الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
والتفاضل في الإيمان بدخول الزيادة والنقص فيه يكون من وجوه متعددة: أحدها: الأعمال الظاهرة: فإن الناس يتفاضلون فيها، وتزيد وتنقص، وهذا مما اتفق الناس على دخول الزيادة فيه والنقصان، لكن نزاعهم في دخول ذلك في مسمى الإيمان. فالنفاة يقولون: هو من ثمرات الإيمان ومقتضاه، فأدخل فيه مجازا بهذا الاعتبار، وهذا معنى زيادة الإيمان عندهم ونقصه، أي زيادة ثمراته ونقصانها، فيقال: قد تقدم أن هذا من لوازم الإيمان وموجباته، فإنه يمتنع أن يكون إيمان تام في القلب بلا قول ولا عمل ظاهر، وأما كونه لازمًا أو جزءًا منه فهذا يختلف بحسب حال استعمال لفظ الإيمان مفردًا، أو مقرونًا بلفظ الإسلام والعمل، كما تقدم. وأما قولهم: الزيادة في العمل الظاهر لا في موجبه ومقتضيه فهذا غلط،/فإن التفاضل معلول الأشياء. ومقتضاها يقتضي تفاضلها في أنفسها، وإلا فإذا تماثلت الأسباب الموجبة لزم تماثل موجبها ومقتضاها. فتفاضل الناس في الأعمال الظاهرة يقتضي تفاضلهم في موجب ذلك ومقتضيه، ومن هذا يتبين: الوجه الثاني: في زيادة الإيمان ونقصه: وهو زيادة أعمال القلوب ونقصها، فإنه من المعلوم بالذوق الذي يجده كل مؤمن: أن الناس يتفاضلون في حب الله ورسوله، وخشية الله، والإنابة إليه، والتوكل عليه، والإخلاص له، وفي سلامة القلوب من الرياء، والكبر والعجب، ونحو ذلك، والرحمة للخلق والنصح لهم و نحو ذلك من الأخلاق الإيمانية، وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان، من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار)، وقال تعالى: /وهذه الأحاديث ونحوها في الصحاح، وفيها بيان تفاضل الحب والخشية، وقد قال تعالى: وقال صلى الله عليه وسلم: (أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا). الوجه الثالث:أن نفس التصديق والعلم في القلب يتفاضل باعتبار الإجمال والتفصيل، فليس تصديق من صدق الرسول مجملاً من غير معرفة منه بتفاصيل أخباره، كمن عرف ما أخبر به عن الله وأسمائه وصفاته، والجنة والنار والأمم وصدقه في ذلك كله، وليس من التزم طاعته مجملاً،ومات قبل أن يعرف تفصيل ما أمره به، كمن عاش حتى عرف ذلك مفصلاً وأطاعه فيه. الوجه الرابع: أن نفس العلم والتصديق يتفاضل ويتفاوت كما يتفاضل سائر صفات الحي، من القدرة، والإرادة، والسمع والبصر، والكلام، بل سائر الأعراض من الحركة والسواد والبياض ونحو ذلك،فإذا كانت القدرة على الشيء تتفاوت فكذلك الإخبار عنه يتفاوت، وإذا قال القائل: العلم بالشيء/ الواحد لا يتفاضل،كان بمنزلة قوله:القدرة على المقدور الواحد لا تتفاضل، وقوله: ورؤية الشيء الواحد لا تتفاضل. ومن المعلوم أن الهلال المرئي يتفاضل الناس في رؤيته، وكذلك سمع الصوت الواحد يتفاضلون في إدراكه، وكذلك الكلمة الواحدة يتكلم بها الشخصان ويتفاضلون في النطق بها، وكذلك شم الشيء الواحد وذوقه يتفاضل الشخصان فيه. فما من صفة من صفات الحي وأنواع إدراكاته، وحركاته، بل وغير صفات الحي، إلا وهي تقبل التفاضل والتفاوت إلى ما لا يحصره البشر، حتى يقال: ليس أحد من المخلوقين يعلم شيئًا من الأشياء مثل ما يعلمه الله من كل وجه، بل علم الله بالشيء أكمل من علم غيره به كيف ما قدر الأمر، وليس تفاضل العلمين من جهة الحدوث والقدم فقط، بل من وجوه أخري. والإنسان يجد في نفسه أن علمه بمعلومه يتفاضل حاله فيه كما يتفاضل حاله في سمعه لمسموعه، ورؤيته لمرئيه، وقدرته على مقدوره، وحبه لمحبوبه، وبغضه لبغيضه، ورضاه بمرضيه، وسخطه لمسخوطه، وإرادته لمراده، وكراهيته لمكروهه، ومن أنكر التفاضل في هذه الحقائق كان مسفسطًا. الوجه الخامس: أن التفاضل يحصل من هذه الأمور من جهة الأسباب المقتضية لها، فمن كان مستند تصديقه ومحبته أدلة توجب اليقين، وتبين فساد الشبهة العارضة، لم يكن بمنزلة من كان تصديقه لأسباب دون ذلك، بل من جعل له علوم ضرورية لا يمكنه دفعها عن نفسه لم يكن بمنزلة من تعارضه/الشبه ويريد إزالتها بالنظر والبحث، ولا يستريب عاقل أن العلم بكثرة الأدلة وقوتها، وبفساد الشبه المعارضة لذلك، وبيان بطلان حجة المحتج عليها ليس كالعلم الذي هو الحاصل عن دليل واحد، من غير أن يعلم الشبه المعارضة له، فإن الشيء كلما قويت أسبابه وتعددت وانقطعت موانعه واضمحلت، كان أوجب لكماله، وقوته وتمامه. الوجه السادس: أن التفاضل يحصل في هذه الأمور من جهة دوام ذلك وثباته وذكره واستحضاره، كما يحصل البغض من جهة الغفلة عنه والإعراض والعلم والتصديق والحب والتعظيم وغير ذلك، فما في القلب هي صفات وأعراض وأحوال تدوم وتحصل بدوام أسبابها وحصول أسبابها. والعلم وإن كان في القلب فالغفلة تنافي تحققه، والعالم بالشيء في حال غفلته عنه دون العالم بالشيء في ذكره له، قال عُمَير بن حبيب الخَطْمي من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: الإيمان يزيد وينقص، قالوا: وما زيادته ونقصه؟ قال: إذا حمدنا الله وذكرناه وسبحناه فذلك زيادته، فإذا غفلنا ونسينا وضيعنا فذلك نقصانه. الوجه السابع: أن يقال:ليس فيما يقوم بالإنسان من جميع الأمور أعظم تفاضلا وتفاوتًا من الإيمان، فكلما تقرر إثباته من الصفات والأفعال مع تفاضله، فالإيمان أعظم تفاضلا من ذلك. ومثال ذلك أن الإنسان يعلم من نفسه تفاضل الحب الذي يقوم بقلبه، سواء كان حبًا لولده، أو لامرأته،/أو لرياسته،أو وطنه، أو صديقه، أو صورة من الصور، أو خيله، أو بستانه، أو ذهبه، أو فضته، وغير ذلك من أمواله، فكما أن الحب أوله علاقة لتعلق القلب بالمحبوب، ثم صبابة لانصباب القلب نحوه، ثم غرام للزومه القلب كما يلزم الغريم غريمه، ثم يصير عشقًا إلي أن يصير تَتَيُّمًا ـ والتَّتَيُّم: التَّعَبُّد، وتيم الله: عبد الله ـ فيصير القلب عبدًا للمحبوب مطيعًا له لا يستطيع الخروج عن أمره، وقد آل الأمر بكثير من عشاق الصور إلى ما هو معروف عند الناس، مثل من حمله ذلك على قتل نفسه وقتل معشوقه أو الكفر والردة عن الإسلام أو أفضى به إلى الجنون وزوال العقل، أو أوجب خروجه عن المحبوبات العظيمة من الأهل والمال والرياسة، أو أمراض جسمه وأسنانه. فمن قال: الحب لا يزيد ولا ينقص، كان قوله من أظهر الأقوال فسادًا، ومعلوم أن الناس يتفاضلون في حب الله أعظم من تفاضلهم في حب كل محبوب، فهو ـ سبحانه ـ اتخذ إبراهيم خليلاً، واتخذ محمد ـ أيضًا ـ خليلاً، كما استفاض عنه أنه قال:(لو كنت متخذًا خليلاً من أهل الأرض لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن صاحبكم خليل الله)، يعني نفسه صلى الله عليه وسلم. وقال:(إن الله اتخذني خليلاً، كما اتخذ إبراهيم خليلا)،والخُلَّة أخص من مطلق المحبة، فإن الأنبياء ـ عليهم السلام ـ والمؤمنين يحبون الله ويحبهم الله، كما قال: والناس في حب الله يتفاوتون، ما بين أفضل الخلق محمد وإبراهيم، إلى أدني الناس درجة، مثل من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، و ما بين هذين الحدين من الدرجات لا يحصيه إلا رب الأرض والسموات، فإنه ليس في أجناس المخلوقات ما يتفاضل بعضه على بعض كبني آدم، فإن الفرس الواحدة ما تبلغ أن تساوي ألف ألف. وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي ذر أنه كان جالسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم، إذ مر به رجل من أشراف الناس، فقال: (يا أبا ذر، أتعرف هذا؟). قلت: نعم، يا رسول الله، هذا حَرِيٌّ إن خطب أن ينكح، وإن قال أن يُسْمَع لقوله، وإن غاب أن يسأل عنه. ثم مر برجل من ضعفاء المسلمين، فقال: (يا أبا ذر، أتعرف هذا؟). قلت: نعم يا رسول الله هذا رجل من ضعفاء الناس، هذا حري إن خطب ألا يُنْكَح، وإن قال ألا يُسْمَع لقوله، وإن غاب ألا يسأل عنه، فقال: (يا أبا ذر، لَهَذَا خير من ملء الأرض مثل هذا). فقد أخبر الصادق الذي لا يجاوز فيما يقول: أن الواحد من بني آدم/ يكون خيرًا من ملء الأرض من الآدميين، وإذا كان الواحد منهم أفضل من الملائكة، والواحد منهم شر من البهائم، كان التفاضل الذي فيهم أعظم من تفاضل الملائكة، وأصل تفاضلهم إنما هو بمعرفة الله ومحبته، فعلم أن تفاضلهم في هذا لا يضبطه إلا الله، وكل ما يعلم من تفاضلهم في حب الشيء من محبوباتهم، فتفاضلهم في حب الله أعظم. وهكذا تفاضلهم في خوف ما يخافونه، وتفاضلهم في الذل والخضوع لما يذلون له ويخضعون، وكذلك تفاضلهم فيما يعرفونه من المعروفات، ويصدقون به ويقرون به، فإن كانوا يتفاضلون في معرفة الملائكة وصفاتهم، والتصديق بهم،فتفاضلهم في معرفة الله وصفاته والتصديق به أعظم. وكذلك إن كانوا يتفاضلون في معرفة روح الإنسان وصفاتها والتصديق بها، أو