الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين ***
قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ ": الْمُرَاقَبَةُ: دَوَامُ مُلَاحَظَةِ الْمَقْصُودِ. وَهِيَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ دَرَجَاتُ الْمُرَاقَبَةِ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: مُرَاقَبَةُ الْحَقِّ تَعَالَى فِي السَّيْرِ إِلَيْهِ عَلَى الدَّوَامِ، بَيْنَ تَعْظِيمٍ مُذْهِلٍ، وَمُدَانَاةٍ حَامِلَةٍ. وَسُرُورٍ بَاعِثٍ. فَقَوْلُهُ: دَوَامُ مُلَاحَظَةِ الْمَقْصُودِ أَيْ دَوَامُ حُضُورِ الْقَلْبِ مَعَهُ. وَقَوْلُهُ: بَيْنَ تَعْظِيمٍ مُذْهِلٍ فَهُوَ امْتِلَاءُ الْقَلْبِ مِنْ عَظَمَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. بِحَيْثُ يُذْهِلُهُ ذَلِكَ عَنْ تَعْظِيمِ غَيْرِهِ، وَعَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهِ. فَلَا يَنْسَى هَذَا التَّعْظِيمَ عِنْدَ حُضُورِ قَلْبِهِ مَعَ اللَّهِ. بَلْ يَسْتَصْحِبُهُ دَائِمًا. فَإِنَّ الْحُضُورَ مَعَ اللَّهِ يُوجِبُ أُنْسًا وَمَحَبَّةً، إِنْ لَمْ يُقَارِنْهُمَا تَعْظِيمٌ، أَوْرَثَاهُ خُرُوجًا عَنْ حُدُودِ الْعُبُودِيَّةِ وَرُعُونَةً. فَكُلُّ حُبٍّ لَا يُقَارِنُهُ تَعْظِيمُ الْمَحْبُوبِ فَهُوَ سَبَبٌ لِلْبُعْدِ عَنْهُ، وَالسُّقُوطِ مِنْ عَيْنَيْهِ. فَقَدْ تَضَمَّنَ كَلَامُهُ خَمْسَةَ أُمُورٍ: سَيْرٌ إِلَى اللَّهِ، وَاسْتِدَامَةُ هَذَا السَّيْرِ، وَحُضُورُ الْقَلْبِ مَعَهُ، وَتَعْظِيمُهُ، وَالذُّهُولُ بِعَظَمَتِهِ عَنْ غَيْرِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَمُدَانَاةٍ حَامِلَةٍ، فَيُرِيدُ دُنُوًّا وَقُرْبًا حَامِلًا عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ الْخَمْسَةِ. وَهَذَا الدُّنُوُّ يَحْمِلُهُ عَلَى التَّعْظِيمِ الَّذِي يُذْهِلُهُ عَنْ نَفْسِهِ. وَعَنْ غَيْرِهِ. فَإِنَّهُ كُلَّمَا ازْدَادَ قُرْبًا مِنَ الْحَقِّ ازْدَادَ لَهُ تَعْظِيمًا، وَذُهُولًا عَنْ سِوَاهُ، وَبُعْدًا عَنِ الْخَلْقِ. وَأَمَّا السُّرُورُ الْبَاعِثُ فَهُوَ الْفَرْحَةُ وَالتَّعْظِيمُ، وَاللَّذَّةُ الَّتِي يَجِدُهَا فِي تِلْكَ الْمُدَانَاةِ، فَإِنَّ سُرُورَ الْقَلْبِ بِاللَّهِ وَفَرَحَهُ بِهِ، وَقُرَّةَ الْعَيْنِ بِهِ. لَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ مِنْ نَعِيمِ الدُّنْيَا أَلْبَتَّةَ. وَلَيْسَ لَهُ نَظِيرٌ يُقَاسُ بِهِ. وَهُوَ حَالٌ مِنْ أَحْوَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ. حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: إِنَّهُ لَتَمُرُّ بِي أَوْقَاتٌ أَقُولُ فِيهَا: إِنْ كَانَ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي مِثْلِ هَذَا، إِنَّهُمْ لَفِي عَيْشٍ طَيِّبٍ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا السُّرُورَ يَبْعَثُهُ عَلَى دَوَامِ السَّيْرِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَبَذْلِ الْجُهْدِ فِي طَلَبِهِ، وَابْتِغَاءِ مَرْضَاتِهِ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ هَذَا السُّرُورَ، وَلَا شَيْئًا مِنْهُ، فَلْيَتَّهِمْ إِيمَانَهُ وَأَعْمَالَهُ. فَإِنَّ لِلْإِيمَانِ حَلَاوَةً، مَنْ لَمْ يَذُقْهَا فَلْيَرْجِعْ، وَلْيَقْتَبِسْ نُورًا يَجِدُ بِهِ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ. وَقَدْ ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَوْقَ طَعْمِ الْإِيمَانِ وَوَجَدَ حَلَاوَتَهُ. فَذَكَرَ الذَّوْقَ وَالْوَجْدَ، وَعَلَّقَهُ بِالْإِيمَانِ. فَقَالَ: ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا. وَقَالَ: ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجْدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا. وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ. وَمَنْ يَكْرَهُ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ- بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ- كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ. وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ- قَدَّسَ اللَّهُ رَوْحَهُ- يَقُولُ: إِذَا لَمْ تَجِدْ لِلْعَمَلِ حَلَاوَةً فِي قَلْبِكَ وَانْشِرَاحًا، فَاتَّهِمُهُ، فَإِنَّ الرَّبَّ تَعَالَى شَكُورٌ. يَعْنِي أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُثِيبَ الْعَامِلَ عَلَى عَمَلِهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ حَلَاوَةٍ يَجِدُهَا فِي قَلْبِهِ، وَقُوَّةِ انْشِرَاحٍ وَقُرَّةِ عَيْنٍ. فَحَيْثُ لَمْ يَجِدْ ذَلِكَ فَعَمَلُهُ مَدْخُولٌ.
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ دَرَجَاتِ الْمُرَاقَبَةِ: مُرَاقَبَةُ نَظَرِ الْحَقِّ بِرَفْضِ الْمُعَارَضَةِ، بِالْإِعْرَاضِ عَنْ الِاعْتِرَاضِ، وَنَقْضِ رُعُونَةِ التَّعَرُّضِ. هَذِهِ مُرَاقَبَةٌ لِمُرَاقَبَةِ اللَّهِ لَكَ. فَهِيَ مُرَاقَبَةٌ لِصِفَةٍ خَاصَّةٍ مُعَيَّنَةٍ. وَهِيَ تُوجِبُ صِيَانَةَ الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ. فَصِيَانَةُ الظَّاهِرِ: بِحِفْظِ الْحَرَكَاتِ الظَّاهِرَةِ. وَصِيَانَةُ الْبَاطِنِ: بِحِفْظِ الْخَوَاطِرِ وَالْإِرَادَاتِ وَالْحَرَكَاتِ الْبَاطِنَةِ، الَّتِي مِنْهَا رَفْضُ مُعَارَضَةِ أَمْرِهِ وَخَبَرِهِ. فَيَتَجَرَّدُ الْبَاطِنُ مِنْ كُلِّ شَهْوَةٍ وَإِرَادَةٍ تُعَارِضُ أَمْرَهُ، وَمِنْ كُلِّ إِرَادَةِ تُعَارِضُ إِرَادَتَهُ. وَمِنْ كُلِّ شُبْهَةٍ تُعَارِضُ خَبَرَهُ. وَمِنْ كُلِّ مَحَبَّةٍ تُزَاحِمُ مَحَبَّتَهُ. وَهَذِهِ حَقِيقَةُ الْقَلْبِ السَّلِيمِ الَّذِي لَا يَنْجُو إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِهِ. وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ تَجْرِيدِ الْأَبْرَارِ الْمُقَرَّبِينَ الْعَارِفِينَ. وَكُلُّ تَجْرِيدٍ سِوَى هَذَا فَنَاقِصٌ. وَهَذَا تَجْرِيدُ أَرْبَابِ الْعَزَائِمِ. ثُمَّ بَيَّنَ الشَّيْخُ سَبَبَ الْمُعَارَضَةِ، وَبِمَاذَا يَرْفُضُهَا الْعَبْدُ. فَقَالَ: بِالْإِعْرَاضِ عَنْ الِاعْتِرَاضِ. فَإِنَّ الْمُعَارَضَةَ تَتَوَلَّدُ مِنَ الِاعْتِرَاضِ. وَالِاعْتِرَاضُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ سَارِيَةٌ فِي النَّاسِ. وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ مِنْهَا. النَّوْعُ الْأَوَّلُ: الِاعْتِرَاضُ عَلَى أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ بِالشُّبَهِ الْبَاطِلَةِ، الَّتِي يُسَمِّيهَا أَرْبَابُهَا قَوَاطِعَ عَقْلِيَّةً. وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ خَيَالَاتٌ جَهْلِيَّةٌ، وَمُحَالَاتٌ ذِهْنِيَّةٌ، اعْتَرَضُوا بِهَا عَلَى أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَحَكَمُوا بِهَا عَلَيْهِ. وَنَفَوْا لِأَجَلِّهَا مَا أَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ، وَأَثْبَتَهُ لَهُ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَثْبَتُوا مَا نَفَاهُ، وَوَالَوْا بِهَا أَعْدَاءَهُ. وَعَادَوْا بِهَا أَوْلِيَاءَهُ. وَحَرَّفُوا بِهَا الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ. وَنَسُوا بِهَا نَصِيبًا كَثِيرًا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَتَقَطَّعُوا لَهَا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا، كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ. وَالْعَاصِمُ مِنْ هَذَا الِاعْتِرَاضِ التَّسْلِيمُ الْمَحْضُ لِلْوَحْيِ. فَإِذَا سَلَّمَ الْقَلْبُ لَهُ رَأَى صِحَّةَ مَا جَاءَ بِهِ، وَأَنَّهُ الْحَقُّ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ وَالْفِطْرَةِ. فَاجْتَمَعَ لَهُ السَّمْعُ وَالْعَقْلُ وَالْفِطْرَةُ. وَهَذَا أَكْمَلُ الْإِيمَانِ. لَيْسَ كَمَنِ الْحَرْبُ قَائِمٌ بَيْنَ سَمْعِهِ وَعَقْلِهِ وَفِطْرَتِهِ. النَّوْعُ الثَّانِي: الِاعْتِرَاضُ عَلَى شَرْعِهِ وَأَمْرِهِ. وَأَهْلُ هَذَا الِاعْتِرَاضِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: أَحَدُهَا: الْمُعْتَرِضُونَ عَلَيْهِ بِآرَائِهِمْ وَأَقْيِسَتِهِمْ، الْمُتَضَمِّنَةِ تَحْلِيلَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَتَحْرِيمَ مَا أَبَاحَهُ، وَإِسْقَاطَ مَا أَوْجَبَهُ، وَإِيجَابَ مَا أَسْقَطَهُ، وَإِبْطَالَ مَا صَحَّحَهُ، وَتَصْحِيحَ مَا أَبْطَلَهُ، وَاعْتِبَارَ مَا أَلْغَاهُ، وَإِلْغَاءَ مَا اعْتَبَرَهُ، وَتَقْيِيدَ مَا أَطْلَقَهُ، وَإِطْلَاقَ مَا قَيَّدَهُ. وَهَذِهِ هِيَ الْآرَاءُ وَالْأَقْيِسَةُ الَّتِي اتَّفَقَ السَّلَفُ قَاطِبَةً عَلَى ذَمِّهَا، وَالتَّحْذِيرِ مِنْهَا. وَصَاحُوا عَلَى أَصْحَابِهَا مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ. وَحَذَّرُوا مِنْهُمْ، وَنَفَرُوا عَنْهُمْ. النَّوْعُ الثَّانِي: الِاعْتِرَاضُ عَلَى حَقَائِقِ الْإِيمَانِ وَالشَّرْعِ بِالْأَذْوَاقِ وَالْمَوَاجِيدِ وَالْخَيَالَاتِ، وَالْكُشُوفَاتِ الْبَاطِلَةِ الشَّيْطَانِيَّةِ، الْمُتَضَمِّنَةِ شَرَعَ دِينٍ لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ، وَإِبْطَالَ دِينِهِ الَّذِي شَرَعَهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ، وَالتَّعَوُّضَ عَنْ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ بِخُدَعِ الشَّيْطَانِ وَحُظُوظِ النُّفُوسِ الْجَاهِلَةِ. وَالْعَجَبُ أَنَّ أَرْبَابَهَا يُنْكِرُونَ عَلَى أَهْلِ الْحُظُوظِ. وَكُلُّ مَا هُمْ فِيهِ فَحَظٌّ، وَلَكِنَّ حَظَّهُمْ مُتَضَمِّنٌ مُخَالَفَةَ مُرَادِ اللَّهِ، وَالْإِعْرَاضَ عَنْ دِينِهِ، وَاعْتِقَادَ أَنَّهُ قُرْبَةٌ إِلَى اللَّهِ. فَأَيْنَ هَذَا مِنْ حُظُوظِ أَصْحَابِ الشَّهَوَاتِ، الْمُعْتَرِفِينَ بِذَمِّهَا، الْمُسْتَغْفِرِينَ مِنْهَا، الْمُقِرِّينَ بِنَقْصِهِمْ وَعَيْبِهِمْ، وَأَنَّهَا مُنَافِيَةٌ لِلدِّينِ؟ وَهَؤُلَاءِ فِي حُظُوظٍ اتَّخَذُوهَا دِينًا، وَقَدَّمُوهَا عَلَى شَرْعِ اللَّهِ وَدِينِهِ. وَاغْتَالُوا بِهَا الْقُلُوبَ. وَاقْتَطَعُوهَا عَنْ طَرِيقِ اللَّهِ. فَتَوَلَّدَ مِنْ مَعْقُولِ أُولَئِكَ، وَآرَاءِ الْآخَرِينَ وَأَقْيِسَتِهِمُ الْبَاطِلَةِ، وَأَذْوَاقِ هَؤُلَاءِ خَرَابُ الْعَالَمِ، وَفَسَادُ الْوُجُودِ، وَهَدْمُ قَوَاعِدِ الدِّينِ، وَتَفَاقَمَ الْأَمْرُ وَكَادَ لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ ضَمِنَ أَنَّهُ لَا يَزَالُ يَقُومُ بِهِ مَنْ يَحْفَظُهُ، وَيُبَيِّنُ مَعَالِمَهُ، وَيَحْمِيهِ مِنْ كَيْدِ مَنْ يَكِيدُ. النَّوْعُ الثَّالِثُ: الِاعْتِرَاضُ عَلَى ذَلِكَ بِالسِّيَاسَاتِ الْجَائِرَةِ، الَّتِي لِأَرْبَابِ الْوِلَايَاتِ الَّتِي قَدَّمُوهَا عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَحَكَمُوا بِهَا بَيْنَ عِبَادِهِ، وَعَطَّلُوا لَهَا وَبِهَا شَرْعَهُ وَعَدَلَهُ وَحُدُودَهُ. فَقَالَ الْأَوَّلُونَ: إِذَا تَعَارَضَ الْعَقْلُ وَالنَّقْلُ أَيُّهُمَا يُقَدَّمُ؟: قَدَّمْنَا الْعَقْلَ. وَقَالَ الْآخَرُونَ: إِذَا تَعَارَضَ الْأَثَرُ وَالْقِيَاسُ: قَدَّمْنَا الْقِيَاسَ. وَقَالَ أَصْحَابُ الذَّوْقِ وَالْكَشْفِ وَالْوَجْدِ: إِذَا تَعَارَضَ الذَّوْقُ وَالْوَجْدُ وَالْكَشْفُ وَظَاهِرُ الشَّرْعِ: قَدَّمْنَا الذَّوْقَ وَالْوَجْدَ وَالْكَشْفَ. وَقَالَ أَصْحَابُ السِّيَاسَةِ: إِذَا تَعَارَضَتِ السِّيَاسَةُ وَالشَّرْعُ، قَدَّمْنَا السِّيَاسَةَ. فَجَعَلَتْ كُلُّ طَائِفَةٍ قُبَالَةَ دِينِ اللَّهِ وَشَرْعِهِ طَاغُوتًا يَتَحَاكَمُونَ إِلَيْهِ. فَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: لَكُمُ النَّقْلُ وَلَنَا الْعَقْلُ. وَالْآخَرُونَ يَقُولُونَ: أَنْتُمْ أَصْحَابُ آثَارٍ وَأَخْبَارٍ وَنَحْنُ أَصْحَابُ أَقْيِسَةٍ وَآرَاءٍ وَأَفْكَارٍ. وَأُولَئِكَ يَقُولُونَ: أَنْتُمْ أَرْبَابُ الظَّاهِرِ، وَنَحْنُ أَهْلُ الْحَقَائِقِ. وَالْآخَرُونَ يَقُولُونَ: لَكُمُ الشَّرْعُ وَلَنَا السِّيَاسَةُ. فِيَا لَهَا مِنْ بَلِيَّةٍ، عَمَّتْ فَأَعْمَتْ، وَرَزِيَّةٍ رَمَتْ فَأَصَمَّتْ، وَفِتْنَةٍ دَعَتِ الْقُلُوبَ فَأَجَابَهَا كُلُّ قَلْبٍ مَفْتُونٍ، وَأَهْوِيَةٍ عَصَفَتْ. فَصُمَّتْ مِنْهَا الْآذَانُ، وَعَمِيَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ. عُطِّلَتْ لَهَا- وَاللَّهِ- مَعَالِمُ الْأَحْكَامِ. كَمَا نُفِيَتْ لَهَا صِفَاتُ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ. وَاسْتَنَدَ كُلُّ قَوْمٍ إِلَى ظُلْمِ وَظُلُمَاتِ آرَائِهِمْ، وَحَكَمُوا عَلَى اللَّهِ وَبَيْنَ عِبَادِهِ بِمَقَالَاتِهِمُ الْفَاسِدَةِ وَأَهْوَائِهِمْ. وَصَارَ لِأَجْلِهَا الْوَحْيُ عُرْضَةً لِكُلِّ تَحْرِيفٍ وَتَأْوِيلٍ، وَالدِّينُ وَقْفًا عَلَى كُلِّ إِفْسَادٍ وَتَبْدِيلٍ. النَّوْعُ الرَّابِعُ: الِاعْتِرَاضُ عَلَى أَفْعَالِهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ. وَهَذَا اعْتِرَاضُ الْجُهَّالِ. وَهُوَ مَا بَيْنَ جَلِيٍّ وَخَفِيٍّ، وَهُوَ أَنْوَاعٌ لَا تُحْصَى. وَهُوَ سَارٍ فِي النُّفُوسِ سَرَيَانَ الْحُمَّى فِي بَدَنِ الْمَحْمُومِ. وَلَوْ تَأَمَّلَ الْعَبْدُ كَلَامَهُ وَأُمْنِيَتَهُ وَإِرَادَتَهُ وَأَحْوَالَهُ، لَرَأَى ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ عَيَانًا، فَكُلُّ نَفْسٍ مُعْتَرِضَةٍ عَلَى قَدَرِ اللَّهِ وَقَسْمِهِ وَأَفْعَالِهِ، إِلَّا نَفْسًا قَدِ اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ، وَعَرَفَتْهُ حَقَّ الْمَعْرِفَةِ الَّتِي يُمْكِنُ وُصُولُ الْبَشَرِ إِلَيْهَا. فَتِلْكَ حَظُّهَا التَّسْلِيمُ وَالِانْقِيَادُ. وَالرِّضَا كُلُّ الرِّضَاءِ. وَأَمَّا نَقْضُ رُعُونَةِ التَّعَرُّضِ، فَيُشِيرُ بِهِ إِلَى مَعْنًى آخَرَ، لَا تَتِمُّ الْمُرَاقَبَةُ عِنْدَهُ إِلَّا بِنَقْضِهِ، وَهُوَ إِحْسَاسُ الْعَبْدِ بِنَفْسِهِ وَخَوَاطِرِهِ وَأَفْكَارِهِ حَالَ الْمُرَاقِبَةِ، وَالْحُضُورِ مَعَ اللَّهِ. فَإِنَّ ذَلِكَ تَعَرُّضٌ مِنْهُ، لِحِجَابِ الْحَقِّ لَهُ عَنْ كَمَالِ الشُّهُودِ؛ لِأَنَّ بَقَاءَ الْعَبْدِ مَعَ مَدَارِكِهِ وَحَوَاسِّهِ وَمَشَاعِرِهِ، وَأَفْكَارِهِ وَخَوَاطِرِهِ، عِنْدَ الْحُضُورِ وَالْمُشَاهَدَةِ، هُوَ تَعَرُّضٌ لِلْحِجَابِ. فَيَنْبَغِي أَنَّ تَتَخَلَّصَ مُرَاقَبَةُ نَظَرِ الْحَقِّ إِلَيْكَ مِنْ هَذِهِ الْآفَاتِ. وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالِاسْتِغْرَاقِ فِي الذِّكْرِ. فَتُذْهَلُ بِهِ عَنْ نَفْسِكَ وَعَمَّا مِنْكَ. لِتَكُونَ بِذَلِكَ مُتَهَيِّئًا مُسْتَعِدًّا لِلْفَنَاءِ عَنْ وُجُودِكَ، وَعَنْ وُجُودِ كُلِّ مَا سِوَى الْمَذْكُورِ سُبْحَانَهُ. وَهَذَا التَّهَيُّؤُ وَالِاسْتِعْدَادُ: لَا يَكُونُ إِلَّا بِنَقْضِ تِلْكَ الرُّعُونَةِ. وَالذِّكْرُ يُوجِبُ الْغَيْبَةَ عَنِ الْحِسِّ. فَمَنْ كَانَ ذَاكِرًا لِنَظَرِ الْحَقِّ إِلَيْهِ مِنْ إِقْبَالِهِ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَحَسَّ بِشَيْءٍ مِنْ حَدِيثِ نَفْسِهِ وَخَوَاطِرِهِ وَأَفْكَارِهِ: فَقَدْ تَعَرَّضَ وَاسْتَدْعَى عَوَالِمَ نَفْسِهِ، وَاحْتِجَابَ الْمَذْكُورِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ حَضْرَةَ الْحَقِّ تَعَالَى لَا يَكُونُ فِيهَا غَيْرُهُ. وَهَذِهِ الدَّرَجَةُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا الْعَبْدُ إِلَّا بِمَلَكَةٍ قَوِيَّةٍ مِنَ الذِّكْرِ، وَجَمْعِ الْقَلْبِ فِيهِ بِكُلِّيَّتِهِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ مِنْ دَرَجَاتِ الْمُرَاقَبَةِ: مُرَاقَبَةُ الْأَزَلِ، بِمُطَالَعَةِ عَيْنِ السَّبْقِ، اسْتِقْبَالًا لِعِلْمِ التَّوْحِيدِ. وَمُرَاقَبَةُ ظُهُورِ إِشَارَاتِ الْأَزَلِ عَلَى أَحَايِينِ الْأَبَدِ، وَمُرَاقِبَةُ الْإِخْلَاصِ مِنْ وَرْطَةِ الْمُرَاقِبَةِ. قَوْلُهُ: مُرَاقَبَةُ الْأَزَلِ؛ أَيْ شُهُودُ مَعْنَى الْأَزَلِ، وَهُوَ الْقِدَمُ الَّذِي لَا أَوَّلَ لَهُ بِمُطَالَعَةِ عَيْنِ السَّبْقِ؛ أَيْ بِشُهُودِ سَبْقِ الْحَقِّ تَعَالَى لِكُلِّ مَا سِوَاهُ؛ إِذْ هُوَ الْأَوَّلُ الَّذِي لَيْسَ قَبْلَهُ شَيْءٌ. فَمَتَى طَالَعَ الْعَبْدُ عَيْنَ هَذَا السَّبْقِ شَهِدَ مَعْنَى الْأَزَلِ وَعَرَفَ حَقِيقَتَهُ، فَبَدَا لَهُ حِينَئِذٍ عِلْمُ التَّوْحِيدِ، فَاسْتَقْبَلَهُ كَمَا يَسْتَقْبِلُ أَعْلَامَ الْبَلَدِ، وَأَعْلَامَ الْجَيْشِ. وَرُفِعَ لَهُ فَشَمَّرَ إِلَيْهِ. وَهُوَ شُهُودُ انْفِرَادِ الْحَقِّ بِأَزَلِيَّتِهِ وَحْدَهُ. وَأَنَّهُ كَانَ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرُهُ أَلْبَتَّةَ. وَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَكَائِنٌ بَعْدَ عَدَمِهِ بِتَكْوِينِهِ. فَإِذَا عَدِمَتِ الْكَائِنَاتُ مِنْ شُهُودِهِ، كَمَا كَانَتْ مَعْدُومَةً فِي الْأَزَلِ. فَطَالَعَ عَيْنَ السَّبْقِ، وَفَنِيَ بِشُهُودِ مَنْ لَمْ يَزَلْ عَنْ شُهُودِ مَنْ لَمْ يَكُنْ. فَقَدِ اسْتَقْبَلَ عِلْمَ التَّوْحِيدِ. وَأَمَّا مُرَاقَبَةُ ظُهُورِ إِشَارَاتِ الْأَزَلِ عَلَى أَحَايِينِ الْأَبَدِ فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مَا يَظْهَرُ فِي الْأَبَدِ هُوَ عَيْنُ مَا كَانَ مَعْلُومًا فِي الْأَزَلِ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا تَجَدَّدَتْ أَحَايِينُهُ، وَهِيَ أَوْقَاتُ ظُهُورِهِ. فَقَدْ ظَهَرَتْ إِشَارَاتُ الْأَزَلِ، وَهِيَ مَا يُشِيرُ إِلَيْهِ الْعَقْلُ بِالْأَزَلِيَّةِ مِنَ الْمُقَدَّرَاتِ الْعِلْمِيَّةِ عَلَى أَحَايِينِ الْأَبَدِ. هَذَا مَعْنَاهُ الصَّحِيحُ عِنْدِي. وَالْقَوْمُ يُرِيدُونَ بِهِ مَعْنًى آخَرَ وَهُوَ اتِّصَالُ الْأَبَدِ بِالْأَزَلِ فِي الشُّهُودِ. وَذَلِكَ بِأَنْ يَطْوِيَ بِسَاطَ الْكَائِنَاتِ عَنْ شُهُودِهِ طَيًّا كُلِّيًّا، وَيَشْهَدَ اسْتِمْرَارَ وُجُودِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَحْدَهُ، مُجَرَّدًا عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، فَيَصِلُ- بِهَذَا الشُّهُودِ- الْأَزَلَ بِالْأَبَدِ، وَيَصِيرَانِ شَيْئًا وَاحِدًا. وَهُوَ دَوَامُ وَجُودِهِ سُبْحَانَهُ، بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ كُلِّ حَادِثٍ. وَالشُّهُودُ الْأَوَّلُ أَكْمَلُ وَأَتَمُّ. وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ. وَتَقَدَّمَ عِلْمُهُ بِالْأَشْيَاءِ، وَوُقُوعِهَا فِي الْأَبَدِ مُطَابِقَةً لِعِلْمِهِ الْأَزَلِيِّ، فَهَذَا الشُّهُودُ يُعْطِي إِيمَانًا وَمَعْرِفَةً، وَإِثْبَاتًا لِلْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، وَالْفِعْلِ وَالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ. وَأَمَّا الشُّهُودُ الثَّانِي فَلَا يُعْطَى صَاحِبُهُ مَعْرِفَةً وَلَا إِيمَانًا، وَلَا إِثْبَاتًا لِاسْمٍ وَلَا صِفَةٍ، وَلَا عُبُودِيَّةٍ نَافِعَةٍ. وَهُوَ أَمْرٌ مُشْتَرَكٌ. يَشْهَدُهُ كُلُّ مَنْ أَقَرَّ بِالصَّانِعِ، مِنْ مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ. فَإِذَا اسْتَغْرَقَ فِي شُهُودِ أَزَلِيَّتِهِ، وَتَفَرُّدِهِ بِالْقِدَمِ، وَغَابَ عَنِ الْكَائِنَاتِ، اتَّصَلَ فِي شُهُودِهِ الْأَزَلُ بِالْأَبَدِ. فَأَيُّ كَبِيرِ أَمْرٍ فِي هَذَا؟ وَأَيُّ إِيمَانٍ وَيَقِينٍ يَحْصُلُ بِهِ؟ وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ ذَوْقَهُ، وَلَا نَقْدَحُ فِي وُجُودِهِ؛ وَإِنَّمَا نَقْدَحُ فِي مَرْتَبَتِهِ وَتَفْضِيلِهِ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنَ الْمُرَاقَبَةِ، بِحَيْثُ يَكُونُ لِخَاصَّةِ الْخَاصَّةِ. وَمَا قَبْلَهُ لِمَنْ هُمْ دُونَهُمْ. فَهَذَا عَيْنُ الْوَهْمِ. وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ. فَإِذَا اتَّصَلَ فِي شُهُودِ الشَّاهِدِ الْأَزَلُ الَّذِي لَا بِدَايَةَ لَهُ، بِالْأَزْمِنَةِ الَّتِي يُعْقَلُ لَهَا بِدَايَةٌ- وَهِيَ أَزْمِنَةُ الْحَوَادِثِ- ثُمَّ اتَّصَلَ ذَلِكَ بِمَا لَا نِهَايَةَ لَهُ، بِحَيْثُ صَارَتِ الْأَزْمِنَةُ الثَّلَاثَةُ وَاحِدًا. لَا مَاضِيَ فِيهِ، وَلَا حَاضِرَ، وَلَا مُسْتَقْبَلَ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا إِذَا شَهِدَ فَنَاءَ الْحَوَادِثِ فَنَاءً مُطْلَقًا، وَعَدَمَهَا عَدْمًا كُلِّيًّا. وَذَلِكَ تَقْدِيرٌ وَهْمِيٌّ مُخَالِفٌ لِلْوَاقِعِ. وَهُوَ تَجْرِيدٌ خَيَالِيٌّ، يُوقِعُ صَاحِبَهُ فِي بَحْرٍ طَامِسٍ لَا سَاحِلَ لَهُ، وَلَيْلٍ دَامِسٍ لَا فَجْرَ لَهُ. فَأَيْنَ هَذَا مِنْ مَشْهَدِ تَنَوُّعِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ؟ وَتَعَلُّقِهَا بِأَنْوَاعِ الْكَائِنَاتِ، وَارْتِبَاطِهَا بِجَمِيعِ الْحَادِثَاتِ؟ وَإِعْطَاءِ كُلِّ اسْمٍ مِنْهَا وَصِفَةٍ حَقَّهَا مِنَ الشُّهُودِ وَالْعُبُودِيَّةِ؟ وَالنَّظَرِ إِلَى سَرَيَانِ آثَارِهَا فِي الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ، وَالْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ، وَالظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، وَدَارِ الدُّنْيَا وَدَارِ الْآخِرَةِ؟ وَقِيَامُهُ بِالْفَرْقِ وَالْجَمْعِ فِي ذَلِكَ عِلْمًا وَمَعْرِفَةً وَحَالًا؟! وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. قَوْلُهُ: وَمُرَاقَبَةُ الْإِخْلَاصِ مِنْ وَرْطَةِ الْمُرَاقَبَةِ. يُشِيرُ إِلَى فَنَاءِ شُهُودِ الْمُرَاقِبِ عَنْ نَفْسِهِ وَمَا مِنْهَا. وَأَنَّهُ يَفْنَى بِمَنْ يُرَاقِبُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَمَا مِنْهَا. فَإِذَا كَانَ بَاقِيًا بِشُهُودِ مُرَاقَبَتِهِ: فَهُوَ فِي وَرْطَتِهَا لَمْ يَتَخَلَّصْ مِنْهَا؛ لِأَنَّ شُهُودَ الْمُرَاقَبَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا مَعَ بَقَائِهِ. وَالْمَقْصُودُ إِنَّمَا هُوَ الْفَنَاءُ وَالتَّخَلُّصُ مِنْ نَفْسِهِ وَمِنْ صِفَاتِهَا وَمَا مِنْهَا. وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ فَوْقَ هَذَا دَرَجَةً أَعْلَى مِنْهُ وَأَرْفَعَ، وَأَشْرَفَ. وَهِيَ مُرَاقَبَةُ مَوَاقِعِ رِضَا الرَّبِّ، وَمَسَاخِطِهِ فِي كُلِّ حَرَكَةٍ. وَالْفَنَاءِ عَمَّا يُسْخِطُهُ بِمَا يُحِبُّ، وَالتَّفَرُّقِ لَهُ وَبِهِ وَفِيهِ، نَاظِرًا إِلَى عَيْنِ جَمْعِ الْعُبُودِيَّةِ، فَانِيًا عَنْ مُرَادِهِ مِنْ رَبِّهِ- مَهْمَا عَلَا- بِمُرَادِ رَبِّهِ مِنْهُ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَمِنْ مَنَازِلِ:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} مَنْزِلَةُ تَعْظِيمِ حُرُمَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: حُرُمَاتُ اللَّهِ هَاهُنَا مَغَاضِبُهُ، وَمَا نَهَى عَنْهُ، وَتَعْظِيمُهَا تَرْكُ مُلَابَسَتِهَا. قَالَ اللَّيْثُ: حُرُمَاتُ اللَّهِ: مَا لَا يَحِلُّ انْتِهَاكُهَا. وَقَالَ قَوْمٌ: الْحُرُمَاتُ: هِيَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْحُرْمَةُ مَا وَجَبَ الْقِيَامُ بِهِ، وَحَرُمَ التَّفْرِيطُ فِيهِ. وَقَالَ قَوْمٌ: الْحُرُمَاتُ هَاهُنَا الْمَنَاسِكُ، وَمَشَاعِرُ الْحَجِّ زَمَانًا وَمَكَانًا. وَالصَّوَابُ: أَنَّ الْحُرُمَاتِ تَعُمُّ هَذَا كُلَّهُ. وَهِيَ جَمْعُ حُرْمَةٍ وَهِيَ مَا يَجِبُ احْتِرَامُهُ، وَحِفْظُهُ مِنَ الْحُقُوقِ، وَالْأَشْخَاصِ، وَالْأَزْمِنَةِ، وَالْأَمَاكِنِ، فَتَعْظِيمُهَا تَوْفِيَتُهَا حَقَّهَا، وَحِفْظُهَا مِنَ الْإِضَاعَةِ. قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ ": الْحُرْمَةُ: هِيَ التَّحَرُّجُ عَنِ الْمُخَالَفَاتِ وَالْمُجَاسَرَاتِ. التَّحَرُّجُ: الْخُرُوجُ مِنْ حَرَجِ الْمُخَالَفَةِ. وَبِنَاءُ " تَفَعَّلَ " يَكُونُ لِلدُّخُولِ فِي الشَّيْءِ. كَتَمَنَّى إِذَا دَخَلَ فِي الْأُمْنِيَّةِ، وَتَوَلَّجَ فِي الْأَمْرِ دَخَلَ فِيهِ، وَنَحْوِهِ. وَلِلْخُرُوجِ مِنْهُ، كَتَخَرَّجَ وَتَحَوَّبَ وَتَأَثَّمَ، إِذَا أَرَادَ الْخُرُوجَ مِنَ الْحَرَجِ. وَالْحُوبُ هُوَ الْإِثْمُ. أَرَادَ أَنَّ الْحُرْمَةَ هِيَ الْخُرُوجُ مِنْ حَرَجِ الْمُخَالَفَةِ، وَجَسَارَةِ الْإِقْدَامِ عَلَيْهَا. وَلَمَّا كَانَ الْمُخَالِفُ قِسْمَيْنِ جَاسِرًا وَهَائِبًا. قَالَ: عَنِ الْمُخَالَفَاتِ وَالْمُجَاسَرَاتِ.
قَالَ: وَهِيَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ: الدَّرَجَةُ الْأُولَى: تَعْظِيمُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، الشَّرْعِيِّ لَا خَوْفًا مِنَ الْعُقُوبَةِ، فَتَكُونُ خُصُومَةً لِلنَّفْسِ، وَلَا طَلَبًا لِلْمَثُوبَةِ. فَيَكُونُ مُسْتَشْرِفًا لِلْأُجْرَةِ، وَلَا مُشَاهِدًا لِأَحَدٍ. فَيَكُونُ مُتَزَيِّنًا بِالْمُرَاءَاةِ. فَإِنَّ هَذِهِ الْأَوْصَافَ كُلَّهَا مِنْ شُعَبِ عِبَادَةِ النَّفْسِ. هَذَا الْمَوْضِعُ يَكْثُرُ فِي كَلَامِ الْقَوْمِ. وَالنَّاسُ بَيْنَ مُعَظِّمٍ لَهُ وَلِأَصْحَابِهِ، مُعْتَقِدٍ أَنَّ هَذَا أَرْفَعُ دَرَجَاتِ الْعُبُودِيَّةِ: أَنْ لَا يَعْبُدَ اللَّهَ وَيَقُومَ بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ خَوْفًا مِنْ عِقَابِهِ، وَلَا طَمَعًا فِي ثَوَابِهِ. فَإِنَّ هَذَا وَاقِفٌ مَعَ غَرَضِهِ وَحَظِّ نَفْسِهِ. وَأَنَّ الْمَحَبَّةَ تَأْبَى ذَلِكَ. فَإِنَّ الْمُحِبَّ لَا حَظَّ لَهُ مَعَ مَحْبُوبِهِ. فَوُقُوفُهُ مَعَ حَظِّهِ عِلَّةٌ فِي مَحَبَّتِهِ، وَأَنَّ طَمَعَهُ فِي الثَّوَابِ تَطَلُّعٌ إِلَى أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ بِعَمَلِهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أُجْرَةً. فَفِي هَذَا آفَتَانِ: تَطَلُّعُهُ إِلَى الْأُجْرَةِ، وَإِحْسَانُ ظَنِّهِ بِعَمَلِهِ؛ إِذْ تَطَلُّعُهُ إِلَى اسْتِحْقَاقِهِ الْأَجْرَ، وَخَوْفُهُ مِنَ الْعِقَابِ: خُصُومَةٌ لِلنَّفْسِ، فَإِنَّهُ لَا يَزَالُ يُخَاصِمُهَا إِذَا خَالَفَتْ. وَيَقُولُ: أَمَا تَخَافِينَ النَّارَ، وَعَذَابَهَا، وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لِأَهْلِهَا؟ فَلَا تَزَالُ الْخُصُومَةُ بِذَلِكَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ. وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَيْضًا: وَهُوَ أَنَّهُ كَالْمُخَاصِمِ عَنْ نَفْسِهِ، الدَّافِعِ عَنْهَا خَصْمَهُ الَّذِي يُرِيدُ هَلَاكَهُ، وَهُوَ عَيْنُ الِاهْتِمَامِ بِالنَّفْسِ، وَالِالْتِفَاتِ إِلَى حُظُوظِهَا، مُخَاصَمَةً عَنْهَا، وَاسْتِدْعَاءً لِمَا تَلْتَذُّ بِهِ. وَلَا يُخَلِّصُهُ مِنْ هَذِهِ الْمُخَاصَمَةِ، وَذَلِكَ الِاسْتِشْرَافِ إِلَّا تَجْرِيدُ الْقِيَامِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مِنْ كُلِّ عِلَّةٍ. بَلْ يَقُومُ بِهِ تَعْظِيمًا لِلْآمِرِ النَّاهِي. وَأَنَّهُ أَهْلٌ أَنْ يُعْبَدَ، وَتُعَظَّمَ حُرُمَاتُهُ. فَهُوَ يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ وَالتَّعْظِيمَ وَالْإِجْلَالَ لِذَاتِهِ، كَمَا فِي الْأَثَرِ الْإِسْرَائِيلِيِّ: لَوْ لَمْ أَخْلُقْ جَنَّةً وَلَا نَارًا، أَمَا كُنْتُ أَهْلًا أَنْ أُعْبَدَ؟. وَمِنْهُ قَوْلُ الْقَائِلِ: هَبِ الْبَعْثَ لَمْ تَأْتِنَا رُسْلُهُ *** وَجَاحِمَةَ النَّارِ لَمْ تُضْرَمِ أَلَيْسَ مِنَ الْوَاجِبِ الْمُسْتَحَـ *** ـقِّ عَلَى ذَوِي الْوَرَى الشُّكْرُ لِلْمُنْعِمِ؟ فَالنُّفُوسُ الْعَلِيَّةُ الزَّكِيَّةُ تَعْبُدُهُ لِأَنَّهُ أَهْلٌ أَنْ يُعْبَدَ، وَيُجَلَّ وَيُحَبَّ وَيُعَظَّمَ. فَهُوَ لِذَاتِهِ مُسْتَحِقٌّ لِلْعِبَادَةِ. قَالُوا: وَلَا يَكُونُ الْعَبْدُ كَأَجِيرِ السُّوءِ. إِنْ أُعْطِيَ أَجْرَهُ عَمِلَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَعْمَلْ. فَهَذَا عَبْدُ الْأُجْرَةِ لَا عَبْدُ الْمَحَبَّةِ وَالْإِرَادَةِ. قَالُوا: وَالْعُمَّالُ شَاخِصُونَ إِلَى مَنْزِلَتَيْنِ: مَنْزِلَةِ الْآخِرَةِ، وَمَنْزِلَةِ الْقُرْبِ مِنَ الْمُطَاعِ. قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ نَبِيِّهِ دَاوُدَ: {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ}. فَالزُّلْفَى مَنْزِلَةُ الْقُرْبِ، وَحُسْنُ الْمَآبِ حُسْنُ الثَّوَابِ وَالْجَزَاءِ. وَقَالَ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} وَالْحُسْنَى: الْجَزَاءُ. وَالزِّيَادَةُ: مَنْزِلَةُ الْقُرْبِ. وَلِهَذَا فُسِّرَتْ بِالنَّظَرِ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَهَذَانِ هُمَا اللَّذَانِ وَعَدَهُمَا فِرْعَوْنُ لِلسَّحَرَةِ إِنْ غَلَبُوا مُوسَى، فَقَالُوا لَهُ: {إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ}. قَالُوا: وَالْعَارِفُونَ عَمَلُهُمْ عَلَى الْمَنْزِلَةِ وَالدَّرَجَةِ. وَالْعُمَّالُ عَمَلُهُمْ عَلَى الثَّوَابِ وَالْأُجْرَةِ. وَشَتَّانَ مَا بَيْنَهُمَا.
