الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
وأما [المقام الثاني] ففي أدلة القولين. قال الآمدي: حجة المثبتين أنه قد ثبت إطلاق أهل اللغة اسم الأسد على الإنسان الشجاع؛ والحمار على الإنسان البليد؛ وقولهم ظهر الطريق ومتنها؛ وفلان على جناح السفر؛ وشابت لمة الليل؛ وقامت الحرب على ساق؛ وكبد السماء وغير ذلك. وإطلاق هذه الأسماء لغة مما لا ينكر إلا عن عناد. وعند ذلك فإما أن يقال: هذه الأسماء حقيقة في هذه الصورة أو مجازية؛ لاستحالة خلو هذه الأسماء اللغوية عنها ما سوى الوضع الأول كما سبق تحقيقه لا جائز أن يقال: بكونها حقيقة فيها؛ لأنها حقيقة فيما سواه بالاتفاق فإن لفظ الأسد حقيقة في السبع؛ والحمار في البهيمة والظهر والمتن والساق والكبد في الأعضاء المخصوصة بالحيوان؛ واللمة في الشعر إذا جاوز الأذن. وعند ذلك فلو كانت هذه الأسماء حقيقة فيما ذكر من الصورلكان اللفظ مشتركا، ولو كان مشتركا لما سبق إلى الفهم عند إطلاق هذه الألفاظ البعض دون البعض ضرورة التساوي في الأدلة الحقيقية. ولا شك أن السابق إلى الفهم من إطلاق لفظ الأسد إنما هو السبع، ومن إطلاق لفظ الحمار إنما هو البهيمة، وكذلك في باقي الصور. كيف وأن أهل الأعصار لم تزل تتناقل في أقوالها وكتبها عن أهل الوضع تسمية هذا حقيقة وهذا مجازا؟ فإن قيل: لو كان في لغة العرب لفظ مجازي فإما أن يقيد معناه بقرينة؛ أو لا يقيد بقرينة. فإن كان الأول فهو مع القرينة لا يحتمل غير ذلك المعنى فكان مع القرينة حقيقة في ذلك المعنى وإن كان الثاني فهو أيضا حقيقة؛ إذ لا معنى للحقيقة إلا ما يكون مستعملا بالإفادة من غير قرينة. وأيضا فإنه ما من صورة من الصور إلا ويمكن أن يعبر عنها باللفظ الحقيقي الخاص بها فاستعمال اللفظ المجازي فيها مع افتقاره إلى القرينة من غير حاجة بعيد عن أهل الحكمة والبلاغة في وضعهم. قلنا: الجواب عن الأول أن المجاز لا يفيد عند عدم الشهرة إلا بقرينة، ولا معنى للمجاز سوى هذا النوع في ذلك اللفظي. كيف وأن المجاز والحقيقة من صفات الألفاظ دون القرائن المعنوية؛ فلا تكون الحقيقة صفة للمجموع. وجواب ثان: أن الفائدة في استعمال اللفظ المجازي دون الحقيقة قد يكون لاختصاصه بالخفة على اللسان، أو لمساعدته على وزن الكلام نظما ونثرا، أو للمطابقة والمجانسة والسجع، وقصد التعظيم، والعدول عن الحقيقي للتحقير، إلى غير ذلك من المقاصد المطلوبة في الكلام. هذا كلام أبي الحسن الآمدي في كتابه الكبير وهو أجل كتب المتأخرين الناصرين لهذا الفرق. والجواب عن هذه الحجة من وجوه: أحدها: أن يقال ما ذكرته من الاستعمال غير ممنوع لكن قولك إن هذه الأسماء إما أن تكون حقيقية أو مجازية: إنما يصح إذا ثبت انقسام الكلام إلى الحقيقة والمجاز وإلا فمن ينازعك ـ ويقول لك: لم تذكر حدا فاصلا معقولا بين الحقيقة والمجاز يتميز به هذا عن هذا؛ وأنا أطالبك بذكر هذا الفرق بين النوعين. أو يقول: ليس في نفس الأمر بينهما فرق ثابت. أو يقول: أنا لا أثبت انقسام الكلام إلى حقيقة ومجاز إما لمانع عقلي أو شرعي أو غير ذلك. أو يقول: لم يثبت عندي انقسام الكلام إلى هذا وهذا؛ وجواز ذلك في اللغة والشرع والعقل ونحو ذلك من الأقوال: ليس لك أن تحتج عليه بقولك: إما أن تكون حقيقية أو مجازية؛ إذ دخول هذه الألفاظ في أحد النوعين فرع ثبوت التقسيم فلو أثبت التقسيم بهذا كان دورا؛ فإنه لا يمكن أن يقال: إن هذه من أحد القسمين دون الآخر إلا إذا أثبت أن هناك قسمين لا ثالث لهما وأنه لا يتناول شيء من أحدهما شيئا من الآخر؟ وهذا محل النزاع؛ فكيف تجعل محل النزاع مقدمة في إثبات نفسه وتصادر على المطلوب؟ فإن ذلك أثبت الشيء بنفسه فلم تذكر دليلا وهذا أثبت الأصل بفرعه الذي لا يثبت إلا به فهذا التطويل أثبت غاية المصادرة على المطلوب. الوجه الثاني: أن يقال: من الناس القائلين بالحقيقة والمجاز من جعل بعض الكلام حقيقة ومجازا فوصف اللفظ الواحد بأنه حقيقة ومجاز كألفاظ العموم المخصوصة؛ فإن كثيرا من الناس قال: هي حقيقة باعتبار دلالتها على ما بقي؛ وهي مجاز باعتبار سلب دلالتها على ما أخرج. وعند هؤلاء: الكلام إما حقيقة؛ وإما مجاز؛ وإما حقيقة ومجاز. الوجه الثالث: أنك أنت وطائفة كالرازي ومن اتبعه كابن الحاجب، يقولون: إن الألفاظ قبل استعمالها وبعد وضعها ليست حقيقة ولا مجازا، أو المجاز: هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له؛ وحينئذ فهذه الألفاظ كقولهم: ظهر الطريق؛ وجناح السفر؛ ونحوها: إن لم يثبتوا أنها وضعت لمعنى ثم استعملت في غيره لم يثبت أنها مجاز وهذا مما لا سبيل لأحد إليه؛ فإنه لا يمكن أحدا أن ينقل عن العرب أنها وضعت هذه الألفاظ لغير هذه المعاني المستعملة فيها. فإن قالوا: قد قالوا: جناح الطائر وظهر الإنسان وتكلموا بلفظ الظهر والجناح وأرادوا به ظهر الإنسان وجناح الطائر. قيل لهم: هذا لا يقتضي أنهم وضعوا جناح السفر وظهر الطريق، بل هذا استعمل مضافا إلى غير ما أضيف إليه ذاك؛ إن كان ذلك مضافا. وإن لم يكن ذلك مضافا فالمضاف ليس هو مثل المعرف الذي ليس بمضاف؛ فاللفظ المعرف والمضاف إلى شيء ليس هو مثل اللفظ المضاف إلى شيء آخر فإذا قال: الجناح والظهر؛ وقيل: جناح الطائر وظهر الإنسان: فليس هذا وهذا مثل لفظ جناح السفر وظهر الطريق؛ وجناح الذل. كذلك إذا قيل: رأس الطريق وظهره ووسطه وأعلاه وأسفله كان ذلك مختصا بالطريق؛ وإن لم يكن ذلك مماثلا كرأس الإنسان وظهره ووسطه وأعلاه وأسفله وكذلك أسفل الجبل وأعلاه هو مما يختص به وكذلك سائر الأسماء المضافة يتميز معناه بالإضافة ومعلوم أن اللفظ المركب تركيب مزج أو إسناد أو إضافة ليس هو من لغتهم كاللفظ المجرد عن ذلك لا في الإعراب ولا في المعنى. بل يفرقون بينهما في النداء والنفي فيقولون: يا زيد، ويا عمرو بالضم كقوله: يا آدم ويا نوح، ويقولون في المضاف وما أشبهه: يا عبد الله يا غلام زيد كقوله: يا بني آدم يا بني إسرائيل، ويا أهل الكتاب، ويا أهل يثرب، ويا قومنا أجيبوا داعي الله، ونحو ذلك في المضاف المنصوب. وكذلك في تركيب المزج فليس قولهم: خمسة كقولهم: خمسة عشر بل بالتركيب يغير المعنى. وإذا كان كذلك فلو قال القائل: الخمسة