في معرفة الجن وصفاتهم وفي التصديق بهم، أو في معرفة ما في الآخرة من النعيم والعذاب ـ كما أخبروا به من المأكولات والمشروبات والملبوسات والمنكوحات والمسكونات ـ فتفاضلهم في معرفة الله وصفاته والتصديق به أعظم من تفاضلهم في معرفة الروح التي هي النفس الناطقة، ومعرفة ما في الآخرة من النعيم والعذاب، بل إن كانوا متفاضلين في معرفة أبدانهم وصفاتها وصحتها ومرضها وما يتبع ذلك، فتفاضلهم في معرفة الله أعظم وأعظم، فإن كل ما يعلم ويقال يدخل في معرفة الله، إذ لا موجود إلا وهو خلقه، وكل ما في المخلوقات من الصفات والأسماء والأقدار والأفعال فإنها شواهد ودلائل على/ ما لله ـ سبحانه ـ من الأسماء الحسنى والصفات العلى، إذ كل كمال في المخلوقات فمن أثر كماله، وكل كمال ثبت لمخلوق فالخالق أحق به، وكل نقص تنزه عنه مخلوق فالخالق أحق بتنزيهه عنه، وهذا على طريق كل طائفة واصطلاحها. فهذا يقول: كمال المعلول من كمال علته، وهذا يقول: كمال المصنوع المخلوق من كمال صانعه وخالقه. وفي الحديث الذي رواه أحمد في المسند، ورواه ابن حِبَّان في صحيحه عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(ما أصاب عبدًا هَمٌّ ولا حَزَن فقال: اللهم إني عَبْدُك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيّ حكمك، عَدْلٌ في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن رَبيع قلبي، ونور صدري، وجِلاء حزني، وذهاب هَمِّى وغَمِّي، إلا أذهب الله همه وحزنه، وأبدله مكانه فرحًا). قالوا: يا رسول الله، ألا نتعلمهن؟ قال: (بلى ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن). فقد أخبر في هذا الحديث:أن لله أسماء استأثر بها في علم الغيب عنده، وأسماء الله متضمنة لصفاته ليست أسماء أعلام محضة، بل أسماؤه ـ تعالى ـ كالعليم والقدير والسميع والبصير والرحيم والحكيم ونحو ذلك، كل اسم يدل على ما لم يدل عليه الاسم الآخر من معاني صفاته، مع اشتراكها كلها في الدلالة على ذاته، وإذا كان من أسمائه ما اختص هو بمعرفته، ومن أسمائه ما خص به/ من شاء من عباده، علم أن تفاضل الناس في معرفته أعظم من تفاضلهم في معرفة كل ما يعرفونه. وبهذا يتبين لك أن من زعم من أهل الكلام والنظر أنهم عرفوا الله حق معرفته،بحيث لم يبق له صفة إلا عرفوها، وأن ما لم يعرفوه ولم يقم لهم دليل على ثبوته، كان معدومًا منتفيًا في نفس الأمر، قوم غالطون مخطئون مبتدعون ضالون، وحجتهم في ذلك داحضة، فإن عدم الدليل القطعي والظني على الشيء دليل على انتفائه، إلا أن يعلم أن ثبوته مستلزم لذلك الدليل. مثل أن يكون الشيء لو وجد لتوفرت الهمم والدواعي على نقله، فيكون هذا لازمًا لثبوته، فيستدل بانتفاء اللازم على انتفاء الملزوم، كما يعلم أنه لو كان بين الشام والحجاز مدينة عظيمة مثل بغداد ومصر لكان الناس ينقلون خبرها، فإذا نقل ذلك واحد واثنان وثلاثة علم كذبهم. وكما يعلم أنه لو ادعى النبوة أحد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم مثل مُسَيْلَمَة والْعَنْسِيّ وطُلَيْحَة وسَجَاح لنقل الناس خبره، كما نقلوا أخبار هؤلاء، ولو عارض القرآن ـ معارضٌ أتى بما يظن الناس أنه مثل القرآن، لنقل كما نقل قرآن مسيلمة الكذاب، وكما نقلوا الفصول والغايات لأبي العلاء المعَرِّي، وكما نقلوا غير ذلك من أقوال المعارضين، لو بخرافات لا يظن عاقل أنها مثله، فكان النقل لما تظهر فيه المشابهة والمماثلة أقوى في العادة والطباع في ذلك وأرغب ـ سواء كانوا محبين أو مبغضين ـ هذا أمر جُبِل عليه بنو آدم. /كما يعلم أن علي بن أبي طالب لو طلب الخلافة على عهد أبي بكر وعمر وعثمان وقاتل عليها لنقل ذلك الناس، كما نقلوا ما جرى بعد هؤلاء، كما يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لو أمره أن يصلي بالناس صلاتهم لنقلوا ذلك، كما نقلوا أمره لأبي بكر وصلاته بالناس، وكما يعلم أنه لو عهد له بالخلافة لنقلوا ذلك كما نقلوا ما دونه، بل كما يعلم أنه لم يكن يجتمع هو وأصحابه على استماع دف أو كف ولا على رقص وزمر، بل كما يعلم أنه لم يكن بعد الصلوات يجتمع هو وهم على دعاء ورفع أيد، ونحو ذلك، إذ لو فعل ذلك لنقلوه، بل كما يعلم أنه لم يصل في السفر الظهر والعصر والعشاء أربعًا، وأنه لو صلى في السفر أربعًا بعض الأوقات لنقل الناس ذلك، كما نقلوا جَمْعَه بين الصلاتين بعض الأوقات. بل كما يعلم أنه لم يكن يصلي المكتوبات وحده، بل إنما كان يصليهن في الجماعة، بل كما يعلم أنه لم يكن هو وأصحابه يحملون التراب في السفر للتيمم، ولا يصلون كل ليلة على من يموت من المسلمين، ولا ينوون الاعتكاف كلما دخلوا مسجدًا للصلاة، بل كما يعلم أنه لم يصل على غائب غير النجاشي، بل كما يعلم أنه لو كان دائمًا يَقْنُتُ في الفجر أو غيرها بقنوت مسنون يجهر به لنقل الناس ذلك ـ كما نقلوا قنوته العارض الذي دعا فيه لقوم وعلى قوم، وكان نقلهم لذلك أوكد ـ وكما يعلم أنه لما صلى بعرفة ومزدلفة قصرًا وجمعًا لو أمر أحدًا خلفه أن يتم صلاته، أو ألا يجمع معه لنقل الناس ذلك، كما نقلوا ما هو دون ذلك. /وكما يعلم أنه لم يأمر الحُيَّض في زمانه المبتدآت بالحيض، أن يغتسلن عند انقضاء يوم وليلة، وأنه لم يأمر أصحابه أن يغسلوا ما يصيب أبدانهم وثيابهم من المني، وأنه لم يوقت للناس لفظًا معينًا لا في نكاح ولا في بيع ولا إجارة ولا غير ذلك. ولما حج حجة الوداع لم يعتمر عقيب الحج، وأنه لما أفاض من منى إلى مكة يوم النحر، ما طاف وسعى أولاً ثم طاف ثانيًا، إلى غير ذلك مما يطول ذكره،ومن تتبع كتب الصحيحين ونحوها من الكتب المعتمدة، ووقف على أقوال الصحابة والتابعين ومن قفا منهاجهم من الأئمة المرضيين ـ قديماً وحديثًاـ علم صحة ما أوردناه في هذا الباب. والمقصود هنا أن المدلول إذا كان وجوده مستلزمًا لوجود دليله، كان انتفاء دليله دليلاً على انتفائه، أما إذا أمكن وجوده وأمكن ألا نعلم نحن دليل ثبوته لم يكن عدم علمنا بدليل وجوده دليلاً على عدمه، فأسماء الله وصفاته إذا لم يكن عندنا ما يدلنا عليها لم يكن ذلك مستلزمًا لانتفائها، إذ ليس في الشرع ولا في العقل ما يدل على أنا لابد أن نعلم كل ما هو ثابت له ـ تعالى ـ من الأسماء والصفات، بل قد قال أفضل الخلق وأعلمهم بالله في الحديث الصحيح:(لا أحصى ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك)، وفي الحديث الصحيح، حديث الشفاعة: (فأخر ساجدًا، فأحمد ربي بمحامد يفتحها عليَّ لا أحصيها الآن). فإذا كان أفضل الخلق لا يحصى ثناء عليه، ولا يعرف الآن محامده التي يحمده بها عند السجود للشفاعة، فكيف يكون غيره عارفًا بجميع محامد الله/ والثناء عليه، وكل ما له من الأسماء الحسنى فإنه داخل في محامده وفيما يثنى عليه به وإذا كان كذلك فمن كان بما له من الأسماء والصفات أعلم وأعرف كان بالله أعلم وأعرف، بل من كان بأسماء النبي صلى الله عليه وسلم وصفاته أعلم كان بالنبي صلى الله عليه وسلم أعلم،فليس من علم أنه نبي كمن علم أنه رسول، ولا من علم أنه رسول كمن يعلم أنه خاتم الرسل ولا من علم أنه خاتم الرسل كمن علم أنه سيد ولد آدم، ولا من علم ذلك كمن علم ما خصه الله به من الشفاعة والحوض والمقام المحمود والملة وغير ذلك من فضائله صلى الله عليه وسلم، وليس كل من جهل شيئًا من خصائصه يكون كافرًا، بل كثير من المؤمنين لم يسمع بكثير من فضائله وخصائصه، فكذلك ليس كل من جهل بعض أسماء الله وصفاته يكون كافرًا، إذ كثير من المؤمنين لم يسمع كثيرًا مما وصفه به رسوله، وأخبر به عنه. فهذه الوجوه ونحوها مما تبين تفاضل الإيمان الذي في القلب، وأما تفاضلهم في الأقوال والأعمال الظاهرة فلا تشتبه على أحد، والله أعلم.
