الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
/ فأجاب: الحمد لله، العلماء لهم في الطهارة: هل هي شرط في صحة الطواف؟ قولان مشهوران: أحدهما: أنها شرط، وهو مذهب مالك، والشافعي، وأحمد في إحدى الروايتين. والثاني: ليست بشرط، وهو مذهب أبي حنيفة، وأحمد في الرواية الأخري. /فعند هؤلاء لو طاف جنبًا أو محدثًا أو حاملًا للنجاسة أجزأه الطواف، وعليه دم؛ لكن اختلف أصحاب أحمد: هل هذا مطلق في حق المعذور الذي نسي الجنابة؟ وأبو حنيفة يجعل الدم بدنة، إذا كانت حائضًا أو جنبًا: فهذه التي لم يمكنها أن تطوف إلا حائضًا أولي بالعذر، فإن الحج واجب عليها، ولم يقل أحد من العلماء: إن الحائض يسقط عنها الحج، وليس من أقوال الشريعة أن تسقط الفرائض للعجز عن بعض ما يجب فيها، كما لو عجز عن الطهارة في الصلاة. فلو أمكنها أن تقيم بمكة حتي تطهر وتطوف وجب ذلك بلا ريب فأما إذا لم يمكن ذلك، فإن أوجب عليها الرجوع مرة ثانية كان قد أوجب عليها سفران للحج بلا ذنب لها، وهذا بخلاف الشريعة. ثم هي ـ أيضًا ـ لا يمكنها أن تذهب إلامع الركب، وحيضها في الشهر كالعادة، فهذه لا يمكنها أن تطوف طاهرًا البتة. وأصول الشريعة مبنية على أن ما عجز عنه العبد من شروط العبادات يسقط عنه، كما لو عجز المصلي عن ستر العورة، واستقبال القبلة، أو تجنب النجاسة، وكما لو عجز الطائف أن يطوف بنفسه راكبًا، وراجلًا، فإنه يحمل ويطاف به. ومن قال: إنه يجزئها الطواف بلا طهارة، إن كانت غير معذورة /مع الدم، كما يقوله من يقوله من أصحاب أبي حنيفة، وأحمد. فقولهم لذلك مع العذر أولي وأحري وأما الاغتسال فإن فعلته فحسن، كما تغتسل الحائض، والنفساء للإحرام، والله أعلم.
فأجاب: الحمد لله ، الحائض تقضي المناسك كلها إلا الطواف بالبيت، فإنها تجتهد ألا تطوف بالبيت إلا طاهرة، فإن عجزت عن ذلك ولم يمكنها التخلف عن الركب حتي تطهر وتطوف، فإنها إذا طافت طواف الزيارة وهي حائض، أجزأها في أحد قولي العلماء، ثم قال أبو حنيفة وغيره: يجزئها لو لم يكن لها عذر لكن أوجب عليها بدنة. وأما أحمد فأوجب على من ترك الطهارة ناسيا دمًا، وهي شاة. وأما هذه العاجزة عن الطواف وهي طاهرة، فإن أخرجت دمًا فهو أحوط، وإلا فلا يتبين أن عليها شيئًا، فإن الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها. وقال تعالى: والصلاة أعظم من الطواف، ولو عجز المصلي عن شرائطها. من الطهارة، أو ستر العورة، أو استقبال القبلة، صلى على حسب حاله، فالطواف أولي بذلك. كما لو كانت مستحاضة ولا يمكنها أن تطوف إلا مع النجاسة، نجاسة الدم. فإنها تصلي وتطوف على هذه الحالة باتفاق المسلمين، إذا توضأت وتطهرت، وفعلت ما تقدر عليه. وينبغي للحائض إذا طافت أن تغتسل وتستثفر، أي تستحفظ، كما تفعله عند الإحرام. وقد أسقط النبي صلى الله عليه وسلم عن الحائض طواف الوداع. وأسقط عن أهل السقاية والرعاة المبيت بمنى؛ لأجل الحاجة. ولم يوجب عليهم دمًا. فإنهم معذورون في ذلك، بخلاف غيره. وكذلك من عجز عن الرمي بنفسه لمرض أو نحوه، فإنه يستنيب من يرمي عنه، ولا شيء عليه، وليس من ترك الواجب للعجز كمن تركه لغير ذلك، والله أعلم.
