الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: خصائص التصور الإسلامي ومقوماته **
خصائص التصور الإسلامي ومقوماته
سيد قطب
تحديد "خصائص التصور الإسلامي ومقوماته" … مسألة ضرورية، لأسباب كثيرة: ضرورية لأنه لابد للمسلم من تفسير شامل للوجود، يتعامل على أساسه مع هذا الوجود .. لابد من تفسير يقرّب لإدراكه طبيعة الحقائق الكبرى التي يتعامل معها، وطبيعة العلاقات والارتباطات بين هذه الحقائق: حقيقة الألوهية. وحقيقة العبودية (وهذه تشتمل على حقيقة الكون. وحقيقة الحياة. وحقيقة الإنسان) .. وما بينها جميعاً من تعامل وارتباط. وضرورية لأنه لابد للمسلم من معرفة حقيقة مركز الإنسان في هذا الوجود الكوني، وغاية وجوده الإنساني.. فمن هذه المعرفة يتبين دور "الإنسان" في "الكون" وحدود اختصاصاته كذلك. وحدود علاقته بخالقه وخالق هذا الكون جميعاً. وضرورية لأنه بناء على ذلك التفسير الشامل، وعلى معرفة حقيقة مركز الإنسان في الوجود الكوني وغاية وجوده الإنساني، يتحدد منهج حياته، ونوع النظام الذي يحقق هذا المنهج. فنوع النظام الذي يحكم الحياة الإنسانية رهين بذلك التفسير الشامل، ولابد أن ينبثق منه انبثاقاً ذاتياً وإلا كان نظاماً مفتعلاً، قريب الجذور، سريع الذبول. والفترة التي يقدر له فيها البقاء، هي فترة شقاء "للإنسان"، كما أنها فترة صدام بين هذا النظام وبين الفطرة البشرية، وحاجات "الإنسان" الحقيقية! الأمر الذي ينطبق اليوم على جميع الأنظمة في الأرض كلها – بلا استثناء – وبخاصة في الأمم التي تسمى "متقدمة ! " وضرورية لأن هذا الدين جاء لينشئ أمة ذات طابع خاص متميز متفرد. وهي في الوقت ذاته أمة جاءت لقيادة البشرية، وتحقيق منهج الله في الأرض، وإنقاذ البشرية مما كانت تعانيه من القيادات الضالة، والمناهج الضالة، والتصورات الضالة- وهو ما تعاني اليوم مثله مع اختلاف في الصور والأشكال – وإدراك المسلم لطبيعة التصور الإسلامي، وخصائصه ومقاومته، هو الذي يكفل له أن يكون عنصراً صالحاً في بناء هذه الأمة، ذات الطابع الخاص المتفرد المتميز، وعنصراً قادراً على القيادة والإنقاذ. فالتصور الاعتقادي هو أداة التوجيه الكبرى، إلى جانب النظام الواقعي الذي ينبثق منه، ويقوم على أساسه، ويتناول النشاط الفردي كله، والنشاط الجماعي كله، في شتى حقول النشاط الإنساني. * * * ولقد كان القرآن الكريم قد قدم للناس هذا التفسير الشامل، في الصورة الكاملة، التي تقابل كل عناصر الكينونة الإنسانية، وتلبي كل جوانبها، وتتعامل مع كل مقوماتها .. تتعامل مع "الحس" و "الفكر" و "البديهة" و "البصيرة" … ومع سائر عناصر الإدراك البشري، والكينونة البشرية بوجه عام – كما تتعامل مع الواقع المادي للإنسان، هذا الواقع الذي ينشئه وضعه الكوني- في الأسلوب الذي يخاطب، ويوحي، ويوجه كل عناصر هذه الكينونة متجمعة، في تناسق، هو تناسق الفطرة كما خرجت من يد بارئها سبحانه! وبهذا التصور المستمد مباشرة من القرآن، تكيفت الجماعة المسلمة الأولى. تكيفت ذلك التكيف الفريد. وتسلمت قيادة البشرية، وقادتها تلك القيادة الفريدة، التي لم تعرف لها البشرية – من قبل ولا من بعد- نظيراً. وحققت في حياة البشرية- سواء في عالم الضمير والشعور، أو في عالم الحركة والواقع- ذلك النموذج الفذ الذي لم يعهده التاريخ. وكان القرآن هو المرجع الأول لتلك الجماعة. فمنه انبثقت هي ذاتها.. وكانت أعجب ظاهرة في تاريخ الحياة البشرية: ظاهرة انبثاق أمة من خلال نصوص كتاب! وبه عاشت. وعليه اعتمدت في الدرجة الأولى. باعتبار أن "السنة" ليست شيئاً آخر سوى الثمرة الكاملة النموذجية للتوجيه القرآني. كما لخصتها عائشة –رضي الله عنها- وهي تُسأَل عن خلق رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فتجيب تلك الإجابة الجامعة الصادقة العميقة: "كان خلقه القرآن" .. (أخرجه النسائي). * * * ولكن الناس بعدوا عن القرآن، وعن أسلوبه الخاص، وعن الحياة في ظلاله، عن ملابسة الأحداث والمقوّمات التي يشابه جوُّها الجوُّ الذي تنزّل فيه القرآن .. وملابسةُ هذه الأحداث والمقوّمات، وتَنسُّمُ جوها الواقعي، هو وحده الذي يجعل هذا القرآن مُدرَكاً وموحياً كذلك. فالقرآن لا يدركه حق إدراكه من يعيش خالي البال من مكان الجهد والجهاد لاستئناف حياة إسلامية حقيقة، ومن معاناة هذا الأمر العسير وجرائره وتضحياته وآلامه، ومعاناة المشاعر المختلفة التي تصاحب تلك المكابدة في عالم الواقع، في مواجهة الجاهلية في أي زمان! إن المسألة-في إدراك مدلولات هذا القرآن وإيحاءاته- ليست هي فهم ألفاظه وعباراته، ليست هي "تفسير" القرآن- كما اعتدنا أن نقول! المسألة ليست هذه. إنما هي استعداد النفس برصيد من المشاعر والمدركات والتجارب، تشابه المشاعر والمدركات والتجارب التي صاحبت نزوله، وصاحبت حياة الجماعة المسلمة وهي تتلقاه في خضم المعترك .. معترك الجهاد .. جهاد النفس وجهاد الناس. جهاد الشهوات وجهاد الأعداء. والبذل والتضحية. والخوف والرجاء. والضعف والقوة. والعثرة والنهوض.. جو مكة، والدعوة الناشئة، والقلة والضعف، والغربة بين الناس .. جو الشَّعب والحصار، والجوع والخوف، والاضطهاد والمطاردة، والانقطاع إلا عن الله.. ثم جو المدينة: جو النشأة الأولى للمجتمع المسلم، بين الكيد والنفاق، والتنظيم والكفاح .. جو "بدر" و "أحد" و "الخندق" و "الحديبية". وجو "الفتح"، و "حنين" و "تبوك". وجو نشأة الأمة المسلمة ونشأة نظامها الاجتماعي والاحتكاك الحي بين المشاعر والمصالح والمبادئ في ثنايا النشأة وفي خلال التنظيم. في هذا الجو الذي تنزلت فيه آيات القرآن حية نابضة واقعية.. كان للكلمات وللعبارات دلالاتها وإيحاءاتها. وفي مثل هذا الجو الذي يصاحب محاولة استئناف الحياة الإسلامية من جديد يفتح القرآن كنوزه للقلوب، ويمنح أسراره، ويشيع عطره، ويكون فيه هدى ونور .. لقد كانوا يومئذ يدركون حقيقة قول الله لهم: (الحجرات: 17) وحقيقة قول الله لهم: (الأنفال: 24-26) وحقيقة قول الله لهم: (آل عمران: 123) وحقيقة قول الله لهم: (آل عمران: 139-143) وحقيقة قول الله لهم: (التوبة: 25، 26). وحقيقة قول الله لهم: (آل عمران: 186) كانوا يدركون حقيقة قول الله لهم في هذا كله، لأنه كان يحدثهم عن واقعيات في حياتهم عاشوها، وعن ذكريات في نفوسهم لم تغب معالمها، وعن ملابسات لم يبعد بها الزمن، فهي تعيش في ذات الجيل.. والذين يعانون اليوم وغداً مثل هذه الملابسات، هم الذين يدركون معاني القرآن وإيحاءاته. وهم الذين يتذوقون حقائق التصور الإسلامي كما جاء بها القرآن. لأن لها رصيداً حاضراً في مشاعرهم وفي تجاربهم، يتلقونها به، ويدركونها على ضوئه.. وهم قليل.. ومن ثم لم يكن بد – وقد بعد الناس عن القرآن ببعدهم عن الحياة الواقعية في مثل جوه- أن نقدم لهم حقائق: "التصور الإسلامي" عن الله والكون والحياة والإنسان من خلال النصوص القرآنية، مصحوبة بالشرح والتوجيه، والتجميع والتبويب. لا ليغنى هذا غناء القرآن في مخاطبة القلوب والعقول. ولكن ليصل الناس بالقرآن- على قدر الإمكان- وليساعدهم على أن يتذوقوه، ويلتمسوا فيه بأنفسهم حقائق التصور الإسلامي الكبير! على أننا نحب أن