إذا تبين هذا، وعلم أن الإيمان الذي في القلب من التصديق والحب وغير ذلك يستلزم الأمور الظاهرة من الأقوال الظاهرة، والأعمال الظاهرة، كما أن القصد التام مع القدرة يستلزم وجود المراد، وأنه يمتنع مقام الإيمان الواجب في القلب من غير ظهور موجب ذلك ومقتضاه ـ زالت الشبه العلمية في هذه المسألة، ولم يبق إلا نزاع لفظي، في أن موجب الإيمان الباطن هل هو جزء منه داخل في مسماه فيكون لفظ الإيمان دالاً عليه بالتضمن والعموم؟ أو هو لازم للإيمان ومعلول له وثمرة له، فتكون دلالة الإيمان عليه بطريق اللزوم؟ وحقيقة الأمر: أن اسم الإيمان يستعمل تارة هكذا وتارة هكذا، كما قد تقدم، فإذا قرن اسم الإيمان بالإسلام أو العمل كان دالاً على الباطن فقط، وأن إفراد اسم الإيمان فقد يتناول الباطن والظاهر، وبهذا تأتلف النصوص، فقوله:(الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول:لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)، أفرد لفظ الإيمان فدخل فيه الباطن والظاهر، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل: (الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر) ذكره مع قوله صلى الله عليه وسلم: (الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول/ الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان، وتحج البيت)،فلما أفرده عن اسم الإسلام ذكر ما يخصه الاسم في ذاك الحديث مجردًا عن الاقتران. وفي هذا الحديث مقرون باسم الإسلام، وقوله تعالى: وأما إذا قرن الإسلام بالإيمان، كما في قوله تعالى: فإن قال قائل: اسم الإيمان إنما يتناول الأعمال مجازًا. قيل أولا: ليس هذا بأولى ممن قال: إنما تخرج عنه الأعمال مجازًا، بل هذا أقوى، لأن خروج العمل عنه إنما هو إذا كان مقرونًا باسم الإسلام والعمل، وأما دخول العمل فيه فإذا أفرد كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون شعبة/ أعلاها قول:لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان) فإن ما يدل مع الاقتران أولى باسم المجاز مما يدل عند التجريد والإطلاق. وقيل له ثانيا: لا نزاع في أن العمل الظاهر هو فرع عن الباطن وموجب له ومقتضاه، لكن هل هو داخل في مسمى الاسم وجزء منه، أو هو لازم للمسمى كالشرط المفارق، والموجب التابع؟ ومن المعلوم أن الأسماء الشرعية والدينية: كاسم [الصلاة]و[الزكاة] و[الحج] ونحو ذلك، هي باتفاق الفقهاء اسم لمجموع الصلاة الشرعية والحج الشرعي، ومن قال: إن الاسم إنما يتناول ما يتناوله عند الإطلاق في اللغة، وإن ما زاده الشارع إنما هو زيادة في الحكم وشرط فيه لا داخل في الاسم، كما قال ذلك القاضي أبو بكر بن الطيب والقاضي أبو يعلى، ومن وافقهما، على أن الشرع زاد أحكامًا شرعية جعلها شروطًا في القصد، والأعمال والدعاء، ليست داخلة في مسمي الحج والصيام، والصلاة، فقولهم مرجوع عند الفقهاء وجماهير المنسوبين إلى العلم؛ ولهذا كان الجمهور من أصحاب الأئمة الأربعة على خلاف هذا القول. فإذا قال قائل: إن اسم الإيمان إنما يتناول مجرد ما هو تصديق، وأما كونه تصديقًا بالله وملائكته وكتبه ورسله، وكون ذلك مستلزمًا لحب الله ورسوله ونحو ذلك، هو شرط في الحكم لا داخل في الاسم إن لم يكن أضعف من ذلك القول فليس دونه في الضعف، فكذلك من قال: الأعمال الظاهرة/ لوازم للباطن، لا تدخل في الاسم عند الإطلاق يشبه قوله قول هؤلاء، والشارع إذا قرن بالإيمان العمل فكما يقرن بالحج ما هو من تمامه، كما إذا قال: من حج البيت وطاف وسعى ووقف بعرفة ورمى الجمار، ومن صلى فقرأ وركع وسجد، كما قال: من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا، ومعلوم أنه لم يكن صومًا شرعيا إن لم يكن إيمانًا واحتسابًا. وقال: (من حج هذا البيت فلم يَرْفُثْ ولم يَفْسُقْ رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه). ومعلوم أن الرفث ـ الذي هو الجماع ـ يفسد الحج، والفسوق ينقص ثوابه، وكما قال صلى الله عليه وسلم: (من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا). فلا يكون مصليًا إن لم يستقبل قبلتنا في الصلاة، وكما قال صلى الله عليه وسلم: (خمس صلوات كتبهن الله على العبد في اليوم والليلة، من حافظ عليهن كان له عهد عند الله أن يدخله الجنة، ومن لم يحافظ عليهن لم يكن له عند الله عهد، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له).فذكر المحافظ عليها، ومعلوم أنه لا يكون مصليًا لها على الوجه المأمور إلا بالمحافظة عليها، ولكن بين أن الوعيد مشروط بذلك؛ ولهذا لا يلزم من عدم المحافظة ألا يصليها بعد الوقت فلا يكون محافظا عليها؛ إذ المحافظة تستلزم فعلها كما قال: /وبهذا يظهر أن الاحتجاج بذلك على أن تارك الصلاة لا يكفر حجة ضعيفة، لكنه يدل على أن تارك المحافظة لا يكفر، فإذا صلاها بعد الوقت لم يكفر، ولهذا جاءت في الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها قيل: يا رسول الله، ألا نقاتلهم؟ قال:(لا، ما صلوا)، وكذلك لما سئل ابن مسعود عن قوله تعالى: والمقصود أنه قد يدخل في الاسم المطلق أمور كثيرة وإن كانت قد تخص بالذكر. وقيل لمن قال: دخول الأعمال الظاهرة في اسم الإيمان مجاز: نزاعك لفظي، فإنك إذا سلمت أن هذه لوازم الإيمان الواجب الذي في القلب وموجباته كان عدم اللازم موجبًا لعدم الملزوم، فيلزم من عدم هذا الظاهر عدم الباطن، فإذا اعترفت بهذا كان النزاع لفظيًا وإن قلت ما هو حقيقة قول جهم وأتباعه من أنه يستقر الإيمان التام الواجب في القلب مع إظهار ما هو كفر، وترك جميع الواجبات الظاهرة، قيل لك: فهذا يناقض قولك: إن الظاهر لازم له وموجب له، بل قيل: حقيقة قولك أن الظاهر يقارن الباطن تارة ويفارقه أخرى، فليس بلازم له ولا موجب ومعلول له، ولكنه دليل إذا وجد دل على وجود الباطن، وإذ عدم لم يدل عدمه على العدم، وهذا حقيقة قولك. /وهو ـ أيضًا ـ خطأ عقلاً كما هوخطأ شرعًا، وذلك أن هذا ليس بدليل قاطع، إذ هذا يظهر من المنافق فإنما يبقى دليلاً في بعض الأمور المتعلقة بدار الدنيا كدلالة اللفظ على المعنى، وهذا حقيقة قولك، فيقال لك: فلا يكون ما يظهر من الأعمال ثمرة للإيمان الباطن ولاموجبًا له ومن مقتضاه، وذلك أن المقتضى لهذا الظاهر إن كان هو نفس الإيمان الباطن لم يتوقف وجوده على غيره، فإن ما كان معلولاً للشيء وموجبا له لا يتوقف على غيره، بل يلزم من وجوده وجوده، فلو كان الظاهر موجب الإيمان الباطن لوجب ألا يتوقف على غيره، بل إذا وجد الموجب وجد الموجب. وأما إذا وجد معه تارة وعدم أخرى أمكن أن يكون من موجب ذلك الغير، وأمكن أن يكون موقوفًا عليهما جميعًا، فإن ذلك الغير إما مستقل بالإيمان أو مشارك للإيمان، وأحسن أحواله أن يكون الظاهر موقوفًا عليهما معًا على ذلك الغير، وعلى الإيمان، بل قد علم أنه يوجد بدون الإيمان كما في أعمال المنافق، فحينئذ لا يكون العمل الظاهر مستلزمًا للإيمان، ولا لازمًا له، بل يوجد معه تارة ومع نقيضه تارة، ولا يكون الإيمان علة له ولا موجبًا ولا مقتضيًا، فيبطل ـ حينئذ ـ أن يكون دليلاً عليه؛ لأن الدليل لابد أن يستلزم المدلول، وهذا هو الحق فإن مجرد التكلم بالشهادتين ليس مستلزمًا للإيمان النافع عند الله. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لسعد لما قال:هو مؤمن.قال (أو/ مسلم؟)،وقال تعالى: فإذا قيل:الأعمال الظاهرةتكون من موجب الإيمان تارة، وموجب غيره أخرى،كالتكلم بالشهادتين، تارة يكون من موجب إيمان القلب، وتارة يكون تقية كإيمان المنافقين،قال تعالى: فتبين أن الأعمال الظاهرة الصالحة لا تكون ثمرة للإيمان الباطن ومعلولة/ له، إلا إذا كان موجبًا لها ومقتضيًا لها، وحينئذ فالموجب لازم لموجبه والمعلول لازم لعلته، وإذا نقصت الأعمال الظاهرة الواجبة كان ذلك لنقص ما في القلب من الإيمان، فلا يتصور مع كمال الإيمان الواجب الذي في القلب أن تعدم الأعمال الظاهرة الواجبة، بل يلزم من وجود هذا كاملاً وجود هذا كاملاً، كما يلزم من نقص هذا نقص هذا؛ إذ تقدير إيمان تام في القلب بلا ظاهر من قول وعمل كتقدير موجب تام بلا موجبه، وعلة تامة بلا معلولها، وهذا ممتنع. وبهذا وغيره، يتبين فساد قول جهم والصالحي ومن اتبعهما في [الإيمان] كالأشعري في أشهر قوليه، و أكثر أصحابه، وطائفة من متأخري أصحاب أبي حنيفة، كالماتريدي ونحوه حيث جعلوه مجرد تصديق في القلب يتساوى فيه العباد، وأنه إما أن يعدم وإما أن يوجد لا يتبعض، وأنه يمكن وجود الإيمان تامًا في القلب مع وجود التكلم بالكفر والسب لله ورسوله طوعًا من غير إكراه، وأن ما علم من الأقوال الظاهرة أن صاحبه كافر، فلأن ذلك مستلزم عدم ذلك التصديق الذي في القلب، في الأفعال... وأن الأعمال الصالحة الظاهرة ليست لازمة للإيمان الباطن الذي في القلب، بل يوجد إيمان القلب تامًا بدونها، فإن هذا القول فيه خطأ من وجوه: أحدها: أنهم أخرجوا ما في القلوب من حب الله وخشيته ونحو ذلك/ أن يكون من نفس الإيمان. وثانيها: جعلوا ما علم أن صاحبه كافرـ مثل إبليس وفرعون واليهود وأبي طالب، وغيرهم ـ أنه إنما كان كافرًا، لأن ذلك مستلزم لعدم تصديقه في الباطن، وهذا مكابرة للعقل والحس، وكذلك جعلوا من يبغض الرسول ويحسده كراهة دينه مستلزمًا لعدم العلم بأنه صادق ونحو ذلك. وثالثها: أنهم جعلوا ما يوجد من التكلم بالكفر من سب الله ورسوله والتثليث وغير ذلك قد يكون مجامعًا لحقيقة الإيمان الذي في القلب، ويكون صاحب ذلك مؤمنًا عند الله حقيقة، سعيدًا في الدار الآخرة، وهذا يعلم فساده بالاضطرار من دين الإسلام. ورابعها: أنهم جعلوا من لا يتكلم بالإيمان قط