الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **
*3*25 الشرح: قوله: (باب قيام ليلة القدر من الإيمان) لما بين علامات النفاق وقبحها رجع إلى ذكر علامات الإيمان وحسنها، لأن الكلام على متعلقات الإيمان هو المقصود بالأصالة، وإنما يذكر متعلقات غيره استطرادا. ثم رجع فذكر أن قيام ليلة القدر وقيام رمضان وصيام رمضان من الإيمان، وأورد الثلاثة من حديث أبي هريرة متحدات الباعث والجزاء، وعبر في ليلة القدر بالمضارع قي الشرط وبالماضي في جوابه، بخلاف الآخرين فبالماضي فيهما، وأبدى الكرماني لذلك نكتة لطيفة قال: لأن قيام رمضان محقق الوقوع وكذا صيامه، بخلاف قيام ليلة القدر فإنه غير متيقن، فلهذا ذكره بلفظ المستقبل، انتهـى كلامه. وفيه شيء ستأتي الإشارة إليه. وقال غيره: استعمل لفظ الماضي في الجزاء إشارة إلى تحقق وقوعه، فهو نظير استدلوا بقوله تعالى: واستدلوا أيضا بهذا الحديث، وعندي في الاستدلال به نظر، لأنني أظنه من تصرف الرواة، لأن الروايات فيه مشهورة عن أبي هريرة بلفظ المضارع في الشرط والجزاء، وقد رواه النسائي عن محمد بن علي بن ميمون عن أبي اليمان شيخ البخاري فيه فلم يغاير بين الشرط والجزاء، بل قال: " من يقم ليلة القدر يغفر له"، ورواه أبو نعيم في المستخرج عن سليمان وهو الطبراني عن أحمد بن عبد الوهاب بن نجدة عن أبي اليمان، ولفظه زائد على الروايتين فقال: " لا يقوم أحدكم ليلة القدر فيوافقها إيمانا واحتسابا إلا غفر الله له ما تقدم من ذنبه"، (1/ 92) وقوله في هذه الرواية " فيوافقها " زيادة بيان، وإلا فالجزاء مرتب على قيام ليلة القدر، ولا يصدق قيام ليلة القدر إلا على من وافقها، والحصر المستفاد من النفي، والإثبات مستفاد من الشرط والجزاء، فوضح أن ذلك من تصرف الرواة بالمعنى، لأن مخرج الحديث واحد، وسيأتي الكلام على ليلة القدر وعلى صيام رمضان وقيامه إن شاء الله تعالى في كتاب الصيام. *3*26 الشرح: قوله: (باب الجهاد من الإيمان) أورد هذا الباب بين قيام ليلة القدر وبين قيام رمضان وصيامه، فأما مناسبة إيراده معها في الجملة فواضح لاشتراكها في كونها من خصال الإيمان، وأما إيراده بين هذين البابين مع أن تعلق أحدهما بالآخر ظاهر فلنكتة لم أر من تعرض لها، بل قال الكرماني: صنيعه هذا دال على أن النظر مقطوع عن غير هذه المناسبة، يعني اشتراكها في كونها من خصال الإيمان. وأقول: بل قيام ليلة القدر وإن كان ظاهر المناسبة لقيام رمضان، لكن للحديث الذي أورده في باب الجهاد مناسبة بالتماس ليلة القدر حسنة جدا، لأن التماس ليلة القدر يستدعي محافظة زائدة ومجاهدة تامة، ومع ذلك فقد يوافقها أو لا. وكذلك المجاهد يلتمس الشهادة ويقصد إعلاء كلمة الله، وقد يحصل له ذلك أو لا، فتناسبا في أن في كل منهما مجاهدة، وفي أن كلا منهما قد يحصل المقصود الأصلي لصاحبه أو لا. فالقائم لالتماس ليلة القدر مأجور، فإن وافقها كان أعظم أجرا. والمجاهد لالتماس الشهادة مأجور، فإن وافقها كان أعظم أجرا. ويشير إلى ذلك تمنيه - صلى الله عليه وسلم - الشهادة بقوله: " ولوددت أني أقتل في سبيل الله". فذكر المؤلف فضل الجهاد لذلك استطرادا، ثم عاد إلى ذكر قيام رمضان، وهو بالنسبة لقيام ليلة القدر عام بعد خاص، ثم ذكر بعده باب الصيام لأن الصيام من التروك فأخره عن القيام لأنه من الأفعال، ولأن الليل قبل النهار، ولعله أشار إلى أن القيام مشروع في أول ليلة من الشهر خلافا لبعضهم. (1/93) الحديث: -36- حَدَّثَنَا حَرَمِيُّ بْنُ حَفْصٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَارَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " انْتَدَبَ اللَّهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ - لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا إِيمَانٌ بِي وَتَصْدِيقٌ بِرُسُلِي - أَنْ أُرْجِعَهُ بِمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ، أَوْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ. وَلَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي مَا قَعَدْتُ خَلْفَ سَرِيَّةٍ، وَلَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ." الشرح: قوله: (حدثنا حرمي) هو اسم بلفظ النسبة، وهو بصري يكنى أبا علي، قال: حدثنا عبد الواحد هو ابن زياد البصري العبدي ويقال له: الثقفي، وهو ثقة متقن. قال ابن القطان: لم يعتل عليه بقادح. وفي طبقته عبد الواحد بن زيد بصري أيضا، لكنه ضعيف ولم يخرج عنه في الصحيحين شيء. قوله: (حدثنا عمارة) هو ابن القعقاع بن شبرمة الضبي. قوله: (انتدب الله) هو بالنون أي: سارع بثوابه وحسن جزائه، وقيل بمعنى: أجاب إلى المراد، ففي الصحاح ندبت فلانا لكذا فانتدب أي: أجاب إليه، وقيل معناه: تكفل بالمطلوب، ويدل عليه رواية المؤلف في أواخر الجهاد لهذا الحديث من طريق الأعرج عن أبي هريرة بلفظ: " تكفل الله " وله في أوائل الجهاد من طريق سعيد بن المسيب عنه بلفظ: " توكل الله " وسيأتي الكلام عليها وعلى رواية مسلم هناك إن شاء الله تعالى. ووقع في رواية الأصيلي هنا: " ائتدب " بياء تحتانية مهموزة بدل النون من المأدبة، وهو تصحيف، وقد وجهوه بتكلف، لكن إطباق الرواة على خلافه مع اتحاد المخرج كاف في تخطئته. قوله: (لا يخرجه إلا إيمان بي) كذا هو بالرفع على أنه فاعل يخرج، والاستثناء مفرغ. وفي رواية مسلم والإسماعيلي: " إلا إيمانا " بالنصب، قال النووي: هو مفعول له، وتقديره: لا يخرجه المخرج إلا الإيمان والتصديق. قوله: (وتصديق برسلي) ذكره الكرماني بلفظ: " أو تصديق " ثم استشكله وتكلف الجواب عنه، والصواب أسهل من ذلك، لأنه لم يثبت في شيء من الروايات بلفظ " أو " وقوله " بي " فيه عدول عن ضمير الغيبة إلى ضمير المتكلم، فهو التفات. وقال ابن مالك: كان اللائق في الظاهر هنا إيمان به، ولكنه على تقدير اسم فاعل من القول منصوب على الحال، أي: انتدب الله لمن خرج في سبيله قائلا: لا يخرجه إلا إيمان بي، ولا يخرجه مقول القول لأن صاحب الحال على هذا التقدير هو الله. وتعقبه شهاب الدين بن المرحل بأن حذف الحال لا يجوز، وأن التعبير باللائق هنا غير لائق، فالأولى أنه من باب الالتفات، وهو متجه، وسيأتي في أثناء فرض الخمس من طريق الأعرج بلفظ: " لا يخرجه إلا الجهاد في سبيله وتصديق كلماته". (تنبيه) : جاء في هذا الحديث من طريق أبي زرعة هذه مشتملا على أمور ثلاثة، وقد اختصر المؤلف من