الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **
{وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا} قوله تعالى{وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر{ {الحق{ رفع على خبر الابتداء المضمر؛ أي قل هو الحق. وقيل: هو رفع على الابتداء، وخبره في قوله {من ربكم{. ومعنى الآية: قل يا محمد لهؤلاء الذين أغفلنا قلوبهم عن ذكرنا: أيها الناس من ربكم الحق فإليه التوفيق والخذلان، وبيده الهدى والضلال، يهدي من يشاء فيؤمن، ويضل من يشاء فيكفر؛ ليس إلي من ذلك شيء، فالله يؤتي الحق من يشاء وإن كان ضعيفا، ويحرمه من يشاء وإن كان قويا غنيا، ولست بطارد المؤمنين لهواكم؛ فإن شئتم فآمنوا، وإن شئتم فاكفروا. وليس هذا بترخيص وتخيير بين الإيمان والكفر، وإنما هو وعيد وتهديد. أي إن كفرتم فقد أعد لكم النار، وإن آمنتم فلكم الجنة. قوله تعالى{إنا أعتدنا{ أي أعددنا. {للظالمين{ أي للكافرين الجاحدين. {نارا أحاط بهم سرادقها{ قال الجوهري: السرادق واحد السرادقات التي تمد فوق صحن الدار. وكل بيت من كرسف فهو سرادق. قال رؤبة: يقال: بيت مسردق. وقال سلامة بن جندل يذكر أبرويز وقتله النعمان بن المنذر تحت أرجل الفيلة: وقال ابن الأعرابي{سرادقها{ سورها. وعن ابن عباس: حائط من نار. الكلبي: وقال ابن الأعرابي{سرادقها{ سورها. وعن ابن عباس: حائط من نار. الكلبي: عنق تخرج من النار فتحيط بالكفار كالحظيرة. القتبي: السرادق الحجرة التي تكون حول الفسطاط. وقال ابن عزيز. وقيل: هو دخان يحيط بالكفار يوم القيامة، وهو الذي ذكره الله تعالى في سورة {والمرسلات{. حيث يقول قلت: وهذا يدل على أن السرادق ما يعلو الكفار من دخان أو نار، وجدره ما وصف. قوله تعالى{وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه{ قال ابن عباس: المهل ماء غليظ مثل دردي الزيت. مجاهد: القيح والدم. الضحاك: ماء أسود، وإن جهنم لسوداء، وماؤها أسود وشجرها أسود وأهلها سود. وقال أبو عبيدة: هو كل ما أذيب من جواهر الأرض من حديد ورصاص ونحاس وقصدير، فتموج بالغليان، فذلك المهل. ونحوه عن ابن مسعود قال سعيد بن جبير: هو الذي قد انتهى حره. وقال: المهل ضرب من القطران؛ يقال: مهلت البعير فهو ممهول. وقيل: هو السم. والمعنى في هذه الأقوال متقارب. قلت: وهذا يدل على صحة تلك الأقوال، وأنها مرادة، والله اعلم. وكذلك نص عليها أهل اللغة. في الصحاح {المهل{ النحاس المذاب. ابن الأعرابي: المهل المذاب من الرصاص. وقال أبو عمرو. المهل دردي الزيت. والمهل أيضا القيح والصديد. وفي حديث أبي بكر: ادفنوني في ثوبي هذين فإنهما للمهل والتراب. و{مرتفقا{ قال مجاهد: معناه مجتمعا، كأنه ذهب إلى معنى المرافقة. ابن عباس: منزلا. عطاء: مقرا. وقيل مهادا. وقال القتبي: مجلسا، والمعنى متقارب؛ وأصله من المتكأ، يقال منه: ارتفقت أي اتكأت على المرفق. قال الشاعر: ويقال: ارتفق الرجل إذا نام على مرفقه لا يأتيه نوم. قال أبو ذؤيب الهذلي: الصاب: عصارة شجر مر. {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا، أولئك لهم جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق متكئين فيها على الأرائك نعم الثواب وحسنت مرتفقا} لما ذكر ما أعد للكافرين من الهوان ذكر أيضا ما للمؤمنين من الثواب. وفي الكلام إضمار؛ أي لا نضيع أجر من أحسن منهم عملا، فأما من أحسن عملا من غير المؤمنين فعمله محبط. و{عملا{ نصب على التمييز، وإن شئت بإيقاع {أحسن{ عليه. وقيل{إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا{ كلام معترض، والخبر قوله {أولئك لهم جنات عدن{. و{جنات عدن{ سرة الجنة، أي وسطها وسائر الجنات محدقة بها وذكرت بلفظ الجمع لسعتها؛ لأن كل بقعة منها تصلح أن تكون جنة وقيل: العدن الإقامة، يقال: عدن بالمكان إذا أقام به وعدنت البلد توطنته وعدنت الإبل بمكان كذا لزمته فلم تبرح منه؛ ومنه {جنات عدن{ أي جنات إقامة ومنه سمي المعدن (بكسر الدال)؛ لأن الناس يقيمون فيه بالصيف والشتاء ومركز كل شيء معدنه والعادن: الناقة المقيمة في المرعى. وعدن بلد؛ قاله الجوهري. {تجري من تحتهم الأنهار{ تقدم. {يحلون فيها من أساور من ذهب{ وهو جمع سوار. قال سعيد بن جبير: على كل واحد منهم