الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
فأجاب: الحمد لله، نعم تأخير الصلاة عن غير وقتها الذي يجب فعلها فيه عمدًا من الكبائر، بل قد قال عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ : الجمع بين الصلاتين من غير عذر من الكبائر. وقد رواه الترمذي مرفوعًا عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه/ قال: [من جمع بين الصلاتين من غير عذر، فقد أتى بابًا من أبواب الكبائر]. ورفع هذا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان فيه نظر. فإن الترمذي قال: العمل على هذا عند أهل العلم، والأثر معروف، وأهل العلم ذكروا ذلك مقرين له، لا منكرين له. وفى الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [من فاتته صلاة العصر، فقد حبط عمله]، وحبوط العمل لا يتوعد به إلا على ما هو من أعظم الكبائر، وكذلك تفويت العصر أعظم من تفويت غيرها، فإنها الصلاة الوسطى المخصوصة بالأمر بالمحافظة عليها، وهى التي فرضت على من كان قبلنا فضيعوها، فمن حافظ عليها، فله الأجر مرتين، وهى التي لما فاتت سليمان فعل بالخيل ما فعل. وفى الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ـ أيضًا ـ أنه قال: [من فاتته صلاة العصر فكأنما وَتِرَ أهله وماله]. والموتور أهله وماله يبقى مسلوبًا ليس له ما ينتفع به من الأهل والمال، وهو بمنزلة الذي حبط عمله. وأيضًا، فإن الله تعالى يقول : وقد قال تعالى: فإذا كان ـ سبحانه ـ قد توعد بلقى الغى من يضيع الصلاة عن وقتها ويتبع الشهوات، والمؤخر لها عن وقتها مشتغلاً بما يشتهيه هو مضيع لها متبع لشهوته. فدل ذلك على أنه من الكبائر، إذ هذا الوعيد لا يكون إلا على كبيرة، ويؤيد ذلك جعله خاسرًا، والخسران لا يكون بمجرد الصغائر المكفرة باجتناب الكبائر. وأيضًا، فلا... أحدًا من صلى بلا طهارة، أو إلى غير القبلة عمدًا، وترك الركوع والسجود أو القراءة أو غير ذلك متعمدًا، أنه قد فعل بذلك كبيرة، بل قد يتورع في كفره إن لم يستحل ذلك، وأما إذا استحله فهو كافر بلا ريب. ومعلوم أن الوقت للصلاة مقدم على هذه الفروض وغيرها، فإنه لا نزاع بين المسلمين أنه إذا علم المسافر العادم للماء أنه يجده بعد الوقت لم يجز له تأخير الصلاة ليصليها بعد الوقت بوضوء، أو غسل؛ بل ذلك هو الفرض وكذلك العاجز عن الركوع والسجود والقراءة إذا استحله فهو كافر بلا ريب. /ومعلوم أنه إن علم أنه بعد الوقت يمكنه أن يصلى بإتمام الركوع والسجود والقراءة، كان الواجب عليه أن يصلى في الوقت لإمكانه. وأما قول بعض أصحابنا: إنه لا يجوز تأخيرها عن وقتها إلا لناوٍ لجمعها أو مشتغل بشرطها، فهذا لم يقله قبله أحد من الأصحاب، بل ولا أحد من سائر طوائف المسلمين، إلا أن يكون بعض أصحاب الشافعي، فهذا أشك فيه. ولا ريب أنه ليس على عمومه وإطلاقه بإجماع المسلمين، وإنما فيه صورة معروفة، كما إذا أمكن الواصل إلى البئر أن يضع حبلاً يستقى، ولا يفرغ إلا بعد الوقت، وإذا أمكن العريان أن يخيط له ثوبًا ولا يفرغ إلا بعد الوقت، ونحو هذه الصور. ومع هذا، فالذي قاله في ذلك خلاف المذهب المعروف عن أحمد وأصحابه وخلاف قول جماعة علماء المسلمين من الحنفية والمالكية وغيرهم. وما أعلم من يوافقه على ذلك إلا بعض أصحاب الشافعي، ومن قال ذلك فهو محجوج بإجماع المسلمين على أن مجرد الاشتغال بالشرط لا يبيح تأخير الصلاة عن وقتها المحدود شرعًا، فإنه لو دخل الوقت وأمكنه أن يطلب الماء وهو لا يجده إلا بعد الوقت، لم يجز له التأخير باتفاق المسلمين، وإن كان مشتغلاً بالشرط. وكذلك العريان لو أمكنه أن يذهب إلى قرية ليشترى له منها ثوبًا، وهو لا يصل إلا بعد خروج الوقت،لم يجز له التأخير بلا نزاع. /والأمي كذلك إذا أمكنه تعلم الفاتحة وهو لا يتعلمها حتى يخرج الوقت، كان عليه أن يصلى في الوقت، وكذلك العاجز عن تعلم التكبير والتشهد إذا ضاق الوقت صلى بحسب الإمكان، ولم ينتظر وكذلك المستحاضة لو كان دمها ينقطع بعد الوقت ، لم يجز لها أن تؤخر الصلاة لتصلي بطهارة بعد الوقت ، بل تصلي في الوقت بحسب الإمكان. وأما حيث جاز الجمع فالوقت واحد، والمؤخرليس بمؤخر عن الوقت الذي يجوز فعلها فيه، بل في أحد القولين أنه لا يحتاج الجمع إلى النية، كما قال أبو بكر. وكذلك القصر، وهو مذهب الجمهور: كأبى حنيفة ومالك. وكذلك صلاة الخوف تجب في الوقت، مع إمكان أن يؤخرها فلا يستدبر القبلة، ولا يعمل عملاً كثيرًا في الصلاة، ولا يتخلف عن الإمام بركعة، ولا يفارق الإمام قبل السلام، ولا يقضى ما سبق به قبل السلام، ونحو ذلك مما يفعل في صلاة الخوف، وليس ذلك إلا لأجل الوقت، وإلا ففعلها بعد الوقت ـ ولو بالليل ـ ممكن على الإكمال. وكذلك من اشتبهت عليه القبلة، وأمكنه تأخير الصلاة إلى أن يأتى مصرًا، يعلم فيه القبلة لم يجز له ذلك، وإنما نازع من نازع إذا أمكنه تعلم دلائل القبلة، ولا يتعلمها حتى يخرج الوقت. وهذا النزاع/ هو القول المحدث الشاذ الذي تقدم ذكره.وأما النزاع المعروف بين الأئمة في مثل ما إذا استيقظ النائم في آخر الوقت، ولم يمكنه أن يصلى قبل الطلوع بوضوء: هل يصلى بتيمم؟ أو يتوضأ ويصلى بعد الطلوع؟ على قولين مشهورين: الأول: قول مالك، مراعاة للوقت. الثانى: قول الأكثرين كأحمد والشافعي وأبى حنيفة. وهذه المسألة هي التي توهم من توهم أن الشرط مقدم على الوقت، وليس كذلك، فإن الوقت في حق النائم هو من حين يستيقظ. كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، فإن ذلك وقتها). فجعل الوقت الذي أوجب الله على العبد فيه هو وقت الذكر والانتباه، وحينئذ، فمن فعلها في هذا الوقت بحسب ما يمكنه من الطهارة الواجبة فقد فعلها في الوقت، وهذا ليس بمفرط ولا مضيع لها. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس في النوم تفريط؛ إنما التفريط في اليقظة). بخلاف المتنبه من أول الوقت فإنه مأمور أن يفعلها في ذلك الوقت، بحيث لو أخرها عنه عمدًا كان مضيعًا مفرطًا، فإذا اشتغل عنها بشرطها/وكان قد أخرها عن الوقت الذي أمر أن يفعلها فيه، ولولا أنه مأمور بفعلها في ذلك الوقت، لجاز تأخيرها عن الوقت، إذا كان مشتغلاً بتحصيل ماء الطهارة، أو ثوب الاستعارة، بالذهاب إلى مكانه ونحو ذلك، وهذا خلاف إجماع المسلمين. بل المستيقظ في آخر الوقت إنما عليه أن يتوضأ كما يتوضأ المستيقظ في الوقت، فلو أخرها لأنه يجد الماء عند الزوال ونحو ذلك، لم يجز له ذلك. وأيضًا، فقد نص العلماء على أنه إذا جاء وقت الصلاة ولم يصل، فإنه يقتل، وإن قال: أنا أصليها قضاء. كما يقتل إذا قال: أصلى بغير وضوء، أو إلى غير القبلة، وكل فرض من فرائض الصلاة المجمع عليها إذا تركه عمدًا، فإنه يقتل بتركه. كما أنه يقتل بترك الصلاة. فإن قلنا: يقتل بضيق الثانية والرابعة، فالأمر كذلك، وكذلك إذا قلنا: يقتل بضيق الأولى ـ وهو الصحيح ـ أو الثالثة، فإن ذلك مبنى على أنه: هل يقتل بترك صلاة، أو بثلاث؟ على روايتين. وإذا قيل بترك صلاة: فهل يشترط وقت التي بعدها، أو يكفى ضيق وقتها؟ على وجهين. وفيها وجه ثالث: وهو الفرق بين صلاتى الجمع وغيرها. ولا يعارض ما ذكرناه أنه يصح بعد الوقت؛ بخلاف بقية الفرائض؛ لأن الوقت إذا فات لم يمكن استدراكه، فلا يمكنه أن/ يفعلها إلا فائتة، ويبقى إثم التأخير من باب الكبائر التي تمحوها التوبة ونحوها، وأما بقية الفرائض، فيمكن استدراكها بالقضاء. وأما الأمراء الذين كانوا يؤخرون الصلاة عن وقتها، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتالهم، فإن قيل: إنهم كانوا يؤخرون الصلاة إلى آخر الوقت، فلا كلام، وإن قيل ـ وهو الصحيح ـ: إنهم كانوا يفوتونها، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم الأمة بالصلاة في الوقت. وقال: (اجعلوا صلاتكم معهم نافلة). ونهى عن قتالهم، كما نهى عن قتال الأئمة إذا استأثرو وظلموا الناس حقوقهم، واعتدوا عليهم، وإن كان يقع من الكبائر في أثناء ذلك ما يقع. ومؤخرها عن وقتها فاسق، والأئمة لا يقاتلون بمجرد الفسق، وإن كان الواحد المقدور قد يقتل لبعض أنواع الفسق ـ كالزنا، وغيره ـ فليس كلما جاز فيه القتل، جاز أن يقاتل الأئمة لفعلهم إياه؛ إذ فساد القتال أعظم من فساد كبيرة يرتكبها ولى الأمر. ولهذا نص من نص من أصحاب أحمد وغيره على أن النافلة تصلي خلف الفساق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالصلاة خلـف الأمراء الذين يؤخرون الصلاة حتى يخرج وقتها، وهؤلاء الأئمة فساق، وقد أمر بفعلها خَلْفَهم نافلة. /والمقصود أن الفسق بتفويت الصلاة أمر معروف عند الفقهاء. لكن لو قال قائل: الكبيرة تفويتها دائمًا، فإن ذلك إصرار على الصغيرة. قيل له: قد تقدم ما يبين أن الوعيد يلحق بتفويت صلاة واحدة. وأيضًا، فإن الإصرار هو العزم على العود، ومن أتى صغيرة وتاب منها ثم عاد إليها، لم يكن قد أتى كبيرة. وأيضًا، فمن اشترط المداومة على التفويت، محتاج إلى ضابط، فإن أراد بذلك المداومة على طول عمره، لم يكن المذكورون من هذا الباب، وإن أراد مقدارًا محدودًا طولب بدليل عليه. وأيضًا، فالقتل بترك واحدة أبلغ من جعل ذلك كبيرة. والله ـ سبحانه ـ أعلم.