سياقه أكثر الأمر الثاني، وساقه الإسماعيلي وأبو نعيم في مستخرجيهما من طريق عبد الواحد بن زياد المذكور بتمامه، وكذا هو عند مسلم في هذا الحديث من وجه آخر عن عمارة بن القعقاع، وجاء الحديث مفرقا من رواية الأعرج وغيره عن أبي هريرة كما سيأتي عند المؤلف في كتاب الجهاد، وهناك يأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى. *3*27 الحديث: -37- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ." الشرح: وقد تقدمت الإشارة إلى أن الكلام على قيام رمضان، وباب صيام رمضان يأتي في كتاب الصيام. *3*28 الحديث: -38- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ." الشرح: تقدمت الإشارة إلى أن الكلام على قيام رمضان، وباب صيام رمضان يأتي في كتاب الصيام. وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَحَبُّ الدِّينِ إِلَى اللَّهِ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ." الشرح: قوله: (باب الدين يسر) ، أي: دين الإسلام ذو يسر، أو سمى الدين يسرا، مبالغة بالنسبة إلى الأديان قبله، لأن الله رفع عن هذه الأمة الإصر الذي كان على من قبلهم. ومن أوضح الأمثلة له: أن توبتهم كانت بقتل أنفسهم، وتوبة هذه الأمة بالإقلاع والعزم والندم. قوله: (أحب الدين) أي: خصال الدين، لأن خصال الدين كلها محبوبة، لكن ما كان منها سمحا - أي سهلا - فهو أحب إلى الله. (1/94) ويدل عليه ما أخرجه أحمد بسند صحيح من حديث أعرابي لم يسمه أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " خير دينكم أيسره". أو الدين جنس، أي: أحب الأديان إلى الله الحنيفية. والمراد بالأديان الشرائع الماضية قبل أن تبدل وتنسخ. والحنيفية ملة إبراهيم، والحنيف في اللغة: من كان على ملة إبراهيم، وسمى إبراهيم حنيفا لميله عن الباطل إلى الحق لأن أصل الحنف الميل. والسمحة: السهلة، أي: أنها مبنية على السهولة، لقوله تعالى: نعم وصله في كتاب الأدب المفرد، وكذا وصله أحمد بن حنبل وغيره من طريق محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس وإسناده حسن. استعمله المؤلف في الترجمة لكونه متقاصرا عن شرطه، وقواه بما دل على معناه لتناسب السهولة واليسر. الحديث: -39- حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ مُطَهَّرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ مَعْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْغِفَارِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنْ الدُّلْجَةِ." الشرح: قوله: (حدثنا عبد السلام بن مطهر) أي: ابن حسام البصري، وكنيته أبو ظفر بالمعجمة والفاء المفتوحتين. قوله: (حدثنا عمر بن علي) هو المقدمي بضم الميم وفتح القاف والدال المشددة، وهو بصري ثقة، لكنه مدلس شديد التدليس، وصفه بذلك ابن سعد وغيره. وهذا الحديث من إفراد البخاري عن مسلم، وصححه - وإن كان من رواية مدلس بالعنعنة - لتصريحه فيه بالسماع من طريق أخرى، فقد رواه ابن حبان في صحيحه من طريق أحمد بن المقدام أحد شيوخ البخاري عن عمر بن علي المذكور قال: " سمعت معن بن محمد " فذكره، وهو من إفراد معن بن محمد، وهو مدني ثقة قليل الحديث، لكن تابعه على شقه الثاني ابن أبي ذئب عن سعيد أخرجه المصنف في كتاب الرقاق بمعناه ولفظه: " سددوا وقربوا " وزاد في آخره: " والقصد القصد تبلغوا " ولم يذكر شقه الأول، وقد أشرنا إلى بعض شواهده، ومنها حديث عروة الفقيمي بضم الفاء وفتح القاف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن دين الله يسر"، ومنها حديث بريدة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " عليكم هديا قاصدا، فإنه من يشاد هذا الدين يغلبه " رواهما أحمد وإسناد كل منهما حسن. قوله: (ولن يشاد الدين إلا غلبه) هكذا في روايتنا بإضمار الفاعل، وثبت في رواية ابن السكن وفي بعض الروايات عن الأصيلي بلفظ: " ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه"، وكذا هو في طرق هذا الحديث عند الإسماعيلي وأبي نعيم وابن حبان وغيرهم. والدين منصوب على المفعولية وكذا في روايتنا أيضا، وأضمر الفاعل للعلم به، وحكى صاحب المطالع: أن أكثر الروايات برفع الدين على أن يشاد مبني لما لم يسم فاعله، وعارضه النووي بأن أكثر الروايات بالنصب، ويجمع بين كلاميهما بأنه بالنسبة إلى روايات المغاربة والمشارقة، ويؤيد النصب لفظ حديث بريدة عند أحمد: " إنه من شاد هذا الدين يغلبه " ذكره في حديث آخر يصلح أن يكون هو سبب حديث الباب. والمشادة بالتشديد: المغالبة، يقال: شاده يشاده مشادة، إذا قاواه، والمعنى لا يتعمق أحد في الأعمال الدينية ويترك الرفق إلا عجز وانقطع فيغلب. قال ابن المنير: في هذا الحديث علم من أعلام النبوة، فقد رأينا ورأى الناس قبلنا أن كل متنطع في الدين ينقطع، وليس المراد منع طلب الأكمل في العبادة فإنه من الأمور المحمودة، بل منع الإفراط المؤدى إلى الملال، أو المبالغة في التطوع المفضي إلى ترك الأفضل، أو إخراج الفرض عن وقته كمن بات يصلي الليل كله ويغالب النوم إلى أن غلبته عيناه في آخر الليل فنام عن صلاة الصبح في الجماعة، أو إلى أن خرج الوقت المختار، أو إلى أن طلعت الشمس فخرج وقت الفريضة، وفي حديث محجن بن الأدرع عند أحمد: " إنكم لن تنالوا هذا الأمر بالمغالبة، وخير دينكم اليسرة " وقد يستفاد من هذا الإشارة إلى الأخذ بالرخصة الشرعية، فإن الأخذ بالعزيمة في موضع الرخصة تنطع، كمن يترك التيمم عند العجز عن استعمال الماء، فيفضي به استعماله إلى حصول الضرر. (1/95) قوله: (فسددوا) أي: الزموا السداد وهو الصواب من غير إفراط ولا تفريط، قال أهل اللغة: السداد التوسط في العمل. قوله: (وقاربوا) أي إن لم تستطيعوا الأخذ بالأكمل فاعملوا بما يقرب منه. قوله: (وأبشروا) أي بالثواب على العمل الدائم وإن قل، والمراد تبشير من عجز عن العمل بالأكمل بأن العجز إذا لم يكن من صنيعه لا يستلزم نقص أجره، وأبهم المبشر به تعظيما له وتفخيما. قوله: (واستعينوا بالغدوة) أي استعينوا على مداومة العبادة بإيقاعها في الأوقات المنشطة. والغدوة بالفتح سير أول النهار. وقال الجوهري: ما بين صلاة الغداة وطلوع الشمس. والروحة بالفتح السير بعد الزوال. والدلجة بضم أوله وفتحه وإسكان اللام سير آخر الليل، وقيل سير الليل كله، ولهذا عبر فيه بالتبعيض، ولأن عمل الليل أشق من عمل النهار. وهذه الأوقات أطيب أوقات المسافر، وكأنه