ثلاثة أسورة: واحد من ذهب، وواحد من ورق، وواحد من لؤلؤ. قلت: هذا منصوص في القرآن، قال هنا {من ذهب{ وقال في الحج وفاطر قلت: قد جاء في الصحاح وقال أبو عمرو بن العلاء: وأحدها إسوار. وقال المفسرون: لما كانت الملوك تلبس في الدنيا الأساور. والتيجان جعل الله تعالى ذلك لأهل الجنة. قوله تعالى{ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق{ السندس: الرفيق النحيف، واحده سندسة؛ قال الكسائي. والإستبرق: ما ثخن منه - عن عكرمة - وهو الحرير. قال الشاعر: فالإستبرق الديباج. ابن بحر: المنسوج بالذهب. القتبي: فارسي معرب. الجوهري: وتصغيره أبيرق. وقيل: هو استفعل من البريق. والصحيح أنه وفاق بين اللغتين؛ إذ ليس في القرآن ما ليس من لغة العرب، على ما تقدم، والله اعلم.{ وخص الأخضر بالذكر لأنه الموافق للبصر؛ لأن البياض يبدد النظر ويؤلم، والسواد يذم، والخضرة بين البياض والسواد، وذلك يجمع الشعاع. والله اعلم. قوله تعالى{متكئين فيها على الأرائك{ {الأرائك{ جمع أريكة، وهي السرر في الحجال. وقيل الفرش في الحجال؛ قاله الزجاج. ابن عباس: هي الأسرة من ذهب، وهي مكللة بالدر والياقوت عليها الحجال، الأريكة ما بين صنعاء إلى أيلة وما بين عدن إلى الجابية. وأصل متكئين موتكئين، وكذلك اتكأ أصله أو تكأ، وأصل التكأة وكأة؛ ومنه التوكأ للتحامل على الشيء، فقلبت الواو تاء وأدغمت. ورجل وكأة كثير الاتكاء. {نعم الثواب وحسنت مرتفقا{ يعني الجنات، عكس {وساءت مرتفقا{. وقد تقدم. ولو كان {نعمت{ لجاز لأنه اسم للجنة. وعلى هذا {وحسنت مرتفقا{. {واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا، كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا وفجرنا خلالهما نهرا، وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا} قوله تعالى{واضرب لهم مثلا رجلين{ هذا مثل لمن يتعزز بالدنيا ويستنكف عن مجالسة المؤمنين، وهو متصل بقوله قال عطاء: كانا شريكين لهما ثمانية آلاف دينار. وقيل: ورثاه من أبيهما وكانا أخوين فاقتسماها، فاشترى أحدهما أرضا بألف دينار، فقال صاحبه: اللهم إن فلانا قد اشترى أرضا بألف دينار وإني اشتريت منك أرضا في الجنة بألف دينار فتصدق بها، ثم إن صاحبه بنى دارا بألف دينار فقال: اللهم إن فلانا بنى دارا بألف دينار وإني اشتري منك دارا في الجنة بألف دينار، فتصدق بها، ثم تزوج امرأة فأنفق عليها ألف دينار، فقال: اللهم إن فلانا تزوج امرأة بألف دينار وإني أخطب إليك من نساء الجنة بألف دينار، فتصدق بألف دينار. ثم اشترى خدما ومتاعا بألف دينار، وإني أشتري منك خدما ومتاعا من الجنة بألف دينار، فتصدق بألف دينار. ثم أصابته حاجة شديدة فقال: لعل صاحبي ينالني معروفه فأتاه فقال: ما فعل مالك؟ فأخبره قصته فقال: وإنك لمن المصدقين بهذا الحديث والله لا أعطيك شيئا ثم قال له: أنت تعبد إله السماء، وأنا لا أعبد إلا صنما؛ فقال صاحبه: والله لأعظنه، فوعظه وذكره وخوفه. فقال: سر بنا نصطد السمك، فمن صاد أكثر فهو على حق؛ فقال له: يا أخي إن الدنيا أحقر عند الله من أن يجعلها ثوابا لمحسن أو عقابا لكافر. قال: فأكرهه على الخروج معه، فابتلاهما الله، فجعل الكافر يرمي شبكته ويسمي باسم صنمه، فتطلع متدفقه سمكا. وجعل المؤمن يرمي شبكته ويسمي باسم الله فلا يطلع له فيها شيء؛ فقال له: كيف ترى أنا أكثر منك في الدنيا نصيبا ومنزلة ونفرا، كذلك أكون أفضل منك في الآخرة إن كان ما تقول بزعمك حقا. قال: فضج الملك الموكل بهما، فأمر الله تعالى جبريل أن يأخذه فيذهب به إلى الجنان فيريه منازل المؤمن فيها، فلما رأى ما أعد الله له قال: وعزتك لا يضره ما ناله من الدنيا بعد ما يكون مصيره إلى هذا؛ وأراه منازل الكافر في جهنم فقال: وعزتك لا ينفعه ما أصابه من الدنيا بعد أن يكون مصيره إلى هذا. ثم إن الله تعالى توفى المؤمن وأهلك الكافر بعذاب من عنده، فلما استقر المؤمن في الجنة ورأى ما أعد الله له أقبل هو وأصحابه يتساءلون، فقال بين الله تعالى حال الأخوين في الدنيا في هذه السورة، وبين حالهما في الآخرة في سورة {الصافات{ في قول { قوله تعالى{وحففناهما بنخل{ أي أطفناهما من جوانبهما بنخل. والحفاف الجانب، وجمعه أحفة؛ ويقال: حف القوم بفلان