الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **
*3* الشرح: قوله: (باب مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب) أي من الموضع الذي كان يقاتل فيه الأحزاب إلى منزله بالمدينة. قوله: (ومخرجه إلى بني قريظة، ومحاصرته إياهم) قد تقدم السبب في ذلك، وهو ما وقع من بني قريظة من نقض عهده وممالأتهم لقريش وغطفان عليه، وتقدم نسب بني قريظة في غزوة بني النضير، وذكر عبد الملك بن يوسف في " كتاب الأنواء " له أنهم كانوا يزعمون أنهم من ذرية شعيب نبي الله عليه السلام وهو بمحتمل وإن شعيبا كان من بني جذام القبيلة المشهورة وهو بعيد جدا، وتقدم أن توجه النبي صلى الله عليه وسلم إليهم كان لسبع بقين من ذي القعدة، وأنه خرج إليهم في ثلاثة آلاف. وذكر ابن سعد أنه كان مع المسلمين ستة وثلاثون فرسا. الحديث: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ لَمَّا رَجَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْخَنْدَقِ وَوَضَعَ السِّلَاحَ وَاغْتَسَلَ أَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ قَدْ وَضَعْتَ السِّلَاحَ وَاللَّهِ مَا وَضَعْنَاهُ فَاخْرُجْ إِلَيْهِمْ قَالَ فَإِلَى أَيْنَ قَالَ هَا هُنَا وَأَشَارَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ الشرح: حديث عائشة رضي الله عنها، ذكره مختصرا وسيأتي مطولا في الباب مع شرحه. الحديث: حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى الْغُبَارِ سَاطِعًا فِي زُقَاقِ بَنِي غَنْمٍ مَوْكِبَ جِبْرِيلَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ حِينَ سَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ الشرح: قوله: (حدثنا موسى) هو ابن إسماعيل التبوذكي. قوله: (كأني أنظر إلى الغبار) يشير إلى أنه يستحضر القصة حتى كأنه ينظر إليها مشخصة له بعد تلك المدة الطويلة. قوله: (ساطعا) أي مرتفعا. قوله: (بني غنم) بفتح المعجمة وسكون النون، كما تقدم شرحه في أوائل بدء الخلق، وتقدم إعراب قوله: " موكب جبريل " ووقع هذا الحديث عند ابن سعد من طريق سليمان بن المغيرة عن حميد بن هلال مطولا لكن ليس فيه أنس، وأوله " كان بين بني قريظة وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد، فلما جاءت الأحزاب نقضوه وظاهروهم. فلما هزم الله عز وجل الأحزاب تحصنوا، فجاء جبريل ومن معه من الملائكة فقال: يا رسول الله انهض إلى بني قريظة، فقال: إن في أصحابي جهدا قال: انهض إليهم فلأضعضعنهم. قال: فأدبر جبريل ومن معه من الملائكة حتى سطع الغبار في زقاق بني غنم من الأنصار". الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ بْنُ أَسْمَاءَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ فَأَدْرَكَ بَعْضُهُمْ الْعَصْرَ فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا نُصَلِّي حَتَّى نَأْتِيَهَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ نُصَلِّي لَمْ يُرِدْ مِنَّا ذَلِكَ فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ الشرح: قوله: (جويرية) بالجيم مصغر هو عم عبد الله الراوي عنه. قوله: (لا يصلين أحد العصر) كذا وقع في جميع النسخ عند البخاري، ووقع في جميع النسخ عند مسلم " الظهر " مع اتفاق البخاري ومسلم على روايته عن شيخ واحد بإسناد واحد، وقد وافق مسلما أبو يعلى وآخرون، وكذلك أخرجه ابن سعد عن أبي عتبان مالك بن إسماعيل عن جويرية بلفظ " الظهر " وابن حبان من طريق أبي عتبان كذلك، ولم أره من رواية جويرية إلا بلفظ " الظهر " غير أن أبا نعيم في " المستخرج " أخرجه من طريق أبي حفص السلمي عن جويرية فقال: " العصر " وأما أصحاب المغازي فاتفقوا على أنها العصر، قال ابن إسحاق: لما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم من الخندق راجعا إلى المدينة أتاه جبريل الظهر فقال: إن الله يأمرك أن تسير إلى بني قريظة، فأمر بلالا فأذن في الناس: من كان سامعا فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة، وكذلك أخرجه الطبراني والبيهقي في " الدلائل " بإسناد صحيح إلى الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن عمه عبيد الله بن كعب " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من طلب الأحزاب وجمع عليه اللأمة واغتسل واستجمر تبدى له جبريل فقال: عذيرك من محارب، فوثب فزعا، فعزم على الناس أن لا يصلوا العصر حتى يأتوا بني قريظة، قال فلبس الناس السلاح فلم يأتوا قريظة حتى غربت الشمس، قال فاختصموا عند غروب الشمس فصلت طائفة العصر وتركتها طائفة وقالت: إنا في عزمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس علينا إثم، فلم يعنف واحدا من الفريقين " وأخرجه الطبراني من هذا الوجه موصولا بذكر كعب بن مالك فيه، وللبيهقي من طريق القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها نحوه مطولا وفيه " فصلت طائفة إيمانا واحتسابا وتركت طائفة إيمانا واحتسابا " وهذا كله يؤيد رواية البخاري في أنها العصر، وقد جمع بعض العلماء بين الروايتين باحتمال أن يكون بعضهم قبل الأمر كان صلى الظهر وبعضهم لم يصلها فقيل لمن لم يصلها لا يصلين أحد الظهر ولمن صلاها لا يصلين أحد العصر. وجمع بعضهم باحتمال أن تكون طائفة منهم راحت بعد طائفة فقيل للطائفة الأولى الظهر وقيل للطائفة التي بعدها العصر، وكلاهما جمع لا بأس به، لكن يبعده اتحاد مخرج الحديث لأنه عند الشيخين كما بيناه بإسناد واحد من مبدئه إلى منتهاه، فيبعد أن يكون كل من رجال إسناده قد حدث به على الوجهين، إذ لو كان كذلك لحمله واحد منهم عن بعض رواته على الوجهين ولم يوجد ذلك. ثم تأكد عندي أن الاختلاف في اللفظ المذكور من حفظ بعض رواته فإن سياق البخاري وحده مخالف لسياق كل من رواه عن عبد الله بن محمد بن أسماء وعن عمه جويرية، ولفظ البخاري " قال النبي صلى الله عليه وسلم لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة، فأدرك بعضهم العصر في الطريق فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها. وقال بعضهم: بل نصلي، لم يرد منا ذلك. فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحدا منهم " ولفظ مسلم وسائر من رواه " نادى فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم انصرف عن الأحزاب أن لا يصلين أحد الظهر إلا في بني قريظة، فتخوف ناس فوت الوقت فصلوا دون بني قريظة. وقال آخرون: لا نصلي إلا حيث أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن فاتنا الوقت، قال فما عنف واحدا من الفريقين " فالذي يظهر من تغاير اللفظين أن عبد الله بن محمد بن أسماء شيخ الشيخين فيه لما حدث به البخاري حدث به على هذا اللفظ، ولما حدث به الباقين حدثهم به على اللفظ الأخير وهو اللفظ الذي حدث به جويرية، بدليل موافقة أبي عتبان له عليه بخلاف اللفظ الذي حدث به البخاري أو أن البخاري كتبه من حفظه ولم يراع اللفظ كما عرف من مذهبه في تجويز ذلك، بخلاف مسلم فإنه يحافظ على اللفظ كثيرا، وإنما لم يجوز عكسه لموافقة من وافق مسلما على لفظه بخلاف البخاري، لكن موافقة أبي حفص السلمي له تؤيد الاحتمال الأول، وهذا كله من حيث حديث ابن عمر، أما بالنظر إلى حديث غيره فالاحتمالان المتقدمان في كونه قال الظهر لطائفة والعصر لطائفة متجه فيحتمل أن تكون رواية الظهر هي التي سمعها ابن عمر ورواية العصر هي التي سمعها كعب بن مالك وعائشة رضي الله عنها والله أعلم. قال السهيلي وغيره. في هذا الحديث من الفقه أنه لا يعاب على من أخذ بظاهر حديث أو آية، ولا على من استنبط من النص معنى يخصصه، وفيه أن كل مختلفين في الفروع من المجتهدين مصيب، قال السهيلي: ولا يستحيل أن يكون الشيء صوابا في حق إنسان وخطأ في حق غيره وإنما المحال أن يحكم في النازلة بحكمين متضادين في حق شخص واحد، قال: والأصل في ذلك أن الحظر والإباحة صفات أحكام لا أعيان قال: فكل مجتهد وافق اجتهاده وجها من التأويل فهو مصيب انتهى. والمشهور أن الجمهور ذهبوا إلى أن المصيب في القطعيات واحد، وخالف الجاحظ والعنبري. وأما ما لا قطع فيه فقال الجمهور أيضا: المصيب واحد، وقد ذكر ذلك الشافعي وقرره، ونقل عن الأشعري أن كل مجتهد مصيب، وأن حكم الله تابع لظن المجتهد. وقال بعض الحنفية وبعض الشافعية. وهو مصيب باجتهاده، وإن لم يصب ما في نفس الأمر فهو مخطئ وله أجر واحد، وسيأتي بسط هذه المسألة في كتاب الأحكام إن شاء الله تعالى. ثم الاستدلال بهذه القصة على أن كل مجتهد