الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ}. يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ " أَحْبَارَ الْيَهُودِ وَعُلَمَاءَ النَّصَارَى. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّمَا عَنَى بِذَلِكَ الْيَهُودَ خَاصَّةً.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السَّدِّيِّ: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}، أُنْـزِلَ ذَلِكَ فِي الْيَهُودِ. وَقَوْلُهُ: {لِيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ}، يَعْنِي هَؤُلَاءِ الْأَحْبَارَ وَالْعُلَمَاءَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، يَعْلَمُونَ أَنَّ التَّوَجُّهَ نَحْوَ الْمَسْجِدِ، الْحَقُّ الَّذِي فَرَضَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَذُرِّيَّتِهِ وَسَائِرِ عِبَادِهِ بَعْدَهُ. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: {مِنْ رَبِّهِمْ} أَنَّهُ الْفَرْضُ الْوَاجِبُ عَلَى عِبَادِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ، وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِمْ، فَرَضَهُ عَلَيْهِمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: وَلَيْسَ اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، فِي اتِّبَاعِكُمْ أَمْرَهُ، وَانْتِهَائِكُمْ إِلَى طَاعَتِهِ، فِيمَا أَلْزَمَكُمْ مِنْ فَرَائِضِهِ، وَإِيمَانِكُمْ بِهِ فِي صَلَاتِكُمْ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ صَلَاتِكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَلَا هُوَ سَاهٍ عَنْهُ، وَلَكِنَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ يُحْصِيهِ لَكُمْ وَيَدَّخِرُهُ لَكُمْ عِنْدَهُ، حَتَّى يُجَازِيَكُمْ بِهِ أَحْسَنَ جَزَاءٍ، وَيُثِيبَكُمْ عَلَيْهِ أَفْضَلَ ثَوَابٍ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ تَبَارَكَ اسْمُهُ: وَلَئِنْ جِئْتَ، يَا مُحَمَّدُ، الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، بِكُلِّ بُرْهَانٍ وَحُجَّةٍ- وَهِيَ " الْآيَةُ "- بِأَنَّ الْحَقَّ هُوَ مَا جِئْتَهُمْ بِهِ، مِنْ فَرْضِ التَّحَوُّلِ مِنْ قِبْلَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فِي الصَّلَاةِ، إِلَى قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، مَا صَدَّقُوا بِهِ، وَلَا اتَّبَعُوا- مَعَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ- قِبْلَتَكَ الَّتِي حَوَّلْتُكَ إِلَيْهَا، وَهِيَ التَّوَجُّهُ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأُجِيبَتْ " لَئِنْ " بِالْمَاضِي مِنَ الْفِعْلِ، وَحُكْمُهَا الْجَوَابُ بِالْمُسْتَقْبَلِ تَشْبِيهًا لَهَا بِـ (لَوْ)، فَأُجِيبَتْ بِمَا تُجَابُ بِهِ (لَوْ)، لِتَقَارُبِ مَعْنَيَيْهِمَا. وَقَدْ مَضَى الْبَيَانُ عَنْ نَظِيرِ ذَلِكَ فِيمَا مَضَى. وَأُجِيبَتْ " لَو " بِجَوَابِ الْأَيْمَانِ. وَلَا تَفْعَلُ الْعَرَبُ ذَلِكَ إِلَّا فِي الْجَزَاءِ خَاصَّةً، لِأَنَّ الْجَزَاءَ مُشَابِهُ الْيَمِينِ: فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَتِمُّ أَوَّلُهُ إِلَّا بِآخِرِهِ، وَلَا يَتِمُّ وَحْدَهُ، وَلَا يَصِحُّ إِلَّا بِمَا يُؤَكَّدُ بِهِ بَعْدَهُ. فَلَمَّا بَدَأَ بِالْيَمِينِ فَأُدْخِلَتْ عَلَى الْجَزَاءِ، صَارَتْ " اللَّامُ " الْأُولَى بِمَنْـزِلَةِ يَمِينٍ، وَالثَّانِيَةُ بِمَنْـزِلَةِ جَوَابٍ لَهَا، كَمَا قِيلَ: " لَعَمْرُكَ لَتَقُومَن " إِذْ كَثُرَتْ " اللَّامُ " مِنْ (لَعَمْرُكَ)، حَتَّى صَارَتْ كَحَرْفٍ مِنْ حُرُوفِهِ، فَأُجِيبَ بِمَا يُجَابُ بِهِ الْأَيْمَانُ، إِذْ كَانَتْ " اللَّام " تَنُوبُ فِي الْأَيْمَانِ عَنِ الْأَيْمَانِ، دُونَ سَائِرِ الْحُرُوفِ، غَيْرَ الَّتِي هِيَ أَحَقُّ بِهِ الْأَيْمَانُ. فَتَدُلُّ عَلَى الْأَيْمَانِ وَتَعْمَلُ عَمَلَ الْأَجْوِبَةِ، وَلَا تَدُلُّ سَائِرُ أَجْوِبَةِ الْأَيْمَانِ لَنَا عَلَى الْأَيْمَانِ. فُشُبِّهَتِ " اللَّامُ " الَّتِي فِي جَوَابِ الْأَيْمَانِ بِالْأَيْمَانِ، لِمَا وَصَفْنَا، فَأُجِيبَتْ بِأَجْوِبَتِهَا. فَكَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ- إِذْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْنَا-: لَوْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قَبِلَتْكَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ}، يَقُولُ: وَمَا لَكَ مِنْ سَبِيلٍ يَا مُحَمَّدُ إِلَى اتِّبَاعِ قِبْلَتِهِمْ. وَذَلِكَ أَنَّ الْيَهُودَ تَسْتَقْبِلُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ بِصَلَاتِهَا، وَأَنَّ النَّصَارَى تَسْتَقْبِلُ الْمَشْرِقَ، فَأَنَّى يَكُونُ لَكَ السَّبِيلُ إِلَى إِتْبَاعِ قِبْلَتِهِمْ. مَعَ اخْتِلَافِ وُجُوهِهَا؟ يَقُولُ: فَالْزَمْ قِبْلَتَكَ الَّتِي أُمِرْتَ بِالتَّوَجُّهِ إِلَيْهَا، وَدَعْ عَنْكَ مَا تَقُولُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَتَدْعُوكَ إِلَيْهِ مِنْ قِبْلَتِهِمْ وَاسْتِقْبَالهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ}، فَإِنَّهُ يَعْنِي بِقَوْلِهِ: وَمَا الْيَهُودُ بِتَابِعَةٍ قِبْلَةَ النَّصَارَى، وَلَا النَّصَارَى بِتَابِعَةٍ قِبْلَةَ الْيَهُودِ فَمُتَوَجِّهَةٌ نَحْوَهَا، كَمَا:- حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السَّدِّيِّ: {وَمَا بَعْضُهُمْ بَتَّابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ}، يَقُولُ: مَا الْيَهُودُ بِتَابِعِي قِبْلَةِ النَّصَارَى، وَلَا النَّصَارَى بِتَابِعِي قِبْلَةِ الْيَهُودِ. قَالَ: وَإِنَّمَا أُنْـزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَجْلِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا حُوِّلَ إِلَى الْكَعْبَةِ، قَالَتِ الْيَهُودُ: إِنَّ مُحَمَّدًا اشْتَاقَ إِلَى بَلَدِ أَبِيهِ وَمَوْلِدِهِ! وَلَوْ ثَبَتَ عَلَى قِبْلَتِنَا لَكَُنَّا نَرْجُو أَنْ يَكُونَ هُوَ صَاحِبَنَا الَّذِي نَنْتَظِرُ! فَأَنـْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِمْ: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لِيَعْلَمُونِ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} إِلَى قَوْلِهِ: {لَيَكْتُمُونِ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}. حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ}، مِثْلَ ذَلِكَ. وَإِنَّمَا يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِذَلِكَ: أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَا تَجْتَمِعُ عَلَى قِبْلَةٍ وَاحِدَةٍ، مَعَ إِقَامَةِ كُلِّ حِزْبٍ مِنْهُمْ عَلَى مِلَّتِهِمْ. فَقَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا مُحَمَّدُ، لَا تُشْعِرْ نَفْسَكَ رِضَا هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَإِنَّهُ أَمْرٌ لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ. لِأَنَّهُمْ مَعَ اخْتِلَافِ مِلَلِهِمْ لَا سَبِيلَ لَكَ إِلَى إِرْضَاءِ كُلِّ حِزْبٍ مِنْهُمْ. مِنْ أَجْلِ أَنَّكَ إِنِتَّبَعْتَ قِبْلَةَ الْيَهُودِ أَسْخَطْتَ النَّصَارَى، وَإِنِتَّبَعْتَ قِبْلَةَ النَّصَارَى أَسَخَطْتَ الْيَهُودَ، فَدَعْ مَا لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ، وَادْعُهُمْ إِلَى مَا لَهُمُ السَّبِيلُ إِلَيْهِ، مِنَ الِاجْتِمَاعِ عَلَى مِلَّتِكَ الْحَنِيفِيَّةِ الْمُسْلِمَةِ، وَقِبْلَتِكَ قِبْلَةِ إِبْرَاهِيمَ وَالْأَنْبِيَاءِ مِنْ بَعْدِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ}، وَلَئِنِ الْتَمَسْتَ يَا مُحَمَّدُ رِضَا هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، الَّذِينَ قَالُوا لَكَ وَلِأَصْحَابِكَ: {كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا}، فَاتَّبَعْتَ قِبْلَتَهُمْ- يَعْنِي: فَرَجَعْتَ إِلَى قِبْلَتِهِمْ. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ}، مِنْ بَعْدِ مَا وَصَلَ إِلَيْكَ مِنَ الْعِلْمِ، بِإِعْلَامِي إِيَّاكَ أَنَّهُمْ مُقِيمُونَ عَلَى بَاطِلٍ، وَعَلَى عِنَادٍ مِنْهُمْ لِلْحَقِّ، وَمَعْرِفَةٍ مِنْهُمْ أَنَّ الْقِبْلَةَ الَّتِي وَجَّهْتُكَ إِلَيْهَا هِيَ الْقِبْلَةُ الَّتِي فَرَضْتُ عَلَى أَبِيكَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَسَائِرِ وَلَدِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنَ الرُّسُلِ- التَّوَجُّهَ نَحْوَهَا، {إِنَّكَ إذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ}، يَعْنِي: إِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ، مِنْ عِبَادِي الظَّلَمَةِ أَنْفُسَهُمْ، الْمُخَالِفِينَ أَمْرِي، وَالتَّارِكِينَ طَاعَتِي، وَأَحَدُهُمْ وَفِي عِدَادِهِمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ}، أَحْبَارَ الْيَهُودِ وَعُلَمَاءَ النَّصَارَى: يَقُولُ: يَعْرِفُ هَؤُلَاءِ الْأَحْبَارُ مِنَ الْيَهُودِ، وَالْعُلَمَاءُ مِنَ النَّصَارَى: أَنَّ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِبْلَتُهُمْ وَقِبْلَةُ إِبْرَاهِيمَ وَقِبْلَةُ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَكَ، كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ، كَمَا:- حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ: قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ}، يَقُولُ: يَعْرِفُونَ أَنَّ الْبَيْتَ الْحَرَامَ هُوَ الْقِبْلَةُ. حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا عبدُ اللهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ}، يَعْنِي: الْقِبْلَةَ. حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ قَوْلُهُ: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ}، عَرَفُوا