الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ}، الْفَرِيقَ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ وَعُلَمَائِهَا، الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّهُ-جَلَّ ثَنَاؤُه-ُ بِأَنَّهُمْ نَبَذُوا كِتَابَهُ الَّذِي أَنْـزَلَهُ عَلَى مُوسَى، وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، تَجَاهُلًا مِنْهُمْ وَكُفْرًا بِمَا هُمْ بِهِ عَالِمُونَ، كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ. فَأَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ رَفَضُوا كِتَابَهُ الَّذِي يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَـزَّلٌ مِنْ عِنْدِهِ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَقَضُوا عَهْدَهُ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ فِي الْعَمَلِ بِمَا فِيهِ، وَآثَرُوا السِّحْرَ الَّذِي تَلَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي مُلِكِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ فَاتَّبَعُوهُ، وَذَلِكَ هُوَ الْخَسَارُ وَالضَّلَالُ الْمُبِينُ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الَّذِينَ عُنُوْا بِقَوْلِهِ: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ}. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَنَى اللَّهُ بِذَلِكَ الْيَهُودَ الَّذِينَ كَانُوا بَيْنَ ظَهَرَانَيْ مُهَاجَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّهُمْ خَاصَمُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّوْرَاةِ، فَوَجَدُوا التَّوْرَاةَ لِلْقُرْآنِ مُوَافِقَةً، تَأْمُرُ مِنْ اتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَصْدِيقِهِ، بِمِثْلِ الَّذِي يَأْمُرُ بِهِ الْقُرْآنُ، فَخَاصَمُوا بِالْكُتُبِ الَّتِي كَانَ النَّاسُ اكْتَتَبُوهَا مِنَ الْكَهَنَةِ عَلَى عَهْدِ سُلَيْمَانَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ}- عَلَى عَهْدِ سُلَيْمَانَ- قَالَ: كَانَتِ الشَّيَاطِينُ تَصْعَدُ إِلَى السَّمَاءِ، فَتَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ، فَيَسْتَمِعُونَ مِنْ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ فِيمَا يَكُونُ فِي الْأَرْضِ مِنْ مَوْتٍ أَوْ غَيْثٍ أَوْ أَمْرٍ، فَيَأْتُونَ الْكَهَنَةَ فَيُخْبِرُونَهُمْ، فَتُحَدِّثُ الْكَهَنَةُ النَّاسَ، فَيَجِدُونَهُ كَمَا قَالُوا. حَتَّى إِذَا أَمِنَتْهُمُ الْكَهَنَةُ كَذَبُوا لَهُمْ فَأَدْخَلُوا فِيهِ غَيْرَهُ، فَزَادُوا مَعَ كُلِّ كَلِمَةٍ سَبْعِينَ كَلِمَةً، فَاكْتَتَبَ النَّاسُ ذَلِكَ الْحَدِيثَ فِي الْكُتُبِ، وَفَشَا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّ الْجِنَّ تَعْلَمُ الْغَيْبَ، فَبَعَثَ سُلَيْمَانُ فِي النَّاسِ فَجَمَعَ تِلْكَ الْكُتُبَ، فَجَعَلَهَا فِي صُنْدُوقٍ، ثُمَّ دَفَنَهَا تَحْتَ كُرْسِيِّهِ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ الشَّيَاطِينِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَدْنُوَ مِنَ الْكُرْسِيِّ إِلَّا احْتَرَقَ، وَقَالَ: لَا أَسْمَعْ أَحَدًا يَذْكُرُ أَنَّ الشَّيَاطِينَ تَعْلَمُ الْغَيْبَ إِلَّا ضَرَبَتْ عُنُقَهُ! فَلَمَّا مَاتَ سُلَيْمَانُ، وَذَهَبَتِ الْعُلَمَاءُ الَّذِينَ كَانُوا يَعْرِفُونَ أَمْرَ سُلَيْمَانَ، وَخَلَفَ بَعْدَ ذَلِكَ خَلْفٌ، تَمَثَّلَ الشَّيْطَانُ فِي صُورَةِ إِنْسَانٍ، ثُمَّ أَتَى نَفَرًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالَ: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى كَنْـزٍ لَا تَأْكُلُونَهُ أَبَدًا؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَاحْفُرُوا تَحْتَ الْكُرْسِيِّ، وَذَهَبَ مَعَهُمْ فَأَرَاهُمُ الْمَكَانَ، وَقَامَ نَاحِيَةً، فَقَالُوا لَهُ: فَادْنُ! قَالَ: لَا وَلَكِنِّي هَاهُنَا فِي أَيْدِيكُمْ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوهُ فَاقْتُلُونِي! فَحَفَرُوا فَوَجَدُوا تِلْكَ الْكُتُبَ، فَلَمَّا أَخْرَجُوهَا قَالَ الشَّيْطَانُ: إِنَّ سُلَيْمَانَ إِنَّمَا كَانَ يَضْبُطُ الْإِنْسَ وَالشَّيَاطِينَ وَالطَّيْرَ بِهَذَا السِّحْرِ، ثُمَّ طَارَ فَذَهَبَ، وَفَشَا فِي النَّاسِ أَنَّ سُلَيْمَانَ كَانَ سَاحِرًا، وَاتَّخَذَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تِلْكَ الْكُتُبَ، فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَمُوهُ بِهَا، فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ}. حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ فِي قَوْلِهِ: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ}، قَالُوا: إِنَّ الْيَهُودَ سَأَلُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَمَانًا عَنْ أُمُورٍ مِنَ التَّوْرَاةِ، لَا يَسْأَلُونَهُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا أَنْـزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَا سَأَلُوهُ عَنْهُ، فَيَخْصِمُهُمْ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَالُوا: هَذَا أَعْلَمُ بِمَا أُنْـزِلُ إِلَيْنَا مِنَّا! وَأَنَّهُمْ سَأَلُوهُ عَنِ السِّحْرِ وَخَاصَمُوهُ بِهِ، فَأَنْـزَلَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ}. وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ عَمَدُوا إِلَى كِتَابٍ فَكَتَبُوا فِيهِ السِّحْرَ وَالْكِهَانَةَ وَمَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ، فَدَفَنُوهُ تَحْتَ مَجْلِسِ سُلَيْمَانَ- وَكَانَ سُلَيْمَانُ لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ، فَلَمَّا فَارَقَ سُلَيْمَانُ الدُّنْيَا اسْتَخْرَجُوا ذَلِكَ السِّحْرَ وَخَدَعُوا بِهِ النَّاسَ، وَقَالُوا: هَذَا عِلْمٌ كَانَ سُلَيْمَانُ يَكْتُمُهُ وَيَحْسُدُ النَّاسَ عَلَيْهِ! فَأَخْبَرَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا الْحَدِيثِ، فَرَجَعُوا مِنْ عِنْدِهِ وَقَدْ حَزِنُوا، وَأَدْحَضَ اللَّهُ حُجَّتَهُمْ. وَحَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ}، قَالَ: لَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ، {نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} الْآيَةَ، قَالَ: اتَّبَعُوا السِّحْرَ، وَهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ. فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ}. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عَنَى اللَّهُ بِذَلِكَ الْيَهُودَ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى عَهْدِ سُلَيْمَانَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: تَلَتِ الشَّيَاطِينُ السِّحْرَ عَلَى الْيَهُودِ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ، فَاتَّبَعَتْهُ الْيَهُودُ عَلَى مُلْكِهِ، يَعْنِي اتَّبَعُوا السِّحْرَ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: عَمَدَتِ الشَّيَاطِينُ حِينَ عَرَفَتْ مَوْتَ سُلَيْمَانَ بْنُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَكَتَبُوا أَصْنَافَ السِّحْرِ: (مَنْ كَانَ يُحِبُّ أَنْ يَبْلُغَ كَذَا وَكَذَا، فَلْيَفْعَلْ كَذَا وَكَذَا). حَتَّى إِذَا صَنَعُوا أَصْنَافَ السِّحْرِ، جَعَلُوهُ فِي كِتَابٍ ثُمَّ خَتَمُوا عَلَيْهِ بِخَاتَمٍ عَلَى نَقْشِ خَاتَمِ سُلَيْمَانَ، وَكَتَبُوا فِي عُنْوَانِهِ: "هَذَا مَا كَتَبَ آصفُ بْنُ بَرْخِيَا الصَّدِيقُ لِلْمَلِكِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ مِنْ ذَخَائِرِ كُنُوزِ الْعِلْمِ"، ثُمَّ دَفَنُوهُ تَحْتَ كُرْسِيِّهِ، فَاسْتَخْرَجَتْهُ بَعْدَ ذَلِكَ بَقَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ حِينَ أَحْدَثُوا مَا أَحْدَثُوا، فَلَمَّا عَثَرُوا عَلَيْهِ قَالُوا: مَا كَانَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ إِلَّا بِهَذَا! فَأَفْشَوْا السِّحْرَ فِي النَّاسِ وَتَعَلَّمُوهُ وَعَلَّمُوهُ، فَلَيْسَ فِي أَحَدٍ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي يَهُودَ. فَلَمَّا ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِيمَا نَـزَلَ عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ، سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ وَعَدَّهُ فِيمَنْ عَدَّهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، قَالَ مَنْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ مِنْ يَهُودَ: أَلَا تَعْجَبُونَ لِمُحَمَّدٍ ! يَزْعُمُ أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ كَانَ نَبِيًّا! وَاللَّهِ مَا كَانَ إِلَّا سَاحِرًا! فَأَنْـزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا}. قَالَ: كَانَ حِينَ ذَهَبَ مُلْكُ سُلَيْمَانَ، ارْتَدَّ فِئَامٌ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ، فَلَمَّا رَجَعَ اللَّهُ إِلَى سُلَيْمَانَ مُلْكَهُ، قَامَ النَّاسُ عَلَى الدِّينِ كَمَا كَانُوا، وَأَنَّ سُلَيْمَانَ ظَهَرَ عَلَى كُتُبِهِمْ فَدَفَنَهَا تَحْتَ كُرْسِيِّهِ، وَتُوُفِّيَ سُلَيْمَانُ حِدْثَانَ ذَلِكَ، فَظَهَرَتِ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ عَلَى الْكُتُبِ بَعْدَ وَفَاةِ سُلَيْمَانَ، وَقَالُوا: هَذَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ نـَزَلَ عَلَى سُلَيْمَانَ أَخْفَاهُ مِنَّا! فَأَخَذُوا بِهِ فَجَعَلُوهُ دِينًا، فَأَنْـزَلَ اللَّهُ: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ}، وَهِيَ الْمَعَازِفُ وَاللَّعِبُ، وَكُلُّ شَيْءٍ يَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ}، أَنَّ ذَلِكَ تَوْبِيخٌ مِنَ اللَّهِ لِأَحْبَارِ الْيَهُودِ الَّذِينَ أَدْرَكُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَحَدُوا نُبُوَّتَهُ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لِلَّهِ رَسُولٌ مُرْسَلٌ، وَتَأْنِيبٌ مِنْهُ لَهُمْ فِي رَفْضِهِمْ تَنْـزِيلَهُ، وَهَجْرِهِمُ الْعَمَلَ بِهِ، وَهُوَ فِي أَيْدِيهِمْ يَعْلَمُونَهُ وَيَعْرِفُونَ أَنَّهُ كِتَابُ اللَّهِ، وَاتِّبَاعِهِمْ وَاتِّبَاعِ أَوَائِلِهِمْ وَأَسْلَافِهِمْ مَا تَلَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي عَهْدِ سُلَيْمَانَ. وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ جَوَازِ إِضَافَةِ أَفْعَالِ أَسْلَافِهِمْ إِلَيْهِمْ فِيمَا مَضَى، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا هَذَا التَّأْوِيلَ، لِأَنَّ الْمُتَّبِعَةَ مَا تَلَتْهُ الشَّيَاطِينُ، فِي عَهْدِ سُلَيْمَانَ وَبَعْدَهُ إِلَى أَنْ بَعَثَ اللَّهُ نَبِيَّهُ بِالْحَقِّ، وَأَمرُ السِّحْرِ لَمْ يَزَلْ فِي الْيَهُودِ. وَلَا دِلَالَةَ فِي الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ بِقَوْلِهِ: (وَاتَّبَعُوا) بَعْضًا مِنْهُمْ دُونَ بَعْضٍ. إِذْ كَانَ جَائِزًا فَصِيحًا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِضَافَةُ مَا وَصَفْنَا- مِنْ اتِّبَاعِ أَسْلَافِ الْمُخْبَرِ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ}- إِلَى أَخِلَافِهِمْ بَعْدَهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ بِخُصُوصِ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَثَرٌ مَنْقُولٌ، وَلَا حُجَّةٌ تَدُلُّ عَلَيْهِ؛ فَكَانَ الْوَاجِبُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: كُلُّ مُتَّبَعٍ مَا تَلَتْهُ الشَّيَاطِينُ عَلَى عَهْدِ سُلَيْمَانَ مِنَ الْيَهُودِ، دَاخِلٌ فِي مَعْنَى الْآيَةِ، عَلَى النَّحْوِ الَّذِي قُلْنَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي-جَلَّ ثَنَاؤُهُ- بِقَوْلِهِ: (مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ)، الَّذِي تَتْلُو. فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إذًا: وَاتَّبَعُوا الَّذِي تَتْلُو الشَّيَاطِينُ. وَاخْتُلِفَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: (تَتْلُو). فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ: (تَتْلُو)، تُحَدِّثُ وَتَرْوِي، وَتَتَكَلَّمُ بِهِ وَتُخْبِرُ، نَحْوَ "تِلَاوَةِ" الرِّجْلِ لِلْقُرْآنِ، وَهِيَ قِرَاءَتُهُ. وَوَجَّهَ قَائِلُو هَذَا الْقَوْلِ تَأْوِيلَهُمْ ذَلِكَ، إِلَى أَنَّ الشَّيَاطِينَ هِيَ الَّتِي عَلَّمَتِ النَّاسَ السِّحْرَ وَرَوَتْهُ لَهُمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ مُجَاهِدٍ فِيقَوْلِ اللَّهِ: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ}، قَالَ: كَانَتِ الشَّيَاطِينُ تَسْمَعُ الْوَحْيَ، فَمَا سَمِعُوا مِنْ كَلِمَةٍ زَادُوا فِيهَا مِائَتَيْنِ مِثْلَهَا. فَأَرْسَلَ سُلَيْمَانُ إِلَى مَا كَتَبُوا مِنْ ذَلِكَ فَجَمَعَهُ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ سُلَيْمَانُ وَجَدَتْهُ الشَّيَاطِينُ، فَعَلَّمَتْهُ النَّاسَ، وَهُوَ السِّحْرُ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ}، مِنَ الْكِهَانَةِ وَالسِّحْرِ. وَذُكِرَ لَنَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، أَنَّ الشَّيَاطِينَ ابْتَدَعَتْ كِتَابًا فِيهِ سَحْرٌ وَأَمْرٌ عَظِيمٌ، ثُمَّ أَفْشَوْهُ فِي النَّاسِ وَعَلَّمُوهُمْ إِيَّاهُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ عَطَاءٌ: قَوْلُهُ: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ}، قَالَ: نَرَاهُ مَا تُحَدِّثُ. حَدَّثَنِي سَلْمُ بْنُ جُنادَةَ السُّوَائِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: انْطَلَقَتِ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَيَّامِ الَّتِي ابْتُلِيَ فِيهَا سُلَيْمَانُ، فَكَتَبَتْ فِيهَا كُتُبًا فِيهَا سِحْرٌ وَكُفْرٌ، ثُمَّ دَفَنُوهَا تَحْتَ كُرْسِيِّ سُلَيْمَانَ، ثُمَّ أَخْرَجُوهَا فَقَرَأُوهَا عَلَى النَّاسِ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: (مَا تَتْلُو)، مَا تَتَّبِعُهُ وَتَرْوِيهِ وَتَعْمَلُ بِهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَمْرٍو العَنْقَزِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَسْبَاطٍ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: (تَتْلُو)، قَالَ: تَتَّبِعُ. حَدَّثَنِي نَصْرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَزْدِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي رَزِينٍ مِثْلَهُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَخْبَرَ عَنِ الَّذِينَ أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ اتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى عَهْدِ سُلَيْمَانَ، بِاتِّبَاعِهِمْ مَا تَلَتْهُ الشَّيَاطِينُ. وَلِقَوْلِ الْقَائِلِ: (هُوَ يَتْلُو كَذَا) فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَعْنَيَانِ. أَحَدُهُمَا: الِاتِّبَاعُ، كَمَا يُقَالُ: (تَلَوْتُ فُلَانًا) إِذَا مَشَيْتُ خَلْفَهُ وَتَبِعْتُ أَثَرَهُ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {هُنَالِكَ تَتْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ} [يُونُسَ: 30]، يَعْنِي بِذَلِكَ تَتَّبِعُ. وَالْآخَرُ: الْقِرَاءَةُ وَالدِّرَاسَةُ، كَمَا تَقُولُ: (فُلَانٌ يَتْلُو الْقُرْآنَ)، بِمَعْنَى أَنَّهُ يَقْرَؤُهُ وَيَدْرُسُهُ، كَمَا قَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ: نَبِـيٌّ يَـرَى مَـا لَا يَـرَى النَّاسُ حَوْلَهُ *** وَيَتْلُـو كِتَـابَ اللَّـهِ فِـي كُـلِّ مَشْهَدِ وَلَمْ يُخْبِرْنَا اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ- بَأَىِّ مَعْنَى "التِّلَاوَةِ" كَانَتْ تِلَاوَةُ الشَّيَاطِينِ الَّذِينَ تَلَوْا مَا تَلَوْهُ مِنَ السِّحْرِ عَلَى عَهْدِ سُلَيْمَانَ- بِخَبَرٍ يَقْطَعُ الْعُذْرَ. وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الشَّيَاطِينُ تَلَتْ ذَلِكَ دِرَاسَةً وَرِوَايَةً وَعَمَلًا فَتَكُونُ كَانَتْ مُتْبِعَتَهُ بِالْعَمَلِ، وَدَارَسَتْهُ بِالرِّوَايَةِ، فَاتَّبَعَتِ الْيَهُودُ مِنْهَاجَهَا فِي ذَلِكَ، وَعَمِلَتْ بِهِ، وَرَوَتْهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مُلْكِ سُلَيْمَانَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: (عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ)، فِي مُلْكِ سُلَيْمَانَ. وَذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ تَضَعُ "فِي" مَوْضِعِ "عَلَى" وَ"عَلَى" فِي مَوْضِعِ "فِي". مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [سُورَةُ طه: 71] يَعْنِي بِهِ: عَلَى جُذُوعِ النَّخْلِ، وَكَمَا قَالُوا: (فَعَلَتْ كَذَا فِي عَهْدِ كَذَا، وَعَلَى عَهْدِ كَذَا)، بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَبِمَا قُلْنَا مِنْ ذَلِكَ كَانَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَابْنُ إِسْحَاقَ يَقُولَانِ فِي تَأْوِيلِهِ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: (عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ)، يَقُولُ: فِي مُلْكِ سُلَيْمَانَ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ قَالَ: قَالَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ فِي قَوْلِهِ: {عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ}، أَيْ: فِي مُلْكِ سُلَيْمَانَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: إِنْ قَالَ لَنَا قَائِل: وَمَا هَذَا الْكَلَامُ، مِنْ قَوْلِهِ: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ}، وَلَا خَبَرَ مَعَنَا قَبْلُ عَنْ أَحَدٍ أَنَّهُ أَضَافَ الْكُفْرَ إِلَى سُلَيْمَانَ، بَلْ إِنَّمَا ذَكَرَ اتِّبَاعَ مَنْ اتَّبَعَ مِنَ الْيَهُودِ مَا تَلَتْهُ الشَّيَاطِينُ؟ فَمَا وَجْهُ نَفْيِ الْكُفْرِ عَنْ سُلَيْمَانَ، بِعَقِبِ الْخَبَرِ عَنْ اتِّبَاعِ مَنْ اتَّبَعَتِ الشَّيَاطِينَ فِي الْعَمَلِ بِالسِّحْرِ وَرِوَايَتِهِ مِنَ الْيَهُودِ؟ قِيلَ: وَجْهُ ذَلِكَ، أَنَّ الَّذِينَ أَضَافَ اللَّهُ-جَلَّ ثَنَاؤُهُ- إِلَيْهِمْ اتِّبَاعَ مَا تَلَتْهُ الشَّيَاطِينُ عَلَى عَهْدِ سُلَيْمَانَ مِنَ السِّحْرِ وَالْكَفْرِ مِنَ الْيَهُودِ، نَسَبُوا مَا أَضَافَهُ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ إِلَى الشَّيَاطِينِ مِنْ ذَلِكَ، إِلَى سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ. وَزَعَمُوا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مَنْ عَلِمَهُ وَرِوَايَته، وَأَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ يَسْتَعْبِدُ مَنْ يَسْتَعْبِدُ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ وَسَائِرِ خَلْقِ اللَّهِ بِالسِّحْرِ؛ فَحَسَّنُوا بِذَلِكَ- مِنْ رُكُوبِهِمْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ السِّحْرِ- أَنْفُسَهُمْ، عِنْدَ مَنْ كَانَ جَاهِلًا بِأَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ، وَعِنْدَ مَنْ كَانَ لَا عِلْمَ لَهُ بِمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ مِنَ التَّوْرَاةِ، وَتَبَرَّأَ بِإِضَافَةِ ذَلِكَ إِلَى سُلَيْمَانَ- مِنْ سُلَيْمَانَ، وَهُوَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْهُمْ بَشَرٌ، وَأَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ كَانَ لِلَّهِ رَسُولًا وَقَالُوا: بَلْ كَانَ سَاحِرًا، فَبَرَّأَ اللَّهُ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ مِنَ السَّحَرِ وَالْكُفْرِ عِنْدَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ يَنْسُبُهُ إِلَى السِّحْرِ وَالْكُفْرِ لِأَسْبَابٍ ادَّعَوْهَا عَلَيْهِ قَدْ ذَكَرْنَا بَعْضَهَا، وَسَنَذْكُرُ بَاقِيَ مَا حَضَرَنَا ذِكْرُهُ مِنْهَا وَأَكْذَبَ الْآخَرِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَعْمَلُونَ بِالسِّحْرِ مُتَزَيِّنِينَ عِنْدَ أَهْلِ الْجَهْلِ فِي عَمَلِهِمْ ذَلِكَ، بِأَنَّ سُلَيْمَانَ كَانَ يَعْمَلُهُ، فَنَفَى اللَّهُ عَنْ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَكُونَ كَانَ سَاحِرًا أَوْ كَافِرًا، وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُمْ إِنَّمَا اتَّبَعُوا- فِي عَمَلِهِمْ بِالسِّحْرِ- مَا تَلَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي عَهْدِ سُلَيْمَانَ، دُونَ مَا كَانَ سُلَيْمَانُ يَأْمُرُهُمْ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ، وَاتِّبَاعِ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ فِي كِتَابِهِ الَّذِي أَنْـزَلَهُ عَلَى مُوسَى صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ. ذِكْرُ الدَّلَائِلِ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا مِنَ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ الْقُمِّيُّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي الْمُغِيرَةِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: كَانَ سُلَيْمَانُ يَتَتَبَّعُ مَا فِي أَيْدِي الشَّيَاطِينِ مِنَ السِّحْرِ، فَيَأْخُذُهُ فَيَدْفِنُهُ تَحْتَ كُرْسِيِّهِ فِي بَيْتِ خِزَانَتِهِ، فَلَمْ تَقْدِرِ الشَّيَاطِينُ أَنْ يَصِلُوا إِلَيْهِ، فَدَنَتْ إِلَى الْإِنْسِ فَقَالُوا لَهُمْ: أَتُرِيدُونَ الْعِلْمَ الَّذِي كَانَ سُلَيْمَانُ يُسَخِّرُ بِهِ الشَّيَاطِينَ وَالرِّيَاحَ وَغَيْرَ ذَلِكَ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالُوا: فَإِنَّهُ فِي بَيْتِ خِزَانَتِهِ وَتَحْتَ كُرْسِيِّهِ، فَاسْتَثَارَتْهُ الْإِنْسُ فَاسْتَخْرَجُوهُ فَعَمِلُوا بِهِ. فَقَالَ أَهْلُ الْحِجَازِ: كَانَ سُلَيْمَانُ يَعْمَلُ بِهَذَا، وَهَذَا سِحْرٌ! فَأَنْـزَلَ اللَّهُ-جَلَّ ثَنَاؤُهُ- عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَرَاءَةَ سُلَيْمَانَ. فَقَالَ: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} الْآيَةَ، فَأَنْـزَلَ اللَّهُ بَرَاءَة سُلَيْمَانَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. حَدَّثَنِي أَبُو السَّائِبِ السُّوائِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الَّذِي أَصَابَ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ، فِي سَبَبِ أُنَاسٍ مَنْ أَهْلِ امْرَأَةٍ يُقَالُ لَهَاجَرَادَةُ، وَكَانَتْ مَنْ أَكْرَمِ نِسَائِهِ عَلَيْهِ، قَالَ: فَكَانَ هَوَى سُلَيْمَانَ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ لِأَهْلِالْجَرَادَةِفَيَقْضِي لَهُمْ، فَعُوقِبَ حِينَ لَمْ يَكُنْ هَوَاهُ فِيهِمْ وَاحِدًا. قَالَ: وَكَانَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ الْخَلَاءَ، أَوْ يَأْتِيَ شَيْئًا مِنْ نِسَائِهِ، أَعْطَىالْجَرَادَةَخَاتَمَهُ، فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَبْتَلِيَ سُلَيْمَانَ بِالَّذِي ابْتَلَاهُ بِهِ، أَعْطَىالْجَرَادَةَذَاتَ يَوْمٍ خَاتَمَهُ، فَجَاءَ الشَّيْطَانُ فِي صُورَةِ سُلَيْمَانَ فَقَالَ لَهَا: هَاتِي خَاتَمِي! فَأَخَذَهُ فَلَبِسَهُ. فَلَمَّا لَبِسَهُ دَانَتْ لَهُ الشَّيَاطِينُ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ، قَالَ: فَجَاءَهَا سُلَيْمَانُ فَقَالَ: هَاتِي خَاتَمِي! فَقَالَتْ: كَذَبْتَ، لَسْتَ بِسُلَيْمَانَ ! قَالَ: فَعَرَفَ سُلَيْمَانُ أَنَّهُ بَلَاءٌ ابْتُلِيَ بِهِ. قَالَ: فَانْطَلَقَتِ الشَّيَاطِينُ فَكَتَبَتْ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ كُتُبًا فِيهَا سِحْرٌ وَكُفْرٌ، ثُمَّ دَفَنُوهَا تَحْتَ كُرْسِيِّ سُلَيْمَانَ، ثُمَّ أَخْرَجُوهَا فَقَرَأُوهَا عَلَى النَّاسِ وَقَالُوا: إِنَّمَا كَانَ سُلَيْمَانُ يَغْلِبُ النَّاسَ بِهَذِهِ الْكُتُبِ! قَالَ: فَبَرِئَ النَّاسُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَأَكْفَرُوهُ، حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْـزَلَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ}- يَعْنِي الَّذِي كَتَبَ الشَّيَاطِيُنُ مِنَ السِّحْرِ وَالْكُفْرِ- {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا}، فَأَنْـزَلَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ عُذْرَهُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى الصَّنْعَانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ، سَمِعْتُ عِمْرَانَ بْنَ حُدَيْرٍ، عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ قَالَ: أَخَذَ سُلَيْمَانُ مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ عَهْدًا، فَإِذَا أُصِيبَ رَجُلٌ فَسُئِلَ بِذَلِكَ الْعَهْدِ، خُلِّيَ عَنْهُ، فَرَأَى النَّاسُ السَّجْعَ وَالسِّحْرَ، وَقَالُوا: هَذَا كَانَ يَعْمَلُ بِهِ سُلَيْمَانُ! فَقَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ}. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ حُصَيْنِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: بَيَّنَّا نَحْنُ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ أَيْنَ جِئْتَ؟ قَالَ: مِنَ الْعِرَاقِ. قَالَ: مَنْ أَيِّهِ؟ قَالَ: مِنَ الْكُوفَة. قَالَ: فَمَا الْخَبَرُ؟ قَالَ: تَرَكْتُهُمْ يَتَحَدَّثُونَ أَنَّ عَلِيًّا خَارِجٌ إِلَيْهِمْ! فَفَزِعَ فَقَالَ: مَا تَقَوُّلُ؟ لَا أَبَا لَك! لَوْ شَعَرْنَا مَا نَكَحْنَا نِسَاءَهُ، وَلَا قَسَّمْنَا مِيرَاثَهُ! أَمَا إِنِّي أُحَدِّثُكُمْ مِنْ ذَلِكَ: إِنَّهُ كَانَتِ الشَّيَاطِينُ يَسْتَرِقُونَ السَّمْعَ مِنَ السَّمَاءِ، فَيَأْتِي أَحَدُهُمْ بِكَلِمَةِ حَقٍّ قَدْ سَمِعَهَا، فَإِذَا حَدَثٌ مِنْهُ صَدَقَ، كَذَبَ مَعَهَا سَبْعِينَ كَذِبَةً، قَالَ: فَتُشْرَبُهَا قُلُوبُ النَّاسِ. فَأَطْلَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا سُلَيْمَانُ، فَدَفَنَهَا تَحْتَ كُرْسِيِّهِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ قَامَ شَيْطَانٌ بِالطَّرِيقِ فَقَالَ: أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى كَنْـزِهِ الْمُمَنَّعِ الَّذِي لَا كَنْـزَ مِثْلُهُ؟ تَحْتَ الْكُرْسِيِّ! فَأَخْرَجُوهُ، فَقَالُوا: هَذَا سِحْرٌ! فَتَنَاسَخُهَا الْأُمَمُ- حَتَّى بَقَايَاهُمْ مَا يَتَحَدَّثُ بِهِ أَهْلُ الْعِرَاقِ- فَأَنْـزَلَ اللَّهُ عُذْرَ سُلَيْمَانَ: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ}.. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، أَنَّ الشَّيَاطِينَ ابْتَدَعَتْ كِتَابًا فِيهِ سِحْرٌ وَأَمْرٌ عَظِيمٌ، ثُمَّ أَفْشَوْهُ فِي النَّاسِ وَعَلَّمُوهُمْ إِيَّاهُ، فَلَمَّا سَمِعَ بِذَلِكَ سُلَيْمَانَُ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَتَبَّعَ تِلْكَ الْكُتُبَ، فَأَتَى بِهَا فَدَفَنَهَا تَحْتَ كُرْسِيِّهِ، كَرَاهِيَةَ أَنْ يَتَعَلَّمَهَا النَّاسُ، فَلَمَّا قَبَضَ اللَّهُ نَبِيَّهُ سُلَيْمَانَ، عَمَدَتِ الشَّيَاطِينُ فَاسْتَخْرَجُوهَا مِنْ مَكَانِهَا الَّذِي كَانَتْ فِيهِ فَعَلِّمُوهَا النَّاسَ، فَأَخْبَرُوهُمْ أَنَّ هَذَا عِلْمٌ كَانَ يَكْتُمُهُ سُلَيْمَانُ وَيَسْتَأْثِرُ بِهِ، فَعَذَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ سُلَيْمَانَ وَبَرَّأَهُ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا}. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كَتَبَتِ الشَّيَاطِينُ كُتُبًا فِيهَا سِحْرٌ وَشِرْكٌ، ثُمَّ دَفَنَتْ تِلْكَ الْكُتُبَ تَحْتَ كُرْسِيِّ سُلَيْمَانَ. فَلَمَّا مَاتَ سُلَيْمَانُ اسْتَخْرَجَ النَّاسُ تِلْكَ الْكُتُبَ، فَقَالُوا: هَذَا عِلْمٌ كَتَمَنَاهُ سُلَيْمَانُ ! فَقَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ}. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلُهُ: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ}، قَالَ: كَانَتِ الشَّيَاطِينُ تَسْتَمِعُ الْوَحْيَ مِنَ السَّمَاءِ، فَمَا سَمِعُوا مِنْ كَلِمَةٍ زَادُوا فِيهَا مَثْلَهَا، وَإِنَّ سُلَيْمَانَ أَخَذَ مَا كَتَبُوا مِنْ ذَلِكَ فَدَفَنَهُ تَحْتَ كُرْسِيِّهِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ وَجَدَتْهُ الشَّيَاطِينُ فَعَلَّمَتْهُ النَّاسَ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ قَالَ: لَمَّا سُلِبَ سُلَيْمَانُ مُلْكَهُ كَانْتِ الشَّيَاطِينُ تَكْتُبُ السِّحْرَ فِي غَيْبَةِ سُلَيْمَانَ. فَكَتَبَتْ: "مَنْ أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ كَذَا وَكَذَا، فَلْيَسْتَقْبِلِ الشَّمْسَ وَلِيَقُلْ كَذَا وَكَذَا، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَفْعَلَ كَذَا وَكَذَا، فَلْيَسْتَدْبِرِ الشَّمْسَ وَلِيَقُلْ كَذَا وَكَذَا"، فَكَتَبَتْهُ وَجَعَلَتْ عُنْوَانَهُ: (هَذَا مَا كَتَبَ آصِفُ بْنُ بَرَخْيَا لِلْمَلِكِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ مِنْ ذَخَائِرِ كُنُوزِ الْعِلْمِ)، ثُمَّ دَفَنَتْهُ تَحْتَ كُرْسِيِّهِ، فَلَمَّا مَاتَ سُلَيْمَانُ، قَامَ إِبْلِيسُ خَطِيبًا فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ سُلَيْمَانَ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا، وَإِنَّمَا كَانَ سَاحِرًا، فَالْتَمَسُوا سِحْرَهُ فِي مَتَاعِهِ وَبُيُوتِهِ، ثُمَّ دَلَّهُمْ عَلَى الْمَكَانِ الَّذِي دُفِنَ فِيهِ؛ فَقَالُوا: وَاللَّهُ لَقَدْ كَانَ سُلَيْمَانُ سَاحِرًا! هَذَا سِحْرُهُ! بِهَذَا تَعَبَّدَنَا، وَبِهَذَا قَهَرَنَا! فَقَالَ الْمُؤْمِنُونَ: بَلْ كَانَ نَبِيًّا مُؤْمِنًا! فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ النَّبِيَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جَعَلَ يُذْكَرُ الْأَنْبِيَاءَ، حَتَّى ذَكْرَ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ، فَقَالَتِ الْيَهُودُ: انْظُرُوا إِلَى مُحَمَّدٍ ! يَخْلِطُ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ! يَذْكُرُ سُلَيْمَانَ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّمَا كَانَ سَاحِرًا يَرْكَبُ الرِّيحَ! فَأَنْـزَلَ اللَّهُ عُذْرَ سُلَيْمَانَ: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} الْآيَةَ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ إِسْحَاقَ: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ}. وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-فِيمَا بَلَّغَنِي- لَمَّا ذَكَرَ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ فِي الْمُرْسَلِينَ، قَالَ بَعْضُ أَحْبَارِ الْيَهُودِ: أَلَا تَعْجَبُونَ مِنْ مُحَمَّدٍ ! يَزْعُمُ أَنَّ ابْنَ دَاوُدَ كَانَ نَبِيًّا! وَاللَّهِ مَا كَانَ إِلَّا سَاحِرًا! فَأَنْـزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا}،-أَيْ بِاتِّبَاعِهِمُ السِّحْرَ وَعَمَلِهِمْ بِهِ- {وَمَا أُنْـزِلَ عَلَى الْمَلِكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَإِذْ كَانَ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا وَصَفْنَا، وَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} مَا ذَكَرْنَا فَبَيِّنٌ أَنَّ فِي الْكَلَامِ مَتْرُوكًا، تُرِكَ ذِكْرُهُ اكْتِفَاءً بِمَا ذُكِرَ مِنْهُ، وَأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ مِنَ السِّحْرِ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ فَتُضِيفُهُ إِلَى سُلَيْمَانَ، وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ، فَيَعْمَلُ بِالسِّحْرِ، وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ. وَقَدْ كَانَ قَتَادَةُ يَتَأَوَّلُ قَوْلَهُ: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} عَلَى مَا قُلْنَا. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا}، يَقُولُ: مَا كَانَ عَنْ مَشُورَتِهِ وَلَا عَنْ رِضًا مِنْهُ، وَلَكِنَّهُ شَيْءٌ افْتَعَلَتْهُ الشَّيَاطِينُ دُونَهُ. وَقَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى عَلَى اخْتِلَافِ الْمُخْتَلِفِينَ فِي مَعْنَى"تَتْلُو"، وَتَوْجِيهَ مَنْ وَجَّهَ ذَلِكَ إِلَى أَنَّ "تَتْلُو" بِمَعْنَى "تَلَتْ"؛ إِذْ كَانَ الَّذِي قَبْلَهُ خَبَرًا مَاضِيًا وَهُوَ قَوْلُهُ: (وَاتَّبَعُوا)، وَتَوْجِيهَ الَّذِينَ وَجَّهُوا ذَلِكَ إِلَى خِلَافِ ذَلِكَ. وَبَيَّنَّا فِيهِ وَفِي نَظِيرِهِ الصَّوَابَ مِنَ الْقَوْلِ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَأَمَّا مَعْنَى قَوْلِهِ: (مَا تَتْلُو)، فَإِنَّهُ بِمَعْنَى: الَّذِي تَتْلُو، وَهُوَ السِّحْرُ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ}، أَيِ السِّحْرَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَلَعَلَّ قَائِلًا أَنْ يَقُولَ: أَوْ مَا كَانَ السِّحْرُ إِلَّا أَيَّامَ سُلَيْمَانَ؟ قِيلَ لَهُ: بَلَى، قَدْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ مَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ، وَقَدْ كَانُوا قَبْلَ سُلَيْمَانَ، وَأَخْبَرَ عَنْ قَوْمِ نُوحٍ أَنَّهُمْ قَالُوا لِنُوحٍ: إِنَّهُ سَاحِرٌ. [فَإِنْ] قَالَ: فَكَيْفَ أَخْبَرَ عَنِ الْيَهُودِ أَنَّهُمْ اتَّبَعُوا مَا تَلَتْهُ الشَّيَاطِينُ عَلَى عَهْدِ سُلَيْمَانَ؟ قِيلَ: لِأَنَّهُمْ أَضَافُوا ذَلِكَ إِلَى سُلَيْمَانَ، عَلَى مَا قَدْ قَدَّمْنَا الْبَيَانَ عَنْهُ، فَأَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ تَبْرِئَةَ سُلَيْمَانَ مِمَّا نَحَلُوهُ وَأَضَافُوا إِلَيْهِ، مِمَّا كَانُوا وَجَدُوهُ، إِمَّا فِي خَزَائِنِهِ، وَإِمَّا تَحْتَ كُرْسِيِّهِ، عَلَى مَا جَاءَتْ بِهِ الْآثَارُ الَّتِي قَدْ ذَكَرْنَاهَا مِنْ ذَلِكَ، فَحَصَرَ الْخَبَرَ عَمَّا كَانَتِ الْيَهُودُ اتَّبَعَتْهُ، فِيمَا تَلَتْهُ الشَّيَاطِينُ أَيَّامَ سُلَيْمَانَ دُونَ غَيْرِهِ لِذَلِكَ السَّبَبِ، وَإِنْ كَانَتِ الشَّيَاطِينُ قَدْ كَانَتْ تَالِيَةً لِلسِّحْرِ وَالْكُفْرِ قَبْلَ ذَلِكَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أُنْـزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي تَأْوِيلِ "مَا" الَّتِي فِي قَوْلِهِ: {وَمَا أُنْـزِلَ عَلَى الْمَلِكَيْنِ}. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ الْجَحْدُ، وَهِيَ بِمَعْنَى "لَمْ".
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْله: {وَمَا أُنْـزِلَ عَلَى الْمَلِكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} فَإِنَّهُ يَقُولُ: لَمْ يُنْـزِلِ اللَّهُ السِّحْرَ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي حَكَّامٌ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ: {وَمَا أُنْـزِلَ عَلَى الْمَلِكَيْنِ}، قَالَ: مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا السِّحْرَ. فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ- عَلَى هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالرَّبِيعِ، مِنْ تَوْجِيهِهِمَا مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَمَا أُنْـزِلَ عَلَى الْمَلِكَيْنِ} إِلَى: وَلَمْ يَنْـزِلْ عَلَى الْمَلِكَيْنِ-: وَاتَّبَعُوا الَّذِي تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ مِنَ السِّحْرِ، وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ، وَلَا أَنْـزَلَ اللَّهُ السِّحْرَ عَلَى الْمَلِكَيْنِ، وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ "بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ". فَيَكُونُ حِينَئِذٍ قَوْلُهُ: {بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ}، مِنَ الْمُؤَخَّرِ الَّذِي مَعْنَاهُ التَّقْدِيمُ. فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: وَكَيْفَ- وَجْهُ تَقْدِيمِ ذَلِكَ؟ قِيلَ: وَجْهُ تَقْدِيمِهِ أَنْ يُقَالَ: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ [مِنِ السِّحْرِ]، وَمَا أَنْـزَلَ [اللَّهُ السِّحْرَ] عَلَى الْمَلِكَيْنِ، وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ بِبَابِلَ، هَارُوتَ وَمَارُوتَ- فَيَكُونُ مَعْنِيًّا بِـ "الْمَلِكَيْنِ": جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ، لِأَنَّ سَحَرَةَ الْيَهُودِ، فِيمَا ذُكِرَ، كَانَتْ تَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَنْـزَلَ السِّحْرَ عَلَى لِسَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ إِلَى سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ، فَأَكْذَبَهَا اللَّهُ بِذَلِكَ، وَأَخْبَرَ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ لَمْ يَنْـزِلَا بِسِحْرٍ قَطُّ، وَبَرَّأَ سُلَيْمَانَ مِمَّا نَحَلُوهُ مِنَ السِّحْرِ، فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ السِّحْرَ مِنْ عَمَلِ الشَّيَاطِينِ، وَأَنَّهَا تُعَلِّمُ النَّاسَ [ذَلِكَ] بِبَابِلَ، وَأَنَّ اللَّذَيْنِ يُعَلِّمَانِهِمْ ذَلِكَ رَجُلَانِ: اسْمُ أَحَدِهِمَا هَارُوتُ، وَاسْمُ الْآخَرِ مَارُوتُ. فَيَكُونُ" هَارُوتُ وَمَارُوتُ"، عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ، تَرْجَمَةً عَلَى "النَّاسِ" وَرَدًّا عَلَيْهِمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ تَأْوِيلُ "مَا" الَّتِي فِي قَوْلِهِ: {وَمَا أُنْـزِلَ عَلَى الْمَلِكَيْنِ}- "الذِي".
