الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
/ فأجاب ـ قدس الله روحه: الحمد لله رب العالمين، الأعمال المشروطة في الوقف من الأمور الدينية، مثل الوقف على الأئمة والمؤذنين، والمشتغلين بالعلم/والقرآن، والحديث، والفقه، ونحو ذلك، أو بالعبادة أو بالجهاد في سبيل الله تنقسم ثلاثة أقسام: أحدها: عمل يتقرب به إلى الله ـ تعالى، وهو الواجبات، والمستحبات التي رَغَّب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، وحض على تحصيلها، فمثل هذا الشرط يجب الوفاء به، ويقف استحقاق الوقف على حصوله في الجملة. والثاني: عمل قد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه، نهي تحريم، أو نهي تنزيه، فاشتراط مثل هذا العمل باطل باتفاق العلماء؛ لما قد استفاض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خطب على منبره فقال: (ما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله؟ ! من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق). وهذا الحديث وإن خـرج بسبب شـرط الولاء لغير المعتق، فـإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ـ عند عامـة العلماء ـ وهو مجمع عليه في هـذا الحديث، وما كان من الشروط مستلـزمًا وجود ما نهي عنه الشارع، فهو بمنزلة ما نهي عنه، وما علم ببعض الأدلة الشرعية أنه نهي عنه، فهو بمنزلة ما علم أنه صرح بالنهي عنه؛ لكن قد يختلف اجتهاد العلماء في بعض الأعمال: هل هو من باب المنهي عنه؟ فيختلف اجتهادهم في ذلك الشرط، بناء على هذا، وهذا أمر لابد منه في الأمة. /ومن هذا الباب أن يكون المشترط ليس محرمًا في نفسه، لكنه مناف لحصول المقصود المأمور به، فمثال هذه الشروط أن يشترط على أهل الرباط ملازمته، هذا مكروه في الشريعة، كما قد أحدثه الناس، أو أن يشترط على الفقهاء اعتقاد بعض البدع المخالفة للكتاب والسنة، أو بعض الأقوال المحرمة، أو يشترط على الإمام والمؤذن ترك بعض سنن الصلاة والأذان، أو فعل بعض بدعها، مثل أن يشترط على الإمام أن يقرأ في الفجر بقصار المفصل، وأن يصل الأذان بذكر غير مشروع، أو أن يقيم صلاة العيد في المدرسة والمسجد، مع إقامة المسلمين لها على سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم. ومن هذا الباب لو اشترط عليهم أن يصلوا وحدانًا، ومما يلتحق بهذا القسم أن يكون الشرط مستلزمًا للحض على ترك ما ندب إليه الشارع، مثل أن يشترط على أهل رباط أو مدرسة إلى جانب المسجد الأعظم أن يصلوا فيها فرضهم، فإن هذا دعاء إلى ترك أداء الفرض على الوجه الذي هو أحب إلى الله ورسوله، فلا يلتفت إلى مثل هذا، بل الصلاة في المسجد الأعظم هو الأفضل، بل الواجب هدم مساجد الضرار مما ليس هذا موضع تفصيله. ومن هذا الباب اشتراط الإيقاد على القبور، وإيقاد شمع أو دهن ونحو ذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله زَوَّارَات القبور، والمتخذين/ عليها المساجد والسُّرج). وبناء المسجد وإسراج المصابيح على القبور مما لم أعلم خلافًا أنه معصية لله ورسوله، وتفاصيل هذه الشروط تطول جدًا، وإنما نذكر هنا جماع الشروط. القسم الثالث: عمل ليس بمكروه في الشرع، ولا مستحب، بل هو مباح مستوي الطرفين، فهذا قال بعض