/ فأجاب: إن كانت قد طافت طواف الإفاضة وهي حائض، والحالة هذه ناوية أجزأها الحج في أحد قولي العلماء، وهو مذهب أبي حنيفة، وأحمد في إحدى الروايتين، وغاية ما يجب عليها عند أبي حنيفة بدنة، وعند أحمد دم، وهي شاة. وأما إن كانت لم تطف تحللت التحلل الأول، وجاز لها الطيب وتغطية الوجه، وغير ذلك، لكن لا يطؤها زوجها حتي تطوف طواف الإفاضة، فإن لم يمكنها العود فغاية ما يمكن أن يرخص لها فيه أنها /تكون كالمحصرة تحلل من إحرامها بهدي، ولكن الأحوط أن تبعث به إلى مكة ليذبح، مثل أن يذبح يوم النحر فإذا ذبح هناك حلت هنا، وجاز لزوجها أن يطأها والحالة هذه. فإذا واعدت من يذبحه هناك في يوم معين حلت إلى ذلك اليوم، ثم إذا أمكنها بعد ذلك أن تذهب إلى مكة فإنها تدخل مهلة بعمرة، وتطوف هذا الطواف الباقي عليها، ثم إن شاءت حجت من هناك، وإن عجزت عن ذلك حتي تموت فلا يكلف الله نفسًا إلا وسعها. وإن أمكن أن تبعث عنها بعد موتها من يفعل ذلك عنها فعل. وإن كان وطؤها قبل هذا الطواف لم يفسد الحج بذلك، لكن يفسد ما بقي، وعليها طواف الإفاضة باتفاق الأئمة، كما ذكر، لكن عند مالك وأحمد عليها أن تحرم بعمرة، كما نقل عن ابن عباس، وعند أبي حنيفة والشافعي في المشهور عنها يجزئها بلا إحرام جديد، هذا إذا كانت هناك. فأما إن كانت رجعت إلى بلدها، ووطأها زوجها، فلابد لها إذا رجعت أن تحرم بعمرة من الميقات؛ لأنه لا يدخل أحد مكة إلا محرمًا بحج أو عمرة، إما وجوبًا، أو استحبابًا، إلا من له حاجة متكررة ونحو ذلك.
أيما أفضل لمن كان بمكة: الطواف بالبيت؟ أو الخروج إلى الحل ليعتمر منه ويعود؟ وهل يستحب لمن كان بمكة كثرة الاعتمار في رمضان أو في غيره، أو الطواف بدل ذلك؟ وكذلك كثرة الاعتمار لغير المكي: هل هو مستحب؟ وهل في اعتمار النبي صلى الله عليه وسلم من الجِعْرَانة. وفي عمرة الحديبية مستند لمن يعتمر من مكة، كما في أمره لعائشة أن تعتمر من التنعيم؟ وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (عمرة في رمضان تعدل حجة): هل هي عمرة الأفُقِي؟ أو تتناول المكي الذي يخرج إلى الحل ليعتمر في رمضان؟ فأجاب: أما من كان بمكة من مستوطن، ومجاور، وقادم، وغيرهم، فإن طوافه بالبيت أفضل له من العمرة، وسواء خرج في ذلك إلى أدني الحل، وهو التنعيم الذي أحدث فيه المساجد، التي تسمي [مساجد عائشة] أو أقصي الحل من أي جوانب الحرم، سواء كان من جهة [الجِعْرَانة] أو [الحديبية] ، أو غير ذلك، وهذا المتفق عليه بين سلف الأمة، وما أعلم فيه مخالفًا من أئمة الإسلام في العمرة المكية. /وأما العمرة من الميقات: بأن يذهب إلى الميقات فيحرم منه، أو يرجع إلى بلده، ثم ينشئ السفر منه للعمرة، فهذه ليست عمرة مكية بل هذه عمرة تامة، وليس الكلام هنا فيه. وهذه فيها نزاع: هل المقام بمكة أفضل منها؟ أم الرجوع إلى بلده أو الميقات أفضل؟ وسيأتي كلام بعض من رجح المقام بمكة للطواف على الرجوع للعمرة من الميقات. وإنما النزاع في أنه هل يكره للمكي الخروج للاعتمار من الحل، أم لا؟ وهل يكره أن يعتمر من تشرع له العمرة كالأُفقِي في العام أكثر من عمرة أم لا؟ وهل يستحب كثرة الاعتمار أم لا؟ فأما كون الطواف بالبيت أفضل من العمرة لمن كان بمكة، فهذا مما لا يستريب فيه من كان عالمًا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنة خلفائه وآثار الصحابة، وسلف الأمة وأئمتها، وذلك أن الطواف بالبيت أفضل من العبادات والقربات التي شرعها الله تعالى في كتابه، وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، وهو من أعظم عبادة أهل مكة، أعني من كان بمكة مستوطنًا أو غير مستوطن، ومن عباداتهم الدائمة الراتبة التي امتازوا بها على سائر أهل الأمصار، ومازال أهل مكة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه وأصحابه ـ رضي الله عنهم ـ يطوفون بالبيت في كل /وقت، ويكثرون ذلك. وكذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم ولاة البيت ألا يمنعوا أحدًا من ذلك في عموم الأوقات، فروي جبير بن مطعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يابني عبد مناف، لا تمنعوا أحدًا طاف بهذا البيت وصلي فيه أية ساعة شاء، من ليل أو نهار) رواه مسلم في صحيحه. وسائر أهل السنن كأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، وغيرهم. وقد قال تعالى لخليله إمام الحنفاء الذي أمره ببناء البيت، ودعا الناس إلى حجه: /وأما [الاعتكاف] فهو مشروع في المساجد، دون غيرها، وأما الركوع مع السجود فهو مشروع في عموم الأرض، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فعنده مسجده وطهوره)، وهذا كله متفق عليه بين المسلمين. وإن كان بعض البقاع تمنع الصلاة فيها لوصف عارض كنجاسة، أو مقبرة، أو حُش ّ، أو غير ذلك. فالمقصود هنا: أنه ـ سبحانه وتعالى ـ قدم الأخص بالبقاع، فالأخص، فقدم الطواف؛ لأنه يختص بالمسجد الحرام، ثم العكوف، لأنه يكون فيه، وفي المساجد التي يصلي المسلمون فيها الصلاة المشروعة، وهي الصلوات الخمس جماعة، ثم الصلاة لأن مكانها أعم. ومن خصائص الطواف أنه مشروع بنفسه منفردًا، أو في ضمن العمرة، وفي ضمن الحج، وليس في أعمال المناسك ما يشرع منفردًا عن حج وعمرة، إلا الطواف، فإن أعمال المناسك على ثلاث درجات: منها: ما لا يكون إلا في حج؛ وهو الوقوف بعرفة، وتوابعه من المناسك التي بمزدلفة. ومنها: ما لا يكون إلا في حج أو عمرة؛ وهو الإحرام والإحلال،/ والسعي بين الجبلين، كما قال تعالى: ومنها: ما يكون في الحج وفي العمرة ويكون منفردًا؛ وهو الطواف، والطواف ـ أيضًا ـ هو أكثر المناسك عملًا في الحج، فإنه يشرع للقادم طواف القدوم، ويشرع للحاج طواف الوداع، وذلك غير الطواف المفروض طواف الإفاضة الذي يكون بعد التعريف. ويستحب ـ أيضًا ـ الطواف في أثناء المقام بمنى، ويستحب في جميع الحول عمومًا. وأما الاعتمار للمكي بخروجه إلى الحل، فهذا لم يفعله أحد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قط إلا عائشة في حجة الوداع، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمرها به، بل أذن فيه بعد مراجعتها إياه، كما سنذكره إن شاء الله تعالى. فأما أصحابه الذين حجوا معه حجة الوداع كلهم من أولهم إلى آخرهم، فلم يخرج أحد منهم لا قبل الحجة، ولا بعدها، لا إلى التنعيم، ولا إلى الحديبية، ولا إلى الجِعْرَانة، ولا غير ذلك؛ لأجل العمرة. وكذلك أهل مكة المستوطنين لم يخرج أحد منهم إلى الحل لعمرة، وهذا متفق عليه، معلوم لجميع العلماء الذين يعلمون سنته وشريعته. /وكذلك ـ أيضًا ـ أصحابه الذين كانوا مقيمين بمكة من حين فتحه مكة من شهر رمضان سنة ثمان، وإلى