الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتَلَفَتِ النَّقْلَةُ فِي أَلْفَاظِ الْخَبَرِ بِذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ الْكِتَابُ الْأَوَّلُ نَـزَلَ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَعَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ، وَنَـزَلَ َالْقُرْآنُ مِنْ سَبْعَةِ أَبْوَابٍ وَعَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ: زَاجِرٌ وَآمِرٌ وَحَلَالٌ وَحَرَامٌ، وَمُحْكَمٌ وَمُتَشَابِهٌ، وَأَمْثَالٌ، فَأَحِلُّوا حَلَالَهُ وحَرِّمُوا حَرَامَهُ، وَافْعَلُوا مَا أُمِرْتُمْ بِهِ، وَانْتَهُوا عَمَّا نُهِيتُمْ عَنْهُ، وَاعْتَبِرُوا بِأَمْثَالِهِ، وَاعْمَلُوا بِمُحْكَمِهِ، وَآمِنُوا بِمُتَشَابِهِهِ، وَقُولُوا: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا. حَدَّثَنِي بِذَلِكَ يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي حَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ، عَنْ عُقَيْلِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي قِلابَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا غَيْرُ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ حَدَّثَنَا عِبَادُ بْنُ زَكَرِيَّا، عَنْ عَوْفٍ، عَنْ أَبِي قِلابَةَ، قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أُنْـزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، أَمْرٍ وَزَجْرٍ وَتَرْغِيبٍ وَتَرْهِيبٍ وَجَدَلٍ وَقَصَصٍ وَمَثَلٍ. وَرُوِيَ عَنْ أُبَيٍّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ، مَا حَدَّثَنِي بِهِ أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِيسَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ، فَقُلْت: رَبِّ خَفِّفْ عَنْ أُمَّتِي. قَالَ: اقْرَأْهُ عَلَى حَرْفَيْنِ. فَقُلْتُ: رَبِّ خَفِّفْ عَنْ أُمَّتِي. فَأَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَهُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ مِنْ سَبْعَةِ أَبْوَابٍ مِنَ الْجَنَّةِ، كُلُّهَا شَافٍ كَافٍ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ قِيلِهِ خِلَافُ ذَلِكَ كُلِّهِ. وَهُوَ مَا حَدَّثَنَا بِهِ أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُحَارِبِيُّ، عَنِ الْأَحْوَصِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ ضَمْرَةَ بْنِ حَبِيبٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَنْـزَلَ الْقُرْآنَ عَلَى خَمْسَةِ أَحْرُفٍ: حَلَالٍ وَحَرَامٍ وَمُحْكَمٍ وَمُتَشَابِهٍ وَأَمْثَالٍ. فَأَحِلَّ الْحَلَالَ، وَحَرِّمِ الْحَرَامَ، وَاعْمَلْ بِالْمُحْكَمِ، وَآَمِنْ بِالْمُتَشَابِهِ، وَاعْتَبِرْ بِالْأَمْثَالِ. وَكُلُّ هَذِهِ الْأَخْبَارِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مُتَقَارِبَةُ الْمَعَانِي، لِأَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: فُلَانٌ مُقِيمٌ عَلَى بَابٍ مِنْ أَبْوَابٍ هَذَا الْأَمْرِ، وَفُلَانٌ مُقِيمٌ عَلَى وَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ هَذَا الْأَمْرِ، وَفُلَانٌ مُقِيمٌ عَلَى حَرْفٍ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ- سَوَاءٌ. أَلَّا تَرَى أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَصَفَ قَوْمًا عَبَدُوهُ عَلَى وَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الْعِبَادَاتِ، فَأَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ عَبَدُوهُ عَلَى حَرْفٍ فَقَالَ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} [سُورَة الْحَجِّ: 11]، يَعْنِي أَنَّهُمْ عَبَدُوهُ عَلَى وَجْهِ الشَّكِّ، لَا عَلَى الْيَقِينِ وَالتَّسْلِيمِ لِأَمْرِهِ. فَكَذَلِكَ رِوَايَةُ مَنْ رَوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (نَـزَلَ الْقُرْآنُ مِنْ سَبْعَةِ أَبْوَاب) و (نَـزَلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُف) سَوَاءٌ، مَعْنَاهُمَا مُؤْتَلِفٌ، وَتَأْوِيلُهُمَا غَيْرُ مُخْتَلِفٍ فِي هَذَا الْوَجْهِ. وَمَعْنَى ذَلِكَ كُلِّهِ، الْخَبَرُ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا خَصَّهُ اللَّهُ بِهِ وَأُمَّتَهُ، مِنَ الْفَضِيلَةِ وَالْكَرَامَةِ الَّتِي لَمْ يُؤْتِهَا أَحَدًا فِي تَنْـزِيلِهِ. وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ كِتَابٍ تَقَدَّمَ كِتَابَنَا نُـزُولُهُ عَلَى نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّمَا نَـزَلَ بِلِسَانٍ وَاحِدٍ، مَتَى حُوِّلَ إِلَى غَيْرِ اللِّسَانِ الَّذِي نَـزَلَ بِهِ، كَانَ ذَلِكَ لَهُ تَرْجَمَةً وَتَفْسِيرًا لَا تِلَاوَةً لَهُ عَلَى مَا أَنْـزَلَهُ اللَّهُ. وَأُنْـزِلَ كِتَابُنَا بِأَلْسُنٍ سَبْعَةٍ، بِأَيِّ تِلْكَ الْأَلْسُنِ السَّبْعَةِ تَلَاهُ التَّالِي، كَانَ لَهُ تَالِيًا عَلَى مَا أَنْـزَلَهُ اللَّهُ لَا مُتَرْجِمًا وَلَا مُفَسِّرًا، حَتَّى يُحَوِّلَهُ عَنْ تِلْكَ الْأَلْسُنِ السَّبْعَةِ إِلَى غَيْرِهَا، فَيَصِيرَ فَاعِلُ ذَلِكَ حِينَئِذٍ- إِذَا أَصَابَ مَعْنَاهُ- مُتَرْجِمًا لَهُ. كَمَا كَانَ التَّالِي لِبَعْضِ الْكُتُبِ الَّتِي أَنْـزَلَهَا اللَّهُ بِلِسَانٍ وَاحِدٍ- إِذَا تَلَاهُ بِغَيْرِ اللِّسَانِ الَّذِي نَـزَلَ بِهِ- لَهُ مُتَرْجِمًا، لَا تَالِيًا عَلَى مَا أَنْـزَلَهُ اللَّهُ بِهِ. فَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَانَ الْكِتَابُ الْأَوَّلُ، نَـزَلَ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ، وَنَـزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ. وَأَمَّا مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ الْكِتَابَ الْأَوَّلَ نَـزَلَ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ، وَنَـزَلَ الْقُرْآنُ مِنْ سَبْعَةِ أَبْوَابٍ، فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنَى بِقَوْلِهِ: (نَـزَلَ الْكِتَابُ الْأَوَّلُ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ)، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، مَا نَـزَلَ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ عَلَى مَنْ أَنْـزَلَهُ مِنْ أَنْبِيَائِهِ، خَالِيًا مِنَ الْحُدُودِ وَالْأَحْكَامِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، كَزَبُورِ دَاوُدَ، الَّذِي إِنَّمَا هُوَ تَذْكِيرٌ وَمَوَاعِظُ، وَإِنْجِيلِ عِيسَى، الَّذِي هُوَ تَمْجِيدٌ وَمَحَامِدُ وَحَضٌّ عَلَى الصَّفْحِ وَالْإِعْرَاضِ- دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْأَحْكَامِ وَالشَّرَائِعِ- وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْكُتُبِ الَّتِي نَـزَلَتْ بِبَعْضِ الْمَعَانِي السَّبْعَةِ الَّتِي يَحْوِي جَمِيعَهَا كِتَابُنَا، الَّذِي خَصَّ اللَّهُ بِهِ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّتَهُ. فَلَمْ يَكُنِ الْمُتَعَبِّدُونَ بِإِقَامَتِهِ يَجِدُونَ لِرِضَى اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ مَطْلَبًا يَنَالُونَ بِهِ الْجَنَّةَ، وَيَسْتَوْجِبُونَ بِهِ مِنْهُ الْقُرْبَةَ، إِلَّا مِنَ الْوَجْهِ الْوَاحِدِ الَّذِي أُنْـزِلَ بِهِ كِتَابُهُمْ، وَذَلِكَ هُوَ الْبَابُ الْوَاحِدُ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ الَّذِي نَـزَلَ مِنْهُ ذَلِكَ الْكِتَابُ. وَخَصَّ اللَّهُ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتَهُ، بِأَنْ أَنْـزَلَ عَلَيْهِمْ كِتَابَهُ عَلَى أَوْجُهٍ سَبْعَةٍ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي يَنَالُونَ بِهَا رِضْوَانَ اللَّهِ، وَيُدْرِكُونَ بِهَا الْفَوْزَ بِالْجَنَّةِ، إِذَا أَقَامُوهَا فَكُلُّ وَجْهٍ مِنْ أَوْجُهِهِ السَّبْعَةِ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ الَّتِي نَزَلَ مِنْهَا الْقُرْآنُ. لِأَنَّ الْعَامِلَ بِكُلِّ وَجْهٍ مِنْ أَوْجُهِهِ السَّبْعَةِ، عَامِلٌ فِي بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، وَطَالِبٌ مِنْ قِبَلِهِ الْفَوْزَ بِهَا. وَالْعَمَلُ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ فِي كِتَابِهِ، بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، وَتَرْكُ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ فِيهِ، بَابٌ آخَرُ ثَانٍ مِنْ أَبْوَابِهَا، وَتَحْلِيلُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِيهِ، بَابٌ ثَالِثٌ مِنْ أَبْوَابِهَا، وَتَحْرِيمُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِيهِ، بَابٌ رَابِعٌ مِنْ أَبْوَابِهَا، وَالْإِيمَانُ بِمُحْكَمِهِ الْمُبِينِ، بَابٌ خَامِسٌ مِنْ أَبْوَابِهَا؛ وَالتَّسْلِيمُ لِمُتَشَابِهِهِ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ وَحَجَبَ عِلْمَهُ عَنْ خَلْقِهِ وَالْإِقْرَارُ بِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ، بَابٌ سَادِسٌ مِنْ أَبْوَابِهَا، وَالِاعْتِبَارُ بِأَمْثَالِهِ وَالِاتِّعَاظُ بِعِظَاتِهِ، بَابٌ سَابِعٌ مِنْ أَبْوَابِهَا. فَجَمِيعُ مَا فِي الْقُرْآنِ- مِنْ حُرُوفِهِ السَّبْعَةِ، وَأَبْوَابِهِ السَّبْعَةِ الَّتِي نَـزَلَ مِنْهَا- جَعَلَهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ إِلَى رِضْوَانِهِ هَادِيًا، وَلَهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ قَائِدًا. فَذَلِكَمَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (نَـزَلَ الْقُرْآنُ مِنْ سَبْعَةِ أَبْوَابِ الْجَنَّة). وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقُرْآنِ: (إِنَّ لِكُلِّ حَرْفٍ مِنْهُ حَدًّا)، يَعْنِي لِكُلِّ وَجْهٍ مِنْ أَوْجُهِهِ السَّبْعَةِ حَدٌّ حَدَّهُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَجَاوَزَهُ. وَقَوْله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَإِنَّ لِكُلِّ حَرْفٍ مِنْهَا ظَهْرًا وَبَطْنًا)، فَظَهْرُهُ: الظَّاهِرُ فِي التِّلَاوَةِ، وَبَطْنُهُ: مَا بَطَنَ مِنْ تَأْوِيلِهِ. وَقَوْلُهُ: (وَإِنَّ لِكُلِّ حَدٍّ مِنْ ذَلِكَ مُطَّلَعًا)، فَإِنَّهُ يَعْنِي أَنَّ لِكُلِّ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ الَّتِي حَدَّهَا فِيهِ- مِنْ حَلَالٍ وَحَرَامٍ، وَسَائِر شَرَائِعِهِ- مِقْدَارًا مِنْ ثَوَابِ اللَّهِ وَعِقَابِهِ، يُعَايِنُهُ فِي الْآخِرَةِ، وَيَطَّلِعُ عَلَيْهِ وَيُلَاقِيهِ فِي الْقِيَامَةِ. كَمَ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "لَوْ أَنَّ لِي مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ صَفْرَاءَ وَبَيْضَاءَ لَافْتَدَيْتُ بِهِ مِنْ هَوْلِ الْمُطَّلَعِ "، يَعْنِي بِذَلِكَ مَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ وَيَهْجُمُ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: قَدْ قُلْنَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّالْقُرْآنَ كُلَّهُ عَرَبِيٌّ، وَأَنَّهُ نَـزَلَ بِأَلْسُنِ بَعْضِ الْعَرَبِ دُونَ أَلْسُنِ جَمِيعِهَا، وَأَنَّ قِرَاءَةَ الْمُسْلِمِينَ الْيَوْمَ- وَمَصَاحِفَهُمُ الَّتِي هِيَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ- بِبَعْضِ الْأَلْسُنِ الَّتِي نَـزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ دُونَ جَمِيعِهَا. وَقُلْنَا- فِي الْبَيَانِ عَمَّا يَحْوِيهِ الْقُرْآنُ مِنَ النُّورِ وَالْبُرْهَانِ، وَالْحِكْمَةِ وَالتِّبْيَانِ الَّتِي أَوْدَعَهَا اللَّهُ إِيَّاهُ: مِنْ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَحَلَالِهِ وَحَرَامِهِ، وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، وَمُحْكَمِهِ وَمُتَشَابِهِهِ، وَلِطَائِفِ حُكْمِهِ- مَا فِيهِ الْكِفَايَةُ لِمَنْ وُفِّقَ لِفَهْمِهِ. وَنَحْنُ قَائِلُونَ فِي الْبَيَانِ عَنْ وُجُوهِ مَطَالِبِ تَأْوِيلِهِ: قَالَ اللَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ، لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَُ} [سُورَةُ النَّحْلِ: 44]، وَقَالَ أَيْضًا جَلَّ ذِكْرُهُ: {وَمَا أَنْـزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [سُورَةُ النَّحْلِ: 64]، وَقَالَ: {هُوَ الَّذِي أَنْـزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 7]. فَقَدْ تَبَيَّنَ بِبَيَانِ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: أَنَّ مِمَّا أَنْـزَلَ اللَّهُ مِنَ الْقُرْآنِ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا لَا يُوصَلُ إِلَى عِلْمِ تَأْوِيلِهِ إِلَّا بِبَيَانِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَذَلِكَ تَأْوِيلُ جَمِيعِ مَا فِيهِ: مِنْ وُجُوهِ أَمْرِهِ- وَاجِبِهِ وَنَدْبِهِ وَإِرْشَادِهِ- ، وَصُنُوفِ نَهْيِهِ، وَوَظَائِفِ حُقُوقِهِ وَحُدُودِهِ، وَمَبَالِغِ فَرَائِضِهِ، وَمَقَادِيرِ اللَّازِمِ بَعْضَ خَلْقِهِ لِبَعْضٍ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ آيِهِ، الَّتِي لَمْ يُدْرَكْ عِلْمُهَا إِلَّا بِبَيَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمَّتِهِ. وَهَذَا وَجْهٌ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ الْقَوْلُ فِيهِ، إِلَّا بِبَيَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ تَأْوِيلَهُ بِنَصٍّ مِنْهُ عَلَيْهِ، أَوْ بِدَلَالَةٍ قَدْ نَصَبَهَا، دَالَّةٍ أُمَّتَهُ عَلَى تَأْوِيلِهِ. وَأَنَّ مِنْهُ مَا لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ. وَذَلِكَ مَا فِيهِ مِنَ الْخَبَرِ عَنْ آجَالٍ حَادِثَةٍ، وَأَوْقَاتٍ آتِيَةٍ، كَوَقْتِ قِيَامِ السَّاعَةِ، وَالنَّفْخِ فِي الصُّورِ، وَنُـزُولِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ: فَإِنَّ تِلْكَ أَوْقَاتٌ لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ حُدُودَهَا، وَلَا يَعْرِفُ أَحَدٌ مِنْ تَأْوِيلِهَا إِلَّا الْخَبَرَ بِأَشْرَاطِهَا، لِاسْتِئْثَارِ اللَّهِ بِعِلْمِ ذَلِكَ عَلَى خَلْقِهِ. وَبِذَلِكَ أَنْـزَلَ رَبُّنَا مُحْكَمَ كِتَابِهِ فَقَالَ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [سُورَةُ الْأَعْرَافِ: 187]. وَكَانَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ إِلَّا بِأَشْرَاطِهِ دُونَ تَحْدِيدِهِ بِوَقْتِهِ كَالَّذِي «رَوَى عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ، إِذْ ذُكِرَ الدَّجَّالُ: إنْْ يُخْرَجْ وَأَنَا فِيكُمْ، فَأَنَا حَجِيجُهُ، وَإِنْ يَخْرُجْ بَعْدِي، فَاللَّهُ خَلِيفَتِي عَلَيْكُمْ) وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأَخْبَارِ- الَّتِي يَطُولُ بِاسْتِيعَابِهَا الْكِتَابُ- الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ عِلْمُ أَوْقَاتِ شَيْءٍ مِنْهُ بِمَقَادِيرِ السِّنِينَ وَالْأَيَّامِ، وَأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِنَّمَا كَانَ عَرَّفَهُ مَجِيئَهُ بِأَشْرَاطِهِ، وَوَقَّتَهُ بِأَدِلَّتِهِ. وَأَنَّ مِنْهُ مَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ كُلُّ ذِي عِلْمٍ بِاللِّسَانِ الَّذِي نَـزَلَ بِهِ الْقُرْآنُ. وَذَلِكَ: إِقَامَةُ إِعْرَابِهِ، وَمَعْرِفَةُ الْمُسَمَّيَاتِ بِأَسْمَائِهَا اللَّازِمَةِ غَيْرِ الْمُشْتَرَكِ فِيهَا، وَالْمَوْصُوفَاتِ بِصِفَاتِهَا الْخَاصَّةِ دُونَ مَا سِوَاهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ لا يَجْهَلُهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ. وَذَلِكَ كَسَامِعٍ مِنْهُمْ لَوْ سَمِعَ تَالِيًا يَتْلُو: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} [سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 11]، لَمْ يَجْهَلْ أَنَّ مَعْنَى الْإِفْسَادِ هُوَ مَا يَنْبَغِي تَرْكُهُ مِمَّا هُوَ مَضَرَّةٌ، وَأَنَّ الْإِصْلَاحَ هُوَ مَا يَنْبَغِي فِعْلُهُ مِمَّا فِعْلُهُ مَنْفَعَةٌ، وَإِنْ جَهِلَ الْمَعَانِيَ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ إِفْسَادًا، وَالْمَعَانِيَ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ إِصْلَاحًا. فَالَّذِي يَعْلَمُهُ ذُو اللِّسَانِ- الَّذِي بِلِسَانِهِ نَـزَلَ الْقُرْآنُ- مِنْ تَأْوِيلِ الْقُرْآنِ، هُوَ مَا وَصَفْتُ: مِنْ مَعْرِفَةِ أَعْيَانِ الْمُسَمَّيَاتِ بِأَسْمَائِهَا اللَّازِمَةِ غَيْرِ الْمُشْتَرَكِ فِيهَا، وَالْمَوْصُوفَاتِ بِصِفَاتِهَا الْخَاصَّةِ، دُونَ الْوَاجِبِ مِنْ أَحْكَامِهَا وَصَفَاتِهَا وَهَيْآتِهَا الَّتِي خَصَّ اللَّهُ بِعِلْمِهَا نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَا يُدْرَكُ عِلْمُهُ إِلَّا بِبَيَانِهِ، دُونَ مَا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ دُونَ خَلْقِهِ. وَبِمِثْلِ مَا قُلْنَا مِنْ ذَلِكَ رُوِيَ الْخَبَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُؤَمَّلٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، قَالَ: قَالَ ابْن عَبَّاسٍ: التَّفْسِيرُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: وَجْهٌ تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ مِنْ كَلَامِهَا، وَتَفْسِيرٌ لا يُعْذَرُ أَحَدٌ بِجَهَالَتِهِ، وَتَفْسِيرٌ يَعْلَمُهُ الْعُلَمَاءُ، وَتَفْسِيرٌ لا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا الْوَجْهُ الرَّابِعُ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنْ أَنَّ أَحَدًا لا يُعْذَرُ بِجَهَالَتِهِ، مَعْنًى غَيْرُ الْإِبَانَةِ عَنْ وُجُوه مَطَالِبِ تَأْوِيلِهِ. وَإِنَّمَا هُوَ خَبَرٌ عَنْ أَنَّ مِنْ تَأْوِيلِهِ مَا لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ الْجَهْلُ بِهِ. وَقَدْ رُوِيَ بِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِيُ ذَلِكَ أَيْضًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرٌ فِي إِسْنَادِهِ نَظَر. حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى الصَّدَفِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ الْحَارِثِ يُحَدِّثُ، عَنِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، مَوْلَى أُمِّ هَانِئٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أُنْـزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَحْرُفٍ: حَلَالٌ وَحَرَامٌ لا يُعْذَرُ أَحَدٌ بِالْجَهَالَةِ بِهِ، وَتَفْسِيرٌ تُفَسِّرُهُ الْعَرَبُ، وَتَفْسِيرٌ تُفَسِّرُهُ الْعُلَمَاءُ، وَمُتَشَابِهٌ لا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ، وَمَنِ ادَّعَى عِلْمَهُ سِوَى اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ فَهُوَ كَاذِبٌ).