العلماء بوجوب الوفاء به، والجمهور من العلماء من أهل المذاهب المشهورة وغيرهم على أنه شرط باطل، ولا يصح عندهم أن يشترط إلا ما كان قربة إلى الله تعالى؛ وذلك أن الإنسان ليس له أن يبذل ماله إلا لما فيه منفعة في الدين، أو الدنيا، فما دام الرجل حيًا، فله أن يبذل ماله في تحصيل الأغراض المباحة؛ لأنه ينتفع بذلك، فأما الميت فما بقى بعد الموت ينتفع من أعمال الأحياء إلا بعمل صالح قد أمر به أو أعان عليه، أو قد أهدى إليه، أو نحو ذلك، فأما الأعمال التي ليست طاعة لله ورسوله، فلا ينتفع بها الميت بحال. فإذا اشترط الموصي أو الواقف عملًا أو صفة لا ثواب فيها؛ كان السعي فيها بتحصيلها سعيًا فيما لا ينتفع به في دنياه وآخرته، ومثل هذا لا يجوز، وهو إنما مقصوده بالوقف التقرب إلى الله ـ تعالى، والشارع أعلم من الواقفين بما يتقرب به إلى الله ـ تعالى، فالواجب أن يعمل في شروطهم بما شرطه الله ورضيه في شروطهم. /وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: (لا سَبْقَ إلا في نَصْلٍ، أو خُفٍّ، أو حَافرٍ) وعمل بهذا الحديث فقهاء الحديث ومتابعوهم، فنهي عن بذل المال في المسابقة إلا في مسابقة يستعان بها على الجهاد، الذي هو طاعة لله ـ تعالى، فكيف يجوز أن يبذل الجعل المؤبد لمن يعمل دائمًا عملًا ليس طاعة لله ـ تعالى؟ ! وهذه القاعدة معروفة عند العلماء، لكن قد تختلف آراء الناس وأهواؤهم في بعض ذلك؛ ولا يمكن هنا تفصيل هذه الجملة، ولكن من له هداية من الله ـ تعالى ـ لا يكاد يخفي عليه المقصود في غالب الأمر، وتسمى العلماء مثل هذه الأصول [تحقيق المناط] وذلك كما أنهم جميعهم يشترطون العدالة في الشهادة، ويوجبون النفقة بالمعروف؛ ونحو ذلك، ثم قد يختلف اجتهادهم في بعض الشروط: هل هو شرط في العدالة؟ ويختلفون في صفة الإنفاق بالمعروف، ونحن نذكر ما ينبه عن مثاله. أما إذا اشترط على أهل الرباط أو المدرسة أن يصلوا فيها الخمس الصلوات المفروضات، فإن كانت فيما فيه مقصود شرعي، كما لو نذر أن يصلي في مكان بعينه، فإن كان في تعيين ذلك المكـان قربـة وجب الوفاء بـه، بأن يصلي فيه إذا لم يصل صلاة تكـون مثـل تلك، أو أفضل، وإلا / وجب الوفاء بالصلاة دون التعيين والمكان، والغالب أنه ليس في التعيين مقصود شرعي. فإذا كان قد شرط عليهم أن يصلوا الصلوات الخمس هناك في جماعة اعتبرت الجماعة؛ فإنها مقصود شرعي بحيث من لم يصل في جماعة لم يف بالشرط الصحيح، وأما التعيين فعلى ما تقدم. وأما اشتراط التعزب والرهبانية، فالأشبه بالكتاب والسنة أنه لا يصح اشتراطه بحال، لا على أهل العلم؛ ولا على أهل العبادة، ولا على أهل الجهاد، فإن غالب الخلق يكون لهم شهوات، والنكاح في حقهم مع القدرة إما واجب أو مستحب، فاشتراط التعزب في حق هؤلاء إن كان فهو مناقضة للشرع. وإن قيل: المقصود بالتعـزب الذي لا يستحب له النكاح عند بعض أهل العلم؛ خرج عامة الشباب عن هذا الشرط، وهم الذين ترجى المنفعة بتعليمهم في الغالب، فيكون كأنه قال: وقفت على المتعلمين الذين لا ترجى منفعتهم في الغالب، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه مال قسم للآهل قسمين؛ وللعزب قسمًا؛ فكيف يكون الآهل محرومًا؟ ! وقد قال لأصحابه المتعلمين المتعبدين: (يا مَعْشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغضُّ للبصر، وأحْصَنُ للفرْج). /فكيف يقال للمتعلمين والمتعبدين: لا تتزوجوا، والشارع ندب إلى ذلك العمل؛ وحض عليه، وقد قال: (لارَهْبَانِيَّةَ في الإسلام)، فكيف يصح اشتراط رهبانية؟ ! وما يتوهم من أن التعزب أعون على كيد الشيطان والتعلم والتعبد، غلط مخالف للشرع وللواقع، بل عدم التعزب أعون على كيد الشيطان، والإعانة للمتعبدين والمتعلمين أحب إلى الله ورسوله من إعانة المترهبين منهم، وليس هذا موضع استقصاء ذلك. وكذلك اشتراط أهل بلد، أو قبيلة من الأئمة، والمؤذنين مما لا يصح، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يَؤمُ القومَ أقْرَؤُهُم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء، فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء، فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء، فأقدمهم سنًا) رواه مسلم. والمساجد لله، تبنى لله على الوجه الذي شرعه الله، فإذا قيد إمام المسجد ببلد، فقد يوجد في غير أهل ذلك البلد من هو أولى منه بالإمامة في شرط الله ورسوله، فإن وفينا بشرط الواقف في هذه الحال لزم ترك ما أمر الله به ورسوله، وشرط الله أحق وأوثق. /وأما بقية الشروط المسؤول عنها، فيحتاج كل شـرط منها إلى كلام خاص فيه، لا تتسع له هذه الورقة، وقد ذكرنا الأصل، فعلى المؤمن بالله أن ينظر دائمًا في كل ما يحبه الله ورسوله من الخلق، فيسعى في تحصيله بالوقف وغيره، وما يكرهه الله ورسوله يسعى في إعدامه؛ وما لا يكرهه الله ولا يحبه يعرض عنه ولا يعلق به استحقاق وقف ولا عدمه ولا غيره. والله ـ سبحانه وتعالى ـ أعلم بالصواب، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
باب الزاوية، فهل يجوز لها السكنى بين هؤلاء الفقراء المقيمين أم لا؟ أفتونا. فأجاب: إن كان شرط الواقف لا يسكنه إلا الرجال، سواء كانوا عزبًا أو متأهلين؛ منعت لمقتضى الشرط، وكذلك سكنى المرأة بين الرجال والرجال بين النساء يمنع منه لحق الله. والله أعلم.
/ فأجاب: ليس للحاكم أن يولى ولا يتصرف في الوقف بدون أمر الناظر الشرعي الخاص، إلا أن يكون الناظر الشرعي قد تعدى فيما يفعله، وللحاكم أن يعترض عليه إذا خرج عما يجب عليه. وإذا كان بين الناظر والحاكم منازعة حكم بينهما غيرهما بحكم الله ورسوله، ومن اعتدى على غيره، فإنه يقابل على عدوانه، إما أن يعاقب بمثل ذلك إن أمكنت المماثلة، وإلا عوقب بحسب ما يمكن شرعًا. والله أعلم.
/ فأجاب: لا يتصرفان إلا جميعًا في جميع المنظور فيه، فإن أحدهما لو انفرد بالتصرف لم يجز، فكيف إذا وزع المفرد، فإن الشرعَ شَرع جمع المتفرق بالقسمة والشفعة، فكيف يفرق المجتمع؟ !
فأجاب: ليس في اللفظ المذكور ما يقتضي تقدمه بشيء من معلومه، بل هو مذكور بالواو التي مقتضاها الاشتراك والجمع المطلق، فإن كان ثم دليل منفصل يقتضي جواز الاختصاص والتقدم غير الشرط المذكور، /مثل كونه حائزًا أجرة عمله مع فقره، كوصى اليتيم؛ عمل بذلك الدليل المنفصل الشرعي وإلا فشرط الواقف لا يقتضي التقديم، ولا فرق بين الجامكية والجراية، فهو بمنزلة العمارة من مال الوقف، لا من عمالة الناظر. والله أعلم.