صلى الله عليه وسلم خاطب مسافرا إلى مقصد فنبهه على أوقات نشاطه، لأن المسافر إذا سافر الليل والنهار جميعا عجز وانقطع، وإذا تحرى السير في هذه الأوقات المنشطة أمكنته المداومة من غير مشقة. وحسن هذه الاستعارة أن الدنيا في الحقيقة دار نقلة إلى الآخرة، وأن هذه الأوقات بخصوصها أروح ما يكون فيها البدن للعبادة. وقوله في رواية ابن أبي ذئب " القصد القصد " بالنصب فيهما على الإغراء، والقصد الأخذ بالأمر الأوسط. ومناسبة إيراد المصنف لهذا الحديث عقب الأحاديث التي قبله ظاهرة من حيث أنها تضمنت الترغيب في القيام والصيام والجهاد، فأراد أن يبين أن الأولى للعامل بذلك أن لا يجهد نفسه بحيث يعجز وينقطع، بل يعمل بتلطف وتدريج ليدوم عمله ولا ينقطع. ثم عاد إلى سياق الأحاديث الدالة على أن الأعمال الصالحة معدودة من الإيمان فقال: باب الصلاة من الإيمان. *3*30 وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: يَعْنِي: صَلَاتَكُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ. الشرح: قوله: (باب) هو مرفوع بتنوين وبغير تنوين، والصلاة مرفوع على التنوين فقوله: " وقول الله " مرفوع عطفا على الصلاة، وعلى عدمه مجرور مضاف. قوله: (يعني صلاتكم) وقع التنصيص على هذا التفسير من الوجه الذي أخرج منه المصنف حديث الباب، (1/96) فروى الطيالسي والنسائي من طريق شريك وغيره عن أبي إسحاق عن البراء في الحديث المذكور " فأنزل الله وقد قيل: إن فيه تصحيفا والصواب: يعني صلاتكم لغير البيت. وعندي أنه لا تصحيف فيه بل هو صواب، ومقاصد البخاري في هذه الأمور دقيقة، وبيان ذلك أن العلماء اختلفوا في الجهة التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم- يتوجه إليها للصلاة وهو بمكة، فقال ابن عباس وغيره: كان يصلي إلى بيت المقدس، لكنه لا يستدبر الكعبة بل يجعلها بينه وبين بيت المقدس. وأطلق آخرون أنه كان يصلي إلى بيت المقدس. وقال آخرون: كان يصلي إلى الكعبة، فلما تحول إلى المدينة استقبل بيت المقدس، وهذا ضعيف ويلزم منه دعوى النسخ مرتين، والأول أصح لأنه يجمع بين القولين، وقد صححه الحاكم وغيره من حديث ابن عباس، وكأن البخاري أراد الإشارة إلى الجزم بالأصح من أن الصلاة لما كانت عند البيت كانت إلى بيت المقدس، واقتصر على ذلك اكتفاء بالأولوية، لأن صلاتهم إلى غير جهة البيت وهم عند البيت إذا كانت لا تضيع فأحرى أن لا تضيع إذا بعدوا عنه، فتقدير الكلام: يعني صلاتكم التي صليتموها عند البيت إلى بيت المقدس. الحديث: -40- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ أَوَّلَ مَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ نَزَلَ عَلَى أَجْدَادِهِ - أَوْ قَالَ أَخْوَالِهِ - مِنْ الْأَنْصَارِ، وَأَنَّهُ صَلَّى قِبَلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ تَكُونَ قِبْلَتُهُ قِبَلَ الْبَيْتِ، وَأَنَّهُ صَلَّى أَوَّلَ صَلَاةٍ صَلَّاهَا صَلَاةَ الْعَصْرِ، وَصَلَّى مَعَهُ قَوْمٌ، فَخَرَجَ رَجُلٌ مِمَّنْ صَلَّى مَعَهُ فَمَرَّ عَلَى أَهْلِ مَسْجِدٍ وَهُمْ رَاكِعُونَ فَقَالَ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ لَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِبَلَ مَكَّةَ، فَدَارُوا - كَمَا هُمْ - قِبَلَ الْبَيْتِ. وَكَانَتْ الْيَهُودُ قَدْ أَعْجَبَهُمْ إِذْ كَانَ يُصَلِّي قِبَلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَهْلُ الْكِتَابِ فَلَمَّا وَلَّى وَجْهَهُ قِبَلَ الْبَيْتِ أَنْكَرُوا ذَلِكَ. قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ فِي حَدِيثِهِ هَذَا أَنَّهُ مَاتَ عَلَى الْقِبْلَةِ قَبْلَ أَنْ تُحَوَّلَ رِجَالٌ وَقُتِلُوا، فَلَمْ نَدْرِ مَا نَقُولُ فِيهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: الشرح: قوله: (حدثنا عمرو بن خالد) هو بفتح العين وسكون الميم، وهو أبو الحسن الحراني نزيل مصر أحد الثقات الإثبات. ووقع في رواية القابسي عن عبدوس كلاهما عن أبي زيد المروزي. وفي رواية أبي ذر عن الكشميهني " عمر بن خالد " بضم العين وفتح الميم، وهو تصحيف نبه عليه من القدماء أبو علي الغساني، وليس قي شيوخ البخاري من اسمه عمر بن خالد ولا في جميع رجاله بل ولا في أحد من رجال الكتب الستة. قوله: (حدثنا زهير) هو ابن معاوية أبو خيثمة الجعفي الكوفي نزيل الجزيرة وبها سمع منه عمرو بن خالد. قوله: (حدثنا أبو إسحاق) هو السبيعي وسماع زهير منه - فيما قال أحمد - بعد أن بدأ تغيره، لكن تابعه عليه عند المصنف إسرائيل ابن يونس حفيده وغيره. قوله: (عن البراء) هو ابن عازب الأنصاري، صحابي ابن صحابي. وللمصنف في التفسير من طريق الثوري عن أبي إسحاق " سمعت البراء " فأمن ما يخشى من تدليس أبي إسحاق. قوله: (أول) بالنصب أي: في أول زمن قدومه، وما مصدرية. قوله: (أو قال أخواله) الشك من أبي إسحاق، وفي إطلاق أجداده أو أخواله مجاز، لأن الأنصار أقاربه من جهة الأمومة، لأن أم جده عبد المطلب بن هاشم منهم، وهي سلمى بنت عمرو أحد بني عدي بن النجار. وإنما نزل النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة على إخوتهم بني مالك بن النجار، ففيه على هذا مجاز ثان. قوله: (قبل بيت المقدس) بكسر القاف وفتح الموحدة، أي: إلى جهة بيت المقدس. قوله: (ستة عشر شهرا أو سبعة عشر) كذا وقع الشك في رواية زهير هذه هنا، وفي الصلاة أيضا عن أبي نعيم عنه، وكذا في رواية الثوري عنده. وفي رواية إسرائيل عند المصنف وعند الترمذي أيضا. ورواه أبو عوانة في صحيحه عن عمار بن رجاء وغيره عن أبي نعيم فقال: " ستة عشر " من غير شك، وكذا لمسلم من رواية أبي الأحوص، وللنسائي من رواية زكريا بن أبي زائدة وشريك، ولأبي عوانة أيضا من رواية عمار بن رزيق - بتقديم الراء مصغرا - كلهم عن أبي إسحاق، وكذا لأحمد بسند صحيح عن ابن عباس. وللبزار والطبراني من حديث عمرو بن عوف " سبعة عشر " وكذا للطبراني عن ابن عباس. والجمع بين الروايتين سهل بأن يكون من جزم بستة عشر لفق من شهر القدوم وشهر التحويل شهرا وألغى الزائد، ومن جزم بسبعة عشر عدهما معا، ومن شك تردد في ذلك. وذلك أن القدوم كان في شهر ربيع الأول بلا خلاف، (1/ 97) وكان التحويل في نصف شهر رجب من السنة الثانية على الصحيح، وبه جزم الجمهور، ورواه الحاكم بسند صحيح عن ابن عباس. وقال ابن حبان: " سبعة عشر شهرا وثلاثة