يحفون حفا، أي طافوا به؛ ومنه قوله تعالى{كلتا الجنتين{ أي كل واحدة من الجنتين، واختلف في لفظ {كلتا وكلا{ هل هو مفرد أو مثنى؛ فقال أهل البصرة: هو مفرد؛ لأن كلا وكلتا في توكيد الاثنين نظير {كل{ في المجموع، وهو اسم مفرد غير مثنى؛ فإذا ولي اسما ظاهرا كان في الرفع والنصب والخفض على حالة واحدة، تقول: رأيت كلا الرجلين وجاءني كلا الرجلين ومررت بكلا الرجلين؛ فإذا اتصل بمضمر قلبت الألف ياء في موضع الجر والنصب، تقول: رأيت كليهما ومررت بكليهما، كما تقول عليهما. وقال الفراء: هو مثنى، وهو مأخوذ من كل فخففت اللام وزيدت الألف للتثنية. وكذلك كلتا للمؤنث، ولا يكونان إلا مضافين ولا يتكلم بواحد، ولو تكلم به لقيل: كل وكلت وكلان وكلتان. واحتج بقول الشاعر: أراد في إحدى رجليها فأفرد. وهذا القول ضعيف عند أهل البصرة؛ لأنه لو كان مثنى لوجب أن تكون ألفه في النصب والجر ياء مع الاسم الظاهر، ولأن معنى {كلا{ مخالف لمعنى {كل{ لأن {كلا{ للإحاطة و{كلا{ يدل على شيء مخصوص، وأما هذا الشاعر فإما حذف الألف للضرورة وقدر أنها زائدة، وما يكون ضرورة لا يجوز أن يجعل حجة، فثبت أنه اسم مفرد كمعى، إلا أنه وضع ليدل على التثنية، كما أن قولهم {نحن{ اسم مفرد يدل على اثنين فما فوقهما، يدل على ذلك قول جرير: فأخبر عن {كلا{ بيوم مفرد، كما أفرد الخبر بقوله {آتت{ ولو كان مثنى لقال آتتا، ويوما. واختلف أيضا في ألف {كلتا{؛ فقال سيبويه: ألف {وكلتا{ للتأنيث والتاء بدل من لام الفعل وهي واو والأصل كلوا، وإنما أبدلت تاء لأن في التاء علم التأنيث، والألف {في كلتا{ قد تصير ياء مع المضمر فتخرج عن علم التأنيث، فصار في إبدال الواو تاء تأكيد للتأنيث. وقال أبو عمر الجرمي: التاء ملحقة والألف لام الفعل، وتقديرها عنده: فعتل، ولو كان الأمر على ما زعم الجرمي: التاء ملحقة والألف لام الفعل، وتقديرها عنده: فعتل، ولو كان الأمر على ما زعم لقالوا في النسبة إليها كلتوي، فلما قالوا كلوي وأسقطوا التاء دل على أنهم أجروها مجرى التاء في أخت إذا نسبت إليها قلت أخوي؛ ذكره الجوهري. قال أبو جعفر النحاس: وأجاز النحويون في غير القرآن الحمل على المعنى، وأن تقول: كلتا الجنتين آتتا أكلهما؛ لأن المعنى المختار كلتاهما آتتا. وأجاز الفراء: كلتا الجنتين آتى أكله، قال: لأن المعنى كل الجنتين. قال: وفي قراءة عبدالله {كل الجنتين أتى أكله{. والمعنى على هذا عند الفراء: كل شيء من الجنتين آتي أكله. والأكل (بضم الهمزة) ثمر النخل والشجر. وكل ما يؤكل فهو أكل؛ ومنه قوله تعالى قوله تعالى{وفجرنا خلالهما نهرا{ أي أجرينا وشققنا وسط الجنتين بنهر. {وكان له ثمر{ قرأ أبو جعفر وشيبة وعاصم ويعقوب وابن أبي إسحاق {ثمر{ بفتح الثاء والميم، وكذلك قوله قوله تعالى{فقال لصاحبه وهو يحاوره{ أي يراجعه في الكلام ويجاوبه. والمحاورة المجاوبة، والتحاور التجاوب. ويقال: كلمته فما أحار إلي جوابا، وما رجع إلي حويرا ولا حويرة ولا محورة ولا حوارا؛ أي ما رد جوابا. {أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا{ النفر: الرهط وهو ما دون العشرة. وأراد ههنا الاتباع والخدم والولد، حسبما تقدم بيانه. {ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا، وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا} قوله تعالى{ودخل جنته{ قيل: أخذ بيد أخيه المؤمن يطيف به فيها ويريه إياها. {وهو ظالم لنفسه{ أي بكفره، وهو جملة في موضع الحال. ومن أدخل نفسه النار بكفره فهو ظالم لنفسه. {قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا{ أنكر فناء الدار. {وما أظن الساعة قائمة{ أي لا أحسب البعث كائنا. {ولئن رددت إلى ربي{ أي وإن كان بعث فكما أعطاني هذه النعم في الدنيا فسيعطيني أفضل منه لكرامتي عليه؛ وهو معنى قوله {لأجدن خيرا منها منقلبا{ وإنما قال ذلك لما دعاه أخوه إلى الإيمان بالحشر والنشر. وفي مصاحف مكة والمدينة والشام {منهما{. وفي مصاحف أهل البصرة والكوفة {منها{ على التوحيد، والتثنية أولى؛ لأن الضمير أقرب إلى الجنتين. {قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا، لكنا هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا} قوله تعالى{قال له