلَى الشَّيْءِ خَيْرًا كَانَ أَوْ شَرًّا. قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}، وَقَالَ تَعَالَى: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ}، وَقِيلَ عَكَفَ عَلَى الْخَيْرِ وَانْعَكَفَ عَلَى الشَّرِّ. وَشَرْعًا: اللُّبْثُ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ شَخْصٍ مَخْصُوصٍ بِنِيَّةٍ . وَالْأَصْلُ فِيهِ قَبْلَ الْإِجْمَاعِ الْآيَةُ الْأُولَى، وَالْأَخْبَارُ كَخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ مِنْ رَمَضَانَ، ثُمَّ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ وَلَازَمَهُ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ} وَهُوَ مِنْ الشَّرَائِعِ الْقَدِيمَةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَعَهِدْنَا إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ} (هُوَ مُسْتَحَبٌّ كُلَّ وَقْتٍ) فِي رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ بِالْإِجْمَاعِ وَلِإِطْلَاقِ الْأَدِلَّةِ (وَ) هُوَ (فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ أَفْضَلُ) مِنْهُ فِي غَيْرِهِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَقَدَّمَتْ فِي سُنَنِ الصَّوْمِ، وَأَعَادَهَا لِذِكْرِ حِكْمَةِ الِاعْتِكَافِ فِي الْعَشْرِ الْمَذْكُورِ، وَهِيَ قَوْلُهُ (لِطَلَبِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ). بِالصَّلَاةِ وَالْقِرَاءَةِ وَكَثْرَةِ الدُّعَاءِ، فَإِنَّهَا أَفْضَلُ لَيَالِي السَّنَةِ. قَالَ تَعَالَى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} أَيْ خَيْرٌ مِنْ الْعَمَلِ فِي أَلْفِ شَهْرٍ لَيْسَ فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ {مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ} وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ انْحِصَارُهَا فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرَةِ، وَهُوَ مَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَأَنَّهَا تَلْزَمُ لَيْلَةً بِعَيْنِهَا لَا تَنْتَقِلُ. وَقَالَ الْمُزَنِيّ وَابْنُ خُزَيْمَةَ: إنَّهَا مُنْتَقِلَةٌ فِي لَيَالِي الْعَشْرِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَحَادِيثِ. قَالَ فِي الرَّوْضَةِ: وَهُوَ قَوِيٌّ، وَقَالَ فِي الْمَجْمُوعِ: إنَّهُ الظَّاهِرُ الْمُخْتَارُ لَكِنَّ الْمَذْهَبَ الْأَوَّلُ. قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: وَلَا يَنَالُ فَضْلَهَا إلَّا مَنْ أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهَا، فَلَوْ قَامَهَا إنْسَانٌ وَلَمْ يَشْعُرْ بِهَا لَمْ يَنَلْ فَضْلَهَا. قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: وَكَلَامُ الْمُتَوَلِّي يُنَازِعُهُ حَيْثُ قَالَ: يُسْتَحَبُّ التَّعَبُّدُ فِي كُلِّ لَيَالِي الْعَشْرِ حَتَّى يَحُوزَ الْفَضِيلَةَ عَلَى الْيَقِينِ ا هـ. وَهَذَا أَوْلَى، نَعَمْ حَالُ مَنْ اطَّلَعَ أَكْمَلُ إذَا قَامَ بِوَظَائِفِهَا. وَقَدْ نُقِلَ فِي زَوَائِدِ الرَّوْضَةِ عَنْ نَصِّهِ فِي الْقَدِيمِ أَنَّ مَنْ شَهِدَ الْعِشَاءَ وَالصُّبْحَ فِي جَمَاعَةٍ فَقَدْ أَخَذَ بِحَظِّهِ مِنْهَا، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا {مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ الْأَخِيرَةَ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَقَدْ أَدْرَكَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ}، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُكْثِرَ فِي لَيْلَتِهَا مِنْ قَوْلِ: اللَّهُمَّ إنَّكَ عَفْوٌ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي، وَأَنْ يَجْتَهِدَ فِي يَوْمِهَا كَمَا يَجْتَهِدُ فِي لَيْلَتِهَا، وَخُصَّتْ بِهَا هَذِهِ الْأُمَّةُ، وَهِيَ بَاقِيَةٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَيُسَنُّ إنْ رَآهَا أَنْ يَكْتُمَهَا (وَمَيْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ) تَعَالَى (إلَى أَنَّهَا لَيْلَةُ الْحَادِي) وَالْعِشْرِينَ (أَوْ الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ) مِنْهُ، يَدُلُّ لِلْأَوَّلِ خَبَرُ الصَّحِيحَيْنِ. وَلِلثَّانِي خَبَرُ مُسْلِمٍ، وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هُوَ نَصُّ الْمُخْتَصَرِ، وَاَلَّذِي قَالَهُ الْأَكْثَرُونَ أَنَّ مَيْلَهُ إلَى أَنَّهَا لَيْلَةُ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ لَا غَيْرُ، وَفِي الْقَدِيمِ أَرْجَاهَا لَيْلَةُ إحْدَى أَوْ ثَلَاثٍ أَوْ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، ثُمَّ بَقِيَّةُ الْأَوْتَارِ، ثُمَّ لَيْلَةُ أَشْفَاعِ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَجَمَاعَةٌ إنَّهَا فِي جَمِيعِ الشَّهْرِ، وَخَصَّهَا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِأَوْتَارِ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، وَبَعْضُهُمْ بِأَشْفَاعِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأُبَيُّ: هِيَ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَفِيهَا نَحْوُ الثَّلَاثِينَ قَوْلًا. وَالسَّبَبُ فِي إبْهَامِهَا عَلَى النَّاسِ أَنْ يَكْثُرَ اجْتِهَادُهُمْ فِي كُلِّ السَّنَةِ وَيَطْلُبُونَهَا فِي جَمِيعِهَا، وَمِنْ عَلَامَاتِهَا أَنَّهَا طَلْقَةٌ لَا حَارَّةٌ وَلَا بَارِدَةٌ، وَتَطْلُعُ الشَّمْسُ فِي صَبِيحَتِهَا بَيْضَاءَ لَيْسَ فِيهَا كَثِيرُ شُعَاعٍ. فَإِنْ قِيلَ: لَا فَائِدَةَ فِي هَذِهِ الْعَلَامَةِ لِأَنَّهَا قَدْ انْقَضَتْ. أُجِيبَ بِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُجْتَهَدَ فِي يَوْمِهَا كَمَا تَقَدَّمَ وَأَنَّهُ يَبْقَى يَعْرِفُهَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا تَلْزَمُ لَيْلَةً وَاحِدَةً.
المتن وَإِنَّمَا يَصِحُّ الِاعْتِكَافُ فِي الْمَسْجِدِ، وَالْجَامِعُ أَوْلَى.
الشَّرْحُ وَأَرْكَانُ الِاعْتِكَافِ أَرْبَعَةٌ: مَسْجِدٌ، وَلُبْثٌ، وَنِيَّةٌ، وَمُعْتَكِفٌ. وَقَدْ شَرَعَ فِي أَوَّلِهَا فَقَالَ (وَإِنَّمَا يَصِحُّ الِاعْتِكَافُ فِي الْمَسْجِدِ) لِلِاتِّبَاعِ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَلِلْإِجْمَاعِ وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} إذْ ذِكْرُ الْمَسَاجِدِ لَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ لِجَعْلِهَا شَرْطًا فِي مَنْعِ مُبَاشَرَةِ الْمُعْتَكِفِ لِمَنْعِهِ مِنْهَا وَإِنْ كَانَ خَارِجَ الْمَسْجِدِ، وَلِمَنْعِ غَيْرِهِ أَيْضًا مِنْهَا فَتَعَيَّنَ كَوْنُهَا شَرْطًا لِصِحَّةِ الِاعْتِكَافِ، وَلَا يَفْتَقِرُ شَيْءٌ مِنْ الْعِبَادَاتِ إلَى مَسْجِدٍ إلَّا التَّحِيَّةَ وَالِاعْتِكَافَ وَالطَّوَافَ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ سَطْحِ الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ، وَيَصِحُّ فِي رَحْبَتِهِ لِأَنَّهَا مِنْهُ، وَلَا يَصِحُّ فِيمَا وُقِفَ جُزْؤُهُ شَائِعًا مَسْجِدًا وَإِنْ حَرُمَ عَلَى الْجُنُبِ الْمُكْثُ فِيهِ لِلِاحْتِيَاطِ، وَلَا فِيمَا أَرْضُهُ مُسْتَأْجَرَةٌ وَوُقِفَ بِنَاؤُهُ مَسْجِدًا عَلَى الْقَوْلِ بِصِحَّةِ الْوَقْفِ وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَالْحِيلَةُ فِي الِاعْتِكَافِ فِيهِ أَنْ يَبْنِيَ فِيهِ مَصْطَبَةً أَوْ صِلَةً أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ وَيَقِفَهَا مَسْجِدًا فَيَصِحَّ الِاعْتِكَافُ فِيهَا كَمَا يَصِحُّ عَلَى سَطْحِهِ وَجُدْرَانِهِ، وَلَا يُغْتَرُّ بِمَا وَقَعَ لِلزَّرْكَشِيِّ مِنْ أَنَّهُ يَصِحُّ الِاعْتِكَافُ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يُبْنَ نَحْوُ مَصْطَبَةٍ. وَقَدْ عُلِمَ مِمَّا تَقَرَّرَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ وَقْفُ الْمَنْقُولِ مَسْجِدًا، وَلَا يُغْتَرُّ بِمَا وَقَعَ فِي فَتَاوَى بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الصِّحَّةِ (وَ) الْمَسْجِدُ (الْجَامِعُ) وَهُوَ مَا تُقَامُ فِيهِ الْجُمُعَةُ (أَوْلَى) بِالِاعْتِكَافِ فِيهِ مِنْ غَيْرِهِ لِلْخُرُوجِ مِنْ خِلَافِ مَنْ أَوْجَبَهُ، وَلِكَثْرَةِ الْجَمَاعَةِ فِيهِ، وَلِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْ الْخُرُوجِ لِلْجُمُعَةِ. وَيَجِبُ الْجَامِعُ لِلِاعْتِكَافِ فِيهِ إنْ نَذَرَ مُدَّةً مُتَتَابِعَةً فِيهَا يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَكَانَ مِمَّنْ تَلْزَمُهُ الْجُمُعَةُ وَلَمْ يُشْتَرَطْ الْخُرُوجُ لَهَا؛ لِأَنَّ الْخُرُوجَ لَهَا يَقْطَعُ التَّتَابُعَ لِتَقْصِيرِهِ بَعْدَ اعْتِكَافِهِ فِي الْجَامِعِ وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ الْجُمُعَةُ تُقَامُ بَيْنَ أَبْنِيَةِ الْقَرْيَةِ لَا فِي جَامِعٍ لَمْ يَبْطُلْ تَتَابُعُهُ بِالْخُرُوجِ لَهَا، وَكَذَا لَوْ كَانَتْ الْقَرْيَةُ صَغِيرَةً لَا تَنْعَقِدُ الْجُمُعَةُ بِأَهْلِهَا فَأُحْدِثَ بِهَا جَامِعٌ وَجَمَاعَةٌ بَعْدَ نَذْرِهِ اعْتِكَافَهُ وَلَوْ اسْتَثْنَى الْخُرُوجَ لَهَا وَكَانَ فِي الْبَلَدِ جَامِعَانِ فَمَرَّ عَلَى أَحَدِهِمَا وَذَهَبَ إلَى الْآخَرِ فَإِنْ كَانَ الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ يُصَلِّي فِيهِ أَوَّلًا لَمْ يَضُرَّهُ، أَوْ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ كَمَا قَالَهُ الْقَفَّالُ فِي فَتَاوِيهِ. أَمَّا إذَا لَمْ يُشْرَطْ التَّتَابُعُ فَإِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ الْجَامِعُ بَلْ يَصِحُّ فِي سَائِرِ الْمَسَاجِدِ لِمُسَاوَاتِهَا لَهُ فِي تَحْرِيمِ الْمُكْثِ جُنُبًا وَسَائِرِ الْأَحْكَامِ. وَيُسْتَثْنَى مِنْ كَوْنِ الْجَامِعِ أَوْلَى مَا إذَا كَانَ قَدْ عَيَّنَ غَيْرَ الْجَامِعِ فَالْمُعَيَّنُ أَوْلَى إذَا لَمْ يَحْتَجْ إلَى الْخُرُوجِ إلَى الْجُمُعَةِ.
المتن وَالْجَدِيدُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ اعْتِكَافُ امْرَأَةٍ فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا، وَهُوَ الْمُعْتَزَلُ الْمُهَيَّأُ لِلصَّلَاةِ.
الشَّرْحُ (وَالْجَدِيدُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ اعْتِكَافُ امْرَأَةٍ فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا، وَهُوَ الْمُعْتَزَلُ الْمُهَيَّأُ لِلصَّلَاةِ) لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَسْجِدٍ بِدَلِيلِ جَوَازِ تَغْيِيرِهِ وَمُكْثِ الْجُنُبِ فِيهِ، وَلِأَنَّ نِسَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِيَ عَنْهُنَّ كُنَّ يَعْتَكِفْنَ فِي الْمَسْجِدِ وَلَوْ كَفَى بُيُوتُهُنَّ لَكَانَتْ لَهُنَّ أَوْلَى، وَالْقَدِيمُ يَصِحُّ لِأَنَّهُ مَكَانُ صَلَاتِهَا كَمَا أَنَّ الْمَسْجِدَ مَكَانُ صَلَاةِ الرَّجُلِ. وَأَجَابَ الْأَوَّلَ بِأَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَخْتَصُّ بِمَوْضِعٍ بِخِلَافِ الِاعْتِكَافِ، وَالْخُنْثَى كَالرَّجُلِ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِصِحَّةِ اعْتِكَافِهَا فِي بَيْتِهَا يَكُونُ الْمَسْجِدُ لَهَا أَفْضَلَ خُرُوجًا مِنْ الْخِلَافِ.