فأجاب: الحمد لله رب العالمين، الناظر ليس له أن يفعل شيئا في أمر الوقف إلا بمقتضى المصلحة الشرعية، وعليه أن يفعل الأصلح فالأصلح. وإذا جعل الواقف للناظر صرف من شاء، وزيادة من أراد زيادته ونقصانه، /فليس للذي يستحقه بهذا الشرط أن يفعل ما يشتهيه، أو ما يكون فيه اتباع الظن، وما تهوى الأنفس، بل الذي يستحقه بهذا الشرط أن يفعل من الأمور الذي هو خير ما يكون إرضاء لله ورسوله، وهذا في كل من تصرف لغيره بحكم الولاية، كالإمام، والحاكم، والواقف، وناظر الوقف، وغيرهم. إذا قيل: هو مخير بين كذا وكذا، أو يفعل ما شاء وما رأي، فإنما ذاك تخيير مصلحة، لا تخيير شهوة. والمقصود بذلك أنه لا يتعين عليه فعل معين، بل له أن يعدل عنه إلى ما هو أصلح وأرضى لله ورسوله، وقد قال الواقف: على ما يراه ويختاره ويرى المصلحة فيه، وموجب هذا كله أن يتصرف برأيه واختياره الشرعي، الذي يتبع فيه المصلحة الشرعية، وقد يرى هو مصلحة والله ورسوله يأمر بخلاف ذلك، ولا يكون هذا مصلحة كما يراه مصلحة، وقد يختار ما يهواه لا ما فيه رضي الله، فلا يلتفت إلى اختياره، حتى لو صرح الواقف بأن للناظر أن يفعل ما يهواه وما يراه مطلقًا لم يكن هذا الشرط صحيحًا، بل كان باطلًا؛ لأنه شرط مخالف لكتاب الله: (ومن اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق). وإذا كان كذلك، وكان عزل الناظر واستبداله موافقًا لأمر الله ورسوله لم يكن للمعزول ولا غيره رد ذلك، ولا يتناول شيئا من الوقف/والحال هذه، وإن لم يكن موافقًا لأمر الله ورسوله كان مردودًا بحسب الإمكان، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رَد)، وقال: (لا طاعةَ لمخلوق في معصية الخالق). وإن تنازعوا: هل الذي فعله هو المأمور به أم لا؟ رد ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله، فإن كان الذي فعل الناظر أرضى لله ورسوله نفذ، وإن كان الأول هو الأرضى ألزم الناظر بإقراره، وإن كان هناك أمر ثالث هو الأرضى لزم اتباعه، وعلى الناظر بيان المصلحة، فإن ظهرت وجب اتباعها، وإن ظهر أنها مفسدة ردت، وإن اشتبه الأمر وكان الناظر عالمًا عادلًا سوغ له اجتهاده. والله أْعلم.
فأجاب: لا يجوز إكراء الوقف لمن يضر به باتفاق المسلمين، بل ولا يجوز إكراء الشجر بحال، وإن سوقى عليها بجزء حيلة لم يجز بالوقف/باتفاق العلماء، ولا يجوز إزالة ما كان ينتفع به المسلمون للشرب والطهارة، بل يعزر هذا المستأجر الظالم الذي فعل ذلك، ويلزم بضمان ما أتلفه من البناء، وأما القيمة والشجر فيستغل، كما جرت عادتها، وتصرف الغلة في مصارفها الشرعية.
فأجاب: بل الواجب صرف هذه الأموال في مصارفها الشرعية، فيصرف من الجوامع والمساجد إلى الأئمة والمؤذنين والقوام ما يستحقه أمثالهم، وكذلك يصرف في فرش المساجد وتنويرها كفايتها بالمعروف، وما فضل عن ذلك إما أن يصرف في مصالح مساجد أخر، ويصرف في المصالح، كأرزاق القضاة في أحد قولي العلماء، وأما صرفها للقضاة ومنع مصالح المساجد فلا يجوز. والله أعلم.