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ طَلْحَةَ الْيَرْبُوعِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُرَيْكٌ، عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مِنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّار). حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن سَعِيد، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد الْأَعْلَى- هُوَ ابْن عَامِر الثَّعْلَبِيّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: مِنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيهِ- أَوْ بِمَا لَا يَعْلَمُ- فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ. «وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن بِشْر، وَقَبِيصَة، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ». حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْن بَشِير، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرو بْن قَيْس المُلائي، عَنْ عَبْد الْأَعْلَى، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيهِ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ. حَدَّثَنَا ابْن حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ بَكْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَنْ تُكَلَّمُ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيهِ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ. وَحَدَّثَنِي أَبُو السَّائِبِ سَلْمُ بْنُ جُنادَةَ السُّوَائِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّدِيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي، وأَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي، إِذَا قُلْتُ فِي الْقُرْآنِ مَا لَا أَعْلَمُ! حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّدِيقُ: أَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي، وأَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي، إِذَا قُلْتُ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِي- أَوْ: بِمَا لَا أَعْلَمُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذِهِ الْأَخْبَارُ شَاهِدَةٌ لَنَا عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا: مِنْ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ تَأْوِيلِ آيِ الْقُرْآنِ الَّذِي لَا يُدْرَكُ عِلْمُهُ إِلَّا بِنَصِّ بَيَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ بِنَصْبِهِ الدَّلَالَةَ عَلَيْهِ- فَغَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ الْقِيلُ فِيهِ بِرَأْيِهِ. بَلِ الْقَائِلُ فِي ذَلِكَ بِرَأْيهِ- وَإِنْ أَصَابَ الْحَقَّ فِيهِ- فَمُخْطِئٌ فِيمَا كَانَ مِنْ فِعْلِهِ، بِقِيلِهِ فِيهِ بِرَأْيِهِ، لِأَنَّ إِصَابَتَهُ لَيْسَتْ إِصَابَةَ مُوقِنٍ أَنَّهُ مُحِقٌّ، وَإِنَّمَا هُوَ إِصَابَةُ خَارِصٍ وَظَانٍّ. وَالْقَائِلُ فِي دِينِ اللَّهِ بِالظَّنِّ، قَائِلٌ عَلَى اللَّهِ مَا لَمْ يَعْلَمْ. وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ عَلَى عِبَادِهِ، فَقَالَ: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَـزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [سُورَةُ الْأَعْرَافِ: 33]. فَالْقَائِلُ فِي تَأْوِيلِ كِتَابِ اللَّهِ، الَّذِي لَا يُدْرَكُ عِلْمُهُ إِلَّا بِبَيَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الَّذِي جَعَلَ اللَّهُ إِلَيْهِ بَيَانَهُ- قَائِلٌ بِمَا لَا يَعْلَمُ وَإِنْ وَافَقَ قِيلُهُ ذَلِكَ فِي تَأْوِيلِهِ، مَا أَرَادَ اللَّهُ بِهِ مِنْ مَعْنَاهُ. لِأَنَّ الْقَائِلَ فِيهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، قَائِلٌ عَلَى اللَّهِ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ. وَهَذَا هُوَ مَعْنَى الْخَبَرِ الَّذِي: حَدَّثَنَا بِهِ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْعَظِيمِ الْعِبْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَبَّانُ بْنُ هِلَالٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُهَيْل أَخُو حُزَم، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُمْرَانَ الجُونِيُّ عَنْ جُنْدُبٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مِنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَأَصَابَ، فَقَدْ أَخْطَأَ. يَعْنِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَخْطَأَ فِي فِعْلِهِ، بِقِيلِهِ فِيهِ بِرَأْيِهِ، وَإِنْ وَافَقَ قِيلُهُ ذَلِكَ عَيْنَ الصَّوَابِ عِنْدَ اللَّهِ. لِأَنَّ قِيلَهُ فِيهِ بِرَأْيِهِ، لَيْسَ بِقِيلِ عَالِمٍ أَنَّ الَّذِي قَالَ فِيهِ مِنْ قَوْلٍ حَقٌّ وَصَوَابٌ. فَهُوَ قَائِلٌ عَلَى اللَّهِ مَا لَا يَعْلَمُ، آَثِمٌ بِفِعْلِهِ مَا قَدْ نُهِيَ عَنْهُ وَحُظِرَ عَلَيْهِ.
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ الْمُرَوَّزَيُّ، قَالَ سَمِعَتُ أَبِي يَقُولُ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ وَاقَدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَعْمَش، عَنْ شَقِيق، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ مِنَّا إِذَا تَعَلَّمَ عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يُجَاوِزْهُنَّ حَتَّى يَعْرِفَ مَعَانِيَهُنَّ، وَالْعَمَلَ بِهِنَّ. حَدَّثَنَا ابْن حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الَّذِينَ كَانُوا يُقْرِئُونَنَا: أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَقْرِئُونَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانُوا إِذَا تَعَلَّمُوا عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يُخَلِّفُوهَا حَتَّى يَعْمَلُوا بِمَا فِيهَا مِنَ الْعَمَلِ، فَتَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا. وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَابِرُ بْنُ نُوحٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ مُسْلِمٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، مَا نَـزَلَتْ آَيَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَّا وَأَنَا أَعْلَمُ فِيمَ نَـزَلَتْ؟ وَأَيْنَ أُنْـزِلَتْ؟ وَلَوْ أَعْلَمُ مَكَانَ أَحَدٍ أَعْلَمَ بِكِتَابِ اللَّهِ مِنِّى تَنَالُهُ الْمَطَايَا لَأَتَيْتُهُ. وَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمَسْعُودٍيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُسْلِمٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَقْرَأُ عَلَيْنَا السُّورَةَ، ثُمَّ يُحَدِّثُنَا فِيهَا وَيُفَسِّرُهَا عَامَّةَ النَّهَارِ. حَدَّثَنِي أَبُو السَّائِبِ سَلْمُ بْنُ جُنَادَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقٍ، قَالَ: اسْتَعْمَلَ عَلِيٌّ ابْنَ عَبَّاسٍ عَلَى الْحَجِّ، قَالَ: فَخَطَبَ النَّاسَ خُطْبَةً لَوْ سَمِعَهَا التُّرْكُ وَالرُّومُ لَأَسْلَمُوا، ثُمَّ قَرَأَ عَلَيْهِمْ سُورَةَ النُّورِ، فَجَعَلَ يُفَسِّرُهَا. وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ، قَالَ: قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ سُورَةَ الْبَقَرَةِ، فَجَعَلَ يُفَسِّرُهَا، فَقَالَ رَجُلٌ: لَوْ سَمِعَتْ هَذَا الدَّيْلَمُ لَأَسْلَمَتْ. وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو يَمَانٍ: عَنْ أَشْعَثَ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ ثُمَّ لَمَّ يُفَسِّرُهُ، كَانَ كَالْأَعْمَى أَوْ كَالْأَعْرَابِيِّ. وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ بْنِ عَيَّاشٍعَنِ: الْأَعْمَشِ، قَالَ: قَالَ أَبُو وَائِلٍ: وَلِيَ ابْنٍُ عَبَّاسٍٍ الْمَوْسِمَ، فَخَطَبَهُمْ، فَقَرَأَ عَلَى الْمِنْبَرِ سُورَةَ النُّورِ، وَاللَّهِ لَوْ سَمِعَهَا التُّرْكُ لَأَسْلَمُوا. فَقِيلَ لَهُ: حَدِّثْنَا بِهِ عَنْ عَاصِمٍ؟ فَسَكْتَ. وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، قَالَ: سَمِعْتُ الْأَعْمَشَ، عَنْ شَقِيقٍ، قَالَ: شَهِدْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ وَوَلِيَ الْمَوْسِمَ، فَقَرَأَ سُورَةَ النُّورِ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَفَسَّرَهَا، لَوْ سَمِعَتِ الرُّومُ لَأَسْلَمَتْ! قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَفِي حَثِّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عِبَادَهُ عَلَىالِاعْتِبَارِ بِمَا فِي آَيِ الْقُرْآنِ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالْبَيِّنَاتِ- بِقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {كِتَابٌ أَنْـزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [سُورَةُ ص: 29] وَقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [سُورَةُ الزُّمَرِ: 27] وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ آيِ الْقُرْآنِ، الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ عِبَادَهُ وَحَثَّهُمْ فِيهَا عَلَى الِاعْتِبَارِ بِأَمْثَالِ آيِ الْقُرْآنِ، وَالِاتِّعَاظِ بِمَوَاعِظِهِ- مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَلَيْهِمْ مَعْرِفَةَ تَأْوِيلِ مَا لَمْ يُحْجَبْ عَنْهُمْ تَأْوِيلُهُ مِنْ آيِهِ. لِأَنَّهُ مُحَالٌ أَنْ يُقَالَ لِمَنْ لَا يَفْهَمُ مَا يُقَالُ لَهُ وَلَا يَعْقِلُ تَأْوِيلَهُ: "اعْتَبِرْ بِمَا لَا فَهْمَ لَكَ بِهِ وَلَا مَعْرِفَةَ مِنَ الْقِيلِ وَالْبَيَانِ وَالْكَلَامِ "- إِلَّا عَلَى مَعْنَى الْأَمْرِ بِأَنْ يَفْهَمَهُ وَيَفْقَهَهُ، ثُمَّ يَتَدَبَّرَهُ وَيَعْتَبِرَ بِهِ. فَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ، فَمُسْتَحِيلٌ أَمْرُهُ بِتَدَبُّرِهِ وَهُوَ بِمَعْنَاهُ جَاهِلٌ. كَمَا