المتن وَلَوْ عَيَّنَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فِي نَذْرِهِ الِاعْتِكَافَ تَعَيَّنَ، وَكَذَا مَسْجِدُ الْمَدِينَةِ وَالْأَقْصَى فِي الْأَظْهَرِ، وَيَقُومُ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ مَقَامَهُمَا، وَلَا عَكْسَ، وَيَقُومُ مَسْجِدُ الْمَدِينَةِ مَقَامَ الْأَقْصَى، وَلَا عَكْسَ.
الشَّرْحُ (وَلَوْ عَيَّنَ) النَّاذِرُ (الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فِي نَذْرِهِ الِاعْتِكَافَ تَعَيَّنَ) فَلَا يَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ لِتَعَلُّقِ النُّسُكِ بِهِ وَزِيَادَةِ فَضْلِهِ لِكَثْرَةِ تَضَاعُفُ الصَّلَاةِ فِيهِ. قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ صَلَاةٍ فِي مَسْجِدِي}. وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي يَتَعَيَّنُ فِي النَّذْرِ وَيَتَعَلَّقُ بِهِ زِيَادَةُ الْفَضِيلَةُ قِيلَ الْكَعْبَةُ وَالْمَسْجِدُ الَّذِي يُطَافُ فِيهِ حَوْلَهَا، وَبِهَذَا جَزَمَ الْمُصَنِّفُ فِي الْمَجْمُوعِ فِي بَابِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ، وَقِيلَ: إنَّهُ الْكَعْبَةُ وَمَا فِي الْحِجْرِ مِنْ الْبَيْتِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ صَاحِبِ الْبَيَانِ، وَقِيلَ: جَمِيعُ بِقَاعِ الْحَرَمِ، وَهُوَ الَّذِي نَقَلَهُ فِي الْبَيَانِ عَنْ شَيْخِهِ الشَّرِيفِ الْعُثْمَانِيِّ، وَالْقَلْبُ إلَى هَذَا أَمْيَلُ، وَسَكَتَ الْمُصَنِّفُ عَمَّا لَوْ عَيَّنَ الْكَعْبَةَ أَوْ الْبَيْتَ الْحَرَامَ. وَقَالَ فِي الْبَيَانِ: إنَّهُ يَتَعَيَّنُ الْبَيْتُ وَمَا أُضِيفَ إلَيْهِ مِنْ الْحِجْرِ. قَالَ فِي الْمُهِمَّاتِ: وَهُوَ الْمُتَّجَهُ، لَكِنْ هَذَا إنَّمَا يَأْتِي كَمَا قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى أَنَّ التَّضْعِيفَ مُخْتَصٌّ بِذَلِكَ، وَصَاحِبُ الْبَيَانِ يَقُولُ بِهِ. وَأَمَّا مَنْ لَا يَرَى التَّضْعِيفَ مُخْتَصًّا بِذَلِكَ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ بِتَعْيِينِ ذَلِكَ. وَقَدْ صَرَّحَ الْإِمَامُ بِالْمَسْأَلَةِ فَقَالَ عَنْ شَيْخِهِ: إنَّهُ لَوْ نَذَرَ صَلَاةً فِي الْكَعْبَةِ وَصَلَّى فِي أَطْرَافِ الْمَسْجِدِ خَرَجَ عَنْ نَذْرِهِ، وَنَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ عَنْهُ فِي بَابِ النَّذْرِ (وَكَذَا مَسْجِدُ الْمَدِينَةِ، وَ) مَسْجِدُ (الْأَقْصَى) إذَا عَيَّنَهُمَا النَّاذِرُ فِي نَذْرِهِ تَعَيَّنَا (فِي الْأَظْهَرِ) وَلَا يُجْزِئُ دُونَهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا مَسْجِدَانِ تُشَدُّ إلَيْهِمَا الرِّحَالُ فَأَشْبَهَا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ. وَالثَّانِي: لَا؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا نُسُكٌ فَأَشْبَهَا بَقِيَّةَ الْمَسَاجِدِ، وَأَشْعَرَ كَلَامُهُ أَنَّهُ لَوْ عَيَّنَ مَسْجِدًا غَيْرَ الثَّلَاثَةِ لَمْ يَتَعَيَّنْ وَهُوَ كَذَلِكَ فِي الْأَصَحِّ، لَكِنْ مَا عَيَّنَهُ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ كَمَا مَرَّ، وَيُشْعِرُ أَيْضًا تَعْبِيرُهُ بِالِاعْتِكَافِ أَنَّ نَذْرَ الصَّلَاةِ فِي الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ لَا يَتَعَيَّنُ وَلَيْسَ مُرَادًا، بَلْ هِيَ أَوْلَى بِالتَّعْيِينِ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهَا الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ (وَيَقُومُ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ مَقَامَهُمَا) لِمَزِيدِ فَضْلِهِ عَلَيْهِمَا وَتَعَلُّقِ النُّسُكِ بِهِ (وَلَا عَكْسَ) أَيْ لَا يَقُومَانِ مَقَامَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لِأَنَّهُمَا دُونَهُ فِي الْفَضْلِ (وَيَقُومُ مَسْجِدُ الْمَدِينَةِ مَقَامَ الْأَقْصَى) لِأَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْهُ فَإِنَّهُ صَحَّ أَنَّ الصَّلَاةَ فِيهِ بِأَلْفِ صَلَاةٍ كَمَا مَرَّ، وَفِي الْأَقْصَى بِخَمْسِمِائَةٍ كَمَا رَوَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَقَالَ الْبَزَّارُ: إسْنَادُهُ حَسَنٌ. وَرُوِيَ أَيْضًا أَنَّ الصَّلَاةَ فِيهِ بِأَلْفٍ، وَعَلَى هَذَا هُمَا مُتَسَاوِيَانِ (وَلَا عَكْسَ) لِمَا سَبَقَ، سَكَتَ الْمُصَنِّفُ عَنْ تَعْيِينِ زَمَنِ الِاعْتِكَافِ، وَالصَّحِيحُ فِيهِ التَّعْيِينُ أَيْضًا، فَلَوْ قَدَّمَهُ لَمْ يَصِحَّ، وَإِنْ أَخَّرَهُ كَانَ قَضَاءً، وَيَأْثَمُ إنْ تَعَمَّدَ، وَأَجْزَاءُ الْمَسْجِدِ كُلُّهَا مُتَسَاوِيَةٌ فِي أَدَاءِ الْمَنْذُورِ، وَمُقْتَضَى كَلَامِ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ جُزْءٌ مِنْهُ بِالتَّعْيِينِ وَإِنْ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ بَقِيَّةِ الْأَجْزَاءِ.
المتن وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الِاعْتِكَافِ لُبْثُ قَدْرٍ يُسَمَّى عُكُوفًا، وَقِيلَ يَكْفِي مُرُورٌ بِلَا لُبْثٌ، وَقِيلَ يُشْتَرَطُ مُكْثُ نَحْوِ يَوْمٍ.
الشَّرْحُ ثُمَّ شَرَعَ فِي الرُّكْنِ الثَّانِي فَقَالَ (وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الِاعْتِكَافِ لُبْثُ قَدْرٍ يُسَمَّى عُكُوفًا) أَيْ إقَامَةً بِحَيْثُ يَكُونُ زَمَنُهَا فَوْقَ زَمَنِ الطُّمَأَنِينَةِ فِي الرُّكُوعِ وَنَحْوِهِ، فَلَا يَكْفِي قَدْرُهَا، وَلَا يَجِبُ السُّكُونُ بَلْ يَكْفِي التَّرَدُّدُ فِيهِ، وَقَوْلُهُ: وَالْأَصَحُّ يَرْجِعُ إلَى جُمْلَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا أَصْلُ اللُّبْثِ، وَالثَّانِيَةُ قَدْرُهُ، وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ فِي الْأَوَّلِ قَوْلُهُ (وَقِيلَ يَكْفِي الْمُرُورُ بِلَا لُبْثٍ) كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَمُقَابِلُهُ فِي الثَّانِيَةِ قَوْلُهُ (وَقِيلَ يُشْتَرَطُ مُكْثُ نَحْوِ يَوْمٍ) أَيْ قَرِيبٍ مِنْهُ لِأَنَّ مَا دُونَ ذَلِكَ مُعْتَادٌ فِي الْحَاجَةِ الَّتِي تَعِنُّ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ فِي طَرِيقِهِ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ فَلَا يَصْلُحُ لِلْقُرْبَةِ، وَعَلَى الْأَصَحِّ يَصِحُّ نَذْرُ اعْتِكَافِ سَاعَةٍ، وَلَوْ نَذَرَ اعْتِكَافًا مُطْلَقًا كَفَاهُ لَحْظَةٌ، لَكِنَّ الْمُسْتَحَبَّ يَوْمٌ، وَيُسَنُّ كُلَّمَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ أَنْ يَنْوِيَ الِاعْتِكَافَ.
المتن وَيَبْطُلُ بِالْجِمَاعِ، وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ أَنَّ الْمُبَاشَرَةَ بِشَهْوَةٍ كَلَمْسٍ، وَقُبْلَةٍ تُبْطِلُهُ إنْ أَنْزَلَ، وَإِلَّا فَلَا.
الشَّرْحُ (وَيَبْطُلُ بِالْجِمَاعِ) مِنْ عَالِمٍ بِتَحْرِيمِهِ ذَاكِرًا لِلِاعْتِكَافِ سَوَاءٌ أَجَامَعَ فِي الْمَسْجِدِ أَمْ خَارِجَهُ عِنْدَ خُرُوجِهِ لِقَضَاءِ حَاجَةٍ أَوْ نَحْوِهَا لِمُنَافَاتِهِ الْعِبَادَةَ الْبَدَنِيَّةَ. وَاعْلَمْ أَنَّ جِمَاعَهُ فِي الْمَسْجِدِ حَرَامٌ مُطْلَقًا إذَا أَدَّى إلَى مُكْثٍ فِيهِ سَوَاءٌ كَانَ مُعْتَكِفًا أَمْ لَا كَمَا مَرَّتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ اعْتِكَافُهُ فَرْضًا أَمْ نَفْلًا. وَأَمَّا إذَا جَامَعَ خَارِجَ الْمَسْجِدِ وَكَانَ مُعْتَكِفًا فَإِنْ كَانَ الِاعْتِكَافُ مَنْذُورًا حَرُمَ، وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا لَمْ يَحْرُمْ إذْ غَايَتُهُ الْخُرُوجُ مِنْ الْعِبَادَةِ وَهُوَ جَائِزٌ. قَالَ فِي الْمُهِمَّاتِ: وَالْحُكْمُ بِالْبُطْلَانِ إنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُسْتَقْبَلِ. وَأَمَّا الْمَاضِي فَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مَنْذُورًا مُتَتَابِعًا فَيُسْتَأْنَفُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَتَابِعًا لَمْ يَبْطُلْ مَا مَضَى، وَسَوَاءٌ أَكَانَ مَنْذُورًا أَمْ نَفْلًا، وَلَوْ شَتَمَ إنْسَانًا، أَوْ اغْتَابَهُ، أَوْ أَكَلَ حَرَامًا لَمْ يَبْطُلْ اعْتِكَافُهُ وَبَطَلَ ثَوَابُهُ. قَالَهُ فِي الْأَنْوَارِ، وَلَوْ أَوْلَجَ فِي دُبُرِ خُنْثَى بَطَلَ اعْتِكَافُهُ أَوْ أَوْلَجَ فِي قُبُلِهِ، أَوْ أَوْلَجَ الْخُنْثَى فِي رَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ أَوْ خُنْثَى فَفِي بُطْلَانِ اعْتِكَافِهِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ (وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ أَنَّ الْمُبَاشَرَةَ بِشَهْوَةٍ) فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ (كَلَمْسٍ وَقُبْلَةٍ تُبْطِلُهُ) أَيْ الِاعْتِكَافَ (إنْ أَنْزَلَ، وَإِلَّا فَلَا) تُبْطِلُهُ لِمَا مَرَّ فِي الصَّوْمِ. وَالثَّانِي تُبْطِلُهُ مُطْلَقًا لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ} وَالثَّالِثُ: لَا مُطْلَقًا كَالْحَجِّ، وَعَلَى كُلِّ قَوْلٍ هِيَ حَرَامٌ فِي الْمَسْجِدِ إنْ لَزِمَ مِنْهَا مُكْثٌ فِيهِ وَهُوَ جُنُبٌ، وَكَذَا خَارِجَهُ إنْ كَانَ الِاعْتِكَافُ وَاجِبًا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ نَفْلًا، وَاحْتَرَزَ الْمُصَنِّفُ بِالْمُبَاشَرَةِ عَمَّا إذَا نَظَرَ أَوْ تَفَكَّرَ فَأَنْزَلَ فَإِنَّهُ لَا يَبْطُلُ، وَبِالشَّهْوَةِ عَمَّا إذَا قَبَّلَ بِقَصْدِ الْإِكْرَامِ وَنَحْوِهِ، أَوْ بِلَا قَصْدٍ فَلَا يُبْطِلُهُ إذَا أَنْزَلَ جَزْمًا، وَالِاسْتِمْنَاءُ كَالْمُبَاشَرَةِ، وَقَدْ عُرِفَ بِهَذَا التَّفْصِيلِ أَنَّ مَسْأَلَةَ الْخُنْثَى مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ بُطْلَانِ الِاعْتِكَافِ بِالْجِمَاعِ، وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ فِي الْخُنْثَى أَنْ يُنْزِلَ مِنْ فَرْجَيْهِ.
المتن وَلَوْ جَامَعَ نَاسِيًا فَكَجِمَاعِ الصَّائِمِ.
الشَّرْحُ (وَلَوْ جَامَعَ نَاسِيًا) لِلِاعْتِكَافِ (فَكَجِمَاعِ الصَّائِمِ) نَاسِيًا صَوْمَهُ فَلَا يَضُرُّ عَلَى الْمَذْهَبِ كَمَا سَبَقَ فِي الصِّيَامِ، وَلَوْ جَامَعَ جَاهِلًا فَكَجِمَاعِ الصَّائِمِ جَاهِلًا وَقَدْ مَرَّ فِي الصِّيَامِ أَيْضًا، وَالْمُبَاشَرَةُ بِشَهْوَةٍ فِي ذَلِكَ كَالْجِمَاعِ.
المتن وَلَا يَضُرُّ التَّطَيُّبُ وَالتَّزَيُّنُ.