صاحبه وهو يحاوره{ يهوذا أو تمليخا؛ على الخلاف في اسمه. {أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا{ وعظه وبين له أن ما اعترف به من هذه الأشياء التي لا ينكرها أحد أبدع من الإعادة. و{سواك رجلا{ أي جعلك معتدل القامة والخلق، صحيح الأعضاء ذكرا. {لكنا هو الله ربي{ كذا قرأه أبو عبدالرحمن السلمي وأبو العالية. وروي عن الكسائي {لكن هو الله{ بمعنى لكن الأمر هو الله ربي، فأضمر اسمها فيها. وقرأ الباقون {لكنا{ بإثبات الألف. قال الكسائي: فيه تقديم وتأخير، تقديره: لكن الله هو ربي أنا، فحذفت الهمزة من {أنا{ طلبا للخفة لكثرة الاستعمال وأدغمت إحدى النونين في الأخرى وحذفت ألف {أنا{ في الوصل وأثبتت في الوقف. وقال النحاس: مذهب الكسائي والفراء والمازني أن الأصل لكن أنا فألقيت حركة الهمزة على نون لكن وحذفت الهمزة وأدغمت النون في النون فالوقف عليها لكنا وهي ألف أنا لبيان الحركة. وقال أبو عبيدة: الأصل لكن أنا، فحذفت الألف فالتقت نونان فجاء بالتشديد لذلك، وأنشدنا الكسائي: أراد: لله إنك، فأسقط إحدى اللامين من {لله{ وحذف الألف من إنك. وقال آخر فجاء به على الأصل: أي لكن أنا. وقال أبو حاتم: ورووا عن عاصم {لكنا هو الله ربي{ وزعم أن هذا لحن، يعني إثبات الألف في الإدراج. قال الزجاج: إثبات الألف في {لكنا هو الله ربي{ في الإدراج جيد؛ لأنه قد حذفت الألف من أنا فجاؤوا بها عوضا. قال: وفي قراءة أبي {لكن أنا هو الله ربي{. وقرأ ابن عامر والمسيلي عن نافع ورويس عن يعقوب {لكنا{ في حال الوقف والوصل معا بإثبات الألف. وقال الشاعر: وقال الأعشى: ولا خلاف في إثباتها في الوقف. {هو الله ربي{ {هو{ ضمير القصة والشأن والأمر؛ كقوله {ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا، فعسى ربي أن يؤتين خيرا من جنتك ويرسل عليها حسبانا من السماء فتصبح صعيدا زلقا، أو يصبح ماؤها غورا فلن تستطيع له طلبا} قوله تعالى{ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله{ أي بالقلب، وهو توبيخ ووصية من المؤمن للكافر ورد عليه، إذ قال قال أشهب قال مالك: ينبغي لكل من دخل منزله أن يقول هذا. وقال ابن وهب وقال لي حفص بن ميسرة: رأيت على باب وهب بن منبه مكتوبا {ما شاء الله لا قوة إلا بالله{. قوله تعالى{إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا{ {إن{ شرط {ترن{ مجزوم به، والجواب {فعسى ربي{ و{أنا{ فاصلة لا موضع لها من الإعراب. ويجوز أن تكون في موضع نصب توكيدا للنون والياء. وقرأ عيسى بن عمر {إن ترن أنا أقل منك{ بالرفع؛ يجعل {أنا{ مبتدأ و{أقل{ خبره، والجملة في موضع المفعول الثاني، والمفعول الأول النون والياء؛ إلا أن الياء حذفت لأن الكسرة تدل عليها، وإثباتها جيد بالغ وهو الأصل لأنها الاسم على الحقيقة. و{فعسى{ بمعنى لعل أي فلعل ربي. {أن يؤتيني خيرا من جنتك{ أي في الآخرة. وقيل في الدنيا. {ويرسل عليها{ أي على جنتك. {حسبانا من السماء فتصبح صعيدا زلقا{ أي مرامي من السماء، وأحدها حسبانة؛ قاله الأخفش والقتبي وأبو عبيدة. وقال ابن الأعرابي: والحسبانة السحابة، والحسبانة الوسادة، والحسبانة الصاعقة. وقال الجوهري: والحسبان (بالضم): العذاب. وقال أبو زياد الكلابي: أصاب الأرض حسبان أي جراد. والحسبان أيضا الحساب، قال الله تعالى والمزلقة والمزلقة: الموضع الذي لا يثبت عليه قدم. وكذلك الزلاقة. والزلق الحلق، زلق رأسه يزلقه زلقا حلقه؛ قال الجوهري. والزلق المحلوق، كالنقض والنقض. وليس المراد أنها تصير مزلقة، بل المراد أنها لا يبقى فيها نبات كالرأس إذا حلق لا يبقى عليه شعر؛ قاله القشيري. {أو يصبح ماؤها غورا{ أي غائرا ذاهبا، فتكون أعدم أرض للماء بعد أن كانت أوجد أرض للماء. والغور مصدر وضع موضع الاسم؛ كما يقال: رجل صوم وفطر وعدل ورضا وفضل وزور ونساء نوح؛ ويستوي فيه المذكر والمؤنث والتثنية والجمع. قال عمرو بن كلثوم: آخر: أي نائحات. وقيل: أو يصبح ماؤها ذا غور؛ فحذف المضاف؛ مثل وغارت الشمس تغور غيارا، أي غربت. قال أبو ذؤيب: {فلن تستطيع له طلبا{ أي لن تستطيع رد الماء الغائر، ولا تقدر عليه بحيلة. وقيل: فلن تستطيع طلب غيره بدلا منه. وإلى هذا الحديث انتهت مناظرة أخيه