الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن ***
{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)} هذا المقطع في السياق استطراد في إزالة المعوقات التي كانت قائمة في طريق النفرة إلى جهاد الروم وحلفائهم من نصارى العرب في شمال الجزيرة.. ذلك أن الاستنفار لهذه الغزوة- تبوك- كان في رجب من الأشهر الحرم. ولكن كانت هناك ملابسة واقعة. وهي أن رجب في هذا العام لم يكن في موعده الحقيقي! وذلك بسبب {النسيء} الذي ورد ذكره في الآية الثانية- كما سنبين- فقد ورد أن ذا الحجة في هذا العام لم يكن في موعده كذلك، إنما كان في ذي القعدة! فكأن رجب كان في جمادى الآخرة.. وسر هذا الاضطراب كله هو اضطراب الجاهلية في تقاليدها؛ وعدم التزامها بالحرمات إلا شكلاً؛ والتأويلات والفتاوى التي تصدر عن البشر، ما دام أن أمر التحليل والتحريم يوكل في الجاهلية إلى البشر! وبيان هذه القضية: أن الله حرم الأشهر الحرم الأربعة وهي الثلاثة المتوالية: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، والشهر الرابع المفرد: رجب.. والواضح أن هذا التحريم كان مع فرض الحج في أشهره المعلومات منذ إبراهيم وإسماعيل.. وعلى كثرة ما حرف العرب في دين إبراهيم، وعلى شدة ما انحرفوا عنه في جاهليتهم قبل الإسلام، فإنهم بقوا يعظمون الأشهر الحرم هذه؛ لارتباطها بموسم الحج؛ الذي كانت تقوم عليه حياة الحجازيين، وبخاصة سكان مكة. كيما يكون هناك السلام الشامل في الجزيرة الذي يسمح بالموسم، والانتقال إليه، والتجارة فيه! ثم كانت- بعد ذلك- تعرض حاجات لبعض القبائل العربية تتعارض مع تحريم هذه الأشهر.. وهنا تلعب الأهواء؛ ويقوم من يفتي باستحلال أحد الأشهر الحرم عن طريق تأخيره في عام وتقديمه في عام آخر، فتكون عدة الأشهر المحرمة أربعة، ولكن أعيان هذه الأشهر تتبدل {ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله}.. فلما كان هذا العام التاسع كان رجب الحقيقي غير رجب، وكان ذو الحجة الحقيقي غير ذي الحجة! كان رجب هو جمادى الآخرة، وكان ذو الحجة هو ذا القعدة! وكان النفير في جمادى الآخرة فعلاً وواقعاً، ولكنه كان في رجب اسماً بسبب هذا النسيء! فجاءت هذه النصوص تبطل النسيء؛ وتبين مخالفته ابتداء لدين الله، الذي يجعل التحليل والتحريم (والتشريع كله) حقاً خالصاً لله؛ وتجعل مزاولته من البشر- بغير ما أذن الله- كفراً.. بل زيادة في الكفر.. ومن ثم تزيل العقبة التي تحيك في بعض النفوس من استحلال رجب. وفي الوقت ذاته تقرر أصلاً من أصول العقيدة الأساسية؛ وهو قصر حق التشريع في الحل والحرمة على الله وحده. وتربط هذه الحقيقة بالحق الأصيل في بناء الكون كله، يوم خلق الله السماوات والأرض. فتشريع الله للناس إنما هو فرع عن تشريعه للكون كله بما فيه هؤلاء الناس. والحيدة عنه مخالفة لأصل تكوين هذا الكون وبنائه؛ فهو زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا.. وحقيقة أخرى تقررها هذه النصوص، تتعلق بما سبق تقريره في المقطع السابق مباشرة، من اعتبار أهل الكتاب مشركين، وضمهم في العداوة والجهاد إلى المشركين، والأمر بقتالهم كافة.. المشركين وأهل الكتاب.. كما أنهم يقاتلون المسلمين كافة.. الأمر الذي يقرره الواقع التاريخي كله؛ كما تقرره من قبل كلمات الله- سبحانه- وهي تعبر عن وحدة الهدف تماماً بين المشركين وأهل الكتاب تجاه الإسلام والمسلمين، وعن وحدة الصف التي تجمعهم كذلك عند ما تكون المعركة مع الإسلام والمسلمين، مهما يكن بينهم هم من عداوات قبل ذلك وثارات واختلافات في تفصيلات العقيدة كذلك، لا تقدم شيئاً ولا تؤخر في تجمعهم جميعاً في وجه الانطلاق الإسلامي؛ وفي عملهم متجمعين لسحق الوجود الإسلامي. وهذه الحقيقة الأخيرة الخاصة بأن أهل الكتاب مشركون كالمشركين، وأن المشركين هؤلاء وهؤلاء يقاتلون المسلمين كافة فوجب على المسلمين أن يقاتلوهم كافة.. بالإضافة إلى الحقيقة الأولى: وهي أن النسيء زيادة في الكفر، لأنه مزاولة للتشريع بغير ما أنزل الله، فهو كفر يضاف إلى الكفر الاعتقادي ويزيد فيه.. هاتان الحقيقتان هما المناسبة التي تربط هاتين الآيتين بما قبلهما وما بعدهما في السياق؛ الذي يعالج المعوقات دون النفير العام، والانطلاق الإسلامي تجاه المشركين وأهل الكتاب.. {إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم. ذلك الدين القيم}.. إن هذا النص القرآني يرد معيار الزمن، وتحديد دورانه إلى طبيعة الكون التي فطره الله عليها. وإلى أصل الخلقة. خلقة السماوات والأرض. ويشير إلى أن هناك دورة زمنية ثابتة، مقسمة إلى اثني عشر شهراً. يستدل على ثباتها بثبات عدة الأشهر؛ فلا تزيد في دورة وتنقص في دورة. وأن ذلك في كتاب الله- أي في ناموسه الذي أقام عليه نظام هذا الكون. فهي ثابتة على نظامها، لا تتخلف ولا تتعرض للنقص والزيادة. لأنها تتم وفق قانون ثابت، هو ذلك الناموس الكوني الذي أراده الله يوم خلق السماوات والأرض: هذه الإشارة إلى ثبات الناموس يقدم بها السياق لتحريم الأشهر الحرم وتحديدها، ليقول: إن هذا التحديد والتحريم جزء من نواميس الله كثباتها، لا يجوز تحريفه بالهوى، ولا يجوز تحريكه تقديماً وتأخيراً، لأنه يشبه دورة الزمن التي تتم بتقدير ثابت، وفق ناموس لا يتخلف: {ذلك الدين القيم}.. فهذا الدين مطابق للناموس الأصيل، الذي تقوم به السماوات والأرض، منذ أن خلق الله السماوات والأرض. وهكذا يتضمن ذلك النص القصير سلسلة طويلة من المدولات العجيبة.. يتبع بعضها بعضاً، ويمهد بعضها لبعض، ويقوي بعضها بعضاً. ويشتمل على حقائق كونية يحاول العلم الحديث جاهداً أن يصل إليها بطريقته ومحاولاته وتجاربه. ويربط بين نواميس الفطرة في خلق الكون وأصول هذا الدين وفرائضه، ليقر في الضمائر والأفكار عمق جذوره، وثبات أسسه، وقدم أصوله.. كل أولئك في إحدى وعشرين كلمة تبدو في ظاهرها عادية بسيطة قريبة مألوفة. {ذلك الدين القيم. فلا تظلموا فيهن أنفسكم}.. لا تظلموا أنفسكم في هذه الأشهر الحرم التي يتصل تحريمها بناموس كوني تقوم عليه السماوات والأرض. ذلك الناموس هو أن الله هو المشرع للناس كما أنه هو المشرع للكون.. لا تظلموا أنفسكم بإحلال حرمتها التي أرادها الله لتكون فترة أمان وواحة سلام؛ فتخالفوا عن إرادة الله. وفي هذه المخالفة ظلم للأنفس بتعريضها لعذاب الله في الآخرة، وتعريضها للخوف والقلق في الأرض، حين تستحيل كلها جحيماً حربية، لا هدنة فيها ولا سلام. {وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة}.. ذلك في غير الأشهر الحرم، ما لم يبدأ المشركون بالقتال فيتعين رد الاعتداء في تلك الأشهر، لأن الكف عن القتال من جانب واحد يضعف القوة الخيرة، المنوط بها حفظ الحرمات، ووقف القوة الشريرة المعتدية؛ ويشيع الفساد في الأرض؛ والفوضى في النواميس. فرد الاعتداء في هذه الحالة وسيلة لحفظ الأشهر الحرم، فلا يعتدى عليها ولا تهان. {وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة}.. قاتلوهم جميعاً بلا استثناء أحد منهم ولا جماعة، فهم يقاتلونكم جميعاً لا يستثنون منكم أحداً، ولا يبقون منكم على جماعة. والمعركة في حقيقتها إنما هي معركة بين الشرك والتوحيد. وبين الكفر والإيمان وبين الهدى والضلال. معركة بين معسكرين متميزين لا يمكن أن يقوم بينهما سلام دائم، ولا أن يتم بينهما اتفاق كامل لأن الخلاف بينهما ليس عرضياً ولا جزئياً. ليس خلافاً على مصالح يمكن التوفيق بينهما، ولا على حدود يمكن أن يعاد تخطيطها. وإن الأمة المسلمة لتخدع عن حقيقة المعركة بينها وبين المشركين- وثنيين وأهل كتاب- إذا هي فهمت أو أفهمت أنها معركة اقتصادية أو معركة قومية، أو معركة وطنية، أو معركة استراتيجية.. كلا. إنها قبل كل شيء معركة العقيدة. والمنهج الذي ينبثق من هذه العقيدة.. أي الدين.. وهذه لا تجدي فيها أنصاف الحلول. ولا تعالجها الاتفاقات والمناورات. ولا علاج لها إلا بالجهاد والكفاح الجهاد الشامل والكفاح الكامل. سنة الله التي لا تتخلف، وناموسه الذي تقوم عليه السماوات والأرض، وتقوم عليه العقائد والأديان، وتقوم عليه الضمائر والقلوب. في كتاب الله يوم خلق الله السماوات والأرض. {واعلموا أن الله مع المتقين}.. فالنصر للمتقين الذين يتقون أن ينتهكوا حرمات الله، وأن يحلوا ما حرم الله، وأن يحرفوا نواميس الله. فلا يقعد المسلمون عن جهاد المشركين كافة، ولا يتخوفوا من الجهاد الشامل. فهو جهاد في سبيل الله يقفون فيه عند حدوده وآدابه؛ ويتوجهون به إلى الله يراقبونه في السر والعلانية. فلهم النصر، لأن الله معهم، ومن كان الله معه فهو المنصور بلا جدال. {إنما النسيء زيادة في الكفر. يضل به الذين كفروا يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً، ليواطئوا عدة ما حرم الله، فيحلوا ما حرم الله. زين لهم سوء أعمالهم، والله لا يهدي القوم الكافرين}.. قال مجاهد- رضي الله عنه-: كان رجل من بني كنانة يأتي كل عام إلى الموسم على حمار له فيقول: أيها الناس. إني لا أعاب ولا أخاب، ولا مرد لما أقول. إنا قد حرمنا المحرم وأخرنا صفر. ثم يجيء العام المقبل بعده فيقول مثل مقالته، ويقول: إنا قد حرمنا صفر وأخرنا المحرم فهو قوله: {ليواطئوا عدة ما حرم الله} قال: يعني الأربعة. فيحلوا ما حرم الله تأخير هذا الشهر الحرام. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هذا رجل من بني كنانة يقال له القلمس، وكان في الجاهلية وكانوا في الجاهلية لا يغير بعضهم على بعض في الشهر الحرام، يلقى الرجل قاتل أبيه ولا يمد إليه يده؛ فلما كان هو قال: اخرجوا بنا. قالوا له: هذا المحرم. قال: ننسئه العام. هما العام صفران. فإذا كان العام القابل قضينا.. جعلناهما محرمين.. قال ففعل ذلك. فلما كان عام قابل لا قال تغزوا في صفر. حرموه مع المحرم. هما محرمان.. فهذان قولان في الآية، وصورتان من صور النسيء. في الصورة الأولى يحرم صفر بدل المحرم فالشهور المحرمة أربعة في العدد، ولكنها ليست هي التي نص عليها الله، بسبب إحلال شهر المحرم. وفي الصورة الثانية يحرم في عام ثلاثة أشهر وفي عام آخر خمسة أشهر فالمجموع ثمانية في عامين بمتوسط أربعة في العام ولكن حرمة المحرم ضاعت في أحدهما، وحل صفر ضاع في ثانيهما! وهذه كتلك في إحلال ما حرم الله؛ ولمخالفة عن شرع الله.. {زيادة في الكفر}.. ذلك أنه- كما أسلفنا- كفر مزاولة التشريع إلى جانب كفر الاعتقاد. {يضل به الذين كفروا}.. ويخدعون بما فيه من تلاعب وتحريف وتأويل.. {زين لهم سوء أعمالهم}.. فإذا هم يرون السوء حسناً، ويرون قبح الانحراف جمالاً، ولا يدركون ما هم فيه من ضلال ولجاج في الكفر بهذه الأعمال. {والله لا يهدي القوم الكافرين}.. الذين ستروا قلوبهم عن الهدى وستروا دلائل الهدى عن قلوبهم. فاستحقوا بذلك أن يتركهم الله لما هم فيه من ظلام وضلال.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)} هذا المقطع من سياق السورة يرجح أنه نزل بعد الأمر بالنفير العام لغزوة تبوك. ذلك حين بلغ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن الروم قد جمعوا له على أطراف الجزيرة بالشام، وأن هرقل قد رزق أصحابه رزق سنة، وانضمت إليهم لخم وجدَام وعاملة وغسان من قبائل العرب. وقدموا مقدماتهم إلى البلقاء من أعمال الشام. فاستنفر الناس إلى قتال الروم. وكان- صلى الله عليه وسلم- قلما يخرج إلى غزوة إلى ورّى بغيرها مكيدة في الحرب، إلا ما كان من هذه الغزوة. فقد صرح بها لبعد الشقة وشدة الزمان. إذا كان ذلك في شدة الحر، حين طابت الظلال، وأينعت الثمار، وحبب إلى الناس المقام.. عندئذ بأدت تظهر في المجتمع المسلم تلك الأعراض التي تحدثنا عنها في تقديم السورة. كما وجد المنافقون فرصتهم للتخذيل. فقالوا: لا تنفروا في الحر. وخوفوا الناس بعد الشقة، وحذروهم بأس الروم.. وكان لهذه العوامل المختلفة أثرها في تثاقل بعض الناس عن النفرة.. وهذا ما تعالجه هذه الفقرة.. {يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض. أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة؟ فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل. إلاّ تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم، ولا تضروه شيئاً، والله على كل شيء قدير. إلاّ تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار، إذ يقول لصاحبه: لا تحزن إن الله معنا، فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى، وكلمة الله هي العليا، والله عزيز حكيم. انفروا خفافاً وثقالاً، وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله، ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون}.. ذلك بدء العتاب للمتخلفين والتهديد بعاقبة التثاقل عن الجهاد في سبيل الله، والتذكير لهم بما كان من نصر الله لرسوله، قبل أن يكون معه منهم أحد، وبقدرته على إعادة هذا النصر بدونهم، فلا ينالهم عندئذ إلا إثم التخلف والتقصير. {يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض؟}.. إنها ثقلة الأرض، ومطامع الأرض، وتصورات الأرض.. ثقلة الخوف على الحياة، والخوف على المال، والخوف على اللذائذ والمصالح والمتاع.. ثقلة الدعة والراحة والاستقرار.. ثقلة الذات الفانية والأجل المحدود والهدف القريب.. ثقلة اللحم والدم والتراب.. والتعبير يلقي كل هذه الظلال بجرس ألفاظه: {اثاقلتم}. وهي بجرسها تمثل الجسم المسترخي الثقيل، يرفعه الرافعون في جهد فيسقط منهم في ثقل! ويلقيها بمعنى ألفاظه: {اثاقلتم إلى الأرض}.. وما لها من جاذبية تشد إلى أسفل وتقاوم رفرفة الأرواح وانطلاق الأشواق. إن النفرة للجهاد في سبيل الله انطلاق من قيد الأرض، وارتفاع على ثقلة اللحم والدم؛ وتحقيق للمعنى العلوي في الإنسان، وتغليب لعنصر الشوق المجنح في كيانه على عنصر القيد والضرورة؛ وتطلع إلى الخلود الممتد، وخلاص من الفناء المحدود: {أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة؟ فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل}. وما يحجم ذوعقيدة في الله عن النفرة للجهاد في سبيله، إلا وفي هذه العقيدة دخل، وفي إيمان صاحبها بها وهن. لذلك يقول الرسول- صلى الله عليه وسلم- «من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من شعب النفاق» فالنفاق- وهو دخل في العقيدة يعوقها عن الصحة والكمال- هو الذي يقعد بمن يزعم أنه على عقيدة عن الجهاد في سبيل الله خشية الموت أو الفقر، والآجال بيد الله، والرزق من عند الله. وما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل. ومن ثم يتوجه الخطاب إليهم بالتهديد: {إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم، ولا تضروه شيئاً، والله على كل شيء قدير}.. والخطاب لقوم معينين في موقف معين. ولكنه عام في مدلوله لكل ذوي عقيدة في الله. والعذب الذي يهتددهم ليس عذاب الآخرة وحده، فهو ذلك عذاب الدنيا. عذاب الذلة التي تصيب القاعدين عن الجهاد والكفاح، والغلبة عليهم للأعداء، والحرمان من الخيرات واستغلالها للمعادين؛ وهم مع ذلك كله يخسرون من النفوس والأموال أضعاف ما يخسرون في الكفاح والجهاد؛ ويقدمون على مذبح الذل أضعاف ما تتطلبه منهم الكرامة لو قدموا لها الفداء. وما من أمة تركت الجهاد إلا ضرب الله عليها الذل، فدفعت مرغمة صاغرة لأعدائها أضعاف ما كان يتطلبه منها كفاح الأعداء.. {ويستبدل قوماً غيركم}.. يقومون على العقيدة، ويؤدون ثمن العزة، ويستعلون على أعداء الله: {ولا تضروه شيئاً}.. ولا يقام لكم وزن، ولا تقدمون أو تؤخرون في الحساب! {والله على كل شيء قدير}.. لا يعجزه أن يذهب بكم، ويستبدل قوماً غيركم، ويغفلكم من التقدير والحساب! إن الاستعلاء على ثقلة الأرض وعلى ضعف النفس، إثبات للوجود الإنساني الكريم. فهو حياة بالمعنى العلوي للحياة: إن التثاقل إلى الإرض والاستسلام للخوف إعدام للوجود الإنساني الكريم. فهو فناء في ميزان الله وفي حساب الروح المميزة للأنسان. ويضرب الله لهم المثل من الواقع التاريخي الذي يعلمونه، على نصرة الله لرسوله بلا عون منهم ولا ولاء، والنصر من عند الله يؤتيه من يشاء: {إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا، ثاني اثنين إذ هما في الغار. إذ يقول لصاحبه: لا تحزن إن الله معنا. فأنزل الله سكينته عليه، وأيده بجنود لم تروها، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى، وكلمة الله هي العليا، والله عزيز حكيم}. ذلك حين ضاقت قريش بمحمد ذرعاً، كما تضيق القوة الغاشمة دائماً بكلمة الحق، لا تملك لها دفعاً، ولا تطيق عليها صبراً، فائتمرت به، وقررت أن تتخلص منه؛ فأطلعه الله على ما ائتمرت، وأوحي إليه بالخروج، فخرج وحيداً إلا من صاحبه الصدّيق، لا جيش ولا عدة، وأعداؤه كثر، وقوتهم إلى قوته ظاهرة. والسياق يرسم مشهد الرسول- صلى الله عليه وسلم- وصاحبه: {إذ هما في الغار}. والقوم على إثرهما يتعقبون، والصديق- رضي الله عنه- يجزع- لا على نفسه ولكن على صاحبه- أن يطلعواعليها فيخلصوا إلى صاحبه الحبيب، يقول له: لو أن أحدهم نظر إلى قدمية لأبصرنا تحت قدميه. والرسول- صلى الله عليه وسلم- وقد أنزل الله سكينته على قلبه، يهدئ من روعه ويطمئن من قلبه فيقول له: «يا أبا بكر ما ظنك بأثنين الله ثالثهما؟». ثم ماذا كانت العاقبة، والقوة المادية كلها في جانب، والرسول- صلى الله عليه وسلم- مع صاحبه منها مجرد؟ كان النصر المؤزر من عند الله بجنود لم يرها الناس. وكانت الهزيمة للذين كفروا والذل والصغار: {وجعل كلمة الذين كفروا السفلى}. وظلت كلمة الله في مكانها العالي منتصرة قوية نافذة: {وكلمة الله هي العليا}.. وقد قرئ «{وكلمةَ الله} بالنصب. ولكن القراءة بالرفع أقوى في المعنى. لأنها تعطي معنى التقرير. فكلمة الله هي العليا طبيعة وأصلاً، بدون تصيير متعلق بحادثة معينة. والله {عزيز} لا يذل أولياؤه {حكيم} يقدر النصر في حينه لمن يستحقه ذلك مثل على نصرة الله لرسوله ولكلمته؛ والله قادر على أن يعيده على أيدي قوم آخرين غير الذين يتثاقلون ويتباطأون. وهو مثل من الواقع إن كانوا في حاجة بعد قول الله إلى دليل! وفي ظلال هذا المثل الواقع المؤثر يدعوهم إلى النفرة العامة، لا يعوقهم معوق. ولا يقعد بهم طارئ، إن كانوا يريدون لأنفسهم الخير في هذه الأرض وفي الدار الآخرة: {انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله. ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون}.. انفروا في كل حال، وجاهدوا بالنفوس والأموال، ولا تتلمسوا الحجج والمعاذير، ولا تخضعوا للعوائق والتعلات. {ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون}. وأدرك المؤمنون المخلصون هذا الخير. فنفروا والعوائق في طريقهم، والأعذار حاضرة لو أرادوا التمسك بالأعذار. ففتح الله عليهم القلوب والأرضين، وأعز بهم كلمة الله، وأعزهم بكلمة الله، وحقق على أيديهم ما يعد خارقة في تاريخ الفتوح. قرأ أبو طلحة- رضي الله عنه- سورة براءة فأتى على هذه الآية فقال: أرى ربنا استنفرنا شيوخاً وشباناً، جهزوني يا بني. فقال بنوه: يرحمك الله قد غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حتى مات، ومع أبي بكر حتى مات، ومع عمر حتى مات، فنحن نغزو عنك. فأبى فركب البحر فمات، فلم يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد تسعة أيام، فلم يتغير، فدفنوه بها. وروى ابن جرير بإسناده- عن أبي راشد الحراني قال: «وافيت المقداد بن الأسود فارس رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- جالساً على تابوت من توابيت الصيارفة، وقد فضل عنها من عظمه يريد الغزو؛ فقلت له قد أعذر الله إليك. فقال: أتت علينا سورة البعوث. {انفروا خفافاً وثقالاً}. وروى كذلك بإسناده- عن حيان بن زيد الشرعبي قال: نفرنا مع صفوان بن عمرو، وكان والياً على حمص قبل الأفسوس إلى الجراجمة فرأيت شيخا كبيراً هما، قد سقط حاجباه على عينيه من أهل دمشق على راحلته فيمن أغار، فأقبلت إليه فقلت: يا عم لقد أعذر الله إليك. قال: فرفع حاجبيه فقال يا ابن أخي استنفرنا الله، خفافاً وثقالاً. ألا إنه من يحبه الله يبتليه، ثم يعيده فيبقيه، وإنما يبتلي الله من عباده من شكر وصبر وذكر، ولم يعبد إلا الله عز وجل. وبمثل هذا الجد في أخذ كلمات الله انطلق الإسلام في الأرض، يخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، وتمت تلك الخارقة في تلك الفتوح التحريرية الفريدة.
{لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43) لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54) فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55) وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59) إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66) الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74) وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آَتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80) فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83) وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84) وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85) وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آَمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87) لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90) لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92)} من هنا يبدأ الحديث عن الطوائف التي ظهرت عليها أعراض الضعف في الصف. وبخاصة جماعة المنافقين، الذين اندسوا في صفوف المسلمين باسم الإسلام، بعد أن غلب وظهر، فرأى هؤلاء أن حب السلامة وحب الكسب يقتضيان أن يحنوا رؤوسهم للإسلام، وأن يكيدوا له داخل الصفوف بعد أن عز عليهم أن يكيدوا له خارج الصفوف. وسنرى في هذا المقطع كل الظواهر التي تحدثنا عنها في تقديم السورة كما يصورها السياق القرآني. ونحسب أنها ستكون مفهومة واضحة في ضوء ذلك التقديم الذي أسفلنا. {لو كان عرضاً قريباً وسفراً قاصداً لاتبعوك، ولكن بعدت عليهم الشقة؛ وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم، يهلكون أنفسهم، والله يعلم إنهم لكاذبون. عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين؟ لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين. إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون؛ ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم، فثبطهم، وقيل: اقعدوا مع القاعدين. لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة، وفيكم سماعون لهم، والله عليم بالظالمين. لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون}.. لو كان الأمر أمر عرض قريب من أعراض هذه الأرض، وأمر سفر قصير الأمد مأمون العاقبة لاتبعوك ولكنها الشقة البعيدة التي تتقاصر دونها الهمم الساقطة والعزائم الضعيفة. ولكنه الجهد الخطر الذي تجزع منه الأرواح الهزيلة والقلوب المنخوبة. ولكنه الأفق العالي الذي تتخاذل دونه النفوس الصغيرة والبنية المهزولة. وإنه لنموذج مكرور في البشرية ذلك الذي ترسمه تلك الكلمات الخالدة: {لو كان عرضاً قريباً وسفراً قاصدا لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة}.. فكثيرون هم أولئك الذين يتهاوون في الطريق الصاعد إلى الآفاق الكريمة. كثيرون أولئك الذين يجهدون لطول الطريق فيتخلفون عن الركب ويميلون إلى عرض تافه أو مطلب رخيص. كثيرون تعرفهم البشرية في كل زمان وفي كل مكان، فما هي قلة عارضة، إنما هي النموذج المكرور. وإنهم ليعيشون على حاشية الحياة، وإن خيل إليهم أنهم بلغوا منافع ونالوا مطالب، واجتنبوا أداء الثمن الغالي، فالثمن القليل لا يشتري سوى التافه الرخيص! {وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم}.. فهو الكذب المصاحب للضعف أبداً. وما يكذب إلا الضعفاء. أجل ما يكذب إلا ضعيف ولو بدا في صورة الأقوياء الجبارين في بعض الأحايين. فالقوي يواجه والضعيف يداور. وما تتخلف هذه القاعدة في موقف من المواقف ولا في يوم من الأيام.. {يهلكون أنفسهم}.. بهذا الحلف وبهذا الكذب، الذي يخيل إليهم أنه سبيل النجاة عند الناس، والله يعلم الحق، ويكشفه للناس، فيهلك الكاذب في الدنيا بكذبه، ويهلك في الآخرة يوم لا يجدي النكران. {والله يعلم إِنهم لكاذبون}.. {عفا الله عنك. لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين}.. إنه لطف الله برسوله، فهو يعجل له بالعفو قبل العتاب. فلقد