/ فأجاب: الحمد لله، هذا استوجب العقوبة باتفاق المسلمين، والواجب عند جمهور العلماء ـ كمالك والشافعي وأحمد ـ أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، ولعن تارك الصلاة على وجه العموم، وأما لعنة المعين فالأولى تركها، لأنه يمكن أن يتوب. والله أعلم.
فأجاب: الصحيح أن الأذان فرض على الكفاية، فليس لأهل مدينة ولا قرية أن يدعوا الأذان والإقامة، وهذا هو المشهور من مذهب أحمد وغيره. وقد أطلق طوائف من العلماء أنه سنة. ثم من هؤلاء من يقول: إنه إذا اتفق أهل بلد على تركه قوتلوا، والنزاع مع هؤلاء قريب من النزاع اللفظي. فإن كثيرًا من العلماء يطلق القول بالسنة على ما يذم تاركه شرعًا، ويعاقب تاركه شرعًا، فالنزاع بين هذا وبين من يقول: إنه واجب، نزاع لفظي، ولهذا نظائر متعددة. /وأما من زعم أنه سنة لا إثم على تاركيه ولا عقوبة، فهذا القول خطأ. فإن الأذان هو شعار دار الإسلام، الذي ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلق استحلال أهل الدار بتركه، فكان يصلى الصبح، ثم ينظر فإن سمع مؤذنًا لم يغر، وإلا أغار. وفى السنن لأبي داود والنسائي عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [ما من ثلاثة في قرية لا يؤذن، ولا تقام فيهم الصلاة، إلا استحوذ عليهم الشيطان، فعليك بالجماعة، فإن الذئب يأكل الشاة القاصية]. وقد قال تعالى: وأما الترجيع وتركه، وتثنية التكبير وتربيعه، وتثنية الإقامة وإفرادها، فقد ثبت في صحيح مسلم والسنن حديث أبي مَحْذُورة الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم الأذان عام فتح مكة، وكان الأذان فيه وفى ولده بمكة، ثبت أنه علَّمَه الأذان والإقامة، وفيه [الترجيع]. وروى في حديثه [التكبير مرتين] كما في صحيح مسلم. وروى [أربعًا] كما في سنن أبي داود وغيره. وفى حديثه أنه علمه الإقامة شفعًا. وثبت في الصحيح عن أنس بن مالك قال: لما كثر الناس، قال: [تذاكروا إن يعلموا وقت الصلاة بشىء يعرفونه/ فذكروا أن يوروا نارًا، أو يضربوا ناقوسًا، فأمر بلالاً أن يشفع الأذان، ويوتر الإقامة]. وفى رواية للبخارى: [إلا الإقامة]. وفى سنن أبي داود وغيره، أن عبد الله بن زيد لما أري الأذان، وأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يلقيه على بلال، فألقاه عليه، وفيه التكبير أربعًا، بلا ترجيع. وإذا كان كذلك، فالصواب مذهب أهل الحديث، ومن وافقهم، وهو تسويغ كل ما ثبت في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، لا يكرهون شيئًا من ذلك؛ إذ تنوع صفة الأذان والإقامة، كتنوع صفة القراءات والتشهدات، ونحو ذلك. وليس لأحد أن يكره ما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته. وأما من بلغ به الحال إلى الاختلاف والتفرق حتى يوالي ويعادي ويقاتل على مثل هذا ونحوه مما سوغه الله تعالى، كما يفعله بعض أهل المشرق، فهؤلاء من الذين فرقوا دينهم، وكانوا شيعًا. وكذلك ما يقوله بعض الأئمة ـ ولا أحب تسميته ـ من