الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا}، وَاذْكُرُوا يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا. وَ" النَّفْسُ " الَّتِي قَتَلُوهَا، هِيَ النَّفْسُ الَّتِي ذَكَرْنَا قِصَّتَهَا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً}. وَقَوْلُهُ: {فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا}، يَعْنِي فَاخْتَلَفْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ. وَإِنَّمَا هُوَ "فَتَدَارَأْتُمْ فِيهَا" عَلَى مِثَالِ " تَفَاعَلْتُمْ"، مِنَ الدَّرْءِ. وَ" الدَّرْءُ ": الْعِوَجُ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي النَّجْمِ الْعِجْلِي: خَشْيَةَ ضَغَّامٍ إِذَا هَمَّ جَسَرْ *** يَأْكُلُ ذَا الدَّرْءِ وَيُقْصِي مَنْ حَقَرْ يَعْنِي: ذَا الْعِوَجِ وَالْعُسْرِ. وَمِنْهُ قَوْلُ رُؤْبَةَ بْنِ الْعَجَّاجِ: أَدْرَكْتُهَا قُدَّامَ كُلِّ مِدْرَهِ *** بِالدَّفْعِ عَنِّي دَرْءَ كُلِّ عُنْجُهِ وَمِنْهُ الْخَبَرُ الَّذِي: حَدَّثَنَا بِهِ أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ، حَدَّثَنَا مُصْعَبُ بْنُ الْمِقْدَامِ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُهَاجِرِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ السَّائِبِ قَالَ: جَاءَنِي عُثْمَانُ وَزُهَيْرٌ ابْنَا أُمَيَّةَ، فَاسْتَأْذَنَا لِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا أَعْلَمُ بِهِ مِنْكُمَا، أَلَمْ تَكُنْ شَرِيكِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، فَنِعْمَ الشَّرِيكُ كُنْتَ لَا تُمَارِي وَلَا تُدَارِي». يَعْنِي بِقَوْلِهِ: لَا تُدَارِي، لَا تُخَالِفُ رَفِيقَكَ وَشَرِيكَكَ وَلَا تُنَازِعُهُ وَلَا تُشَارُّهُ. وَإِنَّمَا أَصْلُ (فَادَّارَأْتُمْ)، فَتَدَارَأْتُمْ، وَلَكِنَّ التَّاءَ قَرِيبَةٌ مِنْ مَخْرَجِ الدَّالِّ- وَذَلِكَ أَنَّ مَخْرَجَ التَّاءِ مِنْ طَرَفِ اللِّسَانِ وَأُصُولِ الشَّفَتَيْنِ، وَمَخْرَجُ الدَّالِّ مِنْ طَرَفِ اللِّسَانِ وَأَطْرَافِ الثَّنِيَّتَيْنِ- فَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الدَّالِ، فَجُعِلَتْ دَالًا مُشَدَّدَةً كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: تُولِي الضَّجِيعَ إِذَا مَا اسْتَافَهَا خَصِرًا *** عَذْبَ الْمَذَاقِ إِذَا مَا اتَّابَعَ الْقُبَلُ يُرِيدُ إِذَا مَا تَتَابَعَ الْقُبَلُ، فَأَدْغَمَ إِحْدَى التَّاءَيْنِ فِي الْأُخْرَى. فَلَمَّا أُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الدَّالِ فَجُعِلَتْ دَالًا مِثْلَهَا سَكَنَتْ، فَجَلَبُوا أَلِفًا لِيَصِلُوا إِلَى الْكَلَامِ بِهَا، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ قَبْلَهُ شَيْءٌ، لِأَنَّ الْإِدْغَامَ لَا يَكُونُ إِلَّا وَقَبْلَهُ شَيْءٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا} [الْأَعْرَافِ: 38]، إِنَّمَا هُوَ "تَدَارَكُوا"، وَلَكِنَّ التَّاءَ مِنْهَا أُدْغِمَتْ فِي الدَّالِ، فَصَارَتْ دَالًا مُشَدَّدَةً، وَجُعِلَتْ فِيهَا أَلِفٌ- إِذْ وُصِلَتْ بِكَلَامٍ- قَبْلَهَا لِيَسْلَمَ الْإِدْغَامُ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ مَا يُوَاصِلُهُ، وَابْتُدِئَ بِهِ، قِيلَ: تَدَارَكُوا وَتَثَاقَلُوا، فَأَظْهَرُوا الْإِدْغَامَ. وَقَدْ قِيلَ يُقَالُ: " ادَّارَكُوا، وَادَّارَءُوا". وَقَدْ قِيلَ إِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: (فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا)، فَتَدَافَعْتُمْ فِيهَا. مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: (دَرَأْتُ هَذَا الْأَمْرَ عَنِّي)، وَمِنْ قَوْلِ اللَّهِ: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} [النُّورِ: 8]، بِمَعْنَى يَدْفَعُ عَنْهَا الْعَذَابَ. وَهَذَا قَوْلٌ قَرِيبُ الْمَعْنَى مِنَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ. لِأَنَّ الْقَوْمَ إِنَّمَا تَدَافَعُوا قَتْلَ قَتِيلٍ، فَانْتَفَى كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ أَنَّ يَكُونَ قَاتِلَهُ، كَمَا قَدْ بَيَّنَّا قَبْلُ فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا هَذَا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: (فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا) قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنِي عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: (فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا)، قَالَ: اخْتَلَفْتُمْ فِيهَا. حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} قَالَ بَعْضُهُمْ: أَنْتُمْ قَتَلْتُمُوهُ. وَقَالَ الْآخَرُونَ: أَنْتُمْ قَتَلْتُمُوهُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: (فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا)، قَالَ: اخْتَلَفْتُمْ، وَهُوَ التَّنَازُعُ، تَنَازَعُوا فِيهِ. قَالَ: قَالَ هَؤُلَاءِ: أَنْتُمْ قَتَلْتُمُوهُ. وَقَالَ هَؤُلَاءِ: لَا. وَكَانَ تَدَارُؤُهُمْ فِي النَّفْسِ الَّتِي قَتَلُوهَا كَمَا: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: صَاحِبُ الْبَقَرَةِ رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، قَتَلَهُ رَجُلٌ فَأَلْقَاهُ عَلَى بَابِ نَاسٍ آخَرِينَ، فَجَاءَ أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ فَادَّعَوَا دَمَهُ عِنْدَهُمْ، فَانْتَفَوْا- أَوِ انْتَفَلُوا- مِنْهُ. شَكَّ أَبُو عَاصِمٍ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِمِثْلِهِ سَوَاءً- إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: فَادَّعَوْا دَمَهُ عِنْدَهُمْ فَانْتَفَوْا- وَلَمْ يَشُكَّ- مِنْهُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: قَتِيلٌ كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَذَفَ كُلُّ سِبْطٍ مِنْهُمْ [سِبْطًا بِهِ]، حَتَّى تَفَاقَمَ بَيْنَهُمُ الشَّرُّ، حَتَّى تَرَافَعُوا فِي ذَلِكَ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى مُوسَى: أَنِ اذْبَحْ بَقَرَةً فَاضْرِبْهُ بِبَعْضِهَا. فَذُكِرَ لَنَا أَنَّ وَلَيَّهُ الَّذِي كَانَ يَطْلُبُ بِدَمِهِ هُوَ الَّذِي قَتَلَهُ، مِنْ أَجْلِ مِيرَاثٍ كَانَ بَيْنَهُمْ. حَدَّثَنِي ابْنُ سَعْدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي شَأْنِ الْبَقَرَةِ. وَذَلِكَ أَنَّ شَيْخًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى عَهْدِ مُوسَى كَانَ مُكْثِرًا مِنَ الْمَالِ وَكَانَ بَنُو أَخِيهِ فُقَرَاءَ لَا مَالَ لَهُمْ، وَكَانَ الشَّيْخُ لَا وَلَدَ لَهُ، وَكَانَ بَنُو أَخِيهِ وَرَثَتُهُ. فَقَالُوا: لَيْتَ عَمَّنَا قَدْ مَاتَ فَوَرِثْنَا مَالَهُ! وَإِنَّهُ لَمَّا تَطَاوَلَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَمُوتَ عَمُّهُمْ، أَتَاهُمُ الشَّيْطَانُ، فَقَالَ: هَلْ لَكَمَ إِلَى أَنْ تَقْتُلُوا عَمَّكُمْ، فَتَرِثُوا مَالَهُ، وَتُغَرِّمُوا أَهْلَ الْمَدِينَةِ الَّتِي لَسْتُمْ بِهَا دِيَتَهُ؟- وَذَلِكَ أَنَّهُمَا كَانَتَا مَدِينَتَيْنِ، كَانُوا فِي إِحْدَاهُمَا، فَكَانَ الْقَتِيلُ إِذَا قُتِلَ وَطُرِحَ بَيْنَ الْمَدِينَتَيْنِ، قِيسَ مَا بَيْنَ الْقَتِيلِ وَمَا بَيْنَ الْمَدِينَتَيْنِ، فَأَيُّهُمَا كَانَتْ أَقْرَبَ إِلَيْهِ غَرِمَتِ الدِّيَةَ- وَأَنَّهُمْ لَمَّا سَوَّلَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ ذَلِكَ، وَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَمُوتَ عَمُّهُمْ، عَمَدُوا إِلَيْهِ فَقَتَلُوهُ، ثُمَّ عَمَدُوا فَطَرَحُوهُ عَلَى بَابِ الْمَدِينَةِ الَّتِي لَيْسُوا فِيهَا. فَلَمَّا أَصْبَحَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، جَاءَ بَنُو أَخِي الشَّيْخِ، فَقَالُوا: عَمُّنَا قُتِلَ عَلَى بَابِ مَدِينَتِكُمْ، فَوَاللَّهِ لَتَغْرُمُنَّ لَنَا دِيَةَ عَمِّنَا. قَالَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ: نُقْسِمُ بِاللَّهِ مَا قَتَلْنَا وَلَا عَلِمْنَا قَاتِلًا وَلَا فَتَحْنَا بَابَ مَدِينَتِنَا مُنْذُ أُغْلِقَ حَتَّى أَصْبَحْنَا. وَأَنَّهُمْ عَمَدُوا إِلَى مُوسَى، فَلَمَّا أَتَوْا قَالَ بَنُو أَخِي الشَّيْخِ: عَمُّنَا وَجَدْنَاهُ مَقْتُولًا عَلَى بَابِ مَدِينَتِهِمْ. وَقَالَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ: نُقْسِمُ بِاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ، وَلَا فَتَحْنَا بَابَ الْمَدِينَةِ مِنْ حِينِ أَغْلَقْنَاهُ حَتَّى أَصْبَحْنَا. وَأَنَّ جِبْرِيلَ جَاءَ بِأَمْرِ رَبِّنَا السَّمِيعِ الْعَلِيمِ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ: قُلْ لَهُمْ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً فَتَضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا حُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ- وَحَجَّاجٌ عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ- دَخْلَ حَدِيثُ بَعْضِهِمْ فِي حَدِيثِ بَعْضٍ، قَالُوا: إِنَّ سِبْطًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، لَمَّا رَأَوْا كَثْرَةَ شُرُورِ النَّاسِ، بَنَوْا مَدِينَةً فَاعْتَزَلُوا شُرُورَ النَّاسِ، فَكَانُوا إِذَا أَمْسَوْا لَمْ يَتْرُكُوا أَحَدًا مِنْهُمْ خَارِجًا إِلَّا أَدْخَلُوهُ، وَإِذَا أَصْبَحُوا قَامَ رَئِيسُهُمْ فَنَظَرَ وَتَشَرَّفَ، فَإِذَا لَمْ يَرَ شَيْئًا فَتَحَ الْمَدِينَةِ، فَكَانُوا مَعَ النَّاسِ حَتَّى يُمْسُوا. وَكَانَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ غَيْرَ ابْنِ أَخِيهِ، فَطَالَ عَلَيْهِ حَيَاتُهُ، فَقَتَلَهُ لِيَرِثَهُ، ثُمَّ حَمَلَهُ فَوَضَعَهُ عَلَى بَابِ الْمَدِينَةِ، ثُمَّ كَمَنْ فِي مَكَانٍ هُوَ وَأَصْحَابُهُ. قَالَ: فَتَشَرَّفَ رَئِيسُ الْمَدِينَةِ عَلَى بَابِ الْمَدِينَةِ، فَنَظَرَ فَلَمْ يَرَ شَيْئًا. فَفَتَحَ الْبَابَ، فَلَمَّا رَأَى الْقَتِيلَ رَدَّ الْبَابَ: فَنَادَاهُ ابْنُ أَخِي الْمَقْتُولِ وَأَصْحَابُهُ: هَيْهَاتَ! قَتَلْتُمُوهُ ثُمَّ تَرُدُّونَ الْبَابَ؟ وَكَانَ مُوسَى لَمَّا رَأَى الْقَتْلَ كَثِيرًا فِي أَصْحَابِهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، كَانَ إِذَا رَأَى الْقَتِيلَ بَيْنَ ظَهْرَيِ الْقَوْمِ أَخَذَهُمْ. فَكَادَ يَكُونُ بَيْنَ أَخِي الْمَقْتُولِ وَبَيْنَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ قِتَالٌ، حَتَّى لَبِسَ الْفَرِيقَانِ السِّلَاحَ، ثُمَّ كَفَّ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ. فَأَتَوْا مُوسَى فَذَكَرُوا لَهُ شَأْنَهُمْ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هَؤُلَاءِ قَتَلُوا قَتِيلًا ثُمَّ رَدُّوا الْبَابَ. وَقَالَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ عَرَفْتَ اعْتِزَالَنَا الشُّرُورَ، وَبَنَيْنَا مَدِينَةً- كَمَا رَأَيْتَ- نَعْتَزِلُ شُرُورَ النَّاسِ، مَا قَتَلْنَا وَلَا عَلِمْنَا قَاتِلًا. فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ إِلَيْهِ: أَنْ يَذْبَحُوا بَقَرَةً، فَقَالَ لَهُمْ مُوسَى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ عَبِيدَةَ قَالَ: كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ عَقِيمٌ وَلَهُ مَالٌ كَثِيرٌ، فَقَتَلَهُ ابْنُ أَخٍ لَهُ، فَجَرَّهُ فَأَلْقَاهُ عَلَى بَابِ نَاسٍ آخَرِينَ. ثُمَّ أَصْبَحُوا، فَادَّعَاهُ عَلَيْهِمْ، حَتَّى تَسَلَّحَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ، فَأَرَادُوا أَنْ يَقْتَتِلُوا، فَقَالَ، ذَوُو النُّهَى مِنْهُمْ: أَتَقْتَتِلُونَ وَفِيكُمْ نَبِيُّ اللَّهِ؟ فَأَمْسَكُوا حَتَّى أَتَوْا مُوسَى، فَقَصُّوا عَلَيْهِ الْقِصَّةَ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَذْبَحُوا بَقَرَةً فَيَضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا، فَقَالُوا: أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا؟ قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: قَتِيلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، طُرِحَ فِي سِبْطٍ مِنَ الْأَسْبَاطِ، فَأَتَى أَهْلُ ذَلِكَ السِّبْطِ إِلَى ذَلِكَ السِّبْطِ فَقَالُوا: أَنْتُمْ وَاللَّهِ قَتَلْتُمْ صَاحِبَنَا. فَقَالُوا: لَا وَاللَّهِ. فَأَتَوْا إِلَى مُوسَى فَقَالُوا: هَذَا قَتِيلُنَا بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، وَهُمْ وَاللَّهِ قَتَلُوهُ. فَقَالُوا: لَا وَاللَّهِ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، طُرِحَ عَلَيْنَا. فَقَالَ لَهُمْ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَكَانَ اخْتِلَافُهُمْ وَتَنَازُعُهُمْ وَخِصَامُهُمْ بَيْنَهُمْ- فِي أَمْرِ الْقَتِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَا أَمْرَهُ، عَلَى مَا رَوَيْنَا مِنْ عُلَمَائِنَا مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ- هُوَ "الدَّرْء" الَّذِي قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِذُرِّيَّتِهِمْ وَبَقَايَا أَوْلَادِهِمْ: {فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ}.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ}، وَاللَّهُ مُعْلِنٌ مَا كُنْتُمْ تُسِرُّونَهُ مِنْ قَتْلِ الْقَتِيلِ الَّذِي قَتَلْتُمْ، ثُمَّ ادَّارَأْتُمْ فِيهِ. وَمَعْنَى "الْإِخْرَاج"- فِي هَذَا الْمَوْضِعِ- الْإِظْهَارُ وَالْإِعْلَانُ لِمَنْ خَفِيَ ذَلِكَ عَنْهُ، وَإِطْلَاعُهُمْ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النَّمْلِ: 25] يَعْنِي بِذَلِكَ: يُظْهِرُهُ وَيُطْلِعُهُ مِنْ مَخْبَئِهِ بَعْدَ خَفَائِهِ. وَالَّذِي كَانُوا يَكْتُمُونَهُ فَأَخْرَجَهُ، هُوَ قَتْلُ الْقَاتِلِ الْقَتِيلَ. لَمَّا كَتَمَ ذَلِكَ الْقَاتِلُ وَمَنْ عَلِمَهُ مِمَّنْ شَايَعَهُ عَلَى ذَلِكَ، حَتَّى أَظْهَرَهُ اللَّهُ وَأَخْرَجَهُ، فَأَعْلَنَ أَمْرَهُ لِمَنْ لَا يَعْلَمُ أَمْرَهُ. وَعَنَى جَلَّ ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: (تَكْتُمُونَ)، تُسِرُّونَ وَتَغِيبُونَ، كَمَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ}، قَالَ: تُغَيِّبُونَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: (مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ)، مَا كُنْتُمْ تُغَيِّبُونَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي جَلَّ ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: فَقُلْنَا لِقَوْمِ مُوسَى الَّذِينَ ادَّارَءُوا فِي الْقَتِيلِ- الَّذِي قَدْ تَقَدَّمَ وَصْفُنَا أَمْرَهُ-: اضْرِبُوا الْقَتِيلَ. وَ" الْهَاءُ " الَّتِي فِي قَوْلِهِ: (اضْرِبُوهُ) مِنْ ذِكْرِ الْقَتِيلِ؛ (بِبَعْضِهَا) أَيْ: بِبَعْضِ الْبَقَرَةِ الَّتِي أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِذَبْحِهَا فَذَبَحُوهَا. ثُمَّاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْبَعْضِ الَّذِي ضُرِبَ بِهِ الْقَتِيلُ مِنَ الْبَقَرَةِ، وَأَيُّ عُضْوٍ كَانَ ذَلِكَ مِنْهَا. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: ضَرَبَ بِفَخِذِ الْبَقَرَةِ الْقَتِيلَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: ضَرَبَ بِفَخِذِ الْبَقَرَةِ فَقَامَ حَيًّا، فَقَالَ: قَتَلَنِي فُلَانٌ. ثُمَّ عَادَ فِي مِيتَتِهِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: ضَرَبَ بِفَخِذِ الْبَقَرَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ، حَدَّثَنَا جَابِرُ بْنُ نُوحٍ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ عَرَبِيٍّ، عَنْ عِكْرِمَةَ: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا}، قَالَ: بِفَخِذِهَا، فَلَمَّا ضُرِبَ بِهَا عَاشَ، وَقَالَ: قَتَلَنِي فُلَانٌ. ثُمَّ عَادَ إِلَى حَالِهِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: ضَرَبَ بِفَخِذِهَا الرَّجُلَ، فَقَامَ حَيًّا فَقَالَ: قَتَلَنِي فُلَانٌ. ثُمَّ عَادَ فِي مِيتَتِهِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ قَالَ، قَالَ أَيُّوبٌ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ عَبِيدَةَ: ضَرَبُوا الْمَقْتُولَ بِبَعْضِ لَحْمِهَا- وَقَالَ مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ-: ضَرَبُوهُ بِلَحْمِ الْفَخِذِ فَعَاشَ، فَقَالَ: قَتَلَنِي فُلَانٌ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُمْ ضَرَبُوهُ بِفَخِذِهَا، فَأَحْيَاهُ اللَّهُ فَأَنْبَأَ بِقَاتِلِهِ الَّذِي قَتَلَهُ، وَتَكَلَّمَ ثُمَّ مَاتَ. وَقَالَ آخَرُونَ: الَّذِي ضُرِبَ بِهِ مِنْهَا هُوَ الْبِضْعَةُ الَّتِي بَيْنَ الْكَتِفَيْنِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا}، فَضَرَبُوهُ بِالْبِضْعَةِ الَّتِي بَيْنَ الْكَتِفَيْنِ فَعَاشَ، فَسَأَلُوهُ: مَنْ قَتَلَكَ؟ فَقَالَ لَهُمُ: ابْنُ أَخِي. وَقَالَ آخَرُونَ: الَّذِي أُمِرُوا أَنْ يَضْرِبُوهُ بِهِ مِنْهَا، عَظْمٌ مِنْ عِظَامِهَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: أَمَرَهُمْ مُوسَى أَنْ يَأْخُذُوا عَظْمًا مِنْهَا فَيَضْرِبُوا بِهِ الْقَتِيلَ. فَفَعَلُوا، فَرَجَعَ إِلَيْهِ رُوحُهُ، فَسَمَّى لَهُمْ قَاتِلَهُ، ثُمَّ عَادَ مَيْتًا كَمَا كَانَ. فَأُخِذَ قَاتِلُهُ، وَهُوَ الَّذِي أَتَى مُوسَى فَشَكَا إِلَيْهِ، فَقَتَلَهُ اللَّهُ عَلَى أَسْوَإِ عَمَلِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا: حَدَّثَنِي بِهِ يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: ضَرَبُوا الْمَيِّتَ بِبَعْضِ آرَابِهَا فَإِذَا هُوَ قَاعِدٌ- قَالُوا: مَنْ قَتَلَكَ؟ قَالَ: ابْنُ أَخِي. قَالَ: وَكَانَ قَتَلَهُ وَطَرَحَهُ عَلَى ذَلِكَ السِّبْطِ، أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ دِيَتَهُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ عِنْدَنَا: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا}، أَنْ يُقَالَ: أَمَرَهُمُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنْ يَضْرِبُوا الْقَتِيلَ بِبَعْضِ الْبَقَرَةِ لِيَحْيَا الْمَضْرُوبُ. وَلَا دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ، وَلَا [فِي] خَبَرٍ تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ، عَلَى أَيِّ أَبْعَاضِهَا الَّتِي أُمِرَ الْقَوْمُ أَنْ يَضْرِبُوا الْقَتِيلَ بِهِ. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الَّذِي أُمِرُوا أَنْ يَضْرِبُوهُ بِهِ هُوَ الْفَخِذُ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الذَّنَبَ وَغُضْرُوفَ الْكَتِفِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَبْعَاضِهَا. وَلَا يَضُرُّ الْجَهْلُ بِأَيِّ ذَلِكَ ضَرَبُوا الْقَتِيلَ، وَلَا يَنْفَعُ الْعِلْمُ بِهِ، مَعَ الْإِقْرَارِ بِأَنَّ الْقَوْمَ قَدْ ضَرَبُوا الْقَتِيلَ بِبَعْضِ الْبَقَرَةِ بَعْدَ ذَبْحِهَا فَأَحْيَاهُ اللَّهُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَمَا كَانَ مَعْنَى الْأَمْرِ بِضَرْبِ الْقَتِيلِ بِبَعْضِهَا؟ قِيلَ: لِيَحْيَا فَيُنْبِئُ نَبِيَّ اللَّهِ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالَّذِينَ ادَّارَءُوا فِيهِ- مَنْ قَاتِلُهُ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَأَيْنَ الْخَبَرُ عَنْ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ لِذَلِكَ؟ قِيلَ: تُرِكَ ذَلِكَ اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْكَلَامِ الدَّالِّ عَلَيْهِ- نَحْوَ الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ نَظَائِرَ ذَلِكَ فِيمَا مَضَى. وَمَعْنَى الْكَلَامِ: فَقُلْنَا: اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا لِيَحْيَا، فَضَرَبُوهُ فَحَيِيَ- كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ} [الشُّعَرَاءِ: 63]، وَالْمَعْنَى: فَضَرَبَ فَانْفَلَقَ- دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: {كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَوْلُهُ: {كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى}، مُخَاطَبَةٌ مِنَ اللَّهِ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ، وَاحْتِجَاجٌ مِنْهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ بِالْبَعْثِ، وَأَمَرَهُمْ بِالِاعْتِبَارِ بِمَا كَانَ مِنْهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ مِنْ إِحْيَاءِ قَتِيلِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ مَمَاتِهِ فِي الدُّنْيَا. فَقَالَ لَهُمْ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أَيُّهَا الْمُكَذِّبُونَ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَمَاتِ اعْتَبِرُوا بِإِحْيَائِي هَذَا الْقَتِيلَ بَعْدَ مَمَاتِهِ، فَإِنِّي كَمَا أَحْيَيْتُهُ فِي الدُّنْيَا، فَكَذَلِكَ أُحْيِي الْمَوْتَى بَعْدَ مَمَاتِهِمْ، فَأَبْعَثُهُمْ يَوْمَ الْبَعْثِ. وَإِنَّمَا احْتَجَّ جَلَّ ذِكْرُهُ بِذَلِكَ عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَهُمْ قَوْمٌ أُمِّيُّونَ لَا كِتَابَ لَهُمْ، لِأَنَّ الَّذِينَ كَانُوا يَعْلَمُونَ عِلْمَ ذَلِكَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، وَفِيهِمْ نَـزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ، فَأَخْبَرَهُمْ جَلَّ ذِكْرُهُ بِذَلِكَ، لِيَتَعَرَّفُوا عِلْمَ مَنْ قَبْلَهُمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي جَلَّ ذِكْرُهُ: وَيُرِيكُمُ اللَّهُ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ الْمُكَذِّبُونَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ- مِنْ آيَاتِهِ وَآيَاتُهُ: أَعْلَامُهُ وَحُجَجُهُ الدَّالَّةُ عَلَى نُبُوَّتِهِ لِتَعْقِلُوا وَتَفْهَمُوا أَنَّهُ مُحِقٌّ صَادِقٌ، فَتُؤْمِنُوا بِهِ وَتَتَّبِعُوهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ كُفَّارَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهُمْ- فِيمَا ذُكِرَ- بَنُو أَخِي الْمَقْتُولِ، فَقَالَ لَهُمْ: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ): أَيْ جَفَّتْ وَغَلُظَتْ وَعَسَتْ، كَمَا قَالَ الرَّاجِزُ: وَقَدْ قَسَوْتُ وَقَسَا لِدَاتِي *** يُقَالُ: "قَسَا" وَ"عَسَا" وَ"عَتَا" بِمَعْنَى وَاحِدٍ، وَذَلِكَ إِذَا جَفَا وَغَلُظَ وَصَلُبَ. يُقَالُ: مِنْهُ: قَسَا قَلْبُهُ يَقْسُو قَسْوًا وَقَسْوَةً وَقَسَاوَةً وقَسَاءً. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: (مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ)، مِنْ بَعْدِ أَنْ أَحْيَا الْمَقْتُولَ لَهُمُ الَّذِي- ادَّارَءُوا فِي قَتْلِهِ، فَأَخْبَرَهُمْ بِقَاتِلِهِ، وَبِالسَّبَبِ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ قَتَلَهُ، كَمَا قَدْ وَصَفْنَا قَبْلُ عَلَى مَا جَاءَتِ الْآثَارُ وَالْأَخْبَارُ- وَفَصَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِخَبَرِهِ بَيْنَ الْمُحِقِّ مِنْهُمْ وَالْمُبْطِلِ. وَكَانَتْ قَسَاوَةُ قُلُوبِهِمُ الَّتِي وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِهَا، أَنَّهُمْ- فِيمَا بَلَغَنَا- أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونُوا هُمْ قَتَلُوا الْقَتِيلَ الَّذِي أَحْيَاهُ اللَّهُ، فَأَخْبَرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا قَتَلَتَهُ، بَعْدَ إِخْبَارِهِ إِيَّاهُمْ بِذَلِكَ، وَبَعْدَ مِيتَتِهِ الثَّانِيَةِ، كَمَا: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ، حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا ضُرِبَ الْمَقْتُولُ بِبَعْضِهَا- يَعْنِي بِبَعْضِ الْبَقَرَةِ- جَلَسَ حَيًّا، فَقِيلَ لَهُ: مَنْ قَتَلَكَ؟ فَقَالَ: بَنُو أَخِي قَتَلُونِي. ثُمَّ قُبِضَ فَقَالَ بَنُو أَخِيهِ حِينَ قُبِضَ: وَاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ! فَكَذَّبُوا بِالْحَقِّ بَعْدَ إِذْ رَأَوْهُ، فَقَالَ اللَّهُ: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ}- يَعْنِي بَنِي أَخِي الشَّيْخِ- {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً}. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ}، يَقُولُ: مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاهُمُ اللَّهُ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَبَعْدَ مَا أَرَاهُمْ مِنْ أَمْرِ الْقَتِيلِ- مَا أَرَاهُمْ، " فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً".
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ: (فَهِيَ): (قُلُوبَكُمْ). يَقُولُ: ثُمَّ صَلُبَتْ قُلُوبُكُمْ- بَعْدَ إِذْ رَأَيْتُمُ الْحَقَّ فَتَبَيَّنْتُمُوهُ وَعَرَفْتُمُوهُ- عَنِ الْخُضُوعِ لَهُ وَالْإِذْعَانِ لِوَاجِبِ حَقِّ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، فَقُلُوبُكُمْ كَالْحِجَارَةِ صَلَابَةً وَيُبْسًا وَغِلَظًا وَشِدَّةً، أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً"، يَعْنِي: قُلُوبُهُمْ- عَنِ الْإِذْعَانِ لِوَاجِبِ حَقِّ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَالْإِقْرَارِ لَهُ بِاللَّازِمِ مِنْ حُقُوقِهِ لَهُمْ- أَشَدُّ صَلَابَةً مِنَ الْحِجَارَةِ. فَإِنْ سَأَلَ سَائِلٌ فَقَالَ: وَمَا وَجْهُ قَوْلِهِ: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً}، وَ" أَوْ " عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ، إِنَّمَا تَأْتِي فِي الْكَلَامِ لِمَعْنَى الشَّكِّ، وَاللَّهُ تَعَالَى جَلَّ ذِكْرُهُ غَيْرُ جَائِزٍ فِي خَبَرِهِ الشَّكُّ؟ قِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي تَوَهَّمْتَهُ، مِنْ أَنَّهُ شَكٌّ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ فِيمَا أَخْبَرَ عَنْهُ، وَلَكِنَّهُ خَبَرٌ مِنْهُ عَنْ قُلُوبِهِمُ الْقَاسِيَةِ، أَنَّهَا- عِنْدَ عِبَادِهِ الَّذِينَ هُمْ أَصْحَابُهَا، الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ بَعْدَ مَا رَأَوُا الْعَظِيمَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ- كَالْحِجَارَةِ قَسْوَةً أَوْ أَشَدُّ مِنَ الْحِجَارَةِ، عِنْدَهُمْ وَعِنْدَ مَنْ عَرَفَ شَأْنَهُمْ. وَقَدْ قَالَ فِي ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ أَقْوَالًا فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا أَرَادَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً}، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأَخْبَارِ الَّتِي تَأْتِي بِ " أَوْ"، كَقَوْلِهِ: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصَّافَّاتِ: 147]، وَكَقَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [سَبَأٍ: 24] [الْإِبْهَامُ عَلَى مَنْ خَاطَبَهُ] فَهُوَ عَالِمٌ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ. قَالُوا: وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُ الْقَائِلِ: أَكَلْتُ بُسْرَةً أَوْ رَطْبَةً، وَهُوَ عَالِمٌ أَيَّ ذَلِكَ أَكَلَ، وَلَكِنَّهُ أَبْهَمَ عَلَى الْمُخَاطَبِ، كَمَا قَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ: أُحِبُّ مُحَمَّدًا حُبًّا شَدِيدًا *** وَعَبَّاسًا وَحَمْزَةَ وَالْوَصِيَّا فَإِنْ يَكُ حُبُّهُمْ رُشْدًا أُصِبْهُ *** وَلَسْتُ بِمُخْطِئٍ إِنْ كَانَ غَيَّا قَالُوا: وَلَا شَكَّ أَنَّ أَبَا الْأَسْوَدِ لَمْ يَكُنْ شَاكًّا فِي أَنَّ حُبَّ مَنْ سَمَّى- رُشْدٌ، وَلَكِنَّهُ أَبْهَمَ عَلَى مَنْ خَاطَبَهُ بِهِ. وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ هَذِهِ الْأَبْيَاتَ قِيلَ لَهُ: شَكَكْتَ! فَقَالَ: كَلَّا وَاللَّهِ! ثُمَّ انْتَزَعَ بِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}، فَقَالَ: أَوَكَانَ شَاكًّا- مَنْ أَخْبَرَ بِهَذَا- فِي الْهَادِي مِنَ الضَّلَالِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: ذَلِكَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: (مَا أَطْعَمْتُكَ إِلَّا حُلْوًا أَوْ حَامِضًا)، وَقَدْ أُطْعَمَهُ النَّوْعَيْنِ جَمِيعًا. فَقَالُوا: فَقَائِلُ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ شَاكًّا أَنَّهُ قَدْ أَطْعَمَ صَاحِبَهُ الْحُلْوَ وَالْحَامِضَ كِلَيْهِمَا، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ الْخَبَرَ عَمَّا أَطْعَمَهُ إِيَّاهُ أَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ. قَالُوا: فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً}، إِنَّمَا مَعْنَاهُ: فَقُلُوبُهُمْ لَا تَخْرُجُ مِنْ أَحَدِ هَذَيْنِ الْمَثَلَيْنِ، إِمَّا أَنْ تَكُونَ مَثَلًا لِلْحِجَارَةِ فِي الْقَسْوَةِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ أَشَدَّ مِنْهَا قَسْوَةً. وَمَعْنَى ذَلِكَ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ: فَبَعْضُهَا كَالْحِجَارَةِ قَسْوَةً، وَبَعْضُهَا أَشَدُّ قَسْوَةً مِنَ الْحِجَارَةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: (أَو) فِي قَوْلِهِ: {أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً}، بِمَعْنَى، وَأَشَدُّ قَسْوَةً، كَمَا قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الْإِنْسَانِ: 24] بِمَعْنَى: وَكَفُورًا، وَكَمَا قَالَ جَرِيرُ بْنُ عَطِيَّةَ: نَالَ الْخِلَافَةَ أَوْ كَانَتْ لَهُ قَدَرًا *** كَمَا أَتَى رَبَّهُ مُوسَى عَلَى قَدَرِ يَعْنِي: نَالَ الْخِلَافَةَ، وَكَانَتْ لَهُ قَدَرًا، وَكَمَا قَالَ النَّابِغَةُ: قَالَتْ: أَلَا لَيْتَمَا هَذَا الْحَمَامُ لَنَا *** إِلَى حَمَامَتِنَا أَوْ نِصْفُهُ فَقَدِ يُرِيدُ. وَنَصِفُهُ وَقَالَ آخَرُونَ: (أَو) فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِمَعْنَى " بَلْ"، فَكَانَ تَأْوِيلُهُ عِنْدَهُمْ: فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ بَلْ أَشَدُّ قَسْوَةً، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصَّافَّاتِ: 147]، بِمَعْنَى: بَلْ يَزِيدُونَ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ، أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً عِنْدَكُمْ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَلِكُلٍّ مِمَّا قِيلَ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الَّتِي حَكَيْنَا وَجْهٌ وَمَخْرَجٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. غَيْرَ أَنَّ أَعْجَبَ الْأَقْوَالِ إِلَيَّ فِي ذَلِكَ مَا قُلْنَاهُ أَوَّلًا ثُمَّ الْقَوْلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَمَّنْ وَجَّهَ ذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ بِمَعْنَى: فَهِيَ أَوْجُهٌ فِي الْقَسْوَةِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ كَالْحِجَارَةِ، أَوْ أَشَدُّ، عَلَى تَأْوِيلِ أَنَّ مِنْهَا كَالْحِجَارَةِ، وَمِنْهَا أَشَدُّ قَسْوَةً. لِأَنَّ "أَوْ"، وَإِنِ اسْتُعْمِلَتْ فِي أَمَاكِنٍ مِنْ أَمَاكِن" الْوَاوِ "حَتَّى يَلْتَبِسَ مَعْنَاهَا وَمَعْنَى" الْوَاوِ"، لِتَقَارُبِ مَعْنَيَيْهِمَا فِي بَعْضِ تِلْكَ الْأَمَاكِنِ- فَإِنَّ أَصْلَهَا أَنْ تَأْتِيَ بِمَعْنَى أَحَدِ الِاثْنَيْنِ. فَتَوْجِيهُهَا إِلَى أَصْلِهَا- مَا وَجَدْنَا إِلَى ذَلِكَ سَبِيلًا أَعْجَبُ إِلَيَّ مِنْ إِخْرَاجِهَا عَنْ أَصْلِهَا، وَمَعْنَاهَا الْمَعْرُوفِ لَهَا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَمَّا الرَّفْعُ فِي قَوْلِهِ: (أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى مَعْنَى "الْكَاف" فِي قَوْلِهِ: (كَالْحِجَارَةِ)، لِأَنَّ مَعْنَاهَا الرَّفْعُ. وَذَلِكَ أَنَّ مَعْنَاهَا مَعْنَى " مِثْلِ"، [فَيَكُونُ تَأْوِيلُهُ] فَهِيَ مِثْلُ الْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً مِنَ الْحِجَارَةِ. وَالْوَجْهُ الْآخَرِ: أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا، عَلَى مَعْنَى تَكْرِيرِ "هِي" عَلَيْهِ. فَيَكُونُ تَأْوِيلُ ذَلِكَ: فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ، أَوْ هِيَ أَشَدُّ قَسْوَةً مِنَ الْحِجَارَةِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ}: وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ حِجَارَةٌ يَتَفَجَّرُ مِنْهَا الْمَاءُ الَّذِي تَكُونُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ، فَاسْتَغْنَى بِذِكْرِ الْأَنْهَارِ عَنْ ذِكْرِ الْمَاءِ. وَإِنَّمَا ذَكَرَ فَقَالَ "مِنْهُ"، لِلَّفْظ" مَا". وَ "التَّفَجُّرُ ": " التَّفَعُّلُ "مِن" تَفَجَّرَ الْمَاءُ"، وَذَلِكَ إِذَا تَنَـزَّلَ خَارِجًا مِنْ مَنْبَعِهِ. وَكُلُّ سَائِلٍ شَخَصَ خَارِجًا مِنْ مَوْضِعِهِ وَمَكَانِهِ، فَقَدِ " انْفَجَرَ"، مَاءً كَانَ ذَلِكَ أَوْ دَمًا أَوْ صَدِيدًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، وَمِنْهُ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ لَجَأَ: وَلَمَّا أَنْ قُرِنْتُ إِلَى جَرِيرٍ *** أَبَى ذُو بَطْنِهِ إِلَّا انْفِجَارَا يَعْنِي: إِلَّا خُرُوجًا وَسَيَلَانًا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ"، وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَحِجَارَةٌ يَشَّقَّقُ. وَتَشَقُّقُهَا: تَصَدُّعُهَا. وَإِنَّمَا هِيَ: لِمَا يَتَشَقَّقُ، وَلَكِنَّ التَّاءَ أُدْغِمَتْ فِي الشِّينِ فَصَارَتْ شِينًا مُشَدَّدَةً. وَقَوْلُهُ: {فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ} فَيَكُونُ عَيْنًا نَابِعَةً وَأَنْهَارًا جَارِيَةً.