أيام " وهو مبني على أن القدوم كان في ثاني عشر شهر ربيع الأول. وشذت أقوال أخرى. ففي ابن ماجة من طريق أبي بكر بن عياش عن أبي إسحاق في هذا الحديث " ثمانية عشر شهرا " وأبو بكر سيئ الحفظ وقد اضطرب فيه، فعند ابن جرير من طريقه في رواية سبعة عشر وفي رواية ستة عشر، وخرجه بعضهم على قول محمد بن حبيب أن التحويل كان في نصف شعبان، وهو الذي ذكره النووي في الروضة وأقره، مع كونه رجح في شرحه لمسلم رواية ستة عشر شهرا لكونها مجزوما بها عند مسلم، ولا يستقيم أن يكون ذلك في شعبان إلا إن ألغى شهري القدوم والتحويل، وقد جزم موسى بن عقبة بأن التحويل كان في جمادى الآخرة. ومن الشذوذ أيضا رواية ثلاثة عشر شهرا ورواية تسعة أشهر أو عشرة أشهر ورواية شهرين ورواية سنتين، وهذه الأخيرة يمكن حملها على الصواب. وأسانيد الجميع ضعيفة، والاعتماد على القول الأول، فجملة ما حكاه تسع روايات. قوله: (وأنه صلى أول) بالنصب لأنه مفعول صلى، والعصر كذلك على البدلية، وأعربه ابن مالك بالرفع، وفي الكلام مقدر لم يذكر لوضوحه، أي: أول صلاة صلاها متوجها إلى الكعبة صلاة العصر. وعند ابن سعد: حولت القبلة في صلاة الظهر أو العصر - على التردد - وساق ذلك من حديث عمارة بن أوس قال: صلينا إحدى صلاتي العشاءين. والتحقيق أن أول صلاة صلاها في بني سلمة لما مات بشر بن البراء بن معرور الظهر، وأول صلاة صلاها بالمسجد النبوي العصر، وأما الصبح فهو من حديث ابن عمر بأهل قباء، وهل كان ذلك في جمادى الآخرة أو رجب أو شعبان؟ أقوال. قوله: (فخرج رجل) هو عباد بن بشر بن قيظي كما رواه ابن منده من حديث طويلة بنت أسلم، وقيل هو عباد بن نهيك بفتح النون وكسر الهاء، وأهل المسجد الذين مر بهم قيل: هم من بني سلمة، وقيل: هو عباد بن بشر الذي أخبر أهل قباء في صلاة الصبح كما سيأتي بيان ذلك في حديث ابن عمر حيث ذكره المصنف في كتاب الصلاة، ونذكر هناك تقرير الجمع بين هذين الحديثين وغيرهما مع التنبيه على ما فيهما من الفوائد إن شاء الله تعالى. قوله: (أشهد بالله) أي: أحلف، قال الجوهري: يقال أشهد بكذا أي: أحلف به. قوله: (قبل مكة) أي: قبل البيت الذي في مكة، ولهذا قال: " فداروا كما هم قبل البيت"، و " ما " موصولة والكاف للمبادرة. وقال الكرماني للمقارنة، وهم مبتدأ وخبره محذوف. قوله: (قد أعجبهم) أي: النبي - صلى الله عليه وسلم-. (وأهل الكتاب) هو بالرفع عطفا على اليهود، من عطف العام على الخاص. وقيل: المراد النصارى لأنهم من أهل الكتاب وفيه نظر لأن النصارى لا يصلون لبيت المقدس فكيف يعجبهم؟ وقال الكرماني: كان إعجابهم بطريق التبعية لليهود. قلت: وفيه بعد لأنهم أشد الناس عداوة لليهود. ويحتمل أن يكون بالنصب، والواو بمعنى مع أي: يصلي مع أهل الكتاب إلى بيت المقدس، واختلف في صلاته إلى بيت المقدس وهو بمكة، فروى ابن ماجة من طريق أبي بكر بن عياش المذكورة " صلينا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحو بيت المقدس ثمانية عشر شهرا، وصرفت القبلة إلى الكعبة بعد دخول المدينة بشهرين " وظاهره أنه كان يصلي بمكة إلى بيت المقدس محضا، وحكى الزهري خلافا في أنه هل كان يجعل الكعبة خلف ظهره أو يجعلها بينه وبين بيت المقدس؟ قلت: وعلى الأول فكان يجعل الميزاب خلفه، وعلى الثاني كان يصلي بين الركنين اليمانيين. وزعم ناس أنه لم يزل يستقبل الكعبة بمكة، فلما قدم المدينة استقبل بيت المقدس ثم نسخ. وحمل ابن عبد البر هذا على القول الثاني. ويؤيد حمله على ظاهره إمامة جبريل، ففي بعض طرقه أن ذلك كان عند باب البيت.(1/ 98) قوله: (أنكروا ذلك) يعني: اليهود، فنزلت وقد صرح المصنف بذلك في روايته من طريق إسرائيل. قوله: (قال زهير) يعني: ابن معاوية بالإسناد المذكور بحذف أداة العطف كعادته، ووهم من قال إنه معلق، وقد ساقه المصنف في التفسير مع جملة الحديث عن أبي نعيم عن زهير سياقا واحدا. قوله: (أنه مات على القبلة) أي: قبلة بيت المقدس قبل أن تحول (رجال وقتلوا) ذكر القتل لم أره إلا في رواية زهير، وباقي الروايات إنما فيها ذكر الموت فقط، وكذلك روى أبو داود والترمذي وابن حبان والحاكم صحيحا عن ابن عباس. والذين ماتوا بعد فرض الصلاة وقبل تحويل القبلة من المسلمين عشرة أنفس، فبمكة من قريش: عبد الله بن شهاب والمطلب بن أزهر الزهريان والسكران بن عمرو العامري. وبأرض الحبشة منهم: حطاب - بالمهملة - ابن الحارث الجمحي وعمرو بن أمية الأسدي وعبد الله بن الحارث السهمي وعروة بن عبد العزى وعدي بن نضلة العدويان. ومن الأنصار بالمدينة: البراء بن معرور - بمهملات - وأسعد بن زرارة. فهؤلاء العشرة متفق عليهم. ومات في المدة أيضا إياس بن معاذ الأشهلي، لكنه مختلف في إسلامه. ولم أجد في شيء من الأخبار أن أحدا من المسلمين قتل قبل تحويل القبلة، لكن لا يلزم من عدم الذكر عدم الوقوع، فإن كانت هذه اللفظة محفوظة فتحمل على أن بعض المسلمين ممن لم يشتهر قتل في تلك المدة في غير الجهاد، ولم يضبط اسمه لقلة الاعتناء بالتاريخ إذ ذاك. ثم وجدت في المغازي ذكر رجل اختلف في إسلامه وهو سويد بن الصامت، فقد ذكر ابن إسحاق أنه لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن تلقاه الأنصار في العقبة، فعرض عليه الإسلام فقال: إن هذا القول حسن. وانصرف إلى المدينة فقتل بها في وقعة بعاث - بضم الموحدة وإهمال العين وآخره مثلثة - وكانت قبل الهجرة، قال فكان قومه يقولون: لقد قتل وهو مسلم، فيحتمل أن يكون هو المراد. وذكر لي بعض الفضلاء أنه يحوز أن يراد من قتل بمكة من المستضعفين كأبوي عمار. قلت: يحتاج إلى ثبوت أن قتلهما بعد الإسراء. (تنبيه) : في هذا الحديث من الفوائد: الرد على المرجئة في إنكارهم تسمية أعمال الدين إيمانا. وفيه أن تمني تغيير بعض الأحكام جائز إذا ظهرت المصلحة في ذلك. وفيه بيان شرف المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وكرامته على ربه لإعطائه له ما أحب من غير تصريح بالسؤال. وفيه بيان ما كان في الصحابة من الحرص على دينهم والشفقة على إخوانهم، وقد وقع لهم نظير هذه المسألة لما نزل تحريم الخمر كما صح من حديث البراء أيضا فنزل (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا - إلى قوله - والله يحب المحسنين. ( وقوله تعالى: *3*31 41- قَالَ مَالِكٌ أَخْبَرَنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ أَنَّ عَطَاءَ بْنَ يَسَارٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " إِذَا أَسْلَمَ الْعَبْدُ فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ يُكَفِّرُ اللَّهُ عَنْهُ كُلَّ سَيِّئَةٍ كَانَ زَلَفَهَا وَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ الْقِصَاصُ: الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ، وَالسَّيِّئَةُ بِمِثْلِهَا، إِلَّا أَنْ يَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهَا." الشرح: قوله: (قال مالك) هكذا ذكره معلقا، ولم يوصله في موضع آخر من هذا الكتاب، وقد وصله أبو ذر الهروي في روايته للصحيح فقال عقبه: أخبرناه النضروي هو العباس بن الفضل قال: حدثنا الحسن بن إدريس قال: حدثنا هشام ابن خالد حدثنا الوليد بن مسلم عن مالك به، (1/ 99) وكذا وصله النسائي من رواية الوليد بن مسلم حدثنا مالك، فذكره أتم مما هنا كما سيأتي، وكذا وصله الحسن بن سفيان من طريق عبد الله بن نافع والبزار من طريق إسحاق الفروي والإسماعيلي من طريق عبد الله بن وهب والبيهقي في الشعب من طريق إسماعيل بن أبي أويس كلهم عن مالك، وأخرجه الدارقطني من طريق أخرى عن مالك، وذكر أن معن بن عيسى رواه عن مالك فقال: " عن أبي هريرة " بدل أبي سعيد، وروايته شاذة، ورواه سفيان بن عيينة عن زيد بن أسلم عن عطاء مرسلا. ورويناه في الخلعيات وقد حفظ مالك الوصل فيه وهو أتقن لحديث أهل المدينة من غيره. وقال الخطيب: هو حديث ثابت. وذكر البزار أن مالكا تفرد بوصله. قوله: (إذا أسلم العبد) هذا الحكم يشترك فيه الرجال والنساء، وذكره بلفظ المذكر تغليبا. قوله: (فحسن إسلامه) أي: صار إسلامه حسنا باعتقاده وإخلاصه ودخوله فيه بالباطن والظاهر، وأن يستحضر عند عمله قرب ربه منه واطلاعه عليه، كما دل عليه تفسير الإحسان في حديث سؤال جبريل كما سيأتي. قوله: (يكفر الله) هو بضم الراء لأن " إذا " وإن كانت من أدوات الشرط لكنها لا تجزم، واستعمل الجواب مضارعا وإن كان الشرط بلفظ الماضي لكنه بمعنى المستقبل. وفي رواية البزار: " كفر الله " فواخى بينهما. قوله: (كان أزلفها) كذا لأبي ذر، ولغيره زلفها، وهي بتخفيف اللام كما ضبطه صاحب المشارق. وقال النووي بالتشديد، ورواه الدارقطني من طريق طلحة بن يحيى عن مالك بلفظ: " ما من عبد يسلم فيحسن إسلامه إلا كتب الله له كل حسنة زلفها، ومحا عنه كل خطيئة زلفها " بالتخفيف فيهما. وللنسائي نحوه لكن قال: أزلفها. وزلف بالتشديد وأزلف بمعنى واحد أي: أسلف وقدم، قاله الخطابي. وقال في المحكم: أزلف الشيء: قربه وزلفه مخففا ومثقلا قدمه. وفي الجامع: الزلفة تكون في الخير والشر. وقال في المشارق: زلف بالتخفيف أي: جمع وكسب، وهذا يشمل الأمرين، وأما القربة فلا تكون إلا في الخير، فعلى هذا تترجح رواية غير أبي ذر، لكن منقول الخطابي يساعدها. وقد ثبت في جميع الروايات ما سقط من رواية البخاري وهو كتابة الحسنات المتقدمة قبل الإسلام، وقوله: " كتب الله " أي: أمر أن بكتب، وللدار قطني من طريق زيد بن شعيب عن مالك بلفظ: " يقول الله لملائكته اكتبوا" فقيل: إن المصنف أسقط ما رواه غيره عمدا لأنه مشكل على القواعد. وقال المازري: الكافر لا يصح منه التقرب، فلا يثاب على العمل الصالح الصادر منه في شركه، لأن من شرط المتقرب أن يكون عارفا لمن يتقرب إليه والكافر ليس كذلك. وتابعه القاضي عياض على تقرير هذا الإشكال، واستضعف ذلك النووي فقال: الصواب الذي عليه المحققون - بل نقل بعضهم فيه الإجماع - أن الكافر إذا فعل أفعالا جميلة كالصدقة وصلة الرحم، ثم أسلم ومات على الإسلام أن ثواب ذلك يكتب له، وأما دعوى أنه مخالف للقواعد فغير مسلم لأنه قد يعتد ببعض أفعال الكافر في الدنيا ككفارة الظهار، فإنه لا يلزمه إعادتها إذا أسلم وتجزئه. انتهى. والحق أنه لا يلزم من كتابة الثواب للمسلم في حال إسلامه تفضلا من الله وإحسانا، أن يكون ذلك لكون عمله الصادر منه في الكفر مقبولا، والحديث إنما تضمن كتابة الثواب ولم يتعرض للقبول، ويحتمل أن يكون القبول يصير معلقا على إسلامه فيقبل ويثاب إن أسلم وإلا فلا، وهذا قوي، وقد جزم بما جزم به النووي إبراهيم الحربي وابن بطال وغيرهما من القدماء والقرطبي وابن المنير من المتأخرين، (1/ 100) قال ابن المنير: المخالف للقواعد دعوى أن يكتب له ذلك في حال كفره، وأما أن الله يضيف إلى حسناته في الإسلام ثواب ما كان صدر منه مما كان يظنه خيرا، فلا مانع منه كما لو تفضل عليه ابتداء من غير عمل، وكما يتفضل على العاجز بثواب ما كان يعمل وهو قادر، فإذا جاز أن يكتب له ثواب ما لم يعمل البتة، جاز أن يكتب له ثواب ما عمله غير موفي الشروط. وقال ابن بطال: لله أن يتفضل على عباده بما شاء ولا اعتراض لأحد عليه. واستدل غيره بأن من آمن من أهل الكتاب يؤتى أجره مرتين كما دل عليه القرآن والحديث الصحيح، وهو لو مات على إيمانه الأول لم ينفعه شيء من عمله الصالح، بل يكون هباء منثورا. فدل على أن ثواب عمله الأول يكتب له مضافا إلى عمله الثاني، وبقوله - صلى الله عليه وسلم - لما سألته عائشة عن ابن جدعان: وما كان يصنعه من الخير هل ينفعه؟ فقال: " إنه لم يقل يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين " فدل على أنه لو قالها بعد أن أسلم نفعه ما عمله في الكفر. قوله: (وكان بعد ذلك القصاص) أي: كتابة المجازاة في الدنيا، وهو مرفوع بأنه اسم كان، ويجوز أن تكون كان تامة، وعبر بالماضي لتحقق الوقوع فكأنه وقع، كقوله تعالى: (ونادى أصحاب الجنة. ( وقوله: الحسنة مبتدأ وبعشر الخبر والجملة استئنافية، وقوله: إلى سبعمائة متعلق بمقدر أي: منتهية، وحكى الماوردي أن بعض العلماء أخذ بظاهر هذه الغاية فزعم أن التضعيف لا يتجاوز سبعمائة، ورد عليه بقوله تعالى: قوله: (إلا أن يتجاوز الله عنها) زاد سمويه في فوائده: " إلا أن يغفر الله وهو الغفور " وفيه دليل على الخوارج وغيرهم من المكفرين بالذنوب والموجبين لخلود المذنبين في النار، فأول الحديث يرد على من أنكر الزيادة والنقص في الإيمان لأن الحسن تتفاوت درجاته، وآخره يرد على الخوارج والمعتزلة. الحديث: -42- حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِذَا أَحْسَنَ أَحَدُكُمْ إِسْلَامَهُ فَكُلُّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ لَهُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ، وَكُلُّ سَيِّئَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ لَهُ بِمِثْلِهَا" الشرح: قوله: (عن همام) هو ابن منبه، وهذا الحديث من نسخته المشهورة المروية بإسناد واحد عن عبد الرزاق عن معمر عنه. وقد اختلف العلماء في إفراد حديث من نسخة هل يساق بإسنادها ولو لم يكن مبتدأ به، أو لا؟ فالجمهور على الجواز ومنهم البخاري، وقيل: يمتنع، وقيل: يبدأ أبدا بأول حديث ويذكر بعده ما أراد. وتوسط مسلم فأتى بلفظ يشعر بأن المفرد من جملة النسخة فيقول في مثل هذا إذا انتهى الإسناد: فذكر أحاديث منها كذا، ثم يذكر أي حديث أراد منها. قوله: (إذا أحسن أحدكم إسلامه) كذا له ولمسلم وغيرهما، ولإسحاق بن راهويه في مسنده عن عبد الرزاق: " إذا حسن إسلام أحدكم " وكأنه رواه بالمعنى، لأنه من لازمه. ورواه الإسماعيلي من طريق ابن المبارك عن معمر كالأول، والخطاب بأحدكم بحسب اللفظ للحاضرين، لكن الحكم عام لهم ولغيرهم باتفاق، وإن حصل التنازع في كيفية التناول أهي بالحقيقة اللغوية أو الشرعية أو بالمجاز. (1/ 101) قوله: (فكل حسنة) ينبئ أن اللام في قوله في الحديث الذي قبله: " الحسنة بعشر أمثالها " للاستغراق. قوله: (بمثلها) زاد مسلم وإسحاق والإسماعيلي في روايتهم: " حتى يلقى الله عز وجل". *3*32 الشرح: قوله: (باب أحب الدين إلى الله أدومه) مراد المصنف الاستدلال على أن الإيمان يطلق على الأعمال. لأن المراد بالدين هنا العمل، والدين الحقيقي هو الإسلام، والإسلام الحقيقي مرادف للإيمان، فيصح بهذا مقصوده. ومناسبته لما قبله من قوله: " عليكم بما تطيقون " لأنه لما قدم أن الإسلام يحسن بالأعمال الصالحة أراد أن ينبه على أن جهاد النفس في ذلك إلى حد المغالبة غير مطلوب، وقد تقدم بعض هذا المعنى في " باب الدين يسر " وفي هذا ما ليس في ذاك على ما سنوضحه إن شاء الله تعالى. الحديث: -43- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ هِشَامٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا امْرَأَةٌ. قَالَ: مَنْ هَذِهِ؟ قَالَتْ: فُلَانَةُ - تَذْكُرُ مِنْ صَلَاتِهَا - قَالَ: " مَهْ عَلَيْكُمْ بِمَا تُطِيقُونَ، فَوَاللَّهِ لَا يَمَلُّ اللَّهُ حَتَّى تَمَلُّوا" وَكَانَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيْهِ مَادَامَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ. الشرح: قوله: (حدثنا يحيى) هو ابن سعيد القطان، " عن هشام " هو ابن عروة بن الزبير. قوله: (فقال من هذه) للأصيلي " قال من هذه " بغير فاء، ويوجه على أنه جواب سؤال مقدر، كأن قائلا قال: ماذا قال حين دخل؟ قالت: قال من هذه. قوله: (قلت فلانة) هذه اللفظة كناية عن كل علم مؤنث فلا ينصرف، زاد عبد الرزاق عن معمر عن هشام في هذا الحديث " حسنة الهيئة". قوله: (تذكر) بفتح التاء الفوقانية، والفاعل عائشة. وروي بضم الياء التحتانية على البناء لما لم يسم فاعله، أي: يذكرون أن صلاتها كثيرة. ولأحمد عن يحيى القطان: " لا تنام، تصلي " وللمصنف في كتاب صلاة الليل معلقا عن القعنبي عن مالك عن هشام، وهو موصول في الموطأ للقعنبي وحده في آخره: " لا تنام بالليل " وهذه المرأة وقع في رواية مالك المذكورة أنها من بني أسد، ولمسلم من رواية الزهري عن عروة في هذا الحديث أنها الحولاء - بالمهملة والمد - وهو اسمها بنت تويت بمثناتين مصغرا ابن حبيب - بفتح المهملة - ابن أسد بن عبد العزى من رهط خديجة أم المؤمنين - رضي الله عنها-، وفي روايته أيضا: " وزعموا أنها لا تنام الليل " وهذا يؤيد الرواية الثانية في أنها نقلت عن غيرها. فإن قيل: وقع في حديث الباب حديث هشام دخل عليها وهي عندها. وفي رواية الزهري أن الحولاء مرت بها فظاهره التغاير، فيحتمل أن تكون المارة امرأة غيرها من بني أسد أيضا أو أن قصتها تعددت. والجواب: أن القصة واحدة، ويبين ذلك رواية محمد بن إسحاق عن هشام في هذا الحديث ولفظه: " مرت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحولاء بنت تويت" أخرجه محمد بن نصر في كتاب قيام الليل له، فيحمل على أنها كانت أولا عند عائشة فلما دخل - صلى الله عليه وسلم - على عائشة قامت المرأة كما في رواية حماد بن سلمة الآتية، فلما قامت لتخرج مرت به في خلال ذهابها فسأل عنها، وبهذا تجتمع الروايات. (تنبيه) : قال ابن التين: لعلها أمنت عليها الفتنة فلذلك مدحتها في وجهها. قلت: لكن رواية حماد بن سلمة عن هشام في هذا الحديث تدل على أنها ما ذكرت ذلك إلا بعد أن خرجت المرأة، أخرجه الحسن بن سفيان في مسنده من طريقه ولفظه: " كانت عندي امرأة، فلما قامت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: من هذه يا عائشة؟ قلت: يا رسول الله هذه فلانة، وهي أعبد أهل المدينة، فذكر الحديث.(1/ 102) قوله: (مه) قال الجوهري: هي كلمة مبنية على السكون، وهي اسم سمي به الفعل، والمعنى اكفف، يقال: مهمهته إذا زجرته، فإن وصلت نونت فقلت: مه. وقال الداودي: أصل هذه الكلمة " ما هذا " كالإنكار فطرحوا بعض اللفظة فقالوا: مه فصيروا الكلمتين كلمة، وهذا الزجر يحتمل أن يكون لعائشة، والمراد نهيها عن مدح المرأة بما ذكرت، ويحتمل أن يكون المراد النهي عن ذلك الفعل، وقد أخذ بذلك جماعة من الأئمة، فقالوا: يكره صلاة جميع الليل كما سيأتي في مكانه. قوله: (عليكم بما تطيقون) أي: اشتغلوا من الأعمال بما تستطيعون المداومة عليه، فمنطوقه يقتضي الأمر بالاقتصار على ما يطاق من العبادة، ومفهومه يقتضي النهي عن تكلف ما لا يطاق. وقال القاضي عياض: يحتمل أن يكون هذا خاصا بصلاة الليل، ويحتمل أن يكون عاما في الأعمال الشرعية. قلت: سبب وروده خاص بالصلاة، ولكن اللفظ عام، وهو المعتبر. وقد عبر بقوله: " عليكم " مع أن المخاطب النساء طلبا لتعميم الحكم، فغلبت الذكور على الإناث. قوله: (فوالله) فيه جواز الحلف من غير استحلاف. وقد يستحب إذا كان في تفخيم أمر من أمور الدين أو حث عليه أو تنفير من محذور. قوله: (لا يمل الله حتى تملوا) هو بفتح الميم في الموضعين، والملال: استثقال الشيء ونفور النفس عنه بعد محبته، وهو محال على الله تعالى باتفاق. قال الإسماعيلي وجماعة من المحققين: إنما أطلق هذا على جهة المقابلة اللفظية مجازا كما قال تعالى: وقال الهروي: معناه لا يقطع عنكم فضله حتى تملوا سؤاله فتزهدوا في الرغبة إليه. وقال غيره: معناه لا يتناهى حقه عليكم في الطاعة حتى يتناهى جهدكم، وهذا كله بناء على أن " حتى " على بابها في انتهاء الغاية وما يترتب عليها