الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ الَّذِينَ حَرَّفُوا كِتَابَ اللَّهِ مِنْ يَهُودِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَتَبُوا كِتَابًا عَلَى مَا تَأَوَّلُوهُ مِنْ تَأْوِيلَاتِهِمْ، مُخَالِفًا لِمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ بَاعُوهُ مِنْ قَوْمٍ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِهَا، وَلَا بِمَا فِي التَّوْرَاةِ، جُهَّالٌ بِمَا فِي كُتُبِ اللَّهِ- لِطَلَبِ عَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا خَسِيسٍ، فَقَالَ اللَّهُ لَهُمْ: {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ}، كَمَا: حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا}، قَالَ: كَانَ نَاسٌ مِنَ الْيَهُودِ كَتَبُوا كِتَابًا مِنْ عِنْدِهِمْ، يَبِيعُونَهُ مِنَ الْعَرَبِ، وَيُحَدِّثُونَهُمْ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، لِيَأْخُذُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْأُمِّيُّونَ قَوْمٌ لَمْ يُصَدِّقُوا رَسُولًا أَرْسَلَهُ اللَّهُ، وَلَا كِتَابًا أَنْـزَلَهُ اللَّهُ، فَكَتَبُوا كِتَابًا بِأَيْدِيهِمْ، ثُمَّ قَالُوا لِقَوْمٍ سَفِلَةٍ جُهَّالٍ: هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ " لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا". قَالَ: عَرَضًا مِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: {لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}، قَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ عَرَفُوا أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، يُحَرِّفُونَهُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ، عَنْ قَتَادَةَ: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} الْآيَةُ، وَهُمُ الْيَهُودُ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}، قَالَ: كَانَ نَاسٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَتَبُوا كِتَابًا بِأَيْدِيهِمْ، لِيَتَأَكَّلُوا النَّاسَ، فَقَالُوا: هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَوْلُهُ: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا}، قَالَ: عَمَدُوا إِلَى مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِمْ مِنْ نَعْتِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَرَّفُوهُ عَنْ مَوَاضِعِهِ، يَبْتَغُونَ بِذَلِكَ عَرَضًا مَنْ عَرَضِ الدُّنْيَا، فَقَالَ: {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ}. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ قَالَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ جَرِيرٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ كِنَانَةَ الْعَدَوِيِّ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ}، الْوَيْلُ: جَبَلٌ فِي النَّارِ، وَهُوَ الَّذِي أُنْـزِلَ فِي الْيَهُودِ، لِأَنَّهُمْ حَرَّفُوا التَّوْرَاةَ، وَزَادُوا فِيهَا مَا يُحِبُّونَ، وَمَحَوْا مِنْهَا مَا يَكْرَهُونَ، وَمَحَوُا اسْمَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ التَّوْرَاةِ. فَلِذَلِكَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَرَفَعَ بَعْضَ التَّوْرَاةِ، فَقَالَ: {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ}. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِجْلَانِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءَ بْنِ يَسَارٍ. قَالَ: وَيْلٌ، وَادٍ فِي جَهَنَّمَ، لَوْ سُيِّرَتْ فِيهِ الْجِبَالُ لَانْمَاعَتْ مِنْ شِدَّةِ حَرِّهِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: إِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: مَا وَجْهُ قَوْلِهِ: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ}؟ وَهَلْ تَكُونُ الْكِتَابَةُ بِغَيْرِ الْيَدِ، حَتَّى احْتَاجَ الْمُخَاطَبُونَ بِهَذِهِ الْمُخَاطَبَةِ، إِلَى أَنْ يُخْبَرُوا عَنْ هَؤُلَاءِ- الْقَوْمِ الَّذِينَ قَصَّ اللَّهُ قِصَّتَهُمْ- أَنَّهُمْ كَانُوا يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ؟ قِيلَ لَهُ: إِنَّ الْكِتَابَ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَإِنْ كَانَ مِنْهُمْ بِالْيَدِ، فَإِنَّهُ قَدْ يُضَافُ الْكِتَابُ إِلَى غَيْرِ كَاتِبِهِ وَغَيْرِ الْمُتَوَلِّي رَسْمَ خَطِّهِ فَيُقَالُ: كَتَبَ فُلَانٌ إِلَى فُلَانٍ بِكَذَا"، وَإِنْ كَانَ الْمُتَوَلِّي كِتَابَتَهُ بِيَدِهِ، غَيْرَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ الْكِتَابُ، إِذَا كَانَ الْكَاتِبُ كَتَبَهُ بِأَمْرِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ الْكِتَابُ. فَأَعْلَمَ رَبُّنَا بِقَوْلِهِ: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ، أَنَّ أَحْبَارَ الْيَهُودِ تَلِي كِتَابَةَ الْكَذِبِ وَالْفِرْيَةِ عَلَى اللَّهِ بِأَيْدِيهِمْ، عَلَى عِلْمٍ مِنْهُمْ وَعَمْدٍ لِلْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ، ثُمَّ تَنْحَلُهُ إِلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَفِي كِتَابِ اللَّهِ، تَكَذُّبًا عَلَى اللَّهِ وَافْتِرَاءً عَلَيْهِ. فَنَفَى جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: {يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ}، أَنْ يَكُونَ وَلِيَ كِتَابَةَ ذَلِكَ بَعْضُ جُهَّالِهِمْ بِأَمْرِ عُلَمَائِهِمْ وَأَحْبَارِهِمْ. وَذَلِكَ نَظِيرُ قَوْلِ الْقَائِلِ: (بَاعَنِي فُلَانٌ عَيْنُهُ كَذَا وَكَذَا، فَاشْتَرَى فُلَانٌ نَفْسَهُ كَذَا)، يُرَادُ بِإِدْخَال" النَّفْسِ وَالْعَيْنِ " فِي ذَلِكَ، نَفْيُ اللَّبْسِ عَنْ سَامِعِهِ، أَنْ يَكُونَ الْمُتَوَلِّي بَيْعَ ذَلِكَ أَوْ شِرَاءَهُ، غَيْرَ الْمَوْصُوفِ لَهُ أَمْرُهُ، وَيُوجِبُ حَقِيقَةَ الْفِعْلِ لِلْمُخْبَرِ عَنْهُ، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ}.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ}، أَيْ فَالْعَذَابُ- فِي الْوَادِي السَّائِلِ مِنْ صَدِيدِ أَهْلِ النَّارِ فِي أَسْفَلِ جَهَنَّمَ- لَهُمْ، يَعْنِي: لِلَّذِينِ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ، الَّذِي وَصَفْنَا أَمْرَهُ، مِنْ يَهُودِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مُحَرَّفًا، ثُمَّ قَالُوا: هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، ابْتِغَاءَ عَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا بِهِ قَلِيلٍ مِمَّنْ يَبْتَاعُهُ مِنْهُمْ. وَقَوْلُهُ: (مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ)، يَقُولُ: مِنَ الَّذِي كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ مِنْ ذَلِكَ، وَوَيْلٌ لَهُمْ أَيْضًا (مِمَّا يَكْسِبُونَ)، يَعْنِي: مِمَّا يَعْمَلُونَ مِنَ الْخَطَايَا، وَيَجْتَرِحُونَ مِنَ الْآثَامِ، وَيَكْسِبُونَ مِنَ الْحَرَامِ، بِكِتَابِهِمُ الَّذِي يَكْتُبُونَهُ بِأَيْدِيهِمْ، بِخِلَافِ مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ، ثُمَّ يَأْكُلُونَ ثَمَنَهُ، وَقَدْ بَاعُوهُ مِمَّنْ بَاعُوهُ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، كَمَا: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: {وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ}، يَعْنِي: مِنَ الْخَطِيئَةِ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ بِشْرِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: (فَوَيْلٌ لَهُمْ)، يَقُولُ: فَالْعَذَابُ عَلَيْهِمْ. قَالَ: يَقُولُ: مِنَ الَّذِي كَتَبُوا بِأَيْدِيهِمْ مِنْ ذَلِكَ الْكَذِبِ، {وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ}، يَقُولُ: مِمَّا يَأْكُلُونَ بِهِ مِنَ السَّفِلَةِ وَغَيْرِهِمْ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَصْلُ " الْكَسْبِ ": الْعَمَلُ. فَكُلُّ عَامِلٍ عَمَلًا بِمُبَاشَرَةٍ مِنْهُ لِمَا عَمِلَ وَمُعَانَاةٍ بِاحْتِرَافٍ، فَهُوَ كَاسِبٌ لِمَا عَمِلَ، كَمَا قَالَ لَبِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ: لِمُعَفَّرٍ قَهْدٍ تَنَازَعُ شِلْوَهُ *** غُبْسٌ كَوَاسِبُ لَا يُمَنُّ طَعَامُهَا
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ: (وَقَالُوا)، الْيَهُودَ، يَقُولُ: وَقَالَتِ الْيَهُودُ: (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ)، يَعْنِي لَنْ تُلَاقِيَ أَجْسَامَنَا النَّارُ وَلَنْ نَدْخُلَهَا، "إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً". وَإِنَّمَا قِيل" مَعْدُودَةً "وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُبَيِّنًا عَدَدَهَا فِي التَّنْـزِيلِ، لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِذَلِكَ وَهُمْ عَارِفُونَ عَدَدَ الْأَيَّامِ، الَّتِي يُوَقِّتُونَهَا لِمُكْثِهِمْ فِي النَّارِ. فَلِذَلِكَ تَرَكَ ذِكْرَ تَسْمِيَةِ عَدَدِ تِلْكَ الْأَيَّامِ، وَسَمَّاهَا" مَعْدُودَةً " لِمَا وَصَفْنَا. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيمَبْلَغِ الْأَيَّامِ الْمَعْدُودَةِ الَّتِي عَيَّنَهَا الْيَهُودُ، فِي قَوْلِهِمْ لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً الْقَائِلُونَ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ بِمَا: حَدَّثَنَا بِهِ أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ بِشْرِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً}، قَالَ ذَلِكَ أَعْدَاءُ اللَّهِ الْيَهُودُ، قَالُوا: لَنْ يُدْخِلَنَا اللَّهُ النَّارَ إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ، الْأَيَّامَ الَّتِي أَصَبْنَا فِيهَا الْعِجْلَ: أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَإِذَا انْقَضَتْ عَنَّا تِلْكَ الْأَيَّامُ، انْقَطَعَ عَنَّا الْعَذَابُ وَالْقَسَمُ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً}، قَالُوا: أَيَّامًا مَعْدُودَةً بِمَا أَصَبْنَا فِي الْعِجْلِ. حَدَّثَنَا مُوسَى قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً}، قَالَ: قَالَتِ الْيَهُودُ: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُنَا النَّارَ فَنَمْكُثُ فِيهَا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، حَتَّى إِذَا أَكَلَتِ النَّارُ خَطَايَانَا وَاسْتَنْقَيَتْنَا، نَادَى مُنَادٍ: أَخْرِجُوا كُلَّ مَخْتُونٍ مِنْ وَلَدِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. فَلِذَلِكَ أُمِرْنَا أَنْ نَخْتَتِنَ. قَالُوا: فَلَا يَدَعُونَ مِنَّا فِي النَّارِ أَحَدًا إِلَّا أَخْرَجُوهُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: قَالَتِ الْيَهُودُ: إِنَّ رَبَّنَا عَتَبَ عَلَيْنَا فِي أَمْرِنَا، فَأَقْسَمَ لَيُعَذِّبَنَا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ يُخْرِجُنَا. فَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: قَالَتِ الْيَهُودُ: لَنْ نَدْخُلَ النَّارَ إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ، عَدَدَ الْأَيَّامِ الَّتِي عَبَدْنَا فِيهَا الْعِجْلَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ، حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} الْآيَةُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ذُكِرَ أَنَّ الْيَهُودَ وَجَدُوا فِي التَّوْرَاةِ مَكْتُوبًا، أَنَّ مَا بَيْنَ طَرَفَيْ جَهَنَّمَ مَسِيرَةَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، إِلَى أَنْ يَنْتَهُوا إِلَى شَجَرَةِ الزَّقُّومِ نَابِتَةً فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ- وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: إِنَّ الْجَحِيمَ سَقَرٌ، وَفِيهِ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ- فَزَعَمَ أَعْدَاءُ اللَّهِ، أَنَّهُ إِذَا خَلَا الْعَدَدُ الَّذِي وَجَدُوا فِي كِتَابِهِمْ أَيَّامًا مَعْدُودَةً- وَإِنَّمَا يَعْنِي بِذَلِكَ الْمَسِيرَ الَّذِي يَنْتَهِي إِلَى أَصْلِ الْجَحِيمِ- فَقَالُوا: إِذَا خَلَا الْعَدَدُ انْتَهَى الْأَجَلُ. فَلَا عَذَابَ، وَتَذْهَبُ جَهَنَّمُ وَتَهْلَكُ. فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً}، يَعْنُونَ بِذَلِكَ الْأَجَلَ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا اقْتَحَمُوا مِنْ بَابِ جَهَنَّمَ، سَارُوا فِي الْعَذَابِ حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى شَجَرَةِ الزَّقُّومِ آخَرَ يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ الْمَعْدُودَةِ، قَالَ لَهُمْ خَزَّانُ سَقَرٍ: زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ لَنْ تَمَسَّكُمُ النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً! فَقَدْ خَلَا الْعَدَدُ وَأَنْتُمْ فِي الْأَبَدِ! فَأَخَذَ بِهِمْ فِي الصَّعُودِ فِي جَهَنَّمَ يُرْهَقُونَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ، حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً}، إِلَّا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: خَاصَمَتِ الْيَهُودُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: لَنْ نَدْخُلَ النَّارَ إِلَّا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وَسَيَخْلُفُنَا فِيهَا قَوْمٌ آخَرُونَ- يَعْنُونَ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ عَلَى رُءُوسِهِمْ " بَلْ أَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، لَا يَخْلُفُكُمْ فِيهَا أَحَدٌ. فَأَنْـزَلَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً}. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ، أَخْبَرَنِي الْحَكَمُ بْنُ أَبَانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: اجْتَمَعَتْ يَهُودٌ يَوْمًا تُخَاصِمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالُوا: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً}،- وَسَمَّوْا أَرْبَعِينَ يَوْمًا- ثُمَّ يَخْلُفُنَا، أَوْ يَلْحَقُنَا، فِيهَا أُنَاسٌ. فَأَشَارُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كَذَبْتُمْ، بَلْ أَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ مُخَلَّدُونَ، لَا نَلْحَقُكُمْ وَلَا نُخَلِّفُكُمْ فِيهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَبَدًا). حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مَعْبَدٍ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً}، قَالَ: قَالَتِ الْيَهُودُ: لَا نُعَذَّبُ فِي النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا أَرْبَعِينَ يَوْمًا مِقْدَارَ مَا عَبَدْنَا الْعِجْلَ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: حَدَّثَنِي أَبِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُمْ: أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ وَبِالتَّوْرَاةِ الَّتِي أَنْـزَلَهَا اللَّهُ عَلَى مُوسَى يَوْمَ طُورِ سَيْنَاءَ، مَنْ أَهْلُ النَّارِ الَّذِينَ أَنْـزَلَهُمُ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ؟ وَقَالُوا: إِنَّ رَبَّهُمْ غَضِبَ عَلَيْهِمْ غَضْبَةً، فَنَمْكُثُ فِي النَّارِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ نَخْرُجُ فَتَخْلُفُونَنَا فِيهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَذَبْتُمْ وَاللَّهِ، لَا نَخْلُفُكُمْ فِيهَا أَبَدًا". فَنَـزَلَ الْقُرْآنُ تَصْدِيقًا لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَكْذِيبًا لَهُمْ: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا} إِلَى قَوْلِهِ: {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}. وَقَالَ آخَرُونَ فِي ذَلِكَ بِمَا: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ إِسْحَاقَ قَالَ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَوْ عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتْ يَهُودٌ يَقُولُونَ: إِنَّمَا مُدَّةُ الدُّنْيَا سَبْعَةُ آلَافِ سَنَةٍ، وَإِنَّمَا يُعَذِّبُ اللَّهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِكُلِّ أَلْفِ سَنَةٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا يَوْمًا وَاحِدًا مِنْ أَيَّامِ الْآخِرَةِ، وَإِنَّهَا سَبْعَةُ أَيَّامٍ. فَأَنْـزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} الْآيَةُ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَوْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، وَيَهُودٌ تَقُولُ: إِنَّمَا مُدَّةُ الدُّنْيَا سَبْعَةُ آلَافِ سَنَةٍ، وَإِنَّمَا يُعَذَّبُ النَّاسُ فِي النَّارِ بِكُلِّ أَلْفِ سَنَةٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا يَوْمًا وَاحِدًا فِي النَّارِ مِنْ أَيَّامِ الْآخِرَةِ، فَإِنَّمَا هِيَ سَبْعَةُ أَيَّامٍ، ثُمَّ يَنْقَطِعُ الْعَذَابُ. فَأَنْـزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ} الْآيَة. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: {قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً}، قَالَ: كَانَتْ تَقُولُ: إِنَّمَا الدُّنْيَا سَبْعَةُ آلَافِ سَنَةٍ، وَإِنَّمَا نُعَذَّبُ مَكَانَ كُلِّ أَلْفِ سَنَةٍ يَوْمًا. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ- إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: كَانَتِ الْيَهُودُ تَقُولُ: إِنَّمَا الدُّنْيَا، وَسَائِرُ الْحَدِيثِ مِثْلُهُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ قَالَ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ مُجَاهِدٌ: وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً مِنَ الدَّهْرِ. وَسَمَّوْا عِدَّةَ سَبْعَةِ آلَافِ سَنَةٍ، مِنْ كُلِّ أَلْفِ سَنَةٍ يَوْمًا. يَهُودٌ تَقُولُهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: لَمَّا قَالَتِ الْيَهُودُ مَا قَالَتْ مِنْ قَوْلِهَا: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً})- عَلَى مَا قَدْ بَيَّنَّا مِنْ تَأْوِيلِ ذَلِكَ- قَالَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ يَا مُحَمَّدٍ، لِمَعْشَرِ الْيَهُودِ: {أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا}: أَأَخَذْتُمْ بِمَا تَقُولُونَ مِنْ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ مِيثَاقًا، فَاللَّهُ لَا يَنْقُضُ مِيثَاقَهُ، وَلَا يُبَدِّلُ وَعْدَهُ وَعَقْدَهُ، أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْبَاطِلَ جَهْلًا وَجَرَاءَةً عَلَيْهِ؟ كَمَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا} أَيْ: مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ بِذَلِكَ أَنَّهُ كَمَا تَقُولُونَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: قَالَتِ الْيَهُودُ: لَنْ نَدْخُلَ النَّارَ إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ، عِدَّةَ الْأَيَّامِ الَّتِي عَبَدْنَا فِيهَا الْعِجْلَ، فَقَالَ اللَّهُ: {أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا}، بِهَذَا الَّذِي تَقُولُونَهُ؟ أَلَكُمْ بِهَذَا حُجَّةٌ وَبُرْهَانٌ؟ فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ، فَهَاتُوا حُجَّتَكُمْ وَبُرْهَانَكُمْ، أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ؟ حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ بِشْرِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا قَالَتِ الْيَهُودُ مَا قَالَتْ، قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِمُحَمَّدٍ، قُلْ " أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا"، يَقُولُ: أَدَّخَرْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا؟ يَقُولُ: أَقُلْتُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لَمْ تُشْرِكُوا وَلَمْ تَكْفُرُوا بِهِ؟ فَإِنْ كُنْتُمْ قُلْتُمُوهَا فَارْجُوا بِهَا، وَإِنْ كُنْتُمْ لَمْ تَقُولُوهَا، فَلِمَ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ؟ يَقُولُ: لَوْ كُنْتُمْ قُلْتُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، ثُمَّ مُتُّمْ عَلَى ذَلِكَ، لَكَانَ لَكُمْ ذُخْرًا عِنْدِي، وَلَمْ أُخْلِفْ وَعْدِي لَكُمْ: أَنِّي أُجَازِيكُمْ بِهَا. حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: لَمَّا قَالَتِ الْيَهُودُ مَا قَالَتْ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدهُ}- وَقَالَ فِي مَكَانٍ آخَرَ: {وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}. [آلِ عِمْرَانَ: 24]، ثُمَّ أَخْبَرَ الْخَبَرَ فَقَالَ: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الَّتِي رَوَيْنَاهَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ، بِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا}؛ لِأَنَّ مِمَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ عِبَادَهُ مِنْ مِيثَاقِهِ: أَنَّ مَنْ آمَنَ بِهِ وَأَطَاعَ أَمْرَهُ، نَجَّاهُ مِنْ نَارِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَمِنِ الْإِيمَانِ بِهِ، الْإِقْرَارُ بِأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَكَذَلِكَ مِنْ مِيثَاقِهِ الَّذِي وَاثَقَهُمْ بِهِ: أَنَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحُجَّةٍ تَكُونُ لَهُ نَجَاةً مِنَ النَّارِ، فَيُنْجِيهِ مِنْهَا. وَكُلُّ ذَلِكَ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَلْفَاظُ قَائِلِيهِ، فَمُتَّفَقُ الْمَعَانِي عَلَى مَا قُلْنَا فِيهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَوْلُهُ: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً} تَكْذِيبٌ مِنَ اللَّهِ الْقَائِلِينَ مِنَ الْيَهُودِ: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} وَإِخْبَارٌ مِنْهُ لَهُمْ أَنَّهُ مُعَذَّبٌ مَنْ أَشْرَكَ وَمَنْ كَفَرَ بِهِ وَبِرُسُلِهِ، وَأَحَاطَتْ بِهِ ذُنُوبُهُ، فَمُخَلِّدُهُ فِي النَّارِ؛ فَإِنَّ الْجَنَّةَ لَا يَسْكُنُهَا إِلَّا أَهْلُ الْإِيمَانِ بِهِ وَبِرَسُولِهِ، وَأَهَّلُ الطَّاعَةِ لَهُ، وَالْقَائِمُونَ بِحُدُودِهِ كَمَا:- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَوْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} أَيْ: مَنْ عَمِلَ مِثْلَ أَعْمَالِكُمْ، وَكَفَرَ بِمِثْلِ مَا كَفَرْتُمْ بِهِ، حَتَّى يُحِيطَ كُفْرُهُ بِمَا لَهُ مِنْ حَسَنَةٍ، فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَمَّا (بَلَى)، فَإِنَّهَا إِقْرَارٌ فِي كُلِّ كَلَامٍ فِي أَوَّلِهِ جَحَدَ، كَمَا "نَعَمْ" إِقْرَارٌ فِي الِاسْتِفْهَامِ الَّذِي لَا جَحَدَ فِيهِ. وَأَصَلُهَا "بَلْ" الَّتِي هِيَ رُجُوعٌ عَنِ الْجَحْدِ الْمَحْضِ فِي قَوْلِكَ: "مَا قَامَ عَمْرٌو بَلْ زَيْدٌ". فَزِيدَ فِيهَا "اليَاءُ" لِيَصْلُحَ عَلَيْهَا الْوُقُوفُ، إِذْ كَانَتْ "بَلْ" لَا يَصْلُحُ عَلَيْهَا الْوُقُوفُ، إِذْ كَانَتْ عَطْفًا وَرُجُوعًا عَنِ الْجَحْدِ. وَلِتَكُونَ- أَعْنِي"بَلَى"- رُجُوعًا عَنِ الْجَحْدِ فَقَطْ، وَإِقْرَارًا بِالْفِعْلِ الَّذِي بَعْدَ الْجَحْدِ، فَدَلَّتِ "الْيَاءُ" مِنْهَا عَلَى مَعْنَى الْإِقْرَارِ وَالْإِنْعَامِ. وَدَلَّ لَفْظُ"بَلْ" عَلَى الرُّجُوعِ عَنِ الْجَحْدِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَمَّا "السَّيِّئَةُ" الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ فِي هَذَا الْمَكَانِ، فَإِنَّهَا الشِّرْكُ بِاللَّهِ كَمَا:- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: حَدَّثَنِي عَاصِمٌ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً}، قَالَ: الشِّرْكُ بِاللَّهِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً} شِرْكًا. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: قَوْلُهُ: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً}، قَالَ: أَمَّا السَّيِّئَةُ فَالشِّرْكُ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً}، أَمَّاالسَّيِّئَةُ، تَعْرِيفُهَا فَهِيَ الذُّنُوبُ الَّتِي وَعَدَ عَلَيْهَا النَّارَ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ، قُلْتُ لِعَطَاءٍ: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً}، قَالَ: الشِّرْكُ- قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ مُجَاهِدٌ: (سَيِّئَةً) شِرْكًا. حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ قَوْلَهُ: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً}، يَعْنِي: الشِّرْكَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ "السَّيِّئَةَ"- الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ-جَلَّ ثَنَاؤُهُ- أَنَّ مَنْ كَسَبَهَا وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ الْمُخَلَّدِينَ فِيهَا- فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، إِنَّمَا عَنَى اللَّهُ بِهَا بَعْضَ السَّيِّئَاتِ دُونَ بَعْض، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهَا فِي التِّلَاوَةِ عَامًّا؛ لِأَنَّ اللَّهَ قَضَى عَلَى أَهْلِهَا بِالْخُلُودِ فِي النَّارِ، وَالْخُلُودُ فِي النَّارِ لِأَهْلِ الْكُفْرِ بِاللَّهِ دُونَ أَهْلِ الْإِيمَانِ بِهِ، لِتَظَاهُرِ الْأَخْبَارِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ أَهْلَ الْإِيمَانِ لَا يُخَلَّدُونَ فِيهَا، وَأَنَّالْخُلُودَ فِي النَّارِ لِأَهْلِ الْكُفْرِ بِاللَّهِ دُونَ أَهْلِ الْإِيمَانِ. فَإِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ قَرَنَ بِقَوْلِهِ: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}- قَوْلُهُ- {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}. فَكَانَ مَعْلُومًا بِذَلِكَ أَنَّ الَّذِينَ لَهُمُ الْخُلُودُ فِي النَّارِ مِنْ أَهْلِ السَّيِّئَاتِ، غَيْرِ الَّذِينَ لَهُمُ الْخُلُودُ فِي الْجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ. فَإِنْ ظَنَّ ظَانٌّ أَنَّ الَّذِينَ لَهُمُ الْخُلُودُ فِي الْجَنَّةِ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا، هُمُ الَّذِينَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، دُونَ الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ، فَإِنَّ فِي إِخْبَارِ اللَّهِ أَنَّهُ مُكَفِّرٌ- بِاجْتِنَابِنَا كَبَائِرَ مَا نُنْهَى عَنْهُ سَيِّئَاتِنَا، وَمُدْخِلُنَا الْمُدْخَلَ الْكَرِيمَ مَا يُنْبِئُ عَنْ صِحَّةِ مَا قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً}، بِأَنَّ ذَلِكَ عَلَى خَاصٍّ مِنَ السَّيِّئَاتِ دُونَ عَامِّهَا. فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: فَإِنَّ اللَّهَ- جَلَّ ثَنَاؤُهُ- إِنَّمَا ضَمِنَ لَنَا تَكْفِيرَ سَيِّئَاتِنَا بِاجْتِنَابِنَا كَبَائِرَ مَا نُنْهَى عَنْهُ، فَمَاالدِّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْكَبَائِرَ غَيْرُ دَاخِلَةٍ فِي قَوْلِهِ: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً}؟ قِيلَ: لِمَا صَحَّ مِنْ أَنَّ الصَّغَائِرَ غَيْرُ دَاخِلَةٍ فِيهِ، وَأَنَّ الْمَعْنِيَّ بِالْآيَةِ خَاصٌّ دُونَ عَامٍّ، ثَبَتَ وَصَحَّ أَنَّ الْقَضَاءَ وَالْحُكْمَ بِهَا غَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ، إِلَّا عَلَى مَنْ وَقَفَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ بِدِلَالَةٍٍ مِنْ خَبَرٍ قَاطِعٍ عُذْرَ مَنْ بَلَغَهُ. وَقَدْ ثَبَتَ وَصَحَّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ قَدْ عَنَى بِذَلِكَ أَهْلَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ بِهِ، بِشَهَادَةِ جَمِيعِ الْأُمَّةِ. فَوَجَبَ بِذَلِكَ الْقَضَاءُ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ مِمَّنْ عَنَاهُ اللَّهُ بِالْآيَةِ. فَأَمَّا أَهْلُ الْكَبَائِرِ، فَإِنَّ الْأَخْبَارَ الْقَاطِعَةَ عُذْرَ مَنْ بَلَغَتْهُ، قَدْ تَظَاهَرَتْ عِنْدَنَا بِأَنَّهُمْ غَيْرُ مَعْنِيِّينَ بِهَا. فَمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ- مِمَّنْ دَافَعَ حُجَّةَ الْأَخْبَارِ الْمُسْتَفِيضَةِ وَالْأَنْبَاءِ الْمُتَظَاهِرَةِ- فَاللَّازِمُ لَهُ تَرْكُ قَطْعِ الشَّهَادَةِ عَلَى أَهْلِ الْكَبَائِرِ بِالْخُلُودِ فِي النَّارِ، بِهَذِهِ الْآيَةِ وَنَظَائِرِهَا الَّتِي جَاءَتْ بِعُمُومِهِمْ فِي الْوَعِيدِ؛ إِذْ كَانَ تَأْوِيلُ الْقُرْآنِ غَيْرُ مُدْرَكٍ إِلَّا بِبَيَانِ مَنْ جَعَلَ اللَّهُ إِلَيْهِ بَيَانَ الْقُرْآنِ، وَكَانَتِ الْآيَةُ يَأْتِي عَامًّا فِي صِنْفِ ظَاهِرِهَا، وَهِيَ خَاصٌّ فِي ذَلِكَ الصِّنْفِ بَاطِنِهَا. وَيُسْأَلُ مُدَافِعُو الْخَبَرِ بِأَنَّ أَهْلَ الْكَبَائِرِ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِثْنَاءِ، سُؤَالَنَا مُنْكِرَ رَجْمِ الزَّانِي الْمُحْصَنِ، وَزَوَالَ فَرْضِ الصَّلَاةِ عَنِ الْحَائِضِ فِي حَالِ الْحَيْضِ؛ فَإِنَّ السُّؤَالَ عَلَيْهِمْ، نَظِيرُ السُّؤَالِ عَلَى هَؤُلَاءِ، سَوَاءً.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ}، اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ فَمَاتَ عَلَيْهَا، قَبْلَ الْإِنَابَةِ وَالتَّوْبَةِ مِنْهَا. وَأَصْلُ "الْإِحَاطَةِ بِالشَّيْءِ"، الْإِحْدَاقُ بِهِ، بِمَنْـزِلَةِ "الْحَائِطِ" الَّذِي تُحَاطُ بِهِ الدَّارُ فَتُحْدِقُ بِهِ. وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} [الْكَهْف: 29]. فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ إذًا: مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ، وَاقْتَرَفَ ذُنُوبًا جَمَّةً فَمَاتَ عَلَيْهَا قَبْلَ الْإِنَابَةِ وَالتَّوْبَةِ، فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا مُخَلَّدُونَ أَبَدًا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ قَالَ الْمُتَأَوِّلُونَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ يَمَانٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضِّحَاكِ: {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ}، قَالَ: مَاتَ بِذَنْبِهِ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ نُوحٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي رَزِينٍ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ: {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ}، قَالَ: مَاتَ عَلَيْهَا. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ قَالَ، أَخْبَرَنِي ابْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَوْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ}، قَالَ: يُحِيطُ كُفْرُهُ بِمَا لَهُ مِنْ حَسَنَةٍ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ}، قَالَ: مَا أَوْجَبَ اللَّهُ فِيهِ النَّارَ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ}، قَالَ: أَمَّا الْخَطِيئَةُ فَالْكَبِيرَةُ الْمُوجِبَةُ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ [قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ]، عَنْ قَتَادَةَ: {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ}، قَالَ: الْخَطِيئَةُ: الْكَبَائِرُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ وَيَحْيَى بْنُ آدَمَ، عَنْ سَلَّامِ بْنِ مِسْكِينٍ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ الْحَسَنَ عَنْ قَوْلِهِ: {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ}، فَقَالَ: مَا نَدْرِي مَا الْخَطِيئَةُ، يَا بُنَيَّ، اتْلُ الْقُرْآنَ، فَكُلُّ آيَةٍ وَعَدَ اللَّهُ عَلَيْهَا النَّارَ، فَهِيَ الْخَطِيئَةُ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْأَهْوَازِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ}، قَالَ: كُلُّ ذَنْبٍ مُحِيطٍ، فَهُوَ مَا وَعَدَ اللَّهُ عَلَيْهِ النَّارَ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي رَزِينٍ: {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ}، قَالَ: مَاتَ بِخَطِيئَتِهِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ قَالَ: حَدَّثَنَا مَسْعُودٌ أَبُو رَزِينٍ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ فِي قَوْلِهِ: {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ}، قَالَ: هُوَ الَّذِي يَمُوتُ عَلَى خَطِيئَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَتُوبَ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: قَالَ وَكِيعٌ: سَمِعْتُ الْأَعْمَشَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ}، مَاتَ بِذُنُوبِهِ. حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ}، الْكَبِيرَةُ الْمُوجِبَةُ. حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {أَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ}، فَمَاتَ وَلَمْ يَتُبْ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَسَّانُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ، قُلْتُ لِعَطَاءٍ: {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ}، قَالَ: الشِّرْكُ، ثُمَّ تَلَا {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} [النَّمْل: 90].
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: "فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" فَأُولَئِكَ الَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ وَأَحَاطَتْ بِهِمْ خَطِيئَاتُهُمْ، أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: (أَصْحَابُ النَّارِ)، أَهْلُ النَّارِ، وَإِنَّمَا جَعَلَهُمْ لَهَا أَصْحَابًا لِإِيثَارِهِمْ- فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا مَا يُورِدُهُمُوهَا وَيُورِدُهُمْ سَعِيرَهَا- عَلَى الْأَعْمَالِ الَّتِي تُورِدُهُمُ الْجَنَّةَ فَجَعَلَهُمْ- جَلَّ ذِكْرُهُ- بِإِيثَارِهِمْ أَسْبَابَهَا عَلَى أَسْبَابِ الْجَنَّةِ لَهَا أَصْحَابًا، كَصَاحِبِ الرَّجُلِ الَّذِي يُصَاحِبُهُ مُؤْثِرًا صُحْبَتَهُ عَلَى صُحْبَةِ غَيْرِهِ، حَتَّى يُعْرَفَ بِهِ. (هُمْ فِيهَا)، يَعْنِي: هُمْ فِي النَّارِ خَالِدُونَ. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: (خَالِدُونَ) مُقِيمُونَ كَمَا: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَوْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: (هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)، أَيْ خَالِدُونَ أَبَدًا. حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: (هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) لَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا أَبَدًا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: (وَالَّذِينَ آمَنُوا)، أَيْ صَدَّقُوا بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)، أَطَاعُوا اللَّهَ فَأَقَامُوا حُدُودَهُ، وَأَدَّوْا فَرَائِضَهُ، وَاجْتَنَبُوا مَحَارِمَهُ. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: (فَأُولَئِكَ)، فَالَّذِينَ هُمْ كَذَلِكَ {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}، يَعْنِي: أَهْلُهَا الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا هُمْ فِيهَا (خَالِدُونَ)، مُقِيمُونَ أَبَدًا. وَإِنَّمَا هَذِهِ الْآيَةُ وَالَّتِي قَبِلَهَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ عِبَادَهُ عَنْ بَقَاءِ النَّارِ وَبَقَاءِ أَهْلِهَا فِيهَا، [وَبَقَاءِ الْجَنَّةِ وَبَقَاءِ أَهْلِهَا فِيهَا]، وَدَوَامِ مَا أُعِدَّ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا لِأَهْلِهَا، تَكْذِيبًا مِنَ اللَّهِ-جَلَّ ثَنَاؤُهُ- الْقَائِلِينَ مِنْ يَهُودِ بَنِي إِسْرَائِيلَ: إِنَّ النَّارَ لَنْ تَمَسَّهُمْ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً، وَأَنَّهُمْ صَائِرُونَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى الْجَنَّةِ. فَأَخْبَرَهُمْ بِخُلُودِ كُفَّارِهِمْ فِي النَّارِ، وَخُلُودِ مُؤْمِنِيهِمْ فِي الْجَنَّةِ كَمَا:- حَدَّثَنِي ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَوْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}، أَيْ مَنْ آمَنَ بِمَا كَفَرْتُمْ بِهِ، وَعَمِلَ بِمَا تَرَكْتُمْ مِنْ دِينِهِ، فَلَهُمُ الْجَنَّةُ خَالِدِينَ فِيهَا. يُخْبِرُهُمْ أَنَّ الثَّوَابَ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ مُقِيمٌ عَلَى أَهْلِهِ أَبَدًا لَا انْقِطَاعَ لَهُ أَبَدًا. حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصِّالْحَاتِ}، مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ-"أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ".
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: قَدْ دَلَّلْنَا-فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا هَذَا- عَلَى أَنَّ "المِيثَاقَ" "مِفْعَالٌ" مِنْ "التَّوَثُّقِ بِالْيَمِينِ" وَنَحْوَهَا مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تُؤَكِّدُ الْقَوْلَ؛ فَمَعْنَى الْكَلَامِ إذًا: وَاذْكُرُوا أَيْضًا يَا مَعْشَرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، إِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ، كَمَا:- حَدَّثَنِي بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَوْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} –أَيْ مِيثَاقَكُمْ- {لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: والقِراءَةُ مُخْتَلِفَةٌ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ (لَا تَعْبُدُونَ). فَبَعْضُهُمْ يَقْرَؤُهَا بِالتَّاءِ، وَبَعْضهمْ يَقْرَؤُهَا بِالْيَاءِ، وَالْمَعْنَى فِي ذَلِكَ وَاحِدٌ. وَإِنَّمَا جَازَتِ الْقِرَاءَةُ بِالْيَاءِ وَالتَّاءِ، وَأَنْ يُقَالَ (لَا تَعْبُدُونَ) وَ(لَا يَعْبُدُونَ) وَهُمْ غَيْبٌ؛ لِأَنَّ أَخْذَ الْمِيثَاقِ، بِمَعْنَى الِاسْتِحْلَافِ. فَكَمَا تَقُولُ: "اسْتَحْلَفْتُ أَخَاكَ لَيُقَومَنَّ" فَتُخْبِرُ عَنْهُ خَبَرَكَ عَنِ الْغَائِبِ لِغَيْبَتِهِ عَنْكَ. وَتَقُولُ: "اسْتَحْلَفْتُهُ لَتُقَومَنَّ"، فَتُخْبِرُ عَنْهُ خَبَرَكَ عَنِ الْمُخَاطَبِ؛ لِأَنَّكَ قَدْ كُنْتَ خَاطَبْتَهُ بِذَلِكَ- فَيَكُونُ ذَلِكَ صَحِيحًا جَائِزًا. فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} وَ(لَا يَعْبُدُونَ). مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ "بِالتَّاءِ" فَمَعْنَى الْخِطَابِ، إِذْ كَانَ الْخِطَابُ قَدْ كَانَ بِذَلِكَ. وَمَنْ قَرَأَ"بِالْيَاء" فَلِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا مُخَاطَبِينَ بِذَلِكَ فِي وَقْتِ الْخَبَرِ عَنْهُمْ. وَأَمَّا رَفْعُ"لَا تَعْبُدُونَ"، فَبِالتَّاءِ الَّتِي فِي"تَعْبُدُونَ"، وَلَا يُنْصَبُ بِـ "أَنْ" الَّتِي كَانَتْ تَصْلُحُ أَنْ تَدَخُّلَ مَعَ {لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ}. لِأَنَّهَا إِذَا صَلَحَ دُخُولُهَا عَلَى فِعْلٍ فَحُذِفَتْ وَلَمْ تَدْخُلْ، كَانَ وَجْهُ الْكَلَامِ فِيهِ الرَّفْعُ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} [الزَّمْرِ: 64]، فَرَفَعَ"أَعْبُدُ"؛ إِذْ لَمْ تَدْخُلْ فِيهَا"أَنْ"- بِالْأَلِفِ الدَّالَّةِ عَلَى مَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ، وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: أَلَا أَيُّهَـذَا الزَّاجِـرِي أَحْـُضرُ الْـوَغَى *** وَأَنْ أَشْـهَدَ الَّلَـذَّاتِ هَـلْ أَنْـتَ مُخْـلِدِي فَرَفْعَ"أَحْضَرُ" وَإِنْ كَانَ يَصْلُحُ دُخُولُ "أَنْ" فِيهَا-إِذْ حُذِفَتْ، بِالْأَلِفِ الَّتِي تَأْتِي بِمَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ. وَإِنَّمَا صَلُحَ حَذْفُ "أَنْ" مِنْ قَوْلِهِ: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ}؛ لِدِلَالَةِ مَا ظَهَرَ مِنَ الْكَلَامِ عَلَيْهَا، فَاكْتَفَى- بِدِلَالَةِ الظَّاهِرِ عَلَيْهَا مِنْهَا. وَقَدْ كَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ يَقُولُ: مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ}، حِكَايَةٌ، كَأَنَّكَ قُلْتَ: اسْتَحْلَفْنَاهُمْ: لَا تَعْبُدُونَ، أَيْ قُلْنَا لَهُمْ: وَاللَّهُ لَا تَعْبُدُونَ- وَقَالُوا: وَاللَّهُ لَا يَعْبُدُونَ. وَالَّذِي قَالَ مِنْ ذَلِكَ، قَرِيبٌ مَعْنَاهُ مِنْ مَعْنَى الْقَوْلِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي قَوْلِهِ: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ}، تَأَوَّلَهُ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: أَخَذَ مَوَاثِيقَهُمْ أَنْ يُخْلِصُوا لَهُ، وَأَنْ لَا يَعْبُدُوا غَيْرَهُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ}، قَالَ: أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ أَنْ يُخْلِصُوا لِلَّهِ وَلَا يَعْبُدُوا غَيْرَهُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ}، قَالَ: الْمِيثَاقُ الَّذِي أُخِذَ عَلَيْهِمْ فِي الْمَائِدَةِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَوْلُهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} عَطْفٌ عَلَى مَوْضِعِ"أَنِ" الْمَحْذُوفَةِ فِي {لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ}. فَكَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِأَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا. فَرَفَعَ (لَا تَعْبُدُونَ) لَمَّا حَذَفَ"أَنْ"، ثُمَّ عَطَفَ بِالْوَالِدَيْنِ عَلَى مَوْضِعِهَا، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: مُعَـاوِيُّ إِنَّنَـا بَشَـرٌ فَأَسْـجِحْ *** فَلَسْـنَا بِالْجِبَـالِ وَلَا الْحَـدِيدَا فَنَصَبَ "الْحَدِيدَ" عَلَى الْعَطْفِ بِهِ عَلَى مَوْضِعِ "الْجِبَالِ"، لِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ فِيهَا "بَاءٌ" خَافِضَةٌ كَانَتْ نَصْبًا، فَعَطَفَ بِـ "الْحَدِيدَا" عَلَى مَعْنَى "الْجِبَالِ"، لَا عَلَى لَفْظِهَا. فَكَذَلِكَ مَا وَصَفْتُ مِنْ قَوْلِهِ: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}. وَأَمَّا "الْإِحْسَانُ" فَمَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يُؤَدِّي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ: (وَبِالْوَالِدَيْنِ)، إِذْ كَانَ مَفْهُومًا مَعْنَاهُ، فَكَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ- لَوْ أُظْهِرَ الْمَحْذُوفُ-: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، بِأَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ، وَبِأَنْ تُحْسِنُوا إِلَى الْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا، فَاكْتَفَى بِقَوْلِهِ: (وَبِالْوَالِدَيْنِ) مِنْ أَنْ يُقَالَ: وَبِأَنْ تُحْسِنُوا إِلَى الْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا، إِذْ كَانَ مَفْهُومًا أَنَّ ذَلِكَ مَعْنَاهُ بِمَا ظَهَرَ مِنَ الْكَلَامِ. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ فِي ذَلِكَ أَنَّ مَعْنَاهُ: وَبِالْوَالِدَيْنِ فَأَحْسِنُوا إِحْسَانًا، فَجَعَلَ "البَاءَ" الَّتِي فِي "الوَالِدَيْنِ" مِنْ صِلَةِ الْإِحْسَانِ، مُقَدَّمَةً عَلَيْهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ، وَأَحْسِنُوا بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا. فَزَعَمُوا أَنَّ "البَاءَ" الَّتِي فِي "الوَالِدَيْنِ" مِنْ صِلَةِ الْمَحْذُوفِ- أَعْنِي أَحْسِنُوا- فَجَعَلُوا ذَلِكَ مِنْ كَلَامَيْنِ. وَإِنَّمَا يُصْرَفُ الْكَلَامُ إِلَى مَا ادَّعَوْا مِنْ ذَلِكَ، إِذَا لَمْ يُوجَدْ لِاتِّسَاقِ الْكَلَامِ عَلَى كَلَامٍ وَاحِدٍ وَجْهٌ. فَأَمَّا وَلِلْكَلَامِ وَجْهٌ مَفْهُومٌ عَلَى اتِّسَاقِهِ عَلَى كَلَامٍ وَاحِدٍ، فَلَا وَجْهَ لِصَرْفِهِ إِلَى كَلَامَيْنِ. وَأُخْرَى: أَنَّ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ لَوْ كَانَ عَلَى مَا قَالُوا، لَقِيلَ: وَإِلَى الْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُقَالُ: "أَحْسَنَ فُلَانٌ إِلَى وَالِدَيْهِ" وَلَا يُقَالُ: أَحْسَنُ بِوَالِدَيْهِ، إِلَّا عَلَى اسْتِكْرَاهٍ لِلْكَلَامِ. وَلَكِنِ الْقَوْلُ فِيهِ مَا قُلْنَا، وَهُوَ: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِكَذَا، وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا- عَلَى مَا بَيَّنَّا قَبْلُ، فَيَكُونُ الْإِحْسَانُ حِينَئِذٍ مُصَدَّرًا مِنَ الْكَلَامِ لَا مِنْ لَفْظِهِ، كَمَا بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى مِنْ نَظَائِرِهِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَمَا ذَلِكَ "الْإِحْسَانُ" الَّذِي أُخِذَ عَلَيْهِمْ بِالْوَالِدَيْنِ الْمِيثَاقَ؟ قِيلَ: نَظِيرُ مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَى أُمَّتِنَا لَهُمَا مِنْ فِعْلِ الْمَعْرُوفِ لَهُمَا، وَالْقَوْلِ الْجَمِيلِ، وَخَفْضِ جَنَاحِ الذُّلِّ رَحْمَةً بِهِمَا، وَالتَّحَنُّنِ عَلَيْهِمَا، وَالرَّأْفَةِ بِهِمَا، وَالدُّعَاءِ بِالْخَيْرِ لَهُمَا، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي نَدَبَ اللَّهُ عِبَادَهُ أَنْ يَفْعَلُوا بِهِمَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ: (وَذِي الْقُرْبَى)، وَبِذِي الْقُرْبَى أَنْ يَصِلُوا قَرَابَتَهُ مِنْهُمْ وَرَحِمَهُ. و"الْقُرْبَى" مَصْدَرٌ عَلَى تَقْدِيرِ"فُعْلَى"، مِنْ قَوْلِكَ، "قَرُبَتْ مِنِّي رَحِمُ فُلَانٍ قَرَابَةً وَقُرْبَى وَقُرْبًا"، بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَأَمَّا "اليَتَامَى". فَهُمْ جَمْعُ "يَتِيمٌ"، مِثْلَ"أَسِيرٍ وَأُسَارَى". وَيَدْخُلُ فِي الْيَتَامَى الذُّكُورُ مِنْهُمْ وَالْإِنَاثُ. وَمَعْنَى ذَلِكَ: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَحْدَهُ دُونَ مَنْ سِوَاهُ مِنَ الْأَنْدَادِ، وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا، وَبِذِي الْقُرْبَى: أَنْ تَصِلُوا رَحِمَهُ، وَتَعْرِفُوا حَقَّهُ، وَبِالْيَتَامَى: أَنْ تَتَعَطَّفُوا عَلَيْهِمْ بِالرَّحْمَةِ وَالرَّأْفَةِ، وَبِالْمَسَاكِينِ: أَنْ تُؤْتُوهُمْ حُقُوقَهُمُ الَّتِي أَلْزَمَهَا اللَّهُ أَمْوَالَكُمْ. و"الْمِسْكِينُ"، هُوَ الْمُتَخَشِّعُ الْمُتَذَلِّلُ مِنَ الْفَاقَةِ وَالْحَاجَةِ، وَهُوَ"مِفْعِيلٌ" مِنَ "المَسْكَنَةِ". و"الْمَسْكَنَةُ" هِيَ ذُلُّ الْحَاجَةِ وَالْفَاقَةِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: إِنْ قَالَ قَائِلٌ: كَيْفَ قِيلَ: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}، فَأَخْرَجَ الْكَلَامَ أَمْرًا وَلَمَّا يَتَقَدَّمْهُ أَمْرٌ، بَلِ الْكَلَامُ جَارٍ مِنْ أَوَّلِ الْآيَةِ مَجْرَى الْخَبَرِ؟ قِيلَ: إِنَّ الْكَلَامَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ جَرَى فِي أَوَّلِ الْآيَةِ مَجْرَى الْخَبَرِ، فَإِنَّهُ مِمَّا يَحْسُنُ فِي مَوْضِعِهِ الْخِطَابُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. فَلَوْ كَانَ مَكَانَ: "لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ"، لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ- عَلَى وَجْهِ النَّهْيِ مِنَ اللَّهِ لَهُمْ عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِهِ- كَانَ حَسَنًا صَوَابًا. وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ أُبِيِّ بْنِ كَعْبٍ. وَإِنَّمَا حَسُنَ ذَلِكَ وَجَازَ- لَوْ كَانَ مَقْرُوءًا بِهِ؛ لَأَنَّ أَخْذَ الْمِيثَاقِ قَوْلٌ. فَكَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ-لَوْ كَانَ مَقْرُوءًا كَذَلِكَ-: وَإِذْ قُلْنَا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [الْبَقَرَةِ: 63]. فَلَمَّا كَانَ حَسَنًا وَضْعُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِي مَوْضِعِ: {لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ}، عَطَفَ بِقَوْلِهِ: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}، عَلَى مَوْضِعِ (لَا تَعْبُدُونَ)، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْنَاهُ مَعْنَى مَا فِيهِ؛ لِمَا وَصَفْنَا مِنْ جَوَازِ وَضْعِ الْخِطَابِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مَوْضِعَ"لَا تَعْبُدُونَ". فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ، وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا. وَهُوَ نَظِيرُ مَا قَدَّمْنَا الْبَيَانَ عَنْهُ: مِنْ أَنَّ الْعَرَبَ تَبْتَدِئُ الْكَلَامَ أَحْيَانًا عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ عَنِ الْغَائِبِ فِي مَوْضِعِ الْحِكَايَةِ لِمَا أَخْبَرَتْ عَنْهُ، ثُمَّ تَعُودُ إِلَى الْخَبَرِ عَلَى وَجْهِ الْخِطَابِ؛ وَتَبْتَدِئُ أَحْيَانًا عَلَى وَجْهِ الْخِطَابِ، ثُمَّ تَعُودُ إِلَى الْإِخْبَارِ عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ عَنِ الْغَائِبِ، لِمَا فِي الْحِكَايَةِ مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: أَسِـيئِي بِنَـا أَوْ أَحْسِـنِي لَا مَلُومَـةً *** لَدَيْنَـا وَلَا مَقْلِيَّـةً إِنْ تَقَلَّـتِ يَعْنِي: تَقَلَّيْتِ. وَأَمَّا "الحُسْنُ" فَإِنَّ القَرَأَةَ اخْتَلَفَتْ فِي قِرَاءَتِهِ. فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قَرَأَةِ الْكُوفَةِ غَيْرَ عَاصِمٍ: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حَسَنًا} بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالسِّينِ. وَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ: (حُسْنًا) بِضَمِّ الْحَاءِ وَتَسْكِينِ السِّينِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ القَرَأَةِ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنَى) عَلَى مِثَالِ "فُعْلَى". وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي فَرْقِ مَا بَيْنَ مَعْنَى قَوْلِهِ: "حُسْنًا" و"حَسَنًا". فَقَالَ بَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ: هُوَ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ يُرَادُ بـ "الحَسَنِ" "الْحُسْنُ" وَكَّلَاهُمَا لُغَةٌ، كَمَا يُقَالُ: (الْبُخْلُ وَالْبَخَلُ)، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ جَعَلَ "الْحَسَنَ" هُوَ "الْحُسْنُ" فِي التَّشْبِيهِ. وَذَلِكَ أَنَّ الْحُسْنَ "مَصْدَرٌ" وَ "الحَسَنُ" هُوَ الشَّيْءُ الْحَسَنُ. وَيَكُونُ ذَلِكَ حِينَئِذٍ كَقَوْلِك: "إِنَّمَا أَنْتَ أَكْلٌ وَشُرْبٌ"، وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: وَخَـيْلٍ قَـدْ دَلَفْـتُ لَهَـا بِخَـيْلٍ *** تَحِيَّـةُ بَيْنِهِـمْ ضَـرْبٌ وَجِـيعُ فَجَعْلَ "التَّحِيَّةَ" ضَرْبًا. وَقَالَ آخَرُ: بَلِ "الْحُسْنُ" هُوَ الِاسْمُ الْعَامُّ الْجَامِعُ جَمِيعَ مَعَانِي الْحُسْنِ. و"الْحَسَنُ" هُوَ الْبَعْضُ مِنْ مَعَانِي "الحُسْنِ". قَالَ: وَلِذَلِكَ قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِذْ أَوْصَى بِالْوَالِدَيْنِ: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} [الْعَنْكَبُوت: 8] يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّهُ وَصَّاهُ فِيهِمَا بِجَمِيعِ مَعَانِي الْحُسْنِ، وَأَمَرَ فِي سَائِرِ النَّاسِ بِبَعْضِ الَّذِي أَمَرَهُ بِهِ فِي وَالِدَيْهِ، فَقَالَ: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حَسْنًا}، يَعْنِي بِذَلِكَ بَعْضَ مَعَانِي الْحُسْنِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالَّذِي قَالَهُ هَذَا الْقَائِلُ فِيمَعْنَى "الحُسْنِ"فِي قَوْلِهِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا بِضَمِّ الْحَاءِ وَسُكُونِ السِّينِ، غَيْرُ بَعِيدٍ مِنَ الصَّوَابِ، وَأَنَّهُ اسْمٌ لِنَوْعِهِ الَّذِي سُمِّيَ بِهِ. وَأَمَّا "الْحَسَنُ" فَإِنَّهُ صِفَةٌ وَقَعَتْ لِمَا وُصِفَ بِهِ، وَذَلِكَ يَقَعُ بِخَاصٍّ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَالصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي قَوْلِهِ: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}، لِأَنَّ الْقَوْمَ إِنَّمَا أُمِرُوا فِي هَذَا الْعَهْدِ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ: "وَقُولُوا لِلنَّاسِ" بِاسْتِعْمَالِ الْحَسَنِ مِنَ الْقَوْلِ، دُونَ سَائِرِ مَعَانِي الْحُسْنِ الَّذِي يَكُونُ بِغَيْرِ الْقَوْلِ. وَذَلِكَ نَعْتٌ لِخَاصٍّ مِنْ مَعَانِي الْحُسْنِ، وَهُوَ الْقَوْلُ. فَلِذَلِكَ اخْتَرْتُ قِرَاءَتَهُ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالسِّينِ، عَلَى قِرَاءَتِهِ بِضَمِّ الْحَاءِ وَسُكُونِ السِّينِ. وَأَمَّا الَّذِي قَرَأَ ذَلِكَ: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنَى) فَإِنَّهُ خَالَفَ بِقِرَاءَتِهِ إِيَّاهُ كَذَلِكَ، قِرَاءَةَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ. وَكَفَى شَاهِدًا عَلَى خَطَأِ الْقِرَاءَةِ بِهَا كَذَلِكَ، خُرُوجُهَا مِنْ قِرَاءَةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، لَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَى خَطَئِهَا شَاهِدٌ غَيْرُهُ. فَكَيْفَ وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ خَارِجَةٌ مِنَ الْمَعْرُوفِ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ؟ وَذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ لَا تَكَادُ أَنْ تَتَكَلَّمَ بِـ "فُعْلَى" "وَأَفْعَلُ" إِلَّا بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ أَوْ بِالْإِضَافَةِ. لَا يُقَالُ: "جَاءَنِي أَحْسَنُ"، حَتَّى يَقُولُوا: (الأَحْسَنُ). وَلَا يُقَالُ: "أَجْمَلُ"، حَتَّى يَقُولُوا، "الأَجْمَلُ". وَذَلِكَ أَنَّ "الأَفْعَلَ وَالْفُعْلَى"، لَا يَكَادَانِ يُوجِدَانِ صِفَةً إِلَّا لِمَعْهُودٍ مَعْرُوفٍ، كَمَا تَقُولُ: بَلْ أَخُوكَ الْأَحْسَنُ- وَبَلْ أُخْتكَ الْحُسْنَى". وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُقَالَ: امْرَأَةٌ حُسْنَى، وَرَجُلٌ أَحْسَنُ. وَأَمَّا تَأْوِيلُالْقَوْلِ الْحَسَنِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ الَّذِينَ وَصَفَ أَمْرَهُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَفِي هَذِهِ الْآيَةِ، أَنْ يَقُولُوهُ لِلنَّاسِ، فَهُوَ مَا:- حَدَّثَنَا بِهِ أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ بِشْرِ بْنِ عِمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضِّحَاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}، أَمَرَهُمْ أَيْضًا بَعْدَ هَذَا الْخُلُقِ: أَنْ يَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا: أَنْ يَأْمُرُوا بِـ "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " مَنْ لَمْ يَقُلْهَا وَرَغِبَ عَنْهَا، حَتَّى يَقُولُوهَا كَمَا قَالُوهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ قُرْبَةٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ أَيْضًا: لِينُ الْقَوْلِ، مِنَ الْأَدَبِ الْحَسَنِ الْجَمِيلِ وَالْخُلُقِ الْكَرِيمِ، وَهُوَ مِمَّا ارْتَضَاهُ اللَّهُ وَأَحَبَّهُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}، قَالَ: قُولُوا لِلنَّاسِ مَعْرُوفًا. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}، قَالَ: صِدَقًا فِي شَأْنِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَحُدِّثْتُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ قَالَ، سَمِعْتُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}، قَالَ: مُرُوهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَانْهَوْهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ. حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ إِدْرِيسَ الْأَصَمُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُحَارِبِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ قَالَ، سَأَلَتْ عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}، قَالَ: مَنْ لَقِيْتَ مِنَ النَّاسِ فَقُلْ لَهُ حَسَنًا مِنَ الْقَوْلِ. قَالَ: وَسَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ، فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍوَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ فِي قَوْلِهِ: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}، قَالَ: لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ، عَنْ عَطَاءٍ مِثْلَهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ}، أَدُّوْهَا بِحُقُوقِهَا الْوَاجِبَةِ عَلَيْكُمْ فِيهَا كَمَا:- حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ بِشْرِ بْنِ عِمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضِّحَاكِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} هَذِهِ و"إِقَامَةُ الصَّلَاةِ" تَمَامُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالتِّلَاوَةِ وَالْخُشُوعِ، وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهَا فِيهَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: قَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى قَبْلُ، مَعْنَى "الزَّكَاةِ" وَمَا أَصْلُهَا. وَأَمَّاالزَّكَاةُ الَّتِي كَانَ اللَّهُ أَمَرَ بِهَا بَنِي إِسْرَائِيلَالَّذِينَ ذَكَرَ أَمْرَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَهِيَ مَا:- حَدَّثَنَا بِهِ أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ بِشْرِ بْنِ عِمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضِّحَاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَآتُوا الزَّكَاةَ}، قَالَ: إِيتَاءُ الزَّكَاةِ، مَا كَانَ اللَّهُ فَرَضَ عَلَيْهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ مِنَ الزَّكَاةِ، وَهِيَ سَنَةٌ كَانَتْ لَهُمْ غَيْرُ سُنَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. كَانَتْ زَكَاةُ أَمْوَالِهِمْ قُرْبَانًا تَهْبِطُ إِلَيْهِ نَارٌ فَتَحَمِلُهَا، فَكَانَ ذَلِكَ تَقْبَّلُهُ. وَمَنْ لَمْ تَفْعَلْ النَّارُ بِهِ ذَلِكَ كَانَ غَيْرَ مُتَقَبَّلٍ، وَكَانَ الَّذِي قَرَّبَ مِنْ مَكْسَبٍ لَا يَحِلُّ: مِنْ ظُلْمٍ أَوْ غَشْمٍ، أَوْ أَخْذٍ بِغَيْرِ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ وَبَيَّنَهُ لَهُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَآتُوا الزَّكَاةَ}، يَعْنِي"بِالزَّكَاةِ": طَاعَةَ اللَّهِ وَالْإِخْلَاصَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْ يَهُودِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَنَّهُمْ نَكَثُوا عَهْدَهُ وَنَقَضُوا مِيثَاقَهُ، بَعْدَمَا أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَهُمْ عَلَى الْوَفَاءِ لَهُ، بِأَنْ لَا يَعْبُدُوا غَيْرَهُ، وَأَنْ يُحْسِنُوا إِلَى الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ، وَيَصِلُوا الْأَرْحَامَ، وَيَتَعَطَّفُوا عَلَى الْأَيْتَامِ، وَيُؤَدُّوا حُقُوقَ أَهْلِ الْمَسْكَنَةِ إِلَيْهِمْ، وَيَأْمُرُوا عِبَادَ اللَّهِ بِمَا أَمَرَهُمْ اللَّهُ بِهِ وَيُحِثُّوهُمْ عَلَى طَاعَتِهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ بِحُدُودِهَا وَفَرَائِضِهَا، وَيُؤْتُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ- فَخَالَفُوا أَمْرَهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، وَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُعْرِضِينَ، إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ مِنْهُمْ، فَوَفَّى لِلَّهِ بِعَهْدِهِ وَمِيثَاقِهِ، كَمَا:- حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ بِشْرِ بْنِ عِمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضِّحَاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَّمَا فَرَضَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ عَلَيْهِمْ- يَعْنِي: عَلَى هَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَصَفَ اللَّهَ أَمْرَهُمْ فِي كِتَابِهِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ- هَذَا الَّذِي ذَكَرَ أَنَّهُ أَخَذَ مِيثَاقَهُمْ بِهِ، أَعْرَضُوا عَنْهُ اسْتِثْقَالًا لَهُ وَكَرَاهِيَةً، وَطَلَبُوا مَا خَفَّ عَلَيْهِمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ، وَهُمُ الَّذِينَ اسْتَثْنَى اللَّهُ فَقَالَ: (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ)، يَقُولُ: أَعْرَضْتُمْ عَنْ طَاعَتِي، (إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ)، قَالَ: الْقَلِيلُ الَّذِينَ اخْتَرْتُهُمْ لِطَاعَتِي، وَسَيَحِلُّ عِقَابِي بِمَنْ تَوَلَّى وَأَعْرَضَ عَنْهَا يَقُولُ: تَرَكَهَا اسْتِخْفَافًا بِهَا.. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّد، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، أَوْ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ}، أَيْ تَرَكْتُمْ ذَلِكَ كُلّه. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَنَى اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: (وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ)، الْيَهُودَ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَنَى بِسَائِرِ الْآيَةِ أَسْلَافَهُمْ. كَأَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ}: ثُمَّ تَوَلَّى سَلَفُكُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ، وَلَكِنَّهُ جَعَلَ خِطَابًا لِبَقَايَا نَسْلِهِمْ-عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا مَضَى قَبْلُ- ثُمَّ قَالَ: وَأَنْتُمْ يَا مَعْشَرَ بَقَايَاهُمْ مُعْرِضُونَ أَيْضًا عَنِ الْمِيثَاقِ الَّذِي أُخِذَ عَلَيْكُمْ بِذَلِكَ، وَتَارِكُوهُ تَرْكَ أَوَائِلكُمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ قَوْله: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ}، خِطَابٌ لِمَنْ كَانَ بَيْنَ ظَهَرَانَيْ مُهَاجَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ يَهُودِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَذَمٌّ لَهُمْ بِنَقْضِهِمُ الْمِيثَاقَ الَّذِي أُخِذَ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ، وَتَبْدِيلِهِمْ أَمْرَ اللَّهِ، وَرُكُوبُهُمْ مَعَاصِيَهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: قَوْلُهُ: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ} فِي الْمَعْنَى وَالْإِعْرَابِ نَظِيرُ قَوْلِهِ: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ}. وَأَمَّا"سَفْكُ الدَّمِ"، فَإِنَّهُ صَبُّهُ وَإِرَاقَتُهُ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ: {لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ}؟ وَقَالَ: أَوْ كَانَ الْقَوْمُ يَقْتُلُونَ أَنْفُسَهُمْ وَيُخْرِجُونَهَا مِنْ دِيَارِهَا، فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ؟ قِيلَ: لَيْسَ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا ظَنَنْتَ، وَلَكِنَّهُمْ نُهُوا عَنْ أَنْ يَقْتُلَ بَعْضُهمْ بَعْضًا. فَكَانَ فِي قَتْلِ الرَّجُلِ مِنْهُمُ الرَّجُلَ قَتْلُ نَفْسِهِ؛ إِذْ كَانَتْ مِلَّتُهُمَا[وَاحِدَةً، فَهُمَا] بِمَنْـزِلَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ بَيْنَهُمْ بِمَنْـزِلَةِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ، إِذَا اشْتَكَى بَعْضُهُ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ». وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: {لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ}، أَيْ: لَا يَقْتُلِ الرَّجُلُ مِنْكُمْ الرَّجُلَ مِنْكُمْ، فَيُقَادُ بِهِ قِصَاصًا، فَيَكُونُ بِذَلِكَ قَاتِلًا نَفْسَهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ الَّذِي سَبَّبَ لِنَفْسِهِ مَا اسْتَحَقَّتْ بِهِ الْقَتْلَ. فَأُضِيفَ بِذَلِكَ إِلَيْهِ، قَتْلُ وَلِيِ الْمَقْتُولِ إِيَّاهُ قِصَاصًا بِوَلِيِّهِ. كَمَا يُقَالُ لِلرَّجُلِ يَرْكَبُ فِعْلًا مِنَ الْأَفْعَالِ يَسْتَحِقُّ بِهِ الْعُقُوبَةَ، فَيُعَاقَبُ الْعُقُوبَةَ: "أَنْتَ جَنَيْتَ هَذَا عَلَى نَفْسِكَ". وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ}، أَيْ: لَا يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، {وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ}، وَنَفْسُكَ يَا ابْنَ آدَمَ أَهْلُ مِلَّتِكَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ}، يَقُولُ: لَا يَقْتُلْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، {وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ}، يَقُولُ: لَا يُخْرِجْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا مِنَ الدِّيَارِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ}، يَقُولُ: لَا يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا بِغَيْرِ حَقّ، {وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ}، فَتَسْفِكُ-يَا ابْنَ آدَمَ- دِمَاءَ أَهْلِ مِلَّتِكَ وَدَعْوَتِكَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ: (ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ)، بِالْمِيثَاقِ الَّذِي أَخَذْنَا عَلَيْكُمْ: لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ، كَمَا:- حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: (ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ)، يَقُولُ: أَقْرَرْتُمْ بِهَذَا الْمِيثَاقِ. وَحُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ مِثْلَهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيمَنْ خُوطِبَ بِقَوْلِهِ: (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ). فَقَالَ بَعْضُهُمْ: ذَلِكَ خِطَابٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِلْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا بَيْنَ ظَهَرَانَيْ مُهَاجَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَّامَ هِجْرَتِهِ إِلَيْهِ، مُؤَنِّبًا لَهُمْ عَلَى تَضْيِيعِ أَحْكَامِ مَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنَ التَّوْرَاةِ الَّتِي كَانُوا يُقِرُّونَ بِحُكْمِهَا، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ: (ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ)، يَعْنِي بِذَلِكَ، إِقْرَارَ أَوَائِلِكُمْ وَسَلَفِكُمْ، (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) عَلَى إِقْرَارِهِمْ بِأَخْذِ الْمِيثَاقِ عَلَيْهِمْ، بِأَنْ لَا يَسْفِكُوا دِمَاءَهُمْ، وَلَا يُخْرِجُوا أَنْفُسهمْ مِنْ دِيَارِهِمْ، وَتُصَدِّقُونَ بِأَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ مِنْ مِيثَاقِي عَلَيْهِمْ. وَمِمَّنْ حُكِيَ مَعْنَى هَذَا الْقَوْلُ عَنْهُ، ابْنُ عَبَّاسٍ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، أَوْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} أَنَّ هَذَا حَقٌّ مِنْ مِيثَاقِي عَلَيْكُمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ ذَلِكَ خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ- جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْ أَوَائِلِهِمْ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَخْرَجَ الْخَبَرَ بِذَلِكَ عَنْهُمْ مَخْرَجَ الْمُخَاطَبَةِ، عَلَى النَّحْوِ الَّذِي وَصَفْنَا فِي سَائِرِ الْآيَاتِ الَّتِي هِيَ نَظَائِرُهَا، الَّتِي قَدْ بَيَّنَّا تَأْوِيلَهَا فِيمَا مَضَى. وَتَأَوَّلَوْا قَوْله: (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ)، عَلَى مَعْنَى: وَأَنْتُمْ شُهُود.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَوْله: (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ)، يَقُولُ: وَأَنْتُمْ شُهُودٌ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ بِالصَّوَابِ عِنْدِي: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) خَبَرًا عَنْ أَسْلَافِهِمْ، وَدَاخِلًا فِيهِ الْمُخَاطَبُونَ مِنْهُمْ، الَّذِينَ أَدْرَكُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا كَانَ قَوْله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ} خَبَرًا عَنْ أَسْلَافِهِمْ، وَإِنْ كَانَ خِطَابًا لِلَّذِينِ أَدْرَكُوا رَسُولَ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْذَ مِيثَاقَ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ- عَلَى سَبِيلِ مَا قَدْ بَيَّنَهُ لَنَا فِي كِتَابِهِ- فَأَلْزَمَ جَمِيعَ مَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمْ مِنْ حُكْمِ التَّوْرَاةِ، مِثْلَ الَّذِي أَلْزَمَ مِنْهُ مَنْ كَانَ عَلَى عَهْدِ مُوسَى مِنْهُمْ. ثُمَّ أَنَّبَ الَّذِينَ خَاطَبَهُمْ بِهَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى نَقْضِهِمْ وَنَقْضِ سَلَفِهِمْ ذَلِكَ الْمِيثَاقَ، وَتَكْذِيبِهِمْ مَا وَكَدُّوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَهُ بِالْوَفَاءِ مِنَ الْعُهُودِ، بِقَوْلِهِ: {ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ}. فَإِذْ كَانَ خَارِجًا عَلَى وَجْهِ الْخِطَابِ لِلَّذِينَ كَانُوا عَلَى عَهْدِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ، فَإِنَّهُ مَعْنِيٌّ بِهِ كُلُّ مَنْ وَاثَقَ بِالْمِيثَاقِ مِنْهُمْ عَلَى عَهْدِ مُوسَى وَمِنْ بَعْدِهِ، وَكُلُّ مِنْ شَهِدَ مِنْهُمْ بِتَصْدِيقِ مَا فِي التَّوْرَاةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَمْ يُخَصِّصْ بِقَوْلِهِ: {ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ}- وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْآيِ- بَعْضَهُمْ دُونَ بَعْضٍ. وَالْآيَةُ مُحْتَمِلَةٌ أَنْ يَكُونَ أُرِيدَ بِهَا جَمِيعُهُمْ. فَإِذْا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهَا بَعْضٌ مِنْهُمْ دُونَ بَعْضٍ. وَكَذَلِكَ حُكْمُ الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا، أَعْنِي قَوْلَهُ: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} الْآيَةَ. لِأَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ لَنَا أَنَّ أَوَائِلَهُمْ قَدْ كَانُوا يَفْعَلُونَ مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ يَفْعَلُهُ أَوَاخِرُهُمُ الَّذِينَ أَدْرَكُوا عَصْرَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَيَتَّجِهُ فِي قَوْلِهِ: (ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ) وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ أُرِيدَ بِهِ: ثُمَّ أَنْتُمْ يَا هَؤُلَاءِ، فَتَرَكَ"يَا" اسْتِغْنَاءً بِدِلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} [يُوسُفَ: 29]، وَتَأْوِيلُهُ: يَا يُوسُفُ أَعْرَضْ عَنْ هَذَا. فَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ حِينَئِذٍ: ثُمَّ أَنْتُمْ يَا مَعْشَرَ يَهُودِ بَنِي إِسْرَائِيلَ- بَعْدَ إِقْرَارِكُمْ بِالْمِيثَاقِ الَّذِي أَخَذَتْهُ عَلَيْكُمْ: لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ، وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ، ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ بَعْدَ شَهَادَتِكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ بِأَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ لِي عَلَيْكُمْ، لَازِمٌ لَكُمُ الْوَفَاءُ لِي بِهِ- تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ، وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ، مُتَعَاوِنِينَ عَلَيْهِمْ، فِي إِخْرَاجِكُمْ إِيَّاهُمْ، بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ!. وَالتَّعَاوُنُ هُوَ "التَّظَاهُرُ". وَإِنَّمَا قِيلَ لِلتَّعَاوُنِ "التَّظَاهُرُ"، لِتَقْوِيَةِ بَعْضِهِمْ ظَهَرَ بَعْضٍ؛ فَهُوَ"تَفَاعُلٌ" مِنَ "الظَّهْرِ"، وَهُوَ مُسَانَدَةُ بَعْضِهِمْ ظَهْرَهُ إِلَى ظَهْرِ بَعْضٍ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: ثُمَّ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ؛ فَيَرْجِعُ إِلَى الْخَبَرِ عَنْ"أَنْتُمْ". وَقَدْ اعْتَرَضَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْخَبَرِ عَنْهُمْ"بِهَؤُلَاءِ"، كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: "أَنَا ذَا أَقْوَمُ، وَأَنَا هَذَا أَجْلِسُ"، وَإِذَا قِيلَ: "أَنَا هَذَا أَجْلِسُ" كَانَ صَحِيحًا جَائِزًا كَذَلِكَ: أَنْتَ ذَاكَ تَقُومُ". وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ قَوْلَهُ: "هَؤُلَاءِ" فِي قَوْلِهِ: (ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ)، تَنْبِيهٌ وَتَوْكِيدٌ لِـ "أَنْتُمْ". وَزَعَمَ أَنَّ"أَنْتُمْ" وَإِنْ كَانَتْ كِنَايَةَ أَسْمَاءِ جُمَاعِ الْمُخَاطَبِينَ، فَإِنَّمَا جَازَ أَنْ يُؤَكِّدُوا بِـ "هَؤُلَاءِ" و"أُولَاءِ"؛ لِأَنَّهَا كِنَايَةٌ عَنِ الْمُخَاطَبِينَ، كَمَا قَالَ خِفَافُ بْنُ نُدْبَةَ: أَقُـولُ لَـهُ وَالـرُّمْحُ يَـأْطُرُ مَتْنُـهُ: *** تَبَيَّـنْ خُفَافًـا إِنَّنِـي أَنَـا ذَلِكَـا يُرِيدُ: أَنَا هَذَا، وَكَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} [يُونُسَ: 22] ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فَيَمَنْ عُنِيَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، نَحْوَ اخْتِلَافِهِمْ فَيَمَنْ عُنِيَ بِقَوْلِهِ: (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) ذِكْرُ اخْتِلَافِ الْمُخْتَلِفِينَ فِي ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} إِلَى أَهْلِ الشِّرْكِ، حَتَّى تَسْفِكُوا دِمَاءَهُمْ مَعَهُمْ، وَتُخْرِجُوهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ مَعَهُمْ. قَالَ: أَنَّبَهُمُ اللَّهُ [عَلَى ذَلِكَ] مِنْ فِعْلِهِمْ، وَقَدْ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ سَفْكَ دِمَائِهِمْ، وَافْتَرَضَ عَلَيْهِمْ فِيهَا فِدَاءَ أَسْرَاهُمْ، فَكَانُوا فَرِيقَيْنِ: طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مِنْ بَنِي قَيْنُقَاعَ حُلَفَاءُ الْخَزْرَجِ، وَالنَّضِيرِ وَقُرَيْظَةُ حُلَفَاءُ الْأَوْسِ. فَكَانُوا إِذَا كَانَتْ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ حَرْبٌ خَرَجَتْ بَنُو قَيْنُقَاعَ مَعَ الْخَزْرَجِ، وَخَرَجَتِ النَّضِيرُ وَقُرَيْظَةُ مَعَ الْأَوْسِ، يُظَاهِرُ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ حُلَفَاءَهُ عَلَى إِخْوَانِهِ، حَتَّى يَتَسَافَكُوا دِمَاءَهُمْ بَيْنَهُمْ، وَبِأَيْدِيهمُ التَّوْرَاةُ، يُعَرِّفُونَ مِنْهَا مَا عَلَيْهِمْ وَمَا لَهُمْ. وَالْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ أَهْلُ شِرْكٍ يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ، لَا يَعْرِفُونَ جَنَّةً وَلَا نَارًا، وَلَا بَعْثًا وَلَا قِيَامَةً، وَلَا كِتَابًا، وَلَا حَرَامًا وَلَا حَلَالًا فَإِذَا وَضَعَتِ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا، افْتَدَوْا أَسْرَاهُمْ؛ تَصْدِيقًا لِمَا فِي التَّوْرَاةِ، وَأَخْذًا بِهِ، بَعْضَهمْ مِنْ بَعْضٍ. يَفْتَدِي بَنُو قَيْنُقَاعَ مَا كَانَ مِنْ أَسْرَاهُمْ فِي