الشَّرْحُ (وَلَا يَضُرُّ) فِي الِاعْتِكَافِ، (التَّطَيُّبُ وَالتَّزَيُّنُ) بِاغْتِسَالٍ وَقَصِّ شَارِبٍ، وَلُبْسِ ثِيَابٍ حَسَنَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ دَوَاعِي الْجِمَاعِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَهُ وَلَا أَمَرَ بِتَرْكِهِ، وَالْأَصْلُ بَقَاؤُهُ عَلَى الْإِبَاحَةِ، وَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ وَيُزَوِّجَ بِخِلَافِ الْمُحْرِمِ. وَلَا يُكْرَهُ لَهُ الصَّنَائِعُ فِي الْمَسْجِدِ كَالْخِيَاطَةِ وَالْكِتَابَةِ مَا لَمْ يَكْثُرْ مِنْهَا، فَإِنْ أَكْثَرَ مِنْهَا كُرِهَتْ لِحُرْمَتِهِ إلَّا كِتَابَةَ الْعِلْمِ فَلَا يُكْرَهُ الْإِكْثَارُ مِنْهَا؛ لِأَنَّهَا طَاعَةٌ كَتَعْلِيمِ الْعِلْمِ، ذَكَرَهُ فِي الْمَجْمُوعِ، وَتُكْرَهُ لَهُ الْحِرْفَةُ فِيهِ بِخِيَاطَةٍ وَنَحْوِهَا كَالْمُعَاوَضَةِ مِنْ نَحْوِ بَيْعٍ وَشِرَاءٍ بِلَا حَاجَةٍ وَإِنْ قَلَّتْ، وَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ وَيَشْرَبَ وَيَغْسِلَ يَدَهُ فِيهِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَأْكُلَ فِي سُفْرَةٍ أَوْ نَحْوِهَا، وَأَنْ يَغْسِلَ يَدَهُ فِي طَسْتٍ أَوْ نَحْوِهَا لِيَكُونَ أَنْظَفَ لِلْمَسْجِدِ، وَيَجُوزُ نَضْحُهُ بِمُسْتَعْمَلٍ لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى جَوَازِ الْوُضُوءِ فِيهِ وَإِسْقَاطِ مَائِهِ فِي أَرْضِهِ مَعَ أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ، وَلِأَنَّهُ أَنْظَفُ مِنْ غُسَالَةِ الْيَدِ الْخَالِصَةِ يَغْسِلُهَا فِيهِ، وَهَذَا مَا اخْتَارَهُ فِي الْمَجْمُوعِ وَجَزَمَ بِهِ ابْنُ الْمُقْرِي، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ خِلَافًا لِمَا جَرَى عَلَيْهِ الْبَغَوِيّ مِنْ الْحُرْمَةِ، وَيَجُوزُ الِاحْتِجَامُ وَالْفَصْدُ فِيهِ فِي إنَاءٍ مَعَ الْكَرَاهَةِ كَمَا جَزَمَ بِهَا فِي الْمَجْمُوعِ إذَا أَمِنَ تَلْوِيثَ الْمَسْجِدِ، وَكَالْحِجَامَةِ وَالْفَصْدِ مَا فِي مَعْنَاهُمَا كَمَا بَحَثَهُ شَيْخُنَا كَفَتْحِ دُمَّلٍ وَسَائِرِ الدِّمَاءِ الْخَارِجَةِ مِنْ الْآدَمِيِّ لِلْحَاجَةِ، أَمَّا مَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُمَا فَإِنَّهُ يَحْرُمُ، فَقَدْ نَقَلَ الْمُصَنِّفُ فِي مَجْمُوعِهِ تَحْرِيمَ إدْخَالِ النَّجَاسَةِ الْمَسْجِدَ لِمَا فِيهِ مِنْ شَغْلِ هَوَائِهِ بِهَا مَعَ زِيَادَةِ الْقُبْحِ، وَمَحِلُّهُ إذَا لَمْ تَكُنْ حَاجَةٌ بِدَلِيلِ جَوَازِ إدْخَالِ النَّعْلِ الْمُتَنَجِّسَةِ فِيهِ إذَا أَمِنَ التَّلْوِيثَ، فَإِنْ لَوَّثَ الْخَارِجُ بِمَا ذُكِرَ الْمَسْجِدَ أَوْ بَالَ أَوْ تَغَوَّطَ فِيهِ وَلَوْ فِي إنَاءٍ حَرُمَ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ مَا تَقَدَّمَ وَبَيْنَ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ أَنَّ الدِّمَاءَ أَخَفُّ مِنْهُمَا لِمَا مَرَّ أَنَّهُ يُعْفَى عَنْهَا فِي مَحِلِّهَا وَإِنْ كَثُرَتْ إذَا لَمْ تَكُنْ بِفِعْلِهِ، وَلِأَنَّهُمَا أَقْبَحُ مِنْهَا، وَلِهَذَا لَا يُمْنَعُ مِنْ نَحْوِ الْفَصْدِ مُتَوَجِّهًا لِلْقِبْلَةِ بِخِلَافِهِمَا.
المتن وَالْفِطْرُ، بَلْ يَصِحُّ اعْتِكَافُ اللَّيْلِ وَحْدَهُ.
الشَّرْحُ وَإِنْ اشْتَغَلَ الْمُعْتَكِفُ بِالْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ فَزِيَادَةُ خَيْرٍ لِأَنَّهُ طَاعَةٌ فِي طَاعَةٍ، وَيُسَنُّ لَهُ الصَّوْمُ لِلِاتِّبَاعِ وَلِلْخُرُوجِ مِنْ خِلَافِ مَنْ أَوْجَبَهُ كَمَا سَيَأْتِي (وَ) لَا يَضُرُّهُ (الْفِطْرُ، بَلْ يَصِحُّ اعْتِكَافُ اللَّيْلِ وَحْدَهُ) وَاعْتِكَافُ الْعِيدِ وَالتَّشْرِيقِ لِخَبَرِ أَنَسٍ {لَيْسَ عَلَى الْمُعْتَكِفِ صِيَامٌ إلَّا أَنْ يَجْعَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ} رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَهَذَا مَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ، وَحُكِيَ قَوْلٌ قَدِيمٌ أَنَّ الصَّوْمَ شَرْطٌ فِي صِحَّتِهِ، وَحَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ.
المتن وَلَوْ نَذَرَ اعْتِكَافَ يَوْمٍ هُوَ فِيهِ صَائِمٌ لَزِمَهُ.
الشَّرْحُ (وَلَوْ نَذَرَ اعْتِكَافَ يَوْمٍ هُوَ فِيهِ صَائِمٌ لَزِمَهُ) الِاعْتِكَافُ يَوْمَ صَوْمِهِ؛ لِأَنَّهُ بِهِ أَفْضَلُ؛ فَإِذَا الْتَزَمَهُ بِالنَّذْرِ لَزِمَهُ كَالتَّتَابُعِ، وَلَيْسَ لَهُ إفْرَادُ أَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ قَطْعًا، سَوَاءٌ أَكَانَ الصَّوْمُ عَنْ رَمَضَانَ أَمْ غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ بِهَذَا النَّذْرِ صَوْمًا، وَإِنَّمَا نَذَرَ الِاعْتِكَافَ بِصِفَةٍ وَقَدْ وُجِدَتْ.
المتن وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ صَائِمًا أَوْ يَصُومَ مُعْتَكِفًا لَزِمَاهُ، وَالْأَصَحُّ وُجُوبُ جَمْعِهِمَا.
الشَّرْحُ (وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ صَائِمًا) أَوْ يَصُومَ (أَوْ) عَكْسَهُ بِأَنْ نَذَرَ أَنْ (يَصُومَ مُعْتَكِفًا) أَوْ بِاعْتِكَافٍ (لَزِمَاهُ) أَيْ الِاعْتِكَافُ وَالصَّوْمُ فِي الصُّورَتَيْنِ عَمَلًا بِالْتِزَامِهِ، فَإِنْ قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَبَيْنَ مَسْأَلَتِنَا مُشْكِلٌ كَمَا قَالَهُ الْإِسْنَوِيُّ فَإِنَّهُ الْتَزَمَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ الصَّوْمَ بِلَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى الصِّفَةِ. أُجِيبَ بِأَنَّ الْحَالَ قَيْدٌ فِي عَامِلِهَا وَمُبَيِّنَةٌ لِهَيْئَةِ صَاحِبِهَا بِخِلَافِ الصِّفَةِ فَإِنَّهَا مُخَصَّصَةٌ لِمَوْصُوفِهَا، وَأَلْحَقُوا الْجَارَ وَالْمَجْرُورَ بِالْحَالِ الصَّرِيحَةِ (وَالْأَصَحُّ) الْمَنْصُوصُ (وُجُوبُ جَمْعِهِمَا) لِأَنَّهُ قُرْبَةٌ فَلَزِمَ بِالنَّذْرِ وَالثَّانِي لَا؛ لِأَنَّهُمَا عِبَادَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ مُصَلِّيًا أَوْ عَكْسَهُ حَيْثُ لَا يَلْزَمُهُ جَمْعُهُمَا، وَفُرِّقَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الصَّوْمَ يُنَاسِبُ الِاعْتِكَافَ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْكَفِّ، وَالصَّلَاةُ أَفْعَالٌ مُبَاشِرَةٌ لَا تُنَاسِبُ الِاعْتِكَافَ. وَالثَّالِثُ: يَجِبُ الْجَمْعُ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى وَلَا يَجِبُ فِي الثَّانِيَةِ، وَفَرَّقَ الرَّافِعِيُّ بِأَنَّ الِاعْتِكَافَ لَا يَصْلُحُ وَصْفًا لِلصَّوْمِ وَالصَّوْمُ يَصْلُحُ وَصْفًا لِلِاعْتِكَافِ لِأَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ فِيهِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ الْأَصَحُّ لَوْ اعْتَكَفَ صَائِمًا فِي رَمَضَانَ أَوْ غَيْرِهِ نَفْلًا كَانَ الصَّوْمُ أَوْ وَاجِبًا بِغَيْرِ هَذَا النَّذْرِ لَمْ يُجْزِهِ لِعَدَمِ الْوَفَاءِ بِالْمُلْتَزَمِ. قَالَ الْإِسْنَوِيُّ: وَالْقِيَاسُ فِيمَا ذُكِرَ وَنَحْوِهِ أَنْ يَكْفِيَهُ اعْتِكَافُ لَحْظَةٍ مِنْ الْيَوْمِ وَلَا يَجِبُ اسْتِيعَابُهُ، لِأَنَّ اللَّفْظَ صَادِقٌ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَكَلَامُهُمْ قَدْ يُوهِمُ خِلَافَهُ ا هـ. وَالْأَوْجُهُ الْأَوَّلُ وَلَوْ عَيَّنَ وَقْتًا لَا يَصِحُّ صَوْمُهُ كَالْعِيدِ قَالَ الدَّارِمِيُّ: اعْتَكَفَهُ وَلَا يَقْضِي الصَّوْمَ فَهُوَ مُسْتَثْنًى مِنْ وُجُوبِ الْجَمْعِ، وَلَوْ نَذَرَ الْقِرَانَ بَيْنَ حَجٍّ وَعُمْرَةٍ جَازَ لَهُ تَفْرِيقُهُمَا وَهُوَ أَفْضَلُ.
المتن وَيُشْتَرَطُ نِيَّةُ الِاعْتِكَافِ، وَيَنْوِي فِي الْمَنْذُورِ الْفَرْضِيَّةَ.
الشَّرْحُ ثُمَّ شَرَعَ فِي الرُّكْنِ الثَّالِثِ مُعَبِّرًا عَنْهُ بِالشَّرْطِ فَقَالَ (وَيُشْتَرَطُ نِيَّةُ الِاعْتِكَافِ) أَيْ لَا بُدَّ مِنْهَا فِي ابْتِدَائِهِ كَمَا فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْعِبَادَاتِ؛ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ، سَوَاءٌ الْمَنْذُورُ وَغَيْرُهُ، تَعَيَّنَ زَمَانُهُ أَوْ لَا (وَ) لَكِنْ (يَنْوِي) حَتْمًا (فِي) الِاعْتِكَافِ (الْمَنْذُورِ الْفَرْضِيَّةَ) لِيَتَمَيَّزَ عَنْ التَّطَوُّعِ، وَلَا يَتَعَيَّنُ سَبَبُ وُجُوبِهِ وَهُوَ النَّذْرُ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، لِأَنَّ وُجُوبَ الِاعْتِكَافِ لَا يَكُونُ إلَّا بِالنَّذْرِ بِخِلَافِهِمَا، وَلَوْ نَوَى كَوْنَهُ عَنْ نَذْرِهِ أَجْزَأَهُ عَنْ ذِكْرِ الْفَرْضِ كَمَا قَالَهُ فِي الذَّخَائِرِ، وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ اعْتِكَافُ مَنْذُورٍ فَائِتٍ وَمَنْذُورٍ غَيْرِ فَائِتٍ. قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: يُشْبِهُ أَنْ يَجِيءَ فِي التَّعَرُّضِ لِلْأَدَاءِ وَالْقَضَاءِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي الصَّلَاةِ.
المتن وَإِذَا أَطْلَقَ كَفَتْهُ، وَإِنْ طَالَ مُكْثُهُ لَكِنْ لَوْ خَرَجَ وَعَادَ احْتَاجَ إلَى الِاسْتِئْنَافِ.