/ فأجاب: الحمد لله، إن كان الذي يحصل بالمحاصصة لأرباب الأعمال التي يستأجر عليها ـ كالبواب والقيم والسواق ونحوهم ـ أجرة مثلهم يعطوه زيادة على ذلك، وإن كان ما يحصل دون أجرة المثل وأمكن من يعمل بذلك لم يحتج إلى الزيادة، وإن كان الحاصل لهم أقل من أجرة المثل ولا يحصل من يعمل بأقل من أجرة المثل، فلابد من تكميل المثل لهم إذا لم تقم مصلحة المكان إلا بهم، وإن أمكن أن يجعل شخص واحد قيمًا وبوابًا أو قيمًا ومؤذنًا أو يجمع له بين تلك الوظائف ويقوم بها، فإنه يفعل ذلك، ولا يكثر العدد الذي لا يحتاج إليه مع كون الوقف قد عاد إلى ريعه، بل إذا أمكن سد أربع وظائف بواحد فعل ذلك. والله أعلم.
/ فهل إذا لم يكن في شرط النظر في كتاب الوقف شيء آخر يكون النظر المشروط للحاكم مختصًا بحاكم مذهب معين بمقتضى لفظ الشرط المذكور؟ أم لا يختص بحاكم معين، بل يكون النظر المذكور لمن كان حاكمًا بدمشق على أي مذهب كان من المذاهب الأربعة؟ وإذا لم يكن/ مختصًا وفوض بعض الحكام قضاة القضاة ـ أعزهم الله ـ بدمشق المحروسة لأهل كان النظر المذكور بمقتضى ما رآه من عدم الاختصاص يجوز لحاكم آخر منعه من ذلك أو بعض ما فعله بغير قادح؟ فأجاب: ليس في اللفظ المذكور في شرط الواقف ما يقتضي اختصاصه بمذهب معين على الإطلاق، فإن ذلك يقتضي أنه لو لم يكن في البلد إلا حاكم على غير المذهب الذي كان عليه حاكم البلد ومن الواقف ألا يكون له النظر، وهذا باطل باتفاق المسلمين، فما زال المسلمون يقفون الأوقاف، ويشرطون أن يكون النظر للحاكم، أو لا يشترطون ذلك في كتاب الوقف، فإن ذلك يقتضي بطلان الشرع في الوقوف العامة التي لم يعين ولي الأمر لها ناظرًا خاصًا، وفي الوقوف الخاصة نزاع معروف. ثم قد يكون الحاكم وقت الوقف له مذهب، وبعد ذلك يكون للحاكم مذهب آخر، كما يكون في العراق وغيرها من بلاد الإسلام، فإنهم كانوا يولون قضاة القضاة تارة لحنفي، وتارة لمالكي، وتارة لشافعي، وتارة لحنبلي، وهذا القاضي يولي في الأطراف من يوافقه على مذهبه تارة، ومن يخالفه أخرى، ولو شرط الإمام على الحاكم أو شرط الحاكم على خليفته أن يحكم بمذهب معين بطل الشرط، وفي فساد العقد وجهان. / ولا ريب أن هذا إذا أمكن القضاة أن يحكموا بالعلم والعدل من غير هذا الشرط فعلوا، فأما إذا قدر أن في الخروج عن ذلك من الفساد جهلًا وظلمًا أعظم مما في التقدير؛ كان ذلك من باب دفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما، ولكن هذا لا يسوغ لواقف ألا يجعل النظر في الوقف إلا لذي مذهب معين دائمًا ـ مع إمكان ـ إلا أن يتولى في ذلك المذهب، فكيف إذا لم يشرط ذلك؟ ! ولهذا كان في بعض بلاد الإسلام يُشْرَط على الحاكم ألا يحكم إلا بمذهب معين، كما صار ـ أيضًا ـ في بعضها بولاية قضاة مستقلين، ثم عموم النظر في عموم العمل، وإن كان في كل من هذا نزاع معروف، وفيمن يعين إذا تنازع الخصمان: هل يعين الأقرب أو بالقرعة؟ فيه نزاع معروف، وهذه الأمور التي فيها اجتهاد إذا فعلها ولي الأمر نفذت. وإذا كان كذلك، فالحاكم على أي مذهب كان إذا كانت ولايته تتناول النظر في هذا الوقف كان تفويضه سائغًا ولم يجز لحاكم آخر نقض مثل هذا، لا سيما إذا كان في التفويض إليه من المصلحة في المال ومستحقه ما ليس في غيره. ولو قدر أن حاكمين ولي أحدهما شخصًا، وولي آخر شخصًا؛ كان الواجب على ولي الأمر أن يقدم أحقهما بالولاية، فإن من عرفت قوته وأمانته يقدم على من ليس كذلك باتفاق المسلمين.