وَطَائِفَةٌ ثَانِيَةٌ تَجْعَلُ هَذَا الْكَلَامَ مِنْ شَطَحَاتِ الْقَوْمِ وَرَعُونَاتِهِمْ. وَتَحْتَجُّ بِأَحْوَالِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ وَالصِّدِّيقِينَ، وَدُعَائِهِمْ وَسُؤَالِهِمْ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ بِخَوْفِهِمْ مِنَ النَّارِ، وَرَجَائِهِمْ لِلْجَنَّةِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ خَوَاصِّ عِبَادِهِ الَّذِينَ عَبَدَهُمُ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّهُمْ يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ- كَمَا تَقَدَّمَ- وَقَالَ عَنْ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ}- إِلَى أَنْ قَالَ- {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}. أَيْ رَغَبًا فِيمَا عِنْدَنَا، وَرَهَبًا مِنْ عَذَابِنَا. وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: " إِنَّهُمْ " عَائِدٌ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ الْمَذْكُورِينَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْمُفَسِّرِينَ. وَالرَّغَبُ وَالرَّهَبُ: رَجَاءُ الرَّحْمَةِ، وَالْخَوْفُ مِنَ النَّارِ عِنْدَهُمْ أَجْمَعِينَ. وَذَكَرَ سُبْحَانَهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ هُمْ خَوَاصُّ خَلْقِهِ. وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ بِأَحْسَنِ أَعْمَالِهِمْ. وَجَعَلَ مِنْهَا: اسْتِعَاذَتَهُمْ بِهِ مِنَ النَّارِ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا}. وَأَخْبَرَ عَنْهُمْ: أَنَّهُمْ تَوَسَّلُوا إِلَيْهِ بِإِيمَانِهِمْ أَنْ يُنْجِيَهُمْ مِنَ النَّارِ. فَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} فَجَعَلُوا أَعْظَمَ وَسَائِلِهِمْ إِلَيْهِ: وَسِيلَةَ الْإِيمَانِ، وَأَنْ يُنْجِيَهُمْ مِنَ النَّارِ. وَأَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ سَادَاتِ الْعَارِفِينَ أُولِي الْأَلْبَابِ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْأَلُونَهُ جَنَّتَهُ. وَيَتَعَوَّذُونَ بِهِ مِنْ نَارِهِ. فَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} الْآيَاتِ إِلَى آخِرِهَا، وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْمَوْعُودَ بِهِ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ: هِيَ الْجَنَّةُ الَّتِي سَأَلُوهَا. وَقَالَ عَنْ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}. فَسَأَلَ اللَّهَ الْجَنَّةَ، وَاسْتَعَاذَ بِهِ مِنَ النَّارِ. وَهُوَ الْخِزْيُ يَوْمَ الْبَعْثِ. وَأَخْبَرَنَا سُبْحَانَهُ عَنِ الْجَنَّةِ: أَنَّهَا كَانَتْ وَعْدًا عَلَيْهِ مَسْئُولًا؛ أَيْ يَسْأَلُهُ إِيَّاهَا عِبَادُهُ وَأَوْلِيَاؤُهُ. وَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّتَهُ: أَنْ يَسْأَلُوا لَهُ فِي وَقْتِ الْإِجَابَةِ- عُقَيْبَ الْأَذَانِ- أَعْلَى مَنْزِلَةٍ فِي الْجَنَّةِ. وَأَخْبَرَ: أَنَّ مَنْ سَأَلَهَا لَهُ حَلَّتْ عَلَيْهِ شَفَاعَتُهُ. وَقَالَ لَهُ سُلَيْمٌ الْأَنْصَارِيُّ: أَمَّا إِنِّي أَسْأَلُ اللَّهَ الْجَنَّةَ، وَأَسْتَعِيذُ بِهِ مِنَ النَّارِ، لَا أُحْسِنُ دَنْدَنَتَكَ وَلَا دَنْدَنَةَ مُعَاذٍ، فَقَالَ: أَنَا وَمُعَاذٌ حَوْلَهَا نُدَنْدِنُ. وَفِي الصَّحِيحِ- فِي حَدِيثِ الْمَلَائِكَةِ السَّيَّارَةِ الْفُضَّلِ عَنْ كُتَّابِ النَّاسِ- إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَسْأَلُهُمْ عَنْ عِبَادِهِ- وَهُوَ أَعْلَمُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فَيَقُولُونَ: أَتَيْنَاكَ مِنْ عِنْدِ عِبَادٍ لَكَ يُهَلِّلُونَكَ، وَيُكَبِّرُونَكَ، وَيَحْمَدُونَكَ، وَيُمَجِّدُونَكَ، فَيَقُولُ عَزَّ وَجَلَّ: وَهَلْ رَأَوْنِي؟ فَيَقُولُونَ: لَا يَا رَبِّ. مَا رَأَوْكَ. فَيَقُولُ عَزَّ وَجَلَّ: كَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي؟ فَيَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْكَ لَكَانُوا لَكَ أَشَدَّ تَمْجِيدًا. قَالُوا: يَا رَبِّ. وَيَسْأَلُونَكَ جَنَّتَكَ. فَيَقُولُ: هَلْ رَأَوْهَا؟ فَيَقُولُونَ: لَا وَعِزَّتِكَ مَا رَأَوْهَا. فَيَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا؟ فَيَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْهَا لَكَانُوا لَهَا أَشَدَّ طَلَبًا. قَالُوا: وَيَسْتَعِيذُونَ بِكَ مِنَ النَّارِ، فَيَقُولُ عَزَّ وَجَلَّ: وَهَلْ رَأَوْهَا؟ فَيَقُولُونَ: لَا وَعِزَّتِكَ مَا رَأَوْهَا. فَيَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا؟ فَيَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْهَا لَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهَا هَرَبًا. فَيَقُولُ: إِنِّي أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ، وَأَعْطَيْتُهُمْ مَا سَأَلُوا، وَأَعَذْتُهُمْ مِمَّا اسْتَعَاذُوا. وَالْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ مَمْلُوءَانِ مِنَ الثَّنَاءِ عَلَى عِبَادِهِ وَأَوْلِيَائِهِ بِسُؤَالِ الْجَنَّةِ وَرَجَائِهَا، وَالِاسْتِعَاذَةِ مِنَ النَّارِ، وَالْخَوْفِ مِنْهَا. قَالُوا: وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنَ النَّارِ. وَقَالَ لِمَنْ سَأَلَهُ مُرَافَقَتَهُ فِي الْجَنَّةِ: أَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ. قَالُوا: وَالْعَمَلُ عَلَى طَلَبِ الْجَنَّةِ وَالنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ مَقْصُودُ الشَّارِعِ مِنْ أُمَّتِهِ لِيَكُونَا دَائِمًا عَلَى ذِكْرٍ مِنْهُمَا فَلَا يَنْسَوْنَهُمَا. وَلِأَنَّ الْإِيمَانَ بِهِمَا شَرْطٌ فِي النَّجَاةِ، وَالْعَمَلَ عَلَى حُصُولِ الْجَنَّةِ وَالنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ هُوَ مَحْضُ الْإِيمَانِ. قَالُوا: وَقَدْ حَضَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ وَأُمَّتَهُ، فَوَصَفَهَا وَجَلَّاهَا لَهُمْ لِيَخْطُبُوهَا، وَقَالَ: أَلَا مُشَمِّرٌ لِلْجَنَّةِ؟ فَإِنَّهَا- وَرَبِّ الْكَعْبَةِ- نُورٌ يَتَلَأْلَأُ، وَرَيْحَانَةٌ تَهْتَزُّ، وَزَوْجَةٌ حَسْنَاءُ، وَفَاكِهَةٌ نَضِيجَةٌ، وَقَصْرٌ مَشِيدٌ، وَنَهْرٌ مُطَّرِدٌ- الْحَدِيثَ- فَقَالَ الصَّحَابَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَحْنُ الْمُشَمِّرُونَ لَهَا. فَقَالَ: قُولُوا: إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَلَوْ ذَهَبْنَا نَذْكُرُ مَا فِي السُّنَّةِ مِنْ قَوْلِهِ: مَنْ عَمِلِ كَذَا وَكَذَا أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ تَحْرِيضًا عَلَى عَمَلِهِ لَهَا، وَأَنْ تَكُونَ هِيَ الْبَاعِثَةُ عَلَى الْعِلْمِ: لَطَالَ ذَلِكَ جِدًّا. وَذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ. قَالُوا: فَكَيْفَ يَكُونُ الْعَمَلُ لِأَجْلِ الثَّوَابِ وَخَوْفِ الْعِقَابِ مَعْلُولًا؟ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَرِّضُ عَلَيْهِ، وَيَقُولُ مَنْ فَعَلَ كَذَا فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ وَ مَنْ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ غُرِسَتْ لَهُ نَخْلَةٌ فِي الْجَنَّةِ. وَ مَنْ كَسَا مُسْلِمًا عَلَى عُرْيٍ كَسَاهُ اللَّهُ مِنْ حُلَلِ الْجَنَّةِ وَ عَائِدُ الْمَرِيضِ فِي خُرْفَةِ الْجَنَّةِ، وَالْحَدِيثُ مَمْلُوءٌ مِنْ ذَلِكَ؟ أَفَتَرَاهُ يُحَرِّضُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَطْلَبٍ مَعْلُولٍ نَاقِصٍ، وَيَدَعُ الْمَطْلَبَ الْعَالِي الْبَرِيءَ مِنْ شَوَائِبِ الْعِلَلِ لَا يُحَرِّضُهُمْ عَلَيْهِ؟ قَالُوا: وَأَيْضًا فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ يَسْأَلُوهُ جَنَّتَهُ، وَيَسْتَعِيذُوا بِهِ مِنْ نَارِهِ، فَإِنَّهُ يُحِبُّ أَنْ يُسْأَلَ. وَمَنْ لَمْ يَسْأَلْهُ يَغْضَبْ عَلَيْهِ. وَأَعْظَمُ مَا سُئِلَ الْجَنَّةُ وَأَعْظَمُ مَا اسْتُعِيذَ بِهِ مِنَ النَّارِ. فَالْعَمَلُ لِطَلَبِ الْجَنَّةِ مَحْبُوبٌ لِلرَّبِّ، مَرْضِيٌّ لَهُ. وَطَلَبُهَا عُبُودِيَّةٌ لِلرَّبِّ. وَالْقِيَامُ بِعُبُودِيَّتِهِ كُلِّهَا أَوْلَى مِنْ تَعْطِيلِ بَعْضِهَا. قَالُوا: وَإِذَا خَلَا الْقَلْبُ مِنْ مُلَاحَظَةِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَرَجَاءِ هَذِهِ وَالْهَرَبِ مِنْ هَذِهِ فَتَرَتْ عَزَائِمُهُ، وَضَعُفَتْ هِمَّتُهُ، وَوَهَى بَاعِثُهُ، وَكُلَّمَا كَانَ أَشَدَّ طَلَبًا لِلْجَنَّةِ، وَعَمَلًا لَهَا كَانَ الْبَاعِثُ لَهُ أَقْوَى، وَالْهِمَّةُ أَشَدَّ، وَالسَّعْيُ أَتَمَّ. وَهَذَا أَمْرٌ مَعْلُومٌ بِالذَّوْقِ. وَقَالُوا: وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هَذَا مَطْلُوبًا لِلشَّارِعِ لَمَا وَصَفَ الْجَنَّةَ لِلْعِبَادِ، وَزَيَّنَهَا لَهُمْ، وَعَرَضَهَا عَلَيْهِمْ. وَأَخْبَرَهُمْ عَنْ تَفَاصِيلِ مَا تَصِلُ إِلَيْهِ عُقُولُهُمْ مِنْهَا، وَمَا عَدَاهُ أَخْبَرَهُمْ بِهِ مُجْمَلًا. كُلُّ هَذَا تَشْوِيقًا لَهُمْ إِلَيْهَا، وَحَثًّا لَهُمْ عَلَى السَّعْيِ لَهَا سَعْيَهَا. قَالُوا: وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ}. وَهَذَا حَثٌّ عَلَى إِجَابَةِ هَذِهِ الدَّعْوَةِ، وَالْمُبَادَرَةِ إِلَيْهَا، وَالْمُسَارَعَةِ فِي الْإِجَابَةِ. وَالتَّحْقِيقُ أَنْ يُقَالَ: الْجَنَّةُ لَيْسَتِ اسْمًا لِمُجَرَّدِ الْأَشْجَارِ وَالْفَوَاكِهِ، وَالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَالْحُورِ الْعِينِ، وَالْأَنْهَارِ وَالْقُصُورِ. وَأَكْثَرُ النَّاسِ يَغْلَطُونَ فِي مُسَمَّى الْجَنَّةِ. فَإِنَّ الْجَنَّةَ اسْمٌ لِدَارِ النَّعِيمِ الْمُطَلَّقِ الْكَامِلِ. وَمِنْ أَعْظَمِ نَعِيمِ الْجَنَّةِ التَّمَتُّعُ بِالنَّظَرِ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ الْكَرِيمِ، وَسَمَاعُ كَلَامِهِ، وَقُرَّةُ الْعَيْنِ بِالْقُرْبِ مِنْهُ وَبِرِضْوَانِهِ. فَلَا نِسْبَةَ لِلَذَّةِ مَا فِيهَا مِنَ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ وَالْمَلْبُوسِ وَالصُّوَرِ، إِلَى هَذِهِ اللَّذَّةِ أَبَدًا. فَأَيْسَرُ يَسِيرٍ مِنْ رِضْوَانِهِ أَكْبَرُ مِنَ الْجِنَانِ وَمَا فِيهَا مِنْ ذَلِكَ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ}. وَأَتَى بِهِ مُنَكَّرًا فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ؛ أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ كَانَ مِنْ رِضَاهُ عَنْ عَبْدِهِ: فَهُوَ أَكْبَرُ مِنَ الْجَنَّةِ. قَلِيلٌ مِنْكَ يُقْنِعُنِي وَلَكِنْ *** قَلِيلُكَ لَا يُقَالُ لَهُ قَلِيلُ وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ- حَدِيثِ الرُّؤْيَةِ- فَوَاللَّهِ مَا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِهِ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ إِذَا تَجَلَّى لَهُمْ، وَرَأَوْا وَجْهَهُ عِيَانًا نَسُوا مَا هُمْ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ، وَذَهَلُوا عَنْهُ، وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْأَمْرَ هَكَذَا. وَهُوَ أَجَلُّ مِمَّا يَخْطُرُ بِالْبَالِ، أَوْ يَدُورُ فِي الْخَيَالِ. وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ فَوْزِ الْمُحِبِّينَ هُنَاكَ بِمَعِيَّةِ الْمُحِبِّ. فَإِنَّ الْمَرْءَ مَعَ مَنْ أَحَبَّ. وَلَا تَخْصِيصَ فِي هَذَا الْحُكْمِ. بَلْ هُوَ ثَابِتٌ شَاهِدًا وَغَائِبًا. فَأَيُّ نَعِيمٍ، وَأَيُّ لَذَّةٍ، وَأَيُّ قُرَّةِ عَيْنٍ، وَأَيُّ فَوْزٍ يُدَانِي نَعِيمَ تِلْكَ الْمَعِيَّةِ وَلَذَّتَهَا، وَقُرَّةَ الْعَيْنِ بِهَا؟ وَهَلْ فَوْقَ نَعِيمِ قُرَّةِ الْعَيْنِ بِمَعِيَّةِ الْمَحْبُوبِ، الَّذِي لَا شَيْءَ أَجَلَّ مِنْهُ، وَلَا أَكْمَلَ وَلَا أَجْمَلَ: قُرَّةُ عَيْنٍ الْبَتَّةَ؟ وَهَذَا- وَاللَّهِ- هُوَ الْعِلْمُ الَّذِي شَمَّرَ إِلَيْهِ الْمُحِبُّونَ، وَاللِّوَاءُ الَّذِي أَمَّهُ الْعَارِفُونَ. وَهُوَ رُوحُ مُسَمَّى الْجَنَّةِ وَحَيَاتُهَا. وَبِهِ طَابَتِ الْجَنَّةُ، وَعَلَيْهِ قَامَتْ. فَكَيْفَ يُقَالُ: لَا يُعْبَدُ اللَّهُ طَلَبًا لِجَنَّتِهِ، وَلَا خَوْفًا مِنْ نَارِهِ؟ وَكَذَلِكَ النَّارُ أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْهَا، فَإِنَّ لِأَرْبَابِهَا مِنْ عَذَابِ الْحِجَابِ عَنِ اللَّهِ وَإِهَانَتِهِ، وَغَضَبِهِ وَسَخَطِهِ، وَالْبُعْدِ عَنْهُ: أَعْظَمَ مِنَ الْتِهَابِ النَّارِ فِي أَجْسَامِهِمْ وَأَرْوَاحِهِمْ، بَلِ الْتِهَابُ هَذِهِ النَّارِ فِي قُلُوبِهِمْ هُوَ الَّذِي أَوْجَبَ الْتِهَابَهَا فِي أَبْدَانِهِمْ. وَمِنْهَا سَرَتْ إِلَيْهَا. فَمَطْلُوبُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَالصِّدِّيقِينَ، وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ هُوَ الْجَنَّةُ. وَمَهْرَبُهُمْ مِنَ النَّارِ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. وَمَقْصِدُ الْقَوْمِ أَنَّ الْعَبْدَ يَعْبُدُ رَبَّهُ بِحَقِّ الْعُبُودِيَّةِ. وَالْعَبْدُ إِذَا طَلَبَ مِنْ سَيِّدِهِ أُجْرَةً عَلَى خِدْمَتِهِ لَهُ كَانَ أَحْمَقَ، سَاقِطًا مِنْ عَيْنِ سَيِّدِهِ، إِنْ لَمْ يَسْتَوْجِبْ عُقُوبَتَهُ. إِذْ عُبُودِيَّتُهُ تَقْتَضِي خِدْمَتَهُ لَهُ. وَإِنَّمَا يَخْدِمُ بِالْأُجْرَةِ مَنْ لَا عُبُودِيَّةَ لِلْمَخْدُومِ عَلَيْهِ. إِمَّا أَنْ يَكُونَ حُرًّا فِي نَفْسِهِ، أَوْ عَبْدًا لِغَيْرِهِ. وَأَمَّا مَنِ الْخَلْقُ عَبِيدُهُ حَقًّا، وَمِلْكُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، لَيْسَ فِيهِمْ حُرٌّ وَلَا عَبْدٌ لِغَيْرِهِ فَخِدْمَتُهُمْ لَهُ بِحَقِّ الْعُبُودِيَّةِ، فَاقْتِضَاؤُهُمْ لِلْأُجْرَةِ خُرُوجٌ عَنْ مَحْضِ الْعُبُودِيَّةِ. وَهَذَا لَا يُنْكَرُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَلَا يُقْبَلُ عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَهُوَ مَوْضِعُ تَفْصِيلٍ وَتَمْيِيزٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ ذِكْرُ طُرُقِ الْخَلْقِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَبَيَّنَّا طَرِيقَ أَهْلِ الِاسْتِقَامَةِ. فَالنَّاسُ فِي هَذَا الْمَقَامِ طُرُقُ الْخَلْقِ وَأَصْنَافُهُمْ مَعَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: أَحَدُهُمْ: مَنْ لَا يُرِيدُ رَبَّهُ وَلَا يُرِيدُ ثَوَابَهُ. فَهَؤُلَاءِ أَعْدَاؤُهُ حَقًّا. وَهُمْ أَهْلُ الْعَذَابِ الدَّائِمِ. وَعَدَمُ إِرَادَتِهِمْ لِثَوَابِهِ إِمَّا لِعَدَمِ تَصْدِيقِهِمْ بِهِ، وَإِمَّا لِإِيثَارِ الْعَاجِلِ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ فِيهِ سَخَطُهُ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَنْ يُرِيدُهُ وَيُرِيدُ ثَوَابَهُ، وَهَؤُلَاءِ خَوَاصُّ خَلْقِهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} فَهَذَا خِطَابُهُ لِخَيْرِ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ، أَزْوَاجِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا}، فَأَخْبَرَ أَنَّ السَّعْيَ الْمَشْكُورَ: سَعْيُ مَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ. وَأَصْرَحُ مِنْهَا قَوْلُهُ: لِخَوَاصِّ أَوْلِيَائِهِ- وَهُمْ أَصْحَابُ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِيَ عَنْهُمْ- فِي يَوْمِ أُحُدٍ: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} فَقَسَمَهُمْ إِلَى هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ اللَّذَيْنِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا. وَقَدْ غَلِطَ مَنْ قَالَ: فَأَيْنَ مَنْ يُرِيدُ اللَّهَ؟ فَإِنَّ إِرَادَةَ الْآخِرَةِ عِبَارَةٌ عَنْ إِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَثَوَابِهِ. فَإِرَادَةُ الثَّوَابِ لَا تُنَافِي إِرَادَةَ اللَّهِ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَنْ يُرِيدُ مِنَ اللَّهِ، وَلَا يُرِيدُ اللَّهَ. فَهَذَا نَاقِصٌ غَايَةَ النَّقْصِ. وَهُوَ حَالُ الْجَاهِلِ بِرَبِّهِ، الَّذِي سَمِعَ: أَنَّ ثَمَّ جَنَّةً وَنَارًا. فَلَيْسَ فِي قَلْبِهِ غَيْرُ إِرَادَةِ نَعِيمِ الْجَنَّةِ الْمَخْلُوقِ، لَا يَخْطُرُ بِبَالِهِ سِوَاهُ الْبَتَّةَ. بَلْ هَذَا حَالُ أَكْثَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ، الْمُنْكِرِينَ رُؤْيَةَ اللَّهِ تَعَالَى، وَالتَّلَذُّذَ بِالنَّظَرِ إِلَى وَجْهِهِ فِي الْآخِرَةِ، وَسَمَاعَ كَلَامِهِ وَحُبَّهُ. وَالْمُنْكِرِينَ عَلَى مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ. وَهُمْ عَبِيدُ الْأُجْرَةِ الْمَحْضَةِ. فَهَؤُلَاءِ لَا يُرِيدُونَ اللَّهَ تَعَالَى. وَمِنْهُمْ مَنْ يُصَرِّحُ بِأَنَّ إِرَادَةَ اللَّهِ مُحَالٌ. قَالُوا: لِأَنَّ الْإِرَادَةَ إِنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِالْحَادِثِ. فَالْقَدِيمُ لَا يُرَادُ. فَهَؤُلَاءِ مُنْكِرُونَ لِإِرَادَةِ اللَّهِ غَايَةَ الْإِنْكَارِ. وَأَعْلَى الْإِرَادَةِ عِنْدَهُمْ: إِرَادَةُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَالنِّكَاحِ وَاللِّبَاسِ فِي الْجَنَّةِ، وَتَوَابِعِ ذَلِكَ. فَهَؤُلَاءِ فِي شِقٍّ، وَأُولَئِكَ- الَّذِينَ قَالُوا: لَمْ نَعْبُدْهُ طَلَبًا لِجَنَّتِهِ، وَلَا هَرَبًا مِنْ نَارِهِ- فِي شِقٍّ. وَهُمَا طَرَفَا نَقِيضٍ. بَيْنَهُمَا أَعْظَمُ مِنْ بُعْدِ الْمَشْرِقَيْنِ. وَهَؤُلَاءِ مِنْ أَكْثَفِ النَّاسِ حِجَابًا، وَأَغْلَظِهِمْ طِبَاعًا، وَأَقْسَاهُمْ قُلُوبًا، وَأَبْعَدِهِمْ عَنْ رُوحِ الْمَحَبَّةِ وَالتَّأَلُّهِ، وَنَعِيمِ الْأَرْوَاحِ وَالْقُلُوبِ. وَهُمْ يُكَفِّرُونَ أَصْحَابَ الْمَحَبَّةِ وَالشَّوْقِ إِلَى اللَّهِ وَالتَّلَذُّذِ بِحُبِّهِ، وَالتَّصْدِيقِ بِلَذَّةِ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِهِ، وَسَمَاعِ كَلَامِهِ مِنْهُ بِلَا وَاسِطَةٍ. وَأُولَئِكَ لَا يَعُدُّونَهُمْ مِنَ الْبَشَرِ إِلَّا بِالصُّورَةِ. وَمَرْتَبَتُهُمْ عِنْدَهُمْ قَرِيبَةٌ مِنْ مَرْتَبَةِ الْجَمَادِ وَالْحَيَوَانِ الْبَهِيمِ. وَهُمْ عِنْدَهُمْ فِي حِجَابٍ كَثِيفٍ عَنْ مَعْرِفَةِ نُفُوسِهِمْ وَكَمَالِهَا، وَمَعْرِفَةِ مَعْبُودِهِمْ وَسِرِّ عُبُودِيَّتِهِ. وَحَالُ الطَّائِفَتَيْنِ عَجَبٌ لِمَنِ اطَّلَعَ عَلَيْهِ. وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ- وَهُوَ مُحَالٌ-: أَنْ يُرِيدَ اللَّهَ، وَلَا يُرِيدَ مِنْهُ. فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَزْعُمُ هَؤُلَاءِ أَنَّهُ مَطْلُوبُهُمْ، وَأَنَّ مَنْ لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ فَفِي سَيْرِهِ عِلَّةٌ، وَأَنَّ الْعَارِفَ يَنْتَهِي إِلَى هَذَا الْمَقَامِ. وَهُوَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ مُرَادَهُ، وَلَا يُرِيدُ مِنْهُ شَيْئًا. كَمَا يُحْكَى عَنْ أَبِي يَزِيدَ أَنَّهُ قَالَ: قِيلَ لِي: مَا تُرِيدُ؟ فَقُلْتُ: أُرِيدُ أَنْ لَا أُرِيدَ. وَهَذَا فِي التَّحْقِيقِ عَيْنُ الْمُحَالِ الْمُمْتَنِعِ: عَقْلًا وَفِطْرَةً، وَحِسًّا وَشَرْعًا. فَإِنَّ الْإِرَادَةَ مِنْ لَوَازِمِ الْحَيِّ. وَإِنَّمَا يَعْرِضُ لَهُ التَّجَرُّدُ عَنْهَا بِالْغَيْبَةِ عَنْ عَقْلِهِ وَحِسِّهِ؛ كَالسُّكْرِ وَالْإِغْمَاءِ وَالنَّوْمِ. فَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ التَّجْرِيدَ عَنْ إِرَادَةِ مَا سِوَاهُ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي تُزَاحِمُ إِرَادَتُهَا إِرَادَتَهُ. أَفَلَيْسَ صَاحِبُ هَذَا الْمَقَامِ مُرِيدًا لِقُرْبِهِ وَرِضَاهُ، وَدَوَامِ مُرَاقَبَتِهِ، وَالْحُضُورِ مَعَهُ؟ وَأَيُّ إِرَادَةٍ فَوْقَ هَذِهِ؟ نَعَمْ. قَدْ زَهِدَ فِي مُرَادٍ لِمُرَادٍ هُوَ أَجَلُّ مِنْهُ وَأَعْلَى. فَلَمْ يَخْرُجْ عَنِ الْإِرَادَةِ. وَإِنَّمَا انْتَقَلَ مِنْ إِرَادَةٍ إِلَى إِرَادَةٍ، وَمِنْ مُرَادٍ إِلَى مُرَادٍ. وَأَمَّا خُلُوُّهُ عَنْ صِفَةِ الْإِرَادَةِ بِالْكُلِّيَّةِ، مَعَ حُضُورِ عَقْلِهِ وَحِسِّهِ فَمُحَالٌ. وَإِنْ حَاكَمَنَا فِي ذَلِكَ مُحَاكِمٌ إِلَى ذَوْقٍ مُصْطَلِمٍ مَأْخُوذٍ عَنْ نَفْسِهِ، فَانٍ عَنْ عَوَالِمِهَا: لَمْ نُنْكِرْ ذَلِكَ، لَكِنَّ هَذِهِ حَالٌ عَارِضَةٌ غَيْرُ دَائِمَةٍ، وَلَا هِيَ غَايَةٌ مَطْلُوبَةٌ لِلسَّالِكِينَ، وَلَا مَقْدُورَةٌ لِلْبَشَرِ، وَلَا مَأْمُورٌ بِهَا، وَلَا هِيَ أَعْلَى الْمَقَامَاتِ. فَيُؤْمَرُ بِاكْتِسَابِ أَسْبَابِهَا. فَهَذَا فَصْلُ الْخِطَابِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: وَلَا مُشَاهِدًا لِأَحَدٍ. فَيَكُونُ مُتَزَيِّنًا بِالْمُرَاءَاةِ. هَذَا فِيهِ تَفْصِيلٌ أَيْضًا. وَهُوَ أَنَّ الْمُشَاهَدَةَ فِي الْعَمَلِ لِغَيْرِ اللَّهِ نَوْعَانِ. مُشَاهَدَةٌ تَبْعَثُ عَلَيْهِ، أَوْ تُقَوِّي بَاعِثَهُ. فَهَذِهِ مُرَاءَاةٌ خَالِصَةٌ أَوْ مَشُوبَةٌ. كَمَا أَنَّ الْمُشَاهَدَةَ الْقَاطِعَةَ عَنْهُ أَيْضًا مِنَ الْآفَاتِ وَالْحُجُبِ. وَمُشَاهَدَةٌ لَا تَبْعَثُ عَلَيْهِ وَلَا تُعِينُ الْبَاعِثَ. بَلْ لَا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ وُجُودِهَا وَعَدَمِهَا. فَهَذِهِ لَا تُدْخِلُهُ فِي التَّزَيُّنِ بِالْمُرَاءَاةِ. وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ فِي هَذِهِ الْمُشَاهَدَةِ: إِمَّا حِفْظًا وَرِعَايَةً، كَمُشَاهَدَةِ مَرِيضٍ، أَوْ مُشْرِفٍ عَلَى هَلَكَةٍ يَخَافُ وُقُوعَهُ فِيهَا. أَوْ مُشَاهَدَةِ عَدُوٍّ يَخَافُ هُجُومَهُ كَصَلَاةِ الْخَوْفِ عِنْدَ الْمُوَاجَهَةِ. أَوْ مُشَاهَدَةُ نَاظِرٍ إِلَيْكَ يُرِيدُ أَنْ يَتَعَلَّمَ مِنْكَ، فَتَكُونُ مُحْسِنًا إِلَيْهِ بِالتَّعْلِيمِ، وَإِلَى نَفْسِكَ بِالْإِخْلَاصِ. أَوْ قَصْدًا مِنْكَ لِلِاقْتِدَاءِ، وَتَعْرِيفِ الْجَاهِلِ. فَهَذَا رِيَاءٌ مَحْمُودٌ. وَاللَّهُ عِنْدَ نِيَّةِ الْقَلْبِ وَقَصْدِهِ. فَالرِّيَاءُ الْمَذْمُومُ أَنْ يَكُونَ الْبَاعِثُ قَصْدَ التَّعْظِيمِ وَالْمَدْحِ، وَالرَّغْبَةَ فِيمَا عِنْدَ مَنْ تُرَائِيهِ، أَوِ الرَّهْبَةَ مِنْهُ، وَأَمَّا مَا ذَكَرْنَاهُ- مِنْ قَصْدِ رِعَايَتِهِ، أَوْ تَعْلِيمِهِ، أَوْ إِظْهَارِ السُّنَّةِ، وَمُلَاحَظَةِ هُجُومِ الْعَدُوِّ، وَنَحْوِ ذَلِكَ- فَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْمَشَاهِدِ رِيَاءٌ، بَلْ قَدْ يَتَصَدَّقُ الْعَبْدُ رِيَاءً مَثَلًا، وَتَكُونُ صَدَقَتُهُ فَوْقَ صَدَقَةِ صَاحِبِ السِّرِّ. مِثَالُ ذَلِكَ: رَجُلٌ مَضْرُورٌ، سَأَلَ قَوْمًا مَا هُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ. فَعَلِمَ رَجُلٌ مِنْهُمْ أَنَّهُ إِنْ أَعْطَاهُ سِرًّا، حَيْثُ لَا يَرَاهُ أَحَدٌ لَمْ يَقْتَدِ بِهِ أَحَدٌ. وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ سِوَى تِلْكَ الْعَطِيَّةِ، وَأَنَّهُ إِنْ أَعْطَاهُ جَهْرًا اقْتُدِيَ بِهِ وَاتُّبِعَ، وَأَنِفَ الْحَاضِرُونَ مِنْ تَفَرُّدِهِ عَنْهُمْ بِالْعَطِيَّةِ. فَجَهَرَ لَهُ بِالْعَطَاءِ. وَكَانَ الْبَاعِثُ لَهُ عَلَى الْجَهْرِ إِرَادَةَ سَعَةِ الْعَطَاءِ عَلَيْهِ مِنَ الْحَاضِرِينَ. فَهَذِهِ مُرَاءَاةٌ مَحْمُودَةٌ؛ حَيْثُ لَمْ يَكُنِ الْبَاعِثُ عَلَيْهَا قَصْدَ التَّعْظِيمِ وَالثَّنَاءِ. وَصَاحِبُهَا جَدِيرٌ بِأَنْ يَحْصُلَ لَهُ مِثْلُ أُجُورِ أُولَئِكَ الْمُعْطِينَ. قَوْلُهُ: فَإِنَّ هَذِهِ الْأَوْصَافَ كُلَّهَا مِنْ شُعَبِ عِبَادَةِ النَّفْسِ. يَعْنِي أَنَّ الْخَائِفَ يَشْتَغِلُ بِحِفْظِ نَفْسِهِ مِنَ الْعَذَابِ. فَفِيهِ عِبَادَةٌ لِنَفْسِهِ؛ إِذْ هُوَ مُتَوَجِّهٌ إِلَيْهَا. وَطَالِبُ الْمَثُوبَةَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى طَلَبِ حَظِّ نَفْسِهِ. وَذَلِكَ شُعْبَةٌ مِنْ عُبُودِيَّتِهَا وَالْمُشَاهِدُ لِلنَّاسِ فِي عِبَادَتِهِ: فِيهِ شُعْبَةٌ مِنْ عُبُودِيَّةِ نَفْسِهِ، إِذْ هُوَ طَالِبٌ لِتَعْظِيمِهِمْ، وَثَنَائِهِمْ وَمَدْحِهِمْ. فَهَذِهِ شُعَبٌ مِنْ شُعَبِ عُبُودِيَّةِ النَّفْسِ. وَالْأَصْلُ الَّذِي هَذِهِ الشُّعَبُ فُرُوعُهُ هِيَ النَّفْسُ. فَإِذَا مَاتَتْ بِالْمُجَاهَدَةِ، وَالْإِقْبَالِ عَلَى اللَّهِ، وَالِاشْتِغَالِ بِهِ، وَدَوَامِ الْمُرَاقَبَةِ لَهُ مَاتَتْ هَذِهِ الشُّعَبُ. فَلَا جَرَمَ أَنَّ بِنَاءَ أَمْرِ هَذِهِ الطَّائِفَةِ عَلَى تَرْكِ عِبَادَةِ النَّفْسِ. وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الْخَوْفَ وَطَلَبَ الثَّوَابِ لَيْسَ مِنْ عِبَادَةِ النَّفْسِ فِي شَيْءٍ. نَعَمْ، التَّزَيُّنُ بِالْمُرَاءَاةِ عَيْنُ عِبَادَةِ النَّفْسِ. وَالْكَلَامُ فِي أَمْرٍ أَرْفَعُ مِنْ هَذَا. فَإِنَّ حَالَ الْمُرَائِي أَخَسُّ، وَنَفْسُهُ أَسْقَطُ، وَهِمَّتُهُ أَدْنَى مِنْ أَنْ يَدْخُلَ فِي شَأْنِ الصَّادِقِينَ وَيُذْكَرَ مَعَ الصَّالِحِينَ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ ": الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: إِجْرَاءُ الْخَبَرِ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ دَرَجَاتِ حُرُمَاتِ اللَّهِ. وَهُوَ أَنْ تَبْقَى أَعْلَامُ تَوْحِيدِ الْعَامَّةِ الْخَبَرِيَّةِ عَلَى ظَوَاهِرِهَا. وَلَا يَتَحَمَّلُ الْبَحْثُ عَنْهَا تَعَسُّفًا. وَلَا يَتَكَلَّفُ لَهَا تَأْوِيلًا. وَلَا يَتَجَاوَزُ ظَوَاهِرَهَا تَمْثِيلًا. وَلَا يَدَّعِي عَلَيْهَا إِدْرَاكًا أَوْ تَوَهُّمًا. يُشِيرُ الشَّيْخُ- رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَدَّسَ رُوحَهُ- بِذَلِكَ إِلَى أَنَّ حِفْظَ حُرْمَةِ نُصُوصِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ بِإِجْرَاءِ أَخْبَارِهَا عَلَى ظَوَاهِرِهَا. وَهُوَ اعْتِقَادُ مَفْهُومِهَا الْمُتَبَادِرِ إِلَى أَذْهَانِ الْعَامَّةِ. وَلَا يَعْنِي بِالْعَامَّةِ الْجُهَّالَ، بَلْ عَامَّةَ الْأُمَّةِ، كَمَاقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ- وَقَدْ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كَيْفَ اسْتَوَى؟ فَأَطْرَقَ مَالِكٌ، حَتَّى عَلَاهُ الرُّحَضَاءُ، ثُمَّ قَالَ: الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ، وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ، وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ. فَفَرَّقَ بَيْنَ الْمَعْنَى الْمَعْلُومِ مِنْ هَذِهِ اللَّفْظَةِ، وَبَيْنَ الْكَيْفِ الَّذِي لَا يَعْقِلُهُ الْبَشَرُ. وَهَذَا الْجَوَابُ مِنْ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شَافٍ، عَامٌّ فِي جَمِيعِ مَسَائِلِ الصِّفَاتِ. فَمَنْ سَأَلَ عَنْ قَوْلِهِ: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} كَيْفَ يَسْمَعُ وَيَرَى؟ أُجِيبَ بِهَذَا الْجَوَابِ بِعَيْنِهِ. فَقِيلَ لَهُ: السَّمْعُ وَالْبَصَرُ مَعْلُومٌ. وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ. وَكَذَلِكَ مَنْ سَأَلَ عَنِ الْعِلْمِ، وَالْحَيَاةِ، وَالْقُدْرَةِ، وَالْإِرَادَةِ، وَالنُّزُولِ، وَالْغَضَبِ، وَالرِّضَا، وَالرَّحْمَةِ، وَالضَّحِكِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَمَعَانِيهَا كُلُّهَا مَفْهُومَةٌ. وَأَمَّا كَيْفِيَّتُهَا فَغَيْرُ مَعْقُولَةٍ؛ إِذْ تَعَقُّلُ الْكَيْفِيَّةِ فَرْعُ الْعِلْمِ بِكَيْفِيَّةِ الذَّاتِ وَكُنْهِهَا. فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ غَيْرَ مَعْقُولٍ لِلْبَشَرِ، فَكَيْفَ يُعْقَلُ لَهُمْ كَيْفِيَّةُ الصِّفَاتِ؟ وَالْعِصْمَةُ النَّافِعَةُ فِي هَذَا الْبَابِ: أَنْ يُوصَفَ اللَّهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ. وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ، وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ. بَلْ تُثْبَتُ لَهُ الْأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ، وَتُنْفَى عَنْهُ مُشَابَهَةُ الْمَخْلُوقَاتِ. فَيَكُونُ إِثْبَاتُكَ مُنَزَّهًا عَنِ التَّشْبِيهِ. وَنَفْيُكَ مُنَزَّهًا عَنِ التَّعْطِيلِ. فَمَنْ نَفَى حَقِيقَةَ الِاسْتِوَاءِ فَهُوَ مُعَطِّلٌ. وَمَنْ شَبَّهَهُ بِاسْتِوَاءِ الْمَخْلُوقِ عَلَى الْمَخْلُوقِ فَهُوَ مُمَثِّلٌ. وَمَنْ قَالَ: اسْتِوَاءٌ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ. فَهُوَ الْمُوَحِّدُ الْمُنَزِّهُ. وَهَكَذَا الْكَلَامُ فِي السَّمْعِ، وَالْبَصَرِ، وَالْحَيَاةِ، وَالْإِرَادَةِ، وَالْقُدْرَةِ، وَالْيَدِ، وَالْوَجْهِ، وَالرِّضَا، وَالْغَضَبِ، وَالنُّزُولِ وَالضَّحِكِ، وَسَائِرِ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ. وَالْمُنْحَرِفُونَ فِي هَذَا الْبَابِ قَدْ أَشَارَ الشَّيْخُ إِلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: لَا يَتَحَمَّلُ الْبَحْثُ عَنْهَا تَعَسُّفًا؛ أَيْ لَا يَتَكَلَّفُ التَّعَسُّفَ عَنِ الْبَحْثِ عَنْ كَيْفِيَّاتِهَا. وَالتَّعَسُّفُ سُلُوكُ غَيْرِ الطَّرِيقِ. يُقَالُ: رَكِبَ فُلَانٌ التَّعَاسِيفَ فِي سَيْرِهِ. إِذَا كَانَ يَسِيرُ يَمِينًا وَشِمَالًا، جَائِرًا عَنِ الطَّرِيقِ. وَلَا يَتَكَلَّفُ لَهَا تَأْوِيلًا. أَرَادَ بِالتَّأْوِيلِ هَاهُنَا التَّأْوِيلَ الِاصْطِلَاحِيَّ. وَهُوَ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ وَعَنِ الْمَعْنَى الرَّاجِحِ إِلَى الْمَعْنَى الْمَرْجُوحِ. وَقَدْ حَكَى غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِجْمَاعَ السَّلَفِ عَلَى تَرْكِهِ. وَمِمَّنْ حَكَاهُ الْبَغَوِيُّ، وَ أَبُو الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيُّ فِي رِسَالَتِهِ النِّظَامِيَّةِ، بِخِلَافِ مَا سَلَكَهُ فِي شَامِلِهِ وَإِرْشَادِهِ وَمِمَّنْ حَكَاهُ سَعْدُ بْنُ عَلِيٍّ الزَّنْجَانِيُّ. وَقَبْلَ هَؤُلَاءِ خَلَائِقُ مِنَ الْعُلَمَاءِ لَا يُحْصِيهِمْ إِلَّا اللَّهُ. وَلَا يَتَجَاوَزُ ظَاهِرَهَا تَمْثِيلًا. أَيْ لَا يُمَثِّلُهَا بِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ. وَفِي قَوْلِهِ: لَا يَتَجَاوَزُ ظَاهِرَهَا، إِشَارَةٌ لَطِيفَةٌ. وَهِيَ أَنَّ ظَوَاهِرَهَا لَا تَقْتَضِي التَّمْثِيلَ، كَمَا تَظُنُّهُ الْمُعَطِّلَةُ النُّفَاةُ، وَأَنَّ التَّمْثِيلَ تَجَاوُزٌ لِظَوَاهِرِهَا إِلَى مَا لَا تَقْتَضِيهِ، كَمَا أَنَّ تَأْوِيلَهَا تَكَلُّفٌ، وَحَمْلٌ لَهَا عَلَى مَا لَا تَقْتَضِيهِ. فَهِيَ لَا تَقْتَضِي ظَوَاهِرُهَا تَمْثِيلًا، وَلَا تَحْتَمِلُ تَأْوِيلًا، بَلْ إِجْرَاءً عَلَى ظَوَاهِرِهَا بِلَا تَأْوِيلٍ وَلَا تَمْثِيلٍ. فَهَذِهِ طَرِيقَةُ السَّالِكِينَ بِهَا سَوَاءَ السَّبِيلِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَا يَدَّعِي عَلَيْهَا إِدْرَاكًا؛ أَيْ لَا يَدَّعِي عَلَيْهَا اسْتِدْرَاكًا وَلَا فَهْمًا، وَلَا مَعْنًى غَيْرَ فَهْمِ الْعَامَّةِ، كَمَا يَدَّعِيهِ أَرْبَابُ الْكَلَامِ الْبَاطِلِ، الْمَذْمُومِ بِإِجْمَاعِ السَّلَفِ. وَقَوْلُهُ: وَلَا تَوَهُّمًا؛ أَيْ لَا يَعْدِلُ عَنْ ظَوَاهِرِهَا إِلَى التَّوَهُّمِ. وَالتَّوَهُّمُ نَوْعَانِ: تَوَهُّمُ كَيْفِيَّةٍ. لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ ظَوَاهِرُهَا، أَوْ تَوَهُّمُ مَعْنًى غَيْرَ مَا تَقْتَضِيهِ ظَوَاهِرُهَا. وَكِلَاهُمَا تَوَهُّمٌ بَاطِلٌ. وَهُمَا تَوَهُّمُ تَشْبِيهٍ وَتَمْثِيلٍ، أَوْ تَحْرِيفٍ وَتَعْطِيلٍ. وَهَذَا الْكَلَامُ مِنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ يُبَيِّنُ مَرْتَبَتَهُ مِنَ السُّنَّةِ، وَمِقْدَارَهُ فِي الْعِلْمِ، وَأَنَّهُ بَرِيءٌ مِمَّا رَمَاهُ بِهِ أَعْدَاؤُهُ الْجَهْمِيَّةُ مِنَ التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ، عَلَى عَادَتِهِمْ فِي رَمْيِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ بِذَلِكَ، كَرَمْيِ الرَّافِضَةِ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ نَوَاصِبُ، وَالْمُعْتَزِلَةِ بِأَنَّهُمْ نَوَابِتُ حَشَوِيَّةٌ. وَذَلِكَ مِيرَاثٌ مِنْ أَعْدَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمْيِهِ وَرَمْيِ أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ صَبَأَةٌ. قَدِ ابْتَدَعُوا دِينًا مُحْدَثًا. وَمِيرَاثٌ لِأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ مِنْ نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. بِتَلْقِيبِ أَهْلِ الْبَاطِلِ لَهُمْ بِالْأَلْقَابِ الْمَذْمُومَةِ. وَقَدَّسَ اللَّهُ رُوحَ الشَّافِعِيِّ حَيْثُ يَقُولُ، وَقَدْ نُسِبَ إِلَى الرَّفْضِ: إِنْ كَانَ رَفْضًا حُبُّ آلِ مُحَمَّدٍ *** فَلْيَشْهَدِ الثَّقَلَانِ أَنِّي رَافِضِي وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْ شَيْخِنَا أَبِي الْعَبَّاسِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ، حَيْثُ يَقُولُ: إِنْ كَانَ نَصْبًا حُبُّ صَحْبِ مُحَمَّدٍ *** فَلْيَشْهَدِ الثَّقَلَانِ أَنِّي نَاصِبِي وَعَفَا اللَّهُ عَنِ الثَّالِثِ، حَيْثُ يَقُولُ: فَإِنْ كَانَ تَجْسِيمًا ثُبُوتُ صِفَاتِهِ *** وَتَنْزِيهُهَا عَنْ كُلِّ تَأْوِيلِ مُفْتَرِي فَإِنِّي بِحَمْدِ اللَّهِ رَبِّي مُجَسِّمٌ *** هَلُمُّوا شُهُودًا وَامْلَئُوا كُلَّ مَحْضَرِ