الشَّرْحُ وَلَوْ دَخَلَ فِي الِاعْتِكَافِ ثُمَّ نَوَى الْخُرُوجَ مِنْهُ لَمْ يَبْطُلْ فِي الْأَصَحِّ كَالصَّوْمِ (وَإِذَا أَطْلَقَ) نِيَّةَ الِاعْتِكَافِ، وَلَمْ يُعَيِّنْ مُدَّةً (كَفَتْهُ) هَذِهِ النِّيَّةُ (وَإِنْ طَالَ مُكْثُهُ) لِشُمُولِ النِّيَّةِ الْمُطْلَقَةِ لِذَلِكَ (لَكِنْ لَوْ خَرَجَ) مِنْ الْمَسْجِدِ (وَعَادَ) إلَيْهِ (احْتَاجَ) إنْ لَمْ يَعْزِمْ عِنْدَ خُرُوجِهِ عَلَى الْعَوْدِ (إلَى الِاسْتِئْنَافِ) لِنِيَّةِ الِاعْتِكَافِ، سَوَاءٌ أَخَرَجَ لِتَبَرُّزٍ أَمْ لِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ مَا مَضَى عِبَادَةٌ تَامَّةٌ وَهُوَ يُرِيدُ اعْتِكَافًا جَدِيدًا. فَإِنْ عَزَمَ عَلَى الْعَوْدِ كَانَتْ هَذِهِ الْعَزِيمَةُ قَائِمَةً مَقَامَ النِّيَّةِ كَمَا قَالَهُ فِي التَّتِمَّةِ وَصَوَّبَهُ فِي الْمَجْمُوعِ. فَإِنْ قِيلَ اقْتِرَانُ النِّيَّةِ بِأَوَّلِ الْعِبَادَةِ شَرْطٌ فَكَيْفَ يَكْتَفِي بِعَزِيمَةٍ سَابِقَةٍ؟. أُجِيبَ بِأَنَّ نِيَّةَ الزِّيَادَةِ وُجِدَتْ قَبْلَ الْخُرُوجِ فَصَارَ كَمَنْ نَوَى الْمُدَّتَيْنِ بِنِيَّةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا قَالُوهُ فِيمَنْ نَوَى رَكْعَتَيْنِ نَفْلًا مُطْلَقًا ثُمَّ نَوَى، قِيلَ السَّلَامُ زِيَادَةٌ فَإِنَّهُ يَصِحُّ.
المتن وَلَوْ نَوَى مُدَّةً فَخَرَجَ فِيهَا وَعَادَ، فَإِنْ خَرَجَ لِغَيْرِ قَضَاءِ الْحَاجَةِ لَزِمَهُ الِاسْتِئْنَافُ أَوَّلَهَا فَلَا، وَقِيلَ إنْ طَالَتْ مُدَّةُ خُرُوجِهِ اسْتَأْنَفَ وَقِيلَ لَا يَسْتَأْنِفُ مُطْلَقًا.
الشَّرْحُ (وَلَوْ نَوَى مُدَّةً) أَيْ اعْتِكَافَهَا كَيَوْمٍ أَوْ شَهْرٍ تَطَوُّعًا أَوْ كَانَ قَدْ نَذَرَ أَيَّامًا غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ وَلَمْ يَشْتَرِطْ فِيهَا التَّتَابُعَ ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ بِقَصْدِ وَفَاءِ نَذْرِهِ (فَخَرَجَ) مِنْهُ (فِيهَا) أَيْ الْمُدَّةِ (وَعَادَ) إلَيْهِ (فَإِنْ خَرَجَ) مِنْهُ (لِغَيْرِ قَضَاءِ الْحَاجَةِ) مِنْ الْبَوْلِ أَوْ الْغَائِطِ (لَزِمَهُ الِاسْتِئْنَافُ) لِلنِّيَّةِ لِصِحَّةِ الِاعْتِكَافِ إنْ أَرَادَهُ بَعْدَ الْعَوْدِ وَإِنْ لَمْ يَطُلْ الزَّمَنُ لِقَطْعِهِ الْأَوَّلَ بِالْخُرُوجِ لِغَيْرِ قَضَاءِ الْحَاجَةِ. وَأَمَّا الْعَوْدُ فَلَا يَلْزَمُهُ فِي النَّفْلِ لِجَوَازِ الْخُرُوجِ مِنْهُ (أَوْ) خَرَجَ (لَهَا) أَيْ الْحَاجَةِ (فَلَا) يَلْزَمُهُ اسْتِئْنَافُ النِّيَّةِ وَإِنْ طَالَ زَمَنُ قَضَاءِ الْحَاجَةِ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ فَهُوَ كَالْمُسْتَثْنَى عِنْدَ النِّيَّةِ (وَقِيلَ إنْ طَالَتْ مُدَّةَ خُرُوجِهِ) لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ أَوْ لِغَيْرِهَا (اسْتَأْنَفَ) النِّيَّةَ لِتَعَذُّرِ الْبِنَاءِ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَطُلْ (وَقِيلَ: لَا يَسْتَأْنِفُ) النِّيَّةَ (مُطْلَقًا) لِأَنَّ النِّيَّةَ شَمِلَتْ جَمِيعَ الْمُدَّةِ بِالتَّعْيِينِ.
المتن وَلَوْ نَذَرَ مُدَّةً مُتَتَابِعَةً فَخَرَجَ لِعُذْرٍ لَا يَقْطَعُ التَّتَابُعَ لَمْ يَجِبْ اسْتِئْنَافُ النِّيَّةِ، وَقِيلَ إنْ خَرَجَ لِغَيْرِ حَاجَةً وَغُسْلِ الْجَنَابَةِ وَجَبَ.
الشَّرْحُ أَمَّا إذَا نَذَرَ أَيَّامًا مُعَيَّنَةً وَشَرَطَ فِيهَا التَّتَابُعَ فَحُكْمُهُ مَا ذَكَرَهُ فِي قَوْلِهِ (وَلَوْ نَذَرَ مُدَّةً مُتَتَابِعَةً فَخَرَجَ لِعُذْرٍ لَا يَقْطَعُ التَّتَابُعَ) كَقَضَاءِ حَاجَةٍ وَحَيْضٍ وَأَكْلٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَعْذَارِ الْآتِيَةِ وَعَادَ (لَمْ يَجِبْ اسْتِئْنَافُ النِّيَّةِ) عِنْدَ الْعَوْدِ لِشُمُولِهَا جَمِيعَ الْمُدَّةِ، وَتَجِبُ الْمُبَادَرَةُ إلَى الْعَوْدِ عِنْدَ زَوَالِ الْعُذْرِ. فَإِنْ أَخَّرَ ذَاكِرًا عَالِمًا مُخْتَارًا انْقَطَعَ تَتَابُعُهُ وَتَعَذَّرَ الْبِنَاءُ (وَقِيلَ: إنْ خَرَجَ لِغَيْرِ) قَضَاءِ (حَاجَةً، وَ) غَيْرِ (غُسْلِ الْجَنَابَةِ) يَعْنِي مِمَّا لَهُ مِنْهُ بُدٌّ كَالْأَكْلِ فَإِنَّهُ مَعَ إمْكَانِهِ فِي الْمَسْجِدِ يَجُوزُ الْخُرُوجُ لَهُ عَلَى الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَسْتَحْيِ مِنْهُ وَيَشُقُّ عَلَيْهِ فِيهِ بِخِلَافِ الشُّرْبِ فَلَا يَجُوزُ الْخُرُوجُ لَهُ مَعَ إمْكَانِهِ فِي الْأَصَحِّ فَإِنَّهُ لَا يُسْتَحْيَا مِنْهُ فِي الْمَسْجِدِ (وَجَبَ) اسْتِئْنَافُ النِّيَّةِ لِخُرُوجِهِ عَنْ الْعِبَادَةِ بِمَا عَرَضَ لَهُ مِنْ الْأَعْذَارِ مِمَّا لَهُ عَنْهُ بُدٌّ.
تَنْبِيهٌ: قَدْ عُلِمَ مِمَّا تَقَرَّرَ أَنَّ اقْتِصَارَهُ كَالْمُحَرَّرِ عَنْ اسْتِثْنَاءِ قَضَاءِ الْحَاجَةِ وَغُسْلِ الْجَنَابَةِ مِنْ مَحِلِّ الْخِلَافِ لَيْسَ بِجَيِّدٍ، فَلَوْ عَبَّرَ: بِمَا قَدَّرْتُهُ كَانَ أَوْلَى، وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ لَا يَقْطَعُ التَّتَابُعَ عَمَّا يَقْطَعُهُ فَإِنَّهَا تَجِبُ قَطْعًا.
المتن وَشَرْطُ الْمُعْتَكِفِ: الْإِسْلَامُ وَالْعَقْلُ وَالنَّقَاءُ عَنْ الْحَيْضِ وَالْجَنَابَةِ.
الشَّرْحُ ثُمَّ شَرَعَ فِي الرُّكْنِ الرَّابِعِ وَلَهُ شُرُوطٌ ذَكَرَهَا بِقَوْلِهِ (وَشَرْطُ الْمُعْتَكِفِ: الْإِسْلَامُ وَالْعَقْلُ وَالنَّقَاءُ عَنْ الْحَيْضِ) وَالنِّفَاسِ (وَالْجَنَابَةِ) فَلَا يَصِحُّ اعْتِكَافُ كَافِرٍ، وَمَجْنُونٍ، وَمُبَرْسَمٍ، وَسَكْرَانَ، وَمُغْمًى عَلَيْهِ، وَمَنْ لَا تَمْيِيزَ لَهُ؛ لِعَدَمِ صِحَّةِ نِيَّتِهِمْ وَلَا حَائِضٍ وَنُفَسَاءَ وَجُنُبٍ لِحُرْمَةِ مُكْثِهِمْ فِي الْمَسْجِدِ، وَقَضِيَّةُ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَنْ حَرُمَ مُكْثُهُ فِي الْمَسْجِدِ كَذِي جِرَاحٍ وَقُرُوحٍ وَاسْتِحَاضَةٍ وَنَحْوِهَا إذَا لَمْ يُمْكِنْ حِفْظُ الْمَسْجِدِ مِنْهَا لَا يَصِحُّ اعْتِكَافُهُ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَإِنْ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ هَذَا مَوْضِعُ نَظَرٍ. نَعَمْ لَوْ اعْتَكَفَ فِي مَسْجِدٍ وُقِفَ عَلَى غَيْرِهِ دُونَهُ صَحَّ اعْتِكَافُهُ فِيهِ وَإِنْ حَرُمَ عَلَيْهِ لُبْثُهُ فِيهِ كَمَا لَوْ تَيَمَّمَ بِتُرَابٍ مَغْصُوبٍ، وَقِسْ عَلَى هَذَا مَا يُشْبِهُهُ.
تَنْبِيهٌ: مَحِلُّ عَدَمِ صِحَّةِ اعْتِكَافِ الْمُغْمَى عَلَيْهِ فِي الِابْتِدَاءِ، أَمَّا لَوْ طَرَأَ عَلَيْهِ فِي أَثْنَاءِ اعْتِكَافِهِ فَإِنَّهُ لَا يَبْطُلُ وَيَحْسُبُ زَمَنَهُ مِنْ اعْتِكَافِهِ كَمَا سَيَأْتِي فِي كَلَامِهِ، وَيَصِحُّ اعْتِكَافُ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ وَالرَّقِيقِ وَالزَّوْجَةِ، لَكِنْ لَا يَجُوزُ إلَّا بِإِذْنٍ مِنْ السَّيِّدِ لِلرَّقِيقِ وَمِنْ الزَّوْجِ لِلزَّوْجَةِ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْعَبْدِ مُسْتَحَقَّةٌ لِسَيِّدِهِ وَالتَّمَتُّعُ مُسْتَحَقٌّ لِلزَّوْجِ، وَلِأَنَّ حَقَّهُمَا عَلَى الْفَوْرِ بِخِلَافِ الِاعْتِكَافِ. نَعَمْ إنْ لَمْ يُفَوِّتَا عَلَيْهِمَا مَنْفَعَةً كَأَنْ حَضَرَا الْمَسْجِدَ بِإِذْنِهِمَا فَنَوَيَا الِاعْتِكَافَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ، وَيُكْرَهُ لِذَوَاتِ الْهَيْئَةِ كَمَا فِي خُرُوجِهِنَّ لِلْجَمَاعَةِ، وَلِلزَّوْجِ إخْرَاجُ الزَّوْجِ، وَلِلسَّيِّدِ إخْرَاجُ الرَّقِيقِ مِنْ التَّطَوُّعِ وَإِنْ اعْتَكَفَا بِإِذْنِهِمَا لِمَا مَرَّ، وَكَذَا مِنْ النَّذْرِ إلَّا إنْ أَذِنَا فِيهِ وَفِي الشُّرُوعِ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ زَمَنُ الِاعْتِكَافِ مُعَيَّنًا وَلَا مُتَتَابِعًا أَوْ فِي أَحَدِهِمَا وَزَمَنُ الِاعْتِكَافِ مُعَيَّنٌ، وَكَذَا إنْ أَذِنَا فِي الشُّرُوعِ فِيهِ فَقَطْ، وَهُوَ مُتَتَابِعٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ زَمَنُهُ مُعَيَّنًا فَلَا يَجُوزُ لَهُمَا إخْرَاجُهُمَا فِي الْجَمِيعِ؛ لِإِذْنِهِمَا فِي الشُّرُوعِ مُبَاشَرَةً أَوْ بِوَاسِطَةٍ لِأَنَّ الْإِذْنَ فِي النَّذْرِ الْمُعَيَّنِ إذْنٌ فِي الشُّرُوعِ فِيهِ، وَالْمُعَيَّنُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ وَالْمُتَتَابِعُ لَا يَجُوزُ الْخُرُوجُ مِنْهُ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ الْعِبَادَةِ الْوَاجِبَةِ بِلَا عُذْرٍ، وَلَوْ نَذَرَ الْعَبْدُ اعْتِكَافَ زَمَنٍ مُعَيَّنٍ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ ثُمَّ انْتَقَلَ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ بِبَيْعٍ أَوْ وَصِيَّةٍ أَوْ إرْثٍ فَلَهُ الِاعْتِكَافُ بِغَيْرِ إذْنِ الْمُنْتَقِلِ إلَيْهِ لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَحِقًّا قَبْلَ تَمَكُّنِهِ وَمِثْلُهُ الزَّوْجَةُ. لَكِنْ إنْ جَهِلَ الْمُشْتَرِي فَلَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ، وَيَجُوزُ اعْتِكَافُ الْمُكَاتَبِ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ إذْ لَا حَقَّ لِلسَّيِّدِ فِي مَنْفَعَتِهِ فَهُوَ كَالْحُرِّ، وَإِنْ قَالَ الْقَاضِي: صَوَّرَهُ أَصْحَابُنَا بِمَا لَا يُخِلُّ بِكَسْبِهِ لِقِلَّةِ زَمَنِهِ أَوْ لِإِمْكَانِ كَسْبِهِ فِي الْمَسْجِدِ كَالْخِيَاطَةِ، وَأَمَّا الْمُبَعَّضُ فَهُوَ كَالْقِنِّ إنْ لَمْ تَكُنْ مُهَايَأَةٌ، وَإِلَّا فَهُوَ فِي نَوْبَتِهِ كَالْحُرِّ، وَفِي نَوْبَةِ سَيِّدِهِ كَالْقِنِّ.