/ فأجاب: الحمد لله، المال المشروط للناظر مستحق على العمل المشروط عليه، فمن عمل ما عليه يستحق ماله. والله أعلم.
/فأجاب: إن كان الثاني قد استأجر المكان من غير من له ولاية الإيجار واستأجره مع بقاء إجارة صحيحة عليه، فالإجارة باطلة، ويده يد عادية مستحقة للرفع والإزالة، وإذا كان الثاني استأجرها وتسلمها وهي في إجارة الأول، فالأول مخير بين أن يفسخ الإجارة وتسقط عنه الإجارة من حين الفسخ، ويطالب أهل المكان بالإجارة لهذا الثاني المتولي عليه، يطلبون منه أجرة المثل إن كانت الإجارة فاسدة، وإن كانت صحيحة طالبوه بالفسخ وبين إمضاء الإجارة، ويعطي أهل المكان أجرتهم، ويطالب الغاصب بأجرة المثل من حين استيلائه على ما استأجره.
فأجاب: الحمد لله، بل ما كان في العَرْصَة المشتركة من البناء بيد أهل العرصة ثابتة عليه بحكم الاشتراك ـ أيضًا، حتى يقيم أحدهم حجة شرعية باختصاصه بالبناء، ولا يقبل مجرد دعوى أحد الشركاء في العرصة الاختصاص بالبناء، سواء كانت العرصة المشتركة بين وقف وطَلْقٍ، أو بين طلقين، أو وقفين، ويد المستأجر إنما هي على المنفعة، وليس بمجرد الإجارة تثبت دعوى استحقاق البناء إلا أن يقيم بذلك حجة. والله أْعلم. / فأجاب: ليست أجرة إثبات الوقف والسعي في مصالحه من تركة/ الميت، فإن ما زاد على المقر به كله مستحق للورثة، وإنما عليهم رفع أيديهم عن ذلك وتمكين الناظر منه، وليس عليه السعي ولا أجرة ذلك، وأما العين المقر بها إذا انتفع بها الورثة أو وضعوا أيديهم عليها، بحيث يمنع الانتفاع المستحق بها، فعليهم أجرة المنفعة في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما ممن يقول بأن منافع الغصب مضمونة، والنزاع في المسألة مشهور، وإقرار الميت بأنها وقف من المدة المتقدمة ليس بصريح في أنه كان مستوليًا عليها بطريق الغصب، والضمان لا يجب بالاحتمال. وأما تعيين ناظر بعد آخر، فيرجع في ذلك إلى عرف مثل هذا الوقف وعادة أمثاله، فإن كان هذا في العادة رجوعًا كان رجوعًا، وكذلك إن كان في لفظه ما يقتضي انفراد الثاني بالتصرف، وإلا فقد عرفت المسألة وهي ما إذا وصى بالعين لشخص، ثم وصى بها لآخر: هل يكون رجوعًا أم لا؟ وما علمه الشهود من حق مستحق يصل الحق إلى مستحقه بشهادتهم لم يكتموها، وإن كان يوجد من لا يستحقه ولا يصل إلى من يستحقه، فليس عليهم أن يعينوا واحدًا منهما، وإن كان أخذه بتأويل واجتهاد لم يكن عليهم ـ أيضًا ـ نزعه من يده، بل يعان المتأول المجتهد على من لا تأويل له ولا اجتهاد.