مُحَالٌ أَنْ يُقَالَ لِبَعْضِ أَصْنَافِ الْأُمَمِ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ كَلَامَ الْعَرَبِ وَلَا يَفْهَمُونَهُ، لَوْ أُنْشِدَ قَصِيدَةَ شِعْرٍ مِنْ أَشْعَارِ بَعْضِ الْعَرَبِ ذَاتَ أَمْثَالٍ وَمَوَاعِظَ وَحِكَمٍ: "اعْتَبِرْ بِمَا فِيهَا مِنَ الْأَمْثَالِ، وَادَّكِرْ بِمَا فِيهَا مِنَ الْمَوَاعِظِ "- إِلَّا بِمَعْنَى الْأَمْرِ لَهَا بِفَهْمِ كَلَامِ الْعَرَبِ وَمَعْرِفَتِهِ، ثُمَّ الِاعْتِبَارِ بِمَا نَبَّهَهَا عَلَيْهِ مَا فِيهَا مِنَ الْحِكَمِ. فَأَمَّا وَهِيَ جَاهِلَةٌ بِمَعَانِي مَا فِيهَا مِنَ الْكَلَامِ وَالْمَنْطِقِ، فَمُحَالٌ أَمْرُهَا بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مَعَانِي مَا حَوَتْهُ مِنَ الْأَمْثَالِ وَالْعِبَرِ. بَلْ سَوَاءٌ أَمْرُهَا بِذَلِكَ وَأَمْرُ بَعْضِ الْبَهَائِمِ بِهِ، إِلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِمَعَانِي الْمَنْطِقِ وَالْبَيَانِ الَّذِي فِيهَا. فَكَذَلِكَ مَا فِي آيِ كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْعِبَرِ وَالْحِكَمِ وَالْأَمْثَالِ وَالْمَوَاعِظِ، لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: "اعْتَبِرْ بِهَا " إِلَّا لِمَنْ كَانَ بِمَعَانِي بَيَانِهِ عَالِمًا، وَبِكَلَامِ الْعَرَبِ عَارِفًا، وَإِلَّا بِمَعْنَى الْأَمْرِ- لِمَنْ كَانَ بِذَلِكَ مِنْهُ جَاهِلًا- أَنْ يَعْلَمَ مَعَانِيَ كَلَامِ الْعَرَبِ، ثُمَّ يَتَدَبَّرَهُ بَعْدُ، وَيَتَّعِظَ بِحِكَمِهِ وَصُنُوفِ عِبَرِهِ. فَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ- وَكَانَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ أَمَرَ عِبَادَهُ بِتَدَبُّرِهِ وَحَثَّهُمْ عَلَى الِاعْتِبَارِ بِأَمْثَالِهِ- كَانَ مَعْلُومًا أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ بِذَلِكَ مَنْ كَانَ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ آيُهُ جَاهِلًا. وَإِذْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِذَلِكَ إِلَّا وَهُمْ بِمَا يَدُلُّهُمْ عَلَيْهِ عَالِمُونَ، صَحَّ أَنَّهُمْ- بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ يُحْجَبْ عَنْهُمْ عِلْمُهُ مِنْ آيِهِ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ مِنْهُ دُونَ خَلْقِهِ، الَّذِي قَدْ قَدَّمْنَا صِفَتَهُ آنِفًا- عَارِفُونَ. وَإِذْ صَحَّ ذَلِكَ فَسَدَ قَوْلُ مَنْ أَنْكَرَ تَفْسِيرَ الْمُفَسِّرِينَ- مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَتَنْـزِيلِهِ- مَا لَمْ يَحْجُبْ عَنْ خَلْقِهِ تَأْوِيلُهُ.
فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: فَمَا أَنْتَ قَائِلٌ فِيمَا: حَدَّثَكُمْ بِهِ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْعَظِيمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ ابْنِ عَثْمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزُّبَيْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَة، قَالَتْ: مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُفَسِّرُ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا آيًا بِعَدَدٍ، عَلَّمَهُنَّ إِيَّاهُ جِبْرِيلُ. حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدٍ الطَّرْسُوسِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْنٌ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَة، قَالَتْ: لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُفَسِّرُ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ، إِلَّا آيًا بِعَدَدٍ، عَلَّمَهُنَّ إِيَّاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُُ. وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبَدَةَ الضَّبِّيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: لَقَدْ أَدْرَكْتُ فُقَهَاءَ الْمَدِينَةِ، وَإِنَّهُمْ لَيُغْلِظُونَ الْقَوْلَ فِي التَّفْسِيرِ مِنْهُمْ: سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَنَافِعٌ. وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا يَسْأَلُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ عَنْ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ، فَقَالَ: لَا أَقُولُ فِي الْقُرْآنِ شَيْئً. حَدَّثَنَا يُونُسُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: أَنَّهُ كَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ تَفْسِيرِ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ، قَالَ: أَنَا لَا أَقُولُ فِي الْقُرْآنِ شَيْئًا. حَدَّثَنَا يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: سَمِعَتُ اللَّيْثَ يُحَدِّثُ، عَنْ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ: أَنَّهُ كَانَ لَا يَتَكَلَّمُ إِلَّا فِي الْمَعْلُومِ مِنَ الْقُرْآنِ. حَدَّثَنَا ابْن حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَكّامٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ هِشَامٍ، عَنِ ابْنِ سَيْرَيْنِ، قَالَ: سَأَلْتُ عَبِيدَةَ السَّلْمَانِيَّ عَنْ آيَةٍ، قَالَ: عَلَيْكَ بِالسَّدَادِ، فَقَدْ ذَهَبَ الَّذِينَ عَلِمُوا فِيمَ أُنْـزِلَ الْقُرْآنُ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ أَيُّوبَ وَابْنِ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، قَالَ: سَأَلْتُ عَبِيدَةَ عَنْ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ فَقَالَ: ذَهَبَ الَّذِينَ كَانُوا يَعْلَمُونَ فِيمَ أُنْـزِلَ الْقُرْآنُ، اتَّقِ اللَّهَ وَعَلَيْكَ بِالسَّدَادِ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَنْ آيَةٍ لَوْ سُئِلَ عَنْهَا بَعْضُكُمْ لَقَالَ فِيهَا، فَأَبَى أَنْ يَقُولَ فِيهَا. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن عُلَيَّةَ، عَنْ مَهْدِيِّ بْنِ مَيْمُونٍ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، قَالَ: جَاءَ طَلْقُ بْنُ حَبِيبٍ إِلَى جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، فَسَأَلَهُ عَنْ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ، فَقَالَ لَهُ: أُحَرِّجُ عَلَيْكَ إِنْ كُنْتَ مُسْلِمًا، لَمَّا قُمْتَ عَنِّي- أَوْ قَالَ: أَنْ تُجَالِسَنِي. حَدَّثَنِي عَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَوْذَبٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي يَزِيدٍ، قَالَ: كُنَّا نَسْأَلُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ عَنِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَكَانَ أَعْلَمَ النَّاسِ، فَإِذَا سَأَلْنَاهُ عَنْ تَفْسِيرِ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ سَكَتَ كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْ. وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ عَنْ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ، فَقَالَ: لَا تَسْأَلْنِي عَنِ الْقُرْآنِ، وَسَلْ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهُ- يَعْنِي عِكْرِمَةَ. وَحَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَامِرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي السَّفَرِ، قَالَ: قَالَ الشَّعْبِيُّ: وَاللَّهِ مَا مِنْ آيَةٍ إِلَّا قَدْ سَأَلْتُ عَنْهَا، وَلَكِنَّهَا الرِّوَايَةُ عَنِ اللَّهِ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْن عُلَيَّةَ، عَنْ صَالِحٍ- يَعْنِي ابْنَ مُسْلِمٍ- قَالَ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: ثَلَاثٌ لَا أَقُولُ فِيهِنَّ حَتَّى أَمُوتَ: الْقُرْآنُ، وَالرُّوحُ، وَالرَّأْيُ. وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأَخْبَارِ؟. قِيلَ لَهُ: أَمَّا الْخَبَرُ الَّذِي رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُفَسِّرُ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْئًا إِلَّا آيًا بِعَدَدٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ مُصَحِّحٌ مَا قُلْنَا مِنَ الْقَوْلِ فِي الْبَابِ الْمَاضِي قَبْلُ، وَهُوَ: أَنَّمِنْ تَأْوِيلِ الْقُرْآنِ مَا لَا يُدْرَكُ عِلْمُهُ إِلَّا بِبَيَانِ الرَّسُولِصَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَذَلِكَ تَفْصِيلُ جُمَلِ مَا فِي آيِهِ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ وَحَلَالِهِ وَحَرَامِهِ، وَحُدُودِهِ وَفَرَائِضِهِ، وَسَائِرِ مَعَانِي شَرَائِعِ دِينِهِ، الَّذِي هُوَ مُجْمَلٌ فِي ظَاهِرِ التَّنْـزِيلِ، وَبِالْعِبَادِ إِلَى تَفْسِيرِهِ الْحَاجَةُ- لَا يُدْرَكُ عِلْمُ تَأْوِيلِهِ إِلَّا بِبَيَانٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا تَحْوِيهِ آيُ الْقُرْآنِ، مِنْ سَائِرِ حُكْمِهِ الَّذِي جَعَلَ اللَّهُ بَيَانَهُ لِخَلْقِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَلَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَأْوِيلَ ذَلِكَ إِلَّا بِبَيَانِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا يَعْلَمُهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا بِتَعْلِيمِ اللَّهِ إِيَّاهُ ذَلِكَ بِوَحْيهِ إِلَيْهِ، إِمَّا مَعَ جِبْرِيلَ، أَوْ مَعَ مَنْ شَاءَ مِنْ رُسُلِهِ إِلَيْهِ. فَذَلِكَ هُوَ الْآيُ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُفَسِّرُهَا لِأَصْحَابِهِ بِتَعْلِيمِ جِبْرِيلَ إِيَّاهُ، وَهُنَّ لَا شَكَّ آيٌ ذَوَاتُ عَدَدٍ. وَمِنْ آيِ الْقُرْآنِ مَا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ اسْتَأْثَرَ بِعِلْمِ تَأْوِيلِهِ، فَلَمْ يُطْلِعْ عَلَى عِلْمِهِ مَلَكًا مُقَرَّبًا وَلَا نَبِيًّا مُرْسَلًا وَلَكِنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ. فَأَمَّا مَا لَا بُدَّ لِلْعِبَادِ مِنْ عِلْمِ تَأْوِيلِهِ، فَقَدْ بَيَّنَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَيَانِ اللَّهِ ذَلِكَ لَهُ بِوَحْيهِ مَعَ جِبْرِيلَ. وَذَلِكَ هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ بِبَيَانِهِ لَهُمْ فَقَالَ لَهُ جُلَّ ذِكْرِهِ: {وَأَنْـزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُـزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [سُورَةُ النَّحْلِ: 44]. وَلَوْ كَانَ تَأْوِيلُ الْخَبَرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ كَانَ لَا يُفَسِّرُ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْئًا إِلَّا آيًا بِعَدَدٍ- هُوَ مَا يَسْبِقُ إِلَيْهِ أَوْهَامُ أَهْلِ الْغَبَاءِ، مِنْ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُفَسِّرُ مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا الْقَلِيلَ مِنْ آيِهِ وَالْيَسِيرَ مِنْ حُرُوفِهِ، كَانَ إِنَّمَا أُنْـزِلَ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذِّكْرُ لِيَتْرُكَ لِلنَّاسِ بَيَانَ مَا أُنْـزِلَ إِلَيْهِمْ، لَا لِيُبَيِّنَ لَهُمْ مَا أُنْـزِلَ إِلَيْهِمْ. وَفِي أَمْرِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَلَاغِ مَا أُنْـزِلَ إِلَيْهِ، وَإِعْلَامَهُ إِيَّاهُ أَنَّهُ إِنَّمَا نُـزِّلَ إِلَيْهِ مَا أُنْـزِلَ لِيُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُـزِّلَ إِلَيْهِمْ، وَقِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ بَلَّغَ وَأَدَّى مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِبَلَاغِهِ وَأَدَائِهِ عَلَى مَا أَمَرَهُ بِهِ، وَصِحَّةِ الْخَبَرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ بِقِيلِهِ: كَانَ الرَّجُلُ مِنَّا إِذَا تَعَلَّمَ عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يُجَاوِزْهُنَّ حَتَّى يَعْلَمَ مَعَانِيَهُنَّ وَالْعَمَلَ بِهِنَّ- مَا يُنْبِئُ عَنْ جَهْلِ مَنْ ظَنَّ أَوْ تَوَهَّمَ أَنَّ مَعْنَى الْخَبَرِ الَّذِي ذَكَرْنَا عَنْ عَائِشَة عنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُفَسِّرُ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْئًا إِلَّا آيًا بِعَدَدٍ) هُوَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُبَيِّنُ لِأُمَّتِهِ مِنْ تَأْوِيلِهِ إِلَّا الْيَسِيرَ الْقَلِيلَ مِنْهُ. هَذَا مَعَ مَا فِي الْخَبَرِ الَّذِي رُوِيَ عَنْ عَائِشَة منَ الْعِلَّةِ الَّتِي فِي إِسْنَادِهِ، الَّتِي لَا يَجُوزُ مَعَهَا الِاحْتِجَاجُ بِهِ لِأَحَدٍ مِمَّنْ عَلِمَ صَحِيحَ سَنَدِ الْآثَارِ وَفَاسِدَهَا فِي الدِّينِ. لِأَنَّ رَاوِيَهُ مِمَّنْ لَا يُعْرَفُ فِي أَهْلِ الْآثَارِ، وَهُوَ: جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزُّبَيْرِيُّ. وَأَمَّا الْأَخْبَارُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَمَّنْ ذَكَرْنَاهَا عَنْهُ مِنَ التَّابِعِينِ، بِإِحْجَامِهِ عَنِ التَّأْوِيلِ، فَإِنَّ فِعْلَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ، كَفِعْلِ مَنْ أَحْجَمَ مِنْهُمْ عَنِ الْفُتْيَا فِي النَّوَازِلِ وَالْحَوَادِثِ، مَعَ إِقْرَارِهِ بِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَمْ يَقْبِضْ نَبِيَّهُ إِلَيْهِ، إِلَّا بَعْدَ إِكْمَالِ الدِّينِ بِهِ لِعِبَادِهِ، وَعِلْمِهِ بِأَنَّ لِلَّهِ فِي كُلِّ نَازِلَةٍ وَحَادِثَةٍ حُكْمًا مَوْجُودًا بِنَصٍّ أَوْ دَلَالَةٍ. فَلَمْ يَكُنْ إِحْجَامُهُ عَنِ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ إِحْجَامَ جَاحِدٍ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ فِيهِ حُكْمٌ مَوْجُودٌ بَيْنَ أَظْهُرِ عِبَادِهِ، وَلَكِنْ إِحْجَامَ خَائِفٍ أَنْ لَا يَبْلُغَ فِي اجْتِهَادِهِ مَا كَلَّفَ اللَّهُ الْعُلَمَاءَ مِنْ عِبَادِهِ فِيهِ. فَكَذَلِكَ مَعْنَى إِحْجَامِ مَنْ أَحْجَمَ عَنِ الْقِيلِ فِي تَأْوِيلِ الْقُرْآنِ وَتَفْسِيرِهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ السَّلَفِ، إِنَّمَا كَانَ إِحْجَامُهُ عَنْهُ حِذَارًا أَنْ لَا يَبْلُغَ أَدَاءَ مَا كُلِّفَ مِنْ إِصَابَةِ صَوَابِ الْقَوْلِ فِيهِ، لَا عَلَى أَنَّ تَأْوِيلَ ذَلِكَ مَحْجُوبٌ عَنْ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ، غَيْرُ مَوْجُودٍ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ.
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ مُسْلِمٍ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: نِعْمَ تَرْجُمَانُ الْقُرْآنِ ابْنُ عَبَّاسٍ. حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ دَاوُدَ الْوَاسِطِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ الْأَزْرَقُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: نِعْمَ تَرْجُمَانُ الْقُرْآنِ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، بِنَحْوِهِ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا طَلْقُ بْنُ غَنَّامٍ، عَنْ عُثْمَان الْمَكِّيُّ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: رَأَيْتُ مُجَاهِدًا يَسْأَلُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ، وَمَعَهُ أَلْوَاحُهُ، فَيَقُولُ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: "اُكْتُبْ "، قَالَ: حَتَّى سَأَلَهُ عَنِ التَّفْسِيرِ كُلِّهِ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُحَارِبِيُّ، وَيُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ قَالَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبَانَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: عَرَضْتُ الْمُصْحَفَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ثَلَاثَ عَرْضَاتٍ، مِنْ فَاتِحَتِهِ إِلَى خَاتِمَتِهِ، أُوقِفُهُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ مِنْهُ وَأَسْأَلُهُ عَنْهَا. وَحَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ الجُبَيْرٍيُّ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْحَنَفِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ يَقُولُ: إِذَا جَاءَكَ التَّفْسِيرُ عَنْ مُجَاهِدٍ فَحَسْبُكَ بِهِ. وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ، قَالَ: لَمْ يَلْقَ الضَّحَّاكُ ابْنَ عَبَّاسٍ، وَإِنَّمَا لَقِيَ سَعِيدَ ابْنَ جُبَيْرٍ بِالرَّيِّ، وَأَخَذَ عَنْهُ التَّفْسِيرَ. حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مُشَاش، قَالَ: قُلْتُ لِلضِّحَاكِ: سَمِعْتَ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ شَيْئًا؟ قَالَ: لَا حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، قَالَ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا، قَالَ: كَانَ الشَّعْبِيُّ يَمُرُّ بِأَبِي صَالِحٍ بَاذَانِ، فَيَأْخُذُ بِأُذُنِهِ فَيَعْرُكُهَا وَيَقُولُ: تُفَسِّرُ الْقُرْآنَ وَأَنْتَ لَا تَقْرَأُ الْقُرْآنَ! حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ شَبُّوِيِهٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقَدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ} [سُورَةُ غَافِرٍ: 20] قَالَ: قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَجْزِيَ بِالْحَسَنَةِ الْحَسَنَةَ وَبِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ {إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [سُورَةُ غَافِرٍ: 20]، قَالَ الْحُسَيْنُ: فَقُلْتُ لِلْأَعْمَشِ: حَدَّثَنِي بِهِ الْكَلْبِيُّ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ أَنْ يَجْزِيَ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ وَبِالْحَسَنَةِ عَشْرًا، فَقَالَ الْأَعْمَشُ: لَوْ أَنَّ الَّذِي عِنْدَ الْكَلْبِيِّ عِنْدِي مَا خَرَجَ مِنِّي إِلَّا بِخَفِيرٍ. حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَكِيمٍ الْأَوْدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَكِيرٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ مُسْلِمٍ، قَالَ: مَرَّ الشَّعْبِيُّ عَلَى السُّدِّيِّ وَهُوَ يُفَسِّرُ، فَقَالَ: لِأَنْ يُضْرَبَ عَلَى اسْتِكَ بِالطَّبْلِ، خَيْرٌ لَكَ مِنْ مَجْلِسِكَ هَذَا. حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، قَالَ: حَدَثَنِي عَلِيُّ بْنُ حَكِيمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُرَيْكٌ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّخَعِيِّ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ إِبْرَاهِيمَ، فَرَأَى السُّدِّيَّ، فَقَالَ: أَمَا إِنَّهُ يُفَسِّرُ تَفْسِيرَ الْقَوْمِ. حَدَّثَنَا ابْنُ الْبَرْقِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ بَشِيرٍ، يَقُولُ عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: مَا أَرَى أَحَدًا يَجْرِي مَعَ الْكَلْبَيِّ فِي التَّفْسِيرِ فِي عِنَانٍ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: قَدْ قُلْنَا فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا هَذَا فِي وُجُوهِ تَأْوِيلِ الْقُرْآنِ، وَأَنَّ تَأْوِيلَ جَمِيعِ الْقُرْآنِ عَلَى أَوْجُهٍ ثَلَاثَةٍ: أَحَدُهَا: لَا سَبِيلَ إِلَى الْوُصُولِ إِلَيْهِ، وَهُوَ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ، وَحَجْبَ عِلْمِهِ عَنْ جَمِيعِ خَلْقِهِ، وَهُوَ أَوْقَاتُ مَا كَانَ مِنْ آجَالِ الْأُمُورِ الْحَادِثَةِ، الَّتِي أَخْبَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ أَنَّهَا كَائِنَةٌ، مِثْلَ: وَقْتِ قِيَامِ السَّاعَةِ، وَوَقْتِ نُـزُولِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَوَقْتِ لُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَالنَّفْخِ فِي الصُّورِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: مَا خَصَّ اللَّهُ بِعِلْمِ تَأْوِيلِهِ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَ سَائِرِ أُمَّتِهِ، وَهُوَ مَا فِيهِ مِمَّا بِعِبَادِهِ إِلَى عِلْمِ تَأْوِيلِهِ الْحَاجَةُ، فَلَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَى عِلْمِ ذَلِكَ إِلَّا بِبَيَانِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ تَأْوِيلَهُ. وَالثَّالِثُ مِنْهَا: مَا كَانَ عِلْمُهُ عِنْدَ أَهْلِ اللِّسَانِ الَّذِي نَـزَلَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَذَلِكَ عِلْمُ تَأْوِيلِ عَرَبِيَّتِهِ وَإِعْرَابِهِ، لَا يُوصَلُ إِلَى عِلْمِ ذَلِكَ إِلَّا مِنْ قِبَلِهِمْ. فَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَأَحَقُّ الْمُفَسِّرِينَ بِإِصَابَةِ الْحَقِّ- فِي تَأْوِيلِ الْقُرْآنِ الَّذِي إِلَى عِلْمِ تَأْوِيلِهِ لِلْعِبَادِ السَّبِيلُ- أَوْضَحُهُمْ حُجَّةً فِيمَا تَأَوَّلَ وَفَسَّرَ، مِمَّا كَانَ تَأْوِيلُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَ سَائِرِ أُمَّتِهِ مِنْ أَخْبَارِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّابِتَةِ عَنْهُ: إِمَّا مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ الْمُسْتَفِيضِ، فِيمَا وُجِدَ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ عَنْهُ النَّقْلُ الْمُسْتَفِيضُ، وَإِمَّا مِنْ جِهَةِ نَقْلِ الْعُدُولِ الْأَثْبَاتِ، فِيمَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ عَنْهُ النَّقْلُ الْمُسْتَفِيضُ، أَوْ مِنْ جِهَةِ الدَّلَالَةِ الْمَنْصُوبَةِ عَلَى صِحَّتِهِ، وَأَصَحُّهُمْ بُرْهَانًا- فِيمَا تَرْجَمَ وَبَيَّنَ مِنْ ذَلِكَ- مِمَّا كَانَ مُدْرَكًا عِلْمُهُ مِنْ جِهَةِ اللِّسَانِ: إِمَّا بِالشَّوَاهِدِ مِنْ أَشْعَارِهِمُ السَّائِرَةِ، وَإِمَّا مِنْ مَنْطِقِهِمْ وَلُغَاتِهِمُ الْمُسْتَفِيضَةِ الْمَعْرُوفَةِ، كَائِنًا مَنْ كَانَ ذَلِكَ الْمُتَأَوِّلُ وَالْمُفَسِّرُ، بَعْدَ أَنْ لَا يَكُونُ خَارِجًا تَأْوِيلُهُ وَتَفْسِيرُهُ مَا تَأَوَّلَ وَفَسَّرَ مِنْ ذَلِكَ، عَنْ أَقْوَالِ السَّلَفِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالْأَئِمَّةِ، وَالْخَلْفِ مِنَ التَّابِعَيْنِ وَعُلَمَاءِ الْأُمَّةِ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ سَمَّى تَنْـزِيلَهُ الَّذِي أَنْـزَلَهُ عَلَى عَبْدِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْمَاءً أَرْبَعَةً: مِنْهُنَّ: "الْقُرْآنُ "، فَقَالَ فِي تَسْمِيَتِهِ إِيَّاهُ بِذَلِكَ فِي تَنْـزِيلِهِ: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [سُورَةُ يُوسُفَ: 3]، وَقَالَ: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [سُورَةُ النَّمْلِ: 76]. وَمِنْهُنَّ: "الْفُرْقَانُ"، قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي وَحْيِهِ إِلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَمِّيهِ بِذَلِكَ: {تَبَارَكَ الَّذِي نَـزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [سُورَةُ الْفُرْقَانِ: 1]. وَمِنْهُنَّ: "الْكِتَابُ": قَالَ تَبَارَكَ اسْمُهُ فِي تَسْمِيَتِهِ إِيَّاهُ بِهِ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْـزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا قَيِّمًا} [سُورَةُ الْكَهْفِ: 1]. وَمِنْهُنَّ: "الذَّكَرُ"، قَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ فِي تَسْمِيَتِهِ إِيَّاهُ بِهِ: {إِنَّا نَحْنُ نَـزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [سُورَةُ الْحِجْرِ: 9]. وَلِكُلِّ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ الْأَرْبَعَةِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، مَعْنًى وَوَجْهٌ غَيْرُ مَعْنَى الْآخَرِ وَوَجْهِهِ. فَأَمَّا "الْقُرْآنُ"، فَإِنَّ الْمُفَسِّرِينَ اخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِهِ. وَالْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ تَأْوِيلُهُ عَلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مِنَ التِّلَاوَةِ وَالْقِرَاءَةِ، وَأَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: قَرَأَتُ، كَقَوْلِكَ "الْخُسْرَانُ" مِنْ "خَسِرْتُ"، و "الْغُفْرَانُ" مِنْ "غَفَرَ اللَّهُ لَكَ"، و "الْكُفْرَانُ" مِنْ "كَفَّرْتُكَ"، "وَالْفُرْقَانُ" مِنْ "فَرَقَ اللَّهُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ ". وَذَلِكَ أَنْ يَحْيَى بْنَ عُثْمَانَ بْنِ صَالِحٍ السَّهْمِيَّ حَدَّثَنِي، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ} (يَقُولُ: بَيَّنَاهُ)، {فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [سُورَةُ الْقِيَامَةِ: 18] يَقُولُ: اعْمَلْ بِهِ. وَمَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا: فَإِذَا بَيَّنَاهُ بِالْقِرَاءَةِ، فَاعْمَلْ بِمَا بَيَّنَاهُ لَكَ بِالْقِرَاءَةِ. وَمِمَّا يُوَضِّحُ صِحَّةَ مَا قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا، مَا:- حَدَّثَنِي بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [سُورَةُ الْقِيَامَةِ: 17] قَالَ: {أَنْ نُقْرِئَكَ فَلَا تَنْسَى} {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ} (عَلَيْكَ) {فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} يَقُولُ: إِذَا تُلِيَ عَلَيْكَ فَاتَّبِعْ مَا فِيهِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَقَدْ صَرَّحَ هَذَا الْخَبَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ مَعْنَى "الْقُرْآنِ " عِنْدَهُ الْقِرَاءَةُ، فَإِنَّهُ مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: قَرَأْتُ، عَلَى مَا بَيَّنَاهُ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ قَتَادَةَ، فَإِنَّ الْوَاجِبَ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا، مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: قَرَأْتُ الشَّيْءَ، إِذَا جَمَعْتَهُ وَضَمَمْتَ بَعْضَهُ إِلَى بَعْضٍ، كَقَوْلِكَ: "مَا قَرَأَتْ هَذِهِ النَّاقَةُ سَلًى قَطُّ" تُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّهَا لَمْ تَضْمُمْ رَحِمًا عَلَى وَلَدٍ، كَمَا قَالَ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ التَّغْلَبِيُّ: تُـرِيكَ إِذَا دَخَـلْتَ عَـلَى خَـلَاءٍ، *** وَقَدْ أَمِنَتْ عُيُونَ الْكَاشِحِينَا ذِرَاعَـيْ عَيْطَـلٍ، أَدْمَـاءَ، بِكْـرٍ، *** هِجَـانِ اللَّـوْنِ، لَـمْ تَقْـرَأْ جَنِينـًا يَعْنِي بِقَوْلِهِ: "لَمْ تَقْرَأْ جَنِينًا "، لَمْ تَضْمُمْ رَحِمًا عَلَى وَلَدٍ. وَذَلِكَ أَنْ بِشْرَ بْنَ مُعَاذٍ الْعَقَدِيَّ حَدَّثَنَا قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} يَقُولُ: حِفْظَهُ وَتَأْلِيفَهُ، {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} اتَّبِعْ حَلَالَهُ، وَاجْتَنِبْ حَرَامَهُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى الصَّنْعَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَمِّرُ، عَنْ قَتَادَةَ بِمَثَلِهِ. فَرَأْيُ قَتَادَةَ أَنَّ تَأْوِيلَ "الْقُرْآنِ": التَّأْلِيفُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَلِكِلَا الْقَوْلَيْنِ- أَعَنِي قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَوْلِ قَتَادَةَ- اللَّذَيْنِ حَكَيْنَاهُمَا، وَجْهٌ صَحِيحٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. غَيْرَ أَنَّ أَوْلَى قَوْلَيْهِمَا بِتَأْوِيلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} قَوْلُ ابْنُ عَبَّاسٍ. لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَمْرَ نَبِيَّهُ فِي غَيْرِ آيَةٍ مِنْ تَنْـزِيلِهِ بِاتِّبَاعِ مَا أَوْحَى إِلَيْهِ، وَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُ فِي تَرْكِ اتِّبَاعِ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِهِ إِلَى وَقْتِ تَأْلِيفِهِ الْقُرْآنَ لَهُ. فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} (نَظِيرَ سَائِرِ مَا فِي آيِ الْقُرْآنِ الَّتِي أَمَرَهُ اللَّهُ فِيهَا بِاتِّبَاعِ مَا أَوْحَى إِلَيْهِ فِي تَنْـزِيلِهِ. وَلَوْ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} فَإِذَا أَلَّفْنَاهُ فَاتَّبَعَ مَا أَلَّفْنَا لَكَ فِيهِ- لَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونُ كَانَ لَزِمَهُ فَرْضُ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} وَلَا فَرْضُ {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ} [سُورَةُ الْمُدَّثِّرِ: 1- 2] قَبْلَ أَنْ يُؤَلَّفَ إِلَى ذَلِكَ غَيْرُهُ مِنَ الْقُرْآنِ. وَذَلِكَ، إِنْ قَالَهُ قَائِلٌ، خُرُوجٌ مِنْ قَوْلِ أَهْلِ الْمِلَّةِ. وَإِذْ صَحَّ أَنَّ حُكْمَ كُلِّ آيَةٍ مِنْ آيِ الْقُرْآنِ كَانَ لَازِمًا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتِّبَاعُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ، مُؤَلَّفَةً كَانَتْ إِلَى غَيْرِهَا أَوْ غَيْرَ مُؤَلَّفَةٍ- صَحَّ مَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} أَنَّهُ يَعْنِي بِهِ: فَإِذَا بَيَّنَاهُ لَكَ بِقِرَاءَتِنَا، فَاتَّبِعْ مَا بَيَّنَاهُ لَكَ بِقِرَاءَتِنَا- دُونَ قَوْلِ مَنْ قَالَ: مَعْنَاهُ، فَإِذَا أَلَّفْنَاهُ فَاتَّبِعْ مَا أَلَّفْنَاهُ. وَقَدْ قِيلَ إِنَّ قَوْلَ الشَّاعِرِ: ضَحَّـوْا بِأَشْـمَطَ عُنْـوانُ السُّـجُودِ بِهِ *** يُقَطِّـعُ الَّليـلَ تَسْبِيـحًا وقُـرْآنَا يَعْنِي بِهِ قَائِلُهُ: تَسْبِيحًا وَقِرَاءَةً. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى "قُرْآنًا " بِمَعْنَى الْقِرَاءَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَقْرُوءٌ؟ قِيلَ: كَمَا جَازَ أَنْ يُسَمَّى الْمَكْتُوبُ "كِتَابًا"، بِمَعْنَى: كِتَابِ الْكَاتِبِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ فِي صِفَةِ كِتَابِ طَلَاقٍ كَتَبَهُ لِامْرَأَتِهِ: تُـؤَمِّلُ رَجْعَـةً مِنِّـى، وَفِيهَـا *** كِتَـابٌ مِثْـلَ مَا لَصِـقَ الْغِرَاءُ يُرِيدُ: طَلَاقًا مَكْتُوبًا، فَجَعَلَ "الْمَكْتُوبَ" كِتَابًا. وَأَمَّا تَأْوِيلُ اسْمِهِ الَّذِي هُوَ "فُرْقَانٌ"، فَإِنَّ تَفْسِيرَ أَهْلِ التَّفْسِيرِ جَاءَ فِي ذَلِكَ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ، هِيَ فِي الْمَعَانِي مُؤْتَلِفَةٌ. فَقَالَ عِكْرِمَةُ، فِيمَا حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَكَّامُ بْنُ سَلْمٍ، عَنْ عَنْبَسَةَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ: أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: هُوَ النَّجَاةُ. وَكَذَلِكَ كَانَ السُّدِّيُّ يَتَأَوَّلُهُ. حَدَّثَنَا بِذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ- وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةِ غَيْرِهِمَا. وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: "الْفُرْقَانُ ": الْمَخْرَجُ. حَدَّثَنِي بِذَلِكَ يَحْيَى بْنُ عُثْمَانَ بْنِ صَالِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيٍّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَكَذَلِكَ كَانَ مُجَاهِدُ يَقُولُ فِي تَأْوِيلِهِ بِذَلِكَ. حَدَّثَنَا بِذَلِكَ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَكَّامٌ، عَنْ عَنْبَسَةَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ. وَكَانَ مُجَاهِدُ يَقُولُ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {يَوْمَ الْفُرْقَانِ} [سُورَةُ الْأَنْفَالِ: 41] يَوْمٌ فَرَقَ اللَّهُ فِيهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ. حَدَّثَنِي بِذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو الْبَاهِلِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى بْنِ مَيْمُونٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نُجَيْحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ. وَكُلُّ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ فِي مَعْنَى "الْفُرْقَانِ "- عَلَى اخْتِلَافِ أَلْفَاظِهَا- مُتَقَارِبَاتُ الْمَعَانِي. وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ جُعِلَ لَهُ مَخْرَجٌ مِنْ أَمَرٍ كَانَ فِيهِ، فَقَدْ جُعِلَ لَهُ ذَلِكَ الْمَخْرَجُ مِنْهُ نَجَاةً. وَكَذَلِكَ إِذَا نُجِّيَ مِنْهُ، فَقَدْ نُصِرَ عَلَى مَنْ بَغَاهُ فِيهِ سُوءًا، وَفُرِقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَاغِيهِ السُّوءَ. فَجَمِيعُ مَا رَوَيْنَا- عَمَّنْ رَوَيْنَا عَنْهُ- فِي مَعْنَى "الْفُرْقَانِ"، قَوْلٌ صَحِيحُ الْمَعَانِي، لِاتِّفَاقِ مَعَانِي أَلْفَاظِهِمْ فِي ذَلِكَ. وَأَصْلُ "الْفُرْقَانِ " عِنْدَنَا: الْفَرْقُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ وَالْفَصْلُ بَيْنَهُمَا. وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ بِقَضَاءٍ، وَاسْتِنْقَاذٍ، وَإِظْهَارِ حُجَّةٍ، وَنَصْرٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَانِي الْمُفَرِّقَةِ بَيْنَ الْمُحِقِّ وَالْمُبْطِلِ. فَقَدْ تَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ الْقُرْآنَ سُمِّيَ "فُرْقَانًا "، لِفَصْلِهِ- بِحُجَجِهِ وَأَدِلَّتِهِ وَحُدُودِ فَرَائِضِهِ وَسَائِرِ مَعَانِي حُكْمِهِ- بَيْنَ الْمُحِقِّ وَالْمُبْطِلِ. وَفُرْقَانُهُ بَيْنَهُمَا: بِنَصْرِهِ الْمُحِقِّ، وَتَخْذِيلِهِ الْمُبْطِلِ، حُكْمًا وَقَضَاءً. وَأَمَّا تَأْوِيلُ اسْمِهِ الَّذِي هُوَ "كِتَابٌ ": فَهُوَ مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِكَ "كَتَبْتُ كِتَابًا " كَمَا تَقُولُ: قُمْتُ قِيَامًا، وَحَسَبْتُ الشَّيْءَ حِسَابًا. وَالْكِتَابُ: هُوَ خَطُ الْكَاتِبِ حُرُوفَ الْمُعْجَمِ مَجْمُوعَةً وَمُفْتَرِقَةً. وَسُمِّيَ "كِتَابًا "، وَإِنَّمَا هُوَ مَكْتُوبٌ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ فِي الْبَيْتِ الَّذِي اسْتَشْهَدْنَا بِهِ: وَفِيهَـا كِتـابٌ مِثْـلَ مِـا لَصِقَ الْغِرَاءُ *** يَعْنِي بِهِ مَكْتُوبًا. وَأَمَّا تَأْوِيلُ اسْمِهِ الَّذِي هُوَ "ذِكْرٌ "، فَإِنَّهُ مُحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ ذِكْرٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ، ذَكَّرَ بِهِ عِبَادَهُ، فَعَرَّفَهُمْ فِيهِ حُدُودَهُ وَفَرَائِضَهُ، وَسَائِرَ مَا أَوْدَعَهُ مِنْ حِكَمِهِ. وَالْآخَرُ: أَنَّهُ ذِكْرٌ وَشَرَفٌ وَفَخْرٌ لِمَنْ آمَنَ بِهِ وَصَدَّقَ بِمَا فِيهِ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [سُورَةُ الزُّخْرُفِ: 44]، يَعْنِي بِهِ أَنَّهُ شَرَفٌ لَهُ وَلِقَوْمِهِ. ثُمّ َلِسُوَرِ الْقُرْآنِ أَسْمَاءٌ سَمَّاهَا بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَوَّامِ- وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ خَلَفٍ الْعَسْقَلَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا رَوَّادُ بْنُ الْجَرَّاحِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ بَشِيرٍ، جَمِيعًا- عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ، عَنْ وَاثِلةِ بْنِ الْأَسْقَعِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أُعْطِيتُ مَكَانَ التَّوْرَاةِ السَّبْعَ الطُّوَلِ، وَأَعْطِيتُ مَكَانَ الزَّبُورِ الْمِئِينَ، وَأَعْطِيْتُ مَكَانَ الْإِنْجِيلِ الْمَثَانِي، وَفُضِّلْتُ بِالْمُفَصَّلِ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أُعْطِيتُ السَّبْعَ الطُّوَلَ مَكَانَ التَّوْرَاةِ، وَأَعْطِيتُ الْمَثَانِيَ مَكَانَ الزَّبُورِ، وأُعْطِيتُ الْمِئِينَ مَكَانَ الْإِنْجِيلِ، وَفُضِّلْتُ بِالْمُفَصَّلِ). قَالَ خَالِدٌ: كَانُوا يُسَمُّونَ الْمُفَصَّلَ: الْعَرَبِيَّ. قَالَ خَالِدٌ: قَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ فِي الْعَرَبِيِّ سَجْدَةٌ. وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ حَدَّثَنَا حَكَّامُ بْنُ سَلْمٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي قَيْسٍ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنِ الْمُسَيَّبِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: الطُّوَلُ كَالتَّوْرَاةِ، وَالْمَئُونَ كَالْإِنْجِيلِ، وَالْمَثَانِي كَالزَّبُورِ، وَسَائِرِ الْقُرْآنِ بَعْدُ فَضْلٌ عَلَى الْكُتُبِ. حَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدٍ الْوَصَّابِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَفْصٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا الْفَزَارِيُّ، عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ، عَنْ وَاثِلةَ بْنِ الْأَسْقَعِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (قَالَ أَعْطَانِي رِبِّي مَكَانَ التَّوْرَاةِ السَّبْعَ الطُّوَلَ، وَمَكَانَ الْإِنْجِيلِ الْمَثَانِيَ، وَمَكَانَ الزَّبُورِ الْمِئِينَ، وَفَضَّلَنِي رَبِّي بِالْمُفَصَّلِ). قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالسَّبْعُ الطُّوَلُ: الْبَقَرَةُ، وَآلُ عِمْرَانَ، وَالنِّسَاءُ، وَالْمَائِدَةُ، وَالْأَنْعَامُ، وَالْأَعْرَافُ، وَيُونُسُ،، فِي قَوْلِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. حَدَّثَنِي بِذَلِكَ يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلٌ يَدُلُّ عَلَى مُوَافَقَتِهِ قَوْلَ سَعِيدٍ هَذَا. وَذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، وَسَهْلُ بْنُ يُوسُفَ، قَالُوا: حَدَّثَنَا عَوْفٌ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ الْفَارِسِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي «ابْن عَبَّاسٍ: قَالَ: قُلْتُ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ: مَا حَمَلَكُمْ عَلَى أَنْ عَمَدْتُمْ إِلَى الْأَنْفَالِ، وَهِيَ مِنَ الْمَثَانِي، وَإِلَى بَرَاءَةٌ وَهِيَ مِنَ الْمِئِينَ، فَقَرَنْتُمْ بَيْنَهُمَا وَلَمْ تَكْتُبُوا سَطْرًا: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ "، وَوَضَعْتُمُوهُمَا فِي السَّبْعِ الطُّوَلِ؟ مَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ؟ قَالَ عُثْمَانُ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا يَأْتِي عَلَيْهِ الزَّمَانُ وَهُوَ تُنَـزَّلُ عَلَيْهِ السُّورُ ذَوَاتُ الْعَدَدِ، فَكَانَ إِذَا نَـزَلَ عَلَيْهِ الشَّيْءُ دَعَا بِبَعْضٍ مَنْ كَانَ يَكْتُبُ فَيَقُولُ: ضَعُوا هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ فِي السُّورَةِ الَّتِي يَذْكُرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا. وَكَانَتِ الْأَنْفَالُ مِنْ أَوَائِلِ مَا نَـزَلَ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَتْ بَرَاءَةُ مِنْ آخَرَ الْقُرْآنِ نُـزُولًا وَكَانَتْ قِصَّتُهَا شَبِيهَةَ بِقِصَّتِهَا، فَظَنَنْتُ أَنَّهَا مِنْهَا. فَقُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا أَنَّهَا مِنْهَا، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَرَنْتُ بَيْنَهُمَا، وَلَمْ أَكْتُبْ بَيْنَهُمَا سَطْرَ: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ "، وَوَضَعَتْهُمَا فِي السَّبْعِ الطُّوَلِ). فَهَذَا الْخَبَرُ يُنْبِئُ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ، أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ الْأَنْفَالَ وَبَرَاءَةَ مِنَ السَّبْعِ الطُّوَلِ، وَيُصَرِّحُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَرَى ذَلِكَ مِنْهَا. وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّوَرُ السَّبْعَ الطُّوَلَ، لِطُولِهَا عَلَى سَائِرِ سُوَرِ الْقُرْآنِ. وَأَمَّا الْمَئُونُ: فَهِيَ مَا كَانَ مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ عَدَدُ آيِهِ مِئَةُ آيَةٍ، أَوْ تَزِيدُ عَلَيْهَا شَيْئًا أَوْ تَنْقُصُ مِنْهَا شَيْئًا يَسِيرًا. وَأَمَّا الْمَثَانِي: فَإِنَّهَا مَا ثَنَّى الْمِئِينَ فَتَلَاهَا، وَكَانَ الْمَئُونَ لَهَا أَوَائِلَ، وَكَانَ الْمَثَانِي لَهَا ثَوَانِي. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْمَثَانِيَ سُمِّيَتْ مَثَانِيَ، لِتَثْنِيَةِ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ فِيهَا الْأَمْثَالَ وَالْخَبَرَ وَالْعِبَرَ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنُ عَبَّاسٍ. حَدَّثَنَا بِذَلِكَ أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ يَمَانٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِنَّمَا سُمِّيَتْ مَثَانِيَ لِأَنَّهَا ثُنِّيَتْ فِيهَا الْفَرَائِضُ وَالْحُدُودُ. حَدَّثَنَا بِذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَقَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ يَكْثُرُ تَعْدَادُهُمْ: الْقُرْآنُ كُلُّهُ مَثَانٍ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ أُخْرَى: بَلِ الْمَثَانِي فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، لِأَنَّهَا تُثْنَى قِرَاءَتُهَا فِي كُلِّ صَلَاةٍ. وَسَنَذْكُرُ أَسْمَاءَ قَائِلِي ذَلِكَ وَعِلَلَهُمْ، وَالصَّوَابَ مِنَ الْقَوْلِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ ذَلِكَ، إِذَا انْتَهَيْنَا إِلَى تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} [سُورَةُ الْحِجْرِ: 87] إِنْ شَاءَ اللَّهُ ذَلِكَ. وَبِمِثْلِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرِّوَايَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَسْمَاءِ سُوَرِ الْقُرْآنِ الَّتِي ذُكِرَتْ، جَاءَ شِعْرُ الشُّعَرَاءِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: حَـلَفْتُ بِالسَّـبْعِ اللَّـوَاتِي طُـوِّلَتْ *** وبِمِئِـينَ بَعْدَهَا قَـدْ أُمْئِيَتْ وَبِمَثَـانٍ ثُنِّيَـتْ فَكُـرِّرَتْ *** وَبِالطَّـواسِـينِ الَّتِي قَـدْ ثـُلِّثَتْ وَبِـالحَوَامِيمِ اللَّـوَاتِي سُـبِّعَتْ *** وَبِـالْمُفَصَّلِ اللَّـواتِي فُصِّـلَتْ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ: وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ التَّأْوِيلِ الَّذِي تَأْوَّلْنَاهُ فِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ. وَأَمَّا "الْمُفَصَّلُ ": فَإِنَّهَا سُمِّيَتْ مُفَصَّلًا لِكَثْرَةِ الْفُصُولِ الَّتِي بَيْنَ سُوَرِهَا بِـ "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ". قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: ثُمَّ تُسَمَّى كُلُّ سُورَةٍ مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ "سُورَةً "، وَتَجْمَعُ سُوَرًا "، عَلَى تَقْدِيرِ "خُطْبَةٍ وَخُطَبٍ "، "وَغُرْفَةٍ وَغُرَفٍ ". وَالسُّورَةُ، بِغَيْرِ هَمْزٍ: الْمَنْـزِلَةُ مِنْ مَنَازِلَ الِارْتِفَاعِ. وَمِنْ ذَلِكَ سُورُ الْمَدِينَةِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ الْحَائِطُ الَّذِي يَحْوِيهَا، لِارْتِفَاعِهِ عَلَى مَا يَحْوِيهِ. غَيْرَ أَنَّ السُّورَةَ مِنْ سُورِ الْمَدِينَةِ لَمْ يُسْمَعْ فِي جَمْعِهَا "سُوَر"، كَمَا سُمِعَ فِي جَمْعِ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ "سُوَر". قَالَ الْعَجَّاجُ فِي جَمْعِ السُّورَةِ مِنَ الْبِنَاءِ: فَـرُبَّ ذِي سُـرَادِقٍ مَحْجُـورِ *** سُـرْتُ إِلَيْهِ فِي أَعَالِـي السُّـورِ فَخَرَجَ تَقْدِيرُ جَمْعِهَا عَلَى تَقْدِيرِ جَمْعِ بُرَّةً وَبُسْرَةً، لِأَنَّ ذَلِكَ يُجْمَعُ بُرًّا وَبُسْرًا. وَكَذَلِكَ لَمْ يُسْمَعْ فِي جَمْعِ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ سُوْرٌ، وَلَوْ جُمِعَتْ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ خَطَأً فِي الْقِيَاسِ، إِذَا أُرِيدَ بِهِ جَمِيعُ الْقُرْآنِ. وَإِنَّمَا تَرَكُوا- فِيمَا نَرَى- جَمْعَهُ كَذَلِكَ، لِأَنَّ كُلَّ جَمْعٍ كَانَ بِلَفْظٍ الْوَاحِدِ الْمُذَكَّرِ مِثْلَ: بُرٍّ وَشَعِيرٍ وَقَصَبٍ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَإِنَّ جِمَاعَهُ يَجْرِي مَجْرَى الْوَاحِدِ مِنَ الْأَشْيَاءِ غَيْرِهِ. لِأَنَّ حُكْمَ الْوَاحِدِ مِنْهُ مُنْفَرِدًا قَلَمَّا يُصَابُ، فَجَرَى جِمَاعُهُ مَجْرَى الْوَاحِدِ مِنَ الْأَشْيَاءِ غَيْرِهِ ثُمَّ جُعِلَتِ الْوَاحِدَةُ مِنْهُ كَالْقِطْعَةِ مِنْ جَمِيعِهِ، فَقِيلَ: بُرَّةٌ وَشُعَيْرَةٌ وَقَصَبَةٌ، يُرَادُ بِهِ قِطْعَةٌ مِنْهُ. وَلَمْ تَكُنْ سُوَرُ الْقُرْآنِ مَوْجُودَةً مُجْتَمِعَةً اجْتِمَاعَ الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ وَسُورِ الْمَدِينَةِ، بَلْ كُلُّ سُورَةٍ مِنْهَا مَوْجُودَةٌ مُنْفَرِدَةٌ بِنَفْسِهَا، انْفِرَادَ كُلِّ غُرْفَةٍ مِنَ الْغُرَفِ وَخُطْبَةٍ مِنَ الْخُطَبِ، فَجُعِلَ جَمْعُهَا جَمْعَ الْغُرَفِ وَالْخُطَبِ، الْمَبْنِيِّ جَمْعُهَا مِنْ وَاحِدِهَا. وَمِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ مَعْنَى السُّورَةِ: الْمُنَـزَّلَةُ مِنَ الِارْتِفَاعِ، قَوْلُ نَابِغَةِ بَنِي ذُبْيَانَ: أَلَـمْ تَـرَ أَنَّ اللهَ أَعْطَـاكَ سُـورَةً *** تَـرَى كُلَّ مَلِكٍ دُونَهَا يَتَذَبْذَبُ يَعْنِي بِذَلِكَ: أَنَّ اللَّهَ أَعْطَاهُ مَنْـزِلَةً مِنْ مَنَازِلَ الشَّرَفِ الَّتِي قَصُرَتْ عَنْهَا مَنَازِلُ الْمُلُوكِ. وَقَدْ هَمْزَ بَعْضُهِمُ السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ. وَتَأْوِيلُهَا، فِي لُغَةِ مَنْ هَمَزَهَا، الْقِطْعَةُ الَّتِي قَدْ أُفْضِلَتْ مِنَ الْقُرْآنِ عَمَّا سِوَاهَا وَأُبْقِيَتْ. وَذَلِكَ أَنَّ سُؤْرَ كُلِّ شَيْءٍ: الْبَقِيَّةُ مِنْهُ تَبْقَى بَعْدَ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنْهُ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتِ الْفَضْلَةُ مِنْ شَرَابِ الرَّجُلِ- يَشْرَبُهُ ثُمَّ يُفَضِلُهَا فَيُبْقِيهَا فِي الْإِنَاءِ- سُؤْرًا. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ أَعْشَى بَنِي ثَعْلَبَةَ، يَصِفُ امْرَأَةً فَارَقَتْهُ فَأَبْقَتْ فِي قَلْبِهِ مِنْ وَجْدِهَا بَقِيَّةً: فَبَـانَتْ، وَقَدْ أَسْـأَرَتْ فِـي الْفُـؤَادِ *** صَدْعًـا، عَلَى نَـأْيِهَا، مُسْتَطِيَرًا وَقَالَ الْأَعْشَى فِي مِثْلِ ذَلِكَ: بَـانَتْ، وَقَدْ أَسْأَرَتْ فِي النَّفْسِ حَاجَتَهَا، *** بَعْـدَ ائْتِلَافٍ، وَخَيْرُ الْـوُدِّ مَا نَفَعَا وَأَمَّا الْآيَةُ مِنْ آيِ الْقُرْآنِ، فَإِنَّهَا تَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ سُمِّيَتْ آيَةً، لِأَنَّهَا عَلَامَةٌ يُعَرَفُ بِهَا تَمَامُ مَا قَبْلَهَا وَابْتِدَاؤُهَا، كَالْآيَةِ الَّتِي تَكُونُ دَلَالَةً عَلَى الشَّيْءِ يُسْتَدَلُ بِهَا عَلَيْهِ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: أَلِكْـنِي إِلَيْهَـا، عَمْـرَكَ اللَّـهُ يَـا فَتَى *** بِآيـةِ مَا جَاءَتْ إِلَيْنَا تَهَادِيَا يَعْنِي: بِعَلَامَةِ ذَلِكَ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ: {رَبَّنَا أَنْـزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ} [سُورَةُ الْمَائِدَةِ: 114] أَيْ عَلَامَةً مِنْكَ لِإِجَابَتِكَ دُعَاءَنَا وَإِعْطَائِكَ إِيَّانَا سُؤْلَنَا. وَالْآخَرُ مِنْهُمَا: الْقِصَّةُ، كَمَا قَالَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى: أَلَّا أَبْلِغَـا هَـذَا المُعَـرِّضَ آيَـةً: *** أَيْقَظَـانَ قَالَ الْقَوْلَ إِذْ قَالَ، أَمْ حَلَمَ يَعْنِي بِقَوْلِهِ "آيَةً ": رِسَالَةً مِنِّي وَخَبَرًا عَنِّي. فَيَكُونُ مَعْنَى الْآيَاتِ: الْقِصَصُ، قِصَّةٌ تَتْلُو قِصَّةً، بِفُصُولٍ وَوُصُولٍ.
|