أن توفي لم يعتمر أحد منهم من مكة ولم يخرج أحد منهم إلى الحل، ويهل منه، ولم يعتمر النبي صلى الله عليه وسلم وهو بمكة قط، لا من الحديبية، ولا من الجِعْرَانة، ولا غيرهما، بل قد اعتمر أربع عمر: ثلاث منفردة، وواحدة مع حجته. وجميع عمره كان يكون فيها قادمًا إلى مكة، لا خارجًا منها إلى الحل. فأما عمرة الحـديبية،فإنه اعتمر من ذي الحليفة ـ ميقات أهل المدينة ـ هو وأصحابه الذين بايعوه في تلك العمرة تحت الشجرة، ثم إنهم لما صدهم المشركون عن البيت، وقاضاهم النبي صلى الله عليه وسلم على العمرة من العام القابل، وصالحهم الصلح المشهور، حل هو وأصحابه من العمرة بالحديبية، ولم يدخلوا مكة ذلك العام، فأنزل الله تعالى في ذلك [سورة الفتح] ، وأنزل قوله تعالى: ثم إنه بعد ذلك في العام القابل سنة سبع بعد أن فتح خيبر، وكان فتح خيبر عقيب انصرافه من الحديبية، ثم اعتمر هو ومن معه عمرة القَضِية، وتسمي [عمرة القضاء] وكانت عمرته هذه في ذي القعدة سنة سبع، والتي قبلها عمرة الحديبية، وكانت ـ أيضًا ـ في ذي القعدة، /وعمرة الجعرانة كانت في ذي القعدة، وكانت عمره كلها في ذي القعدة أوسط أشهر الحج، وبين للمسلمين بذلك جواز الاعتمار في أشهر الحج. ولما اعتمر هو ومن معه عمرة القضية أحرموا ـ أيضًا ـ من ذي الحليفة، ودخلوا مكة، وأقاموا بها ثلاثًا، وتزوج في ذلك العام ميمونة بنت الحارث. ثم إن أهل مكة نقضوا العهد سنة ثمان، فغزاهم النبي صلى الله عليه وسلم غزوة الفتح في نحو عشرة آلاف في شهر رمضان، ودخل مكة حلالًا على رأسه المِغْفَر، وطاف بالبيت، وأقام بمكة سبع عشرة ليلة، ولم يعتمر في دخوله هذا، وبلغه أن هوازن قد جمعت له فغزاهم غزوة حنين، وحاصر الطائف بعد ذلك ولم يفتحها، وقسم غنائم حنين بالجعرانة، وأنشأ حينئذ العمرة بالجعرانة، فكان قادمًا إلى مكة في تلك العمرة، لم يخرج من مكة إلى الجعرانة. وحكم كل من أنشأ الحج، أو العمرة من مكان دون المواقيت أن يحرم من ذلك المكان. كما في الصحيحين عن ابن عباس قال: وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجُحْفَة، ولأهل نجد قَرْن المنازل ولأهل اليمن يلَمْلَم، هن لهن ولمن أتي عليهن من غير أهلهن، ممن كان يريد الحج والعمرة، ومن كان دونهن فمهله من أهله. وكذلك أهل مكة يهلون منها. /فإحرام النبي صلى الله عليه وسلم من الجعرانة كان لأنه أنشأ العمرة منها، وبعد أن حصل فيها؛ لأجل الغزو والغنائم، فقد تبين أن الحديبية لم يحرم منها النبي صلى الله عليه وسلم لا قادمًا إلى مكة، ولا خارجًا منها، بل كان محله من إحرامه بالعمرة لما صده المشركون. وأما الجعرانة فأحرم منها لعمرة أنشأها منها، وهذا كله متفق عليه، ومعلوم بالتواتر، لا يتنازع فيه اثنان ممن له أدني خبرة بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وسنته. فمن توهم أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من مكة فاعتمر من الحديبية، أو الجعرانة، فقد غلط غلطًا فاحشًا منكرًا، لا يقوله إلا من كان من أبعد الناس عن معرفة سنة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته وإن كان قد غلط في الاحتجاج بذلك على العمرة من مكة طوائف من أكابر أعيان العلماء، فقد ظهر أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه جميعهم لم يعتمر أحد منهم في حياته من مكة، بعد فتح مكة، ومصيرها دار إسلام، إلا عائشة. وكذلك ـ أيضًا ـ لم يعتمر أحد منها قبل الفتح حين كانت دار كفر، وكان بها من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعد هجرته إلى المدينة، وقبل هجرته، فإنهم كانوا يطوفون بالبيت، ولم يخرج أحد منهم إلى الحل ليعتمر منه، إذ الطواف بالبيت مازال مشروعًا من أول مبعث /النبي صلى الله عليه وسلم، بل ولم يزل من زمن إبراهيم، بل ومن قبل إبراهيم أيضًا، فإذا كان المسلمون حين كانوا بمكة من حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن توفي إذا كانوا بمكة لم يكونوا يعتمرون من مكة، بل كانوا يطوفون ويحجون من العام إلى العام، وكانوا يطوفون في كل وقت من غير اعتمار، كان هذا مما يوجب العلم، الضروري، أن المشروع لأهل مكة إنما هو الطواف، وأن ذلك هو الأفضل لهم من الخروج للعمرة؛ إذ من الممتنع أن يتفق النبي صلى الله عليه وسلم وجميع أصحابه على عهده على المداومة على المفضول، وترك الأفضل، فلا يفعل أحد منهم الأفضل، ولا يرغبهم فيه النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا لا يقوله أحد من أهل الإيمان. ومما يوضح ذلك: أن المسلمين قد تنازعوا في وجوب العمرة، لوجوب الحج، على قولين مشهورين للعلماء، وروي النزاع في ذلك عن الصحابة أيضًا،فروي وجوبها عن عمر وابن عباس، وغيرهما. وروي عدم الوجوب عن ابن مسعود. والأول: هو المشهور عن الشافعي، وأحمد. والثاني: هو أحد قوليهما، وقول أبي حنيفة، ومالك. ومع هذا فالمنقول الصريح عمن أوجب العمرة من الصحابة والتابعين لم يوجبها على أهل مكة. قال أحمد بن حنبل: كان ابن عباس يري العمرة واجبة، ويقول: يا أهل مكة ليس عليكم عمرة، إنما عمرتكم طوافكم بالبيت، وقال عطاء بن أبي رباح ـ أعلم التابعين بالمناسك، /وإمام الناس فيها ـ : ليس أحد من خلق الله إلا عليه حجة وعمرة واجبتان، لابد منهما لمن استطاع إليهما سبيلا، إلا أهل مكة، فإن عليهم حجة، وليس عليهم عمرة من أجل طوافهم بالبيت، وهم يفعلونه فأجزأ عنهم. وقال طاوس: ليس على أهل مكة عمرة رواه ابن أبي شيبة. وكلام هؤلاء السلف وغيرهم يقتضي أنهم كانوا لم يستحبوها لأهل مكة، فضلًا عن أن يوجبوها، كما رواه أبو بكر بن أبي شيبة. في كتابه الكبير [المصنف] : ثنا ابن إدريس، عن ابن جريج عن عطاء قال: ليس على أهل مكة عمرة. قال ابن عباس: أنتم يا أهل مكة لا عمرة لكم، إنما عمرتكم الطواف بالبت، فمن جعل بينه وبين الحرم بطن واد فلا يدخل مكة إلا بإحرام، قال: فقلت لعطاء: أيريد ابن عباس واد من الحل؟ قال: بطن واد من الحل. وقال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن ابن كَيسَان، سمعت ابن عباس يقول: لا يضركم يا أهل مكة ألا تعتمروا، فإن أبيتم فاجعلوا بينكم وبين الحرم بطن واد. وقال: حدثنا يحيي بن سعيد القطان، عن ابن جريج، عن خلف بن مسلم، عن سالم: قال: لو كنت من أهل مكة ما اعتمرت. وقال: حدثنا عبيد الله بن موسي، عن عثمان، عن عطاء قال: ليس على أهل مكة عمرة إنما يعتمر من زار البيت ليطوف به، وأهل مكة يطوفون متي شاؤوا. /وهذا نص أحمد في غير موضع، على أن أهل مكة لا عمرة عليهم، مع قوله