الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: عيون الأنباء في طبقات الأطباء (نسخة منقحة)
.موفق الدين بن المطران: هو الحكيم الإمام العالم الفاضل موفق الدين أبو نصر أسعد ابن أبي الفتح إلياس بن جرجس المطران، كان سيد الحكماء وأوحد العلماء، وافر الآلاء، جزيل النعماء، أمير أهل زمانه في علم صناعة الطب وعملها، وأكثرهم تحصيلًا لأصولها وجملها، جيد المداواة لطيف المداراة، عارفًا بالعلوم الحكمية، متعينًا في الفنون الأدبية، وقرأ علم النحو واللغة والأدب على الشيخ الإمام تاج الدين أبي اليمن زيد بن الحسن الكندي، وتميز في ذلك، وكان مولد موفق الدين بن المطران ومنشؤه بدمشق، وكان أبوه أيضًا طبيبًا متقدمًا جوالًا في البلاد لطلب الفضيلة، وسافر إلي بلاد الروم لإتقان الأصول التي يعتمد عليها في علم النصارى ومذاهبهم، ثم عدل بعد ذلك إلي العراق واجتمع بأمين الدولة بن التلميذ، واشتغل عليه بصناعة الطب مدة، وقرأ عليه كثيرًا من الكتب الطبية، صار موسومًا بالطب، ثم إنه عاد إلي دمشق وبقي طبيبًا بها إلى حين وفاته، وكان موفق الدين بن المطران حاد الذهن فصيح اللسان كثير الاشتغال، وله تصانيف تدل على فضله ونبله في صناعة الطب وفي غيرها من العلوم واشتغل بالطب على مهذب الدين بن النقاش، وكان ابن المطران جميل الصورة، كثير التخصص محبًا للبس الفاخر المثمن، وخدم بصناعة الطب الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، وحظي في أيامه، وكان رفيع المنزلة عنده عظيم الجاه، وكان يتحجب عنده ويقضي أشغال الناس، ونال من جهة المال مبلغًا كثيراً، وكان صلاح الدين، رحمه اللَّه، كريم النفس كثير العطاء لمن هو في خدمته، ولمن يقصده من سائر الناس، حتى أنه مات ولم يوجد في خزانته من المال شيء، وكان له حسن اعتقاد في ابن المطران لا يفارقه في سفر أو حضر، ولهذا أنه غمره بإحسانه، وأترفه بامتنانه، وكان يغلب على ابن المطران الزهو بنفسه والتكبر حتى على الملوك، وكان صلاح الدين قد عرف ذلك منه ويحترمه ويبجله لما قد تحققه من علمه وأسلم ابن المطران في أيام صلاح الدين.وحدثني بعض من كان يعرف ابن المطران فيما يتعلق بعجبه وإدلاله على صلاح الدين، أنه كان معه في بعض غزواته، وكانت عادة صلاح الدين في وقت حروبه أن يصب له خيمة حمراء، وكذلك دهليزها وشقتها، وإن صلاح الدين كان يومًا راكبًا وإذا به قد نظر إلى خيمة حمراء اللون، وكذلك شقتها ومستراحها فبقي متأملًا لها، وسأل لمن هي؟ فأخبر أنها لابن المطران الطبيب، فقال واللَّه لقد عرفت أن هذا من حماقة ابن المطران، وضحك، ثم قال ما بنا إلا يعبر أحد من الرسل فيعتقد أنها لأحد الملوك، وإذا كان لا بد فيغير مستراحها، وأمر به أن يرمي ولما رمي صعب ذلك على ابن المطران وبقي يومين لم يقرب الخدمة فاسترضاه السلطان ووهب له مالاً، وحدثني أيضًا من ذلك أنه كان في خدمة صلاح الدين طبيب يقال له أبو الفرج النصراني، وبقي في خدمته مدة وله تردد إلي دوره، فقال يومًا للسلطان أن عنده بنات، وهو يحتاج إلى تجهيزهن، وطلب منه أن يطلق له ما يستعين به من ذلك فقال له صلاح الدين أكتب في ورقة جميع ما تحتاج إليه في تجهيزهن، وجيب الورقة، فمضى أبو الفرج، وكتب في ورقة من المصاغ والقماش والآلات وغير ذلك ما يكون بنحو ثلاثين ألف درهم، ولما قرأ صلاح الدين الورقة أمر الخزندار بأن يشتري لأبي الفرج جميع ما تضمنته، ولا يخل بشيء منه، ولما بلغ ذلك ابن المطران قصر في ملازمته الخدمة، وتبين لصلاح الدين منه تغير في وجهه فعرف السبب، ثم أمر الخزندار بأن يحضر جميع ما وصل إلى أبي الفرج الطبيب مما اشتراه له، ويحسب جملة ثمنه، ومهما بلغ من المال يدفع إلي ابن المطران مثله سواء ففعل ذلك، وحدثني أبو الظاهر إسماعيل، وكان يعرف ابن المطران ويأنس به؛ أن العجب والتكبر الذي كان يغلب على ابن المطران، لم يكن على شيء منه في أوقات طلبه العلم، وقال أنه كان يراه في الأوقات التي يشتغل فيها بالنحو في الجامع يأتي إذا تفرغ من دار السلطان، وهو في مركبة حفلة، وحواليه جماعة كثيرة من المماليك الترك، وغيرهم، فإذا قرب من الجامع ترجل، وأخذ الكتاب الذي يشتغل فيه في يده أو تحت إبطه، ولم يترك أحدًا ما يصحبه، ولا يزال ماشيًا والكتاب معه إلى حلقة الشيخ الذي يقرأ عليه فيسلم ويقعد بين الجماعة، وهو بكيس ولطف إلى أن يفرغ من القراءة ويعود إلى ما كان عليه.وقال الصاحب جمال الدين القاضي الأكرم أبو الحسن علي بن يوسف بن إبراهيم القفطي أن الحكيم موفق الدين أسعد بن المطران لما أسلم وكان نصرانياً، حسن إسلامه، وزوجه الملك الناصر صلاح الدين، قدس اللَّه روحه، إحدى حظايا داره واسمها جوزة، وكانت جوزة هذه جارية خوندخاتون بنت معين الدين وزوجة صلاح الدين، وكانت مدبرة دارها والمتقدمة عندها من جواريها وأعطتها الكثير من حليها وذخائرها، ومولتها وخولتها فرتبت أموره وهذبت أحواله، وحسنت زيه، وجملت ظاهره وباطنه، وصار له ذكر سام في الدولة وحصلت له أموال جمة من أمراء الدولة في حال مباشرته لهم في أمراضهم، وتنافسوا في العطاء له، وترقت حاله عند سلطان إلى أن كاد يكون وزيراً، وكان كثير الاشتمال على أهل هذه الصناعة الطبية والحكمية، يقدمهم ويتوسط في أرزاقهم، قال ولقد أخبرني الفقيه إسماعيل بن صالح بن البناء القفطي، خطيب عيذاب قال لما فتح السلطان الساحل ارتحلت عن عيذاب لزيارة البيت المقدس، فلما حصلت بالشام رأيت جبالًا مشجرة بعدد براري عيذاب المصحرة فاشتقت إلى المقام بالشام، وتحيلت في الرزق به، فقصدت الفاضل عبد الرحيم وسألته كتابًا إلى السلطان في توليتي خطابة قلعة الكرك، فكتب لي كتابًا هو مذكور في ترسله، وهو حسن التلطف، قال فأحضرته إلى دمشق والسلطان بها فأرشدت في عرضه إلى ابن المطران، فقصدته في داره ودخلت عليه بإذنه فرأيته حسن الخلقة والخلق، لطيف الاستماع والجواب، ورأيت داره وهي على غاية من الحسن في العمارة والتجمل، ورأيت أنابيب بركته التي يبرز منها الماء وهي ذهب على غاية ما يكون من حسن الصنعة، ورأيت له غلامًا يتحجين يديه اسمه عمر في غاية جمال الصورة، ثم رأيت من الفرش الطرح، وشممت من الرائحة لطيبة ما هالني، وسألته الحاجة التي قصدته فيها، فأنعم بإنجازها، وقال الصاحب جمال الدين ورأيت زوجته وابن عمر حاجبه، وقد حضرا بعد سنة ستمائة إلى حلب على رقة من الحال، ونزلا في الكنف الملكي الظاهري، سقى اللَّه عهده، وأقيما به بصدقة قررت لهما، وماتت هي بعد مدة ولا أعلم بعدها لولد عمر خبراً، وحدثني الشيخ موفق الدين بن البوري الكاتب النصراني قال لما فتح الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب الكرك، أتى دمشق الحكيم موفق الدين يعقوب بن سقلاب النصراني، وهو شاب على رأسه كوفية وتخفيفة صغيرة، وهو لابس جوخة ملوطة زرقاء، زي أطباء الفرنج، وقصد الحكيم موفق الدين بن المطران، وصار يخدمه