/ فأجاب: هذه المسألة فيها قولان عند الإطلاق معروفان للفقهاء في مذهب الإمام أحمد وغيره، ولكن الأقوى أنها لترتيب الأفراد على الأفراد، وأن ولد الولد يقوم مقام أبيه لو كان الابن موجودًا مستحقًا قد عاش بعد موت الجد واستحق، أو عاش ولم يستحق لمانع فيه، أو لعدم قبوله للوقف، أو لغير ذلك، أو لم يعش، بل مات في حياة الجد، ويكون على هذا التقدير مقابلة الجمع بالجمع، وهي تقتضي توزيع الأفراد على الأفراد كما في قوله: وإنما الشبهة في أن الولد إذا مات في حياة أبيه وله ولد، ثم مات الأب عن ولد آخر، وعن ولد الولد الأول: هل يشتركان؟ / أو ينفرد به الأول؟ الأظهر في هذه المسألة: أنهما يشتركان؛ لأنه إذا كان المراد أن كل ولد مستحق بعد موت أبيه ـ سواء كان عمه حيًا أو ميتًاـ فمثل هذا الكلام إذًا يشترط فيه عدم استحقاق الأب كما قال الفقهاء في ترتيب العصبة: إنهم الابن، ثم ابنه، ثم الأب، ثم أبوه، ثم العم، ثم بنو العم، ونحو ذلك، فإنه لا يشترط في الطبقـة الثانيـة إلا عـدم استحقاق الأولى، فمتى كانت الثانية موجودة والأولى لا استحقاق لها استحقت الثانية، سواء كانت الأولى استحقت أو لم تستحق، ولا يشترط لاستحقاق الثانية استحقاق الأولى؛ وذلك لأن الطبقة الثانية تتلقى الوقف من الواقف، لا من الثانية، فليس هو كالميراث الذي يرثه الابن، ثم ينتقل إلى ابنه، وإنما هو كالولاء الذي يورث به، فإذا كان ابن المعتق قد مات في حياة المعتق، ورث الولاء ابن ابنه. وإنما يغلط من يغلط في مثل هذه المسألة حين يظن أن الطبقة الثانية تتلقى من التي قبلها، فإن لم تستحق الأولى شيئا لم تستحق الثانية، ثم يظنون أن الوالد إذا مات قبل الاستحقاق لم يستحق ابنه، وليس كذلك، بل هم يتلقون من الواقف، حتى لو كانت الأولى محجوبة بمانع من الموانع، مثل أن يشترط الواقف في المستحقين أن يكونوا فقراء أو علماء، أو عدولًا، أو غير ذلك، ويكون الأب مخالفًا للشرط المذكور، وابنه متصفًا به فإنه يستحق الابن، وإن لم يستحق أبوه، كذلك إذا مـات/ الأب قبل الاستحقاق فإنه يستحق ابنه، وهكذا جميع الترتيب في الحضانة، وولاية النكاح والمال، وترتيب عصبة النسب والولاء في الميراث، وسائر ما جعل المستحقون فيه طبقات ودرجات، فإن الأمر فيه على ما ذكر. وهذا المعنى هو الذي يقصده الواقفون إذا سئلوا عن مرادهم، ومن صرح منهم بمراده، فإنه يصرح بأن ولد الولد ينتقل إليه ما ينتقل إلى ولده لو كان حيًا؛ لا سيما والناس يرحمون من مات والده ولم يرث؛ حتى إن الجد قد يوصى لولد ولده؛ ومعلوم أن نسبة هذا الولد ونسبة ولد ذلك الولد إلى الجد سواء، فكيف يحرم ولد ولده اليتيم ويعطي ولد ولده الذي ليس بيتيم؟ ! فإن هذا لا يقصده عاقل، ومتى لم نقل بالتشريك بقى الوقف في هذا الولد وولده، دون ذرية الولد الذي مات في حياة أبيه. والله أعلم.
/ فأجاب: إذا كان للموقفة قرابة محتاج كالخال ونحوه، فهو أحق من الفقير المساوي له في الحاجة، وينبغي تقديمه، وإذا اتسع الوقف لسد حاجته سدت حاجته منه.
|