وإنذاره. {وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحدا} قوله تعالى{وأحيط بثمره{ اسم ما لم يسم فاعله مضمر، وهو المصدر. ويجوز أن يكون المخفوض في موضع رفع. ومعنى {أحيط بثمره{ أي أهلك ماله كله. وهذا أول ما حقق الله تعالى به إنذار أخيه. {فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها{ أي فأصبح الكافر يضرب إحدى يديه على الأخرى ندما؛ لأن هذا يصدر من النادم. وقيل: يقلب ملكه فلا يرى فيه عوض ما أنفق؛ وهذا لأن الملك قد يعبر عنه باليد، من قولهم: في يده مال، أي في ملكه مال. ودل قوله {فأصبح{ على أن هذا الإهلاك جرى بالليل؛ كقوله {ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا} قوله تعالى{ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله{ {فئة{ اسم {تكن{ و{له{ الخبر. {ينصرونه{ في موضع الصفة، أي فئة ناصرة. ويجوز أن يكون {ينصرونه{ الخبر. والوجه الأول عند سيبويه أولى لأنه قد تقدم {له{. وأبو العباس يخالفه، ويحتج بقول الله عز وجل قوله تعالى{وما كان منتصرا{ أي ممتنعا؛ قاله قتادة. وقيل: مستردا بدل ما ذهب منه. وقد تقدم اشتقاق الفئة في {آل عمران{. والهاء عوض من الياء التي نقصت من وسطه، أصله فيء مثل فيع؛ لأنه من فاء، ويجمع على فئون وفئات، مثل شيات ولدات ومئات. أي لم تكن له عشيرة يمنعونه من عذاب الله، وضل عنه من افتخر بهم من الخدم والولد. {هنالك الولاية لله الحق هو خير ثوابا وخير عقبا} قوله تعالى{هنالك الولاية لله الحق{ اختلف في العامل في قوله {هنالك{ وهو ظرف؛ فقيل: العامل فيه {ولم تكن له فئة{ ولا كان هنالك؛ أي ما نصر ولا انتصر هنالك، أي لما أصابه من العذاب. وقيل: تم الكلام عند قوله {منتصرا{. والعامل في قوله {هنالك{{الولاية{. وتقديره على التقديم والتأخير: الولاية لله الحق هنالك، أي في القيامة. وقرأ أبو عمرو والكسائي {الحق{ بالرفع نعتا للولاية. وقرأ أهل المدينة وحمزة {الحق{ بالخفض نعتا لله عز وجل، والتقدير: لله ذي الحق. قال الزجاج: ويجوز {الحق{ بالنصب على المصدر والتوكيد؛ كما تقول: هذا لك حقا. وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي {الولاية{ بكسر الواو، الباقون بفتحها، وهما بمعنى واحد كالرضاعة والرضاعة. وقيل: الولاية بالفتح من الموالاة؛ كقوله {واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا} قوله تعالى{واضرب لهم مثل الحياة الدنيا{ أي صف لهؤلاء المتكبرين الذين سألوك طرد فقواء المؤمنين مثل الحياة الدنيا، أي شبهها. {كماء أنزلناه من السماء فاختلط به{ أي بالماء. {نبات الأرض{ حتى استوى. وقيل: إن النبات اختلط بعضه ببعض حين نزل عليه الماء؛ لأن النبات إنما يختلط ويكثر بالمطر. وقد تقدم هذا المعنى في {يونس{ مبينا. وقالت الحكماء: إنما شبه تعالى الدنيا بالماء لأن الماء لا يستقر في موضع، كذلك الدنيا لا تبقى على واحد، ولأن الماء لا يستقيم على حالة واحدة كذلك الدنيا، ولأن الماء لا يبقى ويذهب كذلك الدنيا تفنى، ولأن الماء لا يقدر أحد أن يدخله ولا يبتل كذلك الدنيا لا يسلم أحد دخلها من فتنتها وآفتها، ولأن الماء إذا كان بقدر كان نافعا منبتا، وإذا جاوز المقدار كان ضارا مهلكا، وكذلك الدنيا الكفاف منها ينفع وفضولها يضر. وكان سبب ذلك أن قريشا أصابتهم سنون ذهبن بالأموال فخرج هاشم إلى الشام فأمر بخبز كثير فخبز له، فحمله في الغرائر على الإبل حتى وافى مكة، وهشم ذلك الخبز، يعني كسره وثرده، ونحر تلك الإبل، ثم أمر الطهاة فطبخوا، ثم كفأ القدور على الجفان فأشبع أهل مكة؛ فكان ذلك أول الحباء بعد السنة التي أصابتهم؛ فسمي بذلك هاشما. {تذروه الرياح{ أي تفرقه؛ قاله أبو عبيدة. ابن قتيبة: تنسفه. ابن كيسان: تذهب به وتجيء. ابن عباس: تديره؛ والمعنى متقارب. وقرأ طلحة بن مصرف {تذريه الريح{. قال الكسائي: وفي قراءة عبدالله {تذريه{. يقال: ذرته الريح تذروه ذروا و[تذريه] ذريا وأذريه تذريه إذراء إذا طارت به. وحكى الفراء: أذريت الرجل عن فرسه أي قلبته. وأنشد سيبويه والفراء: قوله تعالى{وكان الله على كل شيء مقتدرا{ من الإنشاء والإفناء والإحياء، سبحانه. {المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا} قوله تعالى{المال والبنون زينة الحياة