ننبه هنا إلى حقيقة أساسية كبيرة. . إننا لا نبغي بالتماس حقائق التصور الإسلامي، مجرد المعرفة الثقافية. لا نبغي إنشاء فصل في المكتبة الإسلامية، يضاف إلى ما عرف من قبل باسم "الفلسفة الإسلامية". كلا! إننا لا نهدف إلى مجرد "المعرفة" الباردة، التي تتعامل مع الأذهان، وتحسب في رصيد "الثقافة"! إن هذا الهدف في اعتبارنا لا يستحق عناء الجهد فيه! إنه هدف تافه رخيص! إنما نحن نبتغي "الحركة" من وراء "المعرفة". نبتغي أن تستحيل هذه المعرفة قوة دافعة، لتحقيق مدلولها في عالم الواقع. نبتغي استجاشة ضمير "الإنسان" لتحقيق غاية وجوده الإنساني، كما يرسمها هذا التصور الرباني. نبتغي أن ترجع البشرية إلى ربها، وإلى منهجه الذي أراده لها، وإلى الحياة الكريمة الرفيعة التي تتفق مع الكرامة التي كتبها الله للإنسان، والتي تحققت في فترة من فترات التاريخ، على ضوء هذا التصور، عندما استحال واقعاً في الأرض، يتمثل في أمة، تقود البشرية إلى الخير والصلاح والنماء. ولقد وقع – في طور من أطوار التاريخ الإسلامي- أن احتكت الحياة الإسلامية الأصلية، المنبثقة من التصور الإسلامي الصحيح، بألوان الحياة الأخرى التي وجدها الإسلام في البلاد المفتوحة، وفيما وراءها كذلك. ثم بالثقافات السائدة في تلك البلاد. واشتغل الناس في الرقعة الإسلامية- وقد خلت حياتهم من هموم الجهاد، واستسلموا لموجات الرخاء .. وجدّت في الوقت ذاته في حياتهم من جراء الأحداث السياسية وغيرها مشكلات للتفكير والرأي والمذهبية- كان بعضها في وقت مبكر منذ الخلاف المشهور بين علي ومعاوية- اشتغل الناس بالفلسفة الإغريقية وبالمباحث اللاهوتية التي تجمعت حول المسيحية، والتي ترجمت إلى اللغة العربية .. ونشأ عن هذا الاشتغال الذي لا يخلو من طابع الترف العقلي في عهد العباسيين وفي الأندلس أيضاً، انحرافات واتجاهات غريبة على التصور الإسلامي الأصيل. التصور الذي جاء ابتداء لإنقاذ البشرية من مثل هذه الانحرافات، ومن مثل هذه الاتجاهات، وردها إلى التصور الإسلامي الإيجابي الواقعي، الذي يدفع بالطاقة كلها إلى مجال الحياة، للبناء والتعمير، والارتفاع والتطهير. ويصون الطاقة أن تنفق في الثرثرة. كما يصون الإدراك البشري أن يطوح به في التيه بلا دليل. ووجد جماعة من علماء المسلمين أن لابد من مواجهة آثار هذا الاحتكاك، وهذا الانحراف، بردود وإيضاحات وجدل حول ذات الله-سبحانه- وصفاته. وحول القضاء والقدر. وحول عمل الإنسان وجزائه، وحول المعصية والتوبة.. إلى آخر المباحث التي ثار حولها الجدل في تاريخ الفكر الإسلامي! ووجدت الفرق المختلفة خوارج وشيعة ومرجئة. قدرية وجبرية. سنية ومعتزلة…. إلى آخر هذه الأسماء. كذلك وجد بين المفكرين المسلمين من فتن بالفلسفة الإغريقية- وبخاصة شروح فلسفة أرسطو- أو المعلم الأول كما كانوا يسمونه- وبالمباحث اللاهوتية- "الميتافيزيقية" – وظنوا أن "الفكر الإسلامي" لا يستكمل مظاهر نضوجه واكتماله، أو مظاهر أبهته وعظمته، إلا إذا ارتدى هذا الزي- زي التفلسف والفلسفة- وكانت له فيه مؤلفات! وكما يفتن من اليوم ناس بأزياء التفكير الغربية، فكذلك كانت فتنتهم بتلك الأزياء وقتها. فحاولوا إنشاء "فلسفة إسلامية" كالفلسفة الإغريقية. وحاولوا إنشاء "علم الكلام" على نسق المباحث اللاهوتية مبنية على منطق أرسطو! وبدلاً من صياغة "التصور الإسلامي" في قالب ذاتي مستقل، وفق طبيعته الكلية، التي تخاطب الكينونة البشرية جملة، بكل مقوماتها وطاقاتها، ولا تخاطب "الفكر البشري" وحده خطاباً بارداً مصبوباً في قالب المنطق الذهني.. بدلاً من هذا فإنهم استعاروا "القالب" الفلسفي ليصبوا فيه "التصور الإسلامي"، كما استعاروا بعض التصورات الفلسفية ذاتها، وحاولوا أن يوفقوا بينها وبين التصور الإسلامي.. أما المصطلحات فقد كادت تكون كلها مستعارة! ولما كانت هناك جفوة أصيلة بين منهج الفلسفة ومنهج العقيدة، وبين أسلوب الفلسفة وأسلوب العقيدة، وبين الحقائق الإيمانية الإسلامية وتلك المحاولات الصغيرة المضطربة المفتعلة التي تتضمنها الفلسفات والمباحث اللاهوتية البشرية.. فقد بدت "الفلسفة الإسلامية" –كما سميت- نشازاً كاملاً في لحن العقيدة المتناسق! ونشأ من هذه المحاولات تخليط كثير، شاب صفاء التصور الإسلامي، وصفر مساحته، وأصابه بالسطحية. ذلك مع التعقيد والجفاف والتخليط. مما جعل تلك "الفلسفة الإسلامية" ومعها مباحث علم الكلام غريبة غربة كاملة على الإسلام، وطبيعته، وحقيقته، ومنهجه، وأسلوبه! وأنا أعلم أن هذا الكلام سيقابل بالدهشة – على الأقل!- سواء من كثير من المشتغلين عندنا بما يسمى "الفلسفة الإسلامية" أو من المشتغلين بالمباحث الفلسفية بصفة عامة.. ولكني أقرره، وأنا على يقين جازم بأن "التصور الإسلامي" لن يخلص من التشويه والانحراف والمسخ، إلا حين نلقي عنه جملة بكل ما أطلق عليه اسم "الفلسفة الإسلامية". وبكل مباحث "علم الكلام" وبكل ما ثار من الجدل بين الفرق الإسلامية المختلفة في شتى العصور أيضاً! ثم نعود إلى القرآن الكريم، نستمد منه مباشرة "مقومات التصور الإسلامي". مع بيان "خصائصه" التي تفرده من بين سائر التصورات. ولا بأس من بعض الموازنات- التي توضح هذه الخصائص – مع التصورات الأخرى- أما مقومات هذا التصور فيجب أن تستقى من القرآن مباشرة، وتصاغ صياغة مستقلة .. تماماً. ولعله مما يحتم هذا المنهج الذي أشرنا إليه أن ندرك ثلاث حقائق هامة: الأولى: أن أول ما وصل إلى العالم الإسلامي من مخلفات الفلسفة الإغريقية واللاهوت المسيحي، وكان له أثر في توجيه الجدل بين الفرق المختلفة وتلوينه، لم يكن سوى شروح متأخرة للفلسفة الإغريقية، منقولة نقلاً مشوهاً مضطرباً في لغة سقيمة. مما ينشأ عنه اضطراب كثير في نقل هذه الشروح! والثانية: أن عملية التوفيق بين شروح الفلسفة الإغريقية والتصور الإسلامي كانت تنم عن سذاجة كبيرة، وجهل بطبيعة الفلسفة الإغريقية، وعناصرها الوثنية العميقة، وعدم استقامتها على نظام فكري واحد، وأساس منهجي واحد. مما يخالف النظرة الإسلامية ومنابعها الأصيلة.. فالفلسفة الإغريقية نشأت في وسط وثنى مشحون بالأساطير، واستمدت جذورها من هذه الوثنية ومن هذه الأساطير، ولم تخل من العناصر الوثنية الأسطورية قط. فمن السذاجة والعبث –كان- محاولة التوفيق بينها وبين التصور الإسلامي القائم على أساس "التوحيد" المطلق العميق التجريد.. ولكن المشتغلين بالفلسفة والجدل من المسلمين، فهموا –خطأ- تحت تأثير ما نقل إليهم من الشروح المتأخرة المتأثرة بالمسيحية أن "الحكماء" – وهم فلاسفة الإغريق- لا يمكن أن يكونوا وثنيين، ولا يمكن أن يحيدوا عن التوحيد! ومن ثم التزموا عملية توفيق متعسفة بين كلام "الحكماء" وبين العقيدة الإسلامية. ومن هذه المحاولة كان ما يسمى "الفلسفة الإسلامية"! والثالثة: أن المشكلات الواقعية في العالم الإسلامي – تلك التي أثارت ذلك الجدل منذ مقتل عثمان –رضي الله عنه- قد انحرفت بتأويلات النصوص القرآنية، وبالأفهام والمفهومات انحرافاً شديداً. فلما بدأ المباحث لتأييد وجهات النظر المختلفة، كانت تبحث عما يؤيدها من الفلسفات والمباحث اللاهوتية، بحثاً مغرضاً في الغالب ومن ثم لم تعد