أَنَّ قِبْلَةَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ هِيَ قِبْلَتُهُمُ الَّتِي أُمِرُوا بِهَا، كَمَا عَرَفُوا أَبْنَاءَهُمْ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ، حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ}، يَعْنِي بِذَلِكَ: الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ. حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السَّدِّيِّ {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ}، يَعْرِفُونَ الْكَعْبَةَ مِنْ قِبْلَةِ الْأَنْبِيَاءِ، كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} قَالَ، الْيَهُودُ يَعْرِفُونَ أَنَّهَا هِيَ الْقِبْلَةُ، مَكَّةُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ قَالَ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} قَالَ، الْقِبْلَةُ وَالْبَيْتُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَإِنَّ طَائِفَةً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ- وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. وَكَانَ مُجَاهِدٌ يَقُولُ: هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو- يَعْنِي الْبَاهِلِيَّ- قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِذَلِكَ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ مِثْلَهُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَوْلُهُ: {لَيَكْتُمُونِ الْحَقَّ}،- وَذَلِكَ الْحَقُّ هُوَ الْقِبْلَةُ الَّتِي وَجَّهَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهَا نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. يَقُولُ: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّتِي كَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ قَبْلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَجَّهُونَ إِلَيْهَا. فَكَتَمَتْهَا الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، فَتَوَجَّهُ بَعْضُهُمْ شَرْقًا، وَبَعْضُهُمْ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَرَفَضُوا مَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ، وَكَتَمُوا مَعَ ذَلِكَ أَمْرَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. فَأَطْلَعَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتَهُ عَلَى خِيَانَتِهِمُ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَخِيَانَتِهِمْ عِبَادَهُ، وَكِتْمَانِهِمْ ذَلِكَ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ مَا يَفْعَلُونَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى عِلْمٍ مِنْهُمْ بِأَنَّ الْحَقَّ غَيْرُهُ، وَأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِمْ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ خِلَافُهُ، فَقَالَ: {لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}، أَنْ لَيْسَ لَهُمْ كِتْمَانُهُ، فَيَتَعَمَّدُونَ مَعْصِيَةَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، كَمَا:- حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لِيَكْتُمُونِ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}، فَكَتَمُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " لِيَكْتُمُونِ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ " قَالَ، يَكْتُمُونَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ الْحَجَّاجِ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لِيَكْتُمُونِ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}، يَعْنِي الْقِبْلَةَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ اعْلَمْ يَا مُحَمَّدُ أَنَّ الْحَقَّ مَا أَعْلَمَكَ رَبُّكَ وَأَتَاكَ مِنْ عِنْدِهِ، لَا مَا يَقُولُ لَكَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. وَهَذَا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: عَنْ أَنَّ الْقِبْلَةَ الَّتِي وَجَّهَهُ نَحْوَهَا، هِيَ الْقِبْلَةُ الْحَقُّ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا إِبْرَاهِيمُ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ وَمَنْ بَعْدَهُ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لَهُ: فَاعْمَلْ بِالْحَقِّ الَّذِي أَتَاكَ مِنْ رَبِّكَ يَا مُحَمَّدُ، وَلَا تَكُونُنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ. يَعْنِي بِقَوْلِهِ: {فَلَا تَكُونُنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}، أَيْ: فَلَا تَكُونُنَّ مِنَ الشَّاكِّينَ فِي أَنَّ الْقِبْلَةَ الَّتِي وَجَّهْتُكَ نَحْوَهَا قِبْلَةُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِي عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقِبْلَةُ الْأَنْبِيَاءِ غَيْرِهِ، كَمَا: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ قَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونُنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}، يَقُولُ: لَا تَكُنْ فِي شَكٍّ، فَإِنَّهَا قِبْلَتُكَ وَقِبْلَةُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِكَ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: " فَلَا تَكُونُنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ " قَالَ، مِنَ الشَّاكِّينَ قَالَ، لَا تَشُكَّنَّ فِي ذَلِكَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَإِنَّمَا " الْمُمْتَرِي " مُفْتَعِلٌ، مِنْ الْمِرْيَةِ، وَالمِرْيَة هِيَ الشَّكُّ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى: تَـدِرُّ عَـلَى أَسْـوُقِ المُمْـتَرِينَ *** رَكْضًـا، إِذَا مَـا السَّـرَابُ ارْجَحَـنَّ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: أوَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاكَّا فِي أَنَّ الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِ، أَوْ فِي أَنَّ الْقِبْلَةَ الَّتِي وَجَّهَهُ اللَّهُ إِلَيْهَا حَقٌّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ، حَتَّى نُهِيَ عَنِ الشَّكِّ فِي ذَلِكَ، فَقِيلَ لَهُ: " فَلَا تَكُونُنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ "؟ قِيلَ: ذَلِكَ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي تُخْرِجُهُ الْعَرَبُ مَخْرَجَ الْأَمْرِ أَوِ النَّهْي لِلْمُخَاطَبِ بِهِ، وَالْمُرَادُ بِهِ غَيْرُهُ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} [سُورَةُ الْأَحْزَابِ: 1]، ثُمَّ قَالَ: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [سُورَةُ الْأَحْزَابِ: 2]. فَخَرَجَ الْكَلَامُ مَخْرَجَ الْأَمْرِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّهْيِ لَهُ، وَالْمُرَادُ بِهِ أَصْحَابُهُ الْمُؤْمِنُونَ بِهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَ ذَلِكَ فِيمَا مَضَى قَبْلُ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {وَلِكُلٍّ}، وَلِكُلِّ أَهْلِ مِلَّةٍ، فَحَذَفَ " أَهْلَ الْمِلَّةِ " وَاكْتَفَى بِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، كَمَا:- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلِكُلٍ وِجْهَةٌ " قَالَ، لِكُلِّ صَاحِبِ مِلَّةٍ. حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا}، فَلِلْيَهُودِيِّ وَجِهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا، وَلِلنَّصَارَى وَجِهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا، وَهَدَاكُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْتُمْ أَيُّهَا الْأُمَّةُ لِلْقِبْلَةِ الَّتِي هِيَ قِبْلَةُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ، قُلْتُ لِعَطَاءٍ قَوْلُهُ: {وَلِكُلِّ وُجْهَةٍ هُوَ مُوَلِّيهَا} قَالَ، لِكُلِّ أَهْلِ دِينٍ، الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ مُجَاهِدٌ: لِكُلِّ صَاحِبِ مِلَّةٍ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَلِكُلٍّ وُجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} قَالَ، لِلْيَهُودِ قِبْلَةٌ، وَلِلنَّصَارَى قِبْلَةٌ، وَلَكُمْ قِبْلَةٌ. يُرِيدُ الْمُسْلِمِينَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ، حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {وَلِكُلٍّ وَجِهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا}، يَعْنِي بِذَلِكَ أَهْلَ الْأَدْيَانِ: يَقُولُ: لِكُلٍّ قِبْلَةٌ يَرْضَوْنَهَا، وَوَجْهُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى اسْمُهُ حَيْثُ تَوَجَّهَ الْمُؤْمِنُونَ. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ قَالَ: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 115] حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السَّدِّيِّ: {وَلِكُلٍّ وُجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا}، يَقُولُ: لِكُلِّ قَوْمٍ قِبْلَةٌ قَدْ وَلَّوْهَا. فَتَأْوِيلُ أَهْلِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَلِكُلِّ أَهْلِ مِلَّةٍ قِبْلَةٌ هُوَ مُسْتَقْبِلُهَا، وَمُوَلٍّ وَجْهَهُ إِلَيْهَا. وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا:- حَدَّثَنَا بِهِ الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {وَلِكُلِّ وِجْهَةٍ هُوَ مُوَلِّيهَا} قَالَ، هِيَ صَلَاتُهُمْ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَصِلَاتُهُمْ إِلَى الْكَعْبَةِ. وَتَأْوِيلُ قَائِلِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ: وَلِكُلِّ نَاحِيَةٍ وَجَّهَكَ إِلَيْهَا رَبُّكَ يَا مُحَمَّدُ قِبْلَةٌ، اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مُوَلِّيهَا عِبَادَهُ. وَأَمَّا الوِجْهَةُ، فَإِنَّهَا مَصْدَرٌ مِثْلُ " الْقِعْدَةِ " و " الْمِشْيَةِ"، مِنْ " التَّوَجُّهِ ". وَتَأْوِيلُهَا: مُتَوَجَّهٌ، يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ بِوَجْهِهِ فِي صِلَاتِهِ، كَمَا:- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " وِجْهَةٌ " قِبْلَةٌ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: " وَلِكُلٍّ وُجْهَةٌ " قَالَ، وَجْهٌ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: {وِجْهَةٌ}، قِبْلَةٌ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ قَالَ، قُلْتُ لِمَنْصُورٍ: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} قَالَ، نَحْنُ نَقْرَؤُهَا، وَلِكُلٍّ جَعْلِنَا قِبْلَةً يَرْضَوْنَهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {هُوَ مُوَلِّيهَا}، فَإِنَّهُ يَعْنِي هُوَ مُوَلٍّ وَجْهَهُ إِلَيْهَا وَمُسْتَقْبَلُهَا، كَمَا:- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " هُوَ مُوَلِّيهَا " قَالَ، هُوَ مُسْتَقْبَلُهَا. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. وَمَعْنَى " التَّوْلِيَةِ " فِي قَوْلِهِ فَلْنُوَلِّيَنكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا هَاهُنَا الْإِقْبَالُ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ لِغَيْرِهِ: " انْصَرِفْ إِلَيَّ " بِمَعْنَى: أَقْبِلْ إِلَيَّ. " وَالِانْصِرَاف " الْمُسْتَعْمَلُ، إِنَّمَا هُوَ الِانْصِرَافُ عَنِ الشَّيْءِ، ثُمَّ يُقَالُ: انْصَرَفَ إِلَى الشَّيْءِ، بِمَعْنَى: أَقْبَلَ إِلَيْهِ مُنْصَرِفًا عَنْ غَيْرِهِ. وَكَذَلِكَ يُقَالُ: " وَلَّيْتُ عَنْهُ، إِذَا أَدْبَرْتُ عَنْهُ. ثُمَّ يُقَالُ: " وَلَّيْتُ إِلَيْهِ، بِمَعْنَى أَقْبَلْتُ إِلَيْهِ مُوَلِّيًا عَنْ غَيْرِهِ. وَالْفِعْلُ- أَعْنِي " التَّوْلِيَةَ "- فِي قَوْلِهِ: {هُوَ مُوَلِّيهَا " لِلْـ " كُلِّ ". وَ " هُو " الَّتِي مَعَ " مُوَلِّيهَا، هُوَ الْكُلُّ، وُحِّدَتْ لِلَفْظِ " الْكُلِّ ". فَمَعْنَى الْكَلَامِ إذًا: وَلِكُلِّ أَهْلِ مِلَّةٍ وَجِهَةٌ، الْكُلُّ مِنْهُمْ مُوَلُّوهَا وُجُوهَهُمْ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ أَنَّهُمْ قَرَأُوهَا: " هُوَ مُولَاهَا"، بِمَعْنَى أَنَّهُ مُوَجَّهٌ نَحْوَهَا. وَيَكُونُ " الْكُلُّ " حِينَئِذٍ غَيْرَ مُسَمًّى فَاعِلُهُ، وَلَوْ سُمِّيَ فَاعِلُهُ، لَكَانَ الْكَلَامُ: وَلِكُلِّ ذِي مِلَّةٍ وَجِهَةٌ، اللَّهُ مُوَلِّيهِ إِيَّاهَا، بِمَعْنَى: مُوَجِّهُهُ إِلَيْهَا. وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَرَأَ ذَلِكَ: " وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ " بِتَرْكِ التَّنْوِينِ وَالْإِضَافَةِ. وَذَلِكَ لَحْنٌ، وَلَا تَجُوزُ الْقِرَاءَةُ بِهِ. لِأَنَّ ذَلِكَ- إِذَا قُرِئَ كَذَلِكَ- كَانَ الْخَبَرُ غَيْرَ تَامٍّ، وَكَانَ كَلَامًا لَا مَعْنَى لَهُ. وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ. وَالصَّوَابُ عِنْدَنَا مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا}، بِمَعْنَى: وَلِكُلٍّ وَجِهَةٌ وَقِبْلَةٌ، ذَلِكَ الْكُلُّ مُوَلٍّ وَجْهَهُ نَحْوَهَا. لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَى قِرَاءَةِ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَتَصْوِيبِهَا إِيَّاهَا، وَشُذُوذِ مَنْ خَالَفَ ذَلِكَ إِلَى غَيْرِهِ. وَمَا جَاءَ بِهِ النَّقْلُ مُسْتَفِيضًا فَحُجَّةٌ، وَمَا انْفَرَدَ بِهِ مَنْ كَانَ جَائِزًا عَلَيْهِ السَّهْوُ وَالْغَلَطُ، فَغَيْرُ جَائِزٍ الِاعْتِرَاضُ بِهِ عَلَى الْحُجَّةِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: {فَاسْتَبِقَوْا}، فَبَادِرُوا وَسَارِعُوا، مِنَ الِاسْتِبَاقِ، وَهُوَ الْمُبَادَرَةُ وَالْإِسْرَاعُ، كَمَا:- حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ قَوْلُهُ: {فَاسْتَبِقُوْا الْخَيِّرَاتِ}، يَقُولُ: فَسَارِعُوا فِي الْخَيْرَاتِ. وَإِنَّمَا يَعْنِي بِقَوْلِهِ: {فَاسْتَبِقُوْا الْخَيْرَاتِ}، أَيْ: قَدْ بَيَّنْتُ لَكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ الْحَقَّ، وَهَدَيْتُكُمْ لِلْقِبْلَةِ الَّتِي ضَلَّتْ عَنْهَا الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَسَائِرُ أَهْلِ الْمِلَلِ غَيْرَكُمْ، فَبَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، شُكْرًا لِرَبِّكُمْ، وَتَزَوَّدُوا فِي دُنْيَاكُمْ لِآخِرَتِكُمْ، فَإِنِّي قَدْ بَيَّنْتُ لَكُمْ سُبُلَ النَّجَاةِ، فَلَا عُذْرَ لَكُمْ فِي التَّفْرِيطِ، وَحَافَظُوا عَلَى قِبْلَتِكُمْ، فَلَا تُضَيِّعُوهَا كَمَا ضَيَّعَتْهَا الْأُمَمُ قَبْلَكُمْ، فَتَضِلُّوا كَمَا ضَلَّتْ؛ كَالَّذِي:- حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {فَاسْتَبِقُوْا الْخَيْرَاتِ}، يَقُولُ: لَا تُغْلَبُنَّ عَلَى قِبْلَتِكُمْ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {فَاسْتَبِقُوْا الْخَيْرَاتِ " قَالَ، الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَمَعْنَى قَوْلِهِ: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا}، فِي أَيِّ مَكَانٍ وَبُقْعَةٍ تَهْلَكُونَ فِيهِ، يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، كَمَا:- حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا}، يَقُولُ: أَيْنَمَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. حَدَّثَنَا مُوسَى قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السَّدِّيِّ: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا}، يَعْنِي: يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَإِنَّمَا حَضَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُؤْمِنِينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى طَاعَتِهِ وَالتَّزَوُّدِ فِي الدُّنْيَا لِلْآخِرَةِ، فَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَهُمْ: اسْتَبِقُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ إِلَى الْعَمَلِ بِطَاعَةِ رَبِّكُمْ، وَلُزُومِ مَا هَدَاكُمْ لَهُ مِنْ قِبْلَةِ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِهِ وَشَرَائِعِ دِينِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ يَأْتِي بِكُمْ وَبِمَنْ خَالَفَ قِبْلَتَكُمْ وَدِينَكُمْ وَشَرِيعَتَكُمْ جَمِيعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، مِنْ حَيْثُ كُنْتُمْ مِنْ بِقَاعِ الْأَرْضِ، حَتَّى يُوَفِّيَ الْمُحْسِنَ مِنْكُمْ جَزَاءَهُ بِإِحْسَانِهِ، وَالْمُسِيءَ عِقَابَهُ بِإِسَاءَتِهِ، أَوْ يَتَفَضَّلَ فَيَصْفَحَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، فَإِنَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ يَعْنِي: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى جَمْعِكُمْ- بَعْدَ مَمَاتِكُمْ- مِنْ قُبُورِكُمْ إِلَيْهِ، مِنْ حَيْثُ كُنْتُمْ وَكَانَتْ قُبُورُكُمْ وَعَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَشَاءُ، قَدِيرٌ. فَبَادِرُوا خُرُوجَ أَنْفُسِكُمْ بِالصَّالِحَاتِ مِنَ الْأَعْمَالِ قَبْلَ مَمَاتِكُمْ لِيَوْمِ بَعْثِكُمْ وَحَشْرِكُمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ}، وَمِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ خَرَجْتَ إِلَى أَيِّ مَوْضِعٍ وَجَّهْتَ، فَوَلِّ يَا مُحَمَّدُ وَجْهَكَ- يَقُولُ: حُوِّلْ وَجْهَكَ. وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ " التَّوْلِيَةَ " فِي هَذَا الْمَوْضِعِ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، إِنَّمَا هِيَ: الْإِقْبَالُ بِالْوَجْهِ نَحْوَهُ. وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى " الشَّطْر " فِيمَا مَضَى. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ}، فَإِنَّهُ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَإِنَّ التَّوَجُّهَ شَطْرَهُ لَلْحَقِّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّكَ، فَحَافِظُوا عَلَيْهِ، وَأَطِيعُوا اللَّهَ فِي تَوَجُّهِكُمْ قِبَلَهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}، فَإِنَّهُ يَقُولُ: فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ لَيْسَ بِسَاهٍ عَنْ أَعْمَالِكُمْ، وَلَا بِغَافِلٍ عَنْهَا، وَلَكِنَّهُ مُحْصِيهَا لَكُمْ، حَتَّى يُجَازِيَكُمْ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} مِنْ أَيِّ مَكَانٍ وَبُقْعَةٍ شَخَصْتَ فَخَرَجْتَ يَا مُحَمَّدُ، فَوَلِّ وَجْهَكَ تِلْقَاءَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَهُوَ شَطْرُهُ. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ}، وَأَيْنَمَا كُنْتُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ مِنْ أَرْضِ اللَّهِ، فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ فِي صَلَاتِكُمْ تُجَاهَهُ وَقِبَلَهُ وَقَصْدَهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ: عَنَى اللَّهُ تَعَالَى بِـ " النَّاسِ " فِي قَوْلِهِ: {لِئَلَّا يَكُونُ لِلنَّاسِ}، أَهْلَ الْكِتَابِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {لِئَلَّا يَكُونُ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ}، يَعْنِي بِذَلِكَ أَهْلَ الْكِتَابِ. قَالُوا- حِينَ صُرِفَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْكَعْبَةِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ-: اشْتَاقَ الرَّجُلُ إِلَى بَيْتِ أَبِيهِ وَدِينِ قَوْمِهِ! حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ فِي قَوْلِهِ: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ}، يَعْنِي بِذَلِكَ أَهْلَ الْكِتَابِ، قَالُوا- حِينَ صُرِفَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْكَعْبَةِ-: اشْتَاقَ الرَّجُلُ إِلَى بَيْتِ أَبِيهِ وَدِينِ قَوْمِهِ! فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَأَيَّةُ حُجَّةٍ كَانَتْ لِأَهْلِ الْكِتَابِ بِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ؟ قِيلَ: قَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا مَضَى مَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ. قِيلَ: إِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: مَا دَرَى مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ أَيْنَ قَبِلَتْهُمْ حَتَّى هَدَيْنَاهُمْ نَحْنُ! وَقَوْلُهُمْ: يُخَالِفُنَا مُحَمَّدٌ فِي دِينِنَا وَيَتَّبِعُ قِبْلَتَنَا! فَهِيَ الْحُجَّةُ الَّتِي كَانُوا يَحْتَجُّونَ بِهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، عَلَى وَجْهِ الْخُصُومَةِ مِنْهُمْ لَهُمْ، وَالتَّمْوِيهِ مِنْهُمْ بِهَا عَلَى الجُهَّالِ وَأَهْلِ الْغَبَاءِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى أَنَّ مَعْنَى حِجَاجِ الْقَوْمِ إِيَّاهُ، الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ فِي كِتَابِهِ، إِنَّمَا هِيَ الْخُصُومَاتُ وَالْجِدَالُ. فَقَطَعَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ذَلِكَ مِنْ حُجَّتِهِمْ وَحَسْمِهِ، بِتَحْوِيلِ قِبْلَةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِهِ، مِنْ قِبْلَةِ الْيَهُودِ إِلَى قِبْلَةِ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَذَلِكَ هُوَ مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {لِئَلَّا يَكُونُ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ}، يَعْنِي بِالنَّاسِ، الَّذِينَ كَانُوا يَحْتَجُّونَ عَلَيْهِمْ بِمَا وَصَفْتُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ}، فَإِنَّهُمْ مُشْرِكُو الْعَرَبِ مِنْ قُرَيْشٍ، فِيمَا تَأَوَّلَهُ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ}، قَوْمُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السَّدِّيِّ، قَالَ: هُمُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ:}إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ}، يَعْنِي مُشْرِكِي قُرَيْشٍ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، وَابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ " قَالَ، هُمْ مُشْرِكُو الْعَرَبِ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ}، وَ " الذِينَ ظَلَمُوا ": مُشْرِكُو قُرَيْشٍ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ عَطَاءٌ: هُمْ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ- قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَأَخْبَرَنِي عبدُ اللهِ بْنُ كَثِيرٍ أَنَّهُ سَمِعَ مُجَاهِدًا يَقُولُ مِثْلَ قَوْلِ عَطَاءٍ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَأَيَّةُ حُجَّةٍ كَانَتْ لِمُشْرِكِي قُرَيْشٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، فِي تَوَجُّهِهِمْ فِي صَلَاتِهِمْ إِلَى الْكَعْبَةِ؟ وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ- فِيمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ أَوْ نَهَاهُمْ عَنْهُ- حُجَّةٌ؟ قِيلَ: إِنَّ مَعْنَى ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا تَوَهَّمْتَ وَذَهَبْتَ إِلَيْهِ. وَإِنَّمَا " الْحُجَّةُ " فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، الْخُصُومَةُ وَالْجِدَالُ. وَمَعْنَى الْكَلَامِ: لِئَلَّا يَكُونَ لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ عَلَيْكُمْ خُصُومَةٌ وَدَعْوَى بَاطِلٌ غَيْرَ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ، فَإِنَّ لَهُمْ عَلَيْكُمْ دَعْوَى بَاطِلًا وَخُصُومَةً بِغَيْرِ حَقٍّ، بِقَيْلِهِمْ لَكُمْ: " رَجَعَ مُحَمَّدٌ إِلَى قِبْلَتِنَا، وَسَيَرْجِعُ إِلَى دِينِنَا ". فَذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ وَأَمَانِيِّهِمُ الْبَاطِلَةِ، هِيَ " الْحُجَّة " الَّتِي كَانَتْ لِقُرَيْشٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ. وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ اسْتَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ " الَّذِينَ ظَلَمُوا " مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ غَيْرِهِمْ، إِذْ نَفَى أَنْ يَكُونَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ فِي قِبْلَتِهِمُ الَّتِي وَجَّهَهُمْ إِلَيْهَا حُجَّةٌ. وَبِمَثَلِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {لِئَلَّا يَكُونُ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةً إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ}، قَوْمُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ مُجَاهِدٌ: يَقُولُ: حُجَّتُهُمْ، قَوْلُهُمْ: قَدْ رَاجَعْتَ قِبْلَتنَا! حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ- إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: قَوْلُهُمْ: قَدْ رَجَعْتَ إِلَى قِبْلَتِنَا! حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ وَابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {لِئَلَّا يَكُونُ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ}، قَالَا هُمْ مُشْرِكُو الْعَرَبِ، قَالُوا حِينَ صُرِفَتِ الْقِبْلَةُ إِلَى الْكَعْبَةِ: قَدْ رَجَعَ إِلَى قِبْلَتِكُمْ، فَيُوشِكُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى دِينِكُمْ! قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي ". حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ}، وَ " الذِينَ ظَلَمُوا ": مُشْرِكُو قُرَيْشٍ. يَقُولُ: إِنَّهُمْ سَيَحْتَجُّونَ عَلَيْكُمْ بِذَلِكَ، فَكَانَتْ حُجَّتُهُمْ عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْصِرَافَهُ إِلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ أَنَّهُمْ قَالُوا سَيَرْجِعُ إِلَى دِينِنَا كَمَا رَجَعَ إِلَى قِبْلَتِنَا! فَأَنـْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ. حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السَّدِّيِّ فِيمَا يَذْكُرُ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: لَمَّا صُرِفَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَ الْكَعْبَةِ، بَعْدَ صِلَاتِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، قَالَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ: تُحِيِّرَ عَلَى مُحَمَّدٍ دِينُهُ! فَتَوَجَّهَ بِقِبْلَتِهِ إِلَيْكُمْ، وَعَلِمَ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ أَهْدَى مِنْهُ سَبِيلًا وَيُوشِكُ أَنْ يَدْخُلَ فِي دِينِكُمْ! فَأَنـْزَلَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِيهِمْ: " لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي ". حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ، قُلْتُ لِعَطَاءٍ: قَوْلُهُ: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} قَالَ، قَالَتْ قُرَيْشٌ- لَمَّا رَجَعَ إِلَى الْكَعْبَةِ وَأُمِرَ بِهَا:- مَا كَانَ يَسْتَغْنِي عَنَّا! قَدْ اسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا! فَهِيَ حُجَّتُهُمْ، وَهُمْ " الَّذِينَ ظَلَمُوا "- قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَأَخْبَرَنِي عبدُ اللهِ بْنُ كَثِيرٍ أَنَّهُ سَمِعَ مُجَاهِدًا يَقُولُ مِثْلَ قَوْلِ عَطَاءٍ، فَقَالَ مُجَاهِدٌ: حُجَّتُهُمْ، قَوْلُهُمْ: رَجَعْتَ إِلَى قِبْلَتِنَا! فَقَدْ أَبَانَ تَأْوِيلُ مَنْ ذَكَرْنَا تَأْوِيلَهُ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِِيلِ قَوْلَهُ: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ}، عَنْ صِحَّةِ مَا قُلْنَا فِي تَأْوِيلِهِ، وَأَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ عَلَى مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمَعْرُوفِ، الَّذِي ثَبَتَ فِيهِمْ لِمَا بَعْدَ حَرْفِ الِاسْتِثْنَاءِ مَا كَانَ مَنْفِيًّا عَمَّا قَبْلَهُ. كَمَا قَوْلُ الْقَائِلِ: "مَا سَارَ مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ إِلَّا أَخُوكَ"، إِثْبَاتٌ لِلْأَخِ مِنَ السَّيْرِ مَا هُوَ مَنْفِيٌّ عَنْ كُلِّ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ. فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ}، نَفَى عَنْ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدٍ خُصُومَةٌ وَجَدَلٌ قِبَلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَعْوَى بَاطِلٍ عَلَيْهِ وَعَلَى أَصْحَابِهِ، بِسَبَبِ تَوَجُّهِهِمْ فِي صَلَاتِهِمْ قِبَلَ الْكَعْبَةِ- إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ، فَإِنَّ لَهُمْ قِبَلَهُمْ خُصُومَةً وَدَعْوَى بَاطِلًا بِأَنْ يَقُولُوا: إِنَّمَا تَوَجَّهْتُمْ إِلَيْنَا وَإِلَى قِبْلَتِنَا، لِأَنَّا كُنَّا أَهْدَى مِنْكُمْ سَبِيلًا وَأَنَّكُمْ كُنْتُمْ بِتَوَجُّهِكُمْ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ عَلَى ضَلَالٍ وَبَاطِلٍ. وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ مَعْنَى الْآيَةِ بِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِِيلِ، فَبَيِّنٌ خَطَأُ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: " إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ": وَلَا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ، وَأَنَّ " إِلَّا " بِمَعْنَى " الْوَاوِ ". لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ مَعْنَاهُ، لَكَانَ النَّفْيُ الْأَوَّلُ عَنْ جَمِيعِ النَّاسِ- أَنْ يَكُونَ لَهُمْ حُجَّةٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ فِي تَحَوُّلِهِمْ نَحْوَ الْكَعْبَةِ بِوُجُوهِهِمْ- مُبَيِّنًا عَنِ الْمَعْنَى الْمُرَادِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي ذِكْرِ قَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ: " إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُم " إِلَّا التَّلْبِيسَ الَّذِي يَتَعَالَى عَنْ أَنْ يُضَافَ إِلَيْهِ أَوْ يُوصَفَ بِهِ. هَذَا مَعَ خُرُوجِ مَعْنَى الْكَلَامِ إِذَا وَجَّهْتَ " إِلَّا " إِلَى مَعْنَى الْوَاوِ، وَمَعْنَى الْعَطْفِ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ. وَذَلِكَ أَنَّهُ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ " إِلَّا " فِي شَيْءٍ مِنْ كَلَامِهَا بِمَعْنَى الْوَاوِ، إِلَّا مَعَ اسْتِثْنَاءٍ سَابِقٍ قَدْ تَقَدَّمَهَا. كَقَوْلِ الْقَائِلِ: " سَارَ الْقَوْمُ إِلَّا عُمَرًا إِلَّا أَخَاكَ"، بِمَعْنَى: إِلَّا عُمْرًا وَأَخَاكَ، فَتَكُونُ " إِلَّا " حِينَئِذٍ مُؤَدِّيَةً عَمَّا تُؤَدِّي عَنْهُ الْوَاوُ، لِتَعَلُّقِ " إِلَّا " الثَّانِيَةِ بِـ " إِلَّا " الْأُولَى. وَيُجْمَعُ فِيهَا أَيْضًا بَيْنَ " إِلَّا " وَ " الوَاوِ " فَيُقَالُ: " سَارَ الْقَوْمُ إِلَّا عُمَرًا وَإِلَّا أَخَاكَ"، فَتُحْذَفُ إِحْدَاهُمَا، فَتَنُوبُ الْأُخْرَى عَنْهَا، فَيُقَالُ: " سَارَ الْقَوْمُ إِلَّا عُمَرًا وَأَخَاكَ- أَوْ إِلَّا عُمْرًا إِلَّا أَخَاكَ"، لِمَا وَصَفْنَا قَبَلُ. وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَغَيْرُ جَائِزٍ لِمُدَّعٍ مِنَ النَّاسِ أَنَّ يَدَّعِيَ أَنَّ " إِلَّا " فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِمَعْنَى " الْوَاو " الَّتِي تَأْتِي بِمَعْنَى الْعَطْفِ. وَوَاضِحٌ فَسَادُ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ مَعْنًى ذَلِكَ: إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ، فَإِنَّهُمْ لَا حُجَّةَ لَهُمْ، فَلَا تَخْشَوْهُمْ. كَقَوْلِ الْقَائِلِ فِي الْكَلَامِ: " النَّاسُ كُلُّهُمْ لَكَ حَامِدُونَ إِلَّا الظَّالِمَ [لَكَ] الْمُعْتَدِيَ عَلَيْكَ"، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُعْتَدُّ بعُداوَنِهِ وَلَا بِتَرْكِهِ الْحَمْدَ، لِمَوْضِعِ الْعَدَاوَةِ. وَكَذَلِكَ الظَّالِمُ لَا حُجَّةَ لَهُ، وَقَدْ سُمِّيَ ظَالِمًا لِإِجْمَاعِ جَمِيعِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ عَلَى تَخْطِئَةِ مَا ادَّعَى مِنَ التَّأْوِيلِ فِي ذَلِكَ. وَكَفَى شَاهِدًا عَلَى خَطَأِ مَقَالَتِهِ إِجْمَاعُهُمْ عَلَى تَخْطِئَتِهَا. وَظَاهِرُ بُطُولِ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ: أَنَّ " الَّذِينَ ظَلَمُوا " هَاهُنَا، نَاسٌ مِنَ الْعَرَبِ كَانُوا يَهُودًا وَنَصَارَى، فَكَانُوا يَحْتَجُّونَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَّا سَائِرُ الْعَرَبِ، فَلَمْ تَكُنْ لَهُمْ حُجَّةٌ، وَكَانَتْ حُجَّةُ مَنْ يَحْتَجُّ مُنْكَسِرَةً. لِأَنَّكَ تَقُولُ لِمَنْ تُرِيدُ أَنْ تَكْسِرَ عَلَيْهِ حُجَّتَهُ: " إِنَّ لَكَ عَلَيَّ حُجَّةً وَلَكِنَّهَا مُنْكَسِرَةٌ، وَإِنَّكَ لَتَحْتَجُّ بِلَا حُجَّةٍ، وَحُجَّتُكَ ضَعِيفَةٌ ". وَوَجَّهَ مَعْنَى: " إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُم " إِلَى مَعْنَى: إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ، مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَإِنَّ لَهُمْ عَلَيْكُمْ حُجَّةً وَاهِيَةً أَوْ حُجَّةً ضَعِيفَةً. وَوَهْيُ قَوْلِ مَنْ قَالَ: " إِلَّا " فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِمَعْنَى " لَكِنْ ". وَضَعْفُ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ ابْتِدَاءٌ بِمَعْنَى: إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ. لِأَنَّ تَأْوِيلَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ جَاءَ فِي ذَلِكَ بِأَنَّ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ خَبَرٌ عَنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ: أَنَّهُمْ يَحْتَجُّونَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ بِمَا قَدْ ذَكَرْنَا، وَلَمْ يَقْصِدْ فِي ذَلِكَ إِلَى الْخَبَرِ عَنْ صِفَةِ حُجَّتِهِمْ بِالضَّعْفِ وَلَا بِالْقُوَّةِ- وَإِنْ كَانَتْ ضَعِيفَةً لِأَنَّهَا بَاطِلَةٌ- وَإِنَّمَا قَصَدَ فِيهِ الْإِثْبَاتَ لِلَّذِينِ ظَلَمُوا، مَا قَدْ نَفَى عَنِ الَّذِينَ قَبْلَ حَرْفِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الصِّفَةِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ، قَالَ الرَّبِيعُ: إِنَّ يَهُودِيًّا خَاصَمَ أَبَا الْعَالِيَةِ فَقَالَ: إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُصَلِّي إِلَى صَخْرَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. فَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: كَانَ يُصَلِّي عِنْدَ الصَّخْرَةِ إِلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ. قَالَ: قَالَ: فَبَيْنِي وَبَيْنَكَ مَسْجِدُ صَالِحٍ، فَإِنَّهُ نَحَتَهُ مِنَ الْجَبَلِ. قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: قَدْ صَلَّيْتُ فِيهِ وَقِبْلَتُهُ إِلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ. قَالَ الرَّبِيعُ: وَأَخْبَرَنِي أَبُو الْعَالِيَةِ أَنَّهُ مَرَّ عَلَى مَسْجِدِ ذِي الْقَرْنَيْنِ، وَقِبْلَتُهُ إِلَى الْكَعْبَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي}، يَعْنِي: فَلَا تَخْشَوْا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَصَفْتُ لَكُمْ أَمْرَهُمْ مِنَ الظَّلَمَةِ فِي حُجَّتِهِمْ وَجِدَالِهِمْ وَقَوْلِهِمْ مَا يَقُولُونَ فِي أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ رَجَعَ إِلَى قِبْلَتِنَا، وَسَيَرْجِعُ إِلَى دِينِنَا!- أَوْ أَنْ يَقْدِرُوا لَكُمْ عَلَى ضُرٍّ فِي دِينِكُمْ أَوْ صَدِّكُمْ عَمَّا هَدَاكُمُ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لَهُ مِنَ الْحَقِّ، وَلَكِنِخْشَوْنِي، فَخَافُوا عِقَابِي، فِي خِلَافِكُمْ أَمْرِي إِنْ خَالَفْتُمُوهُ. وَذَلِكَ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ تَقَدُّمٌ إِلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، بِالْحَضِّ عَلَى لُزُومِ قِبْلَتِهِمْ وَالصَّلَاةِ إِلَيْهَا، وَبِالنَّهْي عَنِ التَّوَجُّهِ إِلَى غَيْرِهَا. يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَاخْشَوْنِي أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، فِي تَرْكِ طَاعَتِي فِيمَا أَمَرَتْكُمْ بِهِ مِنَ الصَّلَاةِ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. وَقَدْ حُكِيَ عَنِ السَّدِّيِّ فِي ذَلِكَ مَا:- حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السَّدِّيِّ: {فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي}، يَقُولُ: لَا تَخْشَوْا أَنْ أَرُدَّكُمْ فِي دِينِهِمْ
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ}، وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ مِنَ الْبِلَادِ وَالْأَرْضِ، وَإِلَى أَيِّ بُقْعَةٍ شَخَصْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَحَيْثُ كُنْتَ، يَا مُحَمَّدُ وَالْمُؤْمِنُونَ، فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ فِي صَلَاتِكُمْ شَطْرَهُ، وَاتَّخَذُوهُ قِبْلَةً لَكُمْ، كَيْلَا يَكُونَ لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ- سِوَى مُشْرِكِي قُرَيْشٍ- حُجَّةٌ، وَلِأُتِمَّ بِذَلِكَ- مِنْ هِدَايَتِي لَكُمْ إِلَى قِبْلَةِ خَلِيلِي إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، الَّذِي جَعَلَتْهُ إِمَامًا لِلنَّاسِ- نِعْمَتِي، فَأُكْمِلَ لَكُمْ بِهِ فَضْلِي عَلَيْكُمْ، وَأُتْمِمْ بِهِ شَرَائِعَ مِلَّتِكُمُ الْحَنِيفِيَّةِ الْمُسْلِمَةِ الَّتِي وَصَّيْتُ بِهَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى وَسَائِرَ الْأَنْبِيَاءِ غَيْرَهُمْ. وَذَلِكَ هُوَ نِعْمَتُهُ الَّتِي أَخْبَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهُ مُتِمُّهَا عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِهِ مِنْ أَصْحَابِهِ. وَقَوْلِهِ: {وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}، يَعْنِي: وَكَيْ تُرْشَدُوا لِلصَّوَابِ مِنَ الْقِبْلَةِ. وَ " لَعَلَّكُمْ " عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: {وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ}، {وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُم} عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: {لِئَلَّا يَكُونُ}.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا}، وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ بِبَيَانِ شَرَائِعِ مِلَّتْكُمُ الْحَنِيفِيَّةِ، وَأَهْدِيَكُمْ لِدِينِ خَلِيلِي إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَأَجْعَلَ لَكُمْ دَعْوَتَهُ الَّتِي دَعَانِي بِهَا وَمَسْأَلَتَهُ الَّتِي سَأَلَنِيهَا فَقَالَ: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 128]، كَمَا جَعَلْتُ لَكُمْ دَعْوَتَهُ الَّتِي دَعَانِي بِهَا، وَمَسْأَلَتَهُ الَّتِي سَأَلَنِيهَا فَقَالَ: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 129]، فَابْتَعَثْتُ مِنْكُمْ رَسُولِيَ الَّذِي سَأَلَنِي إِبْرَاهِيمُ خَلِيلِي وَابْنُهُ إِسْمَاعِيلُ، أَنْ أَبْعَثَهُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا. فَـ " كَمَا "- إِذْ كَانَ ذَلِكَ مَعْنَى الْكَلَامِ- صِلَةٌ لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ ". وَلَا يَكُونُ قَوْلُهُ: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ}، مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ}. وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ: إِنَّ مَعْنَى ذَلِكَ: فَاذْكُرُونِي كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ أَذْكُرْكُمْ. وَزَعَمُوا أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْمُقَدَّمِ الَّذِي مَعْنَاهُ التَّأْخِيرُ، فَأَغْرَقُوا النـَّزْعَ، وَبَعُدُوا مِنَ الْإِصَابَةِ، وَحَمَلُوا الْكَلَامَ عَلَى غَيْرِ مَعْنَاهُ الْمَعْرُوفِ، وَسِوَى وَجْهِهِ الْمَفْهُومِ. وَذَلِكَ أَنَّ الْجَارِيَ مِنَ الْكَلَامِ عَلَى أَلْسُنِ الْعَرَبِ، الْمَفْهُومَ فِي خِطَابِهِمْ بَيْنَهُمْ- إِذَا قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: " كَمَا أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ يَا فُلَانُ فَأَحْسِنْ "- أَنْ لَا يَشْتَرِطُوا لِلْآخَرِ، لِأَنَّ " الْكَاف " فِي " كَمَا " شَرْطٌ مَعْنَاهُ: افْعَلْ كَمَا فَعَلْتُ. فَفِي مَجِيءِ جَوَابِ: " اذْكُرُونِي " بَعْدَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {أَذْكُرْكُمْ}، أَوْضَحُ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: {كَمَا أَرْسَلْنَا " مِنْ صِلَةِ الْفِعْلِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: {اذْكُرُونِي أَذْكُرْكُم} خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مُنْقَطِعٌ عَنِ الْأَوَّلِ، وَأَنَّهُ مِنْ سَبَبِ قَوْلِهِ: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ} بِمَعْزِلٍ. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ أَنَّ قَوْلَهُ: {فَاذْكُرُونِي}- إِذَا جُعِلَ قَوْلُهُ: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُم} جَوَابًا لَهُ، مَعَ قَوْلِهِ: " أَذْكُرْكُمْ "- نَظِيرُ الْجَزَاءِ الَّذِي يُجَابُ بِجَوَابِينِ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: إِذَا أَتَاكَ فُلَانٌ فَأْتِهِ تُرْضِهِ، فَيَصِيرُ قَوْلُهُ: "فَأْتِه " وَ " تُرْضِهِ " جَوَّابِينَ لِقَوْلِهِ: " إِذَا أَتَاكَ"، وَكَقَوْلِهِ: " إِنْ تَأْتِنِي أُحْسِنْ إِلَيْكَ أَكْرِمْكَ ". وَهَذَا الْقَوْلُ وَإِنْ كَانَ مَذْهَبًا مِنَ الْمَذَاهِبِ، فَلَيْسَ بِالْأَسْهَلِ الْأَفْصَحِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَالَّذِي هُوَ أَوْلَى بِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُوَجَّهَ إِلَيْهِ مِنَ اللُّغَاتِ، الْأَفْصَحُ الْأَعْرَفُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ، دُونَ الْأَنْكَرِ الْأَجْهَلِ مِنْ مَنْطِقِهَا. هَذَا، مَعَ بُعْدِ وَجْهِهِ مِنَ الْمَفْهُومِ فِي التَّأْوِيلِ. ذَكَرُ مِنْ قَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ: {كَمَا أَرْسَلْنَا}، جَوَابُ قَوْلِهِ: " فَاذْكُرُونِي ". حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى قَالَ، سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي نَجِيحٍ يَقُولُ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ}، كَمَا فَعَلْتُ فَاذْكُرُونِي. حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. قَوْلُهُ: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ}، فَإِنَّهُ يَعْنِي بِذَلِكَ الْعَرَبَ، قَالَ لَهُمْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: الْزَمُوا أَيُّهَا الْعَرَبُ طَاعَتِي، وَتَوَجَّهُوا إِلَى الْقِبْلَةِ الَّتِي أَمَرْتُكُمْ بِالتَّوَجُّهِ إِلَيْهَا، لِتَنْقَطِعَ حُجَّةُ الْيَهُودِ عَنْكُمْ، فَلَا تَكُونُ لَهُمْ عَلَيْكُمْ حجَةٌ، وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ، وَتَهْتَدُوا، كَمَا ابْتَدَأْتُكُمْ بِنِعْمَتِي، فَأَرْسَلْتُ فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ. وَذَلِكَ الرَّسُولُ الَّذِي أَرْسَلَهُ إِلَيْهِمْ مِنْهُمْ: مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا:- حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ فِي قَوْلِهِ: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ}، يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا}، فَإِنَّهُ يَعْنِي آيَاتِ الْقُرْآنِ، وَبِقَوْلِهِ: " وَيُزَكِّيكُمْ " وَيُطَهِّرُكُمْ مِنْ دَنَسِ الذُّنُوبِ، وَ " يُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ " وَهُوَ الْفُرْقَانُ، يَعْنِي: أَنَّهُ يُعَلِّمُهُمْ أَحْكَامَهُ. وَيَعْنِي: بِـ " الْحِكْمَة " السُّنَنَ وَالْفِقْهَ فِي الدِّينِ. وَقَدْ بَيَّنَّا جَمِيعَ ذَلِكَ فِيمَا مَضَى قَبْلُ بِشَوَاهِدِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ}، فَإِنَّهُ يَعْنِي: وَيُعَلِّمُكُمْ مِنْ أَخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ، وَقِصَصِ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ، وَالْخَبَرِ عَمَّا هُوَ حَادِثٌ وَكَائِنٌ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَمْ تَكُنِلْعَرَبُ تَعْلَمُهَا، فَعَلِمُوهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَأَخْبَرَهُمْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ إِنَّمَا يُدْرِكُونَهُ بِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ: فَاذْكُرُونِي أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بِطَاعَتِكُمْ إِيَّايَ فِيمَا آمُرُكُمْ بِهِ وَفِيمَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ، أَذْكُرْكُمْ بِرَحْمَتِي إِيَّاكُمْ وَمَغْفِرَتِي لَكُمْ، كَمَا:- حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: " فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ " قَالَ، اذْكُرُونِي بِطَاعَتِي، أَذْكُرْكُمْ بِمَغْفِرَتِِي. وَقَدْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَتَأَوَّلُ ذَلِكَ أَنَّهُ مِنَ الذَّكَرِ بِالثَّنَاءِ وَالْمَدْحِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ فِي قَوْلِهِ: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونَ}، إِنَّ اللَّهَ ذَاكِرُ مَنْ ذَكَرَهُ، وَزَائِدُ مَنْ شَكَرَهُ، وَمُعَذِّبُ مَنْ كَفَرَهُ. حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ، حَدَّثَنِي عَمْرٌو قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السَّدِّيِّ: " اذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ " قَالَ، لَيْسَ مَنْ عَبْدٍ يَذْكُرُ اللَّهُ إِلَّا ذَكَرَهُ اللَّهُ. لَا يَذْكُرُهُ مُؤْمِنٌ إِلَّا ذَكَرَهُ بِرَحْمَةٍ، وَلَا يَذْكُرُهُ كَافِرٌ إِلَّا ذَكَرَهُ بِعَذَابٍ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ: اشْكُرُوا لِي أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ فِيمَا أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَالْهِدَايَةِ لِلدِّينِ الَّذِي شَرَعْتُهُ لِأَنْبِيَائِي وَأَصْفِيَائِي، {وَلَا تَكْفُرُونَ}، يَقُولُ: وَلَا تَجْحَدُوا إِحْسَانِي إِلَيْكُمْ، فَأَسْلُبَكُمْ نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ، وَلَكِنِشْكُرُوا لِي عَلَيْهَا، وَأَزِيدُكُمْ فَأُتَمِّمَ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ، وَأَهْدَِيكُمْ لِمَا هَدَيْتُ لَهُ مَنْ رَضِيتُ عَنْهُ مِنْ عِبَادِي، فَإِنِّي وَعَدْتُ خَلْقِي أَنَّ مَنْ شَكَرَ لِي زِدْتُهُ، وَمَنْ كَفَرَنِي حَرَمْتُهُ وَسَلَبَتْهُ مَا أَعْطَيْتُهُ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ: " نَصَحْتُ لَكَ وَشَكَرْتُ لَكَ"، وَلَا تَكَادُ تَقُولُ: " نَصَحَتُكَ"، وَرُبَّمَا قَالَتْ: " شَكَرَتُكَ وَنَصَحَتُكَ)، مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ: هُـمُ جَـمَعُوا بُؤْسَـى ونُعْمَـى عَلَيْكُـمُ *** فَهَـلَّا شَـكَرْتَ القَـوْمَ إِذْ لَـمْ تُقَـاتِلِ وَقَالَ النَّابِغَةُ فِي " نَصَحْتُكَ ": نَصَحْـتُ بَنِـي عَـوَفٍ فَلَـمْ يَتَقَبَّلُـوا *** رَسُـولِي ولَـمْ تَنْجَـحْ لَـدَيْهِمْ وسَـائِلِي وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّمَعْنَى " الشُّكْرِ"، الثَّنَاءُ عَلَى الرَّجُلِ بِأَفْعَالِهِ الْمَحْمُودَةِ، وَأَنَّ مَعْنَى " الْكُفْرِ " تَغْطِيَةُ الشَّيْءِ، فِيمَا مَضَى قَبْلُ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هَاهُنَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذِهِ الْآيَةُ حَضٌّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَلَى طَاعَتِهِ، وَاحْتِمَالُ مَكْرُوهُهَا عَلَى الْأَبْدَانِ وَالْأَمْوَالِ، فَقَالَ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} عَلَى الْقِيَامِ بِطَاعَتِي، وَأَدَاءِ فَرَائِضِي فِي نَاسِخِ أَحْكَامِي، وَالِانْصِرَافِ عَمَّا أَنْسَخُهُ مِنْهَا إِلَى الَّذِي أُحْدِثُهُ لَكُمْ مِنْ فَرَائِضِي، وَأَنْقُلُكُمْ إِلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِي، وَالتَّسْلِيمِ لِأَمْرِي فِيمَا آمُرُكُمْ بِهِ فِي حِينِ إِلْزَامِكُمْ حُكْمَهُ، وَالتَّحَوُّلَ عَنْهُ بَعْدَ تَحْوِيلِي إِيَّاكُمْ عَنْهُ- وَإِنْ لَحِقَكُمْ فِي ذَلِكَ مَكْرُوهٌ مِنْ مَقَالَةِ أَعْدَائِكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ بِقَذْفِهِمْ لَكُمُ الْبَاطِلَ، أَوْ مَشَقَّةٌ عَلَى أَبْدَانِكُمْ فِي قِيَامِكُمْ بِهِ، أَوْ نَقْصٌ فِي أَمْوَالِكُمْ- وَعَلَى جِهَادِ أَعْدَائِكُمْ وَحَرْبِهِمْ فِي سَبِيلِي، بِالصَّبْرِ مِنْكُمْ لِي عَلَى مَكْرُوهِ ذَلِكَ وَمَشَقَّتِهِ عَلَيْكُمْ، وَاحْتِمَالِ عَنَائِهِ وَثِقَلِهِ، ثُمَّ بِالْفَزَعِ مِنْكُمْ فِيمَا يَنوبُكُمْ مِنْ مُفْظِعَاتِ الْأُمُورِ إِلَى الصَّلَاةِ لِي، فَإِنَّكُمْ بِالصَّبْرِ عَلَى الْمَكَارِهِ تُدْرِكُونَ مَرْضَاتِي، وَبِالصَّلَاةِ لِي تَسْتَنْجِحُونَ طَلَبَاتِكُمْ قِبَلِي، وَتُدْرِكُونَ حَاجَاتِكُمْ عِنْدِي، فَإِنِّي مَعَ الصَّابِرِينَ عَلَى الْقِيَامِ بِأَدَاءِ فَرَائِضِي وَتَرْكِ مَعَاصِيَّ، أَنْصُرُهُمْ وَأَرْعَاهُمْ وَأَكلَؤُهُمْ، حَتَّى يَظْفَرُوا بِمَا طَلَبُوا وَأَمَّلُوا قِبَلِي. وَقَدْ بَيَّنْتُ مَعْنَى " الصَّبْرِ " وَ " الصَّلَاة " فِيمَا مَضَى قَبْلُ، فَكَرِهْنَا إِعَادَتَهُ، كَمَا: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ}، يَقُولُ: اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ عَلَى مَرْضَاةِ اللَّهِ، وَاعْلَمُوا أَنَّهُمَا مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ. حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ قَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ}، اعْلَمُوا أَنَّهُمَا عَوْنٌ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}، فَإِنَّ تَأْوِيلَهُ: فَإِنَّ اللَّهَ نَاصِرُهُ وَظَهِيرُهُ وَرَاضٍ بِفِعْلِهِ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: " افْعَلْ يَا فُلَانُ كَذَا وَأَنَا مَعَكَ"، يَعْنِي: إِنِّي نَاصِرُكَ عَلَى فِعْلِكَ ذَلِكَ وَمُعِينُكَ عَلَيْهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ عَلَى طَاعَتِي فِي جِهَادِ عَدُوِّكُمْ، وَتَرْكِ مَعَاصِيَّ، وَأَدَاءِ سَائِرِ فَرَائِضِي عَلَيْكُمْ، وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ: هُوَ مَيِّتٌ، فَإِنَّ الْمَيِّتَ مِنْ خَلْقِي مَنْ سَلَبْتُهُ حَيَاتَهُ وَأَعْدَمْتُهُ حَوَاسَّهُ، فَلَا يَلْتَذُّ لَذَّةً وَلَا يُدْرِكُ نَعِيمًا، فَإِنَّ مَنْ قُتِلَ مِنْكُمْ وَمِنْ سَائِرِ خَلْقِي فِي سَبِيلِي، أَحْيَاءٌ عِنْدِي، فِي حَيَاةٍ وَنَعِيمٍ، وَعَيْشٍ هَنِيٍّ، وَرِزْقٍ سَنِيٍّ، فَرِحِينَ بِمَا آتَيْتُهُمْ مِنْ فَضْلِي، وَحَبَوْتُهُمْ بِهِ مِنْ كَرَامَتِي، كَمَا:- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {بَلْ أَحْيَاءٌ " عِنْدَ رَبِّهِمْ، يُرْزَقُونَ مِنْ ثَمَرِ الْجَنَّةِ، وَيَجِدُونَ رِيحَهَا، وَلَيْسُوا فِيهَا. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ}، كُنَّا نُحَدَّثُ أَنَّ أَرْوَاحَ الشُّهَدَاءِ تَعَارَفُ فِي طَيْرٍ بِيضٍ يَأْكُلْنَ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ، وَأَنَّ مَسَاكِنَهُمْ سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى، وَأَنَّ لِلْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثَلَاثُ خِصَالٍ مِنَ الْخَيْرِ: مَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنْهُمْ صَارَ حَيًّا مَرْزُوقًا، وَمَنْ غُلِبَ آتَاهُ اللَّهُ أَجْرًا عَظِيمًا، وَمَنْ مَاتَ رَزَقَهُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ " قَالَ، أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ فِي صُوَرِ طَيْرٍ بِيضٍ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ فِي قَوْلِهِ: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ}، فِي صُوَرِ طَيْرٍ خُضْرٍ يَطِيرُونَ فِي الْجِنِّهِ حَيْثُ شَاءُوا مِنْهَا، يَأْكُلُونَ مِنْ حَيْثُ شَاءُوا. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ غِيَاثٍ. قَالَ، سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ} قَالَ، أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ فِي طَيْرٍ خُضْرٍ فِي الْجَنَّةِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: وَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ}، مِنْ خُصُوصِيَّةِ الْخَبَرِ عَنِ الْمَقْتُولِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِي لَمَّ يَعُمَّ بِهِ غَيْرُهُ؟ وَقَدْ عَلِمْتُ تَظَاهُرَ الْأَخْبَارِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ وَصَفَ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ بَعْدَ وَفَاتِهِمْ، فَأَخْبَرَ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُمْ يُفْتَحُ لَهُمْ مِنْ قُبُورِهِمْ أَبْوَابٌ إِلَى الْجَنَّةِ يَشُمُّونَ مِنْهَا رَوْحَهَا، وَيَسْتَعْجِلُونَ اللَّهَ قِيَامَ السَّاعَةِ، لِيَصِيرُوا إِلَى مَسَاكِنِهِمْ مِنْهَا، وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهَالِيهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ فِيهَا وَعَنِ الْكَافِرِينَ أَنَّهُمْ يُفْتَحُ لَهُمْ مِنْ قُبُورِهِمْ أَبْوَابٌ إِلَى النَّارِ يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا، وَيُصِيبُهُمْ مِنْ نَتَنِهَا وَمَكْرُوهِهِا، وَيُسَلِّطُ عَلَيْهِمْ فِيهَا إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ مَنْ يَقْمَعُهُمْ فِيهَا، وَيَسْأَلُونَ اللَّهَ فِيهَا تَأْخِيرَ قِيَامِ السَّاعَةِ، حِذَارًا مِنَ الْمَصِيرِ إِلَى مَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ فِيهَا، مَعَ أَشْبَاهِ ذَلِكَ مِنَ الْأَخْبَارِ. وَإِذَا كَانَتِ الْأَخْبَارُ بِذَلِكَ مُتَظَاهِرَةً عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا الَّذِي خُصَّ بِهِ الْقَتِيلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، مِمَّا لَمْ يُعَمُّ بِهِ سَائِرُ الْبَشَرِ غَيْرُهُ مِنَ الْحَيَاةِ، وَسَائِرُ الْكُفَّارِ وَالْمُؤْمِنِينَ غَيْرُهُ أَحْيَاءٌ فِي الْبَرْزَخِ، أَمَّا الْكُفَّارُ فَمُعَذَّبُونَ فِيهِ بِالْمَعِيشَةِ الضَّنْكِ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَمُنَعَّمُونَ بِالرُّوحِ وَالرَّيْحَانِ وَنَسِيمِ الْجِنَانِ؟ قِيلَ: إِنَّ الَّذِي خَصَّ اللَّهُ بِهِ الشُّهَدَاءَ فِي ذَلِكَ، وَأَفَادَ الْمُؤْمِنِينَ بِخَبَرِهِ عَنْهُمْ تَعَالَى ذِكْرُهُ، إِعْلَامُهُ إِيَّاهُمْ أَنَّهُمْ مَرْزُوقُونَ مِنْ مَآكِلِ الْجَنَّةِ وَمَطَاعِمِهَا فِي بَرْزَخِهِمْ قَبْلَ بَعْثِهِمْ، وَمُنَعَّمُونَ بِالَّذِي يَنْعَمُ بِهِ دَاخِلُوهَا بَعْدَ الْبَعْثِ مِنْ سَائِرِ الْبَشَرِ، مِنْ لَذِيذِ مَطَاعِمِهَا الَّذِي لَمْ يُطْعِمْهَا اللَّهُ أَحَدًا غَيْرَهُمْ فِي بِرَزْخِهِ قَبْلَ بَعْثِهِ. فَذَلِكَ هُوَ الْفَضِيلَةُ الَّتِي فَضَّلَهُمْ بِهَا وَخَصَّهُمْ بِهَا مِنْ غَيْرِهِمْ، وَالْفَائِدَةُ الَّتِي أَفَادَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْخَبَرِ عَنْهُمْ، فَقَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 1170]، وَبِمِثْلِ الَّذِي قُلْنَا جَاءَ الْخَبَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَعَبَدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ فُضَيْلٍ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لُبَيْدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الشُّهَدَاءُ عَلَى بَارِقِ، نَهْرٍ بِبَابِ الْجَنَّةِ، فِي قُبَّةٍ خَضْرَاءَ- وَقَالَعَبْدَةُ: فِي رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ- يَخْرُجُ عَلَيْهِمْ رِزْقُهُمْ مِنَ الْجِنِّةِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا». حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ، حَدَّثَنَا جَابِرُ بْنُ نُوحٍ عَنِ الْإِفْرِيقِيِّ، عَنِ ابْنِ بَشَّارٍ السُّلَمِيِّ- أَوْ أَبِي بَشَّارٍ، شَكَّ أَبُو جَعْفَرٍ- قَالَ: أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ فِي قِبَابٍ بَيْضٍ مِنْ قِبَابِ الْجَنَّةِ، فِي كُلِّ قُبَّةٍ زَوْجَتَانِ، رِزْقُهُمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ ثَوْرٌ وَحُوتٌ، فَأَمَّا الثَّوْرُ، فَفِيهِ طَعْمُ كُلِّ ثَمَرَةٍ فِي الْجَنَّةِ، وَأَمَّا الْحُوتُ فَفِيهِ طَعْمُ كُلِّ شَرَابٍ فِي الْجَنَّةِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَإِنَّ الْخَبَرَ عَمَّا ذَكَرْتُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَفَادَ الْمُؤْمِنِينَ بِخَبَرِهِ عَنِ الشُّهَدَاءِ مِنَ النِّعْمَةِ الَّتِي خَصَّهُمْ بِهَا فِي الْبَرْزَخِ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي قَوْلِهِ: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ}، وَإِنَّمَا فِيهِ الْخَبَرُ عَنْ حَالِهِمْ، أَمْوَاتٌ هُمْ أَمْ أَحْيَاءٌ. قِيلَ: إِنَّ الْمَقْصُودَ بِذِكْرِ الْخَبَرِ عَنْ حَيَاتِهِمْ، إِنَّمَا هُوَ الْخَبَرُ عَمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ النِّعْمَةِ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لَمَّا كَانَ قَدْ أَنْبَأَ عِبَادَهُ عَمَّا خَصَّ بِهِ الشُّهَدَاءَ فِي قَوْلِهِ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 169]، وَعَلِمُوا حَالَهُمْ بِخَبَرِهِ ذَلِكَ، ثُمَّ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ فِي قَوْلِهِ: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ}، نَهْيَ خَلْقِهِ عَنْ أَنْ يَقُولُوا لِلشُّهَدَاءِ أَنَّهُمْ مَوْتَى تَرَكَ إِعَادَةَ ذِكْرِ مَا قَدْ بَيَّنَ لَهُمْ مِنْ خَبَرِهُمْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ}، فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ: وَلَكِنَّكُمْ لَا تَرَوْنَهُمْ فَتَعْلَمُوا أَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ، وَإِنَّمَا تَعْلَمُونَ ذَلِكَ بِخَبَرِي إِيَّاكُمْ بِهِ. وَإِنَّمَا رَفْعُ قَوْلِهِ: " أَمْوَاتٌ " بِإِضْمَارٍ مَكْنِيٍّ عَنْ أَسْمَاءِ {مَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، وَمَعْنَى ذَلِكَ: وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ هُمْ أَمْوَاتٌ. وَلَا يَجُوزُ النَّصْبُ فِي " الْأَمْوَاتِ)، لِأَنَّ الْقَوْلَ لَا يَعْمَلُ فِيهِمْ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {بَلْ أَحْيَاءٌ)، رَفْعٌ، بِمَعْنَى: هُمْ أَحْيَاءٌ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَتْبَاعَ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ مُبْتَلِيهِمْ وَمُمْتَحِنُهُمْ بِشَدَائِدَ مِنَ الْأُمُورِ، لِيَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ، كَمَا ابْتَلَاهُمْ فَامْتَحَنَهُمْ بِتَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَكَمَا امْتَحَنَ أَصْفِيَاءَهُ قَبْلَهُمْ. وَوَعَدَهُمْ ذَلِكَ فِي آيَةٍ أُخْرَى فَقَالَ لَهُمْ: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَاسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 214]، وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ يَقُولُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عبدُ اللهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {وَلِنَبْلُوَنكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ}، وَنَحْوَ هَذَا، قَالَ: أَخْبَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ الدُّنْيَا دَارُ بَلَاءٍ، وَأَنَّهُ مُبْتَلِيهِمْ فِيهَا، وَأَمَرَهُمْ بِالصَّبْرِ وَبَشَّرَهُمْ فَقَالَ: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}، ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ فَعَلَ هَكَذَا بِأَنْبِيَائِهِ وَصَفْوَتِهِ، لِتَطِيبَ أَنْفُسُهُمْ فَقَالَ: {مَسَّتْهُمُ الْبَاسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا}. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ}، وَلَنَخْتَبِرَنَّكُمْ. وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَى الْبَيَانِ عَنْ أَنَّ مَعْنَى " الِابْتِلَاءِ " الِاخْتِبَارُ، فِيمَا مَضَى قَبْلُ. وَقَوْلُهُ: {بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ}، يَعْنِي مِنَ الْخَوْفِ مِنَ الْعَدُوِِّ، وَبِالْجُوعِ- وَهُوَ الْقَحْطُ- يَقُولُ: لَنَخْتَبِرَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ خَوْفٍ يَنَالُكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَبِسَنَةٍ تُصِيبُكُمْ يَنَالُكُمْ فِيهَا مَجَاعَةٌ وَشِدَّةٌ، وَتَتَعَذَّرُ الْمَطَالِبُ عَلَيْكُمْ، فَتَنْقُصُ لِذَلِكَ أَمْوَالُكُمْ، وَحُرُوبٌ تَكُونُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ أَعْدَائِكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ، فَيَنْقُصُ لَهَا عَدَدُكُمْ، وَمَوْتُ ذَرَارِيكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ، وجُدوبٌ تَحْدُثُ، فَتَنْقُصُ لَهَا ثِمَارُكُمْ. كُلُّ ذَلِكَ امْتِحَانٌ مِنِّي لَكُمْ، وَاخْتِبَارٌ مِنِّي لَكُمْ، فَيَتَبَيَّنُ صَادَقُوكُمْ فِي إِيمَانِهِمْ مِنْ كَاذِبِيكُمْ فِيهِ، وَيُعْرَفُ أَهْلُ الْبَصَائِرِ فِي دِينِهِمْ مِنْكُمْ، مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ فِيهِ وَالشَّكِّ وَالِارْتِيَابِ. كُلُّ ذَلِكَ خِطابٌ مِنْهُ لِأَتْبَاعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، كَمَا: حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ إِدْرِيسَ الْكُوفِيُّ الْأَصَمُّ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ عبدِ الْمَلِكِ، عَنْ عَطَاءٍ فِي قَوْلِهِ: {وَلَنَبْلُوَنكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ} قَالَ، هُمْ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَإِنَّمَا قَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ} وَلَمْ يَقُلْ بِأَشْيَاءَ، لِاخْتِلَافِ أَنْوَاعِ مَا أَعْلَمَ عِبَادَهُ أَنَّهُ مُمْتَحِنُهُمْ بِهِ. فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مُخْتَلِفًا- وَكَانَتْ " مِن " تَدَلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ نَوْعٍ مِنْهَا مُضْمَرُ " شَيْءٍ"، فَإِنَّ مَعْنَى ذَلِكَ: وَلِنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ، وَبِشَيْءٍ مِنَ الْجُوعِ، وَبِشَيْءٍ مِنْ نَقْصِ الْأَمْوَالِ- اكْتَفَى بِدَلَالَةِ ذِكْرِ " الشَّيْءِ " فِي أَوَّلِهِ، مِنْ إِعَادَتِهِ مَعَ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا. فَفَعَلَ تَعَالَى ذِكْرُهُ كُلَّ ذَلِكَ بِهِمْ، وَامْتَحَنَهُمْ بِضُرُوبِ الْمِحَنِ، كَمَا:- حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ فِي قَوْلِهِ {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ} قَالَ، قَدْ كَانَ ذَلِكَ، وَسَيَكُونُ مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ اللَّهُ عِنْدَ ذَلِكَ: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلِيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا مُحَمَّدُ، بَشِّرِ الصَّابِرِينَ عَلَى امْتِحَانِي بِمَا أَمْتَحِنُهُمْ بِهِ، وَالْحَافِظِينَ أَنْفُسَهُمْ عَنِ التَّقَدُّمِ عَلَى نَهْيِي عَمَّا أَنْهَاهُمْ عَنْهُ، وَالْآخِذِينَ أَنْفُسَهُمْ بِأَدَاءِ مَا أُكَلِّفُهُمْ مِنْ فَرَائِضِي، مَعَ ابْتِلَائِي إِيَّاهُمْ بِمَا أَبْتَلِيهِمْ بِهِ، الْقَائِلِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ: " إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ". فَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِأَنْ يَخُصَّ- بِالْبِشَارَةِ عَلَى مَا يَمْتَحِنُهُمْ بِهِ مِنَ الشَّدَائِدِ- أَهْلَ الصَّبْرِ، الَّذِينَ وَصَفَ اللَّهُ صِفَتَهُمْ. وَأَصْلُ " التَّبْشِيرِ ": إِخْبَارُ الرَّجُلِ الرَّجُلَ الْخَبَرَ، يَسُرُّهُ أَوْ يَسُوءُهُ، لَمْ يَسْبِقْهُ بِهِ إِلَى غَيْرِهِ
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَبَشِّرْ، يَا مُحَمَّدُ، الصَّابِرِينَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّ جَمِيعَ مَا بِهِمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِّي، فَيُقِرُّونَ بِعُبُودِيَّتِي، وَيُوَحِّدُونَنِي بِالرُّبُوبِيَّةِ، وَيُصَدِّقُونَ بِالْمَعَادِ وَالرُّجُوعِ إِلَيَّ فَيَسْتَسْلِمُونَ لِقَضَائِي، وَيَرْجُونَ ثَوَابِي، وَيَخَافُونَ عِقَابِي، وَيَقُولُونَ- عِنْدَ امْتِحَانِي إِيَّاهُمْ بِبَعْضِ مِحَنِي، وَابْتِلَائِي إِيَّاهُمْ بِمَا وَعَدْتُهُمْ أَنْ أَبْتَلِيَهُمْ بِهِ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصِ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَصَائِبِ الَّتِي أَنَا مُمْتَحِنُهُمْ بِهَا- إِنَّا مَمَالِيكُ رَبِّنَا وَمَعْبُودِنَا أَحْيَاءً، وَنَحْنُ عَبِيدُهُ وَإِنَّا إِلَيْهِ بَعْدَ مَمَاتِنَا صَائِرُونَ- تَسْلِيمًا لِقَضَائِي وَرِضًا بِأَحْكَامِي.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: {أُولَئِكَ}، هَؤُلَاءِ الصَّابِرُونَ، الَّذِينَ وَصَفَهُمْ وَنَعَتَهُمْ- " عَلَيْهِمْ}، يَعْنِي: لَهُمْ {صَلَوَاتٌ}، يَعْنِي: مَغْفِرَةٌ. " وَصَلَوَاتُ اللَّهِ " عَلَى عِبَادِهِ، غُفْرَانُهُ لِعِبَادِهِ، كَالَّذِي رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى ". يَعْنِي: اغْفِرْ لَهُمْ. وَقَدْ بَيَّنَّا " الصَّلَاةَ " وَمَا أَصْلُهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَقَوْلُهُ: {وَرَحْمَةٌ}، يَعْنِي: وَلَهُمْ مَعَ الْمَغْفِرَةِ، الَّتِي بِهَا صَفَحَ عَنْ ذُنُوبِهِمْ وَتَغَمَّدَهَا، رَحْمَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَأْفَةٌ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى ذِكْرُهُ- مَعَ الَّذِي ذَكَرَ أَنَّهُ مُعْطِيهِمْ عَلَى اصْطِبَارِهِمْ عَلَى مِحَنِهِ، تَسْلِيمًا مِنْهُمْ لِقَضَائِهِ، مِنَ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ- أَنَّهُمْ هُمُ الْمُهْتَدُونَ، الْمُصِيبُونَ طَرِيقَ الْحَقِّ، وَالْقَائِلُونَ مَا يُرْضَى عَنْهُمْ وَالْفَاعِلُونَ مَا اسْتَوْجَبُوا بِهِ مِنَ اللَّهِ الْجَزِيلَ مِنَ الثَّوَابِ. وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى " الِاهْتِدَاءِ"، فِيمَا مَضَى، فَإِنَّهُ بِمَعْنَى الرُّشْدِ لِلصَّوَابِ. وَبِمَعْنَى مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عبدُ اللهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحِمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} قَالَ، أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا سَلَّمَ الْأَمْرَ إِلَى اللَّهِ، وَرَجَعَ وَاسْتَرْجَعَ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ، كُتِبَ لَهُ ثَلَاثُ خِصَالٍ مِنَ الْخَيْرِ: الصَّلَاةُ مِنَ اللَّهِ، وَالرَّحْمَةُ، وَتَحْقِيقُ سَبِيلِ الْهُدَى. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنِ اسْتَرْجَعَ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ، جَبْرَ اللَّهُ مُصِيبَتَهُ، وَأَحْسَنَ عُقْبَاهُ، وَجَعَلَ لَهُ خَلَفًا صَالِحًا يَرْضَاه». حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ فِي قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ}، يَقُولُ: الصَّلَوَاتُ وَالرَّحْمَةُ عَلَى الَّذِينَ صَبَرُوا وَاسْتَرْجَعُوا. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ العُصْفُرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: مَا أُعْطِيَ أَحَدٌ مَا أُعْطِيَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ {الذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ}، وَلَوْ أُعْطِيَهَا أَحَدٌ لَأُعْطِيَهَا يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَلَمْ تَسْمَعْ إِلَى قَوْلِهِ: {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} [سُورَةُ يُوسُفَ: 84].
|