الدنيا{ ويجوز {زينتا{ وهو خبر الابتداء في التثنية والإفراد. وإنما كان المال والبنون زينة الحياة الدنيا لأن في المال جمالا ونفعا، وفي البنين قوة ودفعا، فصارا زينة الحياة الدنيا، لكن معه قرينة الصفة للمال والبنين؛ لأن المعنى: المال والبنون زينة هذه الحياة المحتقرة فلا تتبعوها نفوسكم. وهو رد على عيينة بن حصن وأمثاله لما افتخروا بالغنى والشرف، فأخبر تعالى أن ما كان من زينة الحياة الدنيا فهو غرور يمر ولا يبقى، كالهشيم حين ذرته الريح؛ إنما يبقى ما كان من زاد القبر وعدد الآخرة. وكان يقال: لا تعقد قلبك مع المال لأنه فيء ذاهب، ولا مع النساء لأنها اليوم معك وغدا مع غيرك، ولا مع السلطان لأنه اليوم لك وغدا لغيرك. ويكفي قي هذا قول الله تعالى قوله تعالى{والباقيات الصالحات{ أي ما يأتي به سلمان وصهيب وفقراء المسلمين من الطاعات {خير عند ربك ثوابا{ أي أفضل {وخير أملا{ أي أفضل أملا من ذي المال والبنين دون عمل صالح، وليس في زينة الدنيا خير، ولكنه خرج مخرج قوله واختلف العلماء في {الباقيات الصالحات{؛ فقال ابن عباس وابن جبير وأبو ميسرة وعمرو ابن شرحبيل: هي الصلوات الخمس. وعن ابن عباس أيضا: أنها كل عمل صالح من قول أو فعل يبقى للآخرة. وقاله ابن زيد ورجحه الطبري. وهو الصحيح إن شاء الله؛ لأن كل ما بقي ثوابه جاز أن يقال له هذا. وقال علي رضي الله عنه: الحرث حرثان فحرث الدنيا المال والبنون؛ وحرث الآخرة الباقيات الصالحات، وقد يجمعهن الله تعالى لأقوام. وقال الجمهور: هي الكلمات المأثور فضلها: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. خرجه مالك في موطئه عن عمارة بن صياد عن سعيد بن المسيب أنه سمعه يقول في الباقيات الصالحات: إنها قول العبد: الله أكبر وسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله. {ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا} قوله تعالى{ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة{ قال بعض النحويين: التقدير والباقيات الصالحات خير عند ربك يوم نسير الجبال. قال النحاس: وهذا غلط من أجل الواو وقيل: المعنى واذكر يوم نسير الجبال، أي نزيلها من أماكنها من على وجه الأرض، ونسيرها كما نسير السحاب؛ كما قال في آية أخرى أي تركته. والمغادرة الترك؛ ومنه الغدر؛ لأنه ترك الوفاء. وإنما سمى الغديرا لأن الماء ذهب وتركه. ومنه غدائر المرأة لأنها تجعلها خلفها. يقول: حشرنا برهم وفاجرهم وجنهم وإنسهم. {وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا} قوله تعالى{وعرضوا على ربك صفا{ {صفا{ نصب على الحال. قال مقاتل: يعرضون صفا بعد صف كالصفوف في الصلاة، كل أمة وزمرة صفا؛ لا أنهم صف واحد. وقيل جميعا؛ كقوله قلت: هذا الحديث غاية في البيان في تفسير الآية، ولم يذكره كثير من المفسرين، وقد كتبناه في كتاب التذكرة، ومنه نقلناه والحمد لله. قوله تعالى{لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة{ أي يقال لهم: لقد جئتمونا حفاة عراة، لا مال معكم ولا ولدا وقيل فرادى؛ دليله قوله {ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا} قوله تعالى{ووضع الكتاب{ {الكتاب{ اسم جنس، وفيه وجهان: أحدهما: أنها كتب الأعمال في أيدي العباد؛ قاله مقاتل. الثاني: أنه وضع الحساب؛ قاله الكلبي، فعبر عن الحساب بالكتاب لأنهم يحاسبون على أعمالهم المكتوبة. والقول الأول أظهر؛ ذكره ابن المبارك قال: أخبرنا الحكم أو أبو الحكم - شك نعيم - عن إسماعيل بن عبدالرحمن عن رجل من بني أسد قال قال عمر لكعب: ويحك يا كعب حدثنا من حديث الآخرة؛ قال: نعم يا أمير المؤمنين إذا كان يوم القيامة رفع اللوح المحفوظ فلم يبق أحد من الخلائق إلا وهو ينظر إلى عمله - قال - ثم يؤتى بالصحف التي فيها أعمال العباد فتنثر حول العرش، وذلك قوله تعالى{ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها - قال الأسدي: الصغيرة ما دون الشرك؛ والكبيرة الشرك، إلا أحصاها - قال كعب؛ ثم يدعى المؤمن فيعطى كتابه بيمينه فينظر فيه فإذا حسناته باديات للناس وهو يقرأ سيئاته لكيلا يقول كانت لي حسنات فلم تذكر فأحب الله أن يريه عمله كله حتى إذا استنقص ما في الكتاب وجد في آخر ذلك كله أنه