حقيقة في الخمسة؛ وخمسة عشر مجاز: كان جاهلا؛ لأن هذا اللفظ ليس هو ذلك وإن كان لفظ الخمسة موجودا في الموضعين؛ لأنها ركبت تركيبا آخر وجنس هذا التركيب موضوع كما أن جنس الإضافة موضوع. وكذلك قولهم: جناح السفر والذل، وظهر الطريق تركيب آخر أضيف فيه الاسم إلى غير ما أضيف إليه في ذلك المكان، فليس هذا كالمجرد مثل الخمسة؛ ولا كالمقرون بغيره كلفظ الخمسة والعشرين، وهذا المعنى يقال في: الوجه الرابع: وهو أنه سواء ثبت وضع متقدم على الاستعمال؛ أو كان المراد بالوضع هو ما عرف من الاستعمال: فعلى التقديرين هذا اللفظ المضاف لم يوضع ولم يستعمل إلا في هذا المعنى، ولا يفهم منه غيره، بل ولا يحتمل سواه ولا يحتاج في فهم المراد به إلا قرينة معنوية غير ما ذكر في الإضافة بل دلالة الإضافة على معناه كدلالة سائر الألفاظ المضافة فكل لفظ أضيف إلى لفظ دل على معنى يختص ذلك المضاف إليه فكما إذا قيل: يد زيد ورأسه؛ وعلمه ودينه؛ وقوله وحكمه وخبره: دل على ما يختص به وإن لم يكن دين زيد مثل دين عمرو؛ بل دين هذا الكفر ودين هذا الإسلام ولا حكمه مثل حكمه؛ بل هذا الحكم بالجور وهذا الحكم بالعدل ولا خبره مثل خبره؛ بل خبر هذا صدق وخبر هذا كذب وكذلك إذا قيل: لون هذا ولون هذا كان لون كل منهما يختص به وإن كان هذا أسود وهذا أبيض. فقد يكون اللفظ المضاف واحدا مع اختلاف الحقائق في الموضعين؛ كالسواد والبياض وإنما يميز اللون أحدهما عن الآخر بإضافته إلى ما يميزه. فإن قيل: لفظ الكون والدين والخبر ونحو ذلك عند الإطلاق يعم هذه الأنواع؛ فكانت عامة؛ وتسمى متواطئة؛ بخلاف لفظ الرأس والظهر والجناح فإنها عند الإطلاق إنما تنصرف إلى أعضاء الحيوان. قيل: فهب أن الأمر كذلك: أليست بالإضافة اختصت؟ فكانت عامة مطلقة ثم تخصصت بالإضافة أو التعريف فهي من باب اللفظ العام إذا خص بإضافة أو تعريف. وتخصيصه بذلك كتخصيصه بالصفة والاستثناء؛ والبدل والغاية كما يقال: اللون الأحمر والخبر الصادق أو قيل: ألف إلا خمسين فقد تغيرت دلالتها بالإطلاق والتقييد. ثم إنه في كلا الموضعين لم يستعمل اللفظ المعين في غير ما استعمل فيه أولا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (رأس الأمر الإسلام؛ وعموده الصلاة: وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله) وقال: (وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم) قد أضاف الرأس إلى الأمر، وهذا اللفظ لم يستعمل في رأس الحيوان. وكذلك إذا قالوا: رأس المال؛ والشريكان يقتسمان ما يفضل بعد رأس المال والمضارب يستحق نصيبه من الربح بعد رأس المال فلفظ رأس المال لم يستعمل في رأس الحيوان. وكذلك لفظ رأس العين سواء كان جنسا أو علما بالغلبة. وأيضا فقولهم: تلك عند الإطلاق ينصرف إلى أعضاء الحيوان عنه جوابان: أحدهما: أن اللفظ لا يستعمل قط مطلقا لا يكون إلا مقيدا؛ فإنه إنما تقيد بعد العقد والتركيب إما في جملة اسمية أو فعلية من متكلم معروف قد عرفت عاداته بخطابه؛ وهذه قيود يتبين المراد بها. الثاني: أن تجريده عن القيود الخاصة قيد؛ ولهذا يقال: للأمر صيغة موضوعة له في اللغة تدل بمجردها على كونه أمرا وللعموم صيغة موضوعة له في اللغة تدل بمجردها على كونه عاما فنفس التكلم باللفظ مجردا قيد، ولهذا يشترط في دلالته الإمساك عن قيود خاصة فالإمساك عن القيود الخاصة قيد كما أن الاسم الذي يتكلم به لقصد الإسناد إليه مع تجريده عن العوامل اللفظية فيه هو المبتدأ الذي يرفع وسر ذلك تجريده عن العوامل اللفظية فهذا التجريد قيد في رفعه كما أن تقييده بلفظ مثل: [كان] و[إن] و[ظننت] يوجب له حكما آخر. ولهذا كان المتكلم بالكلام له حالان: تارة يسكت ويقطع الكلام ويكون مراده معنى، وتارة يصل ذلك الكلام بكلام آخر بغير المعنى الذي كان يدل عليه اللفظ الأول إذا جرد فيكون اللفظ الأول له حالان: حال يقرنه المتكلم بالسكوت والإمساك وترك الصلة، وحال يقرنه بزيادة لفظ آخر. ومن عادة المتكلم أنه إذا أمسك أراد معنى آخر؛ وإذا وصل أراد معنى آخر، وفي كلا الحالين قد تبين مراده وقرن لفظه بما يبين مراده. ومعلوم أن اللفظ دلالة على المعنى، والدلالات تارة تكون وجودية وتارة تكون عدمية، سواء في ذلك الأدلة التي تدل بنفسها التي قد تسمى الأدلة العقلية؛ والأدلة التي تدل بقصد الدال وإرادته وهي التي تسمى الأدلة السمعية أو الوضعية أو الإرادية. وهي في كلا القسمين كثيرا ما كان مستلزما لغيره؛ فإن وجوده يدل على وجود اللازم له، وعدم اللازم لا يدل على عدمه. كما يدل عدم ذات من الذوات على عدم الصفات القائمة بها؛ وعدم كل شرط معنوي على عدم مشروطه، كما يدل عدم الحياة على عدم العلم؛ وعدم الفساد على عدم إلهية سوى الله وأمثال ذلك. وأما الثاني الذي يدل بالقصد والاختيار، فكما أن حروف الهجاء إذا كتبوها يعلمون بعضها بنقطة وبعضها بعدم نقطة؛ كالجيم والحاء والخاء فتلك علامتها نقطة من أسفل والخاء علامتها نقطة من فوق والحاء علامتها عدم النقطة، وكذلك الراء والزاي، والسين والشين، والصاد والضاد، والطاء والظاء. وكذلك يقال في حروف المعاني: علامتها عدم علامات الأسماء والأفعال فكذلك الألفاظ إذا قال له: علي ألف درهم وسكت: كان ذلك دليلا على أنه أراد ألفا وازنة فإذا قال: ألف زائفة أو ناقصة؛ وإلا خمسين كان وصله لذلك بالصفة والاستثناء دليلا ناقض الدليل الأول. وهنا ألف متصلة بلفظ، وهناك ألف منقطعة عن الصلة، والانقطاع فيها غير الدلالة فليست الدلالة هي نفس اللفظ، بل اللفظ مع الاقتصار عليه وعدم زيادة عليه. وسواء قيل: إن ترك الزيادة من المتكلم أمر وجودي أو قيل: إنه عدمي. فإن أكثر الناس يقولون: الترك أمر وجودي يقوم بذات التارك، وذهب أبو هاشم وطائفة إلى أنه عدمي ويسمون الذمية؛ لأنهم يقولون: العبد يذم على ما لم يفعله، وعلى التقديرين فهو يقصد الدلالة باللفظ وحده لا باللفظ مع المعنى، وكونه وحده قيد في الدلالة؛ وهذا القيد منتف إذا كان معه لفظ آخر. ثم العادة في اللفظ أن الزيادة في الألفاظ المقيدة نقص من اللفظ المفرد ولهذا يقال: الزيادة في الحد نقص في المحدود، وكلما زادت قيود اللفظ العام نقص معناه؛ فإذا قال: [الإنسان؛ والحيوان] كان معنى هذا أعم من معنى الإنسان العربي؛ والحيوان الناطق. الوجه الخامس: لا جائز أن يقال بكونها حقيقة فيها، لأنها حقيقة فيما سواها بالاتفاق، فإن لفظ الأسد حقيقة في السبع، والحمار في البهيمة، والظهر والمتن والساق والكلكل في الأعضاء المخصوصة بالحيوان. ولو كانت حقيقة فيما ذكر كان اللفظ مشتركا، ولو كان مشتركا لما سبق إلى الفهم عند الإطلاق هذا البعض دون بعض ضرورة التساوي في الدلالة الحقيقية. يقال له: قولك: لو كان حقيقة فيما ذكر كان اللفظ مشتركا ما تعني بالمشترك؟ إن عنيت الاشتراك الخاص ـ وهو: أن يكون اللفظ دالا على معنيين من غير أن يدل على معنى مشترك بينهما ألبتة ـ فمن الناس من ينازع في وجود معنى هذا في اللغة الواحدة التي تستند إلى وضع واحد؛ ويقول: إنما يقع هذا في موضعين كما يسمي هذا ابنه باسم ويسمي آخر ابنه بذلك الاسم. وهم لا يقولون: إن تسمية الكوكب سهيلا والمشتري وقلب الأسد والنسر ونحو ذلك هو باعتبار وضع ثان سماها من سماها من العرب وغيرها بأسماء منقولة كالأعلام المنقولة كما يسمي الرجل ابنه كلبا وأسدا ونمرا وبحرا ونحو ذلك. ولا ريب أن الاشتراك بهذا المعنى مما لا ينازع فيه عاقل، لكن معلوم أن هذا وضع ثان وهذا لا يغيره دلالة الأعلام الموضوعة على مسمياتها، والعلامة المميزة في المجاز وإن كان المسمى بالاسم قد يقصد به اتصاف المسمى إما التفاؤل بمعناها؛ وإما دفع العين عنه؛ وإما تسميته باسم محبوب له من أب أو أستاذ أو مميز؛ أو يكون فيه معنى محمود كعبد الله وعبد الرحمن ومحمد وأحمد. لكن بكل حال هذا وضع ثان لهذا واللفظ بهذا الاعتبار يصير به مشتركا ولهذا احتيج في الأعلام إلى التمييز باسم الأب أو الجد مع الأب إذا لم يحصل التمييز باسمه واسم أبيه وإن حصل التمييز بذلك اكتفى به كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في كتابة الصلح بينه وبين قريش حيث كتب: (هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو) بعد أن امتنع المشركون أن يكتبوا محمدا رسول الله، وهو صلى الله عليه وسلم متميز بصفة الرسالة والنبوة عند الله، فلما غير تمييزه بوصفه الذي يوجب تصديقه والإيمان به وافقهم على التمييز باسم أبيه. والمقصود أن من الناس من يقول: ما من لفظ على معنيين في اللغة الواحدة إلا وبينهما قدر مشترك، بل ويلتزم ذلك في الحروف فيجعل بينها وبين المعاني مناسبة تكون باعثة للمتكلم على تخصيص ذلك المعنى بذلك اللفظ. ولم يقل أحد من العقلاء: إن اللفظ يدل على المعنى بنفسه من غير قصد أحد، وأن تلك الدلالة صفة لازمة للفظ حتى يقول القائل: لو كان اللفظ يناسب المعنى لم يختلف باختلاف الأمم فإن الأمور الاختيارية من الألفاظ والأعمال العادية يوجد فيها مناسبات وتكون داعية للفاعل المختار ـ وإن كانت تختلف بحسب الأمكنة والأزمنة والأحوال. والأمور الطبيعية التي ليست باختيار حيوان تختلف أيضا، فالحر والبرد، والسواد والبياض، ونحو ذلك من الأمور الطبيعية تختلف باختلاف طبائع البلاد والأمور الاختيارية من المأكول والمشروب والملبوس والمسكن والمركب والمنكح