تدارى المتخلفون خلف إذن الرسول- صلى الله عليه وسلم- لهم بالقعود حين قدموا له المعاذير. وقبل أن ينكشف صدقهم من كذبهم في هذه المعاذير وكانوا سيتخلفون عن الركب حتى ولو لم يأذن لهم. فعندئذ تتكشف حقيقتهم، ويسقط عنهم ثوب النفاق، ويظهرون للناس على طبيعتهم، ولا يتوارون خلف إذن الرسول. وإذا لم يكن ذلك فإن القرآن يتولى كشفهم، ويقرر القواعد التي يمتاز بها المؤمنون والمنافقون. {لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين. إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم، فهم في ريبهم يترددون}. وهذه هي القاعدة التي لا تخطئ. فالذين يؤمنون بالله، ويعتقدون بيوم الجزاء، لا ينتظرون أن يؤذن لهم في أداء فريضة الجهاد؛ ولا يتلكأون في تلبية داعي النفرة في سبيل الله بالأموال والأرواح؛ بل يسارعون إليها خفافاً وثقالاً كما أمرهم الله، طاعة لأمره، ويقيناً بلقائه، وثقة بجزائه، وابتغاء لرضاه. وإنهم ليتطوعون تطوعاً فلا يحتاجون إلى من يستحثهم، فضلاً عن الإذن لهم. إنما يستأذن أولئك الذين خلت قلوبهم من اليقين فهم يتلكأون ويتلمسون المعاذير، لعل عائقاً من العوائق يحول بينهم وبين النهوض بتكاليف العقيدة التي يتظاهرون بها، وهم يرتابون فيها ويترددون. إن الطريق إلى الله واضحة مستقيمة، فما يتردد ويتلكأ إلا الذي لا يعرف الطريق، أو الذي يعرفها ويتنكبها اتقاء لمتاعب الطريق! ولقد كان أولئك المتخلفون ذوي قدرة على الخروج، لديهم وسائله، وعندهم عدته: {ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة}.. وقد كان فيهم عبد الله بن أبي بن أبي سلول، وكان فيهم الجد بن قيس، وكانوا أشرافاً في قومهم أثرياء. {ولكن كره الله انبعاثهم}.. لما يعلمه من طبيعتهم ونفاقهم، ونواياهم المنطوية على السوء للمسلمين كما سيجيء. {فثبطهم}.. ولم يبعث فيهم الهمة للخروج. {وقيل: اقعدوا مع القاعدين}.. وتخلفوا مع العجائز والنساء والأطفال الذين لا يستطيعون الغزو، ولا ينبعثون للجهاد. فهذا مكانكم اللائق بالهمم الساقطة والقلوب المرتابة والنفوس الخاوية من اليقين. وكان ذلك خيراً للدعوة وخيراً للمسلمين: {لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة، وفيكم سماعون لهم، والله عليم بالظالمين}.. والقلوب الحائرة تبث الخور والضعف في الصفوف، والنفوس الخائنة خطر على الجيوش؛ ولو خرج أولئك المنافقون ما زادوا المسلمين قوة بخروجهم بل لزادوهم اضطراباً وفوضى. ولأسرعوا بينهم بالوقيعة والفتنة والتفرقة والتخذيل. وفي المسلمين من يسمع لهم في ذلك الحين. ولكن الله الذي يرعى دعوته ويكلأ رجالها المخلصين، كفى المؤمنين الفتنة، فترك المنافقين المتخاذلين قاعدين: {والله عليم بالظالمين}.. والظالمون هنا معناهم «المشركون» فقد ضمهم كذلك إلى زمرة المشركين! وإن ماضيهم ليشهد بدخل نفوسهم، وسوء طويتهم، فلقد وقفوا في وجه الرسول- صلى الله عليه وسلم- وبذلوا ما في طوقهم، حتى غلبوا على أمرهم فاستسلموا وفي القلب ما فيه: {لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون}.. وكان ذلك عند مقدم الرسول- صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، قبل أن يظهره الله على أعدائه. ثم جاء الحق وانتصرت كلمة الله فحنوا لها رؤوسهم وهم كارهون، وظلوا يتربصون الدوائر بالإسلام والمسلمين. ثم يأخذ السياق في عرض نماذج منهم ومن معاذيرهم المفتراة؛ ثم يكشف عما تنطوي عليه صدورهم من التربص بالرسول- صلى الله عليه وسلم- والمسلمين: {ومنهم من يقول: ائذن لي ولا تفتني. ألا في الفتنة سقطوا، وإن جهنم لمحيطة بالكافرين. إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا: قد أخذنا أمرنا من قبل، ويتولوا وهم فرحون. قل: لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون. قل: هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين؟ ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا. فتربصوا إنا معكم متربصون}. روى محمد بن إسحاق عن الزهري ويزيد بن رومان وعبد الله بن أبي بكر وعاصم بن قتادة قالوا: «قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ذات يوم، وهو في جهازه (أي لغزوة تبوك) للجد بن قيس أخي بني سلمة: هل لك يا جد في جلاد بني الأصفر؟» (يعني الروم) فقال: يا رسول الله أو تأذن لي ولا تفتني؟ فوالله لقد عرف قومي ما رجل أشد عجباً بالنساء مني، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر ألا أصبر عنهن. فأعرض عنه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقال: «قد أذنت لك» ففي الجد بن قيس نزلت هذه الآية. بمثل هذه المعاذير كان المنافقون يعتذرون. والرد عليهم: {ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين}.. والتعبير يرسم مشهداً كأن الفتنة فيه هاوية يسقط فيها المفتونون؛ وكأن جهنم من ورائهم تحيط بهم، وتأخذ عليهم المنافذ والمتجهات فلا يفلتون. كناية عن مقارفتهم للخطيئة كاملة وعن انتظار العقاب عليها حتماً، جزاء الكذب والتخلف والهبوط إلى هذا المستوى المنحط من المعاذير. وتقريراً لكفرهم وإن كانوا يتظاهرون بالإسلام وهم فيه منافقون. إنهم لا يريدون بالرسول خيراً ولا بالمسلمين؛ وإنهم ليسؤوهم أن يجد الرسول والمسلمون خيراً: {إن تصبك حسنة تسؤهم}.. وإنهم ليفرحون لما يحل بالمسلمين من مصائب وما ينزل بهم من مشقة: {وإن تصبك مصيبة يقولوا: قد أخذنا أمرنا من قبل}. واحتطنا ألا نصاب مع المسلمين بشرّ، وتخلفنا عن الكفاح والغزو! {ويتولوا وهم فرحون}.. بالنجاة وبما أصاب المسلمين من بلاء. ذلك أنهم يأخذون بظواهر الأمور، ويحسبون البلاء شراً في كل حال، ويظنون أنهم يحققون لأنفسهم الخير بالتخلف والقعود. وقد خلت قلوبهم من التسليم لله، والرضى بقدره، واعتقاد الخير فيه. والمسلم الصادق يبذل جهده ويقدم لا يخشى، اعتقاداً بأن ما يصيبه من خير أو شر معقود بإرادة الله، وأن الله ناصر له ومعين: {قل: لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون}.. والله قد كتب للمؤمنين النصر، ووعدهم به في النهاية، فمهما يصبهم من شدة، ومهما يلاقوا من ابتلاء؛ فهو إعداد للنصر الموعود، ليناله المؤمنون عن بينة، وبعد تمحيص، وبوسائله التي اقتضتها سنة الله، نصراً عزيزاً لا رخيصاً، وعزة تحميها نفوس عزيزة مستعدة لكل ابتلاء، صابرة على كل تضحية. والله هو الناصر وهو المعين: {وعلى الله فليتوكل المؤمنون}.. والاعتقاد بقدر الله، والتوكل الكامل على الله، لا ينفيان اتخاذ العدة بما في الطوق. فذلك أمر الله الصريح: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة...} وما يتكل على الله حق الاتكال من لا ينفذ أمر الله، ومن لا يأخذ بالأسباب، ومن لا يدرك سنة الله الجارية التي لا تحابي أحداً، ولا تراعي خاطر إنسان! على أن المؤمن أمره كله خير. سواء نال النصر أو نال الشهادة. والكافر أمره كله شر سواء أصابه عذاب الله المباشر أو على أيدي المؤمنين: {قل: هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين، ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا. فتربصوا إنا معكم متربصون}.. فماذا يتربص المنافقون بالمؤمنين؟ إنها الحسنى على كل حال. النصر الذي تعلو به كلمة الله، فهو جزاؤهم في هذه الأرض. أو الشهادة في سبيل الحق عليا الدرجات عند الله. وماذا يتربص المؤمنون بالمنافقين؟ إنه عذاب الله يأخذهم كما أخذ من قبلهم من المكذبين؛ أو ببطش المؤمنين بهم كما وقع من قبل للمشركين.. {فتربصوا إنا معكم متربصون} والعاقبة معروفة.. والعاقبة للمؤمنين. ولقد كان بعض هؤلاء المعتذرين المتخلفين المتربصين، قد عرض ماله، وهو يعتذر عن الجهاد، ذلك ليمسك العصا من الوسط على طريقة المنافقين في كل زمان ومكان. فرد الله عليهم مناورتهم، وكلف رسوله أن يعلن أن إنفاقهم غير مقبول عند الله، لأنهم إنما ينفقونه عن رياء وخوف، لا عن إيمان وثقة، وسواء بذلوه عن رضا منهم بوصفه ذريعة يخدعون بها المسلمين، أو عن كره خوفاً من انكشاف أمرهم، فهو في الحالتين مردود، لا ثواب له ولا يحسب لهم عند الله: {قل: أنفقوا طوعاً أو كرهاً لن يتقبل منكم، إنكم كنتم قوماً فاسقين. وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله ورسوله، ولا يأتون الصلاة إلى وهم كسالى، ولا ينفقون إلا وهم كارهون}.. إنها صورة المنافقين في كل آن. خوف ومداراة، وقلب منحرف وضمير مدخول. ومظاهر خالية من الروح، وتظاهر بغير ما يكنه الضمير. والتعبير القرآني الدقيق: {ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى}.. فهم يأتونها مظهراً بلا حقيقة، ولا يقيمونها إقامة واستقامة. يأتونها كسالى لأن الباعث عليها لا ينبثق من أعماق الضمير، إنما يدفعون إليها دفعاً، فيحسون أنهم عليها مسخرون! وكذلك ينفقون ما ينفقون كارهين مكرهين. وما كان الله ليقبل هذه الحركات الظاهرة التي لا تحدو إليها عقيدة، ولا يصاحبها شعور دافع. فالباعث هو عمدة العمل والنية هي مقياسه الصحيح. ولقد كان هؤلاء المنفقون وهم كارهون ذوي مال وذوي أولاد، وذوي جاه في قومهم وشرف. ولكن هذا كله ليس بشيء عند الله. وكذلك يجب ألا يكون شيئاً عند الرسول والمؤمنين. فما هي بنعمة يسبغها الله عليهم ليهنأوا بها، إنما هي الفتنة يسوقها الله إليهم ويعذبهم بها: {فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم، إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا، وتزهق أنفسهم وهم كافرون}. إن الأموال والأولاد قد تكون نعمة يسبغها الله على عبد من عباده، حين يوفقه إلى الشكر على النعمة، والإصلاح بها في الأرض، والتوجه بها إلى الله، فإذا هو مطمئن الضمير، ساكن النفس، واثق من المصير. كلما أنفق احتسب وشعر أنه قدم لنفسه ذخراً، وكلما أصيب في ماله أو بنيه احتسب، فإذا السكينة النفسية تغمره. والأمل في الله يسري عنه.. وقد تكون نقمة يصيب الله بها عبداً من عباده، لأنه يعلم من أمره الفساد والدخل، فإذا القلق على الأموال والأولاد يحول حياته جحيماً، وإذا الحرص عليها يؤرقه ويتلف أعصابه، وإذا هو ينفق المال حين ينفقه فيما يتلفه ويعود عليه بالأذى، وإذا هو يشقى بأبنائه إذا مرضوا ويشقى بهم إذا صحوا، وكم من الناس يعذبون بأبنائهم لسبب من الأسباب! وهؤلاء الذين كانوا على عهد الرسول- صلى الله عليه وسلم- وأمثالهم في كل زمان، يملكون الأموال ويرزقون الأولاد، يعجب الناس ظاهرها، وهي لهم عذاب على نحو من الأنحاء. عذاب في الحياة الدنيا، وهم- بما علم الله من دخيلتهم- صائرون إلى الهاوية. هاوية الموت على الكفر والعياذ بالله من هذا المصير. والتعبير {وتزهق أنفسهم} يلقي ظل الفرار لهذه النفوس أو الهلاك. ظلاً مزعجاً لا هدوء فيه ولا اطمئنان، فيتسق هذا الظل مع ظل العذاب في الحياة الدنيا بالأموال والأولاد. فهو القلق والكرب في الدنيا والآخرة. وما يحسد أحد على هذه المظاهر التي تحمل في طياتها البلاء! ولقد كان أولئك المنافقون يدسون أنفسهم في الصف، لا عن إيمان واعتقاد، ولكن عن خوف وتقية، وعن طمع ورهب. ثم يحلفون أنهم من المسلمين، أسلموا اقتناعاً، وآمنوا اعتقاداً.. فهذه السورة تفضحهم وتكشفهم على حقيقتهم، فهي الفاضحة التي تكشف رداء المداورة وتمزق ثوب النفاق: {ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون. لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلاً لولوا إليه وهم يجمحون}. إنهم جبناء. والتعبير يرسم لهذا الجبن مشهداً ويجسمه في حركة. حركة النفس والقلب، يبرزها في حركة جسد وعيان: {لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلاً لولوا إليه وهم يجمحون}.. فهم متطلعون أبداً إلى مخبأ يحتمون به، ويأمنون فيه. حصناً أو مغارة أو نفقاً. إنهم مذعورون مطاردون. يطاردهم الفزع الداخلي والجبن الروحي. ومن هنا: {يحلفون بالله إنهم لمنكم}.. بكل أدوات التوكيد، ليداروا ما في نفوسهم، وليتقوا انكشاف طويتهم، وليأمنوا على ذواتهم.. وإنها لصورة زرية للجبن والخوف والملق والرياء. لا يرسمها إلا هذا الاسلوب القرآني العجيب. الذي يبرز حركات النفس شاخصة للحس على طريقة التصوير الفني الموحي العميق. ثم يستمر سياق السورة في الحديث عن المنافقين، وما يند منهم من أقوال وأعمال، تكشف عن نواياهم التي يحاولون سترها، فلا يستطيعون. فمنهم من يلمز النبي- صلى الله عليه وسلم- في توزيع الصدقات، ويتهم عدالته في التوزيع، وهو المعصوم ذو الخلق العظيم، ومنهم من يقول: هو اذن يستمع لكل قائل، ويصدق كل ما يقال، وهو النبي الفطن البصير، المفكر المدبر الحكيم. ومنهم من يتخفى بالقولة الفاجرة الكافرة، حتى إذا انكشف أمره استعان بالكذب والحلف ليبرئ نفسه من تبعة ما قال. ومنهم من يخشى أن ينزل الله على رسوله سورة تفضح نفاقهم وتكشفهم للمسلمين. ويعقب على استعراض هذه الصنوف من المنافقين، ببيان طبيعة النفاق والمنافقين، ويربط بينهم وبين الكفار الذين خلوا من قبل، فأهلكهم الله بعد ما استمتعوا بنصيبهم إلى أجل معلوم. ذلك ليكشف عن الفوارق بين طبيعتهم هذه وطبيعة المؤمنين الصادقين، الذين يخلصون العقيدة ولا ينافقون. {ومنهم من يلمزك في الصدقات، فإن أعطوا منها رضوا، وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون. ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله، وقالوا: حسبنا الله، سيؤتينا الله من فضله ورسوله، إنا إلى الله راغبون. إنما الصدقات للفقراء والمساكين، والعاملين عليها، والمؤلفة قلوبهم، وفي الرقاب، والغارمين، وفي سبيل الله وابن السبيل، فريضة من الله والله عليم حكيم}.. من المنافقين من يغمزك بالقول، ويعيب عدالتك في توزيع الصدقات، ويدعي أنك تحابي في قسمتها. وهم لا يقولون ذلك غضباً للعدل، ولا حماسة للحق، ولا غيرة على الدين، إنما يقولونه لحساب ذواتهم وأطماعهم، وحماسة لمنفعتهم وأنانيتهم: {فإن أعطوا منها رضوا} ولم يبالوا الحق والعدل والدين! {وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون} ! وقد وردت روايات متعددة عن سبب نزول الآية، تقص حوادث معينة عن أشخاص بأعيانهم لمزوا الرسول- صلى الله عليه وسلم- في عدالة التوزيع. روى البخاري والنسائي عن أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه- قال: بينما النبي- صلى الله عليه وسلم- يقسم قسماً إذ جاءه ذو الخويصر التميمي، فقال: أعدل يا رسول الله. فقال: «ويلك! ومن يعدل إذا لم أعدل؟» فقال عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- ائذن لي فأضرب عنقه. فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «دعه فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم في الرمية...» قال أبو سعيد، فنزلت فيهم: {ومنهم من يلمزك في الصدقات}. وروى ابن مردويه عن ابن مسعود- رضي الله عنه- قال: «لما قسم النبي- صلى الله عليه وسلم- غنائم حنين سمعت رجلاً يقول: إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله. فأتيت النبي- صلى الله عليه وسلم- فذكرت له ذلك فقال:» رحمة الله على موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر «ونزل {ومنهم من يلمزك في الصدقات}. وروى سنيد وابن جرير عن داود بن أبي عاصم قال: أتي النبي- صلى الله عليه وسلم- بصدقة فقسمها ها هنا وها هنا حتى ذهبت، ورآه رجل من الأنصار فقال: ما هذا بالعدل. فنزلت هذه الآية. وقال قتادة في قوله: {ومنهم من يلمزك في الصدقات} يقول: ومنهم من يطعن عليك في الصدقات. وذكر لنا أن رجلاً من أهل البادية حديث عهد بأعرابية أتى النبي- صلى الله عليه وسلم- وهو يقسم ذهباً وفضة، فقال: يا محمد والله لئن كان الله أمرك أن تعدل ما عدلت، فقال نبي الله- صلى الله عليه وسلم-» ويلك فمن ذا الذي يعدل عليك بعدي؟ « وعلى أية حال فالنص القرآني يقرر أن القولة قولة فريق من المنافقين. يقولونها لا غيرة على الدين، ولكن غضباً على حظ أنفسهم، وغيظاً أن لم يكن لهم نصيب.. وهي آية نفاقهم الصريحة. فما يشك في خلق الرسول- صلى الله عليه وسلم- مؤمن بهذا الدين، وهو المعروف حتى قبل الرسالة بأنه الصادق الأمين، والعدل فرع من أمانات الله التي ناطها بالمؤمنين فضلاً على نبي المؤمنين. وواضح أن هذه النصوص تحكي وقائع وظواهر وقعت من قبل، ولكنها تتحدث عنها في ثنايا الغزوة لتصوير أحوال المنافقين الدائمة المتصلة قبل الغزوة وفي ثناياها. وبهذه المناسبة يرسم السياق الطريق اللائق بالمؤمنين الصادقي الإيمان: {ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله، وقالوا: حسبنا الله، سيؤتينا الله من فضله ورسوله. إنا إلى الله راغبون}.. فهذا هو أدب النفس وأدب اللسان، وأدب الإيمان: الرضا بقسمة الله ورسوله، رضا التسليم والاقتناع لا رضا القهر والغلب. والاكتفاء بالله، والله كاف عبده. والرجاء في فضل الله ورسوله والرغبة في الله خالصة من كل كسب مادي، ومن كل طمع دنيوي.. ذلك أدب الإيمان الصحيح الذي ينضح به قلب المؤمن. وإن كانت لا تعرفه قلوب المنافقين، الذين لم تخالط بشاشة الإيمان أرواحهم، ولم يشرق في قلوبهم نور اليقين. وبعد بيان هذا الأدب اللائق في حق الله وحق رسوله، تطوعاً ورضا وإسلاماً، يقرر أن الأمر- مع ذلك- ليس أمر الرسول؛ إنما هو أمر الله وفريضته وقسمته، وما الرسول فيها إلا منفذ للفريضة المقسومة من رب العالمين. فهذه الصدقات- أي الزكاة- تؤخذ من الأغنياء فريضة من الله، وترد على الفقراء فريضة من الله. وهي محصورة في طوائف من الناس يعينهم القرآن، وليست متروكة لاختيار أحد، حتى لا اختيار الرسول: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل. فريضة من الله والله عليم حكيم}.. وبذلك تأخذ الزكاة مكانها في شريعة الله، ومكانها في النظام الإسلامي، لا تطوعاً ولا تفضلاً ممن فرضت عليهم. فهي فريضة محتمة. ولا منحة ولا جزافاً من القاسم الموزع. فهي فريضة معلومة. إنها إحدى فرائض الإسلام تجمعها الدولة المسلمة بنظام معين لتؤدي بها خدمة اجتماعية محددة. وهي ليست إحساناً من المعطي وليست شحاذة من الآخذ.. كلا فما قام النظام الاجتماعي في الإسلام على التسول، ولن يقوم! إن قوام الحياة في النظام الإسلامي هو العمل- بكل صنوفه وألوانه- وعلى الدولة المسلمة أن توفر العمل لكل قادر عليه، وأن تمكنه منه بالإعداد له، وبتوفير وسائله، وبضمان الجزاء الأوفى عليه، وليس للقادرين على العمل من حق في الزكاة، فالزكاة ضريبة تكافل اجتماعي بين القادرين والعاجزين، تنظمها الدولة وتتولاها في الجمع والتوزيع؛ متى قام المجتمع على أساس الإسلام الصحيح، منفذاً شريعة الله، لا يبتغي له شرعاً ولا منهجاً سواه. عن ابن عمر- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: «لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي». وعن عبد الله بن عدي بن الخيار أن رجلين أخبراه أنهما أتيا النبي- صلى الله عليه وسلم- يسألانه من الصدقة، فقلب فيهما البصر، فرآهما جلدين، فقال: «إن شئتما أعطيتكما. ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب». إن الزكاة فرع من فروع نظام التكافل الاجتماعي في الإسلام. وهذا النظام أشمل وأوسع كثيراً من الزكاة؛ لأنه يتمثل في عدة خطوط تشمل فروع الحياة كلها، ونواحي الارتباطات البشرية بأكملها، والزكاة خط أساسي من هذه الخطوط. والزكاة تجمع بنسبة العشر ونصف العشر وربع العشر من أصل المال حسب أنواع الأموال. وهي تجمع من كل من يملك حوالي عشرين جنيهاً فائضة عن حاجته يحول عليها الحول. وبذلك يشترك في حصيلتها معظم أفراد الأمة. ثم تنفق في المصارف التي بينتها الآية هنا، وأول المستحق لها هم الفقراء والمساكين. والفقراء هم الذين يجدون دون الكفاية، والمساكين مثلهم ولكنهم هم الذين يتجملون فلا يبدون حاجتهم ولا يسألون. وإن كثيراً ممن يؤدون الزكاة في عام، قد يكونون في العام التالي مستحقين للزكاة. بنقص ما في أيديهم عن الوفاء بحاجاتهم. فهي من هذه الناحية تأمين اجتماعي. وبعضهم يكون لم يؤد شيئاً في حصيلة الزكاة ولكنه يستحقها. فهي من هذه الناحية ضمان اجتماعي.. وهي قبل هذا وذاك فريضة من الله، تزكو النفس بأدائها وهي إنما تعبد بها الله، وتخلص من الشح وتستعلي عليه في هذا الأداء. {إنما الصدقات للفقراء والمساكين}.. وقد سبق بيانهما. {والعاملين عليها}.. أي الذين يقومون على تحصيلها. {والمؤلفة قلوبهم}.. وهم طوائف، منهم الذين دخلوا حديثاً في الإسلام ويراد تثبيتهم عليه. ومنهم الذين يرجى أن تتألف قلوبهم فيسلموا. ومنهم الذين أسلموا وثبتوا ويرجى تأليف قلوب أمثالهم في قومهم ليثوبوا إلى الإسلام حين يرون إخوانهم يرزقون ويزادون.. وهناك خلاف فقهي حول سقوط سهم هؤلاء المؤلفة قلوبهم بعد غلبة الإسلام.. ولكن المنهج الحركي لهذا الدين سيظل يواجه في مراحله المتعددة كثيراً من الحالات، تحتاج إلى إعطاء جماعة من الناس على هذا الوجه؛ إما إعانة لهم على الثبات على الإسلام إن كانوا يحاربون في أرزاقهم لإسلامهم، وإما تقريباً لهم من الإسلام كبعض الشخصيات غير المسلمة التي يرجى أن تنفع الإسلام بالدعوة له والذب عنه هنا وهناك. ندرك هذه الحقيقة، فنرى مظهراً لكمال حكمة الله في تدبيره لأمر المسلمين على اختلاف الظروف والأحوال. {وفي الرقاب}.. ذلك حين كان الرق نظاماً عالمياً، تجري المعاملة فيه على المثل في استرقاق الأسرى بين المسلمين وأعدائهم. ولم يكن للإسلام بد من المعاملة بالمثل حتى يتعارف العالم على نظام آخر غير الاسترقاق.. وهذا السهم كان يستخدم في إعانة من يكاتب سيده على الحرية في نظير مبلغ يؤديه له، ليحصل على حريته بمساعدة قسطه من الزكاة. أو بشراء رقيق وإعتاقهم بمعرفة الدولة من هذا المال. {والغارمين}.. وهم المدينون في غير معصية. يعطون من الزكاة ليوفوا ديونهم. بدلاً من إعلان إفلاسهم كما تصنع الحضارة المادية بالمدينين من التجارة مهما تكن الأسباب! فالإسلام نظام تكافلي، لا يسقط فيه الشريف، ولا يضيع فيه الأمين، ولا يأكل الناس بعضهم بعضاً في صورة قوانين نظامية، كما يقع في شرائع الأرض أو شرائع الغاب! {وفي سبيل الله}. . وذلك باب واسع يشمل كل مصلحة للجماعة، تحقق كلمة الله. {وابن السبيل}.. وهو المسافر المنقطع عن ماله، ولو كان غنياً في بلده. هذه هي الزكاة التي يتقول عليها المتقولون في هذا الزمان، ويلمزونها بأنها نظام تسول وإحسان.. هذه هي فريضة اجتماعية، تؤدى في صورة عبادة إسلامية. ذلك ليطهر الله بها القلوب من الشح؛ وليجعلها وشيجة تراحم وتضامن بين أفراد الأمة المسلمة. تندّي جو الحياة الإنسانية، وتمسح على جراح البشرية؛ وتحقق في الوقت ذاته التأمين الاجتماعي والضمان الاجتماعي في أوسع الحدود. وتبقى لها صفة العبادة التي تربط بين القلب البشري وخالقه، كما تربط بينه وبين الناس: {فريضة من الله} الذي يعلم ما يصلح لهذه البشرية، ويدبر أمرها بالحكمة: {والله عليم حكيم}. وبعد بيان قواعد الصدقات، التي يرجع إليها التوزيع والتقسيم. ذلك البيان الذي يكشف عن جهل الذين يلمزون الرسول- صلى الله عليه وسلم- فوق سوء أدبهم حين يلمزون الرسول الأمين. بعد هذا يمضي السياق يعرض صنوف المنافقين، وما يقولون وما يفعلون: {ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون: هو أذن. قل: أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين، ورحمة للذين آمنوا منكم، والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم. يحلفون بالله لكم ليرضوكم، والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين. ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فإن له نار جهنم خالداً فيها. ذلك الخزي العظيم. يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم. قل: استهزئوا إن الله مخرج ما تحذرون. ولئن سألتهم ليقولن: إنما كنا نخوض ونلعب. قال: أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون؟ لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم؛ إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين}.. إنه سوء الأدب في حق الرسول، يبدو في صورة أخرى غير صورة اللمز في الصدقات. إنهم يجدون من النبي- صلى الله عليه وسلم- أدباً رفيعاً في الاستماع إلى الناس بإقبال وسماحة؛ ويعاملهم بظاهرهم حسب أصول شريعته؛ ويهش لهم ويفسح لهم من صدره. فيسمون هذا الأدب العظيم بغير اسمه، ويصفونه بغير حقيقته، ويقولون عن النبي- صلى الله عليه وسلم- {هو أذن} أي سماع لكل قول، يجوز عليه الكذب والخداع والبراعة، ولا يفطن إلى غش القول وزوره. من حلف له صدقه، ومن دس عليه قولاً قبله. يقولون هذا بعضهم لبعض تطميناً لأنفسهم أن يكشف النبي- صلى الله عليه وسلم- حقيقة أمرهم، أو يفطن إلى نفاقهم. أو يقولونه طعناً على النبي في تصديقه للمؤمنين الخلص الذين ينقلون له ما يطلعون عليه من شؤون المنافقين وأعمالهم وأقوالهم عن الرسول وعن المسلمين. وقد وردت الروايات بهذا وذلك في سبب نزول الآية. وكلاهما يدخل في عمومها. وكلاهما يقع من المنافقين. ويأخذ القرآن الكريم كلامهم ليجعل منه رداً عليهم: {ويقولون: هو أذن}.. نعم.. ولكن. {قل: أذن خير لكم}.. أذن خير يستمع إلى الوحي ثم يبلغه لكم وفيه خيركم وصلاحكم. وأذن خير يستمع إليكم في أدب ولا يجبهكم بنفاقكم، ولا يرميكم بخداعكم، ولا يأخذكم بريائكم. {يؤمن بالله}. فيصدق كل ما يخبره به عنكم وعن سواكم. {ويؤمن للمؤمنين}.. فيطمئن إليهم ويثق بهم، لأنه يعلم منهم صدق الإيمان الذي يعصمهم من الكذب والالتواء والرياء. {ورحمة للذين آمنوا منكم}.. يأخذ بيدهم إلى الخير. {والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم}.. من الله غيرة على الرسول أن يؤذى وهو رسول الله. {يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين}. يحلفون بالله لكم ليرضوكم، على طريقة المنافقين في كل زمان، الذين يقولون ما يقولون ويفعلون ما يفعلون من وراء الظهور؛ ثم يجبنون عن المواجهة، ويضعفون عن المصارحة، فيتضاءلون ويتخاذلون للناس ليرضوهم. {والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين}.. فماذا يكون الناس؟ وماذا تبلغ قوتهم؟ ولكن الذي لا يؤمن بالله عادة ولا يعنو له، يعنو لإنسان مثله ويخشاه؛ ولقد كان خيراً أن يعنو لله الذي يتساوى أمامه الجميع، ولا يذل من يخضع له، إنما يذل من يخضع لعباده، ولا يصغر من يخشاه، إنما يصغر من يعرضون عنه فيخشون من دونه من عباد الله. {ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم خالداً فيها، ذلك الخزي العظيم}.. سؤال للتأنيب والتوبيخ، فإنهم ليدعون الإيمان، ومن يؤمن يعلم أن حرب الله ورسوله كبرى الكبائر، وأن جهنم في انتظار من يرتكبها من العباد، وأن الخزي هو الجزاء المقابل للتمرد. فإذا كانوا قد آمنوا كما يدعون، فكيف لا يعلمون؟ إنهم يخشون عباد الله فيحلفون لهم ليرضوهم، ولينفوا ما بلغهم عنهم. فكيف لا يخشون خالق العباد، وهم يؤذون رسوله، ويحاربون دينه. فكأنما يحاربون الله، تعالى الله أن يقصده أحد بحرب! إنما هو تفظيع ما يرتكبون من إثم، وتجسيم ما يقارفون من خطيئة، وتخويف من يؤذون رسول الله، ويكيدون لدينه في الخفاء. وإنهم لأجبن من أن يواجهوا الرسول والذين معه، وإنهم ليخشون أن يكشف الله سترهم، وأن يطلع الرسول- صلى الله عليه وسلم- على نواياهم: {يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم. قل استهزئوا إن الله مخرج ما تحذرون. ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب. قل: أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون؟ لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم؛ إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين}.. إن النص عام في حذر المنافقين أن ينزل الله قرآناً يكشف خبيئتهم، ويتحدث عما في قلوبهم. فينكشف للناس ما يخبئونه. وقد وردت عدة روايات عن حوادث معينة في سبب نزول هذه الآيات. قال أبو معشر المديني عن محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا: قال رجل من المنافقين: ما أرى قراءنا هؤلاء إلا أرغبنا بطونا وأكذبنا ألسنة، وأجبننا عند اللقاء (يقصدون قراء القرآن) فرفع ذلك إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فجاء إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقد ارتحل وركب ناقته؛ فقال: يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب، فقال: {أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون؟} إلى قوله: {كانوا مجرمين} وإن رجليه لتسفعان الحجارة، وما يلتفت إليه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو متعلق بسيف رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم. وقال محمد بن إسحاق: وقد كان جماعة من المنافقين منهم وديعة بن ثابت أخو بني أمية بن زيد بن عمرو بن عوف، ورجل من أشجع حليف لبني سلمة يقال له مخشي بن حمير يسيرون مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو منطلق إلى تبوك؛ فقال بعضهم لبعض: أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضاً؟ والله لكأنا بكم غداً مقرنين في الحبال.. إرجافاً وترهيباً للمؤمنين. فقال مخشي ابن حمير: والله لوددت أن أقاضى على أن يضرب كل رجل منا مائة جلدة، وأننا ننجوا أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه. «وقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فيما بلغني لعمار بن ياسر أدرك القوم فإنهم قد احترقوا، فاسألهم عما قالوا، فإن أنكروا فقل: بلى قلتم كذا وكذا» فانطلق إليهم عمار، فقال ذلك لهم، فأتوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يعتذرون إليه. فقال وديعة بن ثابت، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- واقف على راحلته، فجعل يقول وهو آخذ بحقبها: يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب. فقال مخشي بن حمير: يا رسول الله قعد بي اسمي واسم أبي. فكان الذي عفي عنه في هذه الآية مخشي بن حمير، فتسمى عبد الرحمن، وسأل الله أن يقتل شهيداً لا يعلم بمكانه، فقتل يوم اليمامة ولم يوجد له أثر. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة قال: «بينما رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في غزوته إلى تبوك، وبين يديه أناس من المنافقين فقالوا: أيرجو هذا الرجل أن يفتح له قصور الشام وحصونها؟ هيهات هيهات. فأطلع الله نبيه- صلى الله عليه وسلم- على ذلك. فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-» احبسوا على هؤلاء الركب «فأتاهم فقال: قلتم كذا. قلتم كذا. قالوا: يا نبي الله إنما كنا نخوض ونلعب، فأنزل الله فيهم ما تسمعون. إنما كنا نخوض ونلعب.. كأن هذه المسائل الكبرى التي يتصدون لها، وهي ذات صلة وثيقة بأصل العقيدة.. كأن هذه المسائل مما يخاض فيه ويلعب. {قل: أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون؟}. لذلك، لعظم الجريمة، يجبههم بأنهم قالوا كلمة الكفر. وكفروا بعد إيمانهم الذي أظهروه، وينذرهم بالعذاب، الذي إن تخلف عن بعضهم لمسارعته إلى التوبة وإلى الإيمان الصحيح، فإنه لن يصرف عن بعضهم الذي ظل على نفاقه واستهزائه بآيات الله ورسوله، وبعقيدته ودينه: {بأنهم كانوا مجرمين}.. وعندما يصل السياق إلى هذا الحد في استعراض تلك النماذج من أقوال المنافقين وأعمالهم وتصوراتهم، يعمد إلى تقرير حقيقة المنافقين بصفة عامة، وعرض الصفات الرئيسية التي تميزهم عن المؤمنين الصادقين، وتحديد العذاب الذي ينتظرهم أجمعين: {المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض، يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، ويقبضون أيديهم. نسوا الله فنسيهم. إن المنافقين هم الفاسقون. وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها؛ هي حسبهم، ولعنهم الله، ولهم عذاب مقيم}. المنافقون والمنافقات من طينة واحدة، وطبيعة واحدة. المنافقون في كل زمان وفي كل مكان. تختلف أفعالهم وأقوالهم، ولكنها ترجع إلى طبع واحد، وتنبع من معين واحد. سوء الطوية ولؤم السريرة، والغمز والدس، والضعف عن المواجهة، والجبن عن المصارحة. تلك سماتهم الأصلية. أما سلوكهم فهو الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف، والبخل بالمال إلا أن يبذلوه رئاء الناس. وهم حين يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف يستخفون بهما، ويفعلون ذلك دساً وهمساً، وغمزاً ولمزاً، لأنهم لا يجرؤون على الجهر إلا حين يأمنون. إنهم {نسوا الله} فلا يحسبون إلا حساب الناس وحساب المصلحة، ولا يخشون إلا الأقوياء من الناس يذلون لهم ويدارونهم {فنسيهم} الله فلا وزن لهم ولا اعتبار. وإنهم لكذلك في الدنيا بين الناس، وإنهم لكذلك في الآخرة عند الله. وما يحسب الناس حساباً إلا للرجال الأقوياء الصرحاء، الذين يجهرون بآرائهم، ويوقفون خلف عقائدهم، ويواجهون الدنيا بأفكارهم، ويحاربون أو يسالمون في وضح النهار. أولئك ينسون الناس ليذكروا إله الناس، فلا يخشون في الحق لومة لائم، وأولئك يذكرهم الله فيذكرهم الناس ويحسبون حسباهم. {إن المنافقين هم الفاسقون}.. فهم خارجون عن الإيمان، منحرفون عن الطريق، وقد وعدهم الله مصيراً كمصير الكفار: {وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها، هي حسبهم}.. وفيها كفايتهم وهي كفاء إجرامهم. {ولعنهم الله}.. فهم مطرودون من رحمته.. {ولهم عذاب مقيم}.. هذه الطبيعة الفاسقة المنحرفة الضالة، ليست جديدة، ففي تاريخ البشرية لها نظائر وأمثال. ولقد حوى تاريخ البشرية من قبل هؤلاء نماذج كثيرة من هذا الطراز. ولقد لاقى السابقون مصائر تليق بفسوقهم عن الفطرة المستقيمة والطريق القويمة، بعدما استمتعوا بنصيبهم المقدر لهم في هذه الأرض، وكانوا أشد قوة وأكثر أموالاً وأولاداً فلم يغن عنهم من ذلك كله شيء. والقرآن يذكر القوم بما كان من أسلافهم، ويبصرهم بأنهم يسلكون طريقهم، ويحذرهم أن يلاقوا مصيرهم. لعلهم يهتدون: {كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالاً وأولاداً، فاستمتعوا بخلاقهم. فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم، وخضتم كالذي خاضوا. أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون}. إنها الفتنة بالقوة، والفتنة بالأموال والأولاد. فأما الذين اتصلت قلوبهم بالقوة الكبرى فهم لا يفتنون بالقوة العارضة التي تخول لهم في الأرض، لأنهم يخشون من هو أقوى، فينفقون قوتهم في طاعته وإعلاء كلمته. وهم لا يفتنون بالأموال والأولاد، لأنهم يذكرون من أنعم عليهم بالأموال والأولاد، فيحرصون على شكر نعمته، وتوجيه أموالهم وأولادهم إلى طاعته.. وأما الذين انحرفت قلوبهم عن مصدر القوة والنعمة فهم يبطرون ويفجرون في الأرض، ويتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام: {أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة}.. وبطلت بطلاناً أساسياً، لأنها كالنبتة بلا جذور، لا تستقر ولا تنمو ولا تزدهر. {وأولئك هم الخاسرون}.. الذين خسروا كل شيء على وجه الإجمال بلا تحديد ولا تفصيل. ويلتفت السياق من خطابهم إلى خطاب عام، كأنما يعجب من هؤلاء الذين يسيرون في طريق الهالكين ولا يعتبرون: {ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات؟ أتتهم رسلهم بالبينات، فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون}.. هؤلاء الذين يستمتعون غير شاعرين، ويسيرون في طريق الهلكى ولا يتعظون.. هؤلاء {ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم} ممن ساروا في نفس الطريق؟ {قوم نوح} وقد غمرهم الطوفان وطواهم اليم في تيار الفناء المرهوب {وعاد} وقد أهلكوا بريح صرصر عاتية {وثمود} وقد أخذتهم الصيحة {وقوم إبراهيم} وقد أهلك طاغيتهم المتجبر وأنجى إبراهيم {وأصحاب مدين} وقد أصابتهم الرجفة وخنقتهم الظلة {والمؤتفكات} قرى قوم لوط وقد قطع الله دابرهم إلا الأقلين.. ألم يأتهم نبأ هؤلاء الذين {أتتهم رسلهم بالبينات} فكذبوا بها، فأخذهم الله بذنوبهم: {فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون}؟ إن النفس المنحرفة تبطرها القوة فلا تذكر، وتعميها النعمة فلا تنظر. وما تنفع عظات الماضي ولا عبره إلا من تتفتح بصائرهم لإدراك سنة الله التي لا تتخلف، ولا تتوقف، ولا تحابي أحداً من الناس. وإن كثيراً ممن يبتليهم الله بالقوة وبالنعمة لتغشى أبصارهم وبصائرهم غشاوة، فلا يبصرون مصارع الأقوياء قبلهم، ولا يستشعرون مصير البغاة الطغاة من الغابرين. عندئذ تحق عليهم كلمة الله، وعندئذ تجري فيهم سنة الله، وعندئذ يأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر. وهم في نعمائهم يتقلبون، وبقوتهم يتخايلون. والله من ورائهم محيط. إنها الغفلة والعمى والجهالة نراها تصاحب القوة والنعمة والرخاء، نراها في كل زمان وفي كل مكان. إلا من رحم الله من عباده المخلصين. وفي مقابل المنافقين والكفار، يقف المؤمنون الصادقون. طبيعة غير الطبيعة، وسلوكاً غير السلوك، ومصيراً غير المصير: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة؛ ويطيعيون الله ورسوله. أولئك سيرحمهم الله، إن الله عزيز حكيم. وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، ومساكن طيبة في جنات عدن، ورضوان من الله أكبر، ذلك هو الفوز العظيم}.. إذا كان المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض. إذا كانوا جبلة واحدة وطبيعة واحدة.. فالمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض. أن المنافقين والمنافقات مع وحدة طبيعتهم لا يبلغون أن يكونوا أولياء بعضهم لبعض. فالولاية تحتاج إلى شجاعة وإلى نجدة وإلى تعاون وإلى تكاليف. وطبيعة النفاق تأبى هذا كله ولو كان بين المنافقين أنفسهم. إن المنافقين أفراد ضعاف مهازيل، وليسوا جماعة متماسكة قوية متضامنة، على ما يبدو بينهم من تشابه في الطبيعة والخلق والسلوك. والتعبير القرآني الدقيق لا يغفل هذا المعنى في وصف هؤلاء وهؤلاء.. {المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض}.. {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض}.. إن طبيعة المؤمن هي طبيعة الأمة المؤمنة. طبيعة الوحدة وطبيعة التكافل، وطبيعة التضامن، ولكنه التضامن في تحقيق الخير ودفع الشر. {يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر}.. وتحقيق الخير ودفع الشر يحتاج إلى الولاية والتضامن والتعاون. ومن هنا تقف الأمة المؤمنة صفاً واحداً. لا تدخل بينها عوامل الفرقة. وحيثما وجدت الفرقة في الجماعة المؤمنة فثمة ولا بد عنصر غريب عن طبيعتها، وعن عقيدتها، هو الذي يدخل بالفرقة. ثمة غرض أو مرض يمنع السمة الأولى ويدفعها. السمة التي يقررها العليم الخبير! {بعضهم أولياء بعض}.. يتجهون بهذه الولاية إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإعلاء كلمة الله، وتحقيق الوصاية لهذه الأمة في الأرض. {ويقيمون الصلاة}.. الصلة التي تربطهم بالله. {ويؤتون الزكاة}.. الفريضة التي تربط بين الجماعة المسلمة، وتحقق الصورة المادية والروحية للولاية والتضامن. {ويطيعون الله ورسوله}.. فلا يكون لهم هوى غير أمر الله وأمر رسوله، ولا يكون لهم دستور إلا شريعة الله ورسوله. ولا يكون لهم منهج إلا دين الله ورسوله، ولا يكون لهم الخيرة إذا قضى الله ورسوله.. وبذلك يوحدون نهجهم ويوحدون هدفهم ويوحدون طريقتهم، فلا تتفرق بهم السبل عن الطريق الواحد الواصل المستقيم. {أولئك سيرحمهم الله}.. والرحمة لا تكون في الآخرة وحدها، إنما تكون في هذه الأرض أولاً ورحمة الله تشمل الفرد الذي ينهض بتكاليف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة؛ وتشمل الجماعة المكونة من أمثال هذا الفرد الصالح. رحمة الله في اطمئنان القلب، وفي الاتصال بالله، وفي الرعاية والحماية من الفتن والأحداث. ورحمة الله في صلاح الجماعة وتعاونها وتضامنها واطمئنان كل فرد للحياة واطمئنانه لرضاء الله. إن هذه الصفات الأربع في المؤمنين: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، لتقابل من صفات المنافقين: الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف ونسيان الله وقبض الأيدي. . وإن رحمة الله للمؤمنين لتقابل لعنته للمنافقين والكفار.. وإن تلك الصفات لهي التي وعد الله المؤمنين عليها بالنصر والتمكين في الأرض ليحققوها في وصايتهم الرشيدة على البشرية: {إن الله عزيز حكيم}.. قادر على إعزاز الفئة المؤمنة ليكون بعضها أولياء بعض في النهوض بهذه التكاليف، حكيم في تقدير النصر والعزة لها، لتصلح في الأرض، وتحرس كلمة الله بين العباد. وإذا كان عذاب جهنم ينتظر المنافقين والكافرين، وكانت لعنته لهم بالمرصاد، وكان نسيانه لهم يدمغهم بالضآلة والحرمان. فإن نعيم الجنة ينتظر المؤمنين: {جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن}.. للإقامة المطمئنة. ولهم فوقها ما هو أكبر وأعظم: {ورضوان من الله أكبر}.. وإن الجنة بكل ما فيها من نعيم لتتضاءل وتتوارى في هالات ذلك الرضوان الكريم. {ورضوان من الله أكبر}.. إن لحظة اتصال بالله. لحظة شهود لجلاله. لحظة انطلاق من حبسة هذه الأمشاج، ومن ثقلة هذه الأرض وهمومها القريبة. لحظة تنبثق فيها في أعماق القلب البشري شعاعة من ذلك النور الذي لا تدركه الأبصار. لحظة إشراق تنير فيها حنايا الروح بقبس من روح الله.. إن لحظة واحدة من هذه اللحظات التي تتفق للندرة القليلة من البشر في ومضة صفاء، ليتضاءل إلى جوارها كل متاع، وكل رجاء.. فكيف برضوان من الله يغمر هذا الأرواح، وتستشعره بدون انقطاع؟ {ذلك هو الفوز العظيم}.. وبعد بيان صفة المؤمنين الصادقين وصفة المنافقين الذين يدّعون الإيمان.. يأمر الله نبيه أن يجاهد الكفار والمنافقين. ويقرر القرآن الكريم أن هؤلاء المنافقين قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم، وهموا بأمر خيبهم الله فيه، وهو من وحي الكفر الذي صاروا إليه. ويعجب من نقمتهم على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وما كان لهم من بعثته إلا الخير والغنى. ويرغبهم في التوبة ويخوفهم التمادي في الكفر والنفاق: {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم، ومأواهم جهنم وبئس المصير. يحلفون بالله ما قالوا، ولقد قالوا كلمة الكفر، وكفروا بعد إسلامهم، وهموا بما لم ينالوا. وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله. فإن يتوبوا يك خيراً لهم، وإن يتولوا يعذبهم الله عذاباً أليماً في الدنيا والآخرة، وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير}.. لقد كان الرسول- صلى الله عليه وسلم- لاين المنافقين كثيراً، وأغضى عنهم كثيراً، وصفح عنهم كثيراً. فها هو ذا يبلغ الحلم غايته، وتبلغ السماحة أجلها، ويأمره ربه أن يبدأ معهم خطة جديدة، ويلحقهم بالكافرين في النص، ويكلفه جهاد هؤلاء وهؤلاء جهاداً عنيفاً غليظاً لا رحمة فيه ولا هوادة. إن للين مواضعه وللشدة مواضعها. فإذا انتهى أمد اللين فلتكن الشدة؛ وإذا انقضى عهد المصابرة فليكن الحسم القاطع.. وللحركة مقتضياتها، وللمنهج مراحله، واللين في بعض الأحيان قد يؤذي، والمطاولة قد تضر. وقد اختلف في الجهاد والغلظة على المنافقين. أتكون بالسيف كما روي عن علي- كرم الله وجهه- واختاره ابن جرير- رحمه الله- أم تكون في المعاملة والمواجهة وكشف خبيئاتهم للأنظار كما روي عن ابن عباس- رضي الله عنه- والذي وقع- كما سيجيء- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لم يقتل المنافقين.. {يحلفون بالله ما قالوا. ولقد قالوا كلمة الكفر، وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا}.. والنص في عمومه يستعرض حالة المنافقين في كثير من مواقفهم، ويشير إلى ما أرادوه مراراً من الشر للرسول- صلى الله عليه وسلم- وللمسلمين.. وهناك روايات تحدد حادثة خاصة لسبب نزول الآية: قال قتادة: نزلت في عبد الله بن أبي. وذلك أنه اقتتل رجلان، جهني وأنصاري، فعلا الجهني على الأنصاري، فقال عبد الله للأنصاري: ألا تنصرون أخاكم؟ والله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك. وقال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. فسعى بها رجل من المسلمين إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- فأرسل إليه فسأله، فجعل يحلف بالله ما قاله، فأنزل الله فيه هذه الآية. ويروي الإمام أبو جعفر بن جرير بإسناده عن ابن عباس قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- جالساً تحت ظل شجرة، فقال: «إنه سيأتيكم إنسان، فينظر إليكم بعين الشيطان، فإذا جاء فلا تكلموه» فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق، فدعاه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: «علام تشتمني أنت وأصحابك؟» فانطلق الرجل فجاء بأصحابه، فحلفوا بالله ما قالوا، حتى تجاوز عنهم، فأنزل الله عز وجل: {يحلفون بالله ما قالوا.. الآية}. وروي عن عروة بن الزبير وغيره ما مؤداه: أنها نزلت في الجلاس بن سويد بن الصامت. كان له ربيب من امرأته اسمه عمير بن سعد، فقال الجلاس: إن كان ما جاء به محمد حقاً فنحن أشر من حمرنا هذه التي نحن عليها. فقال عمير: والله يا جلاس إنك لأحب الناس إلي، وأحسنهم عندي بلاء، وأعزهم على أن يصله شيء يكره، ولقد قلت مقالة لئن ذكرتها لتفضحني، ولئن كتمتها لتهلكني، ولإحداهما أهون عليّ من الأخرى. فأخبر بها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأنكرها وحلف بالله ما قالها، فأنزل الله الآيات. فقال الرجل قد قلته، وقد عرض الله عليّ التوبة، فأنا أتوب، فقبل منه ذلك. ولكن هذه الروايات لا تنسجم مع عبارة: {وهموا بما لم ينالوا} وهذه تضافر الروايات على أن المعنيّ بها ما أراده جماعة من المنافقين في أثناء العودة من الغزوة، من قتل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- غيلة وهو عائد من تبوك. فنختار إحداها. قال الإمام أحمد- رحمه الله- حدثنا يزيد أخبرنا الوليد بن عبد الله بن جميع عن أبي الطفيل قال: لما أقبل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من غزوة تبوك أمر منادياً فنادى: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أخذ العقبة، فلا يأخذها أحد. فبينما رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقوده حذيفة ويسوقه عمار إذ أقبل رهط متلثمون على الرواحل، فغشوا عماراً وهو يسوق برسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأقبل عمار- رضي الله عنه- يضرب وجوه الرواحل، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لحذيفة «قد. قد» حتى هبط رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ورجع عمار. فقال يا عمار: «هل عرفت القوم؟» فقال: لقد عرفت عامة الرواحل والقوم متلثمون. قال: «هل تدري ما أرادوا؟» قال: الله ورسوله أعلم. قال: «أرادوا أن ينفروا برسول الله- صلى الله عليه وسلم- راحلته فيطرحوه» قال: فسأل عمار رجلاً من أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: نشدتك بالله، كم تعلم كان أصحاب العقبة؟ قال: أربعة عشر رجلاً. فقال: إن كنت منهم فقد كانوا خمسة عشر. قال: فعد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- منهم ثلاثة قالوا: والله ما سمعنا منادي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وما علمنا ما أراد القوم. فقال عمار: أشهد أن الاثني عشر الباقين حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد. هذه الحادثة تكشف عن دخيلة القوم. وسواء كانت هي أو شيء مثلها هي الذي تعنيه الآية، فإنه ليبدو عجيباً أن تنطوي صدور القوم على مثل هذه الخيانة. والنصر يعجب هنا منهم: {وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله}.. فما من سيئة قدمها الإسلام لهم ينقمون عليه هذه النقمة من أجلها. اللهم إلا أن يكون الغنى الذي غمرهم بعد الإسلام، والرخاء الذي أصابهم بسببه هو ما ينقمون! ثم يعقب على هذا التعجيب من أمرهم، بعد كشف خبيئاتهم بالحكم الفاصل: {فإن يتوبوا يك خيراً لهم، وإن يتولوا يعذبهم الله عذاباً أليماً في الدنيا والآخرة، وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير}.. بعد هذا كله يظل باب التوبة مفتوحاً على مصراعيه. فمن شاء لنفسه الخير فليدلف إلى الباب المفتوح. ومن أراد أن يمضي في طريقه الأعوج، فالعاقبة كذلك معروفة: العذاب الأليم في الدنيا والآخرة. وانعدام الناصر والمعين في هذه الأرض.. ولمن شاء أن يختار، وهو وحده الملوم: {فإن يتوبوا يك خيراً لهم، وإن يتولوا يعذبهم الله عذاباً أليماً في الدنيا والآخرة، وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير}.. ثم يمضي السياق في عرض نماذج من المنافقين وأحوالهم وأقوالهم من قبل الغزوة وفي ثناياها. {ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين. فلما آتاهم من فضله بخلوا به، وتولوا وهم معرضون، فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه، بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون}. من المنافقين من عاهد الله لئن أنعم الله عليه ورزقه، ليبذلن الصدقة، وليصلحن العمل. ولكن هذا العهد إنما كان في وقت فقره وعسرته، في وقت الرجاء والطمع. فلما أن استجاب الله له ورزقه من فضله نسي عهده، وتنكر لوعده، وأدركه الشح والبخل فقبض يده، وتولى معرضاً عن الوفاء بما عاهد. فكان هذا النكث بالعهد مع الكذب على الله فيه سبباً في التمكين للنفاق في قلبه، والموت مع هذا النفاق، ولقاء الله به. والنفس البشرية ضعيفة شحيحة، إلا من عصم الله؛ ولا تطهر من هذا الشح إلا أن تعمر بالإيمان، وترتفع على ضرورات الأرض، وتنطلق من قيود الحرص على النفع القريب، لأنها تؤمل في خلف أعظم، وتؤمل في رضوان من الله أكبر. والقلب المؤمن يطمئن بالإيمان، فلا يخشى الفقر بسبب الإنفاق، لأنه يثق بأن ما عند الناس ينفد وما عند الله باق. وهذا الاطمئنان يدفع به إلى إنفاق المال في سبيل الله تطوعاً ورضى وتطهراً، وهو آمن مغبته. فحتى لو فقد المال وافتقر منه، فإن له عوضاً أعظم عند الله. فأما حين يقفر القلب من الإيمان الصحيح، فالشح الفطري يهيج في نفسه كلما دعي إلى نفقه أو صدقة، والخوف من الفقر يتراءى له فيقعد به عن البذل. ثم يبقى سجين شحه وخوفه بلا أمن ولا قرار. والذي يعاهد الله ثم يخلف العهد، والذي يكذب على الله فلا يفي بما وعد، لا يسلم قلبه من النفاق: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان». فلا جرم يعقب إخلاف العهد والكذب على الله نفاقاً دائماً في قلوب تلك الطائفة التي تشير إليها الآية: {فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون}.. {ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب}؟ ألم يعلموا- وهم يدعون الإيمان- أن الله مطلع على السرائر، عالم بما يدور بينهم من أحاديث، يحسبونها سراً بينهم لأنهم يتناجون بها في خفية عن الناس؟ وأن الله يعلم الغيب الخافي المستور، فيعلم حقيقة النوايا في الصدور؟ ولقد كان من مقتضى علمهم بهذا، ألا يستخفوا عن الله بنية، وألا تحدثهم نفوسهم بإخلاف ما عاهدوا الله عليه، والكذب عليه في إعطاء العهود. وقد وردت روايات عن سبب نزول الآيات الثلاث، نذكر منها رواية عن ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث معان- بإسناده- عن أبي أمامة الباهلي عن ثعلبة بن حاطب الأنصاري أنه قال لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- ادع الله أن يرزقني مالاً. قال: فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «ويحك يا ثعلبة، قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه» قال: ثم قال مرة أخرى. فقال: «أما ترضى أن تكون مثل نبي الله فوالذي نفسي بيده لو شئت أن تسير الجبال معي ذهباً وفضة لسارت» قال: والذي بعثك بالحق لئن دعوت الله فرزقني مالاً لأعطين كل ذي حق حقه. فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «اللهم ارزق ثعلبة مالاً» قال: فاتخذ غنماً فنمت كما ينمي الدود، فضاقت المدينة، فتنحى عنها فنزل وادياً من أوديتها، حتى جعل يصلي الظهر والعصر في جماعة ويترك ما سواهما، ثم نمت وكثرت فتنحى حتى ترك الصلوات إلا الجمعة، وهي تنمي كما ينمي الدود حتى ترك الجمعة، فطفق يتلقى الركبان يوم الجمعة ليسألهم عن الأخبار. فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «ما فعل ثعلبة؟» فقالوا يا رسول الله اتخذ غنماً فضاقت عليه المدينة، فأخبروه بأمره، فقال: «يا ويح ثعلبة! يا ويح ثعلبة! يا ويح ثعلبة!» وأنزل الله جل ثناؤه: {خذ من أموالهم صدقة} الآية.. ونزلت فرائض الصدقة، فبعث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- رجلين على الصدقة من المسلمين. رجلاً من جهينة ورجلاً من سليم، وكتب لهما كيف يأخذان الصدقة من المسلمين؛ وقال لهما: «مرا بثعلبة وبفلان- رجل من نبي سليم- فخذا صدقاتهما» فخرجا حتى أتيا ثعلبة فسألاه الصدقة، وأقرآه كتاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: ما هذه إلا جزية. وما هذه إلا أخت الجزية. ما أدري ما هذا؟ انطلقا حتى تفرغا ثم عودا إليّ. وسمع بهما السلمي، فنظر إلى خيار أسنان إبله فعزلها للصدقة ثم استقبلهما بها، فلما رأوها قالوا: ما يجب عليك هذا، وما نريد أن نأخذ هذا منك. فقال: بل فخذوها فإن نفسي بذلك طيبة وإنما هي له، فأخذاها منه ومرا على الناس فأخذا الصدقات. ثم رجعا إلى ثعلبة فقال: أروني كتابكما فقرأه: فقال: ما هذه إلا جزية، ما هذه إلا أخت الجزية. انطلقا حتى أرى رأيي. فانطلقا حتى أتيا النبي- صلى الله عليه وسلم- فلما رآهما قال: «يا ويح ثعلبة» قبل أن يكلمهما، ودعا للسلمي بالبركة، فأخبراه بالذي صنع ثعلبة والذي صنع السلمي. فأنزل الله عز وجل {ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن...} الآية. وعند رسول الله- صلى الله عليه وسلم- رجل من أقارب ثعلبة فسمع بذلك، فخرج حتى أتاه، فقال: ويحك يا ثعلبة! أنزل الله فيك كذا وكذا؛ فخرج ثعلبة حتى أتى النبي- صلى الله عليه وسلم- فسأله أن يقبل منه صدقته، فقال: «إن الله منعني أن أقبل منك صدقتك» فجعل يحثو على رأسه التراب، فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «هذا عملك، قد أمرتك فلم تطعني» فلما أبى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يقبض صدقته رجع إلى منزله؛ فقبض رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- ولم يقبل منه شيئاً. ثم أتى أبا بكر- رضي الله عنه- حين استخلف، فقال: قد علمت منزلتي من رسول الله وموضعي من الأنصار فاقبل صدقتي؛ فقال أبو بكر: لم يقبلها منك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأبى أن يقبلها؛ فقبض أبو بكر ولم يقبلها. فلما ولي عمر- رضي الله عنه- أتاه فقال: يا أمير المؤمنين اقبل صدقتي فقال: لم يقبلها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ولا أبو بكر، وأنا أقبلها منك؟ فقبض ولم يقبلها. فلما ولي عثمان- رضي الله عنه- أتاه فقال: اقبل صدقتي، فقال: لم يقبلها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ولا أبو بكر ولا عمر، وأنا أقبلها منك؟ فلم يقبلها منه. فهلك ثعلبة في خلافة عثمان.. وسواء كانت هذه الواقعة مصاحبة لنزول الآيات أو كان غيرها، فإن النص عام، وهو يصور حالة عامة، ويرسم نموذجاً مكرراً للنفوس التي لم تستيقن، ولم يبلغ الإيمان فيها أن يتمكن. وإذا كانت الرواية صحيحة في ربط الحادثة بنزول الآيات، فإن علم الرسول- صلى الله عليه وسلم- أن نقض العهد والكذب على الله قد أورث المخلفين نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه، يكون هو الذي منعه من قبول صدقة ثعلبة وتوبته التي ظهر بها، ولم يعامله بالظاهر حسب الشريعة. إنما عامله بعلمه بحاله الذي لا شك فيه، لأنه إخبار من العليم الخبير، وكان تصرفه- صلى الله عليه وسلم- تصرفاً تأديبياً برد صدقته. مع عدم اعتباره مرتداً فيؤخذ بعقوبة الردة ولا مسلماً فتقبل منه زكاته. ولا يعني هذا إسقاط الزكاة عن المنافقين شريعة. إن الشريعة تأخذ الناس بظاهرهم. فيما ليس فيه علم يقيني، كالذي كان في هذا الحادث الخاص، فلا يقاس عليه. غير أن رواية الحادث تكشف لنا كيف كان المسلمون الأوائل ينظرون إلى الزكاة المفروضة. إنهم كانوا يحتسبونها نعمة عليهم، من يحرم أداءها أو يحرم قبولها منه، فهو الخاسر. الذي يستحق الترحم مما أصابه من رفض زكاته! مدركين لحقيقة المعنى الكامن في قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها}.. فكانت لهم غنماً ينالونه لا غرماً يحملونه. وهذا هو الفارق بين فريضة تؤدى ابتغاء رضوان الله وضريبة تدفع لأن القانون يحتمها ويعاقب عليها الناس! والآن يعرض السياق لوناً آخر من تصورات المنافقين للزكاة يخالفون به ذلك التصور الحق عند المؤمنين الصادقين؛ ويكشف عن لون من طبيعة الغمز فيهم واللمز، النابعين من طبعهم المنحرف المدخول: {الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات، والذين لا يجدون إلا جهدهم، فيسخرون منهم. سخر الله منهم ولهم عذاب أليم}.. والقصة المروية عن سبب نزول هذه الآية، تصور نظرة المنافقين المنحرفة لطبيعة الإنفاق في سبيل الله وبواعثه في النفوس. أخرج ابن جرير من طريق يحيى بن أبي كثير، ومن طريق سعيد عن قتادة وابن أبي حاتم من طريق الحكم بن أبان عن عكرمة- بألفاظ مختلفة- قال: حث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على الصدقة (يعني في غزوة تبوك) فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف فقال: يا رسول الله مالي ثمانية آلاف، جئتك بنصفها وأمسكت نصفها. فقال: «بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت» وجاء أبوعقيل بصاع من تمر فقال: يا رسول الله أصبت صاعين من تمر صاع أقرضه لربي وصاع لعيالي. قال: فلمزه المنافقون، وقالوا: ما الذي أعطى ابن عوف إلا رياء. وقالوا: ألم يكن الله ورسوله غنيين عن صاع هذا؟ وفي روايات أخرى أنهم قالوا عن أبي عقيل، وهو الذي بات يعمل ليحصل على صاعين أجر له، جاء بأحدهما لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- إنه إنما أراد أن يذكر بنفسه! وهكذا تقولوا على المؤمنين الذين انبعثوا إلى الصدقة عن طواعية نفس، ورضا قلب، واطمئنان ضمير، ورغبة في المساهمة في الجهاد كل على قدر طاقته، وكل على غاية جهده. ذلك أنهم لا يدركون بواعث هذا التطوع في النفوس المؤمنة. لا يدركون حساسية الضمير التي لا تهدأ إلا بالبذل عن طيب خاطر. لا يدركون المشاعر الرفرافة التي تنبعث انبعاثاً ذاتياً، لتلبي دواعي الإيمان والتضحية والمشاركة. من أجل هذا يقولون عن المكثر: إنه يبذل رياء، وعن المقل! إنه يذكر بنفسه. يجرحون صاحب الكثير لأنه يبذل كثيراً، ويحتقرون صاحب القليل لأنه يبذل القليل. فلا يسلم من تجريحهم وعيبهم أحد من الخيرين. ذلك وهم قاعدون متخلفون منقبضو الأيدي شحيحو الأنفس، لا ينفقون إلا رياء، ولا يدركون من بواعث النفوس إلا مثل هذا الباعث الصغير الحقير. ومن ثم يجبههم الرد الحاسم الجازم: {سخر الله منهم ولهم عذاب أليم}.. ويالهولها سخرية. ويالهولها عاقبة. فمن شر ذمة صغيرة هزيلة من البشر الضعاف الفانين وسخرية الخالق الجبار تنصب عليهم وعذابه يترقبهم؟! ألا إنه للهول المفزع الرهيب! {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم، إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم، ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله، والله لا يهدي القوم الفاسقين}.. هؤلاء المنافقون الذين يلمزون المتطوعين بالصدقات على هذا النحو، قد تقرر مصيرهم، فما عاد يتبدل: {فلن يغفر الله لهم}.. لن يجديهم استغفار، فإنه وعدم الاستغفار لهم سواء. ويبدو أن الرسول- صلى الله عليه وسلم- كان يستغفر للمخطئين عسى أن يتوب الله عليهم. فأما هؤلاء فقد أخبر بأن مصيرهم قد تقرر، فلا رجعة فيه: {ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله}.. {والله لا يهدي القوم الفاسقين}. أولئك الذين انحرفوا عن الطريق فلم تعد ترجى لهم أوبة. وفسدت قلوبهم فلم يعد يرجى لها صلاح.. {إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم}.. والسبعون تذكر عادة للتكثير. لا على أنها رقم محدد. والمعنى العام أن لا رجاء لهم في مغفرة، لأنه لا سبيل لهم إلى توبة. والقلب البشري حين يصل إلى حد معين من الفساد لا يصلح، والضلال حين ينتهي إلى أمد معين لا يرجى بعده اهتداء. والله أعلم بالقلوب. وينتقل السياق- مرة أخرى- إلى الحديث عن المتخلفين عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في غزوة تبوك: {فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله، وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، وقالوا: لا تنفروا في الحر. قل: نار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون. فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيراً جزاء بما كانوا يكسبون. فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل: لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً. إنكم رضيتم بالعقود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين. ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره، إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون. ولا تعجبك أموالهم وأولادهم، إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا، وتزهق أنفسهم وهم كافرون}.. هؤلاء الذين أدركتهم ثقلة الأرض. ثقلة الحرص على الراحة، والشح بالنفقة. وقعد بهم ضعف الهمة وهزال النخوة، وخواء القلب من الإيمان.. هؤلاء المخلفون- والتعبير يلقي ظل الإهمال كما لو كانوا متاعاً يخلف أو هملاً يترك- فرحوا بالسلامة والراحة {خلاف رسول الله} وتركوا المجاهدين يلاقون الحر والجهد، وحسبوا أن السلامة غاية يحرص عليها الرجال! {وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله}. . {وقالوا: لا تنفروا في الحر} وهي قولة المسترخي الناعم الذي لا يصلح لشيء مما يصلح له الرجال. إن هؤلاء لهم نموذج لضعف الهمة، وطراوة الإرادة؛ وكثيرون هم الذين يشفقون من المتاعب، وينفرون من الجهد، ويؤثرون الراحة الرخيصة على الكدح الكريم، ويفضلون السلامة الذليلة على الخطر العزيز. وهم يتساقطون إعياء خلف الصفوف الجادة الزاحفة العارفة بتكاليف الدعوات. ولكن هذه الصفوف تظل في طريقها المملوء بالعقبات والأشواك، لأنها تدرك بفطرتها أن كفاح العقبات والأشواك فطرة في الإنسان، وأنه ألذ وأجمل من القعود والتخلف والراحة البليدة التي لا تليق بالرجال. والنص يرد عليهم بالتهكم المنطوي على الحقيقة: {وقالوا: لا تنفروا في الحر. قل: نار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون}.. فإن كانوا يشفقون من حر الأرض، ويؤثرون الراحة المسترخية في الظلال. فكيف بهم في حر جهنم وهي أشد حراً، وأطول أمداً؟ وإنها لسخرية مريرة، ولكنها كذلك حقيقة. فإما كفاح في سبيل الله فترة محدودة في حر الأرض، وإما انطراح في جهنم لا يعلم مداه إلا الله: {فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيراً جزاء بما كانوا يكسبون}.. وإنه لضحك في هذه الأرض وأيامها المعدودة، وإنه لبكاء في أيام الآخرة الطويلة. وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما يعدون. {جزاء بما كانوا يكسبون}.. فهو الجزاء من جنس العمل، وهو الجزاء العادل الدقيق. هؤلاء الذين آثروا الراحة على الجهد- في ساعة العسرة- وتخلفوا عن الركب في أول مرة. هؤلاء لا يصلحون لكفاح، ولا يُرجون لجهاد، ولا يجوز أن يؤخذوا بالسماحة والتغاضي، ولا أن يتاح لهم شرف الجهاد الذي تخلوا عنه راضين: {فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج، فقل: لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً، إنكم رضيتم بالقعود أول مرة، فاقعدوا مع الخالفين}.. إن الدعوات في حاجة إلى طبائع صلبة مستقيمة ثابتة مصممة تصمد في الكفاح الطويل الشاق. والصف الذي يتخلله الضعاف المسترخون لا يصمد لأنهم يخذلونه في ساعة الشدة فيشيعون فيه الخذلان والضعف والاضطراب. فالذين يضعفون ويتخلفون يجب نبذهم بعيداً عن الصف وقاية له من التخلخل والهزيمة. والتسامح مع الذين يتخلفون عن الصف في ساعة الشدة، ثم يعودون إليه في ساعة الرخاء، جناية على الصف كله، وعلى الدعوة التي يكافح في سبيلها كفاحة المرير.. {فقل: لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً}. لماذا؟. {إنكم رضيتم بالقعود أول مرة}.. ففقدتم حقكم في شرف الخروج؛ وشرف الانتظام في الكتيبة، والجهاد عبء لا ينهض به إلا من هم له أهل. فلا سماحة في هذا ولا مجاملة: {فاقعدوا مع الخالفين}.. المتجانسين معكم في التخلف والقعود. هذا هو الطريق الذي رسمه الله تعالى لنبيه الكريم، وإنه لطريق هذه الدعوة ورجالها أبداً. فليعرف أصحابها في كل زمان وفي كل مكان ذلك الطريق.. وكما أمر الله رسوله- صلى الله عليه وسلم- بألا يسمح للمتخلفين في ساعة العسرة أن يعودوا فينتظموا في الصفوف، كذلك أمره ألا يخلع عليهم أي ظلال من ظلال التكريم: {ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره. إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون}. ولقد ذكر المفسرون حوادث خاصة عنتها هذه الآية. ولكن دلالة الآية أعم من الحوادث الخاصة. فهي تقرر أصلاً من أصول التقدير في نظام الجماعة المكافحة في سبيل العقيدة، هو عدم التسامح في منح مظاهر التكريم لمن يؤثرون الراحة المسترخية على الكفاح الشاق؛ وعدم المجاملة في تقدير منازل الأفراد في الصف. ومقياس هذا التقدير هو الصبر والثبات والقوة والإصرار والعزيمة التي لا تسترخي ولا تلين. والنص يعلل هذا النهي في موضعه هنا {إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون} وهو تعليل خاص بعدم الصلاة أو قيام الرسول- صلى الله عليه وسلم- على قبر منافق.. ولكن القاعدة- كما ذكرنا- أوسع من المناسبة الخاصة. فالصلاة والقيام تكريم. والجماعة المسلمة يجب ألا تبذل هذا التكريم لمن يتخلف عن الصف في ساعة الجهاد، لتبقى له قيمته، ولتظل قيم الرجال منوطة بما يبذلون في سبيل الله، وبما يصبرون على البذل، ويثبتون على الجهد، ويخلصون أنفسهم وأموالهم لله لا يتخلفون بهما في ساعة الشدة، ثم يعودون في الصف مكرمين! لا التكريم الظاهر ينالونه في أعين الجماعة، ولا التكريم الباطن ينالونه في عالم الضمير: {ولا تعجبك أموالهم وأولادهم. إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون}.. والمعنى العام للآية قد سبق في السياق. أما مناسبة ورودها فتختلف. فالمقصود هنا ألا يقام وزن لأموالهم وأولادهم، لأن الأعجاب بها نوع من التكريم الشعوري لهم. وهم لا يستحقونه لا في الظاهر ولا في الشعور. إنما هو الاحتقار والإهمال لهم ولما يملكون. {وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولوا الطول منهم، وقالوا: ذرنا نكن مع القاعدين: رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون. لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم، وأولئك لهم الخيرات، وأولئك هم المفلحون، أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار، خالدين فيها، ذلك الفوز العظيم}.. إنهما طبيعتان.. طبيعة النفاق والضعف والاستخذاء. وطبيعة الإيمان والقوة والبلاء. وإنهما خطتان.. خطة الالتواء والتخلف والرضى بالدون. وخطة الاستقامة والبذل والكرامة. فإذا أنزلت سورة تأمر بالجهاد جاء أولوا الطول، الذين يملكون وسائل الجهاد والبذل. جاءوا لا ليتقدموا الصفوف كما تقتضيهم المقدرة التي وهبها الله لهم، وشكر النعمة التي أعطاها الله إياهم، ولكن ليتخاذلوا ويعتذروا ويطلبوا أن يقعدوا مع النساء لا يذودون عن حرمة ولا يدفعون عن سكن. دون أن يستشعروا ما في هذه القعدة الذليلة من صغار وهوان، ما دام فيها السلامة، وطلاب السلامة لا يحسون العار، فالسلامة هدف الراضين بالدون: {رضوا بأن يكونوا مع الخوالف}.. {وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون}.. ولو كانوا يفقهون لأدركوا ما في الجهاد من قوة وكرامة وبقاء كريم، وما في التخلف من ضعف ومهانة وفناء ذميم. «إن للذل ضريبة كما أن للكرامة ضريبة. وإن ضريبة الذل لأفدح في كثير من الأحايين. وإن بعض النفوس الضعيفة ليخيل إليها أن للكرامة ضريبة باهظة لا تطاق، فتختار الذل والمهانة هرباً من هذه التكاليف الثقال، فتعيش عيشة تافهة رخيصة، مفزعة قلقة، تخاف من ظلها، وتفرق من صداها، يحسبون كل صيحة عليهم، ولتجدنهم أحرص الناس على حياة.. هؤلاء الأذلاء يؤدون ضريبة أفدح من تكاليف الكرامة. إنهم يؤدون ضريبة الذل كاملة. يؤدونها من نفوسهم، ويؤدونها من أقدارهم، ويؤدونها من سمعتهم، ويؤدونها من اطمئنانهم، وكثيراً ما يؤدونها من دمائهم وأموالهم وهم لا يشعرون» ومن هؤلاْ.. أولئك الذين {رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون}.. {لكن الرسول والذين آمنوا معه}.. وهم طراز آخر غير ذلك الطراز.. {جاهدوا بأموالهم وأنفسهم}.. فنهضوا بتكاليف العقيدة، وأدوا واجب الإيمان؛ وعملوا للعزة التي لا تنال بالقعود {وأولئك لهم الخيرات}.. خيرات الدنيا والآخرة، في الدنيا لهم العزة ولهم الكرامة ولهم المغنم ولهم الكلمة العالية. وفي الآخرة لهم الجزاء الأوفى، ولهم رضوان الله الكريم {وأولئك هم المفلحون}.. الفلاح في الدنيا بالعيش الكريم القويم والفلاح في الآخرة بالأجر العظيم: {أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها}.. {ذلك الفوز العظيم}. {وجاء المعذّرون من الأعراب ليؤذن لهم، وقعد الذين كذبوا الله ورسوله، سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم}.. فأما الأولون فهم ذوو الأعذار الحقيقية فلهم عذرهم إن استأذنوا في التخلف، وأما الآخرون فقعدوا بلا عذر. قعدوا كاذبين على الله والرسول. وهؤلاء ينتظر الذين كفروا منهم عذاب أليم. أما الذين يتوبون ولا يكفرون فمسكوت عنهم لعل لهم مصيراً غير هذا المصير. وأخيراً يحدد التبعة. فليس الخروج ضربة لازب على من يطيقون ومن لا يطيقون. فالإسلام دين اليسر ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها. والذين عجزوا عن النفرة لا تثريب عليهم ولا مؤاخذة لهم، لأنهم معذورون: {ليس على الضعفاء ولا على المرضى، ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله. ما على المحسنين من سبيل، والله غفور رحيم. ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون}. ليس على الضعفاء العاجزين عن القتال لعلة في تكوينهم، أو لشيخوخة تقعدهم؛ ولا على المرضى الذين لا يستطيعون الحركة والجهد؛ ولا على المعدمين الذين لا يجدون ما يتزودون به. . ليس على هؤلاء حرج إذا تخلفوا عن المعركة في الميدان، وقلوبهم مخلصة لله ورسوله، لا يغشون ولا يخدعون، ويقومون بعد ذلك بما يستطيعونه- دون القتال- من حراسة أو صيانة أو قيام على النساء والذرية في دار الإسلام، أو أعمال أخرى تعود بالنفع على المسلمين. ليس عليهم جناح، وهم يحسنون بقدر ما يستطيعون، فلا جناح على المحسنين، إنما الجناح على المسيئين. ولا جناح كذلك على القادرين على الحرب، ولكنهم لا يجدون الرواحل التي تحملهم إلى أرض المعركة. فإذا حرموا المشاركة فيها لهذا السبب، ألمت نفوسهم حتى لتفيض أعينهم دموعاً، لأنهم لا يجدون ما ينفقون. وإنها لصورة مؤثرة للرغبة الصحيحة في الجهاد، والألم الصادق للحرمان من نعمة أدائه. وإنها لصورة واقعة حفظتها الروايات عن جماعة من المسلمين في عهد الرسول- صلى الله عليه وسلم- تختلف الروايات في تعيين أسمائهم، ولكنها تتفق على الواقعة الصحيحة. روى العوفي عن ابن عباس: «وذلك أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أمر الناس أن ينبعثوا غازين معه، فجاءته عصابة من أصحابه فيهم عبد الله بن مغفل بن مقوى المازني، فقالوا: يا رسول الله احملنا، فقال لهم:» والله لا أجد ما أحملكم عليه «فتولوا وهم يبكون، وعز عليهم أن يجلسوا عن الجهاد ولا يجدون نفقة ولا محملاً: فلما رأى الله حرصهم على محبته ومحبة رسوله أنزل عذرهم في كتابه. وقال مجاهد: نزلت في بني مقرن من مزينة. وقال محمد بن كعب كانوا سبعة نفر من بني عمرو بن عوف: سالم بن عوف، ومن بني واقف: حرمي ابن عمر، ومن بني مازن بن النجار: عبد الرحمن بن كعب ويكنى أبا ليلى، ومن بني المعلى: فضل الله ومن بني سلمة: عمرو بن عتمة وعبد الله بن عمرو والمزني. وقال ابن إسحاق في سياق غزوة تبوك: ثم إن رجالاً من المسلمين أتوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهم الباكون وهم سبعة نفر من الأنصار وغيرهم من بني عمرو بن عوف: سالم بن عمير، وعلية بن زيد أخو بني حارثة، وأبو ليلى عبد الرحمن بن كعب أخو بني مازن وعمرو بن الحمام بن الجموح أخو بني سلمة، وعبد الله بن المغفل المزني، وبعض الناس يقول: بل هو عبد الله بن عمرو والمزني وحرمي بن عبد الله أخو بني واقف وعياض بن سارية الفزاري، فاستحملوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وكانوا أهل حاجة: قال:» لا أجد ما أحملكم عليه «تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون. بمثل هذه الروح انتصر الإسلام، وبمثل هذه الروح عزت كلمته. فلننظر أين نحن من هؤلاء. ولننظر أين روحنا من تلك العصبة. ثم لنطلب النصر والعزة إن استشعرنا من أنفسنا بعض هذه المشاعر. وإلا فلنسدد ولنقارب والله المستعان.
|