مع قدرته على ذلك، ولا أطاع الله طاعة ظاهرة مع وجوب ذلك عليه وقدرته، يكون مؤمنًا بالله تام الإيمان سعيدًا في الدار الآخرة. وهذه الفضائح تختص بها الجهمية دون المرجئة من الفقهاء وغيرهم. وخامسها: وهو يلزمهم ويلزم المرجئة، أنهم قالوا: إن العبد قد يكون مؤمنِا تام الإيمان، إيمانه مثل إيمان الأنبياء والصديقين، ولو لم يعمل خيرًا لا صلاة، ولا صلة ولا صدق حديث، ولم يدع كبيرة إلا ركبها، فيكون /الرجل عندهم، إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذ ائتمن خان، هو مُصِرٌّ على دوام الكذب والخيانة ونقض العهود، لا يسجد لله سجدة، ولا يحسن إلى أحد حسنة، ولا يؤدي أمانة، ولا يدع ما يقدر عليه من كذب وظلم وفاحشة إلا فعلها، وهو مع ذلك مؤمن تام الإيمان، إيمانه مثل إيمان الأنبياء، وهذا يلزم كل من لم يقل: إن الأعمال الظاهرة من لوازم الإيمان الباطن، فإذا قال: إنها من لوازمه، وأن الإيمان الباطن يستلزم عملاً صالحًا ظاهرًا كان بعد ذلك قوله: إن تلك الأعمال لازمة لمسمى الإيمان، أو جزءًا منه نزاعًا لفظيًا، كما تقدم. وسادسها: أنه يلزمهم أن من سجد للصليب والأوثان طوعًا، وألقى المصحف في الحُش ِّعمدًا، وقتل النفس بغير حق، وقتل كل من رآه يصلي، وسفك دم كل من يراه يحج البيت، وفعل ما فعلته القرامطة بالمسلمين، يجوز أن يكون مع ذلك مؤمنًا وليًا لله، إيمانه مثل إيمان النبيين والصديقين،؛ لأن الإيمان الباطن إما أن يكون منافيًا لهذه الأمور وإما ألا يكون منافيًا، فإن لم يكن منافيًا أمكن وجودها معه، فلا يكون وجودها إلا مع عدم الإيمان الباطن. وإن كان منافيا للإيمان الباطن كان ترك هذه من موجب الإيمان ومقتضاه ولازمه، فلا يكون مؤمنًا في الباطن الإيمان الواجب إلا من ترك هذه الأمور، فمن لم يتركها دل ذلك على فساد إيمانه الباطن، وإذا كانت الأعمال والتروك/ الظاهرة لازمة للإيمان الباطن كانت من موجبه ومقتضاه، وكان من المعلوم أنها تقوى بقوته، وتزيد بزيادته، وتنقص بنقصانه، فإن الشيء المعلول لا يزيد إلا بزيادة موجبه ومقتضيه، ولا ينقص إلا بنقصان ذلك، فإذا جعل العمل الظاهر موجب الباطن ومقتضاه لزم أن تكون زيادته لزيادة الباطن، فيكون دليلاً على زيادة الإيمان الباطن ونقصه لنقص الباطن، فيكون نقصه دليلاً على نقص الباطن، وهو المطلوب. وهذه الأمور كلها إذا تدبرها المؤمن بعقله،تبين له أن مذهب السلف هو المذهب الحق، الذي لا عدول عنه، وأن من خالفهم لزمه فساد معلوم بصريح المعقول، وصحيح المنقول كسائر ما يلزم الأقوال المخالفة لأقوال السلف والأئمة، والله أعلم. وقول جهم ومن وافقه: إن الإيمان مجرد العلم والتصديق، وهو بذلك وحده يستحق الثواب والسعادة، يشبه قول من قال من الفلاسفة المشائين وأتباعهم: إن سعادة الإنسان في مجرد أن يعلم الوجود على ما هو عليه، كما أن قول الجهمية وهؤلاء الفلاسفة في [مسائل الأسماء والصفات] و[مسائل الجبر، والقدر] متقاربان، وكذلك في [مسائل الإيمان]، وقد بسطنا الكلام على ذلك وبينا بعض ما فيه من الفساد في غير هذا الموضع، مثل أن العلم هو أحد قوتي النفس، فإن النفس لها قوتان: قوة العلم والتصديق، وقوة الإرادة والعمل، كما أن الحيوان له قوتان: قوة الحس، وقوة الحركة بالإرادة. /وليس صلاح الإنسان في مجرد أن يعلم الحق، دون ألا يحبه ويريده ويتبعه. كما أنه ليس سعادته في أن يكون عالما بالله، مقرًا بما يستحقه، دون أن يكون محبًا لله، عابدًا لله، مطيعًا لله، بل أشد الناس عذابًا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه، فإذا علم الإنسان الحق وأبغضه وعاداه، كان مستحقًا من غضب الله وعقابه، ما لا يستحقه من ليس كذلك، كما أن من كان قاصدًا للحق طالبًا له ـ وهو جاهل بالمطلوب وطريقه ـ كان فيه من الضلال، وكان مستحقًا من اللعنة ـ التي هي البعد عن رحمة الله ـ ما لا يستحقه من ليس مثله؛ ولهذا أمرنا الله أن نقول: والمغضوب عليهم علموا الحق فلم يحبوه ولم يتبعوه، والضالون قصدوا الحق لكن بجهل وضلال به وبطريقه، فهذا بمنزلة العالم الفاجر، وهذا بمنزلة العابد الجاهل، وهذا حال اليهود فإنه مغضوب عليهم، وهذا حال النصارى فإنهم ضالون، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون). والمتفلسفة أسوأ حالا من اليهود والنصارى، فإنهم جمعوا بين جهل هؤلاء وضلالهم، وبين فجور هؤلاء وظلمهم،فصار فيهم من الجهل والظلم ما ليس في اليهود ولا النصارى، حيث جعلوا السعادة في مجرد أن يعلموا الحقائق حتى يصير الإنسان عالمًا معقولاً مطابقًا للعالم الموجود، ثم لم ينالوا من معرفة الله/وأسمائه وصفاته وملائكته وكتبه ورسله وخلقه وأمره إلا شيئًا نزرًا قليلاً، فكان جهلهم أعظم من علمهم، وضلالهم أكبر من هداهم، وكانوا مترددين بين الجهل البسيط، والجهل المركب، فإن كلامهم في الطبيعات والرياضيات لا يفيد كمال النفس وصلاحها، وإنما يحصل ذلك بالعلم الإلهي، وكلامهم فيه: لحم جمل غث على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقي، ولا سمين فينتقل. فإن كلامهم في واجب الوجود ما بين حق قليل، وباطل فاسد كثير، وكذلك في العقول والنفوس التي تزعم أتباعهم من أهل الملل أنها الملائكة التي أخبرت بها الرسل، وليس الأمر كذلك، بل زعمهم أن هؤلاء هم الملائكة من جنس زعمهم أن واجب الوجود هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق مع اعترافهم بأن المطلق بشرط الإطلاق لا يكون إلا في الأذهان، وكذلك كلامهم في العقول والنفوس يعود عند التحقيق إلى أمور مقدرة في الأذهان لا حقيقة لها في الأعيان، ثم فيه من الشرك بالله وإثبات رب مبدع لجميع العالم سواه ـ لكنه معلول له ـ وإثبات رب مبدع لكل ما تحت فلك القمر هو معلول الرب، فوقه ذلك الرب معلول لرب فوقه، ما هو أقبح من كلام النصارى في قولهم: إن المسيح ابن الله بكثير كثير، كما بسط في غير هذا الموضع. وليس لمقدميهم كلام في النبوات البتة، ومتأخروهم حائرون فيها، منهم من يكذب بها، كما فعل ابن زكريا الرازي وأمثاله مع قولهم بحدوث العالم./ أثبتوا القدماء الخمسة وأخذوا من المذاهب ما هو من شرها وأفسدها، ومنهم من يصدق بها مع قوله بقدم العالم، كابن سينا، وأمثاله، لكنهم يجعلون النبي بمنزلة ملك عادل، فيجعلون النبوة كلها من جنس ما يحصل لبعض الصالحين من الكشف والتأثير والتخيل، فيجعلون خاصة النبي ثلاثة أشياء: قوة الحدس الصائب، التي يسمونه القوة القدسية، وقوة التأثير في العالم، وقوة الحس، التي بها يسمع ويبصر المعقولات متخيلة في نفسه، فكلام الله عندهم هو ما في نفسه من الأصوات، وملائكته هي ما في أنفسهم من الصور والأنوار، وهذه الخصال تحصل لغالب أهل الرياضة والصفا؛ فلهذا كانت النبوة عندهم مكتسبة. وصار كل من سلك سبيلهم ـ كالسهروردي المقتول، وابن سبعين المغربي وأمثالهما ـ يطلب النبوة ويطمع أن يقال له: قم فأنذر، هذا يقول: لا أموت حتى يقال لي: قم فأنذر وهذا يجاور بمكة ويعمد إلى غار حراء، ويطلب أن ينزل عليه فيه الوحي، كما نزل على المزمل والمدثر مثله، وكل منهما ومن أمثالهما يسعى بأنواع السيمياء التي هي من السحر، ويتوهم أن معجزات الأنبياء كانت من جنس السحر السيمائي. ومن لم يمكنه طلب النبوة وادعاؤها ـ لعلمه بقول الصادق المصدوق: (لا نبى بعدى)، أو غير ذلك ـ كابن عربي وأمثاله طلب ما هو أعلا من النبوة، وأن خاتم الأولياء أعظم من خاتم الأنبياء، وأن الولي يأخذ عن الله بلا واسطة، والنبي يأخذ بواسطة الملك. وبنى ذلك على أصل متبوعيه الفلاسفة، فإن عندهم ما يتصور في نفس النبي أو الولي هي الملائكة من الأشكال النورانية الخيالية، [فالملائكة] عندهم ما يتخيله في نفسه، و[النبي] عندهم ما يتلقى بواسطة هذا التخيل، [والولي] يتلقى المعارف العقلية بدون هذا التخيل، ولا ريب أن من تلقى المعارف بلا تخيل كان أكمل ممن تلقاها بتخيل. فلما اعتقدوا في النبوة ما يعتقده هؤلاء المتفلسفة، صاروا يقولون أن الولاية أعظم من النبوة، كما يقول كثير من الفلاسفة أن الفيلسوف أعظم من النبي، فإن هذا قول الفارابي ومبشر بن فاتك وغيرهما، وهؤلاء يقولون: النبوة أفضل الأمور عند الجمهورلا عند الخاصة، ويقولون: خاصة النبي جودة التخييل، والتخيل. فجاء هؤلاء الذين أخرجوا الفلسفة في قالب الولاية، وعبروا عن المتفلسف بالولي، وأخذوا معاني الفلاسفة، وأبرزوها في صورة المكاشفة، والمخاطبة. وقالوا: أن الولي أعظم من النبي، لأن المعاني المجردة يأخذها عن الله بلا واسطة تخيل لشيء في نفسه، والنبي يأخذها بواسطة ما يتخيل في نفسه من الصور والأصوات. ولم يكفهم هذا البهتان حتى ادعوا أن جميع الأنبياء والرسل يستفيدون العلم بالله من مشكاة خاتم هؤلاء الأولياء، الذي هو من أجهل الخلق بالله، وأبعدهم عن دين الله. والعلم بالله هو عندهم بأنه الوجود المطلق الساري في الكائنات، فوجود كل موجود هو عين وجود واجب الوجود، وحقيقة هذا القول قول الدهرية الطبعية، الذين ينكرون أن يكون للعالم مبدع ابدعه هو واجب الوجود بنفسه، بل يقولون العالم نفسه واجب الوجود بنفسه، فحقيقة قول هؤلاء شر من قول الدهرية الالهيين، وهو يعود عند التحقق إلى قول الدهرية الطبيعيين. وقد حدثونا أن ابن عربي تنازع هو والشيخ أبو حفص السهروردي، هل يمكن وقت تجلي الحق لعبد مخاطبة له أم لا؟ فقال الشيخ أبو حفص السهروردي: نعم يمكن ذلك. فقال ابن عربي: لا يمكن ذلك. وأظن الكلام كان في غيبة كل منهما عن صاحبه، فقيل لابن عربي: أن السهروردي يقول: كذا وكذا. فقال: مسكين! نحن تكلمنا في مشاهدة الذات، وهو يتكلم في مشاهدة الصفات. وكان كثير من أهل التصوف، والسلوك، والطالبين لطريق التحقيق والعرفان؛ مع أنهم يظنون أنهم متابعون للرسل، وأنهم متقون للبدع المخالفة له، يقولون هذا الكلام ويعظمونه ويعظمون ابن عربي لقوله مثل هذا، ولا يعلمون أن هذا الكلام بناه على أصله الفاسد في الإلحاد، الذي يجمع بين التعطيل والاتحاد، فإن حقيقة الرب عنده وجود مجرد لا اسم له، ولا صفة، ولا يمكن أن يرى في الدنيا، ولا في الآخرة، ولا له كلام قائم به، ولا علم ولا غير ذلك، ولكن يرى ظاهرا في المخلوقات متجليا في المصنوعات، وهو عنده غير وجود الموجودات، وشبهه تارة بظهور الكلي في جزئياته، كظهور الجنس في أنواعه والنوع في الخاصة، كما تظهر الحيوانية في كل حيوان، والانسانية في كل إنسان؛ وهذا بناه على غلط أسلافه المنطقيين اليونانيين حيث ظنوا أن الموجودات العينية يقارنها جواهر عقلية بحسب ما تحمل لها من الكليات، فيظنون أن في الانسان المعين انسانا عقليا، وحيوانا عقليا، وناطقا عقليا،وحساساعقليا، وجسما عقليا، وذاك هو الماهية التى يعرض لها الوجود، وتلك الماهية مشتركة بين جميع المعينات، وهذا الكلام له وقع عند من لم يفهمه ويتدبره، فإذا فهم حقيقته تبين له أنه بكلام المجانين أشبه منه بكلام العقلاء، وإنما ذلك لمخالفته للحس والعقل، وإنما أتى فيه هؤلاء من حيث أنهم تصوروا في أنفسهم معاني كلية مطلقة فظنوا أنها موجودة في الخارج فضلا لهم في هذا عكس ضلالهم في أمر الأنبياء شاهدت أمورا خارجة عن أنفسهم، فزعم هؤلاء الملاحدة أن تلك كانت في أنفسهم، وهؤلاء الملاحدة شهدوا في أنفسهم أمورا كلية مطلقة فظنوا أنها في الخارج وليست إلا في أنفسهم، فجعلوا ما في أنفسهم في الخارج وليس فيه، وجعلوا ما أخبرت به الانبياء في أنفسهم، وإنما هو في الخارج، فلهذا كانوا مكذبين بالغيب الذي أخبرت به الأنبياء، ثم جعلوا وجود الرب الخالق للعالمين البائن عن مخلوقاته أجمعين هو من جنس وجود الإنسانية في الأناسي، والحيوانية في الحيوان، أو ما أشبه ذلك كوجود الوجود في الثبوت عند من يقول المعدوم شيء، فإنهم أرادوا أن يجعلوه شيئا موجودا في المخلوقات مع مغايرته لها، فضربوا له مثلا تارة بالكليات، وتارة بالمادة والصورة، وتارة بالوجود المغاير للثبوت، وإذا مثلوه بالمحسوسات مثلوه بالشعاع في الزجاج أو بالهواء في الصوفة، فضربوا لرب العالمين الأمثال، فضلوا فلا يستطيعون سبيلا، وهم في هذه الأمثال ضالون من وجوه: أحدها: إنما مثلوا به من المادة مع الصورة، والكليات مع الجزئيات، والوجود مع الثبوت، كل ذلك يرجع عند التحقيق إلى شيء واحد لا شيئين، فجعلوا الواحد اثنين، كما جعلوا الاثنين واحدا في مثل صفات الله يجعلون العلم هو العالم، والعلم هو المعلوم، والعلم هو القدرة، والعلم هو الإرادة، وأنواع هذه الأمور التي إذا تدبرها العاقل تبين له أن هؤلاء من أجهل الناس بالأمور الالهية، وأعظم الناس قولا للباطل مع ما في نفوسهم ونفوس أتباعهم من الدعاوي الهائلة الطويلة العريضة، كما يدعي إخوانهم القرامطة الباطنية أنهم أئمة معصومون مثل الأنبياء، وهم من أجهل الناس وأضلهم وأكفرهم. الثاني: أنهم على كل تقدير من هذه التقديرات يجعلون وجوده مشروطا بوجود غيره الذي ليس هو مبدعا له، فإن وجود الكليات في الخارج مشروط بالجزئيات، ووجود المادة مشروط بالصورة، وكذلك بالعكس، ووجود الأعيان مشروط بثبوتها المستقر في العدم فيلزمهم على كل تقدير أن يكون واجب الوجود مشروطا بما ليس هو من مبدعاته، وما كان وجوده موقوفا على غيره، الذي ليس هو مصنوعا له لم يكن واجب الوجود بنفسه، وهذا بين. الثالث: أن هذا الكلام يعود عند التحقيق إلى أن يكون وجود الخالق عين وجودالمخلوقات، وهم يصرحون بذلك، لكن يدعون المغايرة بين الوجود والثبوت أو بين الوجود والماهية وبين الكل والجزء، وهو المغايرة بين المطلق والمعين؛ فلهذا كانوا يقولون بالحلول تارة يجعلون الخالق حالا في المخلوقات وتارة محلا لها، وإذا حقق الأمر عليهم بعدم المغايرة كان حقيقة قولهم أن الخالق هو نفس المخلوقات، فلا خالق ولا مخلوق وإنما العالم واجب الوجود بنفسه. الرابع: أنهم يقرون بما يزعمونه من التوحيد عن التعدد في صفاته الواجبة وأسمائه، وقيام الحوادث به وعن كونه جسما أو جوهرا ثم هم عند التحقيق يجعلونه عين الأجسام الكائنة الفاسدة المستقذرة، ويصفونه بكل نقص، كما صرحوا بذلك قالوا: ألا ترى الحق يظهر بصفات المحدثات، وأخبر بذلك عن نفسه، وبصفات النقص، وبصفات الذم. وقالوا: العلي لذاته هو الذي يكون له الكمال الذي يستغرق به جميع الأمور الوجودية، والنسب العدمية سواء كانت محمودة عرفا وعقلا وشرعا أو مذمومة عرفا وعقلا وشرعا، وليس ذلك إلا لمسمى الله خاصة، فهو متصف عندهم بكل صفة مذمومة، كما هو متصف بكل صفة محمودة. وقد بسط الكلام على هؤلاء في غير هذا الموضع، فإن أمرهم أعظم من أن يبسط هنا. ولكن المقصود التنبيه على تشابه رؤوس الضلال حتى إذا فهم المؤمن قول أحدهم أعانه على فهم قول الآخر، واحترز منهم وبين ضلالهم لكثرة ما أوقعوا في الوجود من الضلالات، فابن عربي بزعمه إنما تجلي الذات عنده شهود مطلق، هو وجود الموجودات مجردا مطلقا لا اسم له ولا نعت، ومعلوم أن من تصور هذا لم يمكن أن يحصل له عند خطاب، فلهذا زعم أن عند تجلي الذات لا يحصل خطاب. وأما أبو حفص السهروردي، فكان أعلم بالسنة، وأتبع للسنة من هذا، وخير منه، وقد رأى أن ما جاءت به الأحاديث من أن الله يتجلى لعباده ويخاطبهم حين تجليه لهم فآمن بذلك، لكن ابن عربي في فلسفته أشهر من هذا في سنته، ولهذا كان أتباعهما يعظمون ابن عربي عليه مع إقرارهم بأن السهروردي أتبع للسنة، كما حدثني الشيخ الملقب بحسام الدين القادم السالك طريق ابن حمويه، الذي يلقبه أصحابه سلطان الأقطاب، وكان عنده من التعظيم لابن عربي وابن حمويه والغلو فيهما أمر عظيم، فبينت له كثيرا مما يشتمل عليه كلامهما من الفساد،والالحاد، والأحاديث المكذوبة على النبى صلى الله عليه وسلم، وجرى في ذلك فصول لما كان عنده من التعظيم مع عدم فهم حقيقة أقوالهما، وما تضمنته من الضلالات، وكان ممن حدثني عن شيخه الطاووسي، الذي كان بهمدان عن سعد الدين ابن حمويه أنه قال: محيي الدين ابن عربي بحر لا تكدره الدلاء، لكن نور المتابعة النبوية على وجه الشيخ شهاب الدين السهروردي شيء آخر. فقلت له: هذا كما يقال كان هؤلاء أوتوا من ملك الكفار ملكا عظيا، لكن نور الإسلام الذي على شهاب غازي صاحب ميافارقين شيء آخر، فإنهم كانوا يعظمون ابن عربي،وذلك لأن الشيخ شهاب الدين لم يكن متمكنا من معرفة السنة، ومتابعتها، وتحقيق ما جاءت به الرسل، كتمكن ابن عربي في طريقه التي سلكها، وجمع فيها بين الفلسفة والتصوف؛ وهؤلاء إنما يقطع دابرهم المباينة بين الخالق والمخلوق، وإثبات تعينه منفصلا عن المخلوق ترفع إليه الأيدي بالدعاء، وإليه كان معراج خاتم الأنبياء؛ وقد ذكر السهروردي في عقيدته المشهورة قوله بلا إشارة ولا تعيين، وهذه هي التي استطال بها عليه هؤلاء، فإنه متى نفيت الإشارة والتعيين لم يبق إلا العدم المحض والتعطيل أو الالحاد والوحدة والحلول. وابن سبعين وأمثاله من هؤلاء الملاحدة يقولون هكذا لا إشارة ولا تعيين، بل عين ما ترى ذات لا ترى، وذات لا ترى عين ما ترى، ويقولون في أذكارهم ليس إلا الله بدل قول المسلمين لا إله إلا الله، لأن معتقدهم أنه وجود كل موجود، فلا موجود إلا هو؛ والمسلمون يعلمون أن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، وأنه ليس هو المخلوقات ولا جزءا منها ولا صفة لها بل هو بائن عنها ويقولون: أنه هو الإله الذي يستحق العبادة دون ما سواه من الموجودات فلا إله إلا هو، كما قال تعالى: كما قال شاعرهم ابن الفارض في قصيدته: [نظم السلوك] لها صلواتى بالمقام أقيمها ** وأشهد فيها أنها لي صلتى كلانا مصل واحد ساجد إلى ** حقيقته بالجمع في كل سجدة إلى قوله: وما كان لي صلى سواي ولم تكن ** صلاتي لغيري في أدا كل ركعة إلي رسولا كنت مني مرسلا ** وذاتى بآياتى علي إستدلت وقوله: وما زلت إياها وإياي لم تزل ** ولا فرق بل ذاتى لذاتى أحبت فهؤلاء [الجهمية]من المتكلمة والصوفية في قولهم: أن الايمان هو مجرد المعرفة والتصديق، يقولون: المعروف هو الموجود الموصوف بالسلب والنفي، كقولهم لا هو داخل العالم، ولا خارجه، ولا مباين العالم، ولا محايث، ثم يعودون فيجعلونه حالا في المخلوقات أو محلا لها أو هو عينها أو يعطلونه بالكلية؛ فهم في هذا نظير المتفلسفة المشائين، الذين يجعلون كمال الانسان بالعلم. [والعلم الأعلى] عندهم و [الفلسفة الأولى] عندهم: النظر في الوجود ولواحقه، ويجعلون واجب الوجود وجودا مطلقا بشرط الاطلاق، لكن أولئك يغيرون العبارات، ويعبرون بالعبارات الإسلامية القرآنية عن الإلحادات الفلسفية واليونانية، وهذا كله قد قرر؛ وبسط القول فيه في غير هذا الموضع. أول ما في الحديث سؤاله عن [الإسلام]: فأجابه بأن (الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت). وهذه الخمس هي المذكورة في حديث ابن عمر المتفق عليه (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا). وهذا قاله النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن فرض الله الحج، فلهذا ذكر الخمس: وأكثر الأحاديث لا يوجد فيها ذكر الحج في حديث وفد عبد القيس (آمركم بالإيمان بالله وحده. أتدرون ما الإيمان بالله وحده ؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة،وصيام رمضان، وأن تعطوا من المغنم الخمس). وحديث وفد عبد القيس من أشهر الأحاديث وأصحها. وفي بعض طرق البخاري لم يذكر الصيام، لكن هو مذكور في كثير من طرقه وفي مسلم، وهو أيضا مذكور في حديث أبي سعيد الذي ذكر فيه قصة وفد عبد القيس رواه مسلم، في صحيحه عنه، واتفقا على حديث ابن عباس وفيه أنه أمرهم بإيتاء الخمس من المغنم ; والخمس إنما فرض في غزوة بدر , وشهر رمضان فرض قبل ذلك. ووفد عبد القيس من خيار الوفد الذين وفدوا على النبي صلى الله عليه وسلم، وقدومهم على النبي صلى الله عليه وسلم كان قبل فرض الحج، وقد قيل قدموا سنة الوفود: سنة تسع والصواب أنهم قدموا قبل ذلك، فإنهم قالوا: إن بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر - يعنون أهل نجد - وإنا لا نصل إليك إلا في شهر حرام، وسنة تسع كانت العرب قد ذلت وتركت الحرب، وكانوا بين مسلم أو معاهد خائف لما فتح الله مكة ثم هزموا هوازن يوم حنين، وإنما كانوا ينتظرون بإسلامهم فتح مكة، وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه أميرا على الحج سنة تسع وأردفه بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ لتنفيذ العهود التي كانت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين العرب، إلا أنه أجلهم أربعة أشهر من حين حجة أبي بكر، وكانت في ذي القعدة. وقد قال تعالى: ولهذا غزا النبي صلى الله عليه وسلم النصارى بأرض الروم عام تبوك سنة تسع قبل إرسال أبي بكر أميرا على الموسم، وإنما أمكنه غزو النصارى لما اطمأن من جهة مشركي العرب، وعلم أنه لا خوف على الإسلام منهم; ولهذا لم يأذن لأحد ممن يصلح للقتال في التخلف فلم يتخلف إلا منافق، أو الثلاثة الذين تيب عليهم أو معذور؛ ولهذا لما استخلف عليا على المدينة عام تبوك طعن المنافقون فيه لضعف هذا الاستخلاف وقالوا: إنما خلفه لأنه يبغضه. فاتبعه علي وهو يبكي فقال: أتخلفني مع النساء والصبيان ؟ فقال: (أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي). وكان قبل ذلك يستخلف على المدينة من يستخلفه وفيها رجال من أهل القتال، وذلك لأنه لم يكن حينئذ بأرض العرب لا بمكة ولا بنجد ونحوهما من يقاتل أهل دار الإسلام - مكة والمدينة وغيرهما - ولا يخيفهم، ثم لما رجع من تبوك أقر أبا بكر على الموسم يقيم الحج والصلاة، ويأمر ألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، وأتبعه بعلي لأجل نقض العهود ; إذ كانت عادة العرب أن لا يقبلوا إلا من المطاع الكبير أو من رجل من أهل بيته. والمقصود: أن هذا يبين أن قدوم وفد عبد القيس كان قبل ذلك؛ وأما [حديث ضمام] فرواه مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك:(نهينا أن نسأل رسول الله عن شيء، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل يسأله، ونحن نسمع فجاء رجل من أهل البادية فقال: يا محمد أتانا رسولك، فزعم أنك تزعم أن الله أرسلك قال: صدق قال: فمن خلق السماء ؟ قال: الله قال: فمن خلق الأرض ؟ قال: الله قال: فمن نصب هذه الجبال وجعل فيها ما جعل ؟ قال: الله قال: فبالذي خلق السماء وخلق الأرض ونصب الجبال آلله أرسلك؟ قال: نعم قال: وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا قال: صدق قال: فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا ؟ قال: نعم قال: وزعم رسولك أن علينا زكاة في أموالنا؟ قال: صدق قال: فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا قال: نعم. قال: وزعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلا؟ قال: صدق ثم ولى الرجل وقال: والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن ولا أنقص منهن فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم لئن صدق ليدخلن الجنة ). وعن أنس قال: بينما نحن جلوس مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد إذ دخل رجل على جمل فأناخه في المسجد ثم عقله; ثم قال لهم: أيكم محمد ؟ - والنبي صلى الله عليه وسلم متكئ بين ظهرانيهم فقلنا: هذا الرجل الأبيض المتكئ ؟ فقال له الرجل: ابن عبد المطلب ؟ فقال له: النبي صلى الله عليه وسلم قد أجبتك فقال الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم: إنني سائلك فمشدد عليك في المسألة فلا تجد علي في نفسك ; فقال: سل عما بدا لك ؟ فقال: أسألك بربك ورب من قبلك ؟ آلله أرسلك إلى الناس كلهم ؟ فقال: اللهم نعم وذكر أنه سأله عن الصلاة والزكاة ; ولم يذكر الصيام والحج فقال: الرجل آمنت بما جئت به وأنا رسول من ورائي من قومي ; وأنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر). هذان الطريقان في الصحيحين، لكن البخاري لم يذكر في الأول الحج، بل ذكر الصيام ; والسياق الأول أتم، والناس يجعلون الحديثين حديثا واحدا. ويشبه - والله أعلم - أن يكون البخاري رأى أن ذكر الحج فيه وهما لأن سعد بن أبي بكر ; هم من هوازن وهم أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم وهوازن كانت معهم وقعة حنين بعد فتح مكة، فأسلموا كلهم بعد الوقعة، ودفع إليهم النبي صلى الله عليه وسلم النساء والصبيان بعد أن قسمها على المعسكر، واستطاب أنفسهم في ذلك فلا تكون هذه الزيارة إلا قبل فتح مكة، والحج لم يكن فرض إذ ذاك. وحديث طلحة بن عبيد الله ليس فيه إلا الصلاة والزكاة والصيام وقد قيل: إنه حديث ضمام وهو في الصحيحين عن طلحة بن عبيد الله قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم من أهل نجد ثائر الرأس نسمع دوي صوته ولا نفقه ما يقول حتى دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو يسأل عن الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (خمس صلوات في اليوم والليلة قال: هل علي غير ذلك ؟ قال: لا إلا أن تطوع. قال: وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة قال: هل علي غيرها قال: لا إلا أن تطوع قال: فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلح إن صدق) وليس في شيء من طرقه ذكر الحج بل فيه ذكر الصلاة والزكاة والصيام كما في حديث وفد عبد القيس. وفي الصحيحين أيضا عن أبي هريرة أن أعرابيا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة فقال (تعبد الله لا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة, وتصوم رمضان قال: والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا شيئا أبدا ولا أنقص منه فلما ولى قال النبي صلى الله عليه وسلم: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا)، وهذا يحتمل أن يكون ضماما، وقد جاء في بعض الأحاديث ذكر الصلاة والزكاة فقط، كما في الصحيحين عن أبي أيوب الأنصاري أن أعرابيا عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في سفر فأخذ بخطام ناقته أو بزمامها ثم قال: يا رسول الله أو يا محمد. أخبرني بما يقربني من الجنة ويباعدني من النار قال: فكف رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نظر في أصحابه ثم قال: (لقد وفق أو لقد هدي ثم قال: كيف قلت؟ قال: فأعاد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تعبد الله لا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤدي الزكاة وتصل الرحم فلما أدبر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن تمسك بما أمر به دخل الجنة) هذه الألفاظ في مسلم. وقد جاء ذكر الصلاة والصيام في حديث النعمان بن قوقل رواه مسلم عن جابر بن عبد الله قال: سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم قال:(أرأيت إذا صليت الصلوات المكتوبات وصمت رمضان وأحللت الحلال وحرمت الحرام ولم أزد على ذلك شيئا أدخل الجنة ؟ قال: نعم قال: والله لا أزيد على ذلك شيئا). وفي لفظ أتى النبي صلى الله عليه وسلم النعمان بن قوقل. وحديث النعمان هذا قديم ; فإن النعمان بن قوقل قتل قبل فتح مكة قتله بعض بني سعد بن العاص، كما ثبت ذلك في الصحيح؛ فهذه الأحاديث خرجت جوابا لسؤال سائلين. أما حديث ابن عمر فإنه مبتدأ، وأحاديث الدعوة، والقتال فيها الصلاة والزكاة، كما في الصحيحين عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله). وقد أخرجاه في الصحيحين من حديث أبي هريرة رواه مسلم عن جابر (قال: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها). فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال. فكان من فقه أبي بكر أنه فهم من ذلك الحديث المختصر أن القتال على الزكاة قتال على حق المال وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم مراده بذلك في اللفظ المبسوط الذي رواه ابن عمر. والقرآن صريح في موافقة حديث ابن عمر كما قال تعالى: أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاب بحسب نزول الفرائض، وأول ما فرض الله الشهادتين ثم الصلاة، فإنه أمر بالصلاة في أول أوقات الوحي ; بل قد ثبت في الصحيح أن أول ما أنزل عليه: وإنما شرع الأذان بالمدينة بعد الهجرة; وكذلك صلاة الجمعة والعيد; والكسوف، والاستسقاء، وقيام رمضان وغير ذلك. إنما شرع بالمدينة بعد الهجرة. وأمروا بالزكاة، والإحسان في مكة أيضا، ولكن فرائض الزكاة ونصبها إنما شرعت بالمدينة. وأما [صوم شهر رمضان] فهو إنما فرض في السنة الثانية من الهجرة؛ وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم تسع رمضانات. وأما [الحج] فقد تنازع الناس في وجوبه ; فقالت طائفة فرض سنة ست من الهجرة عام الحديبية باتفاق الناس. قالوا: وهذه الآية تدل على وجوب الحج ووجوب العمرة أيضا، لأن الأمر بالإتمام يتضمن الأمر بابتداء الفعل وإتمامه. وقال الأكثرون: إنما وجب الحج متأخرا قيل سنة تسع ; وقيل سنة عشر وهذا هو الصحيح; فإن آية الإيجاب إنما هي قوله تعالى: وقد قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وفد عبد القيس، وكان قدومهم قبل فتح مكة على الصحيح، كما قد بيناه وقالوا: يا رسول الله إن بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر يعنون بذلك أهل نجد: من تميم وأسد وغطفان، لأنهم بين البحرين وبين المدينة، وعبد القيس هم من ربيعة ليسوا من مضر؛ ولما فتحت مكة زال هذا الخوف، ولما قدم عليه وفد عبد القيس أمرهم بالصلاة والزكاة ; وصيام رمضان ; وخمس المغنم ; ولم يأمرهم بالحج وحديث ضمام قد تقدم أن البخاري لم يذكر فيه الحج، كما لم يذكره في حديث طلحة وأبي هريرة وغيرهما مع قولهم: إن هذه الأحاديث هي من قصة ضمام وهذا ممكن ; مع أن تاريخ قدوم ضمام هذا ليس متيقنا. وأما قوله: الجواب الثاني: أنه كان يذكر في كل مقام ما يناسبه، فيذكر تارة الفرائض الظاهرة التي تقاتل على تركها الطائفة الممتنعة كالصلاة والزكاة، ويذكر تارة ما يجب على السائل، فمن أجابه بالصلاة والصيام، لم يكن عليه زكاة يؤديها ومن أجابه بالصلاة والزكاة والصيام: فإما أن يكون قبل فرض الحج؛ وهذا هو الواجب في مثل حديث عبد القيس ونحوه، وإما أن يكون السائل ممن لا حج عليه. وأما الصلاة والزكاة فلهما شأن ليس لسائر الفرائض ; ولهذا ذكر الله تعالى في كتابه القتال عليهما; لأنهما عبادتان; بخلاف الصوم فإنه أمر باطن وهو مما ائتمن عليه الناس، فهو من جنس الوضوء والاغتسال من الجنابة، ونحو ذلك مما يؤتمن عليه العبد; فإن الإنسان يمكنه ألا ينوي الصوم، وأن يأكل سرا كما يمكنه أن يكتم حدثه وجنابته، وأما الصلاة والزكاة، فأمر ظاهر لا يمكن الإنسان بين المؤمنين أن يمتنع من ذلك. وهو صلى الله عليه وسلم يذكر في الإسلام الأعمال الظاهرة التي يقاتل عليها الناس، ويصيرون مسلمين بفعلها ; فلهذا علق ذلك بالصلاة والزكاة دون الصيام، وإن كان الصوم واجبا، كما في آيتي براءة، فإن براءة نزلت بعد فرض الصيام باتفاق الناس. وكذلك (لما بعث معاذ بن جبل إلى اليمن قال له: إنك تأتي قوما أهل كتاب ; فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة فإن هم أطاعوك لذلك ; فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم ; فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) أخرجاه في الصحيحين. ومعاذ أرسله إلى اليمن في آخر الأمر بعد فرض الصيام; بل بعد فتح مكة بل بعد تبوك وبعد فرض الحج والجزية فإن النبي صلى الله عليه وسلم مات ومعاذ باليمن وإنما قدم المدينة بعد موته; ولم يذكر في هذا الحديث الصيام لأنه تبع وهو باطن ولا ذكر الحج ; لأن وجوبه خاص ليس بعام وهو لا يجب في العمر إلا مرة. ولهذا تنازع العلماء في تكفير من يترك شيئا من هذه الفرائض الأربع بعد الاقرار بوجوبها؛ فأما الشهادتان إذا لم يتكلم بهما مع القدرة فهوكافر بإتفاق المسلمين، وهو كافر باطنا وظاهرا عند سلف الأمة وائمتها، وجماهير علمائها، وذهبت طائفة من المرجئة، وهم جهمية المرجئة: كجهم والصالحى وأتباعهما إلى أنه إذا كان مصدقا بقلبه كان كافرا في الظاهر دون الباطن؛ وقد تقدم التنبيه على أصل هذا القول، وهو قول مبتدع في الإسلام لم يقله أحد من الأئمة. وقد تقدم أن الإيمان الباطن يستلزم الإقرار الظاهر بل وغيره، وأن وجود الايمان الباطن تصديقا وحبا وإنقيادا بدون الإقرار الظاهر ممتنع. وأما الفرائض الأربع فإذا جحد وجوب شيء منها بعد بلوغ الحجة فهو كافر، وكذلك من جحد تحريم شيء من المحرمات الظاهرة المتواتر تحريمها، كالفواحش والظلم والكذب والخمر ونحو ذلك، وأما من لم تقم عليه الحجة مثل أن يكون حديث عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة لم تبلغه فيها شرائع الاسلام ونحو ذلك، أو غلط فظن أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يستثنون من تحريم الخمر، كما غلط في ذلك الذين استتابهم عمر وأمثال ذلك، فإنهم يستتابون وتقام الحجة عليهم، فإن أصروا كفروا حينئذ ولا يحكم بكفرهم قبل ذلك؛ كما لم يحكم الصحابة بكفر قدامة بن مظعون وأصحابه لما غلطوا فيما غلطوا فيه من التأويل. وأما مع الإقرار بالوجوب إذا ترك شيئا من هذه الأركان الأربعة ففي التكفير أقوال للعلماء هي روايات عن أحمد: أحدها: أنه يكفر بترك واحد من الأربعة حتى الحج، وإن كان في جواز تأخيره نزاع بين العلماء فمتى عزم على تركه بالكلية كفر، وهذا قول طائفة من السلف، وهي إحدى الروايات عن أحمد إختارها أبو بكر والثاني: أنه لا يكفر بترك شيء من ذلك مع الاقرار بالوجوب، وهذا هو المشهور عند كثير من الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وهو إحدى الروايات عن أحمد اختارها ابن بطة وغيره. والثالث: لا يكفر إلا بترك الصلاة، وهي الرواية الثالثة عن أحمد وقول كثير من السلف، وطائفة من أصحاب مالك، والشافعى، وطائفة من أصحاب أحمد. والرابع: يكفر بتركها وترك الزكاة فقط. والخامس: بتركها، وترك الزكاة إذا قاتل الإمام عليها دون ترك الصيام والحج وهذه المسألة لها طرفان: أحدهما: في إثبات الكفر الظاهر. والثاني: في إثبات الكفر الباطن. فأما الطرف الثاني: فهو مبنى على مسألة كون الايمان قولا وعملا؛ كما تقدم ومن الممتنع أن يكون الرجل مؤمنا إيمانا ثابتا في قلبه، بأن الله فرض عليه الصلاة والزكاة والصيام والحج ويعيش دهره لا يسجد لله سجدة، ولا يصوم من رمضان، ولا يؤدي لله زكاة، ولا يحج إلى بيته، فهذا ممتنع، ولا يصدر هذا إلا مع نفاق في القلب وزندقة، لا مع إيمان صحيح؛ ولهذا إنما يصف سبحانه بالامتناع من السجود الكفار كقوله: في الحديث الطويل، حديث التجلي (أنه إذا تجلى تعالى لعباده يوم القيامة سجد له المؤمنون وبقي ظهر من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة مثل الطبق لا يستطيع السجود) فإذا كان