وغير ذلك تختلف باختلاف عادات الناس ـ مع أنها أمور اختيارية ولها مناسبات ـ فتناسب أهل مكان وزمان من ذلك ما لا تناسب أهل زمان آخر، كما يختار الناس من ذلك في الشتاء والبلاد الباردة ما لا يختارونه في الصيف والبلاد الحارة مع وجود المناسبة الداعية لهم؛ إذ كانوا يختارون في الحر من المأكل الخفيف والفاكهة ما يخف هضمه لبرد بواطنهم وضعف القوى الهاضمة، وفي الشتاء والبلاد الباردة يختارون من المآكل الغليظة ما يخالف ذلك لقوة الحرارة الهاضمة في بواطنهم أو كان زمن الشتاء تسخن فيه الأجواف وتبرد الظواهر من الجماد والحيوان والشجر وغير ذلك لكون الهواء يبرد في الشتاء، وشبيه الشيء منجذب إليه فينجذب إليه البرد فتسخن الأجواف وفي الحر يسخن الهواء فتنجذب إليه الحرارة فتبرد الأجواف فتكون الينابيع في الصيف باردة لبرد جوف الأرض وفي الشتاء تسخن لسخونة جوف الأرض. والمقصود هنا أن بشرا من الناس ليس عباد بن سليمان وحده بل كثير من الناس بل أكثر المحققين من علماء العربية والبيان يثبتون المناسبة بين الألفاظ والمعاني، ويقسمون الاشتقاق إلى ثلاثة أنواع: الاشتقاق الأصغر وهو اتفاق اللفظين فى الحروف والترتيب مثل علم وعالم وعليم. والثاني الاشتقاق الأوسط وهو اتفاقهما فى الحروف دون الترتيب مثل سمي ووسم وقول الكوفييين إن الاسم مشتق من السمة صحيح إذا أريد به هذا الاشتقاق، وإذا أريد به الاتفاق فى الحروف وترتيبها فالصحيح مذهب البصريين أنه مشتق من السمو فإنه يقال في الفعل سماه؛ ولا يقال: وسمه ويقال فى التصغير سمي ولا يقال وسيم، ويقال فى جمعه أسماء ولا يقال أوسام. وأما الاشتقاق الثالث فاتفاقهما فى بعض الحروف دون بعض، لكن أخص من ذلك أن يتفقا فى جنس الباقي مثل: أن يكون حروف حلق كما يقال حزر وعزر وأزر فالمادة تقتضي القوة والحاء والعين والهمزة جنسها واحد، ولكن اعتبار كونها من حروف الحلق ومنه المعاقبة بين الحروف المعتل والمضعف. كما يقال: تقضى البازي وتقضض، ومنه يقال: السرية مشتق من السر وهو النكاح، ومنه قول أبي جعفر الباقر: العامة مشتقة من العمى، ومنه قولهم: الضمان مشتق من ضم إحدى الذمتين إلى الأخرى. وإذا قيل هذا اللفظ مشتق من هذا فهذا يراد به شيئان: أحدهما: أن يكون بينهما مناسبة فى اللفظ والمعنى، من غير اعتبار كون أحدهما أصلا والآخر فرعا، فيكون الاشتقاق من جنس آخر بين اللفظين، ويراد الاشتقاق أن يكون أحدهما مقدما على الآخر أصلا له؛ كما يكون الأب أصلا لولده. وعلى الأول فاذا قيل الفعل مشتق من المصدر أو المصدر مشتق من الفعل فكلا القولين ـ قول البصريين والكوفيين ـ صحيح. وأما على الثاني فاذا أريد الترتيب العقلي فقول البصريين أصح، فإن المصدر إنما يدل على الحدث فقط؛ والفعل يدل على الحدث والزمان. وان أريد الترتيب الوجودي ـ وهو تقدم وجود أحدهما على الآخر ـ فهذا لا ينضبط، فقد يكونون تكلموا بالفعل قبل المصدر، وقد يكونون تكلموا بالمصدر قبل الفعل، وقد تكلموا بأفعال لا مصادر لها مثل: بد، وبمصادر لا أفعال لها مثل: ويح و ويل. وقد يغلب عليهم استعمال فعل