مغفور وأنك من أهل الجنة؛ فعند ذلك يقبل إلى أصحابه ثم يقول قلت فيحتمل أن يكون صغيرة إذا لم يكن في معصية، فإن الضحك من المعصية رضا بها والرضا بالمعصية معصية، وعلى هذا تكون كبيرة، فيكون وجه الجمع هذا والله اعلم. أو يحمل الضحك فيما ذكر الماوردي على التبسم، وقد قال تعالى {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا} قوله تعالى{وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه{ تقدم. قال أبو جعفر النحاس: وفي هذه الآية سؤال، يقال: ما معنى {ففسق عن أمر ربه{ ففي هذا قولان: أحدهما: وهو مذهب الخليل وسيبويه أن المعنى أتاه الفسق لما أمر فعصى، فكان سبب الفسق أمر ربه؛ كما تقول: أطعمته عن جوع. والقول الآخر: وهو مذهب محمد بن قطرب أن المعنى: ففسق عن رد أمر ربه {أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو{ وقف عز وجل الكفرة على جهة التوبيخ بقوله أفتتخذونه يا بني آدم وذريته أولياء وهم لكم عدو؛ أي أعداء، فهو اسم جنس. {بئس للظالمين بدلا{ أي بئس عبادة الشيطان بدلا عن عبادة الله. أو بئس إبليس بدلا عن الله. واختلف هل لإبليس ذرية من صلبه؛ فقال الشعبي: سألني رجل فقال هل إبليس زوجة؟ فقلت: إن ذلك عرس لم أشهده، ثم ذكرت قوله {أفتتخذونه وذريته أولياء{ فعلمت أنه لا يكون ذرية إلا من زوجة فقلت نعم. وقال مجاهد: إن إبليس أدخل فرجه في فرج نفسه فباض خمس بيضات؛ فهذا أصل ذريته. وقيل: إن الله تعالى خلق له في فخذه اليمنى ذكرا وفي اليسرى فرجا؛ فهو ينكح هذا بهذا، فيخرج له كل يوم عشر بيضات، يخرج من كل بيضة سبعون شيطانا وشيطانة، فهو يخرج وهو يطير، وأعظمهم عند أبيهم منزلة أعظمهم في بني آدم فتنة، وقال قوم: ليس له أولاد ولا ذرية، وذريته أعوانه من الشياطين. قال القشيري أبو نصر: والجملة أن الله تعالى أخبر أن لإبليس اتباعا وذرية، وأنهم يوسوسون إلى بني آدم وهم أعداؤهم، ولا يثبت عندنا كيفية في كيفية التوالد منهم وحدوث الذرية عن إبليس، فيتوقف الأمر فيه على نقل صحيح. قلت: الذي ثبت في هذا الباب من الصحيح ما قلت: أما ما ذكر من التعيين في الاسم فصحيح؛ وأما أن له اتباعا وأعوانا وجنودا فمقطوع به، وقد ذكرنا الحديث الصحيح في أن له أولادا من صلبه، كما قال مجاهد وغيره. {ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا} قوله تعالى{ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم{ قيل: الضمير عائد على إبليس وذريته؛ أي لم أشاورهم في خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم، بل خلقتهم على ما أردت. وقيل: ما أشهدت إبليس وذريته خلق السماوات والأرض {ولا خلق أنفسهم{ أي أنفس المشركين فكيف اتخذوهم أولياء من دوني؟. وقيل: الكناية في قوله{ما أشهدتهم{ ترجع إلى المشركين، وإلى الناس بالجملة، فتضمن الآية الرد على طوائف من المنجمين وأهل الطبائع والمتحكمين من الأطباء وسواهم من كل من ينخرط في هذه الأشياء. وقال ابن عطية: وسمعت أبي رضي الله عنه يقول سمعت الفقيه أبا عبدالله محمد بن معاذ المهدي بالمهدية يقول: سمعت عبدالحق الصقلي يقول هذا القول، ويتأول هذا التأويل في هذه الآية، وأنها رادة على هذه الطوائف، وذكر هذا بعض الأصوليين. قال ابن عطية وأقول: إن الغرض المقصود أولا بالآية هم إبليس وذريته؛ وبهذا الوجه يتجه الرد على الطوائف المذكورة، وعلى الكهان والعرب والمعظمين للجن؛ حين يقولون: أعوذ بعزيز هذا الوادي؛ إذ الجميع من هذه الفرق متعلقون بإبليس وذريته وهم أضلوا الجميع، فهم المراد الأول بالمضلين؛ وتندرج هذه الطوائف في معناهم. قال الثعلبي: وقال بعض أهل العلم {ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض{ رد على المنجمين أن قالوا: إن الأفلاك تحدث في الأرض وفي بعضها في بعض، وقوله{والأرض{ رد على أصحاب الهندسة حيث قالوا: إن الأرض كرية والأفلاك تجري تحتها، والناس ملصقون عليها وتحتها، وقوله{ولا خلق أنفسهم{ رد على الطبائعيين حيث زعموا أن الطبائع هي الفاعلة في النفوس. وقرأ أبو جعفر {ما أشهدناهم{ بالنون والألف على التعظيم. الباقون بالتاء بدليل قوله{وما كنت متخذ{ يعني ما استعنتهم على خلق السماوات والأرض ولا شاورتهم. {المضلين{ يعني الشياطين. وقيل: الكفار. {عضدا{ أي أعوانا يقال: اعتضدت بفلان إذا استعنت به وتقويت والأصل فيه عضد اليد، ثم يوضع موضع العون؛ لأن اليد قوامها العضد. يقال: عضده وعاضده على كذا إذا أعانه وأعزه. ومنه قوله {ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم وجعلنا بينهم موبقا} قوله تعالى{ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم{ أي اذكروا يوم يقول الله: أين شركائي؟ أي ادعوا الذين أشركتموهم بي فليمنعوكم من عذابي. وإنما يقول ذلك لعبدة الأوثان. وقرأ حمزة ويحيى وعيسى بن عمر {نقول{ بنون. الباقون بالياء؛ لقوله{شركائي{ ولم يقل: شركائنا. {فدعوهم{ أي فعلوا ذلك. {فلم يستجيبوا لهم{ أي لم يجيبوهم إلى نصرهم ولم يكفوا عنهم شيئا. {وجعلنا بينهم موبقا{ قال أنس بن مالك:(هو واد في جهنم من قيح ودم). وقال ابن عباس:(أي وجعلنا بين المؤمنين والكافرين حاجزا) وقيل: بين الأوثان وعبدتها، ونحو قوله{فزيلنا بينهم{ قال ابن الأعرابي: كل شيء حاجز بين شيئين موبق، وذكر ابن وهب عن مجاهد في قوله تعالى{موبقا{ قال واد في جهنم يقال له موبق، وكذلك قال نوف البكالي إلا أنه قال: يحجز بينهم وبين المؤمنين. عكرمة: هو نهر في جهنم يسيل نارا على حافتيه حيات مثل البغال الدهم فإذا ثارت إليهم لتأخذهم استغاثوا منها بالاقتحام في النار. وروى زيد بن درهم عن أنس بن مالك قال{موبقا{ (واد من قيح ودم في جهنم). وقال عطاء والضحاك: مهلكا في جهنم؛ ومنه يقال: أو بقته ذنوبه إيباقا. وقال أبو عبيدة: موعد للهلاك. الجوهري: وبق يبق وبوقا هلك، والموبق مثل الموعد مفعل من وعد يعد، ومنه قوله تعالى{وجعلنا بينهم موبقا{. وفيه لغة أخرى: وبق يوبق وبقا. وفيه لغة ثالثة: بق يبق بالكسر فيهما، وأوبقه أي أهلكه. وقال زهير: قال الفراء: جعل تواصلهم في الدنيا مهلكا لهم في الآخرة. {ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا} قوله تعالى{ورأى المجرمون النار{ {رأى{ أصله رأي؛ قلبت الياء ألفا لانفتاحها وانفتاح ما قبلها؛ ولهذا زعم الكوفيون أن {رأى{ يكتب بالياء، وتابعهم على هذا القول بعض البصريين. فأما البصريون الحذاق، منهم محمد بن يزيد فإنهم يكتبونه بالألف. قال النحاس: سمعت علي ابن سليمان يقول سمعت محمد بن يزيد يقول: لا يجوز أن يكتب مضى ورمى وكل ما كان من ذوات الياء إلا بالألف، ولا فرق بين ذوات الياء وبين ذوات الواو في الخط، كما أنه لا فرق بينهما في اللفظ، ولو وجب أن يكتب ذوات الياء بالياء لوجب أن يكتب ذوات الواو بالواو، وهم مع هذا يناقضون فيكتبون رمى بالياء رماه بالألف، فإن كانت العلة أنه من ذوات الياء وجب أن يكتبوا رماه بالياء، ثم يكتبون ضحا جمع ضحوة، وكسا جمع كسوة، وهما من ذوات الواو بالياء، وهذا ما لا يحصل ولا يثبت على أصل. {فظنوا أنهم مواقعوها{ {فظنوا {هنا بمعنى اليقين والعلم كما قال: أي أيقنوا؛ وقد تقدم. قال ابن عباس:(أيقنوا أنهم مواقعوها) وقيل: رأوها من مكان بعيد فتوهموا أنهم مواقعوها، وظنوا أنها تأخذهم في الحال. {ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلا} قوله تعالى{ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل{ يحتمل وجهين: أحدهما: ما ذكره لهم من العبر والقرون الخالية. الثاني: ما أوضحه لهم من دلائل الربوبية وقد تقدم في {سبحان{؛ فهو على الوجه الأول زجر، وعلى الثاني بيان. {وكان الإنسان أكثر شيء جدلا{ أي جدالا ومجادلة والمراد به النضر بن الحرث وجداله في القرآن وقيل: الآية في أبي بن خلف. وقال الزجاج: أي الكافرون أكثر شيء جدلا؛ والدليل على الكافر قوله {ويجادل الذين كفروا بالباطل{ {وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلا} قوله تعالى{وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى{ أي القرآن والإسلام ومحمد عليه الصلاة والسلام {ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين{ أي سنتنا في إهلاكهم إي ما منعهم عن الإيمان إلا حكمي عليهم بذلك؛ ولو حكمت عليهم بالإيمان آمنوا. وسنة الأولين عادة الأولين في عذاب الاستئصال. وقيل: المعنى وما منع الناس أن يؤمنوا إلا طلب أن تأتيهم سنة الأولين فحذف. وسنة الأولين معاينة العذاب، فطلب المشركون ذلك، وقالوا
|