المتن وَلَوْ ارْتَدَّ الْمُعْتَكِفُ أَوْ سَكِرَ بَطَلَ، وَالْمَذْهَبُ بُطْلَانُ مَا مَضَى مِنْ اعْتِكَافِهِمَا الْمُتَتَابِعِ.
الشَّرْحُ (وَلَوْ ارْتَدَّ الْمُعْتَكِفُ أَوْ سَكِرَ) مُتَعَدِّيًا (بَطَلَ) اعْتِكَافُهُ فِي زَمَنِ رِدَّتِهِ وَسُكْرِهِ لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ. أَمَّا غَيْرُ الْمُتَعَدِّي فَيُشْبِهُ كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ أَنَّهُ كَالْمُغْمَى عَلَيْهِ (وَالْمَذْهَبُ بُطْلَانُ مَا مَضَى مِنْ اعْتِكَافِهِمَا الْمُتَتَابِعِ) فَلَا بُدَّ مِنْ اسْتِئْنَافِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَشَدُّ وَأَقْبَحُ مِنْ الْخُرُوجِ مِنْ الْمَسْجِدِ بِلَا عُذْرٍ، وَهُوَ يَقْطَعُ التَّتَابُعَ كَمَا سَيَأْتِي، وَالثَّانِي: لَا يَبْطُلُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ فَيَبْنِيَانِ. أَمَّا فِي الرِّدَّةِ فَتَرْغِيبًا فِي الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا فِي السُّكْرِ فَإِلْحَاقًا بِالنَّوْمِ، وَالثَّالِثُ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ: يَبْنِي الْمُرْتَدُّ لِأَنَّهُ لَا يُمْنَعُ مِنْ الْمَسْجِدِ، وَلِهَذَا تَجُوزُ اسْتِتَابَتُهُ فِيهِ وَلَا يَبْنِي السَّكْرَانُ لِأَنَّهُ يُمْنَعُ مِنْهُ لِلْآيَةِ، وَالرَّابِعُ: يَبْنِي السَّكْرَانُ دُونَ الْمُرْتَدِّ؛ لِأَنَّ السُّكْرَ كَالنَّوْمِ وَالرِّدَّةُ تُنَافِي الْعِبَادَةَ.
تَنْبِيهٌ: الْمُرَادُ بِالْبُطْلَانِ عَدَمُ الْبِنَاءِ عَلَيْهِ لَا حُبُوطُهُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلِهَذَا قَالَ الشَّارِحُ مِنْ حَيْثُ التَّتَابُعُ، وَهَذَا فِي السَّكْرَانِ وَأَمَّا الْمُرْتَدُّ فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّ الرِّدَّةَ لَا تُحْبِطُ الثَّوَابَ إنْ لَمْ تَتَّصِلْ بِالْمَوْتِ وَإِنْ اتَّصَلَتْ بِهِ فَهِيَ مُحْبِطَةٌ لِلْعَمَلِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ. فَإِنْ قِيلَ ثَنَّى الْمُصَنِّفُ الضَّمِيرَ فِي اعْتِكَافِهِمَا، وَالْأَوْلَى إفْرَادُهُ لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ هُنَا بِأَوْ، وَقَدْ أَتَى بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ مُفْرَدًا حَيْثُ عَبَّرَ بِقَوْلِهِ: إنْ لَمْ يَخْرُجْ؟. أُجِيبَ بِأَنَّ الْمَعْطُوفَ بِأَوْ هُوَ الْفِعْلُ، وَالضَّمِيرُ لَيْسَ عَائِدًا عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَائِدٌ عَلَى الْمُرْتَدِّ وَالسَّكْرَانِ الْمَفْهُومَيْنِ مِنْ لَفْظِ الْفِعْلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا يَدُلُّ، عَلَيْهِمَا فَصَحَّ عَوْدُ الضَّمِيرِ عَلَيْهِمَا.
المتن وَلَوْ طَرَأَ جُنُونٌ أَوْ إغْمَاءٌ لَمْ يَبْطُلْ مَا مَضَى إنْ لَمْ يُخْرَجْ، وَيُحْسَبُ زَمَنُ الْإِغْمَاءِ مِنْ الِاعْتِكَافِ دُونَ الْجُنُونِ.
الشَّرْحُ (وَلَوْ طَرَأَ جُنُونٌ أَوْ إغْمَاءٌ) عَلَى الْمُعْتَكِفِ (لَمْ يَبْطُلْ مَا مَضَى) مِنْ اعْتِكَافِهِ الْمُتَتَابِعِ (إنْ لَمْ يُخْرَجْ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ مِنْ الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ بِمَا عَرَضَ لَهُ، فَإِنْ أَخْرَجَ مَعَ تَعَذُّرِ ضَبْطِهِ فِي الْمَسْجِدِ لَمْ يَبْطُلْ أَيْضًا كَمَا لَوْ حَمَلَ الْعَاقِلُ مُكْرَهًا، وَكَذَا إنْ أَمْكَنَ بِمَشَقَّةٍ عَلَى الصَّحِيحِ فَهُوَ كَالْمَرِيضِ، فَكَانَ يَنْبَغِي تَرْكُ التَّقْيِيدِ بِعَدَمِ الْخُرُوجِ لِاسْتِوَاءِ حُكْمِهِمَا. أَمَّا لَوْ طَرَأَ ذَلِكَ بِسَبَبٍ لَا يُعْذَرُ فِيهِ كَالسُّكْرِ فَإِنَّهُ يَنْقَطِعُ اعْتِكَافُهُ كَمَا نَقَلَهُ فِي الْكِفَايَةِ عَنْ الْبَنْدَنِيجِيِّ فِي الْجُنُونِ، وَبَحَثَهُ الْأَذْرَعِيُّ فِي الْإِغْمَاءِ (وَيُحْسَبُ زَمَنُ الْإِغْمَاءِ مِنْ الِاعْتِكَافِ) الْمُتَتَابِعِ كَمَا فِي الصَّائِمِ إذَا أُغْمِيَ عَلَيْهِ بَعْضَ النَّهَارِ (دُونَ) زَمَنِ (الْجُنُونِ) فَلَا يُحْسَبُ مِنْهُ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ الْبَدَنِيَّةَ لَا تَصِحُّ مِنْهُ.
المتن أَوْ الْحَيْضُ وَجَبَ الْخُرُوجُ، وَكَذَا الْجَنَابَةُ إذَا تَعَذَّرَ الْغُسْلُ فِي الْمَسْجِدِ، فَلَوْ أَمْكَنَ جَازَ الْخُرُوجُ، وَلَا يَلْزَمُ، وَلَا يُحْسَبُ زَمَنُ الْحَيْضِ وَلَا الْجَنَابَةِ.
الشَّرْحُ (أَوْ) طَرَأَ (الْحَيْضُ) أَوْ النِّفَاسُ عَلَى مُعْتَكِفَةٍ (وَجَبَ) عَلَيْهَا (الْخُرُوجُ) مِنْ الْمَسْجِدِ لِتَحْرِيمِ الْمُكْثِ عَلَيْهَا (وَكَذَا الْجَنَابَةُ) بِمَا لَا يُبْطِلُ الِاعْتِكَافَ كَالِاحْتِلَامِ (إذَا) طَرَأَ عَلَى الْمُعْتَكِفِ، وَ (تَعَذَّرَ) عَلَيْهِ (الْغُسْلُ فِي الْمَسْجِدِ) فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ مِنْهُ لِحُرْمَةِ مُكْثِهِ فِيهِ، وَلَوْ احْتَاجَ إلَى التَّيَمُّمِ لِفَقْدِ الْمَاءِ أَوْ غَيْرِهِ، فَالظَّاهِرُ كَمَا بَحَثَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وُجُوبُ الْخُرُوجِ لَهُ مَعَ إمْكَانِهِ فِي الْمَسْجِدِ بِغَيْرِ تُرَابِهِ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ لُبْثًا إلَى إكْمَالِ التَّيَمُّمِ، فَإِنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ مَارًّا مِنْ غَيْرِ مُكْثٍ وَلَا تَرَدُّدٍ لَمْ يَجِبُ الْخُرُوجُ لِأَنَّ الْمُرُورَ لَا يَحْرُمُ عَلَى الْجُنُبِ (فَلَوْ أَمْكَنَهُ) الْغُسْلُ فِيهِ بِلَا مُكْثٍ (جَازَ) لَهُ (الْخُرُوجُ وَلَا يَلْزَمُهُ) الْخُرُوجُ لِأَجْلِ الْغُسْلِ، بَلْ لَهُ فِعْلُهُ فِي الْمَسْجِدِ مُرَاعَاةً لِلتَّتَابُعِ. نَعَمْ إنْ كَانَ مُسْتَجْمِرًا بِالْحَجَرِ وَنَحْوِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ، وَلَا يَجُوزُ إزَالَةُ النَّجَاسَةِ فِي الْمَسْجِدِ، وَكَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ إذَا كَانَ يَحْصُلُ بِالْغُسَالَةِ ضَرَرٌ لِلْمَسْجِدِ أَوْ لِلْمُصَلِّينَ كَمَا قَالَ ذَلِكَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَيَلْزَمُهُ أَنْ يُبَادِرَ بِالْغُسْلِ لِئَلَّا يَبْطُلَ تَتَابُعُ اعْتِكَافِهِ (وَلَا يُحْسَبُ زَمَنُ الْحَيْضِ) وَالنِّفَاسِ (وَلَا) زَمَنُ (الْجَنَابَةِ) مِنْ الِاعْتِكَافِ إنْ اتَّفَقَ الْمُكْثُ مَعَهَا فِي الْمَسْجِدِ لِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِهِ لِمُنَافَاةِ مَا ذُكِرَ لِلِاعْتِكَافِ، وَسَيَأْتِي آخِرَ الْبَابِ تَفْصِيلٌ فِي أَنَّ الْحَائِضَ هَلْ تَبْنِي عَلَى مَا مَضَى مِنْ اعْتِكَافِهَا أَوْ لَا ؟ وَأَمَّا الْمُسْتَحَاضَةُ فَإِنْ أَمِنَتْ التَّلْوِيثَ لَمْ تَخْرُجْ عَنْ اعْتِكَافِهَا فَإِنْ خَرَجَتْ بَطَلَ.
المتن إذَا نَذَرَ مُدَّةً مُتَتَابِعَةً لَزِمَهُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ التَّتَابُعُ بِلَا شَرْطٍ، وَأَنَّهُ لَوْ نَذَرَ يَوْمًا لَمْ يَجُزْ تَفْرِيقُ سَاعَاتِهِ، وَأَنَّهُ لَوْ عَيَّنَ مُدَّةً كَأُسْبُوعٍ وَتَعَرَّضَ لِلتَّتَابُعِ وَفَاتَتْهُ لَزِمَهُ التَّتَابُعُ فِي الْقَضَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ فِي الْقَضَاءِ.