تلك المصادر- في ظل تلك الخلافات- تصلح أساساً للتفكير الإسلامي الخالص، الذي ينبغي أن يتلقى مقوماته ومفهوماته من النص القرآني الثابت، في جو خالص من عقابيل تلك الخلافات التاريخية. ومن ثم يحسن عزل ذلك التراث جملة! عن مفهومنا الأصيل للإسلام، ودراسته دراسة تاريخية بحتة، لبيان زوايا الانحراف فيه، وأسباب هذا الانحراف، وتجنب نظائرها فيما نصوغه اليوم من مفهوم التصور الإسلامي، ومن أوضاع وأشكال ومقومات النظام الإسلامي أيضاً.. * * * ولقد سارت مناهج الفكر الغربي في طريقها الخاص. مستمدة ابتداء من الفكر الإغريقي وما فيه من لوثة الوثنية، ثم مستمدة أخيراً من عدائها للكنيسة، وللتفكير الكنسي في الغالب! وكان الطابع العام لهذا الفكر منذ عصر النهضة، وهو معارضة الكنيسة الكاثوليكية وتصوراتها. ثم –فيما عد- معارضة الكنيسة إطلاقاً، ومعارضة التصور الديني جملة.. والتصورات الكنسية – بصفة عامة- لم تكن في يوم من الأيام تمثل النصرانية الحقيقية. فإن الملابسات التي صاحبت نشأة النصرانية في ظل الدولة الرومانية الوثنية، ثم التي صاحبت دخول الدولة الرومانية في النصرانية قد جنت على النصرانية الحقة جناية كبرى، وحرفتها تحريفاً شديداً. حرفتها ابتداء بما أدخلت فيها من رواسب الوثنية الرومانية. ثم بما أضافته الكنيسة والمجامع بعد ذلك من التأويلات والإضافات التي ضمت –مع الأسف- إلى الأصل الإلهي في النصرانية، لمجاراة الأحداث السياسية، والاختلافات المذهبية، ولمحاولة تجميع المذاهب وتجميع القطاعات المتعارضة في الدولة الرومانية في مذهب واحد يرضى عنه الجميع! مما جعل "النصرانية" تعبيراً عن "التصور الكنسي" أكثر مما هي تعبير عن الديانة النصرانية المنزلة من عند الله. ثم كان من جراء احتضان الكنيسة لهذه التصورات المنحرفة، ومن جراء احتضانها كذلك لكثير من المعلومات الخاطئة أو الناقصة عن الكون- مما هو من شأن البحوث والدراسات والتجارب البشرية- أن وقفت موقفاً عدائياً خشناً من العلماء الطبيعيين حين قاموا يصححون هذه المعلومات "البشرية" الخاطئة أو الناقصة. ولم تكتف بالهجوم الفكري عليهم، بل استخدمت سلطانهم المادي ببشاعة في التنكيل لكل المخالفين لتصوراتها الدينية والعلمية على السواء! ومنذ ذلك التاريخ، وإلى اليوم، اتخذ "الفكر الأوربي" موقفاً عدائياً لا من الأفكار والتصورات الكنسية التي كانت سائدة يومذاك، بل من الأفكار والتصورات الدينية على الإطلاق. بل تجاوز العداء الأفكار والتصورات الدينية إلى منهج التفكير الديني بجملته! واتجه الفكر الأوربي إلى ابتداع مناهج ومذاهب للتفكير، الغرض الأساسي منها هو معارضة منهج الكفر الديني، والتخلص من سلطان الكنيسة، بالتخلص من إله الكنيسة! ومن كل ما يتعلق به من أفكار ومن مناهج للتفكير أيضاً" وكمن العداء للدين وللمنهج الديني، لا في الموضوعات والفلسفات والمذاهب التي أنشأها الفكر الأوربي، بل في صميم هذا الفكر، وفي صميم المناهج التي يتخذها للمعرفة. ومن ثم لم يعد نتاج الفكر الأوربي، ولا مناهج التفكير الأوربية تصلح لأن تتخذ أساساً للفكر الإسلامي، ولا لتجديد هذا الفكر – كما يعبر بعض المفكرين المسلمين أنفسهم .. وسيرى قارئ هذا البحث – بعد فراغ منه- أنه لا سبيل لاستعارة مناهج الكفر الغربي، ولا استعارة نتاج هذا الفكر الذي قام على أساس هذه المناهج، للفكر الإسلامي! * * * منهجنا إذن في هذا البحث عن: "خصائص التصور الإسلامي ومقوماته" أن نستلهم القرآن الكريم مباشرة – بعد الحياة في ظلال القرآن طويلاً – وأن نستحضر بقدر الإمكان- الجو الذي تنزلت فيه كلمات الله للبشر، والملابسات الاعتقادية والاجتماعية والسياسية التي كانت البشرية تتيه فيها وقت أن جاءها هذا الهدى. ثم التيه الذي ضلت فيه بعد انحرافها عن الهدي الإلهي! ومنهجنا في استلهام القرآن الكريم، ألا نواجهه بمقررات سابقة إطلاقاً. لا مقررات عقلية ولا مقررات شعورية – من رواسب الثقافات التي لم نستقها من القرآن ذاته –نحاكم إليها نصوصه، أو نستلهم معاني هذه النصوص وفق تلك المقررات السابقة. لقد جاء النص القرآني –ابتداء- لينشئ المقررات الصحيحة التي يريد الله أن تقوم عليها تصورات البشر، وأن تقوم عليها حياتهم. وأقل ما يستحقه هذا التفضل من العلي الكبير، وهذه الرعاية من الله ذي الجلال –هو الغني عن العالمين- أن يتلقوها وقد فرّغوا لها قلوبهم وعقولهم من كل غبش دخيل، ليقوم تصورهم الجديد نظيفاً من كل رواسب الجاهليات –قديمها وحديثها على السواء- مستمداً من تعليم الله وحده. لا من ظنون البشر، التي لا تغني من الحق شيئاً! ليست هناك إذن مقررات سابقة نحاكم إليها كتاب الله تعالى. إنما نحن نستمد مقرراتنا من هذا الكتاب ابتداء، ونقيم على هذه المقررات تصوراتنا ومقرراتنا! وهذا – وحده- هو المنهج الصحيح، في مواجهة القرآن الكريم، وفي استلهامه خصائص التصور الإسلامي ومقوّماته. * * * ثم إننا لا نحاول استعارة "القالب الفلسفي" في عرض حقائق "التصور الإسلامي" اقتناعاً منا بأن هناك ارتباطاً وثيقاً بين طبيعة "الموضوع" وطبيعة "القالب". وأن الموضوع يتأثر بالقالب. وقد تتغير طبيعته ويلحقها التشويه، إذا عرض في قالب، في طبيعته وفي تاريخه عداء وجفوة وغربة عن طبيعته! الأمر المتحقق في موضوع التصور الإسلامي والقالب الفلسفي. والذي يدركه من يتذوق حقيقة هذا التصور كما هي معروضة في النص القرآن!. نحن نخالف "إقبال" في محاولته صياغة التصور الإسلامي في قالب فلسفي، مستعار من القوالب المعروفة عند هيجل من "العقليين المثاليين" وعند أوجست كونت من "الوضعيين الحسيين". إن العقيدة –إطلاقاً- والعقيدة الإسلامية-بوجه خاص- تخاطب الكينونة الإنسانية بأسلوبها الخاص، وهو أسلوب يمتاز بالحيوية والإيقاع واللمسة المباشرة والإيحاء. الإيحاء بالحقائق الكبيرة، التي لا تتمثل كلها في العبارة. ولكن توحي بها العبارة. كما يمتاز بمخاطبة الكينونة الإنسانية بكل جوانبها وطاقاتها ومنافذ المعرفة فيها. ولا يخاطب "الفكر" وحده في الكائن البشري.. أما الفلسفة فلها أسلوب آخر. إذ هي تحاول أن تحصر الحقيقة في العبارة. ولما كان نوع الحقائق التي تتصدى لها يستحيل أن ينحصر في منطوق العبارة –فضلاً عن جوانب أساسية من هذه الحقائق هي بطبيعتها أكبر من المجال الذي يعمل فيه "الفكر" البشري –فإن الفلسفة تنتهي حتماً إلى التعقيد والتخليط والجفاف، كلما حاولت أن تتناول مسائل العقيدة! ومن ثم لم يكن للفلسفة دور يذكر في الحياة البشرية العامة، ولم تدفع بالبشرية إلى الأمام شيئاً مما دفعتها العقيدة، التي تقدمت البشرية على حدائها في تيه الزمن، وظلام الطريق. لابد أن تعرض العقيدة بأسلوب العقيدة، إذ أن محاولة عرضها بأسلوب الفلسفة يقتلها، ويطفئ إشعاعها وإيجاءها، ويقصرها على جانب واحد من جوانب الكينونة الإنسانية الكثيرة. ومن هنا يبدو التعقيد والجفاف والنقص والانحراف في كل المباحث التي تحاول عرض العقيدة بهذا الأسلوب الغريب على طبيعتها، وفي هذا القالب الذي يضيق عنها. ولسنا حريصين على أن تكون هناك "فلسفة إسلامية"! لسنا حريصين على أن يوجد هذا الفصل في الفكر الإسلامي، ولا أن يوجد هذا القالب في قوالب