مصيب على الإطلاق ليس بواضح. وإنما فيه ترك تعنيف من بذل وسعه واجتهد، فيستفاد منه عدم تأثيمه. وحاصل ما وقع في القصة أن بعض الصحابة حملوا النهي على حقيقته، ولم يبالوا بخروج الوقت ترجيحا للنهي الثاني على النهي الأول وهو ترك تأخير الصلاة عن وقتها، واستدلوا بجواز التأخير لمن اشتغل بأمر الحرب بنظير ما وقع في تلك الأيام بالخندق فقد تقدم حديث جابر المصرح بأنهم صلوا العصر بعدما غربت الشمس وذلك لشغلهم بأمر الحرب، فجوزوا أن يكون ذلك عاما في كل شغل يتعلق بأمر الحرب ولا سيما والزمان زمان التشريع، والبعض الآخر حملوا النهي على غير الحقيقة وأنه كناية عن الحث والاستعجال والإسراع إلى بني قريظة. وقد استدل به الجمهور على عدم تأثيم من اجتهد لأنه صلى الله عليه وسلم لم يعنف أحدا من الطائفتين، فلو كان هناك إثم لعنف من أثم، واستدل به ابن حبان على أن تارك الصلاة حتى يخرج وقتها لا يكفر، وفيه نظر لا يخفى. واستدل به غيره على جواز الصلاة على الدواب في شدة الخوف، وفيه نظر قد أوضحته في باب صلاة الخوف. وعلى أن الذي يتعمد تأخير الصلاة حتى يخرج وقتها يقضيها بعد ذلك لأن الذين لم يصلوا العصر صلوها بعد ذلك كما وقع عند ابن إسحاق أنهم صلوها في وقت العشاء، وعند موسى بن عقبه أنهم صلوها بعد أن غابت الشمس، وكذا في حديث كعب بن مالك، وفيه نظر أيضا لأنهم لم يؤخروها إلا لعذر تأولوه، والنزاع إنما هو فيمن أخر عمدا بغير تأويل، وأغرب ابن المنير فادعى أن الطائفة الذين صلوا العصر لما أدركتهم في الطريق إنما صلوها وهم على الدواب، واستند إلى أن النزول إلى الصلاة ينافي مقصود الإسراع في الوصول، قال: فإن الذين لم يصلوا عمدوا بالدليل الخاص وهو الأمر بالإسراع فترك عموم إيقاع العصر في وقتها إلى أن فات، والذين صلوا جمعوا بين دليلي وجوب الصلاة ووجوب الإسراع فصلوا ركبانا، لأنهم لو صلوا نزولا لكان مضادة لما أمروا به من الإسراع ولا يظن ذلك بهم مع ثقوب أفهامهم انتهى. وفيه نظر لأنه لم يصرح لهم بترك النزول، فلعلهم فهموا أن المراد بأمرهم أن لا يصلوا العصر إلا في بني قريظة المبالغة في الأمر بالإسراع فبادروا إلى امتثال أمره، وخصوا وقت الصلاة من ذلك لما تقرر عندهم من تأكيد أمرها، فلا يمتنع أن ينزلوا فيصلوا ولا يكون في ذلك مضادة لما أمروا به، ودعوى أنهم صلوا ركبانا يحتاج إلى دليل ولم أره صريحا في شيء من طرق هذه القصة، وقد تقدم بحث ابن بطال في ذلك في " باب صلاة الخوف". وقال ابن القيم في الهدى ما حاصله: كل من الفريقين مأجور بقصده، إلا أن من صلى حاز الفضيلتين: امتثال الأمر في الإسراع، وامتثال الأمر في المحافظة على الوقت ولا سيما ما في هذه الصلاة بعينها من الحث على المحافظة عليها وأن من فاتته حبط عمله، وإنما لم يعنف الذين أخروها لقيام عذرهم في التمسك بظاهر الأمر، ولأنهم اجتهدوا فأخروا لامتثالهم الأمر. لكنهم لم يصلوا إلى أن يكون اجتهادهم أصوب من اجتهاد الطائفة الأخرى. وأما من احتج لمن أخر بأن الصلاة حينئذ كانت تؤخر كما في الخندق وكان ذلك بين في قوله صلى الله عليه وسلم لعمر لما قال له ما كدت أصلي العصر حتى كادت الشمس أن تغرب، فقال: والله ما صليتها. لأنه لو كان ذاكرا لها لبادر إليها كما صنع عمر انتهى. وقد تقدم تأخير الصلاة في الخندق في كتاب الصلاة بما يغني عن إعادته. الحديث: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي الْأَسْوَدِ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ ح و حَدَّثَنِي خَلِيفَةُ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ الرَّجُلُ يَجْعَلُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّخَلَاتِ حَتَّى افْتَتَحَ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرَ وَإِنَّ أَهْلِي أَمَرُونِي أَنْ آتِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْأَلَهُ الَّذِي كَانُوا أَعْطَوْهُ أَوْ بَعْضَهُ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَعْطَاهُ أُمَّ أَيْمَنَ فَجَاءَتْ أُمُّ أَيْمَنَ فَجَعَلَتْ الثَّوْبَ فِي عُنُقِي تَقُولُ كَلَّا وَالَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَا يُعْطِيكَهُمْ وَقَدْ أَعْطَانِيهَا أَوْ كَمَا