الشَّرْحُ (فَصْلٌ) فِي حُكْمِ الِاعْتِكَافِ الْمَنْذُورِ (إذَا نَذَرَ مُدَّةً مُتَتَابِعَةً) كَقَوْلِهِ: لِلَّهِ عَلَيَّ اعْتِكَافُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَةٍ (لَزِمَهُ) التَّتَابُعُ فِيهَا إنْ صَرَّحَ بِهِ لَفْظًا لِأَنَّهُ وَصْفٌ مَقْصُودٌ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمُبَادَرَةِ إلَى الْبَاقِي عَقِبَ الْإِتْيَانِ بِبَعْضِهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ اعْتِكَافُ اللَّيَالِي الْمُتَخَلِّلَةِ بَيْنَهَا إلَّا أَنْ يَنْوِيَهَا فَتَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهَا لَا تَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الْأَيَّامِ، وَلَوْ نَذَرَ بِلَفْظِهِ التَّفْرِيقَ لَمْ يَلْزَمْهُ وَجَازَ لَهُ التَّتَابُعُ عَلَى الْأَصَحِّ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا نَذَرَ فِي الصَّوْمِ التَّتَابُعَ أَوْ التَّفْرِيقَ لَزِمَهُ فَهَلَّا كَانَ هُنَا كَذَلِكَ؟. أُجِيبَ بِأَنَّ الصَّوْمَ يَجِبُ فِيهِ التَّفْرِيقُ فِي حَالَةٍ، وَهِيَ صَوْمُ التَّمَتُّعِ فَكَانَ مَطْلُوبًا فِيهِ التَّفْرِيقُ، بِخِلَافِ الِاعْتِكَافِ لَمْ يُطْلَبْ فِيهِ التَّفْرِيقُ أَصْلًا، وَقَوْلُ الْغَزَالِيِّ إنَّهُ لَوْ نَوَى أَيَّامًا مُعَيَّنَةً كَسَبْعَةِ أَيَّامٍ مُتَفَرِّقَةٍ أَوَّلُهَا غَدٌ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ التَّفْرِيقُ إنَّمَا يَأْتِي عَلَى طَرِيقَتِهِ مِنْ أَنَّ النِّيَّةَ تُؤَثِّرُ كَاللَّفْظِ، وَسَيَأْتِي أَنَّهَا لَا تُؤَثِّرُ عَلَى الْأَصَحِّ (وَالصَّحِيحُ) وَعَبَّرَ فِي الرَّوْضَةِ بِالْمَذْهَبِ (أَنَّهُ لَا يَجِبُ التَّتَابُعُ بِلَا شَرْطٍ) لَكِنْ يُسَنُّ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْأُسْبُوعِ مَثَلًا يَصْدُقُ عَلَى الْمُتَتَابِعِ وَالْمُتَفَرِّقِ فَلَا يَجِبُ أَحَدُهُمَا بِخُصُوصِهِ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَالثَّانِي: يَجِبُ كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا شَهْرًا فَإِنَّهُ يَكُونُ مُتَتَابِعًا، وَفُرِّقَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْيَمِينِ الْهِجْرَانُ وَلَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ التَّتَابُعِ، وَقَضِيَّةُ كَلَامِهِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يُشْتَرَطُ التَّابِعُ لَا يَجِبُ، وَإِنْ نَوَاهُ وَهُوَ الْأَصَحُّ كَمَا قَالَاهُ تَبَعًا لِلْبَغَوِيِّ كَأَصْلِ النَّذْرِ وَإِنْ اخْتَارَ السُّبْكِيُّ اللُّزُومَ وَصَوَّبَهُ الْإِسْنَوِيُّ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّهُ إذَا نَوَى اعْتِكَافَ اللَّيَالِي الْمُتَخَلِّلَةِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ أَنَّهَا تَلْزَمُهُ كَمَا مَرَّ مَعَ أَنَّ فِيهِ وَقْتًا زَائِدًا فَوُجُوبُ التَّتَابُعِ أَوْلَى لِأَنَّهُ مُجَرَّدُ وَصْفٍ. أُجِيبَ بِأَنَّ التَّتَابُعَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الزَّمَنِ الْمَذْكُورِ بِخِلَافِ اللَّيَالِي بِالنِّسْبَةِ لِلْأَيَّامِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ إيجَابِ الْجِنْسِ بِنِيَّةِ التَّتَابُعِ إيجَابُ غَيْرِهِ بِهَا وَحُكْمُ الْأَيَّامِ مَعَ نَذْرِ اللَّيَالِي كَحُكْمِ اللَّيَالِي مَعَ نَذْرِ الْأَيَّامِ فِيمَا مَرَّ. (وَ) الصَّحِيحُ، وَعَبَّرَ فِي الرَّوْضَةِ بِالْأَصَحِّ (أَنَّهُ لَوْ نَذَرَ يَوْمًا لَمْ يَجُزْ تَفْرِيقُ سَاعَاتِهِ) مِنْ أَيَّامٍ لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ لَفْظِ الْيَوْمِ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا. قَالَ الْخَلِيلُ: الْيَوْمُ اسْمٌ لِمَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَغُرُوبِ الشَّمْسِ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ تَنْزِيلًا لِلسَّاعَاتِ مِنْ الْيَوْمِ مَنْزِلَةَ الْأَيَّامِ مِنْ الشَّهْرِ. وَمَحِلُّ الْخِلَافِ مَا لَمْ يُعَيِّنْ يَوْمًا فَإِنْ عَيَّنَهُ لَمْ يَجُزْ التَّفْرِيقُ قَطْعًا، وَلَوْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ وَقْتَ الظُّهْرِ مَثَلًا، وَخَرَجَ بَعْدَ الْغُرُوبِ ثُمَّ عَادَ قَبْلَ الْفَجْرِ، وَمَكَثَ إلَى مِثْلِ ذَلِكَ الْوَقْتِ فَعَلَى الْخِلَافِ، فَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ بِاللَّيْلِ أَجْزَأَهُ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ لِحُصُولِ التَّتَابُعِ بِالْبَيْتُوتَةِ فِي الْمَسْجِدِ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ وَإِنْ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: إنَّهُ لَا يُجْزِئُ وَقَالَ الشَّيْخَانِ: إنَّهُ الْأَوْجُهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِيَوْمٍ مُتَوَاصِلِ السَّاعَاتِ، وَاللَّيْلَةُ لَيْسَتْ مِنْ الْيَوْمِ، وَلَوْ نَذَرَ يَوْمًا أَوَّلُهُ مِنْ أَثْنَاءِ يَوْمٍ أَوَّلُهُ وَقْتُ الظُّهْرِ مَثَلًا امْتَنَعَ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ لَيْلًا بِاتِّفَاقِ الْأَصْحَابِ، وَاسْتَشْكَلَا مَنْعَ خُرُوجِهِ لَيْلًا بِأَنَّ اللَّيْلَةَ لَمْ يَلْتَزِمْهَا، قَالَا: وَالْقِيَاسُ أَنْ يَجْعَلَ فَائِدَةَ تَقْيِيدِهِ فِي هَذِهِ الْقَطْعَ بِجَوَازِ التَّفْرِيقِ لَا غَيْرُ (وَ) الصَّحِيحُ وَعَبَّرَ فِي الرَّوْضَةِ بِالْأَصَحِّ (أَنَّهُ لَوْ عَيَّنَ مُدَّةً كَأُسْبُوعٍ) عَيَّنَهُ (وَتَعَرَّضَ لِلتَّتَابُعِ) فِيهَا لَفْظًا ( وَفَاتَتْهُ لَزِمَهُ التَّتَابُعُ فِي الْقَضَاءِ) بِهِ لِالْتِزَامِهِ إيَّاهُ، وَالثَّانِي: لَا يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّ التَّتَابُعَ يَقَعُ ضَرُورَةً فَلَا أَثَرَ لِتَصْرِيحِهِ بِهِ، وَلَوْ لَمْ يُعَيِّنْ الْأُسْبُوعَ لَمْ يُتَصَوَّرْ فِيهِ فَوَاتٌ لِأَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي (وَإِنْ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ) أَيْ التَّتَابُعِ (لَمْ يَلْزَمْهُ فِي الْقَضَاءِ) جَزْمًا لِأَنَّ التَّتَابُعَ فِيهِ لَمْ يَقَعْ مَقْصُودًا، بَلْ مِنْ ضَرُورَةِ تَعَيُّنِ الْوَقْتِ فَأَشْبَهَ التَّتَابُعَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَلَوْ نَذَرَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ مَثَلًا دَخَلَتْ لَيَالِيُهُ؛ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ الْجَمِيعِ إلَّا أَنْ يَسْتَثْنِيَهَا لَفْظًا. أَمَّا لَوْ اسْتَثْنَاهَا بِقَلْبِهِ فَإِنَّهُ لَمْ يُؤَثِّرْ كَمَا لَا يَلْزَمُهُ الِاعْتِكَافُ بِنِيَّتِهِ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّهُ إذَا نَوَى دُخُولَهَا بِقَلْبِهِ أَنَّهُ يُؤَثِّرُ كَمَا مَرَّ. أُجِيبَ بِأَنَّ فِي ذَلِكَ احْتِيَاطًا لِلْعِبَادَةِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَبِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ النِّيَّةِ هُنَاكَ مَا قَدْ يُرَادُ مِنْ اللَّفْظِ، وَهَذَا إخْرَاجُ مَا شَمِلَهُ اللَّفْظُ، وَلَوْ نَذَرَ اعْتِكَافَ يَوْمٍ مُعَيَّنٍ فَفَاتَهُ فَقَضَاهُ لَيْلًا أَجْزَأَهُ، بِخِلَافِ الْيَوْمِ الْمُطْلَقِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْوَفَاءِ بِنَذْرِهِ بِصِفَتِهِ الْمُلْتَزِمَةِ بِخِلَافِهِ فِي الْمُعَيَّنِ كَنَظِيرِهِ فِي الصَّلَاةِ فِي الْقِسْمَيْنِ، حَكَاهُ فِي الْمَجْمُوعِ عَنْ الْمُتَوَلِّي وَأَقَرَّهُ، وَلَوْ نَذَرَ اعْتِكَافَ يَوْمِ قُدُومِ زَيْدٍ فَقَدِمَ لَيْلًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِعَدَمِ وُجُودِ الصِّفَةِ، وَقِيَاسُ نَظِيرِهِ فِي الصَّوْمِ نَدْبُ اعْتِكَافِ يَوْمِ شُكْرٍ لِلَّهِ كَمَا قَالَهُ شَيْخُنَا، فَإِنْ قَدِمَ نَهَارًا أَجْزَأَهُ الْبَقِيَّةُ مِنْهُ، وَلَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ مَا مَضَى مِنْهُ لِأَنَّ الْوُجُوبَ إنَّمَا ثَبَتَ مِنْ حِينِ الْقُدُومِ لِصِحَّةِ الِاعْتِكَافِ فِي بَعْضِ الْيَوْمِ بِخِلَافِ الصَّوْمِ. لَكِنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَقْضِيَ يَوْمًا كَامِلًا كَمَا نَقَلَهُ فِي الْمَجْمُوعِ عَنْ الْمُزَنِيِّ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ كَمَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ الْمُقْرِي، وَإِنْ صَحَّحَ فِي الْمَجْمُوعِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ لُزُومَ قَضَائِهِ، وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ أَصْلِ الرَّوْضَةِ فِي بَابِ النَّذْرِ وَمَحِلُّ ذَلِكَ إذَا قَدِمَ حَيًّا مُخْتَارًا، فَلَوْ قَدِمَ بِهِ مَيِّتًا أَوْ قَدِمَ مُكْرَهًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ كَمَا قَالَهُ الصَّيْمَرِيُّ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا قَدِمَ مُكْرَهًا فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ لِلنَّاذِرِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ اعْتِكَافَهُ شُكْرًا لِلَّهِ عَلَى حُضُورِ غَائِبِهِ عِنْدَهُ وَقَدْ وُجِدَ. . أُجِيبَ بِأَنَّهُ عَلَّقَ الْحُكْمَ بِالْقُدُومِ، وَقُدُومُ الْمُكْرَهِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ شَرْعًا، وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ الْعَشْرَ الْأَخِيرَ دَخَلَتْ لَيَالِيُهُ حَتَّى اللَّيْلَةُ الْأُولَى وَيُجْزِئُهُ وَإِنْ نَقَصَ الشَّهْرُ؛ لِأَنَّ هَذَا الِاسْمَ يَقَعُ عَلَى مَا بَعْدَ الْعِشْرِينَ إلَى آخِرِ الشَّهْرِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: عَشَرَةِ أَيَّامٍ مِنْ آخِرِ الشَّهْرِ وَكَانَ نَاقِصًا لَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ جَرَّدَ الْقَصْدَ إلَيْهَا فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَعْتَكِفَ بَعْدَهُ يَوْمًا وَيُسَنُّ فِي هَذِهِ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ أَنْ يَعْتَكِفَ يَوْمًا قَبْلَ الْعَشْرِ لِاحْتِمَالِ نُقْصَانِ الشَّهْرِ فَيَكُونُ ذَلِكَ الْيَوْمُ دَاخِلًا فِي نَذْرِهِ لِكَوْنِهِ أَوَّلَ الْعَشَرَةِ مِنْ آخِرِ الشَّهْرِ، فَلَوْ فَعَلَ هَذَا ثُمَّ بَانَ النَّقْصُ قَطَعَ الْبَغَوِيّ بِإِجْزَائِهِ عَنْ قَضَاءِ يَوْمٍ، وَقَالَ فِي الْمَجْمُوعِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ الْخِلَافُ فِيمَنْ تَيَقَّنَ طُهْرًا وَشَكَّ فِي ضِدِّهِ فَتَوَضَّأَ مُحْتَاطًا فَبَانَ مُحْدِثًا: أَيْ فَلَا يُجْزِئُهُ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ.
المتن وَإِذَا ذَكَرَ التَّتَابُعَ وَشَرَطَ الْخُرُوجَ لِعَارِضٍ صَحَّ الشَّرْطُ فِي الْأَظْهَرِ، وَالزَّمَانُ الْمَصْرُوفُ إلَيْهِ لَا يَجِبُ تَدَارُكُهُ إنْ عَيَّنَ الْمُدَّةَ كَهَذَا الشَّهْرِ، وَإِلَّا فَيَجِبُ، وَيَنْقَطِعُ التَّتَابُعُ بِالْخُرُوجِ بِلَا عُذْرٍ.
الشَّرْحُ (وَإِذَا ذَكَرَ) النَّاذِرُ (التَّتَابُعَ) فِي نَذْرِهِ لَفْظًا (وَشَرَطَ الْخُرُوجَ لِعَارِضٍ) مُبَاحٍ مَقْصُودٌ غَيْرِ مُنَافٍ لِلِاعْتِكَافِ (صَحَّ الشَّرْطُ فِي الْأَظْهَرِ) وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ؛ لِأَنَّ الِاعْتِكَافَ إنَّمَا لَزِمَ بِالْتِزَامِهِ فَيَجِبُ بِحَسَبِ مَا الْتَزَمَهُ، فَإِنْ شَرْطَهُ لِخَاصٍّ مِنْ الْأَغْرَاضِ كَعِيَادَةِ الْمَرْضَى خَرَجَ لَهُ دُونَ غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَهَمَّ مِنْهُ، أَوْ عَامٍّ كَشُغْلٍ يَعْرِضُ لَهُ خَرَجَ لِكُلِّ مُهِمٍّ دِينِيٍّ كَالْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ أَوْ دُنْيَوِيٍّ مُبَاحٍ كَلِقَاءِ السُّلْطَانِ وَالْقَاضِي وَاقْتِضَاءِ الْغَرِيمِ، وَالثَّانِي: يَلْغُو الشَّرْطُ لِمُخَالَفَتِهِ لِمُقْتَضَى التَّتَابُعِ، وَخَرَجَ بِقَوْلِهِ: شَرَطَ الْخُرُوجَ لِعَارِضٍ مَا لَوْ شَرَطَ قَطْعَ الِاعْتِكَافِ لَهُ فَإِنَّهُ وَإِنْ صَحَّ لَكِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْعَوْدُ عِنْدَ زَوَالِ الْعَارِضِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ شَرَطَ الْخُرُوجَ لِلْعَارِضِ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْعَوْدُ، وَبِقَوْلِهِ: لِعَارِضٍ مَا لَوْ قَالَ: إلَّا أَنْ يَبْدُوَ لِي، فَإِنَّ الشَّرْطَ بَاطِلٌ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَهُ بِمُجَرَّدِ الْخِيَرَةِ وَذَلِكَ يُنَاقِضُ الِالْتِزَامَ، وَكَذَا النَّذْرُ كَمَا قَالَهُ الْبَغَوِيّ هُوَ الْأَشْبَهُ فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ وَلَمْ يُصَرِّحَا فِي الرَّوْضَةِ، وَأَصْلِهَا بِتَرْجِيحٍ، وَبِقَوْلِي: مُبَاحٍ مَا لَوْ شَرَطَهُ لِعَارِضٍ مُحَرَّمٍ كَسَرِقَةٍ، وَبِمَقْصُودٍ مَا لَوْ شَرَطَهُ لِغَيْرِ مَقْصُودٍ كَنُزْهَةٍ، وَبِغَيْرِ مُنَافٍ لِلِاعْتِكَافِ مَا لَوْ شَرَطَهُ لِمُنَافٍ لَهُ كَالْجِمَاعِ كَأَنْ قَالَ: إنْ اخْتَرْت جَامَعْت أَوْ إنْ اتَّفَقَ لِي جِمَاعٌ جَامَعْت فَإِنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ نَذْرُهُ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فِي الْمُحْرِمِ وَالْجِمَاعِ وَمِثْلُهُمَا الْبَقِيَّةُ. وَقَدْ عُلِمَ مِمَّا ذُكِرَ مَا فِي عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ مِنْ الْإِجْحَافِ (وَالزَّمَانُ الْمَصْرُوفُ إلَيْهِ) أَيْ الْعَارِضُ الْمَذْكُورُ (لَا يَجِبُ تَدَارُكُهُ إنْ عَيَّنَ الْمُدَّةَ كَهَذَا الشَّهْرِ) لِأَنَّ الْمَنْذُورَ مِنْ الشَّهْرِ إنَّمَا هُوَ اعْتِكَافُ مَا عَدَا الْعَارِضَ ( وَإِلَّا) بِأَنْ لَمْ يُعَيِّنْ مُدَّةً كَشَهْرٍ مُطْلَقٍ (فَيَجِبُ) تَدَارُكُهُ أَيْ الزَّمَنِ الْمَصْرُوفِ لِلْعَارِضِ لِتَتِمَّ الْمُدَّةُ الْمُلْتَزَمَةُ، وَتَكُونُ فَائِدَةُ الشَّرْطِ تَنْزِيلَ ذَلِكَ الْعَارِضِ مَنْزِلَةَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ فِي أَنَّ التَّتَابُعَ لَا يَنْقَطِعُ بِهِ (وَيَنْقَطِعُ التَّتَابُعُ) أَيْضًا (بِالْخُرُوجِ) مِنْ الْمَسْجِدِ بِكُلِّ بَدَنِهِ أَوْ بِمَا اعْتَمَدَ عَلَيْهِ مِنْ الرِّجْلَيْنِ أَوْ الْيَدَيْنِ أَوْ الرَّأْسِ قَائِمًا أَوْ مُنْحَنِيًا أَوْ مِنْ الْعَجُزِ قَاعِدًا أَوْ مِنْ الْجَنْبِ مُضْطَجِعًا (بِلَا عُذْرٍ) مِنْ الْأَعْذَارِ الْآتِيَةِ، وَإِنْ قَلَّ زَمَنُهُ لِمُنَافَاتِهِ اللُّبْثَ؛ لِأَنَّهُ فِي مُدَّةِ الْخُرُوجِ الْمَذْكُورِ غَيْرُ مُعْتَكِفٍ، وَهَذَا فِي الْعَامِدِ الْعَالِمِ بِالتَّحْرِيمِ الْمُخْتَارِ.