الأداء الإسلامية! فهذا لا ينقص الإسلام شيئاً في نظرنا، ولا ينقص "الفكر الإسلامي". بل يدل دلالة قوية على أصالته ونقائه وتميزه! * * * وكلمة أخرى في المنهج الذي نتوخاه في هذا البحث أيضاً … إننا لا نستحضر أمامنا انحرافاً معيناً من انحرافات الفكر الإسلامي، أو الواقع الإسلامي، ثم ندعه يستغرق اهتمامنا كله. بحيث يصبح الرد عليه وتصحيحه هو المحرك الكلي لنا فيما نبذله من جهد في تقرير "خصائص التصور الإسلامي ومقوماته".. إنما نحن نحاول تقرير حقائق هذا التصور –في ذاتها- كما جاء بها القرآن الكريم، كاملة شاملة، متوازنة متناسقة، تناسق هذا الكون وتوازنه، وتناسق هذه الفطرة وتوازنها. ذلك أن استحضار انحراف معين، أو نقص معين، والاستغراق في دفعه، وصياغة حقائق التصور الإسلامي للرد عليه .. منهج شديد الخطر، وله معقباته في إنشاء انحراف جديد في التصور الإسلامي لدفع انحراف قديم .. والانحراف انحراف على كل حال !!! ونحن نجد نماذج من هذا الخطر في البحوث التي تكتب بقصد "الدفاع" عن الإسلام في وجه المهاجمين له، الطاعنين فيه، من المستشرقين والملحدين قديماً وحديثاً. كما نجد نماذج منه في البحوث التي تكتب للرد على انحراف معين، في بيئة معينة، في زمان معين! يتعمد بعض الصليبيين والصهيونيين مثلاً أن يتهم الإسلام بأنه دين السيف، وأنه انتشر بحد السيف.. فيقوم منا مدافعون عن الإسلام يدفعون عنه هذا "الاتهام"! وبينما هم مشتطون في حماسة "الدفاع" يسقطون قيمة "الجهاد" في الإسلام، ويضيقون نطاقه ويعتذرون عن كل حركة من حركاته، بأنها كانت لمجرد "الدفاع"! – بمعناه الاصطلاحي الحاضر الضيق! – وينسون أن للإسلام – بوصفه المنهج الإلهي الأخير للبشرية – حقه الأصيل في أن يقيم "نظامه" الخاص في الأرض، لتستمع البشرية كلها بخيرات هذا "النظام".. ويستمتع كل فرد – في داخل هذا النظام – بحرية العقيدة التي يختارها، حيث "لا إكراه في الدين" من ناحية العقيدة .. أما إقامة "النظام الإسلامي" ليظلل البشرية كلها ممن يعتنقون عقيدة الإسلام وممن لا يعتنقونها، فتقتضي الجهاد لإنشاء هذا النظام وصيانته، وترك الناس أحراراً في عقائدهم الخاصة في نطاقه. ولا يتم ذلك إلا بإقامة سلطان خير وقانون خير ونظام خير يحسب حسابه كل من يفكر في الاعتداء على حرية الدعوة وحرية الاعتقاد في الأرض! وليس هذا إلا نموذجاً واحداً من التشويه للتصور الإسلامي، في حماسة الدفاع ضد هجوم ماكر، على جانب من جوانبه! أما البحوث التي كتبت للرد على انحراف معين، فأنشأت هي بدورها انحرافاً آخر، فأقرب ما نتمثل به في هذا الخصوص، توجيهات الأستاذ الإمام الشيخ "محمد عبده". ومحاضرات "إقبال" في موضوع: "تحديد الفكر الديني في الإسلام". لقد واجه الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، بيئة فكرية جامدة، أغلقت باب "الاجتهاد" وأنكرت على "العقل" دوره في فهم شريعة الله واستنباط الأحكام منها، واكتفت بالكتب التي ألفها المتأخرون في عصور الجمود العقلي وهي – في الوقت ذاته- تعتمد على الخرافات والتصورات الدينية العامية! كما واجه فترة كان "العقل" فيها يعبد في أوربا ويتخذه أهلها إلهاً، وخاصة بعد الفتوحات العلمية التي حصل فيها العلم على انتصارات عظيمة، وبعد فترة كذلك من سيادة الفلسفة العقلية التي تؤله العقل! وذلك مع هجوم من المستشرقين على التصور الإسلامي، وعقيدة القضاء والقدر فيه، وتعطيل العقل البشري والجهد البشري عن الإيجابية في الحياة بسبب هذه العقيدة … الخ. فلما أراد أن يواجه هذه البيئة الخاصة، بإثبات قيمة "العقل" تجاه "النص". وإحياء فكرة "الاجتهاد" ومحاربة الخرافة والجهل والعامية في "الفكر الإسلامي".. ثم إثبات أن الإسلام جعل للعقل قيمته وعمله في الدين والحياة، وليس – كما يزعم "الإفرنج" أنه قضى على المسلمين" بالجبر" المطلق وفقدان "الاختيار" .. لما أراد أن يواجه الجمود العقلي في الشرق، والفتنة بالعقل في الغرب، جعل "العقل" البشري ندّاً للوحي في هداية الإنسان، ولم يقف به عند أن يكون جهازاً –من أجهزة – في الكائن البشري، يتلقى الوحي. ومنع أن يقع خلاف ما بين مفهوم العقل وما يجئ به الوحي. ولم يقف بالعقل عند أن يدرك ما يدركه، ويسلم بما هو فوق إدراكه، بما أنه – هو والكينونة الإنسانية بجملتها- غير كلي ولا مطلق، ومحدود بحدود الزمان والمكان، بينما الوحي يتناول حقائق مطلقة في بعض الأحيان كحقيقة الألوهية، وكيفية تعلق الإرادة الإلهية بخلق الحوادث.. وليس على العقل إلا التسليم بهذه الكليات المطلقة، التي لا سبل له إلى إدراكها!.. وساق حجة تبدو منطقية، ولكنها من فعل الرغبة في تقويم ذلك الانحراف البيئي الخاص الذي يحتقر العقل ويهمل دوره.. قال رحمه الله في رسالة التوحيد. "فالوحي بالرسالة الإلهية أثر من آثار الله. والعقل الإنساني أثر أيضاً من آثار الله في الوجود. وآثار الله يجب أن ينسجم بعضها مع بعض، ولا يعارض بعضها بعضاً".. وهذا صحيح في عمومه.. ولكن يبقى أن الوحي والعقل ليسا ندين. فأحدهما أكبر من الآخر وأشمل. وأحدهما جاء ليكون هو الأصل الذي يرجع إليه الآخر. والميزان الذي يختبر الآخر عنده مقرراته ومفهوماته وتصوراته. ويصحح به اختلالاته وانحرافاته. فبينما –ولا شك- توافق وانسجام. ولكن على هذا الأساس. لا على أساس أنهما ندان متعادلان، وكفو أحدهما تماماً للآخر! فضلاً عن أن العقل المبرأ من النقص والهوى لا وجود له في دنيا الواقع، وإنما هو "مثال"! وقد تأثر تفسير الأستاذ الإمام لجزء عم بهذه النظرة تأثراً واضحاً. وتفسير تلميذه المرحوم الشيخ رشيد رضا وتفسير تلميذه الأستاذ الشيخ المغربي لجزء "تبارك" حتى صرح مرات بوجوب تأويل النص ليوافق مفهوم العقل! وهو مبدأ خطر. فإطلاق كلمة "العقل" يرد الأمر إلى شيء غير واقعي! –كما قلنا- فهناك عقلي وعقلك وعقل فلان وعقل علان .. وليس هنالك عقل مطلق لا يتناوبه النقص والهوى والشهوة والجهل يحاكم النص القرآني إلى "مقرراته". وإذا أوجبنا التأويل ليوافق النص هذه العقول الكثيرة، فإننا ننتهي إلى فوضى! وقد نشأ هذا كله من الاستغراق في مواجهة انحراف معين.. ولو أخذ الأمر – في ذاته- لعرف للعقل مكانه ومجال عمله بدون غلو ولا إفراط، وبدون تقصير ولا تفريط كذلك. وعرف للوحي مجاله. وحفظت النسبة بينهما في مكانها الصحيح.. إن "العقل" ليس منفياً ولا مطروداً ولا مهملاً في مجال التلقي عن الوحي، وفهم ما يتلقى وإدراك ما من شأنه أن يدركه، مع التسليم بما هو خارج عن مجاله. ولكنه كذلك ليس هو "الحكم" الأخير. وما دام النص مُحكماً، فالمدلول الصريح للنص من غير تأويل هو الحكم. وعلى العقل أن يتلقى مقرراته هو من مدلول هذا النص الصريح. ويقيم منهجه على أساسه (وفي صلب هذا البحث تفصيل واف للحد المأمون والمنهج الإسلامي المستقيم). ولقد واجه "إقبال" في العالم الشرقي بيئة فكرية "تائهة!" في غيبوبة "إشراقات" التصوف "العجمي" كما يسميه! .. فراغه هذا "الفناء" الذي لا وجود فيه للذاتية الإنسانية. كما راعته "السلبية" التي لا عمل معها للإنسان ولا أثر في هذه الأرض. وليس هذا هو الإسلام بطبيعة الحال – كما واجه من ناحية أخرى التفكير الحسي في