بوجوبها على غيرهم. ولهذا كان تحقيق مذهبه، إذا أوجب العمرة أنها تجب إلا على أهل مكة، وإن كان من أصحابه من جعل هذا التفريق رواية ثالثة عنه، وأن القول بالإيجاب يعم مطلقًا. ومنهم من تأول كلامه على أنه لا عمرة عليهم مع الحجة؛ لأنه يتقدم منهم فعلها في غير وقت الحج، فهذا خلاف نصوص أحمد الصريحة عنه بالتفريق. ثم من هؤلاء من يقول: مثل ذلك من أصحاب الشافعي في وجوب العمرة على أهل مكة، قول ضعيف جدًا مخالف للسنة الثابتة، وإجماع الصحابة، فإنها لو كانت واجبة عليهم لأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بها، ولكانوا يفعلونها، وقد علم أنه لم يكونوا أهل مكة يعتمرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أصلًا، بل ولا يمكن أحدًا أن ينقل عن أحد أنه اعتمر من مكة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عائشة. ولهذا كان المصنفون للسنن إذا أرادوا ذكر ما جاء من السنة في العمرة من مكة، لم يكن معهم إلا قضية عائشة، ومن المعلوم أن ما دون هذا تتوفر الهمم والدواعي على نقله، فلو كان أهل مكة كلهم ـ بل /أو بعضهم ـ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يخرجون إلى الحل فيعتمرون فيه لنقل ذلك، كما نقل خروجهم في الحج إلى عرفات، وقد حج النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، وخرج معه أهل مكة إلى عرفات، ولم يعتمر بعد الحجة، ولا قبلها أحد من أدني الحل، لا أهل مكة، ولا غيرهم، إلا عائشة، ثم كان الأمر على ذلك زمن الخلفاء الراشدين. حتي قال ابن عباس، ثم عطاء وغيرهما ـ لما بعد عهد الناس بالنبوة ـ: يا أهل مكة، ليس علىكم عمرة، إنما عمرتكم الطواف بالبيت. ومن المعلوم أنه لو كان أهل مكة يعتمرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويؤمرون بذلك لم يكن مثل هذا خافيا على ابن عباس، إمام أهل مكة، وأعلم الأمة في زمنه بالمناسك وغيرها. وكذلك عطاء بعده إمام أهل مكة، بل إمام الناس كلهم في المناسك، حتي كان يقال في أئمة التابعين الأربعة أئمة أهل الأمصار: سعيد بن المسيب إمام أهل المدينة، وعطاء بن أبي رباح إمام أهل مكة، وإبراهيم النخعي إمام أهل الكوفة، والحسن البصري إمام أهل البصرة، وأعلمهم بالحلال والحرام سعيد بن المسيب، وأعلمهم بالمناسك عطاء، وأعلمهم بالصلاة إبراهيم، وأجمعهم الحسن. وأيضًا، فإن كل واحد من الحج والعمرة يتضمن القصد إلى بيت /الله، المحيط به حرم الله تعالى، ولهذا لم يكن بد من أن يجمع في نسكه بين الحل والحرم، حتي يكون قاصدًا للحرم من الحل، فيظهر فيه معني القصد إلى الله، والتوجه إلى بيته وحرمه، فمن كان بيته خارج الحرم، فهو قاصد من الحل إلى الحرم، إلى البيت. وأما من كان بالحرم كأهل مكة فهم في الحج، لابد لهم من الخروج إلى عرفات، وعرفات هي من الحل، فإذا أفاضوا من عرفات قصدوا حينئذ البيت من الحل. ولهذا كان الطواف المفروض لا يكون إلا بعد التعريف، وهو القصد من الحل إلى الكعبة، الذي هو حقيقة الحج، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الحج عرفة)، ولهذا كان الحج يدرك بإدراك التعريف ويفوت بفوات وقته بطلوع فجر يوم النحر بعد يوم التعريف، فحقيقة الحج ممكنة في حق أهل مكة، كما هي ممكنة في حق غيرهم، إذ ما قبل التعريف من الأعمال كطواف القدوم ليس من الأمور اللازمة.فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته عائشة أنها قد حاضت،وكانت متمتعة أمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تنقض رأسها،وتمتشط،وتهل بالحج،وتدع العمرة. فأكثر الفقهاء يقولون: جعلها قارنة، وأسقط عنها طواف القدوم /فسقوطه عن المفرد للحج أولي، وهو قول أبي حنيفة. ومنهم من يقول: جعلها رافضة للعمرة، وهذا قول مالك، والشافعي وأحمد، لكن تنازعوا في سقوطه عن غير المعذور، فعلى القولين، فهو يدل على أنها لو كانت مفردة أو قارنة كان سقوط طواف القدوم عنها إذا كانت حائضًا أولي من العمرة وطوافها. وهذا بخلاف طواف الإفاضة، فإنه لما قيل: إن صفية بنت حيي قد حاضت قال: (عَقْرَي حَلْقَي، أحابستنا هي؟). فقيل له: إنها قد أفاضت، قال: (فلا إذًا). وهكذا كما أنه قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم ألا ينفر أحد حتي يكون آخر عهده بالبيت، وهو طواف الوداع. ورخص للحائض أن تنفر قبل الوداع. وما سقط بالعذر علم أنه ليس من أركان الحج الذي لابد منها، ولهذا لم يكن على أهل مكة طواف قدوم، ولا طواف وداع، لانتفاء معني ذلك في حقهم، فإنهم ليسوا بقادمين إليها ولا مودعين لها، ما داموا فيها. فظهر أن الحج الذي أصله التعريف للطواف بعد ذلك مشروع لوجود حقيقته فيهم. وأما العمرة، فإن جماعها الطواف بالبيت، وبين الصفا والمروة، وذلك من نفس الحرم، وهو في الحرم دائمًا. والطواف بين الصفا /والمروة تابع في العمرة، ولهذا لا يفعل إلا بعد الطواف، ولا يتكرر فعله لا في حج ولا عمرة. فالمقصود الأكبر من العمرة هو الطواف وذلك يمكن أهل مكة بلا خروج من الحرم، فلا حاجة إلى الخروج منه، ولأن الطواف والعكوف هو المقصود بالقادم إلى مكة، وأهل مكة متمكنون من ذلك، ومن كان متمكنًا من المقصود بلا وسيلة لم يؤمر أن يترك المقصود، ويشتغل بالوسيلة. وأيضًا، فمن المعلوم أن مشي الماشي حول البيت طائفًا، هو العبادة المقصودة، وأن مشيه من الحل هو وسيلة إلى ذلك وطريق، فمن ترك المشي من هذا المقصود الذي هو العبادة، واشتغل بالوسيلة، فهو ضال جاهل بحقيقة الدين، وهو أشر من جهل من كان مجاورًا للمسجد يوم الجمعة يمكنه التبكير إلى المسجد، والصلاة فيه، فذهب إلى مكان بعيد ليقصد المسجد منه، وفوت على نفسه ما يمكنه فعله في المسجد من الصلاة المقصودة. يبين ذلك أن الاعتمار افتعال، من عمر يعمر، والاسم فيه [العمرة] ، قال تعالى: ولهذا ثبت في الصحيح أن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا أبالي ألا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام، وقال آخر: لا أبالي ألا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحجيج، فقال على: الجهاد في سبيل الله أفضل مما ذكرتم. فقال عمر: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا قضيت الجمعة إن شاء الله دخلت عليه، فسألته، فأنزل الله تعالى: وإذا كان كذلك فالمقيم في البيت طائفًا فيه، وعامرًا له بالعبادة، قد أتي بما هو أكمل من معني المعتمر، وأتي المقصود بالعمرة، فلا يستحب له ترك ذلك بخروجه عن عمارة المسجد، ليصير بعد ذلك عامرًا له؛ لأنه استبدل الذي هو أدني بالذي هو خير.
|