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَهْبِطُ- أَيْ يَتَرَدَّى مِنْ رَأْسِ الْجَبَلِ إِلَى الْأَرْضِ وَالسَّفْحِ- مِنْ خَوْفِ اللَّهِ وَخَشْيَتِهِ. وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى مَعْنَى "الْهُبُوط" فِيمَا مَضَى، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأُدْخِلَتْ هَذِهِ "اللَّامَات" اللَّوَاتِي فِي " مَا"، تَوْكِيدًا لِلْخَبَرِ. وَإِنَّمَا وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ الْحِجَارَةَ بِمَا وَصَفَهَا بِهِ- مِنْ أَنَّ مِنْهَا الْمُتَفَجِّرَ مِنْهُ الْأَنْهَارُ، وَأَنَّ مِنْهَا الْمُتَشَقِّقَ بِالْمَاءِ، وَأَنَّ مِنْهَا الْهَابِطَ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، بَعْدَ الَّذِي جَعَلَ مِنْهَا لِقُلُوبِ الَّذِينَ أَخْبَرَ عَنْ قَسْوَةِ قُلُوبِهِمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَثَلًا- مَعْذِرَةً مِنْهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَهَا، دُونَ الَّذِينَ أَخْبَرَ عَنْ قَسْوَةِ قُلُوبِهِمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ كَانُوا بِالصِّفَةِ الَّتِي وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِهَا مِنَ التَّكْذِيبِ لِرُسُلِهِ، وَالْجُحُودِ لِآيَاتِهِ، بَعْدَ الَّذِي أَرَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ وَالْعِبَرِ، وَعَايَنُوا مِنْ عَجَائِبِ الْأَدِلَّةِ وَالْحُجَجِ، مَعَ مَا أَعْطَاهُمْ تَعَالَى ذِكْرُهُ مِنْ صِحَّةِ الْعُقُولِ، وَمَنَّ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ سَلَامَةِ النُّفُوسِ الَّتِي لَمْ يُعْطِهَا الْحَجَرَ وَالْمَدَرَ، ثُمَّ هُوَ مَعَ ذَلِكَ مِنْهُ مَا يَتَفَجَّرُ بِالْأَنْهَارِ، وَمِنْهُ مَا يَتَشَقَّقُ بِالْمَاءِ، وَمِنْهُ مَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، فَأَخْبَرَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ مَا هُوَ أَلْيَنُ مِنْ قُلُوبِهِمْ لِمَا يَدْعُونَ إِلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ، كَمَا: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}، قَالَ: كُلُّ حَجَرٍ يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْمَاءُ، أَوْ يَتَشَقَّقُ عَنْ مَاءٍ، أَوْ يَتَرَدَّى مِنْ رَأْسِ جَبَلٍ، فَهُوَ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، نَـزَلَ بِذَلِكَ الْقُرْآنُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} ثُمَّ عَذَرَ الْحِجَارَةَ وَلَمْ يَعْذُرْ شَقِيَّ ابْنِ آدَمَ. فَقَالَ: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ، حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ثُمَّ عَذَرَ اللَّهُ الْحِجَارَةَ فَقَالَ: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ}. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُ قَالَ فِيهَا كُلُّ حَجَرٍ انْفَجَرَ مِنْهُ مَاءٌ، أَوْ تَشَقَّقَ عَنْ مَاءٍ، أَوْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ، فَمِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ. نَـزَلَ بِهِ الْقُرْآنُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيمَعْنَى هُبُوطِ مَا هَبَطَ مِنَ الْحِجَارَةِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ هُبُوطَ مَا هَبَطَ مِنْهَا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تَفَيُّؤُ ظِلَالِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: ذَلِكَ الْجَبَلُ الَّذِي صَارَ دَكًّا إِذْ تَجَلَّى لَهُ رَبُّهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: ذَلِكَ كَانَ مِنْهُ وَيَكُونُ، بِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ذِكْرُهُ أَعْطَى بَعْضَ الْحِجَارَةِ الْمَعْرِفَةَ وَالْفَهْمَ، فَعَقَلَ طَاعَةَ اللَّهِ فَأَطَاعَهُ. كَالَّذِي رُوِيَ عَنِ الْجِذْعِ الَّذِي كَانَ يَسْتَنِدُ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا خَطَبَ، فَلَمَّا تَحَوَّلَ عَنْهُ حَنَّ. وَكَالَّذِي رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (إِنَّ حَجَرًا كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِنِّي لَأَعْرِفُهُ الْآنَ). وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ قَوْلُهُ: {يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} كَقَوْلِهِ: {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} وَلَا إِرَادَةَ لَهُ. قَالُوا وَإِنَّمَا أُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّهُ مَنْ عِظَمِ أَمْرِ اللَّهِ، يُرَى كَأَنَّهُ هَابِطٌ خَاشِعٌ مِنْ ذُلِّ خَشْيَةِ اللَّهِ، كَمَا قَالَ زَيْدُ الْخَيْلِ: بِجَمْعٍ تَضِلُّ الْبُلْقُ فِي حَجَرَاتِهِ *** تَرَى الْأُكْمَ مِنْهُ سُجَّدًا لِلْحَوَافِرِ وَكَمَا قَالَ سُوَيْدُ بْنُ أَبِي كَاهِلٍ يَصِفُ عَدُوًّا لَهُ: سَاجِدَ الْمَنْخِرِ لَا يَرْفَعُهُ *** خَاشِعَ الطَّرْفِ أَصَمُّ الْمُسْتَمَعْ يُرِيدُ أَنَّهُ ذَلِيلٌ. وَكَمَا قَالَ جَرِيرُ بْنُ عَطِيَّةَ: لَمَّا أَتَى خَبَرُ الرَّسُولِ تَضَعْضَعَتْ *** سُورُ الْمَدِينَةِ وَالْجِبَالُ الْخُشَّعُ وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: {يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}، أَيْ: يُوجِبُ الْخَشْيَةَ لِغَيْرِهِ، بِدَلَالَتِهِ عَلَى صَانِعِهِ، كَمَا قِيلَ: (نَاقَةٌ تَاجِرَةٌ)، إِذَا كَانَتْ مِنْ نَجَابَتِهَا وَفَرَاهَتِهَا تَدْعُو النَّاسَ إِلَى الرَّغْبَةِ فِيهَا، كَمَا قَالَ جَرِيرُ بْنُ عَطِيَّةَ: وَأَعْوَرُ مِنْ نَبْهَانَ، أَمَّا نَهَارُهُ *** فَأَعْمَى، وَأَمَّا لَيْلُهُ فَبَصِيرُ فَجَعَلَ الصِّفَةَ لِلَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَهُوَ يُرِيدُ بِذَلِكَ صَاحِبَهُ النَّبْهَانِيَّ الَّذِي يَهْجُوهُ، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ فِيهِمَا كَانَ مَا وَصَفَهُ بِهِ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ بَعِيدَاتِ الْمَعْنَى مِمَّا تَحْتَمِلُهُ الْآيَةُ مِنَ التَّأْوِيلِ، فَإِنَّ تَأْوِيلَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ مِنْ عُلَمَاءِ سَلَفِ الْأُمَّةِ بِخِلَافِهَا، فَلِذَلِكَ لَمْ نَسْتَجِزْ صَرْفَ تَأْوِيلِ الْآيَةِ إِلَى مَعْنَى مِنْهَا. وَقَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى عَلَى مَعْنَى " الْخَشْيَةِ"، وَأَنَّهَا الرَّهْبَةُ وَالْمَخَافَةُ، فَكَرِهْنَا إِعَادَةَ ذَلِكَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}، وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ- يَا مَعْشَرَ الْمُكَذِّبِينَ بِآيَاتِهِ، وَالْجَاحِدِينَ نُبُوَّةَ رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمُتَقَوِّلِينَ عَلَيْهِ الْأَبَاطِيلَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَحْبَارِ الْيَهُودِ- عَمَّا تَعْمَلُونَ مِنْ أَعْمَالِكُمُ الْخَبِيثَةِ، وَأَفْعَالِكُمُ الرَّدِيئَةِ، وَلَكِنَّهُ مُحْصِيهَا عَلَيْكُمْ، فَمُجَازِيكُمْ بِهَا فِي الْآخِرَةِ، أَوْ مُعَاقِبُكُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا. وَأَصْلُ "الْغَفْلَة" عَنِ الشَّيْءِ، تَرْكُهُ عَلَى وَجْهِ السَّهْوِ عَنْهُ، وَالنِّسْيَانِ لَهُ. فَأَخْبَرَهُمْ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَنَّهُ غَيْرُ غَافِلٍ عَنْ أَفْعَالِهِمُ الْخَبِيثَةِ، وَلَا سَاهٍ عَنْهَا، بَلْ هُوَ لَهَا مُحْصٍ، وَلَهَا حَافِظٌ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: (أَفَتَطْمَعُونَ) يَا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ، أَيْ: أَفَتَرْجُونَ يَا مَعْشَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمُصَدِّقِينَ مَا جَاءَكُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، أَنْ يُؤْمِنَ لَكُمْ يَهُودُ بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: (أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ)، أَنْ يُصَدِّقُوكُمْ بِمَا جَاءَكُمْ بِهِ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَمَّدٌ مِنْ عِنْدِ رَبِّكُمْ، كَمَا: حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ، عَنِ ابْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ فِي قَوْلِهِ {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ}، يَعْنِي أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، "أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُم" يَقُولُ: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنَ لَكُمُ الْيَهُودُ؟. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} الْآيَةُ، قَالَ: هُمُ الْيَهُودُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيل ِقَوْلِه تَعَالَى {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: أَمَّا "الْفَرِيق" فَجَمْعٌ، كَالطَّائِفَةِ، لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ. وَهُوَ "فَعِيل" مِنَ "التَّفَرُّق" سُمِّيَ بِهِ الْجِمَاعُ، كَمَا سُمِّيَتِ الْجَمَاعَةُ بِ "الْحِزْبِ"، مِن" التَّحَزُّبِ"، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَمِنْهُ قَوْلُ أَعْشَى بَنِي ثَعْلَبَةَ: أَجَدُّوا فَلَمَّا خِفْتُ أَنْ يَتَفَرَّقُوا *** فَرِيقَيْنِ، مِنْهُمْ مُصْعِدٌ وَمُصَوِّبُ يَعْنِي بِقَوْلِهِ: (مِنْهُمْ)، مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَإِنَّمَا جَعَلَ اللَّهُ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى عَهْدِ مُوسَى وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، مِنَ الْيَهُودِ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ لِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ}- لِأَنَّهُمْ كَانُوا آبَاءَهُمْ وَأَسْلَافَهُمْ، فَجَعَلَهُمْ مِنْهُمْ، إِذْ كَانُوا عَشَائِرَهُمْ وَفَرَطَهُمْ وَأَسْلَافَهُمْ، كَمَا يَذْكُرُ الرَّجُلُ الْيَوْمَ الرَّجُلَ، وَقَدْ مَضَى عَلَى مِنْهَاجِ الذَّاكِرِ وَطَرِيقَتِهِ. وَكَانَ مِنْ قَوْمِهِ وَعَشِيرَتِهِ، فَيَقُولُ: (كَانَ مِنَّا فُلَانٌ)، يَعْنِي أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَهْلِ طَرِيقَتِهِ أَوْ مَذْهَبِهِ، أَوْ مِنْ قَوْمِهِ وَعَشِيرَتِهِ. فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ}.