المذهب الوضعي، ومذهب التجريبيين في العالم الغربي. كذلك واجه ما أعلنه نيتشه في "هكذا قال زرادشت" عن مولد الإنسان الأعلى (السوبرمان) وموت الإله! وذلك في تخبطات الصرع التي كتبها نيتشه وسماها بعضهم "فلسفة"!. وأراد أن ينفض "الفكر الإسلامي" وعن "الحياة الإسلامية" ذلك الضياع والفناء والسلبية. كما أراد أن يثبت للفكر الإسلامي واقعية "التجربة" التي يعتمد عليها المذهب التجريبي ثم المذهب الوضعي! ولكن النتيجة كانت جموحاً في إبراز الذاتية الإنسانية، اضطر معه إلى تأويل بعض النصوص القرآنية تأويلاً تأباه طبيعتها، كما تأباه طبيعة التصور الإسلامي. لإثبات أن الموت ليس نهاية للتجربة. ولا حتى القيامة. فالتجربة والنمو في الذات الإنسانية مستمران أيضاً-عند إقبال - بعد الجنة والنار. مع أن التصور الإسلامي حاسم في أن الدنيا دار ابتلاء وعمل، وأن الآخرة دار حساب وجزاء. وليست هنالك فرصة للنفس البشرية للعمل إلا في هذه الدار. كما أنه لا مجال لعمل جديد في الدار الآخرة بعد الحساب والجزاء.. ولكن هذا الغلو إنما جاء من الرغبة الجازفة في إثبات "وجود" الذاتية، واستمرارها، أو ألـ "أنا" كما استعار إقبال من اصطلاحات هيجل الفلسفية. ومن ناحية أخرى اضطر إلى إعطاء اصطلاح "التجربة" مدلولاً أوسع مما هو في "الفكر الغربي" وفي تاريخ هذا الفكر. لكي يمد مجاله إلى "التجربة الروحية" التي يزاولها المسلم ويتذوق بها الحقيقة الكبرى. "فالتجربة" بمعناها الاصطلاحي الفلسفي الغربي، لا يمكن أن تشمل الجانب الروحي أصلاً! لأنها نشأت ابتداء لنبذ كل وسائل المعرفة التي لا تعتمد على التجربة الحسية. ومحاولة استعارة الاصطلاح الغربي، هي التي قادت إلى هذه المحاولة. التي يتضح فيها الشد والجذب والجفاف أيضاً. حتى مع شاعرية إقبال الحية المتحركة الرفافة! ولست أبتغي أن أنقص من قدر تلك الجهود العظيمة المثمرة في إحياء الفكر الإسلامي وإنهاضه التي بذلها الأستاذ الإمام وتلاميذه، والتي بذلها الشاعر إقبال .. رحمهم الله رحمة واسعة .. وإنما أريد فقط التنبيه إلى أن دفعة الحماسة لمقاومة انحراف معين، قد تنشئ هي انحرافاً آخر. وأن الأوْلى في منهج البحث الإسلامي، هو عرض حقائق التصور الإسلامي في تكاملها الشامل، وفي تناسقها الهادئ. ووفق طبيعتها الخاصة وأسلوبها الخاص.. * * * وأخيراً فإن هذا البحث ليس كتباً في "الفلسفة" ولا كتاباً في "اللاهوت" ولا كتاباً في "الميتافيزيقا".. إنه عمل يمليه الواقع. وهو يخاطب الواقع أيضاً.. لقد جاء الإسلام لينقذ البشرية كلها من الركام الذي كان ينوء بأفكارها وحياتها ويثقلها. ومن التيه الذي كانت أفكارها وحياتها شاردة فيه. ولينشئ لها تصوراً خاصاً متميزاً متفرداً، وحياة أخرى تسير وفق منهج الله القويم. فإذا بالبشرية كلها اليوم ترتكس إلى التيه وإلى الركام الكريه! ولقد جاء الإسلام لينشئ أمة، يسلمها قيادة البشرية،لتنأى بها عن التيه وعنا لركام.. فإذا هذه الأمة اليوم تترك مكان القيادة، وتترك منهج القيادة، وتلهث وراء الأمم الضاربة فيا لتيه، وفي الركام الكريه! ولقد جاء الإسلام لينشئ أمة، يسلمها قيادة البشرية، لتنأى بها عن التيه وعن الركام.. فإذا هذه الأمة اليوم تترك مكان القيادة، وتترك منهج القيادة، وتلهث وراء الأمم الضاربة في التيه، وفي الركام الكريه! هذا الكتاب محاولة لتحديد خصائص التصور الإسلامي ومقوماته، التي ينبثق منها منهج الحياة الواقعي- كما أراده الله- ودستور النشاط الفكري والعلمي والفني، الذي لابد أن يستمد من التفسير الشامل الذي يقدمه ذلك التصور الأصيل. وكل بحث في جانب من جوانب الفكرة الإسلامية أو النظام الإسلامي، لابد له من أن يرتكن أولاً إلى فكرة الإسلام. والحاجة إلى جلاء تلك الفكرة هي حاجة العقل والقلب. وحاجة الحياة والواقع. وحاجة الأمة المسلمة والبشرية كلها على السواء. وهذا القسم الأول من البحث يتناول "خصائص التصور الإسلامي" وسيتناول القسم الثاني: "مقومات التصور الإسلامي" [والله الموفق والهادي والمعين]. جاء الإسلام، وفي العالم ركام هائل، من العقائد والتصورات، والفلسفات، والأساطير، والأفكار والأوهام، والشعائر والتقاليد، والأوضاع والأحوال.. يختلط فيها الحق بالباطل، والصحيح بالزائف، والدين بالخرافة، والفلسفة بالأسطورة.. والضمير البشري – تحت هذا الركام الهائل – يتخبط في ظلمات وظنون، لا يستقر منها على يقين. والحياة الإنسانية – بتأثير هذا الركام الهائل- تتخبط في فساط وانحلال، وفي ظلم وذل، وفي شقاء وتعاسة، لا تليق بالإنسان، بل لا تليق بقطيع من الحيوان! وكان التيه الذي لا دليل فيه، ولا هدى ولا نور، ولا قرار ولا يقين .. هو ذلك التيه الذي يحيط بتصور البشرية لإلهها وصفاتهن وعلاقته بالكون وعلاقة الكون به، وحقيقة الإنسان، ومركزه في هذا الكون، وغاية وجوده الإنساني، ومنهج تحقيقه لهذه الغاية .. ونوع الصلة بين الله والإنسان على وجه الخصوص.. ومن هذا التيه ومن ذلك الركام كان ينبعث الشر كله في الحياة الإنسانية، وفي الأنظمة التي تقوم عليها. ولم يكن مستطاعاً أن يستقر الضمير البشري على قرار في أمر هذا الكون، وفي أمر نفسه، وفي غاية وجوده وفي منهج حياته، وفي الارتباطات التي تقوم بين الإنسان والكون، والتي تقوم بين أفراده هو وتجمعاته.. لم يكن مستطاعاً أن يستقر الضمير البشري على قرار في شيء من هذا كله، قبل أن يستقر على قرار في أمر عقيدتهن وفي أمر تصوره لإلهه، وقبل أن ينتهي إلى يقين واضح، في وسط هذا العماء الطاخي، وهذا التيه المضل، وهذا الركام الثقيل. ولم يكن الأمر كذلك لأن التفكير الديني كان هو طابع القرون الوسطى – كما يقول مفكرو الغرب، فيتلقف قولتهم هذه ببغاوات الشرق! – كلا .. إنما كان الأمر كذلك لأن هناك حقيقتين أساسيتين، ملازمتين للحياة البشرية، وللنفس البشرية، على كل حال، وفي كل زمان: الحقيقة الأولى: أن هذا الإنسان –بفطرته- لا يملك أن يستقر في هذا الكون الهائل ذرة تائهة مفلتة ضائعة. فلابد من رباط معين بهذا الكون، يضمن له الاستقرار فيه، ومعرفة مكانه في هذا الكون الذي يستقر فيه. فلابد له إذن من عقيدة تفسر له ما حوله، وتفسر له مكانه فيما حوله. فهي ضرورة فطرية شعورية، لا علاقة لها بملابسات العصر والبيئة.. وسنرى حين يتقدم بنا هذا البحث كم كان شقاء الإنسان وحيرته وضلاله حين أخطأ هذا الارتباط، وحقيقة هذا التفسير. والحقيقة الأخرى: هي أن هناك تلازماً وثيقاً بين طبيعة التصور الاعتقادي، وطبيعة النظام الاجتماعي .. تلازماً لا ينفصل، ولا يتعلق بملابسات العصر والبيئة.. بل إن هناك ما هو أكثر من التلازم.. هناك الانبثاق الذاتي.. فالنظام الاجتماعي هو فرع عن التفسير الشامل لهذا الوجود، ولمركز الإنسان فيه ووظيفته، وغاية وجوده الإنساني. وكل نظام اجتماعي لا يقوم على أساس هذا التفسير، هو نظام مصطنع. لا يعيش. وإذا عاش فترة شقى به "الإنسان"، ووقع التصادم بينه وبين الفطرة الإنسانية حتماً.. فهي ضرورة تنظيمية، كما أنها ضرورة شعورية. ولقد كان الرسل – عليهم الصلاة والسلام- من لدن نوح إلى عيسى .. قد بينوا للناس هذه الحقيقة، وعرفوهم بإلههم تعريفاً صحيحاً، وأوضحوا لهم مركز "الإنسان" في الكون، وغاية وجوده .. ولكن الانجرافات الدائمة عن هذه الحقيقة، تحت ضغط الظروف السياسية والشهوات البشيرة، والضعف الإنساني، كانت قد غشت تلك الحقيقة، وأضلت البشرية عنها، وأهالت عليها ركاماً ثقيلاً يصعب رفعه بغير رسالة جديدة كاملة شاملة، ترفع هذا الركام، وتبدد هذا الظلام، وتنير هذا التيه، وتقر التصور الاعتقادي على أساس من الحق الخالص، وتقيم الحياة الإنسانية على أساس مستقر من ذلك التصور الصحيح. وما كان يمكن أن ينصرف أصحاب التصورات المنحرفة في الأرض كلها، وأن ينفكوا عمّا هم فيه، إلا بهذه الرسالة، وإلا بهذا الرسول .. وصدق الله العظيم: (البينة: 1، 2) ولا يدرك الإنسان ضرورة هذه الرسالة، وضرورة هذا الانفكاك عن الضلالات التي كانت البشرية تائهة في ظلماتها، وضرورة الاستقرار على يقين واضح في أمر العقيدة .. حتى يطلع على ضخامة ذلك الركام، وحتى يرتاد ذلك التيه، من العقائد والتصورات، والفلسفات والأساطير، والأفكار والأوهام، والشعائر والتقاليد، والأوضاع والأحوال، التي جاء الإسلام فوجدها ترين على الضمير البشري في كل مكان، وحتى يدرك حقيقة البلبلة والتخليط والتعقيد. التي كانت تتخبط فيها بقايا العقائد السماوية، التي دخلها التحريف والتأويل، والإضافات البشرية إلى المصادر الإلهية، والتي التبست بالفلسفات والوثنيات والأساطير سواء! ولما لم يكن قصدنا –في هذا البحث- هو عرض التصورات، إنما هو عرض التصور الإسلامي، وخصائصه ومقوماته.. فإننا نكتفي بعرض بعض النماذج من التصورات الدينية في اليهودية والمسيحية –كما وصلت إلى عرب الجزيرة- وبعض النماذج من التصورات الجاهلية العربية التي جاء الإسلام فواجهها هناك. لقد حفلت ديانة بني إسرائيل –اليهودية- بالتصورات الوثنية، وباللوثة القومية على السواء. فبنو إسرائيل- وهو يعقوب بن اسحاق بن إبراهيم عليهم السلام –جاءتهم رسلهم- وفي أولهم أبوهم إسرائيل- بالتوحيد الخالص، الذي علمهم إياه أبوهم إبراهيم. ثم جاءهم نبيهم الأكبر موسى –عليه السلام- بدعوة التوحيد أيضاً مع الشريعة الموسوية المبنية على أساسه. ولكنهم انحرفوا على مدى الزمن، وهبطوا في تصوراتهم إلى الوثنيات، واثبتوا في كتبهم (المقدسة!) وفي صلب (العهد القديم) أساطير وتصورات عن الله –سبحانه- لا ترتفع عن أحط التصورات الوثنية للإغريق وغيرهم من الوثنيين، الذين لم يتلقوا رسالة سماوية، ولا كان لهم من عند الله كتاب.. ولقد كانت عقيدة التوحيد التي أسسها جدهم إبراهيم – عليه السلام- عقيدة خالصة ناصعة شاملة متكاملة واجه بها الوثنية مواجهة حاسمة كما صورها القرآن الكريم، ووصى بها إبراهيم بنيه كما وصى بها يعقوب بنيه قبل أن يموت: (الشعراء 69-89) (البقرة 130-133) ومن هذا التوحيد الخالص، وهذه العقيدة الناصعة، وهذا الاعتقاد في الآخرة انتكس الأحفاد. وظلوا في انتكاسهم حتى جاءهم موسى عليه السلام بعقيدة التوحيد والتنزيه من جديد.. والقرآن الكريم يذكر أصول هذه العقيدة التي جاء بها موسى –عليه السلام- لبني إسرائيل، ويذكر تراجعهم عنها: (البقرة 83-85) (البقرة: 92-93) ولقد بدا انحرافهم، وموسى عليه السلام بين أظهرهم .. من ذلك عبادتهم للعجل الذي صنعه لهم السامري، من الذهب الذي حملوه معهم من حلي نساء المصريين. وهو العجل الذي أشير إليه في الآيات السابقة.. وقبل ذلك كانوا قد مرّوا عقب خروجهم من مصر، على قوم يعبدون الأصنام، فطلبوا إلى موسى عليه السلام أن يقيم لهم صنماً يعبدونه! (الأعراف: 138-139) وكذلك حكى القرآن الكثير عن انحرافهم وسوء تصورهم لله سبحانه وشركهم ووثنيتهم: (التوبة: 30) (المائدة: 64) (آل عمران: 181) (البقرة: 55) ومن لوثة القومية واعتقادهم أن إلههم إله قومي! لا يحاسبهم بقانون الأخلاق إلا في سلوكهم مع بعضهم البعض. أما الغرباء –غير اليهود- فهو لا يحاسبهم معهم على سلوك معيب! .. من هذه اللوثة كان قولهم الذي حكاه القرآن الكريم: (آل عمران: 75) وقد تضمنت كتبهم المحرفة أوصافاً لإلههم لا ترتفع كثيراً على أوصاف الإغريق في وثنيتهم لآلهتم: جاء في الإصحاح الثالث من سفر التكوين: (بعد ارتكاب آدم لخطيئة الأمل من الشجرة. وهي كما يقول كاتب الإصحاح: شجرة معرفة الخير والشر): "وسمعنا صوت الرب الإله ماشياً في الجنة عند هبوب ريح النهار. فاختبأ آدم وامرأته من وجه الرب الإله، في وسط شجر الجنة. فنادى الرب الإله آدم. وقال له: أين أنت؟ فقال: سمعت صوتك في الجنة، فخشيت لأني عريان، فختبأت. فقال من أعلمك أنك عريان؟ هل أكلت من الشجرة التي أوصيتك ألا تأكل منها؟. "وقال الرب الإله: هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا، عارفاً الخير والشر، والآن لعله يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضاً! ويأكل ويحيا إلى الأبد.. فأخرجه الرب الإله من جنة عدن، ليعمل في الأرض التي أخذ منها. فطرد الإنسان. وأقام شرقي جنة عدن الكروبيم ولهيب سيف متقلب، لحراسة شجرة الحياة!". وعن سبب الطوفان جاء في هذا السفر نفسه: "وحدث لما ابتدأ الناس يكثرون على الأرض، وولد لهم بنات، أن أبناء الله رأوا بنات الناس أنهن حسنات. فاتخذوا لأنهم نساءً من كل ما اختاروا. فقال الرب: لا يدين روحي في الإنسان إلى الأبد. لزيغانه. هو بشر. وتكون أيامه مئة وعشرين سنة.. كان في الأرض طغاة في تلك الأيام .. وبعد ذلك أيضاً. إذ دخل بنو الله على بنات الناس وولدن أولاداً. هؤلاء هم الجبابرة، الذين منذ الدهر ذوو اسم!!! "ورأى الرب أن شر الإنسان قد كثر في الأرض. وأن كل تصور أفكار قلبه إنما هو شرير كل يوم. فحزن الرب عمل الإنسان في الأرض. وتأسف في قلبه. فقال الرب أمحو عن وجه الأرض الإنسان الذي خلفته. الإنسان مع بهائم ودبابات وطيور السماء. لأني حزنت أني عملتهم. وأما نوح فوجد نعمة في عيني الرب". وجاء في الإصحاح الحادي عشر من سفر التكوين (بعد ما عمرت الأرض بذرية نوح): "وكانت الأرض كلها لساناً واحداً ولغة واحدة. وحدث في ارتحالهم شرقاً أنهم وجدوا نعمة في أرض شنعار، وسكنوا هناك. وقال بعضهم لبعض: هلم نصنع لبناً ونشويه شيا، فكان لهم اللبن مكان الحجر. وكان لهم الحمر مكان الطين. وقالوا: هلم نبن لأنفسنا مدينة وبرجاً رأسه بالسماء. ونصنع لأنفسنا اسماً لئلا نتبدد على وجه كل الأرض.. فنزل الرب المدينة والبرج اللذين كان بنو آدم يبنونهما. وقال الرب: هو ذا شعب واحد ولسان واحد لجميعهم، وهذا ابتداؤهم بالعمل. والآن لا يمتنع عليهم كل ما ينوون أن يعملوه. هلم ننزل ونبلبل هناك لسانهم، حتى لا يسمع بعضهم لسان بعض. فبددهم الرب من هناك على وجه كل الأرض. فكفوا عن بنيان المدينة. لذلك دعى اسمها (بابل) لأن الرب هناك بلبل لسان كل الأرض ومن هناك بددهم الرب على وجه كل الأرض"!!! وجاء في سفر صموئيل الثاني: الإصحاح الرابع والعشرين: "فجعل الرب وباءً في إسرائيل من الصباح إلى الميعاد. فمات من الشعب –من دان إلى بئر سبع- سبعون ألف رجل. وبسط الملاك يده على أورشليم. فندم الرب عن الشر. فقال للملاك المهلك الشعب: كفى الآن رويدك!".. ولم تكن الحال مع النصرانية خيراً مما كانت مع اليهودية. بل كان الأمر أدهى وأمر.. عبرت النصرانية إلى