كراهة بعضهم للترجيع، وظنهم أن أبا مَحْذُورة غلط في نقله، وأنه كرره ليحفظه، ومن كراهة من خالفهم لشفع الإقامة، مع أنهم يختارون أذان أبي محذورة. هؤلاء يختارون إقامته، ويكرهون أذانه، وهؤلاء يختارون أذانه، ويكرهون/ إقامته. فكلاهما قولان متقابلان. والوسط أنه لا يكره لا هذا ولا هذا. وإن كان أحمد وغيره من أئمة الحديث يختارون أذان بلال وإقامته؛ لمداومته على ذلك بحضرته، فهذا كما يختار بعض القراءات والتشهدات ونحو ذلك. ومن تمام السنة في مثل هذا: أن يفعل هذا تارة، وهذا تارة، وهذا في مكان، وهذا في مكان؛ لأن هجر ما وردت به السنة، وملازمة غيره، قد يفضى إلى أن يجعل السنة بدعة، والمستحب واجبًا ويفضي ذلك إلى التفرق والاختلاف، إذا فعل آخرون الوجه الآخر. فيجب على المسلم أن يراعي القواعد الكلية، التي فيها الاعتصام بالسنة والجماعة، لاسيما في مثل صلاة الجماعة. وأصح الناس طريقة في ذلك هم علماء الحديث، الذين عرفوا السنة واتبعوها؛ إذ من أئمة الفقه من اعتمد في ذلك على أحاديث ضعيفة، ومنهم من كان عمدته العمل الذي وجده ببلده، وجعل ذلك السنة دون ما خالفه، مع العلم بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد وسع في ذلك، وكل سنة. وربما جعل بعضهم أذان بلال وإقامته ما وجده في بلده: إما بالكوفة، وإما بالشام، وإما بالمدينة. وبلال لم يؤذن بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا قليلاً، وإنما أذن بالمدينة سعد القُرَظِى مؤذن أهل قباء. /والترجيع في الأذان اختيار مالك والشافعي؛ لكن مالك يرى التكبير مرتين، والشافعي يراه أربعا، وتركه اختيار أبي حنيفة. وأما أحمد، فعنده كلاهما سنة وتركه أحب إليه؛ لأنه أذان بلال. والإقامة يختار إفرادها مالك والشافعي وأحمد، وهو مع ذلك يقول: إن تثنيتها سنة، والثلاثة ـ أبو حنيفة والشافعي وأحمد ـ يختارون تكرير لفظ الإقامة، دون مالك، والله أعلم. وأما الأذان الذي هو شعار الإسلام، فقد استعمل فقهاء الحديث ـ كأحمد ـ فيه جميع سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، استحسن أذان بلال وإقامته، وأذان أبي مَحْذُورة، وإقامته. وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أبا محذورة الأذان مرجعًا وفى الإقامة مشفوعة. وثبت في الصحيحين: أن بلالاً أمر أن يشفع الأذان، ويوتر الإقامة. وفى السنن أنه لم يكن يرجع، فرجح أحمد أذان بلال؛ لأنه الذي كان يفعل بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم دائمًا، قبل/ أذان أبي مَحْذُورة، وبعده إلى أن مات. واستحسن أذان أبي مَحْذُورة ولم يكرهه. وهذا أصل مستمر له في جميع صفات العبادات أقوالها وأفعالها، يستحسن كلما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير كراهة لشيء منه مع علمه بذلك، واختياره للبعض، أو تسويته بين الجميع. كما يجوز القراءة بكل قراءة ثابتة، وإن كان قد اختار بعض القراءة: مثل أنواع الأذان والإقامة، وأنواع التشهدات الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم كتشهد ابن مسعود، وأبى موسى، وابن عباس، وغيرهم. وأحبها إليه تشهد ابن مسعود؛ لأسباب متعددة: منها كونه أصحها، وأشهرها. ومنها: كونه محفوظ الألفاظ لم يختلف في حرف منه. ومنها: كون غالبها يوافق ألفاظه، فيقتضي أنه الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر به غالبًا. وكذلك أنواع الاستفتاح، والاستعاذة المأثورة، وأنه اختار بعضها. وكذلك موضع رفع اليدين في الصلاة، ومحل وضعها بعد الرفع، وصفات التحميد المشروع بعد التسميع، ومنها صفات الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وإن اختار بعضها. /ومنها: أنواع صلاة الخوف، ويجوز كل ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم من غير كراهة. ومنها: أنواع تكبيرات العيد، يجوز كل مأثور، وإن استحب بعضه. ومنها: التكبير على الجنائز يجوز ـ على المشهور ـ التربيع، والتخميس، والتسبيع، وإن اختار التربيع. وأما بقية الفقهاء فيختارون بعض ذلك، ويكرهون بعضه. فمنهم من يكره [الترجيع] في الأذان: كأبي حنيفة، ومنهم من يكره تركه كالشافعي. ومنهم من يكره شفع الإقامة كالشافعي. ومنهم من يكره إفرادها، حتى قد آل الأمر بالاتباع إلى نوع جاهلية، فصاروا يقتتلون في بعض بلاد المشرق على ذلك، حمية جاهلية، مع أن الجميع حسن قد أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بلالا بإفراد الإقامة وأمر أبا مَحْذُورة بشفعها. وإن الضلالة ـ حق الضلالة ـ أن ينهى عما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم.
وسئل عن المؤذن إذا قال: [الصلاة خير من النوم] هل السنة أن يستدير ويلتفت /فأجاب: ليس هـذا سنة عند أحد من العلماء، بل السنة أن يقولها وهو مستقبل القبلة، كغيرها مـن كلمات الأذان. وكقوله في الإقامة: قد قامت الصلاة، ولم يستثن ـ من ذلك ـ العلماء إلا الحيعلة، فـإنه يلتفت بها يمينًا وشمـالاً، ولا يختص المشرق بالكلمتين، وليس في الأذان والإقامـة مـا يختص المشـرق والمغرب بجنسـه. فمن قال: [الصلاة خير من النوم] كلاهما إلى المشرق أو المغرب، فهو مبتدع خارج عن السنة في الأذان، باتفاق العلماء. وقد تنازع العلماء: هل يدور في المنارة؟ على قولين مشهورين. فمن دار فقد فعل ما يسوغ فيه الاجتهاد، ولكنه ـ مع ذلك ـ إن دار لقوله: [الصلاة خير من النوم] لزمه أن يدور مرتين. ولا قائل به، وإن خص المشرق بهما كان أبعد عن السنة، فتعين أن يقولهما مستقبل القبلة. والله أعلم.
لما ذهبت على البريد كنا نجمع بين الصلاتين، فكنت أولاً أؤذن عند الغروب وأنا راكب، ثم تأملت فوجدت النبي صلى الله عليه وسلم لما جمع ليلة جمع لم يؤذنوا للمغرب في طريقهم، بل أخر التأذين/حتى نزل فصرت أفعل ذلك؛ لأنه في الجمع صار وقت الثانية وقتًا لهما، والأذان إعلام بوقت الصلاة. ولهذا قلنا: يؤذن للفائتة، كما أذن بلال لما ناموا عن صلاة الفجر؛ لأنه وقتها، والأذان للوقت الذي تفعل فيه، لا الوقت الذي تجب فيه.