ومصدر فعل آخر كما فى الحب فإن فعله المشهور هو الرباعى يقال: أحب يحب، ومصدره المشهور هو: الحب دون الإحباب، وفي اسم الفاعل قالوا: محب ولم يقولوا: حاب، وفي المفعول قالوا: محبوب ولم يقولوا محب الا في الفاعل وكان القياس أن يقال: أحبه إحبابا؛ كما يقال أعلمه اعلاما. وهذا أيضا له أسباب يعرفها النحاة وأهل التصريف إما كثرة الاستعمال، وإما نقل بعض الالفاظ، وإما غير ذلك كما يعرف ذلك أهل النحو والتصريف: اذ كانت أقوى الحركات هي الضمة؛ وأخفها الفتحة؛ والكسرة متوسطة بينهما، فجاءت اللغة على ذلك من الألفاظ المعربة والمبنية. فما كان من المعربات عمدة فى الكلام لا بد له منه كان له المرفوع كالمبتدأ والخبر؛ والفاعل والمفعول القائم مقامه، وما كان فضلة كان له النصب كالمفعول؛ والحال؛ والتمييز، وما كان متوسطا بينهما لكونه يضاف إليه العمدة تارة والفضلة تارة كان له الجر وهو المضاف إليه. وكذلك فى المبنيات مثل ما يقولون في [أين] و[كيف] بنيت على الفتح طلبا للتخيف لأجل الياء، وكذلك فى حركات الألفاظ المبينة الأقوى له الضم، وما دونه له الفتح، فيقولون كره الشيء والكراهية يقولون فيها كرها بالفتح كما قال تعالى: ومن الناس من يغلط هذا القائل. وهذه الأمور وأمثالها هي معروفة من لغة العرب لمن عرفها، معروفة بالاستقراء والتجربة تارة؛ وبالقياس أخرى، كما تفعل الأطباء في طبائع الأجسام، وكما يعرف ذلك في الأمور العادية التي تعرف بالتجربة المركبة من الحس والعقل، ثم قد قيل تعرف مالم تجرب بالقياس، ومعلوم أن هذه الأمور لها أسباب ومناسبات عند جماهير العقلاء من المسلمين وغيرهم ومن أنكر ذلك من النظار فذلك لا يتكلم معه في خصوص مناسبات هذا؛ فإنه ليس عنده في المخلوقات قوة يحصل بها الفعل ولا سبب يخص أحد المتشابهين، بل من أصله أن محض مشيئة الخالق تخصص مثلا عن مثل بلا سبب ولا لحكمة. فهذا يقول كون اللفظ دالا على المعنى إن كان بقول الله فهذا لمجرد الاقتران العادي وتخصيص الرب عنده ليس لسبب ولا لحكمة بل نفس الإرادة تخصص مثلا عن مثل بلا حكمة ولا سبب. وإن كان باختيار العبد فقد يكون السبب خطور ذلك اللفظ في القلب الواضع دون غيره، وبسط هذه الأمور له موضع آخر. والمقصود هنا أن الحجة التي احتج بها على إثبات المجاز وهي قوله: أن هذه الألفاظ إن كانت حقيقة لزم أن تكون مشتركة. هى مبنية على مقدمتين: إحداهما أنه يلزم الاشتراك، والثانية أنه باطل، وهذه الحجة ضعيفة، فإنه قد تمنع المقدمة الأولى وقد تمنع المقدمة الثانية وقد تمنع المقدمتان جميعا، وبذلك أن قوله يلزم الاشترك إنما يصح إذا سلم له أن فى اللغه الواحدة باعتبار اصطلاح واحد ألفاظا تدل على معان متباينة من غير قدر مشترك وهذا فيه نزاع مشهور وبتقدير التسليم فالقائلون بالاشتراك متفقون على أنه في اللغة ألفاظ بينها قدر مشترك، وبينها قدر مميز، وهذا يكون مع تماثل الألفاظ تارة ومع اختلافها أخرى، وذلك أنه كما أن اللفظ قد يتحد ويتعدد معناه فقد يتعدد ويتحد معناها كالألفاظ المترادفة وإن كان من الناس من ينكر الترادف المحض فالمقصود