الدولة الرومانية الوثنية في أشد عصور الوثنية والانحلال في هذه الدولة. ثم أخذت تنتشر حتى استطاعت أن تولي قسطنطين امبراطوراً في سنة 305 ميلادية. ومن ثم دخلت الإمبراطورية الرومانية في النصرانية. لا لتخضع للنصرانية. ولكن لتخضع النصرانية لوثنيتها العريقة. وفي هذا يقول الكاتب الأمريكي: درابر في كتابه: "الصراع بين الدين والعلم" "دخلت الوثنية والشرك في النصرانية بتأثير المنافقين، الذين تقلدوا وظائف خطيرة، ومناصب عالية في الدولة الرومانية، بتظاهرهم بالنصرانية. ولم يكونوا يحفلون بأمر الدين. ولم يخلصوا له يوماً من الأيام. وكذلك كان قسطنطين .. فقد قضى عمره في الظلم والفجور، ولم يتقيد بأوامر الكنيسة الدينية إلا قليلاً في آخر عمره سنة 337 ميلادية. "إن الجماعة النصرانية، وإن كانت قد بلغت من القوة بحيث ولت قسطنطين الملك ولكنها لم تتمكن من أن تقطع دابر الوثنية، وتقتلع جرثومتها. وكان نتيجة كفاحها أن اختلطت مبادئها ونشأ من ذلك دين جديد، تتجلى فيه النصرانية والوثنية سواء بسواء.. هنالك يختلف الإسلام عن النصرانية، إذ قضى على منافسه (الوثنية) قضاء باتاً، ونشر عقائده خالصة بغير غبش. "وإن هذا الإمبراطور الذي كان عبداً للدنيا، والذي لم تكن عقائده الدينية تساوي شيئاً، رأى لمصلحته الشخصية، ولمصلحة الحزبين المتنافسين – النصراني والوثني- أن يوحدهما ويؤلف بينهما. حتى أن النصارى الراسخين أيضاً لم ينكروا عليه هذه الخطة. ولعلهم كانوا يعتقدون أن الديانة الجديدة ستزدهر إذا طعمت ونقحت بالعقائد الوثنية القديمة، وسيخلص الدين النصراني عاقبة الأمر من أدناس الوثنية وأرجاسها". ولكن الديانة الجديدة لم تتخلص قط من أناس الوثنية وأرجاسها، وتصوراتها الأسطورية –كما أمّل النصارى الراسخون- فقد ظلت تتلبس بالخلافات السياسية والعنصرية والطائفية، تلبسها بالأساطير الوثنية والتصورات الفلسفية. ووقع انقسام في التصور بغير حد: قالت فرقة: إن المسيح إنسان محض. وقالت فرقة: إن الأب والابن وروح القدس إن هي إلا صور مختلفة أعلن الله بها نفسه للناس. فالله –بزعمهم- مركب من أقانيم ثلاثة: الأب وروح القدس؟ (الابن هو المسيح) فانحدر الله، الذي هو الأب، في صورة روح القدس وتجسد في مريم إنساناً، وولد منها في صورة يسوع. وفرقة قالت: إن الابن ليس أزلياً كالأب بل هو مخلوق من قبل العالم، ولذلك هو دون الأب وخاضع له. وفرقة أنكرت كون روح القدس أقنوماً .. وقرر مجمع نيقية سنة 325ميلادية، ومجمع القسطنطينية سنة 381 أن الابن وروح القدس مساويان للأب في وحدة اللاهوت، وأن الابن قد ولد منذ الأزل من الأب، وأن روح القدس منبثق من الأب .. وقرر مجمع طليطلة سنة 589 بأن روح القدس منبثق من الابن أيضاً. فاختلفت الكنيسة الشرقية والكنيسة الغربية عند هذه النقطة وظلتا مختلفتين .. كذلك ألهت جماعة منهم مريم كما ألّهو المسيح عليه السلام .. ويقول الدكتور ألفرد بتلر في كتابه: "فتح العرب لمصر. ترجمة الأستاذ محمد فريد أبو حديد": "عن ذينك القرنين –الخامس والسادس- كانا عهد نضال متصل بين المصريين والرومانيين. نضال يذكيه اختلاف في الجنس، واختلاف في الدين. وكان اختلاف الدين أشد من اختلاف الجنس. إذ كانت علة العلل في ذلك الوقت تلك العداوة بين الملكانية والمنوفيسية. وكانت الطائفة الأولى – كما يدل عليه اسمها- حزب مذهب الدولة الإمبراطورية وحزب الملك والبلاد وكانت تعتقد العقيدة السية الموروثة- وهي ازدواج طبيعة المسيح- على حين أن الطائفة الأخرى – وهي حزب القبط الموفيسيين –أهل مصر- كانت تستبشع تلك العقيدة وتستفظعها، وتحاربها حرباً عنيفة. في حماسة هوجاء، يصعب علينا أن نتصورها، أو نعرف كنهها في قوم يعقلون، بله يؤمنون بالإنجيل!". ويقول "سيرت. و. أرنولد" في كتابه: "الدعوة إلى الإسلام" عن هذا الخلاف، ومحاولة هرقل لتسويته بمذهب وسط: "ولقد أفلح جستنيان Justinian قبل الفتح الإسلامي بمئة عام في أن يكسب الإمبراطورية الرومانية مظهراً من مظاهر الوحدة. ولكنها سرعان ما تصدعت بعد موتهن وأصبحت في حاجة ماسة إلى شعور قومي مشترك، يربط بين الولايات وحاضرة الدولة. أما هرقل فقد بذل جهوداً لم تصادف نجاحاً كاملاً في إعادة ربط الشام بالحكومة المركزية. ولكن ما اتخذه من وسائل عامة في سبيل التوفيق قد أدى لسوء الحظ إلى زيادة الانقسام بدلاً من القضاء عليه. ولم يكن ثمة ما يقوم مقام الشعور بالقومية سوى العواطف الدينية. فحاول بتفسيره العقيدة تفسيراً يستعين به على تهدئة النفوس، أن يقف كل ما يمكن أن يشجر بعد ذلك بين الطوائف المتناحرة من خصومات، وأن يوحد بين الخارجين على الدين وبين الكنيسة الأرثوذكسية، وبينهم وبين الحكومة المركزية. "وكان مجمع خلقيدونه قد أعلن في سنة 451م "أن المسيح ينبغي أن يعترف بأنه يتمثل في طبيعتين، لا اختلاط بينهما، ولا تغير ولا تجزؤ، ولا انفصال. ولا يمكن أن ينتفي اختلافهما بسبب اتحادهما. بل الأحرى أن تحتفظ كل طبيعة منهما بخصائصها، وتجتمع في أقنوم واحد، وجسد واحد، لا كما لو كانت متجزئة أو منفصلة في أقنومين. بل متجمعة في أقنوم واحد: هو ذلك الابن الواحد والله والكلمة. "وقد رفض اليعاقبة هذا المجمع. وكانوا لا يعترفون في المسيح إلا بطبيعة واحدة. وقالوا: إنه مركب الأقاليم، له كل الصفات الإلهية والبشرية. ولكن المادة التي تحمل هذه الصفات لم تعد ثنائية، بل أصبحت وحدة مركبة الأقانيم. "وكان الجدل قد احتدم قرابة قرنين من الزمان بين طائفة الأرثوذكس وبين اليعاقبة الذين ازدهروا بوجه خاص في مصر والشام، والبلاد الخارجة عن نطاق الإمبراطورية البيزنطيةن في الوقت الذي سعى فيه هرقل في إصلاح ذات البين عن طريق المذهب القائل بأن للمسيح مشيئة واحدة: Monotheletism: ففي الوقت الذي نجد هذا المذهب يعترف بوجود الطبيعتين، إذا به يتمسك بوحدة الأقنوم في حياة المسيح البشرية. وذلك بإنكاره وجود نوعين من الحياة في أقنوم واحد. فالمسيح الواحد، الذي هو ابن الله، يحقق الجانب الإنساني، والجانب الإلهي. بقوة إلهية إنسانية واحدة. ومعنى ذلك أنه لا يوجد سوى إرادة واحدة في الكلمة المتجسدة. "لكن هرقل قد لقي المصير الذي انتهى إليه كثيرون جداًن ممن كانوا يأملون أن يقيموا دعائم السلام، ذلك أن الجدل لم يحتدم مرة أخرى كأعنف ما يكون الاحتدام فحسب. بل إن هرقل نفسه قد وصم بالإلحاد، وجر على نفسه سخط الطائفتين سواء"! وقد ورد في القرآن الكريم بعض الإشارات إلى هذه الانحرافات، ونهى لأهل الكتاب عنها، وتصحيح حاسم لها، وبيان لأصل العقيدة النصرانية كما جاءت من عند الله، قبل التحريف والتأويل: (المائدة: 72-77) (التوبة: 30) (المائدة: 116-118) وهكذا نرى مدى الانحراف الذي دخل على النصرانية، من جراء تلك الملابسات التاريخية، حتى انتهت إلى تلك التصورات الوثنية الأسطورية، التي دارت عليهم الخلافات والمذابح عدة قرون! أما الجزيرة العربية التي نزل فيها القرآن، فقد كانت تعج بركام العقائد والتصورات. ومن بينها ما نقلته من الفرس وما تسرب إليها من اليودية والمسيحية في صورتهما المنحرفة.. مضافاً إلى وثنيتها الخاصة المتخلفة من الانحرافات في ملة إبراهيم التي ورثها العرب صحيحة ثم حرفوها ذلك التحريف. والقرآن يشير إلى ذلك الركام كله بوضوح: زعموا أن الملائكة بنات الله –مع كراهيتهم هم للبنات!