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الَّذِينَ عَنَى اللَّهُ بِقَوْلِهِ: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}. فَقَالَ بَعْضُهُمْ بِمَا: حَدَّثَنِي بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}، فَالَّذِينَ يُحَرِّفُونَهُ وَالَّذِينَ يَكْتُمُونَهُ، هُمُ الْعُلَمَاءُ مِنْهُمْ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِنَحْوِهِ. حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ}، قَالَ: هِيَ التَّوْرَاةُ، حَرَّفُوهَا. حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ}، قَالَ: التَّوْرَاةُ الَّتِي أَنْـزَلَهَا عَلَيْهِمْ، يُحَرِّفُونَهَا، يَجْعَلُونَ الْحَلَالَ فِيهَا حَرَامًا، وَالْحَرَامَ فِيهَا حَلَالًا وَالْحَقَّ فِيهَا بَاطِلًا وَالْبَاطِلَ فِيهَا حَقًّا، إِذَا جَاءَهُمُ الْمُحِقُّ بِرِشْوَةٍ أَخْرَجُوا لَهُ كِتَابَ اللَّهِ، وَإِذَا جَاءَهُمُ الْمُبْطِلُ بِرِشْوَةٍ أَخْرَجُوا لَهُ ذَلِكَ الْكِتَابَ، فَهُوَ فِيهِ مُحِقٌّ. وَإِنْ جَاءَ أَحَدٌ يَسْأَلُهُمْ شَيْئًا لَيْسَ فِيهِ حَقٌّ وَلَا رِشْوَةٌ وَلَا شَيْءٌ، أَمَرُوهُ بِالْحَقِّ. فَقَالَ لَهُمْ: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الْبَقَرَةِ: 44]. وَقَالَ آخَرُونَ فِي ذَلِكَ بِمَا: حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ فِي قَوْلِهِ: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}، فَكَانُوا يَسْمَعُونَ مِنْ ذَلِكَ كَمَا يَسْمَعُ أَهْلُ النُّبُوَّةِ، ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ فِي قَوْلِهِ: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ} الْآيَةُ، قَالَ: لَيْسَ قَوْلُهُ: (يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ)، يَسْمَعُونَ التَّوْرَاةَ. كُلُّهُمْ قَدْ سَمِعَهَا، وَلَكِنَّهُمُ الَّذِينَ سَأَلُوا مُوسَى رُؤْيَةَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ فِيهَا. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: بَلَغَنِي عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُمْ قَالُوا لِمُوسَى: يَا مُوسَى، قَدْ حِيلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ رُؤْيَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَأَسْمِعْنَا كَلَامَهُ حِينَ يُكَلِّمُكَ. فَطَلَبَ ذَلِكَ مُوسَى إِلَى رَبِّهِ فَقَالَ: نَعَمْ، فَمُرْهُمْ فَلْيَتَطَهَّرُوا، وَلِيُطَهِّرُوا ثِيَابَهُمْ، وَيَصُومُوا. فَفَعَلُوا. ثُمَّ خَرَجَ بِهِمْ حَتَّى أَتَى الطُّورَ، فَلَمَّا غَشِيَهُمُ الْغَمَامُ أَمَرَهُمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ [أَنْ يَسْجُدُوا] فَوَقَعُوا سُجُودًا، وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ فَسَمِعُوا كَلَامَهُ، يَأْمُرُهُمْ وَيَنْهَاهُمْ، حَتَّى عَقَلُوا مَا سَمِعُوا. ثُمَّ انْصَرَفَ بِهِمْ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ. فَلَمَّا جَاءُوهُمْ حَرَّفَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ، وَقَالُوا حِينَ قَالَ مُوسَى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَمَرَكُمْ بِكَذَا وَكَذَا، قَالَ ذَلِكَ الْفَرِيقُ الَّذِي ذَكَرَهُمُ اللَّهُ: إِنَّمَا قَالَ كَذَا وَكَذَا- خِلَافًا لِمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ. فَهُمُ الَّذِينَ عَنَى اللَّهُ لِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْتُ بِالْآيَةِ، وَأَشْبَهُهُمَا بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ التِّلَاوَةِ، مَا قَالَهُ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَالَّذِي حَكَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ: مِنْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ إِنَّمَا عَنَى بِذَلِكَ مَنْ سَمِعَ كَلَامَهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، سَمَاعَ مُوسَى إِيَّاهُ مِنْهُ، ثُمَّ حَرَّفَ ذَلِكَ وَبَدَّلَ، مِنْ بَعْدِ سَمَاعِهِ وَعِلْمِهِ بِهِ وَفَهْمِهِ إِيَّاهُ. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِنَّمَا أَخْبَرَ أَنَّ التَّحْرِيفَ كَانَ مِنْ فَرِيقٍ مِنْهُمْ كَانُوا يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، اسْتِعْظَامًا مِنَ اللَّهِ لِمَا كَانُوا يَأْتُونَ مِنَ الْبُهْتَانِ، بَعْدَ تَوْكِيدِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ وَالْبُرْهَانِ، وَإِيذَانًا مِنْهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ قَطْعَ أَطْمَاعِهِمْ مِنْ إِيمَانِ بَقَايَا نَسْلِهِمْ بِمَا أَتَاهُمْ بِهِ مُحَمَّدٌ مِنَ الْحَقِّ وَالنُّورِ وَالْهُدَى، فَقَالَ لَهُمْ: كَيْفَ تَطْمَعُونَ فِي تَصْدِيقِ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ إِيَّاكُمْ وَإِنَّمَا تُخْبِرُونَهُمْ- بِالَّذِي تُخْبِرُونَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ- عَنْ غَيْبٍ لَمْ يُشَاهِدُوهُ وَلَمْ يُعَايِنُوهُ وَقَدْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَسْمَعُ مِنَ اللَّهِ كَلَامَهُ وَأَمْرَهُ وَنَهْيَهُ، ثُمَّ يُبَدِّلُهُ وَيُحَرِّفُهُ وَيَجْحَدُهُ، فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ مِنْ بَقَايَا نَسْلِهِمْ، أَحْرَى أَنْ يَجْحَدُوا مَا أَتَيْتُمُوهُمْ بِهِ مِنَ الْحَقِّ، وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَهُ مِنَ اللَّهِ، وَإِنَّمَا يَسْمَعُونَهُ مِنْكُمْ- وَأَقْرَبُ إِلَى أَنْ يُحَرِّفُوا مَا فِي كُتُبِهِمْ مِنْ صِفَةِ نَبِيِّكُمْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَعْتِهِ وَيُبَدِّلُوهُ، وَهُمْ بِهِ عَالِمُونَ، فَيَجْحَدُوهُ وَيُكَذِّبُوا- مِنْ أَوَائِلِهِمُ الَّذِينَ بَاشَرُوا كَلَامَ اللَّهِ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، ثُمَّ حَرَّفُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَعَلِمُوهُ مُتَعَمِّدِينَ التَّحْرِيفَ. وَلَوْ كَانَ تَأْوِيلُ الْآيَةِ عَلَى مَا قَالَهُ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُ عَنِيَ بِقَوْلِهِ: (يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ)، يَسْمَعُونَ التَّوْرَاةَ، لَمْ يَكُنْ لِذِكْرِ قَوْلِهِ: (يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ) مَعْنَى مَفْهُومٌ. لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ سَمِعَهُ الْمُحَرِّفُ مِنْهُمْ وَغَيْرُ الْمُحَرِّفِ، فَخُصُوصُ الْمُحَرِّفِ مِنْهُمْ بِأَنَّهُ كَانَ يَسْمَعُ كَلَامَ اللَّهِ- إِنْ كَانَ التَّأْوِيلُ عَلَى مَا قَالَهُ الَّذِينَ ذَكَرْنَا قَوْلَهُمْ- دُونَ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ كَانَ يَسْمَعُ ذَلِكَ سَمَاعَهُمْ لَا مَعْنَى لَهُ. فَإِنْ ظَنَّ ظَانٌّ [أَنَّهُ] إِنَّمَا صَلَحَ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ: (يُحَرِّفُونَهُ)، فَقَدْ أَغْفَلَ وَجْهَ الصَّوَابِ فِي ذَلِكَ. وَذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَقِيلَ: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يُحَرِّفُونَ كَلَامَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ. وَلَكِنَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَخْبَرَ عَنْ خَاصٍّ مِنَ الْيَهُودِ، كَانُوا أُعْطُوا- مِنْ مُبَاشَرَتِهِمْ سَمَاعَ كَلَامِ اللَّهِ- مَا لَمْ يُعْطَهُ أَحَدٌ غَيْرَ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ، ثُمَّ بَدَّلُوا وَحَرَّفُوا مَا سَمِعُوا مِنْ ذَلِكَ. فَلِذَلِكَ وَصَفَهُمْ بِمَا وَصَفَهُمْ بِهِ، لِلْخُصُوصِ الَّذِي كَانَ خُصَّ بِهِ هَؤُلَاءِ الْفَرِيقُ الَّذِي ذَكَرَهُمْ فِي كِتَابِهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: (ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ)، ثُمَّ يُبَدِّلُونَ مَعْنَاهُ وَتَأْوِيلَهُ وَيُغَيِّرُونَهُ. وَأَصْلُهُ مِنَ " انْحِرَافِ الشَّيْءِ عَنْ جِهَتِهِ"، وَهُوَ مَيْلُهُ عَنْهَا إِلَى غَيْرِهَا. فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: (يُحَرِّفُونَهُ) أَيْ يُمِيلُونَهُ عَنْ وَجْهِهِ وَمَعْنَاهُ الَّذِي هُوَ مَعْنَاهُ، إِلَى غَيْرِهِ. فَأَخْبَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا فَعَلُوا مِنْ ذَلِكَ عَلَى عِلْمٍ مِنْهُمْ بِتَأْوِيلِ مَا حَرَّفُوا، وَأَنَّهُ بِخِلَافِ مَا حَرَّفُوهُ إِلَيْهِ. فَقَالَ: {يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ}، يَعْنِي: مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوا تَأْوِيلَهُ، (وَهُمْ يَعْلَمُونَ)، أَيْ: يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ فِي تَحْرِيفِهِمْ مَا حَرَّفُوا مِنْ ذَلِكَ مُبْطِلُونَ كَاذِبُونَ. وَذَلِكَ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْ إِقْدَامِهِمْ عَلَى الْبُهْتِ، وَمُنَاصَبَتِهِمُ الْعَدَاوَةَ لَهُ وَلِرَسُولِهِ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّ بَقَايَاهُمْ- مِنْ مُنَاصَبَتِهِمُ الْعَدَاوَةَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَغْيًا وَحَسَدًا- عَلَى مَثَلِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ أَوَائِلُهُمْ مِنْ ذَلِكَ فِي عَصْرِ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيل ِقَوْلِه تَعَالَى {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: أَمَّا قَوْلُهُ: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا}، فَإِنَّهُ خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ عَنِ الَّذِينَ أَيْأَسَ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِيمَانِهِمْ- مِنْ يَهُودِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، الَّذِينَ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ- وَهُمُ الَّذِينَ إِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: آمَنَّا. يَعْنِي بِذَلِكَ: أَنَّهُمْ إِذَا لَقُوا الَّذِينَ صَدَّقُوا بِاللَّهِ وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، قَالُوا: آمَنَّا- أَيْ صَدَّقْنَا بِمُحَمَّدٍ وَبِمَا صَدَّقْتُمْ بِهِ، وَأَقْرَرْنَا بِذَلِكَ. أَخْبَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُمْ تَخَلَّقُوا بِأَخْلَاقِ الْمُنَافِقِينَ، وَسَلَكُوا مِنْهَاجَهُمْ، كَمَا: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ، حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ}، وَذَلِكَ أَنَّ نَفَرًا مِنَ الْيَهُودِ كَانُوا إِذَا لَقُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: آمَنَّا، وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا: أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ بِشْرِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا}، يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ مِنَ الْيَهُودِ، كَانُوا إِذَا لَقُوا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: آمَنَّا. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ قَوْلٌ آخَرٌ وَهُوَ مَا: حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا}، أَيْ: بِصَاحِبِكُمْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنَّهُ إِلَيْكُمْ خَاصَّةً. حَدَّثَنَا مُوسَى قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا} الْآيَةُ، قَالَ: هَؤُلَاءِ نَاسٌ مِنَ الْيَهُودِ، آمَنُوا ثُمَّ نَافَقُوا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ: {وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} أَيْ: إِذَا خَلَا بَعْضُ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ- الَّذِينَ وَصَفَ اللَّهُ صِفَتَهُمْ- إِلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ، فَصَارُوا فِي خَلَاءٍ مِنَ النَّاسِ غَيْرَهُمْ، وَذَلِكَ هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ غَيْرُهُمْ- "قَالُوا" يَعْنِي: قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ-: (أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ). ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: (بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ). فَقَالَ بَعْضُهُمْ بِمَا: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ بِشْرِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ}، يَعْنِي: بِمَا أَمَرَكُمُ اللَّهُ بِهِ. فَيَقُولُ الْآخَرُونَ: إِنَّمَا نَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَنَضْحَكُ. وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا}، أَيْ: بِصَاحِبِكُمْ رَسُولِ اللَّهِ، وَلَكِنَّهُ إِلَيْكُمْ خَاصَّةً، وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا: لَا تُحَدِّثُوا الْعَرَبَ بِهَذَا، فَإِنَّكُمْ قَدْ كُنْتُمْ تَسْتَفْتِحُونَ بِهِ عَلَيْهِمْ، فَكَانَ مِنْهُمْ. فَأَنْـزَلَ اللَّهُ: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ}، أَيْ: تُقِرُّونَ بِأَنَّهُ نَبِيٌّ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّهُ قَدْ أَخَذَ لَهُ الْمِيثَاقَ عَلَيْكُمْ بِاتِّبَاعِهِ، وَهُوَ يُخْبِرُهُمْ أَنَّهُ النَّبِيُّ الَّذِي كُنَّا نَنْتَظِرُ وَنَجِدُهُ فِي كِتَابِنَا؟ اجْحَدُوهُ وَلَا تُقِرُّوا لَهُمْ بِهِ. يَقُولُ اللَّهُ: {أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ}. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ: {أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ}، أَيْ بِمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فِي كِتَابِكُمْ مِنْ نَعْتِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ: {قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ}، أَيْ: بِمَا مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فِي كِتَابِكُمْ مِنْ نَعْتِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّكُمْ إِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ احْتَجُّوا بِهِ عَلَيْكُمْ، (أَفَلَا تَعْقِلُونَ). حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ}، لِيَحْتَجُّوا بِهِ عَلَيْكُمْ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنِي آدَمُ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ قَالَ، قَالَ قَتَادَةُ: {أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ}، يَعْنِي: بِمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ مِنْ أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَعْتِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ فِي ذَلِكَ بِمَا: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ} قَالَ: قَوْلُ يَهُودِ بَنِي قُرَيْظَةَ، حِينَ سَبَّهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُمْ إِخْوَةُ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ، قَالُوا: مَنْ حَدَّثَكَ؟ هَذَا حِينَ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ عَلِيًّا فَآذَوْا مُحَمَّدًا، فَقَالَ: يَا إِخْوَةَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ- إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: هَذَا، حِينَ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَآذَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: (اخْسَئُوا يَا إِخْوَةَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِير). حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ، أَخْبَرَنِي الْقَاسِمُ بْنُ أَبِي بَزَّةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ}، قَالَ: قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ قُرَيْظَةَ تَحْتَ حُصُونِهِمْ فَقَالَ: يَا إِخْوَانَ الْقِرَدَةِ، وَيَا إِخْوَانَ الْخَنَازِيرِ، وَيَا عَبَدَةَ الطَّاغُوتِ. فَقَالُوا: مَنْ أَخْبَرَ هَذَا مُحَمَّدًا؟ مَا خَرَجَ هَذَا إِلَّا مِنْكُمْ! {أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ}! بِمَا حَكَمَ اللَّهُ، لِلْفَتْحِ، لِيَكُونَ لَهُمْ حُجَّةً عَلَيْكُمْ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: هَذَا حِينَ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ عَلِيًّا فَآذَوْا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا: حَدَّثَنَا مُوسَى قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ}- مِنَ الْعَذَابِ- "لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُم" هَؤُلَاءِ نَاسٌ مِنَ الْيَهُودِ آمَنُوا ثُمَّ نَافَقُوا، فَكَانُوا يُحَدِّثُونَ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْعَرَبِ بِمَا عُذِّبُوا بِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ مِنَ الْعَذَابِ، لِيَقُولُوا نَحْنُ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْكُمْ، وَأَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْكُمْ؟ وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا: حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ}: قَالَ: كَانُوا إِذَا سُئِلُوا عَنِ الشَّيْءِ قَالُوا: أَمَا تَعْلَمُونَ فِي التَّوْرَاةِ كَذَا وَكَذَا؟ قَالُوا: بَلَى!- قَالَ: وَهُمْ يَهُودٌ- فَيَقُولُ لَهُمْ رُؤَسَاؤُهُمُ الَّذِينَ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِمْ: مَا لَكُمْ تُخْبِرُونَهُمْ بِالَّذِي أَنْـزَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ؟ أَفَلَا تَعْقِلُونَ؟ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يَدْخُلَنَّ عَلَيْنَا قَصَبَةَ الْمَدِينَةِ إِلَّا مُؤْمِنٌ. فَقَالَ رُؤَسَاؤُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ: اذْهَبُوا فَقُولُوا آمَنَّا، وَاكْفُرُوا إِذَا رَجَعْتُمْ. قَالَ: فَكَانُوا يَأْتُونَ الْمَدِينَةَ بِالْبُكَرِ وَيَرْجِعُونَ إِلَيْهِمْ بَعْدَ الْعَصْرِ وَقَرَأَ قَوْلَ اللَّهِ: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْـزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آلِ عِمْرَانَ: 72]. وَكَانُوا يَقُولُونَ إِذَا دَخَلُوا الْمَدِينَةَ: نَحْنُ مُسْلِمُونَ. لِيَعْلَمُوا خَبَرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَرَهُ، فَإِذَا رَجَعُوا رَجَعُوا إِلَى الْكُفْرِ. فَلَمَّا أَخْبَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِمْ، قَطَعَ ذَلِكَ عَنْهُمْ فَلَمْ يَكُونُوا يَدْخُلُونَ وَكَانَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ، فَيَقُولُونَ لَهُمْ: أَلَيْسَ قَدْ قَالَ اللَّهُ لَكُمْ كَذَا وَكَذَا؟ فَيَقُولُونَ: بَلَى! فَإِذَا رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ [يَعْنِي الرُّؤَسَاءَ]- قَالُوا: أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ"، الْآيَةَ. وَأَصْلُ "الْفَتْح" فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: النَّصْرُ وَالْقَضَاءُ، وَالْحُكْمُ. يُقَالُ مِنْهُ: (اللَّهُمَّ افْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَ فُلَانٍ)، أَيِ احْكُمْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَلَا أَبْلِغْ بَنِي عُصْمٍ رَسُولًا *** بِأَنِّي عَنْ فُتَاحَتِكُمْ غَنِيٌّ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: قَالَ: وَيُقَالُ لِلْقَاضِي: (الْفَتَّاح) وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الْأَعْرَافِ: 89] أَيِ احْكُمْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ. فَإِذَا كَانَ مَعْنَى الْفَتْحِ مَا وَصَفْنَا، تَبَيَّنَ أَنَّمَعْنَى قَوْلِهِ: {قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ}إِنَّمَا هُوَ أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا حَكَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْكُمْ، وَقَضَاهُ فِيكُمْ؟ وَمِنْ حُكْمِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَلَيْهِمْ مَا أَخَذَ بِهِ مِيثَاقَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِمَا جَاءَ بِهِ فِي التَّوْرَاةِ. وَمِنْ قَضَائِهِ فِيهِمْ أَنْ جَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِهِ وَقَضَائِهِ فِيهِمْ. وَكُلُّ ذَلِكَ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ، حُجَّةً عَلَى الْمُكَذِّبِينَ مِنَ الْيَهُودِ الْمُقِرِّينَ بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ [مِنْ أَحْكَامِهِ وَقَضَائِهِ]. فَإِذْ كَانَ كَذَلِكَ. فَالَّذِي هُوَ أَوْلَى عِنْدِي بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: مَعْنَى ذَلِكَ: أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْثِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى خَلْقِهِ؟ لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِنَّمَا قَصَّ فِي أَوَّلِ هَذِهِ الْآيَةِ الْخَبَرَ عَنْ قَوْلِهِمْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَصْحَابِهِ: آمَنَّا بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَالَّذِي هُوَ أَوْلَى بِآخِرِهَا أَنْ يَكُونَ نَظِيرَ الْخَبَرِ عَمَّا ابْتُدِئَ بِهِ أَوَّلُهَا. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ تَلَاوُمُهُمْ كَانَ فِيمَا بَيْنَهُمْ فِيمَا كَانُوا أَظْهَرُوهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَصْحَابِهِ مِنْ قَوْلِهِمْ لَهُمْ: آمَنَّا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا جَاءَ بِهِ. وَكَانَ قِيلِهِمْ ذَلِكَ، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ يَجِدُونَ ذَلِكَ فِي كُتُبِهِمْ، وَكَانُوا يُخْبِرُونَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ. فَكَانَ تَلَاوُمُهُمْ- فِيمَا بَيْنَهُمْ إِذَا خَلَوْا- عَلَى مَا كَانُوا يُخْبِرُونَهُمْ بِمَا هُوَ حُجَّةٌ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ. وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُخْبِرُونَهُمْ عَنْ وُجُودِ نَعْتِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كُتُبِهِمْ، وَيَكْفُرُونَ بِهِ، وَكَانَ فَتْحُ اللَّهِ الَّذِي فَتَحَهُ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى الْيَهُودِ، وَحُكْمُهُ عَلَيْهِمْ لَهُمْ فِي كِتَابِهِمْ، أَنْ يُؤْمِنُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا بُعِثَ. فَلَمَّا بُعِثَ كَفَرُوا بِهِ، مَعَ عِلْمِهِمْ بِنُبُوَّتِهِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَوْلُهُ: (أَفَلَا تَعْقِلُونَ)، خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ- عَنِ الْيَهُودِ اللَّائِمِينَ إِخْوَانَهُمْ عَلَى مَا أَخْبَرُوا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ لَهُمْ عَلَيْهِمْ- أَنَّهُمْ قَالُوا لَهُمْ: أَفَلَا تَفْقَهُونَ أَيُّهَا الْقَوْمُ وَتَعْقِلُونَ، أَنَّ إِخْبَارَكُمْ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا فِي كُتُبِكُمْ أَنَّهُ نَبِيٌّ مَبْعُوثٌ، حُجَّةٌ لَهُمْ عَلَيْكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ، يَحْتَجُّونَ بِهَا عَلَيْكُمْ؟ أَيْ: فَلَا تَفْعَلُوا ذَلِكَ، وَلَا تَقُولُوا لَهُمْ مِثْلَ مَا قُلْتُمْ، وَلَا تُخْبِرُوهُمْ بِمِثَلِ مَا أَخْبَرْتُمُوهُمْ بِهِ مِنْ ذَلِكَ. فَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ}.