أنه قد يكون اللفظان متفقين في الدلالة على معنى ويمتاز أحدهما بزيادة كما إذا قيل فى السيف: أنه سيف؛ وصارم ؛ومهند؛ فلفظ السيف يدل عليه مجردا، ولفظ الصارم فى الأصل يدل على صفة الصرم عليه، والمهند يدل على النسبة الى الهند، وإن كان يعرف الاستعمال من نقل الوصفية إلى الاسمية فصار هذا اللفظ يطلق على ذاته مع قطع النظر عن هذه الإضافة لكن مع مراعاة هذه الإضافة. منهم من يقول: هذه الأسماء ليست مترادفة لاختصاص بعضها بمزيد معنى. ومن الناس من جعلها مترادفة باعتبار اتحادها في الدلالة على الذات، وأولئك يقولون هي من المتباينة كلفظ الرجل والأسد، فقال لهم: هؤلاء ليست كالمتباينة. والإنصاف أنها متفقة فى الدلالة على الذات، متنوعة فى الدلالة على الصفات، فهي قسم آخر قد يسمى المتكافئة. وأسماء الله الحسنى، وأسماء رسوله وكتابه من هذا النوع فإنك إذا قلت: إن الله عزيز حكيم غفور رحيم عليم قدير، فكلها دالة على الموصوف بهذه الصفات سبحانه وتعالى، كل اسم يدل على صفة تخصه، فهذا يدل على العزة؛ وهذا يدل على الحكمة؛ وهذا يدل على المغفرة؛ وهذا يدل على الرحمة؛ وهذا يدل على العلم؛ وهذا يدل على القدرة؛ وكذلك قول النبى صلى الله عليه وسلم: (إن لي خمسة أسماء أنا محمد؛ وأنا أحمد؛ وأنا الماحي الذي يمحو الله به الكفر؛ وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على عقبي؛ وأنا العاقب الذي ليس بعده نبي). والأسماء التى أنكرها الله على المشركين بتسميتهم أوثانهم بها من هذا الباب حيث قال: والإسناد، وقد يقيد فى الكتاب فلهذا فسر بالرواية؛ وفسر بالخط. وهذا مطالبة بالدليل الشرعي على أن الله شرع أن يعبد غيره فيجعل شفيعا أو يتقرب بعبادته إلى الله، وبيان أنه لاعبادة أصلا إلا بأمر من الله فلهذا قال تعالى: والمقصود هنا أنه إذا كان من الأسماء المختلفة الألفاظ ما يكون معناه واحدا كالجلوس والقعود وهي المترادفة، ومنها ما تتباين معانيها كلفظ السماء والأرض، ومنها ما يتفق من وجه ويختلف من وجه كلفظ الصارم والمهند. وهذا قسم ثالث فإنه ليس معنى هذا مباينا لمعنى ذاك كمباينة السماء للأرض، ولا هو مماثلا لها كماثلة لفظ الجلوس للقعود. فكذلك الأسماء المتفقة اللفظ قد يكون معناها متفقا وهي المتواطئة، وقد يكون معناها متباينا وهي المشتركة اشتراكا لفظيا كلفظ سهيل المقول على الكوكب وعلى الرجل، وقد يكون معناها متفقا من وجه مختلفا من وجه فهذا قسم ثالث ليس هو كالمشترك اشتراكا لفظيا ولا هو كالمتفقة المتواطئة فيكون بينها اتفاق هو اشتراكا معنوي من وجه وافتراق هو اختلاف معنوي من وجه. ولكن هذا لا يكون إلا اذا خص كل لفظ بما يدل على المعنى المختص. وهذه الألفاظ كثيرة فى الكلام المؤلف أو هي أكثر الألفاظ الموجودة في الكلام المؤلف الذي تكلم به كل متكلم، فإن الألفاظ التي يقال أنها متواطئة كأسماء الأجناس مثل: لفظ الرسول والوالي والقاضي والرجل والمرأة والإمام والبيت ونحو ذلك قد يراد بها المعنى العام، وقد يراد بها ما هو أخص منه مما يقترن بها تعريف الإضافة أو اللام كما فى قوله:
|