فأجاب: إذا سمع المؤذن يؤذن وهو في صلاة فإنه يتمها، ولا يقول مثل ما يقول عند جمهور العلماء، وأما إذا كان خارج الصلاة في قراءة أو ذكر أو دعاء، فإنه يقطع ذلك، ويقول مثل ما يقول المؤذن؛ لأن موافقة المؤذن عبادة مؤقتة يفوت وقتها، وهذه الأذكار لا تفوت. وإذا قطع الموالاة فيها لسبب شرعي كان جائزًا، مثل ما يقطع/ الموالاة فيها بكلام لما يحتاج إليه من خطاب آدمي، وأمر بمعروف، ونهي عن منكر، وكذلك لو قطع الموالاة بسجود تلاوة، ونحو ذلك، بخلاف الصلاة، فإنه لا يقطع موالاتها بسبب آخر، كما لو سمع غيره يقرأ سجدة التلاوة لم يسجد في الصلاة عند جمهور العلماء، ومع هذا، ففى هذا نزاع معروف. والله أعلم.
قال ـ رحمه الله : وأما إذا ابتدؤوا الصلاة بالمواقيت، ففقهاء الحديث قد استعملوا في هذا الباب جميع النصوص الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في أوقات الجواز. وأوقات الاختيار. فوقت الفجر: ما بين طلوع الفجر الصادق إلى طلوع الشمس، ووقت الظهر: من الزوال إلى مصيـر ظل كل شىء مثله سوى فىء الزوال، ووقت العصر: إلى اصفرار الشمس ـ على ظاهر مذهب أحمد ـ ووقت المغرب: إلى مغيب الشفق، ووقت العشاء: إلى منتصف الليل ـ على ظاهر مذهب أحمد. وهذا ـ بعينه ـ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي/ رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو. وروى ـ أيضًا ـ من حديث أبي هريرة ـ رضى الله عنه. وليس عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث من قوله في المواقيت الخمس أصح منه، وكذلك صح معناه من غير وجه من فعل النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، من حديث أبي موسى وبريدة ـ رضى الله عنهما. وجاء مفرقًا في عدة أحاديث، وغالب الفقهاء إنما استعملوا غالب ذلك. فأهل العراق، المشهور عنهم أن العصر لا يدخل وقتها حتى يصير ظل كل شىء مثليه. وأهل الحجاز ـ مالك وغيره ـ: ليس للمغرب عندهم إلا وقت واحد.
وكذلك نقول بما جاءت به السنة والآثار من الجمع بين الصلاتين في السفر والمطر والمرض، كما في حديث المستحاضة، وغير ذلك من الأعذار. ونقول بما دل عليه الكتاب والسنة والآثار من أن الوقت وقتان: وقت اختيار، وهو خمس مواقيت. ووقت اضطرار، وهو ثلاث مواقيت. ولهذا أمرت الصحابة ـ كعبد الرحمن بن عوف وابن عباس وغيرهما ـ / الحائض إذا طهرت قبل الغروب أن تصلي الظهر والعصر، وإذا طهرت قبل الفجر أن تصلي المغرب والعشاء. وأحمد موافق في هذه المسائل لمالك ـ رحمه الله. وزائد عليه بما جاءت به الآثار. والشافعي ـ رحمه الله ـ هو دون مالك في ذلك، وأبو حنيفة أصله في الجمع معروف. وكذلك أوقات الاستحباب، فإن أهل الحديث يستحبون الصلاة في أول الوقت في الجملة، إلا حيث يكون في التأخير مصلحة راجحة كما جاءت به السنة، فيستحبون تأخير الظهر في الحر مطلقًا، سواء كانوا مجتمعين أو متفرقين، ويستحبون تأخير العشاء ما لم يشق. وبكل ذلك جاءت السنن الصحيحة التي لا دافع لها. وكل من الفقهاء يوافقهم في البعض أو الأغلب. فأبو حنيفة: يستحب التأخير إلا في المغرب، والشافعي: يستحب التقديم مطلقًا حتى في العشاء ـ على أحد القولين ـ وحتى في الحر، إذا كانوا مجتمعين، وحديث أبي ذر الصحيح فيه أمر النبي صلى الله عليه وسلم لهم بالإبراد، وكانوا مجتمعين.
|