ويتردد إليه لعله ينفعه، فقال له هذا الزي الذي أنت عليه ما يمشي لك به حال في الطب في هذه الدولة بين المسلمين، وإنما المصلحة أن تغير زيك، وتلبس عادة الأطباء في بلادنا، ثم أخرج له جبة واسعة عنابية وبقيارًا مكملًا وأمره أن يلبسهما، ثم قال له أن هاهنا أميرًا كبيرًا يقال له ميمون القصري وهو مريض، وأنا أتردد إليه وأداويه، فتعال معي حتى تكون تعالجه، فلما راح معه قال للأمير هذا طبيب فاضل، وأني أعتمد عليه في صناعة الطب، وأثق به فيكون يلزمك ويباشر أحوالك في كل وقت، ويقيم عندك إلى أن تبرأ إن شاء اللّه تعالى، فامتثل قوله وضار الحكيم يعقوب ملازمًا له ليلًا ونهارًا إلى أن تعافى فأعطاه خمسمائة دنيار، فلما قبضها حملها إلى ابن المطران وقال له يا مولانا هذا ما أعطاني، وقد أحضرته إلى مولانا، فقال له خذه فأنا ما قصدت إلا نفعك، فأخذه ودعا له.وحدثني الحكيم عز الدين أبو إسحق إبراهيم بن محمد بن السويد قال كان ابن المطران جالسًا على باب داره، وقد أتاه شاب من أهل نعمة، وعليه زي الجندية، وأعطاه ورقة فيها اثنا عشر بيتًا من الشعر يمتدحه بها، فلما قرأها ابن المطران قال أنت شاعر؟ فقال لا، ولكني من أهل البيوت، وقد نزل الدهر بي، وقد أتيت المولى وجعلت قيادي بيدك لتدبري مهما حسن فيه رأيك العالي، فدخل إلى داره واستدعى الشاب، وقدم له طعامًا فأكل وقال له أيش تقول قد مرض عز الدين فرخشاه، صاحب صرخد، وهذا المرض يعتاده في كل حين فإني رأيت أن أسيرك إليه تعالجه فهو يحصل لك من جهته شيء جيد، قال له يا مولاي، من أين لي معرفة بصناعة الطب أو دربة؟ فقال ما من جهته شيء جيد، قال له يا مولاي، من أين لي معرفة بصناعة الطب أو دربه؟ فقال ما عليك أنا أكتب معك دستورًا تمشي عليه، ولا تخرج عنه، فقال الشاب السمع والطاعة، فلما خرج الشاب لحقه الغلام ببقجة فيها عدة قطع قماش مخيط، وفرس بسرج ولجام فقال له خذ هذا القماش ألبسه، وهذا الفرس إركبه، وتجهز إلى صرخد، فقال له يا سيدي، إنه لم يكن لي مكان أبيت الفرس، فقال إتركها عندنا، وشد عليها بكرة النهار، وسافر على خيرة اللَّه تعالى، فلما كان بكرة النهار حضر الشاب إلي باب دار ابن المطران فأعطاه كتابًا قد كتبه على يده إلى عز الدين فرخشاه بكرة النهار حضر الشاب إلى باب دار ابن المطران فأعطاه كتابًا قد كتبه على يده إلى عز الدين فرخشاه صاحب صرخد، وأعطاه تذكرة بما يعتمده في مداواته، وأعطاه مائتي درهم، وقال إتركها عن بيتك نفقة، وسافر الشاب إلى صرخد وداوى عز الدين فرخشاه بما أمره به فبرئ، ودخل الحمام وخلع عليه خلعة مليحة من أجود ما يكون، وأعطاه بغلة بسرج وسرفسار ذهب، وألف دينار مصرية، وقال تخدمني؟ فقال له ما أقدر يا مولانا، حتى أشاور شيخي الحكيم موفق الدين، ابن المطران فقال له عز الدين ومن هو الحكيم موفق الدين، ما هو إلا غلام أخي لا سبيل إلى خروجك من صرخد، وألحوا عليه في لقول وشددوا، فقال إذا كان ولا بد فأنا أمضي إلى منزلي وأجيء، فمضى إلى منزله وأحضر الخلعة والذهب، وما معه، وقال هذا الذي أعطتموني خذوه، وأنا فواللَّه ما أعرف صناعة الطب، ولا أدري ما هي، وإنما أنا جرى لي مع الحكيم ابن المطران كذا وكذا، وقص عليه الواقعة كما وقعت، فقال له عز الدين ما عليك أن لا تكون طبيباً، أنت ما تعرف تلعب بالرد والشطرنج؟ فقال بلى، وكان الشاب لديه أدب وفضيلة، فقال له عز الدين قد تركتك حاجبي، وجعلت لك أقطاعًا في السنة يعمل اثنين وعشرين ألف درهم، فقال السمع والطاعة يا مولانا، بل أسأل دستورًا إلى دمشق أن أروح إلى الحكيم موفق الدين وأقبل يده وأشكره على ما فعل معي من الخير، فاعطي دستورًا وأتى الحكيم موفق الدين وقبل يده وشكره شكرًا كثيرًا وأحضر الذي حصل بين يديه، وقال له قد حصل لي هذا فخذه، فرده عليه وقال له أنا ما قصدت إلا نفعك، خذه بارك اللَّه لك فيه، وعرفه الشاب بما جرى له مع عز الدين وصورة الخدمة، واستمر الشاب في خدمة عز الدين، وكان ذلك الإحسان من مروءة موفق الدين بن المطران.أقول وكانت لموفق الدين بن المطران همة عالية في تحصيل الكتب، حتى أنه مات وفي خزانته من الكتب الطبية وغيرها ما يناهز عشرة آلاف مجلد خارجًا عما استنسخه، وكانت له عناية بالغة في استنساخ الكتب وتحريرها، وكان في خدمته ثلاثة نساخ يكتبون له أبدًا ولهم منه الجامكية والجراية، وكان من جملتهم جمال الدين المعروف بابن الجمالة، وكان خطه منسوباً، وكتب ابن المطران أيضًا بخطه كتبًا كثيرة، وقد رأيت عدة منها، وهي في نهاية حسن الخط والصحة والإعراب، وكان كثير المطالعة للكتب لا يفتر من ذلك في أكثر أوقاته، وأكثر الكتب التي كانت عنده توجد، وقد صححها وأتقن تحريرها، وعليها خطه بذلك، وبلغ من كثرة اعتنائه بالكتب وغوايته فيها أنه جامع لكثير من الكتب الصغار والمقالات المتفرقة في الطب، وهي في الأكثر يوجد جماعة منها في مجلد واحد استنسخ كلام منها بذاته في جزء صغير قطع نصف ثمن البغدادي بمسطرة واضحة، وكتب بخطه أيضًا عدة منها واجتمع عنده من تلك الأجزاء الصغار مجلدات كثيرة جدًا فكان أبدًا لا يفارق في كمه مجلدًا يطالعه على باب دار السلطان أو أين توجه، وبعد وفاته بيعت جميع كتبه، وذلك أنه ما خلف ولداً.وحدثني الحكيم عمران الإسرائيلي أنه لما حضر بيع كتب ابن المطران وجدهم وقد أخرجوا من هذه الأجزاء الصغار ألوفًا كثيرة أكثرها بخط ابن الجمالة، وأن القاضي الفاضل بعث يستعرضها فبعثوا إليه بملء خزانة صغيرة منها وجدت كذلك فنظر فيها، ثم ردها فبلغت في المناداة ثلاث آلاف درهم واشترى الحكيم عمران أكثرها وقال لي أنه حصل الاتفاق مع الورثة في بيعها أنهم أطلقوا مع كل جزء منها بدرهم فاشترى الأطباء منهم هذه الأجزاء الصغار على الثمن بالعدد.أقول وكان ابن المطران كثير المروءة كريم النفس، ويهب لتلامذته الكتب ويحسن إليهم وإذا جلس أحد منهم لمعالجة المرضى يخلع عليه، ولم يزل معتنيًا بأمره، وكان أجل تلامذته شيخنا مهذب الدين بن عبد الرحيم بن علي رحمه اللَّه، وكان كثيرًا لملازمة له والاشتغال عليه وسافر معه مرات في غزوات صلاح الدين لما فتح الساحل.ومما حدثني شيخنا مهذب الدين عنه فيما يتعلق بمعالجاته قال كان أسد الدين شيركوه صاحب حمص قد طلب ابن المطران فتوجه إليه وكنت معه، فبينما نحن في بعض الطريق، وإذا رجل مجذوم استقبله، وقد قوي به المرض حتى تغيرت خلقته، وتشوهت صورته، فاستوصف منه ما يتناوله وما يتداوى به، فبقي كالمتبرم من رؤيته، وقال له كل لحوم الأفاعي، فعاوده في المسألة فقال كل لحوم الأفاعي فإنك تبرأ، قال ومضينا إلى حمص وعالج المريض الذي راح بسببه إلى أن تماثل وصلح، لحوم الأفاعي فإنك تبرأ، ورجعنا فلما كنا في الطريق، وإذا بشاب حسن الصورة، كال الصحة قد سلم علينا وقبل يده فلم نعرفه، وقال له من أنت؟ فعرفه بنفسه وأنه صاحب المرض الذي كان قد شكاه إليه، وأنه لما استعمل ما وصفه له صلح به من غير أن يحتاج معه لى دواء آخر، فتعجبنا من ذلك في كمال برئه وودعنا وانصرف، وحدثني أيضًا عنه أنه كان معه في البيمارستان الكبير الذي أنشأه نور الدين بن زنكي وهو يعالج المرضى المقيمين به فكان من جملته رجل به استسقاء زقي استحكم به فقصد إلى بزله، وكان في ذلك الوقت في البيمارستان ابن حمدان الجرائحي، وله يد طولى في العلاج فجزموا على بزل المستسقي قال فحضرنا وبزل الموضع على ما يجب، فجرت مائية صفراء وابن المطران يتفقد نبض المريض، فلما رأى أن قوته لا تفي بإخراج أكثر من ذلك، أمر بشد الموضع، وأن يستلقي المريض ولا يغير الرباط أصلاً، ووجد المريض خفة وراحة كبيرة، وكانت عنده زوجته فأوصاها ابن المطران أنها لا تمكنه من حل الرباط، ولا تغيره بوجه من الوجوه إلى أن يبصره في ثاني يوم، فلما انصرفنا وجاء الليل قال زوجها إنني قد وجدت العافية وما بقي بي شيء، وإنما الأطباء قصدهم أن يطولوا بي فحلي الرباط حتى يخرج هذا الماء الذي قد بقي، وأقوم في شغلي فأنكرت عليه قوله، ولم تقبل منه، فعاودها بالقول وكرر ذلك عليها مرات، ولم يعلم أن بقية المائية إنما جعلوا إخراجها في وقت آخر مراعاة لحفظ قوته وشفقة عليه، فلما حلت الرباط وجرت المائية بأسرها خارت قوته وهلك.وحدثني أيضًا أنه رأى في البيمارستان مع ابن المطران رجلًا قد فلجت يده من أحد شقي البدن ورجله المخالفة لها من الشق الآخر فعالجه في أسرع وقت ودبره بالأدوية الموضعة فصلح.أقول وكان لموفق الدين أسعد بن إلياس بن المطران إخوان أيضًا قد اشتغلا بصناعة الطب أحدهما هبة اللَّه بن إلياس، والآخر ابن إلياس، وتوفي موفق الدين بن المطران في شهر ربيع الأول سنة سبع وثمانين وخمسمائة بدمشق، ونقلت من خط البديع عبد الرزاق ابن أحمد العامري الشاعر يمدح موفق الدين بن المطران بعد إسلامه، وذلك في ثالث شهر رمضان سنة خمس وثمانين وخمسمائة:ولموفق الدين بن المطران من الكتب كتاب بستان الأطباء وروضة الألباء، غرضه فيه أن يكون جامعًا لكل ما يجده من ملح ونوادر وتعريفات مستحسنة مما طالعه أو سمعه من الشيوخ أو نسخه من الكتب الطبية، ولم يتم هذا الكتاب؛ والذي وجدته منه بخط شيخنا الحكيم مهذب الدين جزآن الأول منهما قد قرأه على ابن المطران وعليه خطه؛ والجزء الثاني ذكر مهذب الدين فيه أن ابن المطران وافاه الأجل قبل قراءته له عليه، القالة الناصرية في حفظ الأمور الصحية قصد فيها الإيجاز والبلاغ، وقد رتبها أحسن ترتيب وجعها باسم السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، ووجدت الأصل الأول من هذا الكتاب، وهو بخط جمال الدين المعروف باسم الجمالة كاتب ابن المطران مترجماً، المقالة النجمية في التدابير الصحية وكأنه كان صنفها لنجم الدين أيوب والد صلاح الدين، فلما توفي ولم يوصلها إليه جعلها باسم ولده، اختصار كتاب الأنوار للكسدانيين إخراج أبي بكر أحمد بن علي بن وحشية، إختصره وفرغ منه في رجب سنة إحدي وثمانين وخمسمائة، لغز في الحكمة، كتاب على مذهب دعوة الأطباء، كتاب الأدوية المفردة، لم يتم، وكان قد قصد فيه أن يستوعب ذكر كل دواء على غاية ما يمكنه، كتاب آداب طب الملوك، وحدثني نسيب له أنه لما توفي كانت عنده مسودات عدة لمصنفات طبية وغيرها وتعاليق متفرقة فأخذ أخواته تلك المسودات وضاعت بينه، وقال لي أنه رأى عند إحداهن صندوقًا أرادت أن تبطنه وقد ألصقت في باطنه جملة من هذه الأوراق التي بخطه.
|