المتن وَلَا يَضُرُّ إخْرَاجُ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ وَلَا الْخُرُوجُ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ، وَلَا يَجِبُ فِعْلُهَا فِي غَيْرِ دَارِهِ، وَلَا يَضُرُّ بُعْدُهَا إلَّا أَنْ يَفْحُشَ فَيَضُرَّ فِي الْأَصَحِّ.
الشَّرْحُ (وَلَا يَضُرُّ) فِي تَتَابُعِ الِاعْتِكَافِ (إخْرَاجُ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ) مِنْ الْمَسْجِدِ كَرَأْسِهِ أَوْ يَدِهِ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى خَارِجًا، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {كَانَ يُدْنِي رَأْسَهُ إلَى عَائِشَةَ فَتُرَجِّلُهُ} أَيْ تُسَرِّحُهُ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَوْ أَخْرَجَ إحْدَى رِجْلَيْهِ وَاعْتَمَدَ عَلَيْهِمَا لَمْ يَضُرَّ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْخُرُوجِ، فَإِنْ أَخْرَجَهُمَا وَاعْتَمَدَ عَلَيْهِمَا ضَرَّ، وَإِنْ كَانَ رَأْسُهُ دَاخِلًا (وَلَا) يَضُرُّ (الْخُرُوجُ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ) بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ ضَرُورِيٌّ، وَلَوْ كَثُرَ لِعَارِضٍ وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهَا الضَّرُورَةُ، وَإِذَا خَرَجَ لَا يُكَلَّفُ الْإِسْرَاعُ بَلْ يَمْشِي عَلَى سَجِيَّتِهِ. فَلَوْ تَأَنَّى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ بَطَلَ كَمَا فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ عَنْ الْبَحْرِ. وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ بَعْدَ قَضَائِهَا خَارِجَ الْمَسْجِدِ تَبَعًا لَهَا مَعَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْخُرُوجُ لَهُ مُنْفَرِدًا إنْ كَانَ تَجْدِيدًا، وَكَذَا عَنْ حَدَثٍ عَلَى الْأَصَحِّ إذَا أَمْكَنَهُ فِي الْمَسْجِدِ.
تَنْبِيهٌ: اقْتِصَارُ الْمُصَنِّفِ عَلَى قَضَاءِ الْحَاجَةِ قَدْ يُوهِمُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْخُرُوجُ لِغَيْرِهَا وَلَيْسَ مُرَادًا، بَلْ يَجُوزُ لِغُسْلِ الْجَنَابَةِ وَإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ كَرُعَافٍ، وَكَذَا الْأَكْلُ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّ الْأَكْلَ فِي الْمَسْجِدِ يُسْتَحْيَا مِنْهُ وَإِنْ أَمْكَنَهُ الْأَكْلُ فِيهِ كَمَا مَرَّ بِخِلَافِ الشُّرْبِ إذَا وَجَدَ الْمَاءَ فِيهِ. وَيُؤْخَذُ مِنْ الْعِلَّةِ أَنَّ الْكَلَامَ فِي مَسْجِدٍ مَطْرُوقٍ بِخِلَافِ الْمُخْتَصِّ لِمَنْفَعَتِهَا وَلَوْ مُسْتَعَارَةً وَالْمَهْجُورِ وَبِهِ صَرَّحَ الْأَذْرَعِيُّ وَهُوَ ظَاهِرٌ، فَإِنْ خَرَجَ لِلشُّرْبِ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ فِي الْمَسْجِدِ، أَوْ لِتَجْدِيدِ وُضُوءٍ انْقَطَعَ تَتَابُعُهُ، وَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا أَنَّ الْوُضُوءَ الْمَنْدُوبَ لِغُسْلِ الِاحْتِلَامِ مُغْتَفَرٌ كَالتَّثْلِيثِ فِي الْوُضُوءِ الْوَاجِبِ (وَلَا يَجِبُ فِعْلُهَا فِي غَيْرِ دَارِهِ) الْمُسْتَحِقِّ لِمَنْفَعَتِهَا وَلَوْ مُسْتَعَارَةً كَسِقَايَةِ الْمَسْجِدِ، وَدَارِ صَدِيقٍ لَهُ بِجِوَارِ الْمَسْجِدِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَشَقَّةِ وَخَرْمِ الْمُرُوءَةِ، وَتَزِيدُ دَارُ الصَّدِيقِ بِالْمِنَّةِ بِهَا. نَعَمْ مَنْ لَا يَحْتَشِمُ مِنْ السِّقَايَةِ يُكَلَّفُهَا كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي حُسَيْنٌ، وَكَذَا إنْ كَانَتْ السِّقَايَةُ مَصُونَةً مُخْتَصَّةً بِالْمَسْجِدِ كَمَا بَحَثَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ (وَلَا يَضُرُّ بُعْدُهَا) أَيْ دَارِهِ الْمَذْكُورَةِ عَنْ الْمَسْجِدِ مُرَاعَاةً لِمَا سَبَقَ مِنْ الْمَشَقَّةِ وَالْمِنَّةِ (إلَّا أَنْ يَفْحُشَ) الْبُعْدُ، وَضَابِطُهُ كَمَا قَالَهُ الْبَغَوِيّ أَنْ يَذْهَبَ أَكْثَرُ الْوَقْتِ فِي التَّرَدُّدِ إلَيْهَا مَعَ وُجُودِ مَكَان لَائِقٍ بِطَرِيقِهِ، أَوْ يَكُونَ لَهُ دَارٌ أُخْرَى أَقْرَبُ مِنْهَا (فَيَضُرَّ فِي الْأَصَحِّ) لِأَنَّهُ قَدْ يَحْتَاجُ فِي عَوْدِهِ إلَيْهَا إلَى الْبَوْلِ فَيُمْضِي يَوْمَهُ فِي الذَّهَابِ وَالْإِيَابِ، وَلِاغْتِنَائِهِ بِالْأَقْرَبِ مِنْ دَارَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فِي طَرِيقِهِ مَكَانًا أَوْ وَجَدَهُ وَلَمْ يَلِقْ بِهِ أَنْ يَدْخُلَهُ لَمْ يَضُرَّ فُحْشُ الْبُعْدِ. وَالثَّانِي: لَا يَضُرُّ هُنَا الْفُحْشُ مُطْلَقًا لِمَا سَبَقَ مِنْ مَشَقَّةِ الدُّخُولِ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ فِي غَيْرِ دَارِهِ، وَلَا يَجُوزُ الْخُرُوجُ لِنَوْمٍ وَلَا لِغُسْلِ جُمُعَةٍ أَوْ عِيدٍ كَمَا ذَكَرَهُ الْخُوَارِزْمِيُّ.
المتن وَلَوْ عَادَ مَرِيضًا فِي طَرِيقِهِ لَمْ يَضُرَّ مَا لَمْ يُطِلْ وُقُوفَهُ أَوْ يَعْدِلْ عَنْ طَرِيقِهِ، وَلَا يَنْقَطِعُ التَّتَابُعُ بِمَرَضٍ، يُحْوِجُ إلَى الْخُرُوجِ.
الشَّرْحُ (وَلَوْ عَادَ مَرِيضًا) أَوْ زَارَ قَادِمًا (فِي طَرِيقِهِ) لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ (لَمْ يَضُرَّ مَا لَمْ يَطُلْ وُقُوفُهُ) بِأَنْ لَمْ يَقِفْ أَصْلًا، أَوْ وَقَفَ وَقْفَةً يَسِيرَةً، كَأَنْ اقْتَصَرَ عَلَى السَّلَامِ وَالسُّؤَالِ (أَوْ) لَمْ (يَعْدِلْ عَنْ طَرِيقِهِ) بِأَنْ كَانَ الْمَرِيضُ أَوْ الْقَادِمُ فِيهَا لِقَوْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا: " إنِّي كُنْت أَدْخُلُ الْبَيْتَ لِلْحَاجَةِ - أَيْ التَّبَرُّزِ - وَالْمَرِيضُ فِيهِ فَمَا أَسْأَلُ عَنْهُ إلَّا وَأَنَا مَارَّةٌ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد مَرْفُوعًا عَنْهَا {أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَمُرُّ بِالْمَرِيضِ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ فَيَمُرُّ كَمَا هُوَ يَسْأَلُ عَنْهُ وَلَا يُعَرِّجُ} فَإِنْ طَالَ وُقُوفُهُ عُرْفًا أَوْ عَدَلَ عَنْ طَرِيقِهِ وَإِنْ قَلَّ ضَرَّ، وَلَوْ صَلَّى فِي طَرِيقِهِ عَلَى جِنَازَةٍ فَإِنْ لَمْ يَنْتَظِرْ وَلَمْ يَعْدِلْ إلَيْهَا عَنْ طَرِيقِهِ جَازَ وَإِلَّا فَلَا (وَلَا يَنْقَطِعُ التَّتَابُعُ ب) خُرُوجِهِ ل (مَرَضٍ يُحْوِجُ إلَى الْخُرُوجِ) أَيْ إذَا خَرَجَ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إلَيْهِ كَالْخُرُوجِ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ، وَفِي قَوْلٍ إنَّهُ يَنْقَطِعُ لِأَنَّ الْمَرَضَ لَيْسَ بِضَرُورِيٍّ وَلَا غَالِبٍ بِخِلَافِ قَضَاءِ الْحَاجَةِ، وَهَذَا الْقَوْلُ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِ الْمُحَرَّرِ فِي أَظْهَرِ الْقَوْلَيْنِ وَأَهْمَلَهُ الْمُصَنِّفُ، وَالْمُحْوِجُ إلَى الْخُرُوجِ هُوَ الَّذِي يَشُقُّ الْمُقَامُ مَعَهُ فِي الْمَسْجِدِ لِحَاجَةِ فَرْشٍ وَخَادِمٍ وَتَرَدُّدِ طَبِيبٍ، أَوْ بِأَنْ يُخَافَ مِنْهُ تَلْوِيثُ الْمَسْجِدِ كَإِسْهَالٍ وَإِدْرَارِ بَوْلٍ، بِخِلَافِ مَرَضٍ لَا يُحْوِجُ إلَى الْخُرُوجِ كَصُدَاعٍ وَحُمَّى خَفِيفَةٍ فَيَنْقَطِعُ التَّتَابُعُ بِالْخُرُوجِ لَهُ، وَفِي مَعْنَى الْمَرَضِ الْمَذْكُورِ الْخَوْفُ مِنْ لِصٍّ أَوْ حَرِيقٍ.
المتن وَلَا بِحَيْضٍ إنْ طَالَتْ مُدَّةُ الِاعْتِكَافِ، فَإِنْ كَانَتْ بِحَيْثُ تَخْلُو عَنْهُ انْقَطَعَ فِي الْأَظْهَرِ.