هذا حال من سجد رياء، فكيف حال من لم يسجد قط؛ وثبت أيضا في الصحيح (أن النار تأكل من ابن آدم كل شيء الا موضع السجود فان الله حرم على النار أن تأكله) فعلم أن من لم يكن يسجد لله تأكله النار كله؛ وكذلك ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم يعرف أمته يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء، فدل على أن من لم يكن غرا محجلا لم يعرفه النبى صلى الله عليه وسلم، فلا يكون من أمته وقوله تعالى: وقوله تعالى: وأيضا في القرآن علق الأخوة في الدين على نفس إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، كما علق ذلك على التوبة من الكفر، فاذا انتفي ذلك انتفت الأخوة وأيضا فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر) وفي المسند (من ترك الصلاة متعمدا فقد برئت منه الذمة). وأيضا فإن شعار المسلمين الصلاة، ولهذا يعبر عنهم بها فيقال: اختلف أهل الصلاة، واختلف أهل القبلة، والمصنفون لمقالات المسلمين يقولون: مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين. وفي الصحيح (من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم له ما لنا، وعليه ما علينا) وأمثال هذه النصوص كثيرة في الكتاب والسنة. وأما الذين لم يكفروا بترك الصلاة ونحوها؛ فليست لهم حجة إلا وهي متناولة للجاحد كتناولها للتارك، فما كان جوابهم عن الجاحد كان جوابا لهم عن التارك؛ مع أن النصوص علقت الكفر بالتولي كما تقدم، وهذا مثل استدلالهم بالعمومات التي يحتج بها المرجئة كقوله:(من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وان عيسى عبد الله ورسوله وكلمته القاها الى مريم وروح منه... أدخله الله الجنة) ونحو ذلك من النصوص. وأجود ما إعتمدوا عليه قوله صلى الله عليه وسلم: (خمس صلوات كتبهن الله على العباد في اليوم والليلة فمن حافظ عليهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة ومن لم يحافظ عليهن لم يكن له عند الله عهد إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة). قالوا: فقد جعل غير المحافظ تحت المشيئة، والكافر لا يكون تحت المشيئة، ولا دلالة في هذا؛ فإن الوعد بالمحافظة عليها، والمحافظة فعلها في أوقاتها كما أمر، كما قال تعالى: ذلك إلا تركها. فقال: لو تركوها لكانوا كفارا. وكذلك قوله: وحينئذ فإذا كان العبد يفعل بعض المأمورات، ويترك بعضها، كان معه من الايمان بحسب ما فعله، والإيمان يزيد وينقص، ويجتمع في العبد إيمان ونفاق؛ كما ثبت عنه في الصحيح أنه قال: (أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق، حتى يدعها، إذا حدث كذب، وإذا ائتمن خان، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر). وبهذا تزول الشبهة في هذا الباب، فإن كثيرا من الناس؛ بل أكثرهم في كثير من الأمصار لا يكونون محافظين على الصلوات الخمس، ولا هم تاركيها بالجملة بل يصلون أحيانا، ويدعون أحيانا، فهؤلاء فيهم إيمان ونفاق، وتجري عليهم أحكام الأسلام الظاهرة في المواريث ونحوها من الأحكام؛ فإن هذه الاحكام إذا جرت على المنافق المحض ـ كابن أبي وأمثاله من المنافقين ـ فلأن تجري على هؤلاء أولى وأحرى. وبيان[هذا الموضع] مما يزيل الشبهة، فإن كثيرا من الققهاء يظن أن من قيل هو كافر، فإنه يجب أن تجري عليه أحكام المرتد ردة ظاهرة، فلا يرث ولا يورث ولا يناكح حتى أجروا هذه الأحكام على من كفروه بالتأويل من أهل البدع، وليس الأمر كذلك، فإنه قد ثبت أن الناس كانوا ثلاثة أصناف: مؤمن، وكافر مظهر للكفر، ومنافق مظهر للإسلام مبطن للكفر. وكان في المنافقين من يعلمه الناس بعلامات ودلالات بل من لا يشكون في نفاقه ومن نزل القرآن ببيان نفاقه ـ كابن أبي وأمثاله ـ ومع هذا، فلما مات هؤلاء ورثهم ورثتهم المسلمون، وكان إذا مات لهم ميت آتوهم ميراثه، وكانت تعصم دماؤهم، حتى تقوم السنة الشرعية على أحدهم بما يوجب عقوبته. ولما خرجت الحرورية على علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ واعتزلوا جماعة المسلمين قال لهم: إن لكم علينا ألا نمنعكم المساجد، ولا نمنعكم نصيبكم من الفيء، فلما استحلوا قتل المسلمين وأخذ أموالهم، قاتلهم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم؛/حيث قال:(يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم،،وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرَّمِيَّة، أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة). فكانت الْحَرُورِيَّة قد ثبت قتالهم بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، واتفاق أصحابه، ولم يكن قتالهم قتال فتنة كالقتال الذي جرى بين فئتين عظيمتين في المسلمين، بل قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري أنه قال للحسن ابنه:(إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين)، وقال في الحديث الصحيح: (تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين، فتقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق)،فدل بهذا على أن ما فعله الحسن من ترك القتال إما واجبًا أو مستحبًا، لم يمدحه النبي صلى الله عليه وسلم على ترك واجب أو مستحب، ودل الحديث الآخر على أن الذين قاتلوا الخوارج وهم علي وأصحابه، كان أقرب إلى الحق من معاوية وأصحابه، وأن قتال الخوارج أمر به النبي صلى الله عليه وسلم ليس قتالهم كالقتال في الجمل وصفين، الذي ليس فيه أمر من النبي. والمقصود أن علي بن أبي طالب وغيره من أصحابه، لم يحكموا بكفرهم ولا قاتلوهم حتى بدؤوهم بالقتال. والعلماء قد تنازعوا في تكفير أهل البدع والأهواء وتخليدهم في النار،وما من الأئمة إلا من حكى عنه في ذلك قولان،/كمالك والشافعي وأحمد وغيرهم، وصار بعض أتباعهم يحكي هذا النزاع في جميع أهل البدع، وفي تخليدهم حتى التزم تخليدهم كل من يعتقد أنه مبتدع بعينه، وفي هذا من الخطأ ما لا يحصى، وقابله بعضهم فصار يظن أنه لا يطلق كفر أحد من أهل الأهواء، وإن كانوا قد أتوا من الإلحاد وأقوال أهل التعطيل والاتحاد. والتحقيق في هذا أن القول قد يكون كفرًا كمقالات الجهمية الذين قالوا: إن الله لا يتكلم، ولا يرى في الآخرة، ولكن قد يخفى على بعض الناس أنه كفر، فيطلق القول بتكفير القائل، كما قال السلف: من قال: القرآن مخلوق فهو كافر، ومن قال: إن الله لا يرى في الآخرة فهو كافر، ولا يكفر الشخص المعين حتى تقوم عليه الحجة كما تقدم، كمن جحد وجوب الصلاة، والزكاة، واستحل الخمر، والزنا وتأول. فإن ظهور تلك الأحكام بين المسلمين أعظم من ظهور هذه، فإذا كان المتأول المخطئ في تلك لا يحكم بكفره، إلا بعد البيان له واستتابته ـ كما فعل الصحابة في الطائفة الذين استحلوا الخمر ـ ففي غير ذلك أولى وأحرى، وعلى هذا يخرج الحديث الصحيح في الذي قال: إذا أنا مت فأحرقوني، ثم اسحقوني في اليم، فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابًا ما عذبه أحدًا من العالمين. وقد غفر الله لهذا مع ما حصل له من الشك في قدرة الله وإعادته إذا حرقوه، وهذه المسائل مبسوطة في غير هذا الموضع. /فإن قيل: فالله قد أمر بجهاد الكفار والمنافقين في آيتين من القرآن، فإذا كان المنافق تجري عليه أحكام الإسلام في الظاهر،فكيف يمكن مجاهدته؟ قيل: ما يستقر في القلب من إيمان ونفاق، لابد أن يظهر موجبه في القول والعمل، كما قال بعض السلف: ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه، وفلتات لسانه، وقد قال تعالى في حق المنافقين: وبالجملة فأصل هذه المسائل: أن تعلم أن الكفر نوعان: كفر ظاهر،/وكفر نفاق، فإذا تكلم في أحكام الآخرة، كان حكم المنافق حكم الكفار، وأما في أحكام الدنيا، فقد تجري على المنافق أحكام المسلمين. وقد تبين أن الدين لابد فيه من قول وعمل، وأنه يمتنع أن يكون الرجل مؤمنًا بالله ورسوله بقلبه أو بقلبه ولسانه، ولم يؤد واجبًا ظاهرًا، ولا صلاة ولا زكاة ولا صيامًا، ولا غير ذلك من الواجبات، لا لأجل أن الله أوجبها، مثل أن يؤدي الأمانة أو يصدق الحديث، أو يعدل في قسمه وحكمه، من غير إيمان بالله ورسوله، لم يخرج بذلك من الكفر، فإن المشركين، وأهل الكتاب يرون وجوب هذه الأمور، فلا يكون الرجل مؤمنًا بالله ورسوله مع عدم شيء من الواجبات التي يختص بإيجابها محمد. ومن قال بحصول الإيمان الواجب بدون فعل شيء من الواجبات، سواء جعل فعل تلك الواجبات لازمًا له، أو جزءًا منه، فهذا نزاع لفظي، كان مخطئًا خطأ بينًا، وهذه بدعة الإرجاء، التي أعظم السلف والأئمة الكلام في أهلها، وقالوا فيها من المقالات الغليظة ما هو معروف، والصلاة هي أعظمها وأعمها وأولها وأجلها.
|