أَيْدِي الْأَوْسِ، وَتَفْتَدِي النَّضِيرُ وَقُرَيْظَةُ مَا كَانَ فِي أَيْدِي الْخَزْرَجِ مِنْهُمْ، وَيُطِلُّونَ مَا أَصَابُوا مِنَ الدِّمَاءِ، وَقَتْلَى مَنْ قُتِلُوا مِنْهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ؛ مُظَاهَرَةً لِأَهْلِ الشِّرْكِ عَلَيْهِمْ. يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ، حِينَ أَنَّبَهُمْ بِذَلِكَ: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ}، أَيْ تُفَادُونَهُ بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ وَتَقْتُلُونَهُ- وَفِي حُكْمِ التَّوْرَاةِ أَنْ لَا يَقْتَلَ، وَلَا يُخْرَجَ مِنْ دَارِهِ، وَلَا يُظَاهَرُ عَلَيْهِ مَنْ يُشْرِكُ بِاللَّهِ وَيَعْبُدُ الْأَوْثَانَ مَنْ دُونِهِ؛ ابْتِغَاءَ عَرَضٍ مِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا. فَفِي ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِمْ مَعَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ-فِيمَا بَلَغَنِي- نَـزَلَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ. وَحَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} قَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَخَذَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي التَّوْرَاةِ: أَنْ لَا يَقْتُلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَأَيُّمَا عَبْدٍ أَوْ أُمَةٍ وَجَدْتُمُوهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَاشْتَرَوْهُ بِمَا قَامَ ثَمَنُهُ، فَأَعْتَقُوهُ، فَكَانَتْ قُرَيْظَةُ حُلَفَاءَ الْأَوْسِ، وَالنَّضِيرُ حُلَفَاءَ الْخَزْرَجِ، فَكَانُوا يَقْتَتِلُونَ فِي حَرْبِ سُمَيرٍ. فَيُقَاتِلُ بَنُو قُرَيْظَةَ مَعَ حُلَفَائِهَا، النَّضِيرَ وَحُلَفَاءَهَا. وَكَانَتِ النَّضِيرُ تَقَاتِلُ قُرَيْظَةَ وَحُلَفَاءَهَا، فَيَغْلِبُونَهُمْ، فَيُخَرِّبُونَ بُيُوتَهُمْ، وَيُخْرِجُونَهُمْ مِنْهَا، فَإِذَا أُسِرَ الرَّجُلُ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ كِلَيْهِمَا، جَمَعُوا لَهُ حَتَّى يَفْدُوهُ، فَتُعَيِّرُهُمُ الْعَرَبُ بِذَلِكَ، وَيَقُولُونَ: كَيْفَ تُقَاتِلُونَهُمْ وَتَفْدُونَهُمْ؟ قَالُوا: إِنَّا أُمِرْنَا أَنْ نَفْدِيَهُمْ، وَحُرِّمَ عَلَيْنَا قِتَالُهُمْ. قَالُوا: فَلِمَ تُقَاتِلُونَهُمْ؟ قَالُوا: إِنَّا نَسْتَحْيِي أَنْ تُسْتَذَلَّ حُلَفَاؤُنَا. فَذَلِكَ حِينَ عَيَّرَهُمْ- جَلَّ وَعَزَّ- فَقَالَ: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كَانَتْ قُرَيْظَةُ وَالنَّضِيرُ أَخَوَيْنِ، وَكَانُوا بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ، وَكَانَ الْكِتَابُ بِأَيْدِيهمْ، وَكَانَتِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ أَخَوَيْنِ فَافْتَرَقَا، وَافْتَرَقَتْ قُرَيْظَةُ وَالنَّضِيرُ، فَكَانَتِ النَّضِيرُ مَعَ الْخَزْرَجِ، وَكَانَتْ قُرَيْظَةُ مَعَ الْأَوْسِ، فَاقْتَتَلُوا، وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا، فَقَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ} الْآيَةَ. وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا:- حَدَّثَنِي بِهِ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ: إِذَا اسْتَضْعَفُوا قَوْمًا أَخْرَجُوهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ. وَقَدْ أُخِذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقُ أَنْ لَا يَسْفِكُوا دِمَاءَهُمْ، وَلَا يُخْرِجُوا أَنْفُسَهمْ مِنْ دِيَارِهِمْ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَمَّا "الْعُدْوَانُ" فَهُوَ "الفُعْلَانُ" مِنْ "التَّعَدِّي"، يُقَالُ مِنْهُ: "عَدَا فُلَانٌ فِي كَذَا عَدْوًا وَعُدْوَانًا، وَاعْتَدَى يَعْتَدِي اعْتِدَاءً"، وَذَلِكَ إِذَا جَاوَزَ حَدَّهُ ظُلْمًا وَبَغْيًا. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ: (تَظَاهَرُونَ). فَقَرَأَهَا بَعْضهمْ: "تَظَاهَرُونَ" عَلَى مِثَال"تَفَاعَلُونَ" فَحَذَفَ التَّاءَ الزَّائِدَةَ وَهِيَ التَّاءُ الْآخِرَةُ. وَقَرَأَهَا آخَرُونَ: (تَظَّاهَرُونَ)، فَشَدَّدَ، بِتَأْوِيلِ: (تَتَظَاهَرُونَ)، غَيْرَ أَنَّهُمْ أَدْغَمُوا التَّاءَ الثَّانِيَةَ فِي الظَّاءِ، لِتُقَارِبِ مُخْرَجَيْهِمَا، فَصَيَّرُوهُمَا ظَاءً مُشَدَّدَةً. وَهَاتَانِ الْقِرَاءَتَانِ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ أَلْفَاظُهُمَا، فَإِنَّهُمَا مُتَّفِقَتَا الْمَعْنَى؛ فَسَوَاءٌ بِأَيِّ ذَلِكَ قَرَأَ الْقَارِئُ؛ لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا لُغَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ، وَقِرَاءَتَانِ مُسْتَفِيضَتَانِ فِي أَمْصَارِ الْإِسْلَامِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، لَيْسَ فِي إِحْدَاهُمَا مَعْنًى تَسْتَحِقُّ بِهِ اخْتِيَارَهَا عَلَى الْأُخْرَى، إِلَّا أَنْ يَخْتَارَ مُخْتَارٌ"تَظَّاهَرُونَ" الْمُشَدَّدَةَ طَلَبًا مِنْهُ تَتِمَّةَ الْكَلِمَةِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ} الْيَهُودَ. يُوَبِّخُهُمْ بِذَلِكَ، وَيُعَرِّفُهُمْ بِهِ قَبِيحَ أَفْعَالِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَفْعَلُونَهَا، فَقَالَ لَهُمْ: ثُمَّ أَنْتُمْ- بَعْدَ إِقْرَارِكُمْ بِالْمِيثَاقِ الَّذِي أَخَذْتُهُ عَلَيْكُمْ: أَنْ لَا تَسْفِكُوا دِمَاءَكُمْ، وَلَا تُخْرِجُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ- تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ يَعْنِي بِهِ: يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَأَنْتُمْ- مَعَ قَتْلِكُمْ مَنْ تَقْتُلُونَ مِنْكُمْ- إِذَا وَجَدْتُمُ الْأَسِيرَ مِنْكُمْ فِي أَيْدِي غَيْرِكُمْ مِنْ أَعْدَائِكُمْ، تَفْدُونَهُ، وَيُخْرِجُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا مِنْ دِيَارِهِ! وَقَتْلُكُمْ إِيَّاهُمْ وَإِخْرَاجُكُمُوهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ، حَرَامٌ عَلَيْكُمْ، وَتَرْكُهُمْ أَسْرَى فِي أَيْدِي عَدُوِّكُمْ [حَرَامٌ عَلَيْكُمْ]، فَكَيْفَ تَسْتَجِيزُونَ قَتْلَهُمْ، وَلَا تَسْتَجِيزُونَ تَرْكَ فَدَائِهِمْ مَنْ عَدُوِّهِمْ؟ أَمْ كَيْفَ لَا تَسْتَجِيزُونَ تَرْكَ فَدَائِهِمْ، وتَسْتَجِيزُونَ قَتْلَهُمْ؟! وَهُمَا جَمِيعًا فِي اللَّازِمِ لَكُمْ مِنَ الْحُكْمِ فِيهِمْ – سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الَّذِي حَرَّمْتُ عَلَيْكُمْ مِنْ قَتْلِهِمْ وَإِخْرَاجِهِمْ مِنْ دُورِهِمْ، نَظِيرُ الَّذِي حَرَّمْتُ عَلَيْكُمْ مَنْ تَرْكِهِمْ أَسْرَى فِي أَيْدِي عَدُوِّهِمْ، أَفَتُؤَمِّنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ- الَّذِي فَرَضْتُ عَلَيْكُمْ فِيهِ فَرَائِضِي، وَبَيَّنَتْ لَكُمْ فِيهِ حُدُودِي، وَأَخَذْتُ عَلَيْكُمْ بِالْعَمَلِ بِمَا فِيهِ مِيثَاقِي- فَتُصَدِّقُونَ بِهِ، فَتُفَادُوْنَ أَسْرَاكُمْ مِنْ أَيْدِي عَدُوِّكِمْ؛ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضِهِ، فَتَجْحَدُونَهُ، فَتَقْتُلُونَ مَنْ حَرَّمْتُ عَلَيْكُمْ قَتْلَهُ مَنْ أَهْلِ دِينِكُمْ وَمِنْ قَوْمِكُمْ، وَتُخْرِجُونَهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ؟ وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ الْكُفْرَ مِنْكُمْ بِبَعْضِهِ نَقْضٌ مِنْكُمْ عَهْدِي وَمِيثَاقِي؟ كَمَا:- حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤَمِّنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ}، [أَفَتُؤَمِّنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ فَادِينَ، وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ قَاتِلِينَ وَمُخْرِجِينَ]؟ وَاللَّهِ إِنَّ فَدَاءَهُمْ لِإِيمَانٌ، وَإِنَّ إِخْرَاجَهُمْ لِكُفْرٌ. فَكَانُوا يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ، وَإِذَا رَأَوْهُمْ أُسَارَى فِي أَيْدِي عَدُوِّهِمْ افْتَكُّوهُمْ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، أَوْ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تَفْدُوهُمْ}، قَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ ذُلَّكُمْ عَلَيْكُمْ فِي دِينِكُمْ، (وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ) فِي كِتَابِكُمْ {إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ}، أَتُفَادُونَهُمْ مُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ، وَتُخْرِجُونَهُمْ كُفْرًا بِذَلِكَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تَفْدُوهُمْ} يَقُولُ: إِنْ وَجَدَتْهُ فِي يَدِ غَيْرِكَ فَدَيْتَهُ، وَأَنْتَ تَقْتُلُهُ بِيَدِك! حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍقَالَ: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: كَانَ قَتَادَةُ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ}، فَكَانَ إِخْرَاجُهُمْ كُفْرًا، وَفِدَاؤُهُمْ إِيمَانًا. حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} الْآيَةَ، قَالَ: كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ: إِذَا اسْتَضْعَفُوا قَوْمًا أَخْرَجُوهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ، وَقَدْ أُخِذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقُ: أَنْ لَا يَسْفِكُوا دِمَاءَهُمْ وَلَا يُخْرِجُوا أَنْفُسَهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ، وَأُخِذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقُ: إِنْ أَسَرَ بَعْضهمْ أَنْ يُفَادُوهُمْ، فَأَخْرَجُوهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ، ثُمَّ فَادُوهُمْ، فَآمَنُوا بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَكَفَرُوا بِبَعْضٍ. آمَنُوا بِالْفِدَاءِ فَفَدَوْا، وَكَفَرُوا بِالْإِخْرَاجِ مِنَ الدِّيَارِ فَأَخْرَجُوا. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ قَالَ، أَخْبَرَنِي أَبُو الْعَالِيَةِ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ مَرَّ عَلَى رَأْسِ الْجَالُوتِ بِالْكُوفَةِ وَهُوَ يُفَادِي مِنَ النِّسَاءِ مَنْ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ الْعَرَبُ، وَلَا يُفَادِي مَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَرَبُ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَّامٍ: أَمَّا إِنَّهُ مَكْتُوبٌ عِنْدَكَ فِي كِتَابِكَ: أَنْ فَادُوهُنَّ كُلَّهُنَّ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ}، قَالَ: كُفْرُهُمُ الْقَتْلُ وَالْإِخْرَاجُ، وَإِيمَانُهُمُ الْفِدَاءُ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: يَقُولُ: إِذَا كَانُوا عِنْدَكُمْ تَقْتُلُونَهُمْ وَتُخْرِجُونَهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ، وَأَمَّا إِذَا أُسِرُوا تَفْدُونَهُمْ؟ وَبَلَغَنِي أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ فِي قِصَّةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ مَضَوْا، وَإِنَّكُمْ أَنْتُمْ تُعْنَوْنَ بِهَذَا الْحَدِيثِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَاخْتَلَفَ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: {وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ}. فَقَرَأَهُ بَعْضُهُمْ: (أَسْرَى تَفْدُوهُمْ)، وَبَعْضُهُمْ: (أَسَارَى تُفادُوهُمْ)، وَبَعْضُهُمْ (أُسَارَى تَفْدُوهُمْ)، وَبَعْضُهُمْ: (أَسْرَى تُفَادَوْهُمْ). قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَمَنْ قَرَأَ ذَلِكَ: (وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أَسْرَى)، فَإِنَّهُ أَرَادَ جَمْعَ "الأَسِيرِ"، إِذْ كَانَ عَلَى"فَعِيلٍ"، عَلَى مِثَالِ جَمْعِ أَسْمَاءِ ذَوِي الْعَاهَاتِ الَّتِي يَأْتِي وَاحِدُهَا عَلَى تَقْدِيرِ"فَعِيلٍ"، إِذْ كَانَ "الأَسْرُ" شَبِيهَ الْمَعْنَى- فِي الْأَذَى وَالْمَكْرُوهِ الدَّاخِلِ عَلَى الْأَسِيرِ- بِبَعْضِ مَعَانِي الْعَاهَاتِ، وَأُلْحِقَ جَمْعُ الْمُسْتَلْحَقِ بِهِ بِجَمْعِ مَا وَصَفْنَا، فَقِيلَ: أَسِيرٌ وَأَسْرَى"، كَمَا قِيلَ: "مَرِيضٌ وَمَرْضَى، وَكَسِيرٌ وَكَسْرَى، وَجَرِيحٌ وَجَرْحَى". وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَمَّا الَّذِينَ قَرَءُوا ذَلِكَ: (أُسَارَى)، فَإِنَّهُمْ أَخْرَجُوهُ عَلَى مَخْرَجِ جَمْعِ "فَعْلَانَ"، إِذْ كَانَ جَمْعُ "فَعْلَانَ" الَّذِي لَهُ "فَعْلَى" قَدْ يُشَارِكُ جَمْعَ "فَعِيلٍ" كَمَا قَالُوا: (سُكَارَى وَسَكْرَى، وَكُسَالَى وَكَسْلَى)، فَشَبَّهُوا"أَسِيرًا"- وَجَمَعُوهُ مَرَّة"أُسَارَى"، وَأُخْرَى "أَسْرَى"- بِذَلِكَ. وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَزْعُمُ أَنَّ مَعْنَى "الأَسْرَى" مُخَالِفٌ مَعْنَى "الأُسَارَى"، وَيَزْعُمُ أَنَّ مَعْنَى "الأَسْرَى" اسْتِئْسَارُ الْقَوْمِ بِغَيْرِ أَسْرٍ مِنَ الْمُسْتَأْسِرِ لَهُمْ، وَأَنَّ مَعْنَى "الأُسَارَى" مَعْنَى مَصِيرُ الْقَوْمِ الْمَأْسُورِينَ فِي أَيْدِي الْآسِرَيْنِ بِأَسْرِهِمْ وَأَخْذِهِمْ قَهْرًا وَغَلَبَةً. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَذَلِكَ مَا لَا وَجْهَ لَهُ يُفْهَمُ فِي لُغَةِ أَحَدٍ مِنَ الْعَرَبِ. وَلَكِنَّ ذَلِكَ عَلَى مَا وَصَفْتُ مِنْ جَمْعِ "الأَسِيرِ" مَرَّةً عَلَى "فَعْلَى" لِمَا بَيَّنْتُ مِنَ الْعِلَّةِ، وَمَرَّةً عَلَى "فُعَالَى"، لِمَا ذَكَرْتُ: مِنْ تَشْبِيهِهِمْ جَمْعَهُ بِجَمْعِ"سَكْرَانَ وَكَسْلَانَ" وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَأَوْلَى بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ (وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أَسْرَى)، لِأَنَّ "فُعَالَى" فِي جَمْعِ"فَعِيلٍ" غَيْرُ مُسْتَفِيضٍ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، فَإِذا كَانَ ذَلِكَ غَيْرَ مُسْتَفِيضٍ فِي كَلَامِهِمْ، وَكَانَ مُسْتَفِيضًا فَاشِيًّا فِيهِمْ جَمْعُ مَا كَانَ مِنَ الصِّفَاتِ- الَّتِي بِمَعْنَى الْآلَامِ وَالزَّمَانَةِ- وَوَاحِدُهُ عَلَى تَقْدِيرِ"فَعِيلٍ"، عَلَى"فَعْلَى"، كَالَّذِي وَصَفْنَا قُبْلُ، وَكَانَ أَحَدُ ذَلِكَ "الأَسِيرَ"، كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يُلْحَقَ بِنَظَائِرِهِ وَأَشْكَالِهِ، فَيُجْمَعُ جَمْعَهَا دُونَ غَيْرِهَا مِمَّنْ خَالَفَهَا. وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ: (تَفَادَوْهُمْ)، فَإِنَّهُ أَرَادَ: أَنَّكُمْ تَفْدُونَهُمْ مِنْ أَسْرِهِمْ، وَيَفْدِي مِنْكُمْ- الَّذِينَ أَسَرُوهُمْ فَفَادُوكُمْ بِهِمْ- أَسْرَاكُمْ مِنْهُمْ. وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ (تَفْدُوهُمْ)، فَإِنَّهُ أَرَادَ: إِنَّكُمْ يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ، إِنْ أَتَاكُمُ الَّذِينَ أَخْرَجْتُمُوهُمْ مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ أَسْرَى فَدَيْتُمُوهُمْ فَاسْتَنْقَذْتُمُوهُمْ. وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ أَعْجَبُ إِلَيَّ مِنَ الْأُولَى- أَعْنِي: (أَسْرَى تَفَادَوْهُمْ)- لِأَنَّ الَّذِي عَلَى الْيَهُودِ فِي دِينِهِمْ فِدَاءُ أَسْرَاهُمْ بِكُلِّ حَالٍ، فَدَى الْآسِرُونَ أَسْرَاهُمْ مِنْهُمْ أَمْ لَمْ يَفْدُوهُمْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ}، فَإِنَّ فِي قَوْلِهِ: (وَهُوَ) وَجْهَيْنِ مِنَ التَّأْوِيلِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً عَنِ الْإِخْرَاجِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. كَأَنَّهُ قَالَ: وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ، وَإِخْرَاجُهُمْ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ، ثُمَّ كَرَّرَ "الإِخْرَاجَ" الَّذِي بَعْدَ"وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ" تَكْرِيرًا عَلَى"هُوَ"؛ لَمَّا حَالَ بَيْنَ "الإِخْرَاجِ" و"هُوَ" كَلَامٌ. وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عِمَادًا، لَمَّا كَانَتْ "الْوَاو" الَّتِي مَعَ "هُوَ" تَقْتَضِي اسْمًا يَلِيهَا دُونَ الْفِعْلِ؛ فَلَمَّا قَدَّمَ الْفِعْلَ قَبْلَ الِاسْمِ- الَّذِي تَقْتَضِيهِ "الْوَاوُ" أَنْ يَلِيَهَا- أُولِيَتْ "هُوَ"؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ، كَمَا تَقُولُ: (أَتَيْتُكَ وَهُوَ قَائِمٌ أَبُوكَ)، بِمَعْنَى: "وَأَبُوكَ قَائِمٌ"؛ إِذْ كَانَتِ "الوَاوُ" تَقْتَضِي اسْمًا، فَعُمِدَتْ بِـ "هُوَ"، إِذْ سَبَقَ الْفِعْلُ الِاسْمَ لِيَصْلُحَ الْكَلَامُ. كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: فَـأَبْلِغْ أَبَـا يَحْـَيى إِذَا مَـا لَقِيتَـهُ *** عَـلَى الْعِيسِ فِـي آبَاطِهَـا عَرَقٌ يَبْسُ بِـأَنَّ السُّلامِيَّ الَّـذِي بِضَـرِيَّةٍ *** أمـيرَ الْحِـمَى، قَدْ بَاعَ حَقِّي، بَنِي عَبْسِ بِثَـوْبٍ وَدِينَـارٍ وَشَـاةٍ وَدِرْهَـمٍ *** فَهَـلْ هُـوَ مَرْفُـوعٌ بِمَـا هَهُنَـا رَأْسُ فَأَوْلَيْتُ"هَلْ""هُوَ" لِطَلَبِهَا الِاسْمَ الْعِمَادَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ}: فَلَيْسَ لِمَنْ قَتَلَ مِنْكُمْ قَتِيلًا؛ فَكَفَرَ بِقَتْلِهِ إِيَّاهُ، بِنَقْضِ عَهْدِ اللَّهِ الَّذِي حَكَمَ بِهِ عَلَيْهِ فِي التَّوْرَاةِ- وَأَخْرَجَ مِنْكُمْ فَرِيقًا مِنْ دِيَارِهِمْ مُظَاهِرًا عَلَيْهِمْ أَعْدَاءَهُمْ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا وَخِلَافًا لِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ الَّذِي أَنْـزَلَهُ إِلَى مُوسَى جَزَاءٌَ- يَعْنِي"بِالْجَزَاءِ": الثَّوَابَ، وَهُوَ الْعِوَضُ مِمَّا فَعَلَ مِنْ ذَلِكَ وَالْأَجْرُ عَلَيْهِ- إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. وَ "الخِزْيُ": الذُّلُّ وَالصَّغَارُ، يُقَالُ مِنْهُ: "خَزِيَ الرَّجُلُ يَخْزَى خِزْيًا"، (فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)، يَعْنِي: فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ. ثُمَّ اخْتُلِفَ فِي الْخِزْيِ الَّذِي أَخْزَاهُمُ اللَّهُ بِمَا سَلَفَ مِنْ مَعْصِيَتِهِمْ إِيَّاهُ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: ذَلِكَ هُوَ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي أَنْـزَلَهُ إِلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مِنْ أَخْذِ الْقَاتِلِ بِمَنْ قَتَلَ، وَالْقَوَدِ بِهِ قِصَاصًا، وَالِانْتِقَامِ لِلْمَظْلُومِ مِنَ الظَّالِمِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ ذَلِكَ، هُوَ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ مَا أَقَامُوا عَلَى دِينِهِمْ، ذِلَّةً لَهُمْ وَصَغَارًا. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ ذَلِكَ الْخِزْيُ الَّذِي جُوزُوا بِهِ فِي الدُّنْيَا: إِخْرَاجُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّضِيرَ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ، وَقَتْلُ مُقَاتِلَةِ قُرَيْظَةَ وَسَبْيِ ذَرَارِيهِمْ، فَكَانَ ذَلِكَ خِزْيًا فِي الدُّنْيَا، وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ}: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُرَدُّ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ- بَعْدَ الْخِزْيِ الَّذِي يَحِلُّ بِهِ فِي الدُّنْيَا جَزَاءً عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ- إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ الَّذِي أَعَدَّ اللَّهُ لِأَعْدَائِهِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى ذَلِكَ: وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدَّ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا. وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ قَائِلٍ ذَلِكَ. ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ-جَلَّ ثَنَاؤُهُ- إِنَّمَا أَخْبَرَ أَنَّهُمْ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ مَعَانِي الْعَذَابِ، وَلِذَلِكَ أَدْخَلَ فِيهِ "الأَلِفَ وَاللَّامَ"؛ لِأَنَّهُ عَنَى بِهِ جِنْسَ الْعَذَابِ كُلِّهِ، دُونَ نَوْعٍ مِنْهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتَلَفَ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ. فَقَرَأَهُ بَعْضُهُمْ: (وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) بِـ "الْيَاء"، عَلَى وَجْهِ الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ، فَكَأَنَّهُمْ نَحَّوْا بِقِرَاءَتِهِمْ مَعْنَى: {فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}، يَعْنِي: عَمَّا يَعْمَلُهُ الَّذِينَ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ جَزَاءٌ عَلَى فِعْلِهِمْ إِلَّا الْخِزْيُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَمَرْجِعُهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ. وَقَرَأَهُ آخَرُونَ: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} بِـ "التَّاءِ" عَلَى وَجْهِ الْمُخَاطَبَةِ. قَالَ: فَكَأَنَّهُمْ نَحَّوْا بِقِرَاءَتِهِمْ: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ}. وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ، يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ، عَمَّا تَعْمَلُونَ أَنْتُمْ. وَأَعْجَبُ الْقِرَاءَتَيْنِ إِلَيَّ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ بِـ "الْيَاءِ"، اتِّبَاعًا لِقَوْلِهِ: {فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ}، وَلِقَوْلِهِ: (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ)؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} إِلَى ذَلِكَ، أَقْرَبُ مِنْهُ إِلَى قَوْلِهِ: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ}، فَاتِّبَاعُهُ الْأَقْرَبَ إِلَيْهِ، أَوْلَى مِنْ إِلْحَاقِهِ بِالْأَبْعَدِ مِنْهُ، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ غَيْرُ بَعِيدٍ مِنَ الصَّوَابِ. وَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ: "وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ"، وَمَا اللَّهُ بِسَاهٍ عَنْ أَعْمَالِهِمُ الْخَبِيثَةِ، بَلْ هُوَ مُحْصٍ لَهَا وَحَافِظُهَا عَلَيْهِمْ حَتَّى يُجَازِيَهُمْ بِهَا فِي الْآخِرَةِ، وَيُخْزِيَهُمْ فِي الدُّنْيَا، فَيُذِلَّهُمْ وَيَفْضَحَهُمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ، فَيُفَادُونَ أَسْرَاهُمْ مِنِ الْيَهُودِ، وَيَكْفُرُونَ بِبَعْض، فَيَقْتُلُونَ مَنْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَتْلَهُ مِنْ أَهْلِ مِلَّتِهِمْ، وَيُخْرِجُونَ مِنْ دَارِهِ مَنْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ إِخْرَاجَهُ مِنْ دَارِهِ، نَقْضًا لِعَهْدِ اللَّهِ وَمِيثَاقِهِ فِي التَّوْرَاةِ إِلَيْهِمْ. فَأَخْبَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ [هُمْ] الَّذِينَ اشْتَرَوْا رِيَاسَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا عَلَى الضُّعَفَاءِ وَأَهْلِ الْجَهْلِ وَالْغَبَاءِ مِنْ أَهْلِ مِلَّتِهِمْ، وَابْتَاعُوا الْمَآكِلَ الْخَسِيسَةَ الرَّدِيئَةَ فِيهَا بِالْإِيمَانِ، الَّذِي كَانَ يَكُونُ لَهُمْ بِهِ فِي الْآخِرَةِ- لَوْ كَانُوا أَتَوْا بِهِ مَكَانَ الْكُفْرِ- الْخُلُودُ فِي الْجِنَانِ. وَإِنَّمَا وَصَفَهُمُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِأَنَّهُمْ اشْتَرَوْا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ، لِأَنَّهُمْ رَضُوا بِالدُّنْيَا بِكُفْرِهِمْ بِاللَّهِ فِيهَا، عِوَضًا مِنْ نَعِيمِ الْآخِرَةِ الَّذِي أَعَدَّهُ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ. فَجَعَلَ حُظُوظَهُمْ مِنْ نَعِيمِ الْآخِرَةِ بِكُفْرِهِمْ بِاللَّهِ، ثَمَنًا لِمَا ابْتَاعُوهُ بِهِ مِنْ خَسِيسِ الدُّنْيَا، كَمَا:- حَدَّثَنَا بِشْرٌ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ}، اسْتَحَبُّوا قَلِيلَ الدُّنْيَا عَلَى كَثِيرِ الْآخِرَةِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: ثُمَّ أَخْبَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهُمْ إِذْ بَاعُوا حُظُوظَهُمْ مِنْ نَعِيمِ الْآخِرَةِ- بِتَرْكِهِمْ طَاعَته، وَإِيثَارِهِمُ الْكُفْرَ بِهِ وَالْخَسِيسَ مِنَ الدُّنْيَا عَلَيْهِ – لَا حَظَّ لَهُمْ فِي نَعِيمِ الْآخِرَةِ، وَأَنَّ الَّذِي لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ الْعَذَابُ، غَيْرَ مُخَفِّفٍ عَنْهُمْ فِيهَا الْعَذَابُ؛ لِأَنَّ الَّذِي يُخَفَّفُ عَنْهُ فِيهَا مِنَ الْعَذَابِ، هُوَ الَّذِي لَهُ حَظٌّ فِي نَعِيمِهَا، وَلَا حَظَّ لِهَؤُلَاءِ، لَاشَتْرَائِهِمْ- بِالَّذِي كَانَ فِي الدُّنْيَا- دُنْيَاهُمْ بِآخِرَتِهِمْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: (وَلَا هُمْ يَنْصُرُونَ) فَإِنَّهُ أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُ لَا يَنْصُرُهُمْ فِي الْآخِرَةِ أَحَدٌ، فَيَدْفَعُ عَنْهُمْ بِنُصْرَتِهِ عَذَابَ اللَّهِ- لَا بِقُوَّتِهِ وَلَا بِشَفَاعَتِهِ وَلَا غَيْرُهُمَا.
|