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ}، أَوَلَا يَعْلَمُ- هَؤُلَاءِ اللَّائِمُونَ مِنَ الْيَهُودِ إِخْوَانَهُمْ مِنْ أَهْلِ مِلَّتِهِمْ، عَلَى كَوْنِهِمْ إِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا: آمَنَّا، وَعَلَى إِخْبَارِهِمُ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا فِي كُتُبِهِمْ مِنْ نَعْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَبْعَثِهِ، الْقَائِلُونَ لَهُمْ: أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ- أَنَّ اللَّهَ عَالِمٌ بِمَا يُسِرُّونَ، فَيُخْفُونَهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ فِي خَلَائْهِمْ مِنْ كُفْرِهِمْ، وَتَلَاوُمِهِمْ بَيْنَهُمْ عَلَى إِظْهَارِهِمْ مَا أَظْهَرُوا لِرَسُولِ اللَّهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ مِنَ الْإِقْرَارِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَى قِيلِهِمْ لَهُمْ: آمَنَّا، وَنَهْي بَعْضِهِمْ بَعْضًا أَنْ يُخْبِرُوا الْمُؤْمِنِينَ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِمْ، وَقَضَى لَهُمْ عَلَيْهِمْ فِي كُتُبِهِمْ، مِنْ حَقِيقَةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَعْتِهِ وَمَبْعَثِهِ وَمَا يُعْلِنُونَ، فَيُظْهِرُونَهُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَصْحَابِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ إِذَا لَقُوهُمْ، مِنْ قِيلِهِمْ لَهُمْ: آمَنَّا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا جَاءَ بِهِ، نِفَاقًا وَخِدَاعًا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ؟ كَمَا: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ}، مِنْ كُفْرِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، (وَمَا يُعْلِنُونَ) إِذَا لَقُوا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: آمَنَّا لِيُرْضُوهُمْ بِذَلِكَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: {أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ}، يَعْنِي مَا أَسَرُّوا مِنْ كُفْرِهِمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَكْذِيبِهِمْ بِهِ، وَهُمْ يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ، (وَمَا يُعْلِنُونَ)، يَعْنِي: مَا أَعْلَنُوا حِينَ قَالُوا لِلْمُؤْمِنِينَ: آمَنَّا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ)، وَمِنْ هَؤُلَاءِ- الْيَهُودِ الَّذِينَ قَصَّ اللَّهُ قِصَصَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ، وَأَيْأَسَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِيمَانِهِمْ فَقَالَ لَهُمْ: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ إِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا: آمَنَّا، كَمَا: حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ)، يَعْنِي: مِنَ الْيَهُودِ. وَحُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ)، قَالَ: أُنَاسٌ مِنْ يَهُودٍ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِـ " الْأُمِّيِّينَ"، الَّذِينَ لَا يَكْتُبُونَ وَلَا يَقْرَءُونَ. وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسِب» يُقَالُ مِنْهُ: (رَجُلٌ أُمِّيٌّ بَيِّنُ الْأُمِّيَّةِ). كَمَا: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنِي سُوِيدُ بْنُ نَصْرٍ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ}، قَالَ: مِنْهُمْ مَنْ لَا يُحْسِنُ أَنْ يَكْتُبَ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ) قَالَ: أُمِّيُّونَ لَا يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنَ الْيَهُودِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلٌ خِلَافَ هَذَا الْقَوْلِ، وَهُوَ مَا: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ بِشْرِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ)، قَالَ: الْأُمِّيُّونَ قَوْمٌ لَمْ يُصَدِّقُوا رَسُولًا أَرْسَلَهُ اللَّهُ، وَلَا كِتَابًا أَنْـزَلَهُ اللَّهُ، فَكَتَبُوا كِتَابًا بِأَيْدِيهِمْ، ثُمَّ قَالُوا لِقَوْمٍ سَفِلَةٍ جُهَّالٍ: هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَقَالَ: قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ يَكْتُبُونَ بِأَيْدِيهِمْ، ثُمَّ سَمَّاهُمْ أُمِّيِّينَ، لِجُحُودِهِمْ كُتُبَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا التَّأْوِيلُ تَأْوِيلٌ عَلَى خِلَافِ مَا يُعْرَفُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ الْمُسْتَفِيضِ بَيْنَهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ "الْأُمِّي" عِنْدَ الْعَرَبِ: هُوَ الَّذِي لَا يَكْتُبُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَرَى أَنَّهُ قِيلَ لِلْأُمِّيِّ "أُمِّي"؛ نِسْبَةً لَهُ بِأَنَّهُ لَا يَكْتُبُ إِلَى "أُمِّهِ"، لِأَنَّ الْكِتَابَ كَانَ فِي الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ، فَنُسِبَ مَنْ لَا يَكْتُبُ وَلَا يَخُطُّ مِنَ الرِّجَالِ- إِلَى أُمِّهِ- فِي جَهْلِهِ بِالْكِتَابَةِ، دُونَ أَبِيهِ، كَمَا ذَكَرْنَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: " إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسِبُ"، وَكَمَا قَالَ: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الْجُمُعَةِ: 2]. فَإِذَا كَانَمَعْنَى " الْأُمِّيِّ" فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَا وَصَفْنَا، فَالَّذِي هُوَ أَوْلَى بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ مَا قَالَهُ النَّخَعِيُّ، مِنْ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ): وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُحْسِنُ أَنْ يَكْتُبَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ: (لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ)، لَا يَعْلَمُونَ مَا فِي الْكِتَابِ الَّذِي أَنْـزَلَهُ اللَّهُ، وَلَا يَدْرُونَ مَا أَوْدَعَهُ اللَّهُ مِنْ حُدُودِهِ وَأَحْكَامِهِ وَفَرَائِضِهِ، كَهَيْئَةِ الْبَهَائِمِ، كَالَّذِي: حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ، {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ}: إِنَّمَا هُمْ أَمْثَالُ الْبَهَائِمِ، لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: (لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ)، يَقُولُ: لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ وَلَا يَدْرُونَ مَا فِيهِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: (لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ) لَا يَدْرُونَ مَا فِيهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: (لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ) قَالَ: لَا يَدْرُونَ بِمَا فِيهِ. حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: (لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ)، لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا، لَا يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ. لَيْسَتْ تُسْتَظْهَرُ، إِنَّمَا تُقْرَأُ هَكَذَا. فَإِذَا لَمْ يَكْتُبْ أَحَدُهُمْ، لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَقْرَأَ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ بِشْرِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ، (لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ)، قَالَ: لَا يَعْرِفُونَ الْكِتَابَ الَّذِي أَنْـزَلَهُ اللَّهُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَإِنَّمَا عَنِيَ بِـ "الْكِتَابِ ": التَّوْرَاةَ، وَلِذَلِكَ أُدْخِلَتْ فِيه" الْأَلِفُ وَاللَّامُ " لِأَنَّهُ قُصِدَ بِهِ كِتَابٌ مَعْرُوفٌ بِعَيْنِهِ. وَمَعْنَاهُ: وَمِنْهُمْ فَرِيقٌ لَا يَكْتُبُونَ، وَلَا يَدْرُونَ مَا فِي الْكِتَابِ الَّذِي عَرَفْتُمُوهُ الَّذِي هُوَ عِنْدَهُمْ- وَهُمْ يَنْتَحِلُونَهُ وَيَدَّعُونَ الْإِقْرَارَ بِهِ- مِنْ أَحْكَامِ اللَّهِ وَفَرَائِضِهِ، وَمَا فِيهِ مِنْ حُدُودِهِ الَّتِي بَيَّنَهَا فِيهِ. [وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ] (إِلَّا أَمَانِيَّ) فَقَالَ بَعْضُهُمْ بِمَا: حَدَّثَنَا بِهِ أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ بِشْرِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: (إِلَّا أَمَانِيَّ)، يَقُولُ: إِلَّا قَوْلًا يَقُولُونَهُ بِأَفْوَاهِهِمْ كَذِبًا. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ}: إِلَّا كَذِبًا. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: (إِلَّا أَمَانِيَّ)، يَقُولُ: يَتَمَنَّوْنَ عَلَى اللَّهِ مَا لَيْسَ لَهُمْ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: (إِلَّا أَمَانِيَّ)، يَقُولُ: يَتَمَنَّوْنَ عَلَى اللَّهِ الْبَاطِلَ وَمَا لَيْسَ لَهُمْ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ، [عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ]، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ}، يَقُولُ: إِلَّا أَحَادِيثَ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ}، قَالَ: أُنَاسٌ مِنْ يَهُودٍ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ مِنَ الْكِتَابِ شَيْئًا، وَكَانُوا يَتَكَلَّمُونَ بِالظَّنِّ بِغَيْرِ مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَيَقُولُونَ: هُوَ مِنَ الْكِتَابِ أَمَانِيَّ يَتَمَنَّوْنَهَا. حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: (إِلَّا أَمَانِيَّ)، يَتَمَنَّوْنَ عَلَى اللَّهِ مَا لَيْسَ لَهُمْ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: (إِلَّا أَمَانِيَّ)، قَالَ: تَمَنَّوْا فَقَالُوا: نَحْنُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَلَيْسُوا مِنْهُمْ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى مَا رَوَيْنَا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: (إِلَّا أَمَانِيَّ)، بِالْحَقِّ، وَأَشْبَهُهُ بِالصَّوَابِ، الَّذِي قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ- الَّذِي رَوَاهُ عَنْهُ الضَّحَّاكُ- وَقَوْلُ مُجَاهِدٍ: إِنَّ "الْأُمِّيِّين" الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِمَا وَصَفَهُمْ بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، أَنَّهُمْ لَا يَفْقَهُونَ مِنَ الْكِتَابِ الَّذِي أَنْـزَلَهُ اللَّهُ عَلَى مُوسَى شَيْئًا، وَلَكِنَّهُمْ يَتَخَرَّصُونَ الْكَذِبَ وَيَتَقَوَّلُونَ الْأَبَاطِيلَ كَذِبًا وَزُورًا. وَ "التَّمَنِّي" فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، هُوَ تَخَلُّقُ الْكَذِبِ وَتَخَرُّصُهُ وَافْتِعَالُهُ. يُقَالُ مِنْهُ: (تَمَنَّيْتُ كَذَا)، إِذَا افْتَعَلْتُهُ وَتَخَرَّصْتُهُ. وَمِنْهُ الْخَبَرُ الَّذِي رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " مَا تَغَنَّيْتُ وَلَا تَمَنَّيْتُ"، يَعْنِي بِقَوْلِهِ: (مَا تَمَنَّيْتُ)، مَا تَخَرَّصْتُ الْبَاطِلَ، وَلَا اخْتَلَقْتُ الْكَذِبَ وَالْإِفْكَ. وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ- وَأَنَّهُ أَوْلَى بِتَأْوِيلِ قَوْلِهِ: (إِلَّا أَمَانِيَّ) مِنْ غَيْرِهِ مِنَ الْأَقْوَالِ- قَوْلُ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ}. فَأَخْبَرَ عَنْهُمْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهُمْ يَتَمَنَّوْنَ مَا يَتَمَنَّوْنَ مِنَ الْأَكَاذِيبِ، ظَنًّا مِنْهُمْ لَا يَقِينًا. وَلَوْ كَانَ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ "يَتْلُونَهُ"، لَمْ يَكُونُوا ظَانِّينَ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مَعْنَاهُ: " يَشْتَهُونَهُ". لِأَنَّ الَّذِي يَتْلُوهُ، إِذَا تَدَبَّرَهُ عَلِمَهُ. وَلَا يَسْتَحِقُّ- الَّذِي يَتْلُو كِتَابًا قَرَأَهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَدَبَّرْهُ بِتَرْكِهِ التَّدَبُّرَ أَنْ يُقَالَ: هُوَ ظَانٌّ لِمَا يَتْلُو، إِلَّا أَنْ يَكُونَ شَاكًّا فِي نَفْسِ مَا يَتْلُوهُ، لَا يَدْرِي أَحَقٌّ هُوَ أَمْ بَاطِلٌ. وَلَمْ يَكُنِ الْقَوْمُ- الَّذِينَ كَانُوا يَتْلُونَ التَّوْرَاةَ عَلَى عَصْرِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْيَهُودِ- فِيمَا بَلَغَنَا- شَاكِّينَ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَكَذَلِكَ "الْمُتَمَنِّي" الَّذِي هُوَ فِي مَعْنَى "الْمُشْتَهِي" غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُقَالَ: هُوَ ظَانٌّ فِي تَمَنِّيهِ. لِأَنَّ التَّمَنِّيَ مِنَ الْمُتَمَنِّي، إِذَا تَمَنَّى مَا قَدْ وَجَدَ عَيْنَهُ. فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُقَالَ: هُوَ شَاكٌّ، فِيمَا هُوَ بِهِ عَالِمٌ. لِأَنَّ الْعِلْمَ وَالشَّكَّ مَعْنَيَانِ يَنْفِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ، لَا يَجُوزُ اجْتِمَاعُهُمَا فِي حَيِّزٍ وَاحِدٍ. وَالْمُتَمَنِّي فِي حَالِ تَمَنِّيهِ، مَوْجُودٌ تَمَنِّيهِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُقَالَ: هُوَ يَظُنُّ تَمَنِّيَهُ. وَإِنَّمَا قِيلَ: {لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ}، وَالْأَمَانِيُّ مِنْ غَيْرِ نَوْعِ "الْكِتَابِ"، كَمَا قَالَ رَبُّنَا جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} [النِّسَاءِ: 157] وَ" الظَّن" مِنَ "الْعِلْم" بِمَعْزِلٍ. وَكَمَا قَالَ: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} [اللَّيْلِ: ]، وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَ قَيْسٍ عِتَابٌ *** غَيْرَ طَعْنِ الْكُلَى وَضَرْبِ الرِّقَابِ وَكَمَا قَالَ نَابِغَةُ بَنِي ذُبْيَانَ: حَلَفْتُ يَمِينًا غَيْرَ ذِي مَثْنَوِيَّةٍ، *** وَلَا عِلْمَ إِلَّا حُسْنَ ظَنٍّ بِصَاحِبِ فِي نَظَائِرَ لِمَا ذَكَرْنَا يَطُولُ بِإِحْصَائِهَا الْكِتَابُ. وَيَخْرُجُ بِـ "إِلَّا" مَا بَعْدَهَا مِنْ مَعْنَى مَا قَبْلَهَا وَمِنْ صِفَتِهِ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ غَيْرِ شَكْلِ الْآخَرِ وَمِنْ غَيْرِ نَوْعِهِ. وَيُسَمِّي ذَلِكَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ "اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا"، لِانْقِطَاعِ الْكَلَامِ الَّذِي يَأْتِي بَعْد" إِلَّا "عَنْ مَعْنَى مَا قَبْلَهَا. وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فِي كُلِّ مَوْضِعٍ حَسَنٍ أَنْ يُوضَعَ فِيهِ مَكَان" إِلَّا "" لَكِن"؛ فَيُعْلَمَ حِينَئِذٍ انْقِطَاعُ مَعْنَى الثَّانِي عَنْ مَعْنَى الْأَوَّلِ، أَلَا تَرَى أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} ثُمَّ أَرَدْتَ وَضْعَ "لَكِن" مَكَانَ "إِلَّا" وَحَذْفَ "إِلَّا"، وَجَدَتَ الْكَلَامَ صَحِيحًا مَعْنَاهُ صِحَّتُهُ وَفِيه" إِلَّا "؟ وَذَلِكَ إِذَا قُلْتَ: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ لَكِنْ أَمَانِيَّ. يَعْنِي: لَكِنَّهُمْ يَتَمَنَّوْنَ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ}، لَكِنِ اتِّبَاعَ الظَّنِّ، بِمَعْنَى: لَكِنَّهُمْ يَتَّبِعُونَ الظَّنَّ. وَكَذَلِكَ جَمِيعُ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْكَلَامِ عَلَى مَا وَصَفْنَا. وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ بَعْضِ الْقَرَأَةِ أَنَّهُ قَرَأَ: (إِلَّا أَمَانِيَّ) مُخَفَّفَةً. وَمَنْ خَفَّفَ ذَلِكَ وَجَّهَهُ إِلَى نَحْوِ جَمْعِهِمُ "الْمِفْتَاح" " مَفَاتِحَ"، وَ" الْقُرْقُورَ"، "قَرَاقِرَ"، وَأَنَّ يَاءَ الْجَمْعِ لَمَّا حُذِفَتْ خُفِّفَتِ الْيَاءُ الْأَصْلِيَّةُ- أَعْنِي مِن" الْأَمَانِيِّ "- كَمَا جَمَعُوا" الْأُثْفِيَّةَ "" أَثَافِي" مُخَفَّفَةً، كَمَا قَالَ زُهَيْرُ بْنُ أَبِي سُلْمَى: أَثَافِيَ سُفْعًا فِي مُعَرَّسِ مِرْجَلٍ *** وَنُؤْيًا كَجِذْمِ الْحَوْضِ لَمْ يَتَثَلَّمِ وَأَمَّا مَنْ ثَقَّلَ: (أَمَانِيَّ) فَشَدَّدَ يَاءَهَا، فَإِنَّهُ وَجَّهَ ذَلِكَ إِلَى نَحْوِ جَمْعِهِمُ "الْمِفْتَاحَ مَفَاتِيحَ، وَالْقُرْقُورَ قَرَاقِيرَ، وَالزُّنْبُورَ زَنَابِيرَ"، فَاجْتَمَعَتْ يَاء" فَعَالِيلَ " وَلَامُهَا، وَهُمَا جَمِيعًا يَاآنِ، فَأُدْغِمَتْ إِحْدَاهُمَا فِي الْأُخْرَى، فَصَارَتَا يَاءً وَاحِدَةً مُشَدَّدَةً. فَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الَّتِي لَا يَجُوزُ غَيْرُهَا عِنْدِي لِقَارِئٍ فِي ذَلِكَ، فَتَشْدِيدُ يَاءِ " الْأَمَانِيَّ"، لِإِجْمَاعِ الْقَرَأَةِ عَلَى أَنَّهَا الْقِرَاءَةُ الَّتِي مَضَى عَلَى الْقِرَاءَةِ بِهَا السَّلَفُ- مُسْتَفِيضٌ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ، غَيْرُ مَدْفُوعَةٍ صِحَّتُهُ- وَشُذُوذُ الْقَارِئِ بِتَخْفِيفِهَا عَمَّا عَلَيْهِ الْحُجَّةُ مُجْمِعَةٌ فِي ذَلِكَ. وَكَفَى دَلِيلًا عَلَى خَطَأِ قَارِئِ ذَلِكَ بِتَخْفِيفِهَا، إِجْمَاعُهَا عَلَى تَخْطِئَتِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ}، وَمَا هُمْ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [إِبْرَاهِيمَ: 11]، يَعْنِي بِذَلِكَ: مَا نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: (إِلَّا يَظُنُّونَ): إِلَّا يَشُكُّونَ، وَلَا يَعْلَمُونَ حَقِيقَتَهُ وَصِحَّتَهُ. وَ" الظَّنُّ "- فِي هَذَا الْمَوْضِعِ- الشَّكُّ. فَمَعْنَى الْآيَةِ: وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَكْتُبُ وَلَا يَخُطُّ وَلَا يَعْلَمُ كِتَابَ اللَّهِ وَلَا يَدْرِي مَا فِيهِ، إِلَّا تَخَرُّصًا وَتَقَوُّلًا عَلَى اللَّهِ الْبَاطِلَ، ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ مُحِقٌّ فِي تَخَرُّصِهِ وَتَقَوُّلِهِ الْبَاطِلَ. وَإِنَّمَا وَصَفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِأَنَّهُمْ فِي تَخَرُّصِهِمْ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُمْ مُحِقُّونَ وَهُمْ مُبْطِلُونَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ سَمِعُوا مِنْ رُؤَسَائِهِمْ وَأَحْبَارِهِمْ أُمُورًا حَسِبُوهَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَلَمْ تَكُنْ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، فَوَصَفَهُمْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِأَنَّهُمْ يَتْرُكُونَ التَّصْدِيقَ بِالَّذِي يُوقِنُونَ بِهِ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مِمَّا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَتَّبِعُونَ مَا هُمْ فِيهِ شَاكُّونَ، وَفِي حَقِيقَتِهِ مُرْتَابُونَ، مِمَّا أَخْبَرَهُمْ بِهِ كُبَرَاؤُهُمْ وَرُؤَسَاؤُهُمْ وَأَحْبَارُهُمْ عِنَادًا مِنْهُمْ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، وَمُخَالَفَةً مِنْهُمْ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَاغْتِرَارًا مِنْهُمْ بِإِمْهَالِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ)، قَالَ فِيهِ الْمُتَأَوِّلُونَ مِنَ السَّلَفِ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) إِلَّا يَكْذِبُونَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ}، أَيْ لَا يَعْلَمُونَ وَلَا يَدْرُونَ مَا فِيهِ، وَهُمْ يَجْحَدُونَ نُبُوَّتَكَ بِالظَّنِّ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ)، قَالَ: يَظُنُّونَ الظُّنُونَ بِغَيْرِ الْحَقِّ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: يَظُنُّونَ الظُّنُونَ بِغَيْرِ الْحَقِّ. حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ مِثْلَهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَوَيْلٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: (فَوَيْلٌ). فَقَالَ بَعْضُهُمْ بِمَا: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ بِشْرِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (فَوَيْلٌ)، يَقُولُ: فَالْعَذَابُ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا: حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ زِيَادِ بْنِ فَيَّاضٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عِيَاضٍ يَقُولُ: الْوَيْلُ الْمَقْصُودُ بِهِ: مَا يَسِيلُ مِنْ صَدِيدٍ فِي أَصْلِ جَهَنَّمَ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ أَبَانَ الْحَطَّابُ قَالَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ زِيَادِ بْنِ فَيَّاضٍ، عَنْ أَبِي عِيَاضٍ فِي قَوْلِهِ: (فَوَيْلٌ)، قَالَ: صِهْرِيجٌ فِي أَصْلِ جَهَنَّمَ، يَسِيلُ فِيهِ صَدِيدُهُمْ. حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ الرَّمْلِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ أَبِي الزَّرْقَاءَ قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ زِيَادِ بْنِ فَيَّاضٍ، عَنْ أَبِي عِيَاضٍ قَالَ: الْوَيْلُ، وَادٍ مِنْ صَدِيدٍ فِي جَهَنَّمَ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا مَهْرَانُ، عَنْ شَقِيقٍ قَالَ: (وَيْلٌ)، مَا يَسِيلُ مِنْ صَدِيدٍ فِي أَصْلِ جَهَنَّمَ. وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا: حَدَّثَنَا بِهِ الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ صَالِحٍ التُّسْتَرِيُّ. قَالَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ جَرِيرٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ كِنَانَةَ الْعَدَوِيِّ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (الْوَيْلُ جَبَلٌ فِي النَّارِ). حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ دَرَّاجٍ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (وَيْل) وَادٍ فِي جَهَنَّمَ، يَهْوِي فِيهِ الْكَافِرُ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ إِلَى قَعْرِهِ". قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَمَعْنَى الْآيَةِ- عَلَى مَا رُوِيَ عَمَّنْ ذَكَرْتُ قَوْلَهُ فِي تَأْوِيلِ (وَيْلٌ)-: فَالْعَذَابُ الَّذِي هُوَ شُرْبُ صَدِيدِ أَهْلِ جَهَنَّمَ فِي أَسْفَلِ الْجَحِيمِ لِلْيَهُودِ الَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْبَاطِلَ بِأَيْدِيهِمْ، ثُمَّ يَقُولُونَ: هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
|