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: صِيَانَةُ الِانْبِسَاطِ أَنْ تَشُوبَهُ جُرْأَةٌ مِنْ دَرَجَاتِ حُرُمَاتِ اللَّهِ. وَصِيَانَةُ السُّرُورِ أَنْ يُدَاخِلَهُ أَمْنٌ. وَصِيَانَةُ الشُّهُودِ أَنْ يُعَارِضَهُ سَبَبٌ. لَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الدَّرَجَةُ عِنْدَهُ مُخْتَصَّةً بِأَهْلِ الْمُشَاهَدَةِ- وَالْغَالِبُ عَلَيْهِمُ الِانْبِسَاطُ وَالسُّرُورُ- فَإِنَّ صَاحِبَهَا مُتَعَلِّقٌ بِاسْمِهِ الْبَاسِطِ، حَذَّرَهُ مِنْ شَائِبَةِ الْجُرْأَةِ. وَهِيَ مَا يُخْرِجُهُ عَنْ أَدَبِ الْعُبُودِيَّةِ، وَيُدْخِلُهُ فِي الشَّطْحِ. كَشَطْحِ مَنْ قَالَ: سُبْحَانِي، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الشَّطَحَاتِ الْمَعْرُوفَةِ الْمُخْرِجَةِ عَنْ أَدَبِ الْعُبُودِيَّةِ الَّتِي نِهَايَةُ صَاحِبِهَا أَنْ يُعْذَرَ بِزَوَالِ عَقْلِهِ، وَغَلَبَةِ سُكْرِ الْحَالِ عَلَيْهِ. فَلَا بُدَّ مِنْ مُقَارَنَةِ التَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ، لِبَسْطِ الْمُشَاهَدَةِ، وَإِلَّا وَقَعَ فِي الْجُرْأَةِ وَلَا بُدَّ. فَالْمُرَاقَبَةُ تَصُونُهُ عَنْ ذَلِكَ. قَوْلُهُ: وَصِيَانَةُ السُّرُورِ أَنْ يُدَاخِلَهُ أَمْنٌ. يَعْنِي أَنَّ صَاحِبَ الِانْبِسَاطِ وَالْمُشَاهَدَةِ يُدَاخِلُهُ سُرُورٌ لَا يُشْبِهُهُ سُرُورٌ الْبَتَّةَ. فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَأْمَنَ فِي هَذَا الْحَالِ الْمَكْرَ، بَلْ يَصُونُ سُرُورَهُ وَفَرَحَهُ عَنْ خَطْفَاتِ الْمَكْرِ بِخَوْفِ الْعَاقِبَةِ، الْمَطْوِيِّ عَنْهُ عِلْمُ غَيْبِهَا. وَلَا يَغْتَرَّ. وَأَمَّا صِيَانَةُ الشُّهُودِ أَنْ يُعَارِضَهُ سَبَبٌ، فَيُرِيدُ أَنَّ صَاحِبَ الشُّهُودِ قَدْ يَكُونُ ضَعِيفًا فِي شُهُودِ حَقِيقَةِ التَّوْحِيدِ. فَيَتَوَهَّمُ أَنَّهُ قَدْ حَصَلَ لَهُ مَا حَصَلَ بِسَبَبِ الِاجْتِهَادِ التَّامِّ، وَالْعِبَادَةِ الْخَالِصَةِ. فَيُنْسَبُ حُصُولُ مَا حَصَلَ لَهُ مِنَ الشُّهُودِ إِلَى سَبَبٍ مِنْهُ. وَذَلِكَ نَقْصٌ فِي تَوْحِيدِهِ وَمَعْرِفَتِهِ؛ لِأَنَّ الشُّهُودَ لَا يَكُونُ إِلَّا مَوْهِبَةً، لَيْسَ هُوَ كَسْبِيًّا. وَلَوْ كَانَ كَسْبِيًّا فَشُهُودُ سَبَبِهِ نَقْصٌ فِي التَّوْحِيدِ، وَغَيْبَةٌ عَنْ شُهُودِ الْحَقِيقَةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالسَّبَبِ الْمُعَارِضِ لِلشُّهُودِ وُرُودَ خَاطِرٍ عَلَى الشَّاهِدِ، يُكَدِّرُ عَلَيْهِ صَفْوَ شُهُودِهِ. فَيَصُونُهُ عَنْ وُرُودِ سَبَبٍ يُعَارِضُهُ إِمَّا مُعَارِضُ إِرَادَةٍ، أَوْ مُعَارِضُ شُبْهَةٍ. وَقَدْ يَعُمُّ كَلَامُهُ الْأَمْرَيْنِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
وَمِنْ مَنَازِلِ:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} مَنْزِلَةُ الْإِخْلَاصِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}. وَقَالَ: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}. وَقَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ}. وَقَالَ لَهُ: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}. وَقَالَ: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}. قَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: هُوَ أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ. قَالُوا: يَا أَبَا عَلِيٍّ، مَا أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ؟ فَقَالَ: إِنَّ الْعَمَلَ إِذَا كَانَ خَالِصًا، وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا. لَمْ يُقْبَلْ. وَإِذَا كَانَ صَوَابًا وَلَمْ يَكُنْ خَالِصًا: لَمْ يُقْبَلْ. حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا، وَالْخَالِصُ: أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ، وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ عَلَى السُّنَّةِ. ثُمَّ قَرَأَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}. وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ}. فَإِسْلَامُ الْوَجْهِ: إِخْلَاصُ الْقَصْدِ وَالْعَمَلِ لِلَّهِ. وَالْإِحْسَانُ فِيهِ: مُتَابَعَةُ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُنَّتِهِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا}. وَهِيَ الْأَعْمَالُ الَّتِي كَانَتْ عَلَى غَيْرِ السُّنَّةِ. أَوْ أُرِيدَ بِهَا غَيْرُ وَجْهِ اللَّهِ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِـ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ، فَتَعْمَلَ عَمَلًا تَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا ازْدَدْتَ بِهِ خَيْرًا، وَدَرَجَةً وَرِفْعَةً. وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ، وَمُنَاصَحَةُ وُلَاةِ الْأَمْرِ، وَلُزُومُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ. فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ؛ أَيْ لَا يَبْقَى فِيهِ غِلٌّ، وَلَا يَحْمِلُ الْغِلَّ مَعَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ. بَلْ تَنْفِي عَنْهُ غِلَّهُ. وَتُنَقِّيهِ مِنْهُ. وَتُخْرِجُهُ عَنْهُ. فَإِنَّ الْقَلْبَ يَغِلُّ عَلَى الشِّرْكِ أَعْظَمَ غِلٍّ. وَكَذَلِكَ يَغِلُّ عَلَى الْغِشِّ. وَعَلَى خُرُوجِهِ عَنْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ بِالْبِدْعَةِ وَالضَّلَالَةِ. فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ تَمْلَؤُهُ غِلًّا وَدَغَلًا. وَدَوَاءُ هَذَا الْغِلِّ، وَاسْتِخْرَاجُ أَخْلَاطِهِ بِتَجْرِيدِ الْإِخْلَاصِ وَالنُّصْحِ، وَمُتَابَعَةِ السُّنَّةِ. وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الرَّجُلِ يُقَاتِلُ رِيَاءً، وَيُقَاتِلُ شَجَاعَةً. وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً: أَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ: مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَأَخْبَرَ عَنْ أَوَّلِ ثَلَاثَةٍ تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ: قَارِئُ الْقُرْآنِ، وَالْمُجَاهِدُ، وَالْمُتَصَدِّقُ بِمَالِهِ، الَّذِينَ فَعَلُوا ذَلِكَ لِيُقَالَ: فُلَانٌ قَارِئٌ، فُلَانٌ شُجَاعٌ، فُلَانٌ مُتَصَدِّقٌ، وَلَمْ تَكُنْ أَعْمَالُهُمْ خَالِصَةً لِلَّهِ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْإِلَهِيِّ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ. مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي فَهُوَ لِلَّذِي أَشْرَكَ بِهِ. وَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ. وَفِي أَثَرٍ آخَرَ: يَقُولُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ اذْهَبْ فَخُذْ أَجْرَكَ مِمَّنْ عَمِلْتَ لَهُ. لَا أَجْرَ لَكَ عِنْدَنَا. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَامِكُمْ، وَلَا إِلَى صُوَرِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ. وَقَالَ تَعَالَى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ}. وَفِي أَثَرٍ مَرْوِيٍّ إِلَهِيٍّ: الْإِخْلَاصُ سِرٌّ مِنْ سِرِّي، اسْتَوْدَعْتُهُ قَلْبَ مَنْ أَحْبَبْتُهُ مِنْ عِبَادِي. وَقَدْ تَنَوَّعَتْ عِبَارَتُهُمْ فِي الْإِخْلَاصِ وَالصِّدْقِ الْأَقْوَالِ فِي بَيَانِ الْمَقْصُودِ مِنْهُمَا، وَالْقَصْدُ وَاحِدٌ. فَقِيلَ: هُوَ إِفْرَادُ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ بِالْقَصْدِ فِي الطَّاعَةِ. وَقِيلَ: تَصْفِيَةُ الْفِعْلِ عَنْ مُلَاحَظَةِ الْمَخْلُوقِينَ. وَقِيلَ: التَّوَقِّي مِنْ مُلَاحَظَةِ الْخَلْقِ حَتَّى عَنْ نَفْسِكَ. وَالصِّدْقُ التَّنَقِّي مِنْ مُطَالَعَةِ النَّفْسِ. فَالْمُخْلِصُ لَا رِيَاءَ لَهُ، وَالصَّادِقُ لَا إِعْجَابَ لَهُ. وَلَا يَتِمُّ الْإِخْلَاصُ إِلَّا بِالصِّدْقِ، وَلَا الصِّدْقُ إِلَّا بِالْإِخْلَاصِ. وَلَا يَتِمَّانِ إِلَّا بِالصَّبْرِ. وَقِيلَ: مَنْ شَهِدَ فِي إِخْلَاصِهِ الْإِخْلَاصَ، احْتَاجَ إِخْلَاصُهُ إِلَى إِخْلَاصٍ. فَنُقْصَانُ كُلِّ مُخْلِصٍ فِي إِخْلَاصِهِ: بِقَدْرِ رُؤْيَةِ إِخْلَاصِهِ. فَإِذَا سَقَطَ عَنْ نَفْسِهِ رُؤْيَةُ الْإِخْلَاصِ، صَارَ مُخْلِصًا مُخْلَصًا. وَقِيلَ: الْإِخْلَاصُ اسْتِوَاءُ أَعْمَالِ الْعَبْدِ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ. وَالرِّيَاءُ: أَنْ يَكُونَ ظَاهِرَهُ خَيْرًا مِنْ بَاطِنِهِ. وَالصِّدْقُ فِي الْإِخْلَاصِ: أَنْ يَكُونَ بَاطِنُهُ أَعْمَرَ مِنْ ظَاهِرِهِ. وَقِيلَ: الْإِخْلَاصُ نِسْيَانُ رُؤْيَةِ الْخَلْقِ بِدَوَامِ النَّظَرِ إِلَى الْخَالِقِ. وَمَنْ تَزَيَّنَ لِلنَّاسِ بِمَا لَيْسَ فِيهِ سَقَطَ مِنْ عَيْنِ اللَّهِ. وَمِنْ كَلَامِ الْفُضَيْلِ: تَرْكُ الْعَمَلِ مِنْ أَجْلِ النَّاسِ: رِيَاءٌ. وَالْعَمَلُ مِنْ أَجْلِ النَّاسِ: شِرْكٌ. وَالْإِخْلَاصُ: أَنْ يُعَافِيَكَ اللَّهُ مِنْهُمَا. قَالَ الْجُنَيْدُ: الْإِخْلَاصُ سِرٌّ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ الْعَبْدِ. لَا يَعْلَمُهُ مَلَكٌ فَيَكْتُبُهُ، وَلَا شَيْطَانٌ فَيُفْسِدُهُ. وَلَا هَوًى فَيُمِيلُهُ. وَقِيلَ لِسَهْلٍ: أَيُّ شَيْءٍ أَشَدُّ عَلَى النَّفْسِ؟ فَقَالَ: الْإِخْلَاصُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا فِيهِ نَصِيبٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْإِخْلَاصُ أَنْ لَا تَطْلُبَ عَلَى عَمَلِكَ شَاهِدًا غَيْرَ اللَّهِ، وَلَا مُجَازِيًا سِوَاهُ. وَقَالَ مَكْحُولٌ: مَا أَخْلَصَ عَبْدٌ قَطُّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا إِلَّا ظَهَرَتْ يَنَابِيعُ الْحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسَانِهِ. وَقَالَ يُوسُفُ بْنُ الْحُسَيْنِ: أَعَزُّ شَيْءٍ فِي الدُّنْيَا: الْإِخْلَاصُ. وَكَمْ أَجْتَهِدُ فِي إِسْقَاطِ الرِّيَاءِ عَنْ قَلْبِي. فَكَأَنَّهُ يَنْبُتُ عَلَى لَوْنٍ آخَرَ. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ: إِذَا أَخْلَصَ الْعَبْدُ انْقَطَعَتْ عَنْهُ كَثْرَةُ الْوَسَاوِسِ وَالرِّيَاءِ.
قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ ": الْإِخْلَاصُ: تَصْفِيَةُ الْعَمَلِ مِنْ كُلِّ شَوْبٍ. أَيْ لَا يُمَازِجُ عَمَلَهُ مَا يَشُوبُهُ مِنْ شَوَائِبَ إِرَادَاتُ النَّفْسِ إِمَّا طَلَبُ التَّزَيُّنِ فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ، وَإِمَّا طَلَبُ مَدْحِهِمْ، وَالْهَرَبُ مِنْ ذَمِّهِمْ، أَوْ طَلَبُ تَعْظِيمِهِمْ، أَوْ طَلَبُ أَمْوَالِهِمْ أَوْ خِدْمَتِهِمْ وَمَحَبَّتِهِمْ وَقَضَائِهِمْ حَوَائِجَهُ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعِلَلِ وَالشَّوَائِبِ، الَّتِي عَقْدُ مُتَفَرِّقَاتِهَا هُوَ إِرَادَةُ مَا سِوَى اللَّهِ بِعَمَلِهِ، كَائِنًا مَا كَانَ. قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ: الدَّرَجَةُ الْأُولَى: إِخْرَاجُ رُؤْيَةِ الْعَمَلِ عَنِ الْعَمَلِ مِنْ دَرَجَاتِ الْإِخْلَاصِ، وَالْخَلَاصُ مِنْ طَلَبِ الْعِوَضِ عَلَى الْعَمَلِ، وَالنُّزُولُ عَنِ الرِّضَا بِالْعَمَلِ. يَعْرِضُ لِلْعَامِلِ فِي عَمَلِهِ ثَلَاثُ آفَاتٍ: رُؤْيَتُهُ وَمُلَاحَظَتُهُ، وَطَلَبُ الْعِوَضِ عَلَيْهِ، وَرِضَاهُ بِهِ وَسُكُونُهُ إِلَيْهِ. فَفِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ يَتَخَلَّصُ مِنْ هَذِهِ الْبَلِيَّةِ. فَالَّذِي يُخَلِّصُهُ مِنْ رُؤْيَةِ عَمَلِهِ مُشَاهَدَتُهُ لِمِنَّةِ اللَّهِ عَلَيْهِ وَفَضْلِهِ وَتَوْفِيقِهِ لَهُ، وَأَنَّهُ بِاللَّهِ لَا بِنَفْسِهِ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا أَوْجَبَ عَمَلَهُ مَشِيئَةُ اللَّهِ لَا مَشِيئَتُهُ هُوَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}. فَهُنَا يَنْفَعُهُ شُهُودُ الْجَبْرِ، وَأَنَّهُ آلَةٌ مَحْضَةٌ، وَأَنَّ فِعْلَهُ كَحَرَكَاتِ الْأَشْجَارِ، وَهُبُوبِ الرِّيَاحِ، وَأَنَّ الْمُحَرِّكَ لَهُ غَيْرُهُ، وَالْفَاعِلُ فِيهِ سِوَاهُ، وَأَنَّهُ مَيِّتٌ- وَالْمَيِّتُ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا- وَأَنَّهُ لَوْ خُلِّيَ وَنَفْسَهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِهِ الصَّالِحِ شَيْءٌ الْبَتَّةَ. فَإِنَّ النَّفْسَ جَاهِلَةٌ ظَالِمَةٌ، طَبْعُهَا الْكَسَلُ، وَإِيثَارُ الشَّهَوَاتِ وَالْبَطَالَةِ. وَهِيَ مَنْبَعُ كُلِّ شَرٍّ، وَمَأْوَى كُلِّ سُوءٍ. وَمَا كَانَ هَكَذَا لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ خَيْرٌ، وَلَا هُوَ مِنْ شَأْنِهِ. فَالْخَيْرُ الَّذِي يَصْدُرُ مِنْهَا إِنَّمَا هُوَ مِنَ اللَّهِ وَبِهِ. لَا مِنَ الْعَبْدِ، وَلَا بِهِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ}، وَقَالَ أَهْلُ الْجَنَّةِ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا}، وَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا}. وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمُ} الْآيَةَ. فَكُلُّ خَيْرٍ فِي الْعَبْدِ فَهُوَ مُجَرَّدُ فَضْلِ اللَّهِ وَمِنَّتِهِ، وَإِحْسَانِهِ وَنِعْمَتِهِ. وَهُوَ الْمَحْمُودُ عَلَيْهِ. فَرُؤْيَةُ الْعَبْدِ لِأَعْمَالِهِ فِي الْحَقِيقَةِ، كَرُؤْيَتِهِ لِصِفَاتِهِ الْخِلْقِيَّةِ: مِنْ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ، وَإِدْرَاكِهِ وَقُوَّتِهِ، بَلْ مِنْ صِحَّتِهِ، وَسَلَامَةِ أَعْضَائِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَالْكُلُّ مُجَرَّدُ عَطَاءِ اللَّهِ وَنِعْمَتِهِ وَفَضْلِهِ. فَالَّذِي يُخَلِّصُ الْعَبْدَ مِنْ هَذِهِ الْآفَةِ: مَعْرِفَةُ رَبِّهِ، وَمَعْرِفَةُ نَفْسِهِ. وَالَّذِي يُخَلِّصُهُ مِنْ طَلَبِ الْعِوَضِ عَلَى الْعَمَلِ: عِلْمُهُ بِأَنَّهُ عَبْدٌ مَحْضٌ. وَالْعَبْدُ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَى خِدْمَتِهِ لِسَيِّدِهِ عِوَضًا وَلَا أُجْرَةً؛ إِذْ هُوَ يَخْدِمُهُ بِمُقْتَضَى عُبُودِيَّتِهِ. فَمَا يَنَالُهُ مِنْ سَيِّدِهِ مِنَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ تَفَضُّلٌ مِنْهُ، وَإِحْسَانٌ إِلَيْهِ، وَإِنْعَامٌ عَلَيْهِ، لَا مُعَارَضَةٌ؛ إِذِ الْأُجْرَةُ إِنَّمَا يَسْتَحِقُّهَا الْحُرُّ، أَوْ عَبْدُ الْغَيْرِ. فَأَمَّا عَبْدُ نَفْسِهِ فَلَا. وَالَّذِي يُخَلِّصُهُ مِنْ رِضَاهُ بِعَمَلِهِ وَسُكُونِهِ إِلَيْهِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: مُطَالَعَةُ عُيُوبِهِ وَآفَاتِهِ، وَتَقْصِيرِهِ فِيهِ، وَمَا فِيهِ مِنْ حَظِّ النَّفْسِ، وَنَصِيبِ الشَّيْطَانِ. فَقَلَّ عَمَلٌ مِنَ الْأَعْمَالِ إِلَّا وَلِلشَّيْطَانِ فِيهِ نَصِيبٌ، وَإِنْ قَلَّ. وَلِلنَّفْسِ فِيهِ حَظٌّ. سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْتِفَاتِ الرَّجُلِ فِي صَلَاتِهِ؟ فَقَالَ: هُوَ اخْتِلَاسٌ يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ صَلَاةِ الْعَبْدِ. فَإِذَا كَانَ هَذَا الْتِفَاتَ طَرْفِهِ أَوْ لَحْظِهِ؛ فَكَيْفَ الْتِفَاتُ قَلْبِهِ إِلَى مَا سِوَى اللَّهِ؟ هَذَا أَعْظَمُ نَصِيبِ الشَّيْطَانِ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ لِلشَّيْطَانِ حَظًّا مِنْ صَلَاتِهِ، يَرَى أَنَّ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ لَا يَنْصَرِفَ إِلَّا عَنْ يَمِينِهِ. فَجَعَلَ هَذَا الْقَدْرَ الْيَسِيرَ النَّزْرِ حَظًّا وَنَصِيبًا لِلشَّيْطَانِ مِنْ صَلَاةِ الْعَبْدِ. فَمَا الظَّنُّ بِمَا فَوْقَهُ؟ وَأَمَّا حَظُّ النَّفْسِ مِنَ الْعَمَلِ فَلَا يَعْرِفُهُ إِلَّا أَهْلُ الْبَصَائِرِ الصَّادِقُونَ. الثَّانِي: عِلْمُهُ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ الرَّبُّ جَلَّ جَلَالُهُ مِنْ حُقُوقِ الْعُبُودِيَّةِ، وَآدَابِهَا الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَشُرُوطِهَا، وَأَنَّ الْعَبْدَ أَضْعَفُ وَأَعْجَزُ وَأَقَلُّ مِنْ أَنْ يُوَفِّيَهَا حَقًّا، وَأَنْ يَرْضَى بِهَا لِرَبِّهِ. فَالْعَارِفُ لَا يَرْضَى بِشَيْءٍ مِنْ عَمَلِهِ لِرَبِّهِ، وَلَا يَرْضَى نَفْسَهُ لِلَّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ. وَيَسْتَحْيِي مِنْ مُقَابَلَةِ اللَّهِ بِعَمَلِهِ. فَسُوءُ ظَنِّهِ بِنَفْسِهِ وَعَمَلِهِ وَبُغْضُهُ لَهَا، وَكَرَاهَتُهُ لِأَنْفَاسِهِ وَصُعُودِهَا إِلَى اللَّهِ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرِّضَا بِعَمَلِهِ، وَالرِّضَا عَنْ نَفْسِهِ. وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفُ يُصَلِّي فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةَ أَرْبَعَمِائَةِ رَكْعَةٍ، ثُمَّ يَقْبِضُ عَلَى لِحْيَتِهِ وَيَهُزُّهَا. وَيَقُولُ لِنَفْسِهِ: يَا مَأْوَى كُلِّ سُوءٍ، وَهَلْ رَضِيتُكَ لِلَّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ؟ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: آفَةُ الْعَبْدِ رِضَاهُ عَنْ نَفْسِهِ. وَمَنْ نَظَرَ إِلَى نَفْسِهِ بِاسْتِحْسَانِ شَيْءٍ مِنْهَا فَقَدْ أَهْلَكَهَا. وَمَنْ لَمْ يَتَّهِمْ نَفْسَهُ عَلَى دَوَامِ الْأَوْقَاتِ فَهُوَ مَغْرُورٌ.
قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ ": الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: الْخَجَلُ مِنَ الْعَمَلِ مَعَ بَذْلِ الْمَجْهُودِ مِنْ دَرَجَاتِ الْإِخْلَاصِ، وَتَوْفِيرِ الْجُهْدِ بِالِاحْتِمَاءِ مِنَ الشُّهُودِ، وَرُؤْيَةِ الْعَمَلِ فِي نُورِ التَّوْفِيقِ مِنْ عَيْنِ الْجُودِ. هَذِهِ ثَلَاثَةُ أُمُورِ " خَجَلُهُ " مِنْ عَمَلِهِ، وَهُوَ شِدَّةُ حَيَائِهِ مِنَ اللَّهِ؛ إِذْ لَمْ يَرَ ذَلِكَ الْعَمَلَ صَالِحًا لَهُ، مَعَ بَذْلِ مَجْهُودِهِ فِيهِ. قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ}. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هُوَ الرَّجُلُ يَصُومُ، وَيُصَلِّي، وَيَتَصَدَّقُ، وَيَخَافُ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنِّي لَأُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ فَأَقُومُ عَنْهُمَا بِمَنْزِلَةِ السَّارِقِ أَوِ الزَّانِي، الَّذِي يَرَاهُ النَّاسُ، حَيَاءً مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. فَالْمُؤْمِنُ: جَمَعَ إِحْسَانًا فِي مَخَافَةٍ وَسُوءَ ظَنٍّ بِنَفْسِهِ. وَالْمَغْرُورُ: حَسَنُ الظَّنِّ بِنَفْسِهِ مَعَ إِسَاءَتِهِ. الثَّانِي: تَوْفِيرُ الْجُهْدِ بِاحْتِمَائِهِ مِنَ الشُّهُودِ، أَيْ يَأْتِي بِجُهْدِ الطَّاقَةِ فِي تَصْحِيحِ الْعَمَلِ، مُحْتَمِيًا عَنْ شُهُودِهِ مِنْكَ وَبِكَ. الثَّالِثُ: أَنْ تَحْتَمِيَ بِنُورِ التَّوْفِيقِ الَّذِي يُنَوِّرُ اللَّهُ بِهِ بَصِيرَةَ الْعَبْدِ. فَتَرَى فِي ضَوْءِ ذَلِكَ النُّورِ أَنَّ عَمَلَكَ مِنْ عَيْنِ جُودِهِ لَا بِكَ، وَلَا مِنْكَ. فَقَدِ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الدَّرَجَةُ عَلَى خَمْسَةِ أَشْيَاءَ: عَمَلٌ، وَاجْتِهَادٌ فِيهِ، وَخَجَلٌ، وَحَيَاءٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَصِيَانَةٌ عَنْ شُهُودِهِ مِنْكَ، وَرُؤْيَتُهُ مِنْ عَيْنِ جُودِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَمِنْهُ.
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ بِالْخَلَاصِ مِنَ الْعَمَلِ، مِنْ دَرَجَاتِ الْإِخْلَاصِ تَدَعُهُ يَسِيرُ سَيْرَ الْعِلْمِ. وَتَسِيرُ أَنْتَ مُشَاهِدًا لِلْحُكْمِ، حُرًّا مِنْ رِقِّ الرَّسْمِ. قَدْ فَسَّرَ الشَّيْخُ مُرَادَهُ بِإِخْلَاصِ الْعَمَلِ مِنَ الْعَمَلِ بِقَوْلِهِ: تَدَعُهُ يَسِيرُ سَيْرَ الْعِلْمِ وَتَسِيرُ أَنْتَ مُشَاهِدًا لِلْحُكْمِ. وَمَعْنَى كَلَامِهِ: أَنَّكَ تَجْعَلُ عَمَلَكَ تَابِعًا لِعِلْمٍ، مُوَافِقًا لَهُ، مُؤْتَمًّا بِهِ. تَسِيرُ بِسَيْرِهِ وَتَقِفُ بِوُقُوفِهِ، وَتَتَحَرَّكُ بِحَرَكَتِهِ. نَازِلًا مَنَازِلَهُ، مُرْتَوِيًا مِنْ مَوَارِدِهِ، نَاظِرًا إِلَى الْحُكْمِ الدِّينِيِّ الْأَمْرِيِّ، مُتَقَيِّدًا بِهِ، فِعْلًا وَتَرْكًا، وَطَلَبًا وَهَرَبًا. نَاظِرًا إِلَى تَرَتُّبِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ عَلَيْهِ سَبَبًا وَكَسْبًا. وَمَعَ ذَلِكَ فَتَسِيرُ أَنْتَ بِقَلْبِكَ، مُشَاهِدًا لِلْحُكْمِ الْكَوْنِيِّ الْقَضَائِيِّ، الَّذِي تَنْطَوِي فِيهِ الْأَسْبَابُ وَالْمُسَبَّبَاتُ، وَالْحَرَكَاتُ وَالسَّكَنَاتُ. وَلَا يَبْقَى هُنَاكَ غَيْرُ مَحْضِ الْمَشِيئَةِ، وَتَفَرُّدِ الرَّبِّ وَحْدَهُ بِالْأَفْعَالِ، وَمَصْدَرِهَا عَنْ إِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ. فَيَكُونُ قَائِمًا بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِعْلًا وَتَرْكًا، سَائِرًا بِسَيْرِهِ، وَبِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ، إِيمَانًا وَشُهُودًا وَحَقِيقَةً. فَهُوَ نَاظِرٌ إِلَى الْحَقِيقَةِ. قَائِمٌ بِالشَّرِيعَةِ. وَهَذَانِ الْأَمْرَانِ هُمَا عُبُودِيَّةُ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا}. فَتَرْكُ الْعَمَلِ يَسِيرُ سَيْرَ الْعِلْمِ: مَشْهَدُ: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ}، وَسَيْرُ صَاحِبِهِ مُشَاهِدًا لِلْحُكْمِ: مَشْهَدُ: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}. وَأَمَّا قَوْلُهُ: حُرًّا مِنْ رِقِّ الرَّسْمِ، فَالْحُرِّيَّةُ الَّتِي يُشِيرُونَ إِلَيْهَا: هِيَ عَدَمُ الدُّخُولِ تَحْتَ عُبُودِيَّةِ الْخَلْقِ وَالنَّفْسِ، وَالدُّخُولُ تَحْتَ رِقِّ عُبُودِيَّةِ الْحَقِّ وَحْدَهُ. وَمُرَادُهُمْ بِالرَّسْمِ: مَا سِوَى اللَّهِ، فَكُلُّهُ رُسُومٌ. فَإِنَّ الرُّسُومَ هِيَ الْآثَارُ. وَرُسُومُ الْمَنَازِلِ وَالدِّيَارِ: هِيَ الْآثَارُ الَّتِي تَبْقَى بَعْدَ سُكَّانِهَا. وَالْمَخْلُوقَاتُ بِأَسْرِهَا فِي مَنْزِلِ الْحَقِيقَةِ رُسُومٌ وَآثَارٌ لِلْقُدْرَةِ؛ أَيْ فَتُخَلِّصُ نَفْسَكَ مِنْ عُبُودِيَّةِ كُلِّ مَا سِوَى اللَّهِ، وَتَكُونُ بِقَلْبِكَ مَعَ الْقَادِرِ الْحَقِّ وَحْدَهُ. لَا مَعَ آثَارِ قُدْرَتِهِ الَّتِي هِيَ رُسُومٌ. فَلَا تَشْتَغِلُ بِغَيْرِهِ لِتَشْغَلَهَا بِعُبُودِيَّتِهِ. وَلَا تَطْلُبُ بِعُبُودِيَّتِكَ لَهُ حَالًا وَلَا مَقَامًا. وَلَا مُكَاشَفَةً، وَلَا شَيْئًا سِوَاهُ. فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أُمُورٍ: بَذْلُ الْجُهْدِ، وَتَحْكِيمُ الْعِلْمِ، وَالنَّظَرُ إِلَى الْحَقِيقَةِ، وَالتَّخَلُّصُ مِنَ الِالْتِفَاتِ إِلَى غَيْرِهِ. وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ وَالْمُعِينُ.
الْإِخْلَاصُ عَدَمُ انْقِسَامِ الْمَطْلُوبِ. وَالصِّدْقُ عَدَمُ انْقِسَامِ الطَّلَبِ. فَحَقِيقَةُ الْإِخْلَاصِ: تَوْحِيدُ الْمَطْلُوبِ. وَحَقِيقَةُ الصِّدْقِ: تَوْحِيدُ الطَّلَبِ وَالْإِرَادَةِ. وَلَا يُثْمِرَانِ إِلَّا بِالِاسْتِسْلَامِ الْمَحْضِ لِلْمُتَابَعَةِ. فَهَذِهِ الْأَرْكَانُ الثَّلَاثَةُ: هِيَ أَرْكَانُ السَّيْرِ، وَأُصُولُ الطَّرِيقِ الَّتِي مَنْ لَمْ يَبْنِ عَلَيْهَا سُلُوكَهُ وَسَيْرَهُ فَهُوَ مَقْطُوعٌ. وَإِنْ ظَنَّ أَنَّهُ سَائِرٌ، فَسَيْرُهُ إِمَّا إِلَى عَكْسِ جِهَةِ مَقْصُودِهِ، وَإِمَّا سَيْرُ الْمُقْعَدِ وَالْمُقَيَّدِ، وَإِمَّا سَيْرُ صَاحِبِ الدَّابَّةِ الْجَمُوحِ. كُلَّمَا مَشَتْ خُطْوَةً إِلَى قُدَّامٍ رَجَعَتْ عَشَرَةً إِلَى الْخَلْفِ. فَإِنْ عَدَمَ الْإِخْلَاصَ وَالْمُتَابَعَةَ: انْعَكَسَ سَيْرُهُ إِلَى خَلْفٍ. وَإِنْ لَمْ يَبْذُلْ جُهْدَهُ وَيُوَحِّدْ طَلَبَهُ: سَارَ سَيْرَ الْمُقَيَّدِ. وَإِنِ اجْتَمَعَتْ لَهُ الثَّلَاثَةُ: فَذَلِكَ الَّذِي لَا يُجَارَى فِي مِضْمَارِ سَيْرِهِ. وَذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيِهِ مَنْ يَشَاءُ. وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.
|