قَالَتْ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَكِ كَذَا وَتَقُولُ كَلَّا وَاللَّهِ حَتَّى أَعْطَاهَا حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ عَشَرَةَ أَمْثَالِهِ أَوْ كَمَا قَالَ الشرح: قوله: (حدثني ابن أبي الأسود) هو عبد الله كما تقدم بيانه في كتاب الخمس، وساق هذا الحديث عنه هناك أتم وتقدم باختصاره في غزوة بني النضير، وتقدم ما يتعلق بالزيادة التي فيه هنا في حديث الزهري عن أنس في كتاب الهبة، وحاصله أن الأنصار كانوا واسوا المهاجرين بنخيلهم لينتفعوا بثمرها، فلما فتح الله النضير ثم قريظة قسم في المهاجرين من غنائمهم فأكثر، وأمرهم برد ما كان للأنصار لاستغنائهم عنه، ولأنهم لم يكونوا ملكوهم رقاب ذلك، وامتنعت أم أيمن من رد ذلك ظنا أنها ملكت الرقبة، فلاطفها النبي صلى الله عليه وسلم لما كان لها عليه من حق الحضانة حتى عوضها عن الذي كان بيدها بما أرضاها. قوله: (وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أعطاه أم أيمن، فجاءت أم أيمن) في هذا السياق حذف يوضحه رواية مسلم من هذا الوجه بلفظ " أعطاه أم أيمن فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأعطانيه. فجاءت أم أيمن". قوله: (والنبي صلى الله عليه وسلم يقول لك كذا) أي يقول لأم أيمن لك كذا، في رواية مسلم " والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: يا أم أيمن اتركيه ولك كذا " وقوله: ولك كذا كناية عن القدر الذي ذكره لها النبي صلى الله عليه وسلم، قال النووي: ظنت أم أيمن أن تلك المنحة مؤبدة فلم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم عليها هذا الظن تطييبا لقلبها لكونها حاضنته وزادها من عنده حتى طاب قلبها. قوله: (أو كما قالت) إشارة إلى شك وقع في اللفظ مع حصول المعنى. قوله: (حتى أعطاها، حسبت أنه قال عشرة أمثاله أو كما قال) في رواية مسلم " حتى أعطاها عشرة أمثاله أو قريبا من عشرة أمثاله " وعرف بهذا أن معنى قوله: " ولك كذا " أي مثل الذي لك مرة، ثم شرع يزيدها مرتين أو ثلاثا إلى أن بلغها عشرة. وفي الحديث مشروعية هبة المنفعة دون الرقبة، وفرط جود النبي صلى الله عليه وسلم وكثرة حلمه وبره، ومنزلة أم أيمن عند النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها وهي والدة أسامة بن زيد، وابنها أيمن أيضا له صحبة واستشهد بحنين، وهو أسن من أسامة، وعاشت أم أيمن بعد النبي صلى الله عليه وسلم قليلا رضي الله عنهم. المناقب عاليا، وكذا في المغازي قبل هذا بقليل. الحديث: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سَعْدٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ نَزَلَ أَهْلُ قُرَيْظَةَ عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى سَعْدٍ فَأَتَى عَلَى حِمَارٍ فَلَمَّا دَنَا مِنْ الْمَسْجِدِ قَالَ لِلْأَنْصَارِ قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ أَوْ خَيْرِكُمْ فَقَالَ هَؤُلَاءِ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِكَ فَقَالَ تَقْتُلُ مُقَاتِلَتَهُمْ وَتَسْبِي ذَرَارِيَّهُمْ قَالَ قَضَيْتَ بِحُكْمِ اللَّهِ وَرُبَّمَا قَالَ بِحُكْمِ الْمَلِكِ الشرح: قوله: (عن سعد بن إبراهيم عن أبي أمامة بن سهل) هكذا رواه شعبة عن سعد بن إبراهيم، ورواه محمد بن صالح بن دينار التمار المدني عن سعد بن إبراهيم فقال: " عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه " أخرجه النسائي، ورواية شعبة أصح، ويحتمل أن يكون لسعد بن إبراهيم فيه إسنادان. قوله: (نزل أهل قريظة على حكم سعد بن معاذ) سيأتي بيان ذلك في الحديث الذي يليه. وفي رواية محمد بن صالح المذكورة " حكم أن يقتل منهم كل من جرت عليه الموسى " وفيه زيادة بيان الفرق بين المقاتلة والذرية. قوله: (فلما دنا من المسجد) قيل: المراد المسجد الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم أعده للصلاة فيه في ديار بني قريظة أيام حصارهم، وليس المراد به المسجد النبوي بالمدينة، لكن كلام ابن إسحاق يدل على أنه كان مقيما في مسجد المدينة حتى بعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحكم في بني قريظة فإنه قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل سعدا في خيمة رفيدة عند مسجده، وكانت امرأة تداوي الجرحى فقال: اجعلوه في خيمتها لأعوده من قريب، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة وحاصرهم وسأله الأنصار أن ينزلوا على حكم سعد أرسل إليه فحملوه على حمار ووطؤوا له وكان جسيما " فدل قوله: " فلما خرج إلى بني قريظة " أن سعدا كان في مسجد المدينة. قوله: (قوموا إلى سيدكم) يأتي البحث فيه في كتاب الاستئذان إن شاء الله تعالى، وفيه البيان عما اختلف فيه هل المخاطب بذلك الأنصار خاصة أم هم وغيرهم، ووقع في مسند عائشة رضي الله عنها من مسند أحمد من طريق علقمة بن وقاص عنها في أثناء حديث طويل " قال أبو سعيد: فلما طلع قال النبي صلى الله عليه وسلم: قوموا إلى سيدكم فأنزلوه، فقال عمر: السيد هو الله". قوله: (حكمت فيه بحكم الله، وربما قال بحكم الملك) هو بكسر اللام، والشك فيه من أحد رواته أي اللفظين قال. وفي رواية محمد بن صالح المذكورة " لقد حكمت فيهم اليوم بحكم الله الذي حكم به من فوق سبع سماوات " وفي حديث جابر عند ابن عائذ " فقال: احكم فيهم يا سعد، قال: الله ورسوله أحق بالحكم. قال: قد أمرك الله تعالى أن تحكم فيهم " وفي رواية ابن إسحاق من مرسل علقمة بن وقاص " لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة " وأرقعة بالقاف جمع رقيع وهو من أسماء السماء، قيل: سميت بذلك لأنها رقعت بالنجوم، وهذا كله يدفع ما وقع عند الكرماني بحكم الملك بفتح اللام وفسره بجبريل، لأنه الذي ينزل بالأحكام، قال السهيلي: قوله: " من فوق سبع سماوات " معناه أن الحكم نزل من فوق، قال ومثله قول زينب بنت جحش " زوجني الله من نبيه من فوق سبع سموات " أي نزل تزويجها من فوق، قال ولا يستحيل وصفه تعالى بالفوق على المعنى الذي يليق بجلاله لا على المعنى الذي يسبق إلى الوهم من التحديد الذي يفضي إلى التشبيه، وبقية الكلام على هذا الحديث في الذي بعده. الحديث: حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ أُصِيبَ سَعْدٌ يَوْمَ الْخَنْدَقِ رَمَاهُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ يُقَالُ لَهُ حِبَّانُ بْنُ الْعَرِقَةِ وَهُوَ حِبَّانُ بْنُ قَيْسٍ مِنْ بَنِي مَعِيصِ بْنِ عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ رَمَاهُ فِي الْأَكْحَلِ فَضَرَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْمَةً فِي الْمَسْجِدِ لِيَعُودَهُ مِنْ قَرِيبٍ فَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْخَنْدَقِ وَضَعَ السِّلَاحَ وَاغْتَسَلَ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام وَهُوَ يَنْفُضُ رَأْسَهُ مِنْ الْغُبَارِ فَقَالَ قَدْ وَضَعْتَ السِّلَاحَ وَاللَّهِ مَا وَضَعْتُهُ اخْرُجْ إِلَيْهِمْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَيْنَ فَأَشَارَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ فَأَتَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلُوا عَلَى حُكْمِهِ فَرَدَّ الْحُكْمَ إِلَى سَعْدٍ قَالَ فَإِنِّي أَحْكُمُ فِيهِمْ أَنْ تُقْتَلَ الْمُقَاتِلَةُ وَأَنْ تُسْبَى النِّسَاءُ وَالذُّرِّيَّةُ وَأَنْ تُقْسَمَ أَمْوَالُهُمْ قَالَ هِشَامٌ فَأَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ سَعْدًا قَالَ اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أُجَاهِدَهُمْ فِيكَ مِنْ قَوْمٍ كَذَّبُوا رَسُولَكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْرَجُوهُ اللَّهُمَّ فَإِنِّي أَظُنُّ أَنَّكَ قَدْ وَضَعْتَ الْحَرْبَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فَإِنْ كَانَ بَقِيَ مِنْ حَرْبِ قُرَيْشٍ شَيْءٌ فَأَبْقِنِي لَهُ حَتَّى أُجَاهِدَهُمْ فِيكَ وَإِنْ كُنْتَ وَضَعْتَ الْحَرْبَ فَافْجُرْهَا وَاجْعَلْ مَوْتَتِي فِيهَا فَانْفَجَرَتْ مِنْ لَبَّتِهِ فَلَمْ يَرُعْهُمْ وَفِي الْمَسْجِدِ خَيْمَةٌ مِنْ بَنِي غِفَارٍ إِلَّا الدَّمُ يَسِيلُ إِلَيْهِمْ فَقَالُوا يَا أَهْلَ الْخَيْمَةِ مَا هَذَا الَّذِي يَأْتِينَا مِنْ قِبَلِكُمْ فَإِذَا سَعْدٌ يَغْذُو جُرْحُهُ دَمًا فَمَاتَ مِنْهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الشرح: قوله: (أصيب سعد) في الرواية التي في المناقب " سعد بن معاذ". قوله: (حبان) بكسر المهملة وتشديد الموحدة (ابن العرقة) بفتح المهملة وكسر الراء ثم قاف. قوله: (وهو حبان بن قيس) يعني أن العرقة أمه وهي بنت سعيد بن سعد بن سهم. قوله: (من بني معيص) بفتح الميم وكسر المهملة ثم تحتانية ساكنة ثم مهملة، وهو حبان بن قيس ويقال ابن أبي قيس بن علقمة بن عبد مناف. قوله: (رماه في الأكحل) بفتح الهمزة والمهملة بينهما كاف ساكنة وهو عرق في وسط الذراع، قال الخليل: هو عرق الحياة ويقال إن في كل عضو منه شعبة فهو في اليد الأكحل وفي الظهر الأبهر وفي الفخذ النسا إذا قطع لم يرقأ الدم. قوله: (خيمة في المسجد) تقدم بيانها في الذي قبله (فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من الخندق وضع السلاح واغتسل فأتاه جبريل) هذا السياق يبين أن الواو زائدة في الطريق التي في الجهاد حيث وقع فيه بلفظ " لما رجع يوم الخندق ووضع السلاح فأتاه جبريل " وهو أولى من دعوى القرطبي أن الفاء زائدة قال: وكأنها زيدت كما زيدت الواو في جواب لما، انتهى. ودعوى زيادة الواو في قوله: " وضع " أولى من دعوى زيادة الفاء لكثرة مجيء الواو زائدة، ووقع في أول هذه الغزاة " لما رجع من الخندق ووضع السلاح واغتسل أتاه جبريل " فمن هنا ادعى القرطبي أن الفاء زائدة، ووقع عند الطبراني والبيهقي من طريق القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: " سلم علينا رجل ونحن في البيت، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فزعا، فقمت في أثره فإذا بدحية الكلبي فقال: هذا جبريل " وفي حديث علقمة " يأمرني أن أذهب إلى بني قريظة " وذلك لما رجع من الخندق، قالت: فكأني برسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح الغبار عن وجه جبريل، وفي حديث علقمة بن وقاص عن عائشة عند أحمد والطبراني " فجاءه جبريل وإن على ثناياه ليقع الغبار، وفي مرسل يزيد بن الأصم عند ابن سعد " فقال له جبريل: عفا الله عنك، وضعت السلاح ولم تضعه ملائكة الله " وفي رواية حماد بن سلمة عن هشام بن عروة في حديث الباب " قالت عائشة: لقد رأيته من خلل الباب قد عصب التراب رأسه". وفي رواية جابر عند ابن عائذ " فقال: قم فشد عليه سلاحك، فوالله لأدقنهم دق البيض على الصفا". قوله: (فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي فحاصرهم، وروى ابن عائذ من مرسل قتادة قال: " بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديا ينادي، فنادى: يا خيل الله اركبي " وفي رواية أبي الأسود عن عروة عند الحاكم والبيهقي " وبعث عليا على المقدمة ودفع إليه اللواء، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أثره " وعند موسى بن عقبة نحوه وزاد " وحاصرهم بضع عشرة ليلة " وعند ابن سعد " خمس عشرة " وفي حديث علقمة بن وقاص المذكور " خمسا وعشرين " ومثلها عند ابن إسحاق عن أبيه عن معبد بن كعب قال: " حاصرهم خمسا وعشرين ليلة حتى أجهدهم الحصار وقذف في قلوبهم الرعب، فعرض عليهم رئيسهم كعب بن أسد أن يؤمنوا، أو يقتلوا نساءهم وأبناءهم ويخرجوا مستقتلين، أو يبيتوا المسلمين ليلة السبت. فقالوا: لا نؤمن، ولا نستحل ليلة السبت، وأي عيش لنا بعد أبنائنا ونسائنا؟ فأرسلوا إلى أبي لبابة بن عبد المنذر وكانوا حلفاءه فاستشاروه في النزول على حكم النبي صلى الله عليه وسلم فأشار إلى حلقه - يعني الذبح - ثم ندم، فتوجه إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فارتبط به حتى تاب الله عليه". قوله: (فنزلوا على حكمه، فرد الحكم إلى سعد) كأنهم أذعنوا للنزول على حكمه صلى الله عليه وسلم، فلما سأله الأنصار فيهم رد الحكم إلى سعد. ووقع بيان ذلك عند ابن إسحاق قال: " لما اشتد بهم الحصار أذعنوا إلى أن ينزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتواثبت الأوس فقالوا: يا رسول الله قد فعلت في موالي الخزرج - أي بني قينقاع، ما علمت. فقال: ألا ترضون أي يحكم فيهم رجل منكم؟ قالوا: بلى. قال: فذلك إلى سعد بن معاذ " وفي كثير من السير أنهم نزلوا على حكم سعد، ويجمع بأنهم نزلوا على حكمه قبل أن يحكم فيه سعد. وفي رواية علقمة بن وقاص المذكورة " فلما اشتد بهم البلاء قيل لهم انزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما استشاروا أبا لبابة قال ننزل على حكم سعد بن معاذ " ونحوه في حديث جابر عند ابن عائذ، فحصل في سبب رد الحكم إلى سعد بن معاذ أمران: أحدهما: سؤال الأوس، والآخر: إشارة أبي لبابة، ويحتمل أن تكون الإشارة إثر توقفهم، ثم لما اشتد الأمر بهم في الحصار عرفوا سؤال الأوس فأذعنوا إلى النزول على حكم النبي صلى الله عليه وسلم؛ وأيقنوا بأنه يرد الحكم إلى سعد. وفي رواية علي بن مسهر عن هشام بن عروة عند مسلم " فرد الحكم فيهم إلى سعد وكانوا حلفاءه". قوله: (فإني أحكم فيهم) أي في هذا الأمر. وفي رواية النسفي " وإني أحكم فيهم". قوله: (أن تقتل المقاتلة) قد تقدم في الذي قبله بيان ذلك، وذكر ابن إسحاق أنهم حبسوا في دار بنت الحارث. وفي رواية أبي الأسود عن عروة في دار أسامة بن زيد، ويجمع بينهما بأنهم جعلوا في بيتين. ووقع في حديث جابر عند ابن عائذ التصريح بأنهم جعلوا في بيتين، قال ابن إسحاق: فخندقوا لهم خنادق فضربت أعناقهم فجرى الدم في الخنادق، وقسم أموالهم ونساءهم وأبناءهم على المسلمين، وأسهم للخيل فكان أول يوم وقعت فيه السهمان لها. وعند ابن سعد من مرسل حميد بن هلال " أن سعد بن معاذ حكم أيضا أن تكون دارهم للمهاجرين دون الأنصار، فلامه فقال: إني أحببت أن تستغنوا عن دورهم " واختلف في عدتهم: فعند ابن إسحاق أنهم كانوا ستمائة وبه جزم أبو عمرو في ترجمة سعد بن معاذ، وعند ابن عائذ من مرسل قتادة " كانوا سبعمائة " وقال السهيلي: المكثر يقول إنهم ما بين الثمانمائة إلى التسعمائة. وفي حديث جابر عند الترمذي والنسائي وابن حبان بإسناد صحيح أنهم كانوا أربعمائة مقاتل، فيحتمل في طريق الجمع أن يقال إن الباقين كانوا أتباعا، وقد حكى أبو إسحاق أنه قيل: إنهم كانوا تسعمائة. قوله: (قال هشام فأخبرني أبي) هو موصول بالإسناد المذكور أولا، وقد تقدم هذا القدر من هذا الحديث موصولا من طريق أخرى عن هشام في أوائل الهجرة. وفي رواية عبد الله بن نمير عن هشام عند مسلم قال: " قال سعد وتحجر كلمه للبرء: اللهم إنك تعلم إلخ " أي أنه دعا بذلك لما كاد جرحه أن يبرأ، ومعنى تحجر أي يبس. قوله: (فإني أظن أنك قد وضعت الحرب بيننا وبينهم) قال بعض الشراح: ولم يصب في هذا الظن لما وقع من الحروب في الغزوات بعد ذلك، قال فيحمل على أنه دعا بذلك فلم تقع الإجابة وادخر له ما هو أفضل من ذلك كما ثبت في الحديث الآخر في دعاء المؤمن، أو أن سعدا أراد بوضع الحرب أي في تلك الغزوة الخاصة لا فيما بعدها. وذكر ابن التين عن الداودي أن الضمير لقريظة، قال ابن التين: وهو بعيد جدا لنصه على قريش. قلت: وقد تقدم الرد عليه أيضا في أول الهجرة في الكلام على هذا الحديث، والذي يظهر لي أن ظن سعد كان مصيبا. وأن دعاءه في هذه القصة كان مجابا، وذلك أنه لم يقع بين المسلمين وبين قريش من بعد وقعة الخندق حرب يكون ابتداء القصد فيها من المشركين، فإنه صلى الله عليه وسلم تجهز إلى العمرة فصدوه عن دخول مكة وكاد الحرب أن يقع بينهم فلم يقع كما قال تعالى فعلى هذا فالمراد بقوله: " أظن أنك وضعت الحرب " أي أن يقصدونا محاربين، وهو كقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الماضي قريبا في أواخر غزوة الخندق " إلا أن نغزوهم ولا يغزوننا " قوله: (فأبقني له) أي للحرب، في رواية الكشميهني " فأبقني لهم". قوله: (فافجرها) أي الجراحة. قوله: (فانفجرت من لبته) بفتح اللام وتشديد الموحدة هي موضع القلادة من الصدر، وهي رواية مسلم والإسماعيلي. وفي رواية الكشميهني " من ليلته " وهو تصحيف. فقد رواه حماد بن سلمة عن هشام فقال في روايته " فإذا لبته قد انفجرت من كلمه " أي من جرحه، أخرجه ابن خزيمة. وكان موضع الجرح ورم حتى اتصل الورم إلى صدره فانفجر من ثم. قوله: (فانفجرت) بين سبب ذلك في مرسل حميد بن هلال عند ابن سعد ولفظه " أنه مرت به وهو مضطجع فأصاب ظلفها موضع الجرح فانفجر حتى مات". قوله: (فلم يرعهم) بالمهملة أي أهل المسجد، أي لم يفزعهم. قوله: (وفي المسجد خيمة) هي جملة حالية. قوله: (خيمة من بني غفار) تقدم أن ابن إسحاق ذكر أن الخيمة كانت لرفيدة الأسلمية، فيحتمل أن تكون كان لها زوج من بني غفار. قوله: (يغذو) بغين وذال معجمتين أي يسيل. قوله: (فمات منها) في رواية ابن خزيمة في آخر هذه القصة " فإذا الدم له هدير " ووقع في رواية علقمة بن وقاص عن عائشة عند أحمد " فانفجر كلمه وكان قد برئ إلا مثل الخرص " وهو بضم المعجمة وسكون الراء ثم مهملة، وهو من حلي الأذن. ولمسلم من طريق عبدة بن سليمان عن هشام بن عروة " فما زال الدم يسيل حتى مات". قال فذلك حين يقول الشاعر: ألا يا سعد سعد بني معاذ لما فعلت قريظة والنضير لعمرك إن سعد بني معاذ غداة تحملوا لهم الصبور تركتم قدركم لا شيء فيها وقدر القوم حامية تفور وقد قال الكريم أبو حباث أقيموا قينقاع ولا تسيروا وقد كانوا ببلدتهم ثفالا كما ثفلت بميطان الصخور وقوله: " أبو حباث " بضم المهملة وتخفيف الموحدة وآخرها مثلثة هو عبد الله بن أبي رئيس الخزرج، وكان شفع في بني قينقاع فوهبهم النبي صلى الله عليه وسلم له وكانوا حلفاءه، وكانت قريظة حلفاء سعد بن معاذ فحكم بقتلهم فقال هذا الشاعر يوبخه بذلك. وقوله: " تركتم قدركم " أراد به ضرب المثل، وميطان موضع في بلاد مزينة من الحجاز كثير الأوعار، وأشار بذلك إلى أن بني قريظة كانوا في بلادهم راسخين من كثرة ما لهم من القوة والنجدة والمال، كما رسخت الصخور بتلك البلدة. وذكر ابن إسحاق أن هذه الأبيات لجبل بن جوال الثعلبي وهو بفتح الجيم والموحدة وأبوه بالجيم وتشديد الواو والثعلبي بمثلثة ومهملة ثم موحدة، ووقع عنده بدل قوله: " وقد قال الكريم " البيت: وأما الخزرجي أبو حباث فقال لقينقاع لا تسيروا وزاد فيها أبياتا منها: أقيموا يا سراة الأوس فيها كأنكم من المخزاة غور وأراد بذلك توبيخ سعد بن معاذ لأنه رئيس الأوس، وكان جبل بن جوال حينئذ كافرا. ولعل قصيدة كعب بن مالك التي قدمناها في غزوة بني النضير كانت جوابا لجبل، والله أعلم. وذكر ابن إسحاق لحسان بن ثابت قصيدة على هذا الوزن والقافية يقول فيها: تفاقد معشر نصروا قريشا وليس لهم ببلدتهم نصير وهم أوتوا الكتاب فضيعوه فهم عمي عن التوراة بور وهي من جملة قصيدته التي تقدم بعضها في غزوة بني النضير، وأجابه أبو سفيان بن الحارث عنها. وفي قصة بني قريظة من الفوائد وخبر سعد بن معاذ جواز تمني الشهادة، وهو مخصوص من عموم النهي عن تمني الموت. وفيها تحكيم الأفضل من هو مفضول. وفيها جواز الاجتهاد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وهي خلافية في أصول الفقه، والمختار الجواز سواء كان بحضور النبي صلى الله عليه وسلم أم لا، وإنما استبعد المانع وقوع الاعتماد على الظن مع إمكان القطع، ولا يضر ذلك، لأنه بالتقرير يصير قطعيا، وقد ثبت وقوع ذلك بحضرته صلى الله عليه وسلم كما في هذه القصة وقصة أبي بكر الصديق رضي الله عنه في قتيل أبي قتادة كما سيأتي في غزوة حنين وغير ذلك، وسيأتي مزيد له في كتاب الاعتصام إن شاء الله تعالى. الحديث: حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي عَدِيٌّ أَنَّهُ سَمِعَ الْبَرَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَسَّانَ اهْجُهُمْ أَوْ هَاجِهِمْ وَجِبْرِيلُ مَعَكَ وَزَادَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنْ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ قُرَيْظَةَ لِحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ اهْجُ الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّ جِبْرِيلَ مَعَكَ الشرح: قوله: (عدي) هو ابن ثابت. قوله: (اهجهم أو هاجهم) بالشك، والثاني أخص من الأول. قوله: (وزاد إبراهيم بن طهمان) وصله النسائي وإسناده على شرط البخاري، وأبو إسحاق هو الشيباني واسمه سليمان، وزيادته في هذا الحديث معينة أن الأمر له بذلك وقع يوم قريظة، ووقع في حديث جابر رضي الله عنه عند ابن مردويه " لما كان يوم الأحزاب وردهم الله بغيظهم قال النبي صلى الله عليه وسلم: من يحمي أعراض المسلمين؟ فقام كعب وابن رواحة وحسان، فقال لحسان: اهجهم أنت فإنه سيعينك عليهم روح القدس " فهذا يؤيد زيادة الشيباني المذكورة، فإن يوم بني قريظة مسبب عن يوم الأحزاب والله أعلم. ولا مانع أن يتعدد وقوع الأمر له بذلك. وأورد ابن إسحاق لحسان في شأن بني قريظة عدة قصائد وقد تقدمت الإشارة إلى شيء من ذلك في الحديث الذي قبله.
|