من المفهوم. وجنح بعضهم إلى تأويلها فقيل: معناه لا يمل الله إذا مللتم، وهو مستعمل في كلام العرب يقولون: لا أفعل كذا حتى يبيض القار أو حتى يشيب الغراب. ومنه قولهم في البليغ: لا ينقطع حتى ينقطع خصومه، لأنه لو انقطع حين ينقطعون لم يكن له عليهم مزية. وهذا المثال أشبه من الذي قبله لأن شيب الغراب ليس ممكنا عادة، بخلاف الملل من العابد. وقال المازري: قيل إن حتى هنا بمعنى الواو، فيكون التقدير: لا يمل وتملون، فنفى عنه الملل وأثبته لهم. قال: وقيل حتى بمعنى حين. والأول أليق وأجرى على القواعد، وأنه من باب المقابلة اللفظية. ويؤيده ما وقع في بعض طرق حديث عائشة بلفظ: " اكلفوا من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يمل من الثواب حتى تملوا من العمل " لكن في سنده موسى بن عبيدة وهو ضعيف. وقال ابن حبان في صحيحه: هذا من ألفاظ التعارف التي لا يتهيأ للمخاطب أن يعرف القصد مما يخاطب به إلا بها، وهذا رأيه في جميع المتشابه. قوله: (أحب) قال القاضي أبو بكر بن العربي: معنى المحبة من الله تعلق الإرادة بالثواب أي: أكثر الأعمال ثوابا أدومها. قوله: (إليه) أي رواية المستملي وحده " إلى الله " وكذا في رواية عبدة عن هشام عند إسحاق بن راهويه في مسنده، وكذا للمصنف ومسلم من طريق أبي سلمة، ولمسلم عن القاسم كلاهما عن عائشة، وهذا موافق لترجمة الباب. وقال باقي الرواة عن هشام: " وكان أحب الدين إليه " أي: إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصرح به المصنف في الرقاق في رواية مالك عن هشام، (1/ 103) وليس بين الروايتين تخالف، لأن ما كان أحب إلى الله كان أحب إلى رسوله. قال النووي: بدوام القليل تستمر الطاعة بالذكر والمراقبة والإخلاص والإقبال على الله، بخلاف الكثير الشاق حتى ينمو القليل الدائم، بحيث يزيد على الكثير المنقطع أضعافا كثيرة. وقال ابن الجوزي: إنما أحب الدائم لمعنيين: أحدهما: أن التارك للعمل بعد الدخول فيه كالمعرض بعد الوصل، فهو متعرض للذم، ولهذا ورد الوعيد في حق من حفظ آية ثم نسيها، وإن كان قبل حفظها لا يتعين عليه. ثانيهما: أن مداوم الخير ملازم للخدمة، وليس من لازم الباب في كل يوم وقتا ما كمن لازم يوما كاملا ثم انقطع. وزاد المصنف ومسلم من طريق أبي سلمة عن عائشة: " وإن أحب الأعمال إلى الله ما دووم عليه وإن قل". *3*33 وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (وَزِدْنَاهُمْ هُدًى -وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا) وَقَالَ: فَإِذَا تَرَكَ شَيْئًا مِنْ الْكَمَالِ فَهُوَ نَاقِصٌ. الشرح: قوله: (باب زيادة الإيمان ونقصانه) تقدم له قبل بستة عشر بابا " باب تفاضل أهل الإيمان في الأعمال " وأورد فيه حديث أبي سعيد الخدري بمعنى حديث أنس الذي أورده هنا، فتعقب عليه بأنه تكرار، وأجيب عنه: بأن الحديث لما كانت الزيادة والنقصان فيه باعتبار الأعمال أو باعتبار التصديق، ترجم لكل من الاحتمالين، وخص حديث أبي سعيد بالأعمال، لأن سياقه ليس فيه تفاوت بين الموزونات، بخلاف حديث أنس ففيه التفاوت في الإيمان القائم بالقلب من وزن الشعيرة والبرة والذرة. قال ابن بطال: التفاوت في التصديق على قدر العلم والجهل، فمن قل علمه كان تصديقه مثلا بمقدار ذرة، والذي فوقه في العلم تصديقه بمقدار برة، أو شعيرة. إلا أن أصل التصديق الحاصل في قلب كل أحد منهم لا يجوز عليه النقصان، ويجوز عليه الزيادة بزيادة العلم والمعاينة. انتهى. وقد تقدم كلام النووي في أول الكتاب بما يشير إلى هذا المعنى، ووقع الاستدلال في هذه الآية بنظير ما أشار إليه البخاري لسفيان ابن عيينة، أخرجه أبو نعيم في ترجمته من الحلية من طريق عمرو بن عثمان الرقي قال: قيل لابن عيينة: إن قوما يقولون الإيمان كلام. فقال: كان هذا قبل أن تنزل الأحكام، فأمر الناس أن يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا دماءهم وأموالهم، فلما علم الله صدقهم أمرهم بالصلاة ففعلوا، ولو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار. فذكر الأركان إلى أن قال: فلما علم الله ما تتابع عليهم من الفرائض وقبولهم قال: فمن ترك شيئا من ذلك كسلا أو مجونا أدبناه عليه وكان ناقص الإيمان، ومن تركها جاحدا كان كافرا. انتهى ملخصا. وتبعه أبو عبيد في كتاب الإيمان له فذكر نحوه وزاد: أن بعض المخالفين لما ألزم بذلك أجاب: بأن الإيمان ليس هو مجموع الدين، إنما الدين ثلاثة أجزاء: الإيمان جزء، والأعمال جزآن، لأنها فرائض ونوافل. وتعقبه أبو عبيد بأنه خلاف ظاهر القرآن، (1/ 104) وقد قال الله تعالى: فإن قيل: فلم أعاد في هذا الباب الآيتين المذكورتين فيه وقد تقدمتا في أول كتاب الإيمان؟ فالجواب: أنه أعادهما ليوطئ بهما معنى الكمال المذكور في الآية الثالثة. لأن الاستدلال بهما نص في الزيادة، وهو يستلزم النقص. وأما الكمال فليس نصا في الزيادة، بل هو مستلزم للنقص فقط، واستلزامه للنقص يستدعي قبوله الزيادة، ومن ثم قال المصنف: " فإذا ترك شيئا من الكمال فهو ناقص" ولهذه النكتة عدل في التعبير للآية الثالثة عن أسلوب الآيتين حيث قال أولا: " وقول الله " وقال ثانيا: " وقال"، وهذا التقرير يندفع اعتراض من اعترض عليه بأن آية (أكملت لكم) لا دليل فيها على مراده، لأن الإكمال إن كان بمعنى إظهار الحجة على المخالفين أو بمعنى إظهار أهل الدين على المشركين فلا حاجة للمصنف فيه، وإن كان بمعنى إكمال الفرائض لزم عليه أنه كان قبل ذلك ناقصا، وأن من مات من الصحابة قبل نزول الآية كان إيمانه ناقصا، وليس الأمر كذلك لأن الإيمان لم يزل تاما. ويوضح دفع هذا الاعتراض جواب القاضي أبي بكر بن العربي: بأن النقص أمر نسبي، لكن منه ما يترتب عليه الذم ومنه ما لا يترتب. فالأول: ما نقصه بالاختيار كمن علم وظائف الدين ثم تركها عمدا. والثاني: ما نقصه بغير اختيار كمن لم يعلم أو لم يكلف، فهذا لا يذم بل يحمد من جهة أنه كان قلبه مطمئنا، بأنه لو زيد لقبل ولو كلف لعمل، وهذا شأن الصحابة الذين ماتوا قبل نزول الفرائض. ومحصله أن النقص بالنسبة إليهم صوري نسبي، ولهم فيه رتبة الكمال من حيث المعنى. وهذا نظير قول من يقول: إن شرع محمد أكمل من شرع موسى وعيسى، لاشتماله من الأحكام على ما لم يقع في الكتب التي قبله، ومع هذا فشرع موسى في زمانه كان كاملا، وتجدد في شرع عيسى بعده ما تجدد، فالأكملية أمر نسبي كما تقرر. والله أعلم. الحديث: -44- حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ قَالَ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ شَعِيرَةٍ مِنْ خَيْرٍ، وَيَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ بُرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ، وَيَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ." قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: قَالَ أَبَانُ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ حَدَّثَنَا أَنَسٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مِنْ إِيمَانٍ" مَكَانَ " مِنْ خَيْرٍ" الشرح: قوله: (هشام) هو ابن أبي عبد الله الدستوائي، يكنى أبا بكر، وفي طبقته هشام بن حسان لكنه لم يرو هذا الحديث. قوله: (يخرج) بفتح أوله وضم الراء، ويروى بالعكس، ويؤيده قوله في الرواية الأخرى: " أخرجوا". قوله: (من قال لا إله إلا الله وفي قلبه) فيه دليل على اشتراط النطق بالتوحيد، أو المراد بالقول هنا القول النفسي، فالمعنى: من أقر بالتوحيد وصدق، فالإقرار لا بد منه، فلهذا أعاده في كل مرة. والتفاوت يحصل في التصديق على الوجه المتقدم. فإن قيل: فكيف لم يذكر الرسالة؟ فالجواب: أن المراد المجموع، وصار الجزء الأول علما عليه كما تقول: قرأت: قوله: (برة) بضم الموحدة وتشديد الراء المفتوحة وهي القمحة، ومقتضاه أن وزن البرة دون وزن الشعيرة لأنه قدم الشعيرة وتلاها بالبرة ثم الذرة، وكذلك هو في بعض البلاد. فإن قيل: إن السياق بالواو وهي لا ترتب. فالجواب: أن رواية مسلم من هذا الوجه بلفظ: " ثم " وهي للترتيب. قوله: (ذرة) بفتح المعجمة وتشديد الراء المفتوحة، وصحفها شعبة - فيما رواه مسلم من طريق يزيد بن زريع عنه - فقال ذرة بالضم وتخفيف الراء، وكأن الحامل له على ذلك كونها من الحبوب فناسبت الشعيرة والبرة. قال مسلم في روايته: قال يزيد: صحف فيها أبو بسطام، يعني: شعبة. ومعنى الذرة قيل: هي أقل الأشياء الموزونة، وقيل: هي الهباء الذي يظهر في شعاع الشمس مثل رءوس الإبر، وقيل: هي النملة الصغيرة، ويروى عن ابن عباس أنه قال: إذا وضعت كفك في التراب ثم نفضتها فالساقط هو الذر. ويقال: إن أربع ذرات وزن خردلة. وللمصنف في أواخر التوحيد من طريق حميد عن أنس مرفوعا: " أدخل الجنة من كان في قلبه خردلة، ثم من كان في قلبه أدنى شيء " وهذا معنى الذرة. قوله: (قال أبان) هو ابن يزيد العطار، وهذا التعليق وصله الحاكم في كتاب الأربعين له من طريق أبي سلمة. قال: حدثنا أبان بن يزيد.. فذكر الحديث.(1/ 105) وفائدة إيراد المصنف له من جهتين: إحداهما: تصريح قتادة فيه بالتحديث عن أنس. ثانيتهما: تعبيره في المتن بقوله: " من إيمان " بدل قوله: " من خير"، فبين أن المراد بالخير هنا الإيمان. فإن قيل على الأولى: لم لم يكتف بطريق أبان السالمة من التدليس ويسوقها موصولة؟ فالجواب: أن أبان وإن كان مقبولا لكن هشام أتقن منه وأضبط. فجمع المصنف بين المصلحتين. والله الموفق. وسيأتي الكلام على بقية هذا المتن في كتاب التوحيد، حيث ذكر المصنف حديث الشفاعة الطويل من هذا الوجه، ورجال هذا الحديث موصولا ومعلقا كلهم بصريون. الحديث: -45- حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الصَّبَّاحِ سَمِعَ جَعْفَرَ بْنَ عَوْنٍ حَدَّثَنَا أَبُو الْعُمَيْسِ أَخْبَرَنَا قَيْسُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْيَهُودِ قَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، آيَةٌ فِي كِتَابِكُمْ تَقْرَؤونَهَا لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ نَزَلَتْ لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا. قَالَ: أَيُّ آيَةٍ؟ قَالَ عُمَرُ: قَدْ عَرَفْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ وَالْمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَهُوَ قَائِمٌ بِعَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ. الشرح: قوله: (حدثنا الحسن بن الصباح سمع جعفر بن عون) مراده " أنه سمع"، وجرت عادتهم بحذف " أنه " في مثل هذا خطا لا نطقا كقال. قوله: (أن رجلا من اليهود) هذا الرجل هو كعب الأحبار، بين ذلك مسدد في مسنده والطبري في تفسيره والطبراني في الأوسط، كلهم من طريق رجاء بن أبي سلمة عن عبادة بن نسي - بضم النون وفتح المهملة - عن إسحاق بن خرشة عن قبيصة بن ذؤيب عن كعب. وللمصنف في المغازي من طريق الثوري عن قيس بن مسلم، أن ناسا من اليهود. وله في التفسير من هذا الوجه بلفظ: قالت اليهود. فيحمل على أنهم كانوا حين سؤال كعب عن ذلك جماعة، وتكلم كعب على لسانهم. قوله: (لاتخذنا.الخ) أي: لعظمناه وجعلناه عيدا لنا في كل سنة، لعظم ما حصل فيه من إكمال الدين. والعيد فعل من العود، وإنما سمي به لأنه يعود في كل عام. قوله: (نزلت فيه على النبي - صلى الله عليه وسلم -) زاد مسلم عن عبد بن حميد عن جعفر بن عون في هذا الحديث ولفظه: " إني لأعلم اليوم الذي أنزلت فيه، والمكان الذي نزلت فيه"، وزاد عن جعفر بن عون " والساعة التي نزلت فيها على النبي - صلى الله عليه وسلم -". فإن قيل: كيف طابق الجواب السؤال لأنه قال: لاتخذناه عيدا، وأجاب عمر - رضي الله عنه - بمعرفة الوقت والمكان، ولم يقل جعلناه عيدا؟ والجواب عن هذا: أنها نزلت في أخريات نهار عرفة، ويوم العيد إنما يتحقق بأوله، وقد قال الفقهاء: إن رؤية الهلال بعد الزوال للقابلة، قاله هكذا بعض من تقدم، وعندي أن هذه الرواية اكتفى فيها بالإشارة، وإلا فرواية إسحاق عن قبيصة التي قدمناها قد نصت على المراد ولفظه: " نزلت يوم جمعة يوم عرفة وكلاهما بحمد الله لنا عيد" لفظ الطبري والطبراني: " وهما لنا عيدان " وكذا عند الترمذي من حديث ابن عباس: " أن يهوديا سأله عن ذلك فقال: نزلت في يوم عيدين، يوم جمعة ويوم عرفة " فظهر أن الجواب تضمن أنهم اتخذوا ذلك اليوم عيدا وهو يوم الجمعة، واتخذوا يوم عرفة عيدا لأنه ليلة العيد، وهكذا كما جاء في الحديث الآتي في الصيام: " شهرا عيد لا ينقصان: رمضان وذو الحجة" فسمي رمضان عيد لأنه يعقبه العيد. فإن قيل: كيف دلت هذه القصة على ترجمة الباب؟ (1/ 106) أجيب: من جهة أنها بينت أن نزولها كان بعرفة، وكان ذلك في حجة الوداع التي هي آخر عهد البعثة، حين تمت الشريعة وأركانها. والله أعلم. وقد جزم السدي بأنه لم ينزل بعد هذه الآية شيء من الحلال والحرام.
|