- ثم عبدوا الملائكة- أو تماثيلها الأصنام- معتقدين أن لها عند الله شفاعة لا ترد، وأنهم يتقربون بها إليه سبحانه: (الزخرف: 15-20) (الزمر: 3-4) (يونس:18) وزعموا أن بين الله –سبحانه- وبين الجنة نسباً. وأن له –سبحانه- منهم صاحبة. ولدت له الملائكة! وعبدوا الجن أيضاً.. قال الكلبي في كتاب الأصنام: "كانت بنو مليح من خزاعة يعبدون الجن". وجاء في القرآن الكريم عن هذه الأسطورة: (الصافات: 149-159) (سبأ: 40-41) وشاعت بينهم عبادة الأصنام إما بوصفها تماثيل للملائكة، وإما بوصفها تماثيل للأجداد، وإما لذاتها. وكانت الكعبة، التي بنيت لعبادة الله الواحد، تعج بالأصنام، إذ كانت تحتوي على ثلاثمائة وستين صنماً. غير الأصنام الكبرى في جهات متفرقة. ومنها ما ذكر في القرآن بالاسم كاللات والعزى ومناة. ومنها هبل الذي نادى أبو سفيان باسمه يوم "أحد" قائلاً: اعلُ هبل! ومما يدل على أن اللات والعزى ومناة كانت تماثيل للملائكة ما جاء في القرآن في سورة النجم: (النجم: 19-28) وانحطت عبادة الأصنام فيهم حتى كانوا يعبدون جنس الحجر! روى البخاري عن أبي رجاء العطاردي قال: "كنا نعبد الحجر. فإذا وجدنا حجراً هو خير منه ألقيناه وأخذنا الآخر! فإذا لم نجد جمعنا جثوة من تراب، ثم جئنا بالشاة فحلبنا عليه، ثم طفنا به". وقال الكلبي في كتاب الأصنام: كان الرجل إذا سافر فنزل منزلاً أخذ أربعة أحجار فنظر إلى أحسنها، فجعله ربّاً، وجعل ثلاث أثافيّ لقدره. وإذا ارتحل تركه". وعرفوا عبادة الكواكب – كما عرفها الفرس من بين عباداتهم-قال صاعد: كانت حمير تعبد الشمس. وكنانة القمر. وتميم الدبران. ولخمٌ وحذامٌ المشترى. وطيئُ سهيلاً. وقيسُ الشعري العبّور. وأسدٌ عطارد". وقد جاء عن هذا في سورة فصلت: (فصلت: 37) وجاء في سورة النجم: (النجم: 49) وكثرت الإشارات إلى خلق النجوم والكواكب وربوبية الله سبحانه لها كبقية خلائقه. وذلك لنفي ألوهية الكواكب وعبادتها.. وعلى العموم فقد تغلغلت عقائد الشرك في حياتهم. فقامت على أساسها الشعائر الفاسدة، التي أشار إليها القرآن الكريم في مواضع كثيرة.. من ذلك جعلهم بعض ثمار الزروع، وبعض نتاج الأنعام خاصاً بهذه الآلهة المدعاة، لا نصيب فيه لله –سبحانه- وأحياناً يحرمونها على أنفسهم. أو يحرمون بعضها على إناثهم دون ذكورهم. أو يمنعون ظهور بعض الأنام على الركوب أو الذبح. وأحياناً يقدمون أبناءهم ذبائح لهذه الآلهة في نذر. كالذي روى عن نذر عبد المطلب أن يذبح ابنه العاشر، إن وهُب عشرة أبناء يحمونه. فكان العاشر عبد الله.. ثم افتداه من الآلهة بمئة ناقة!.. وكان أمر الفتوى في هذه الشعائر كلها للكواهن والكهان! وفي هذا يقول القرآن الكريم: (الأنعام: 136-140) وكانت فكرة التوحيد الخالص هي أشد الأفكار غرابة عندهم، هي وفكرة البعث سواء. ذلك مع اعترافهم بوجود الله –سبحانه وتعالى- وأنه الخالق للسماوات والأرض وما بينهما. ولكنهم ما كانوا يريدون أن يعترفوا بمقتضى الوحدانية هذه وهو أن يكون الحكم لله وحده في حياتهم وشؤونهم، وأن يتلقوا منه وحده الحلال والحرام، وأن يكون إليه وحده مرد أمرهم كله في الدنيا والآخرة. وأن يتحاكموا في كل شيء إلى شريعته ومنهجه وحده .. الأمر الذي لا يكون بغيره دين ولا إيمان. يدل على ذلك ما حكاه القرآن الكريم من معارضتهم الشديدة لهاتين الحقيقتين: (ص: 4-7) هذه هي الصورة الشائهة للتصورات في الجزيرة العربية نضيفها إلى ذلك الركام من بقايا العقائد السماوية المنحرفة، التي كانت سائدة في الشرق والغرب، يوم جاء الإسلام، فتتجمع منها صورة مكتملة لذلك الركام الثقيل، الذي كان يجثم على ضمير البشرية في كل مكان، والذين كانت تنبثق منه أنظمتهم وأوضاعهم وآدابهم وأخلاقهم كذلك. ومن ثم كانت عناية الإسلام الكبرى موجهة إلى تحرير أمر العقيدة، وتحديد الصورة الصحيحة التي يستقر عليها الضمير البشري في حقيقة الأولوهية، وعلاقتها بالخلق، وعلاقة الخلق بها.. فتستقر عليها نظمهم وأوضاعهم، وعلاقاتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وآدابهم وأخلاقهم كذلك. فما يمكن أن تستقر هذه الأمور كلها، إلا أن تستقر حقيقة الألوهية، وتتبين خصائصها واختصاصاتها. وعني الإسلام عناية خاصة بإيضاح طبيعة الخصائص والصفات الإلهية المتعلقة بالخلق والإرادة والهيمنة والتدبير .. ثم بحقيقة الصلة بين الله والإنسان.. فلقد كان معظم الركام في ذلك التيه الذي تخبط فيه العقائد والفلسفات، مما يتعلق بهذا الأمر الخطير الأثر في الضمير البشري وفي الحياة الإنسانية كلها. ولقد جاء الإسلام –وهذا ما يستحق الانتباه والتأمل- بما يعد تصحيحاً لجميع أنواع البلبلة، التي وقعت فيها الديانات المحرفة، والفلسفات الخابطة في الظلام. وما يعد رداً على جميع الانحرافات والأخطاء التي وقعت فيها تلك الديانات والفلسفات .. سواء ما كان منها قبل الإسلام وما جدّ بعده كذلك .. فكانت هذه الظاهرة العجيبة إحدى الدلائل على مصدر هذا الدين .. المصدر الذي يحيط بكل ما هجس في خاطر البشرية وكل ما يهجس، ثم يتناوله بالتصحيح والتنقيح! والذي يراجع ذلك الجهد المتطاول الذي بذله الإسلام لتقرير كلمة الفصل في ذات الله –سبحانه- وفي صفاته. وفي علاقته بالخلق وعلاقة الخلق به .. ذلك الجهد الذي تمثله النصوص الكثيرة –كثرة ملحوظة- في القرآن المكي بصفة خاصة، وفي القرآن كله على وجه العموم.. الذي يراجع ذلك الجهد المتطاول، دون أن يراجع ذلك الركام الثقيل، في ذلك التيه الشامل، الذي كانت البشرية كلها تخبط فيه، والذي ظلت تخبط فيه أيضاً كلما انحرفت عن منهج الله أو صدت عنه، واتبعت السبل، فتفرقت بها عن سبيله الواحد المستقيم.. الذي يراجع ذلك الجهد، دون أن يراجع ذلك الركام، قد لا يدرك مدى الحاجة إلى كل هذا البيان المؤكد المكرر في القرآن، وإلى هذا التدقيق الذي يتتبع كل مسالك الضمير وكل مسالك الحياة. ولكن مراجعة ذلك الركام تكشف عن ضرورة ذلك الجهد، كما تكشف عن عظمة الدور الذي جاءت هذه العقيدة لتؤديه في تحرير الضمير البشري وإعتاقه، وفي تحرير الفكر البشري وإطلاقه، وفي تحرير الحياة. والحياة تقوم على أساس التصور الاعتقادي كيفما كان. عندئذ ندرك قيمة هذا التحرر في إقامة الحياة على منهج سليم قويم، يستقيم به أمر الحياة البشرية، وتنجو به الفساد والتخبط ومن الظلم أو الاستذلال .. وندرك قيمة قول عمر –رضي الله عنه- "ينقض الإسلام عروة عروة من نشأ في الإسلام ولم يعرف الجاهلية".. فالذي يعرف الجاهلية هو الذي يدرك قيمة الإسلام، ويعرف كيف يحرص على رحمة الله المتمثلة فيه، ونعمة الله المتحققة به. إن جمال هذه العقيدة وكمالها وتناسقها، وبساطة الحقيقة الكبيرة التي تمثلها .. إن هذا كله لا يتجلى للقلب والعقل، كما يتجلى من مراجعة ركام الجاهلية –السابقة للإسلام واللاحقة- عندئذ تبدو هذه العقيدة رحمة .. رحمة حقيقية .. رحمة للقلب والعقل. ورحمة بالحياة والأحياء. رحمة بما فيها من جمال وبساطة، ووضوح وتناسق، وقرب وأنس، وتجاوب مع الفطرة مباشر عميق.. وصدق الله العظيم:
|