الشَّرْحُ (وَلَا) يَنْقَطِعُ التَّتَابُعُ (بِحَيْضٍ إنْ طَالَتْ مُدَّةُ الِاعْتِكَافِ) بِأَنْ كَانَتْ لَا تَخْلُو عَنْهُ غَالِبًا كَشَهْرٍ كَمَا مَثَّلَ بِهِ الرُّويَانِيُّ، وَمَثَّلَ فِي الْمَجْمُوعِ بِأَكْثَرَ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَاسْتَشْكَلَهُ الْإِسْنَوِيُّ بِأَنَّ الثَّلَاثَةَ وَالْعِشْرِينَ تَخْلُو عَنْ الْحَيْضِ غَالِبًا، لِأَنَّ غَالِبَ الْحَيْضِ سِتٌّ أَوْ سَبْعٌ، وَالْغَالِبُ أَنَّ الشَّهْرَ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ فِيهِ إلَّا طُهْرٌ وَاحِدٌ وَحَيْضَةٌ وَاحِدَةٌ ا هـ. وَيُمْكِنُ حَمْلُ عِبَارَةِ الْمَجْمُوعِ عَلَى الزِّيَادَةِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فَتُبْنَى عَلَى مَا سَبَقَ إذَا طَهُرَتْ لِأَنَّهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهَا (فَإِنْ كَانَتْ) مُدَّةُ الِاعْتِكَافِ (بِحَيْثُ تَخْلُو عَنْهُ) أَيْ الْحَيْضِ (انْقَطَعَ) التَّتَابُعُ (فِي الْأَظْهَرِ) لِإِمْكَانِ الْمُوَالَاةِ بِشُرُوعِهَا عَقِبَ الطُّهْرِ. وَالثَّانِي: لَا يَنْقَطِعُ لِأَنَّ جِنْسَ الْحَيْضِ مِمَّا يَتَكَرَّرُ فِي الْجُمْلَةِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِي التَّتَابُعِ كَقَضَاءِ الْحَاجَةِ، وَالنِّفَاسُ كَالْحَيْضِ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ فِي الْمَجْمُوعِ.
المتن وَلَا بِالْخُرُوجِ نَاسِيًا عَلَى الْمَذْهَبِ.
الشَّرْحُ (وَلَا) يَنْقَطِعُ التَّتَابُعُ (بِالْخُرُوجِ) مِنْ الْمَسْجِدِ (نَاسِيًا) لِاعْتِكَافِهِ (عَلَى الْمَذْهَبِ) الْمَقْطُوعِ بِهِ كَمَا صَحَّحَهُ فِي الْمَجْمُوعِ إنْ تَذَكَّرَ عَنْ قُرْبٍ كَمَا لَا يَبْطُلُ الصَّوْمُ بِالْأَكْلِ نَاسِيًا، وَقِيلَ: يَنْقَطِعُ لِأَنَّ مُشَاهَدَةَ مَكَانِ الِاعْتِكَافِ مُذَّكِّرَةٌ لَهُ فَيَبْعُدُ مَعَهَا النِّسْيَانُ بِخِلَافِ الصَّوْمِ فَإِنْ طَالَ فَهُوَ كَالْأَكْلِ الْكَثِيرِ نَاسِيًا وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِيهِ، وَأَنَّ الرَّاجِحَ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ لَا يَضُرُّ، وَالْجَاهِلُ الَّذِي يَخْفَى عَلَيْهِ ذَلِكَ كَالنَّاسِي. وَلَوْ حُمِلَ وَأُخْرِجَ مُكْرَهًا لَمْ يَضُرَّ. وَكَذَا لَوْ أُكْرِهَ فَخَرَجَ بِنَفْسِهِ فِي الْأَظْهَرِ إنْ كَانَ الْإِكْرَاهُ بِغَيْرِ حَقٍّ فَإِنْ كَانَ بِحَقٍّ وَهُوَ مُمَاطِلٌ بِهِ أَوْ اعْتَكَفَ الْعَبْدُ أَوْ الزَّوْجَةُ بِغَيْرِ إذْنٍ فَأُكْرِهَ عَلَى الْخُرُوجِ فَإِنَّهُ يَبْطُلُ اعْتِكَافُهُ لِتَقْصِيرِهِ. وَفِي مَعْنَى الْإِكْرَاهِ خَوْفُهُ مِنْ ظَالِمٍ أَوْ خَوْفُ غَرِيمٍ لَهُ وَهُوَ مُعْسِرٌ وَلَا بَيِّنَةَ فَلَا يَنْقَطِعُ التَّتَابُعُ لِعُذْرِهِ، وَلَوْ خَرَجَ لِأَدَاءِ شَهَادَةٍ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ تَحَمُّلُهَا وَأَدَاؤُهَا لَمْ يَنْقَطِعْ تَتَابُعُهُ لِاضْطِرَارِهِ إلَى الْخُرُوجِ وَإِلَى سَبَبِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ أَحَدُهُمَا أَوْ تَعَيَّنَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ، لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ فَهُوَ مُسْتَغْنٍ عَنْ الْخُرُوجِ وَإِلَّا فَتَحَمُّلُهُ لَهَا إنَّمَا يَكُونُ لِلْأَدَاءِ فَهُوَ بِاخْتِيَارِهِ، وَمَحَلُّ هَذَا كَمَا قَالَ شَيْخُنَا: إذَا تَحَمَّلَ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الِاعْتِكَافِ وَإِلَّا فَلَا يَنْقَطِعُ التَّتَابُعُ كَمَا لَوْ نَذَرَ صَوْمَ الدَّهْرِ فَفَوَّتَهُ لِصَوْمِ كَفَّارَةٍ لَزِمَتْهُ قَبْلَ النَّذْرِ لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ، وَلَوْ خَرَجَ لِإِقَامَةِ حَدٍّ ثَبَتَ عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ لَمْ يَنْقَطِعْ تَتَابُعُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ، وَلَوْ خَرَجَتْ الْمُعْتَكِفَةُ لِقَضَاءِ عِدَّةٍ لَا بِسَبَبِهَا وَلَا فِي مُدَّةٍ أَذِنَ زَوْجُهَا لَهَا فِي الِاعْتِكَافِ لَمْ يَنْقَطِعْ التَّتَابُعُ وَإِنْ كَانَتْ مُخْتَارَةً لِلنِّكَاحِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يُبَاشِرُ لِلْعِدَّةِ بِخِلَافِ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ إنَّمَا يَكُونُ لِلْأَدَاءِ كَمَا مَرَّ، فَإِنْ كَانَتْ الْعِدَّةُ بِسَبَبِهَا كَأَنْ عَلَّقَ طَلَاقَهَا بِمَشِيئَتِهَا فَقَالَتْ وَهِيَ مُعْتَكِفَةٌ: شِئْت، أَوْ قَدَّرَ زَوْجُهَا مُدَّةً لِاعْتِكَافِهَا فَخَرَجَتْ قَبْلَ تَمَامِهَا فَإِنَّ تَتَابُعَهَا يَنْقَطِعُ.
المتن وَلَا بِخُرُوجِ الْمُؤَذِّنِ الرَّاتِبِ إلَى مَنَارَةٍ مُنْفَصِلَةٍ عَنْ الْمَسْجِدِ لِلْأَذَانِ فِي الْأَصَحِّ.
الشَّرْحُ (وَلَا) يَنْقَطِعُ التَّتَابُعُ (بِخُرُوجِ الْمُؤَذِّنِ الرَّاتِبِ إلَى مَنَارَةٍ) بِفَتْحِ الْمِيمِ لِلْمَسْجِدِ (مُنْفَصِلَةٍ عَنْ الْمَسْجِدِ) قَرِيبَةٍ مِنْهُ (لِلْأَذَانِ فِي الْأَصَحِّ) لِأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ لَهُ مَعْدُودَةٌ مِنْ تَوَابِعِهِ، وَقَدْ اعْتَادَ الرَّاتِبُ صُعُودَهَا، وَأَلِفَ النَّاسُ صَوْتَهُ فَيُعْذَرُ فِيهِ، وَيُجْعَلُ زَمَنُ الْأَذَانِ كَالْمُسْتَثْنَى مِنْ اعْتِكَافِهِ. وَالثَّانِي: يَنْقَطِعُ مُطْلَقًا لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهَا بِسَطْحِ الْمَسْجِدِ فَيُؤَذِّنُ عَلَيْهِ. وَالثَّالِثُ: يَجُوزُ لِلرَّاتِبِ وَغَيْرُهُ لِأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ لِلْمَسْجِدِ مَعْدُودَةٌ مِنْ تَوَابِعِهِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ لَوْ خَرَجَ غَيْرُ الرَّاتِبِ لِلْأَذَانِ، أَوْ خَرَجَ الرَّاتِبُ لِغَيْرِهِ أَوْ لَهُ لَكِنْ إلَى مَنَارَةٍ لَيْسَتْ لِلْمَسْجِدِ أَوْ لَهُ لَكِنْ بَعِيدَةٌ عَنْهُ انْقَطَعَ التَّتَابُعُ، وَاحْتَرَزَ الْمُصَنِّفُ بِالْمُنْفَصِلَةِ عَنْ مَنَارَةٍ بَابُهَا فِي الْمَسْجِدِ، أَوْ فِي رَحْبَتِهِ فَلَا يَضُرُّ صُعُودُهَا مُطْلَقًا وَلَوْ كَانَتْ خَارِجَةً عَنْ سَمْتِ الْبِنَاءِ وَتَرْبِيعِهِ، وَتَكُونُ حِينَئِذٍ فِي حُكْمِ الْمَسْجِدِ كَمَنَارَةٍ مَبْنِيَّةٍ فِي الْمَسْجِدِ مَالَتْ إلَى الشَّارِعِ فَيَصِحُّ الِاعْتِكَافُ فِيهَا وَإِنْ كَانَ الْمُعْتَكِفُ فِي هَوَاءِ الشَّارِعِ، وَلَوْ اُتُّخِذَ لِلْمَسْجِدِ جَنَاحٌ إلَى شَارِعٍ فَاعْتَكَفَ فِيهِ إنْسَانٌ لَمْ يَصِحَّ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ خِلَافًا لِلزَّرْكَشِيِّ فِي قَوْلِهِ بِالصِّحَّةِ، وَقَضِيَّةُ التَّعْلِيلِ أَنَّهَا لَوْ بُنِيَتْ لِغَيْرِهِ أَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ لَهَا قَرِيبَةً كَانَتْ أَوْ بَعِيدَةً وَهُوَ كَذَلِكَ. نَعَمْ إنْ بُنِيَتْ لِمَسْجِدٍ مُتَّصِلٍ بِمَسْجِدِ الِاعْتِكَافِ جَازَ لَهُ الْخُرُوجُ إلَيْهَا تَبَعًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَسَاجِدَ الْمُتَّصِلَةَ حُكْمُهَا حُكْمُ الْمَسْجِدِ الْوَاحِدِ، وَخَرَجَ بِالْقَرِيبَةِ الْبَعِيدَةُ فَيَقْطَعُ الْخُرُوجُ لَهَا التَّتَابُعَ وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِحَدِّ الْبَعِيدَةِ، وَضَبَطَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنْ تَكُونَ خَارِجَةً عَنْ جِوَارِ الْمَسْجِدِ وَجَارِهِ أَرْبَعُونَ دَارًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ. وَقَالَ بَعْضٌ آخَرُ: يُحْتَمَلُ ضَبْطُ الْبَعِيدَةِ بِمَا جَاوَزَ حَرِيمَ الْمَسْجِدِ ا هـ وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَرْجِعَ ذَلِكَ إلَى الْعُرْفِ.
المتن وَيَجِبُ قَضَاءُ أَوْقَاتِ الْخُرُوجِ بِالْأَعْذَارِ إلَّا وَقْتَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ.
الشَّرْحُ (وَيَجِبُ قَضَاءُ أَوْقَاتِ الْخُرُوجِ) مِنْ الْمَسْجِدِ مِنْ نَذْرِ اعْتِكَافٍ مُتَتَابِعٍ (بِالْأَعْذَارِ) السَّابِقَةِ الَّتِي لَا يَنْقَطِعُ بِهَا التَّتَابُعُ كَوَقْتِ أَكْلٍ وَحَيْضٍ وَنِفَاسٍ وَاغْتِسَالِ جَنَابَةٍ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَكِفٍ فِيهَا (إلَّا وَقْتَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ) وَنَحْوِهَا مِمَّا يُطْلَبُ لَهُ الْخُرُوجُ وَلَمْ يَطُلْ زَمَنُهُ عَادَةً كَغُسْلِ جَنَابَةٍ وَأَذَانٍ رَاتِبٍ وَأَكْلٍ فَلَا يَجِبُ قَضَاؤُهَا؛ لِأَنَّهَا مُسْتَثْنَاةٌ مُعْتَكَفٌ فِيهَا، وَلِذَا قَالَ الْإِسْنَوِيُّ: اقْتِصَارُ الْمُصَنِّفِ عَلَى اسْتِثْنَاءِ قَضَاءِ الْحَاجَةِ تَبِعَ فِيهِ الرَّافِعِيَّ، وَلَمْ أَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ بِذَلِكَ بَعْدَ الْفَحْصِ الشَّدِيدِ، بِخِلَافِ مَا يَطُولُ زَمَنُهُ كَمَرَضٍ وَعِدَّةٍ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ الزَّمَنَ الْمَصْرُوفَ إلَى مَا شُرِطَ مِنْ عَارِضٍ فِي مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ لَا يَجِبُ تَدَارُكُهُ. . خَاتِمَةٌ: لَوْ أَحْرَمَ الْمُعْتَكِفُ بِالْحَجِّ وَخَشِيَ فَوْتَهُ قَطَعَ الِاعْتِكَافَ وَلَمْ يَبْنِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الْحَجِّ عَلَى اعْتِكَافِهِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ لَمْ يَخْشَ فَوْتَهُ أَتَمَّ اعْتِكَافَهُ ثُمَّ خَرَجَ لِحَجِّهِ، وَلَوْ نَذَرَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ بِعَيْنِهِ فَبَانَ أَنَّهُ انْقَضَى قَبْلَ نَذْرِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، لِأَنَّ اعْتِكَافَ شَهْرٍ قَدْ مَضَى مُحَالٌ، وَهَلْ الْأَفْضَلُ لِلْمُتَطَوِّعِ الْخُرُوجُ لِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، أَوْ دَوَامُ الِاعْتِكَافِ ؟ قَالَ الْأَصْحَابُ: هُمَا سَوَاءٌ. وَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: إنَّ الْخُرُوجَ لَهَا مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَخْرُجُ لِذَلِكَ وَكَانَ اعْتِكَافُهُ تَطَوُّعًا. وَقَالَ الْبُلْقِينِيُّ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَوْضِعُ التَّسْوِيَةِ فِي عِيَادَةِ الْأَجَانِبِ. أَمَّا ذُو الرَّحِمِ وَالْأَقَارِبُ وَالْأَصْدِقَاءُ وَالْجِيرَانُ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخُرُوجَ لِعِيَادَتِهِمْ أَفْضَلُ، لَا سِيَّمَا إذَا عُلِمَ أَنَّهُ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ، وَعِبَارَةُ الْقَاضِي حُسَيْنٍ مُصَرِّحَةٌ بِذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ.
|