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: قَالَ مَعْمَرٌ، قَالَ قَتَادَةُ وَالزُّهْرِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ: {وَمَا أُنْـزِلَ عَلَى الْمَلِكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ}، كَانَا مَلَكَيْنِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَأُهْبِطَا لِيَحْكُمَا بَيْنَ النَّاسِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ سَخِرُوا مِنْ أَحْكَامِ بَنِيَ آدَمَ. قَالَ: فَحَاكَمَتْ إِلَيْهِمَا امْرَأَةٌ فَحَافَا لَهَا، ثُمَّ ذَهَبَا يَصْعَدَانِ، فَحِيلَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَخُيِّرًا بَيْنَ عَذَابِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ، فَاخْتَارَا عَذَابَ الدُّنْيَا. قَالَ مَعْمَرٌ، قَالَ قَتَادَةُ: فَكَانَا يُعَلِّمَانِ النَّاسَ السِّحْرَ، فَأُخِذَ عَلَيْهِمَا أَنْ لَا يُعَلِّمَا أَحَدًا حَتَّى يَقُولَا: (إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ). حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: أَمَّا قَوْلُهُ: {وَمَا أُنْـزِلَ عَلَى الْمَلِكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ}، فَهَذَا سِحْرٌ آخَرُ خَاصَمُوهُ بِهِ أَيْضًا. يَقُولُ: خَاصَمُوهُ بِمَا أُنْـزِلَ عَلَى الْمَلِكَيْنِ، وَأَنَّ كَلَامَ الْمَلَائِكَةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، إِذَا عَلِمَتْهُ الْإِنْسُ فَصُنِعَ وَعُمِلَ بِهِ، كَانَ سِحْرًا. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْـزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ}. فَالسِّحْرُ سِحْرَانِ: سَحَرٌ تُعَلِّمُهُ الشَّيَاطِينُ، وَسِحْرٌ يُعَلِّمُهُ هَارُوتُ وَمَارُوتُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {وَمَا أُنْـزِلَ عَلَى الْمَلِكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ}، قَالَ: التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْـزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ}، فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ: (فَلَا تَكْفُرْ)، قَالَ: الشَّيَاطِينُ وَالْمَلَكَانِ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَمَعْنَى الْآيَةِ عَلَى تَأْوِيلِ هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي ذَكَرْنَا عَمَّنْ ذَكَرْنَاهُ عَنْهُ: وَاتَّبَعَتِ الْيَهُودُ الَّذِي تَلَتِ الشَّيَاطِينُ فِي مُلْكِ سُلَيْمَانَ الَّذِي أُنْـزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ وَهَارُوتَ وَمَارُوتَ، وَهُمَا مَلَكَانِ مِنْ مَلَائِكَةِ اللَّهِ، سَنَذْكُرُ مَا رُوِيَ مِنَ الْأَخْبَارِ فِي شَأْنِهِمَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ إِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُنْـزِلَ اللَّهُ السِّحْرَ، أَمْ هَلْ يَجُوزُ لِمَلَائِكَتِهِ أَنْ تُعَلِّمَهُ النَّاسَ؟ قُلْنَا لَهُ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَنْـزَلَ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ كُلَّهُ، وَبَيَّنَ جَمِيعَ ذَلِكَ لِعِبَادِهِ، فَأَوْحَاهُ إِلَى رُسُلِهِ، وَأَمَرَهَمْ بِتَعْلِيمِ خَلْقِهِ وَتَعْرِيفِهِمْ مَا يَحِلُّ لَهُمْ مِمَّا يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ. وَذَلِكَ كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَسَائِرِ الْمَعَاصِي الَّتِي عَرَّفَهَمُوهَا، وَنَهَاهُمْ عَنْ رُكُوبِهَا. فَالسِّحْرُ أَحَدُ تِلْكَ الْمَعَاصِي الَّتِي أَخْبَرَهُمْ بِهَا، وَنَهَاهُمْ عَنِ الْعَمَلِ بِهَا. وَلَيْسَ فِي الْعِلْمِ بِالسِّحْرِ إِثْمٌ، كَمَا لَا إِثْمَ فِي الْعِلْمِ بِصَنْعَةِ الْخَمْرِ وَنَحْتِ الْأَصْنَامِ وَالطَّنَابِيرِ وَالْمَلَاعِبِ. وَإِنَّمَا الْإِثْمُ فِي عَمَلِهِ وَتَسْوِيَتِهِ. وَكَذَلِكَ لَا إِثْمَ فِيالْعِلْمِ بِالسِّحْرِ، وَإِنَّمَا الْإِثْمُ فِي الْعَمَلِ بِهِ، وَأَنْ يَضُرَّ بِهِ، مَنْ لَا يَحِلُّ ضُرُّهُ بِهِ. فَلَيْسَ فِي إِنْـزِالِ اللَّهِ إِيَّاهُ عَلَى الْمَلَكَيْنِ، وَلَا فِي تَعْلِيمِ الْمَلَكَيْنِ مَنْ عَلَّمَاهُ مِنَ النَّاسِ، إِثْمٌ، إِذْ كَانَ تَعْلِيمُهُمَا مَنْ عَلَّمَاهُ ذَلِكَ، بِإِذْنِ اللَّهِ لَهُمَا بِتَعْلِيمِهِ، بَعْدَ أَنْ يُخْبِرَاهُ بِأَنَّهُمَا فِتْنَةٌ، وَيَنْهَاهُ عَنِ السِّحْرِ وَالْعَمَلِ بِهِ وَالْكُفْرِ. وَإِنَّمَا الْإِثْمُ عَلَى مَنْ يَتَعَلَّمُهُ مِنْهُمَا وَيَعْمَلُ بِهِ، إِذْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ قَدْ نَهَاهُ عَنْ تَعَلُّمِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ. وَلَوْ كَانَ اللَّهُ أَبَاحَ لَبَنِي آدَمَ أَنْ يَتَعَلَّمُوا ذَلِكَ، لَمْ يَكُنْ مِنْ تَعَلُّمِهِ حَرَجًا، كَمَا لَمْ يَكُونَا حَرِجَيْنِ لِعِلْمِهِمَا بِهِ؛ إِذْ كَانَ عِلْمُهُمَا بِذَلِكَ عَنْ تَنْـزِيلِ اللَّهِ إِلَيْهِمَا. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى "مَا" مَعْنَى "الَّذِي"، وَهِيَ عَطْفٌ عَلَى "مَا" الْأُولَى. غَيْرُ أَنَّ الْأُولَى فِي مَعْنَى السِّحْرِ، وَالْآخِرَةُ فِي مَعْنَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ. فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ: وَاتَّبَعُوا السِّحْرَ الَّذِي تَتْلُو الشَّيَاطِينُ فِي مُلْكِ سُلَيْمَانَ، وَالتَّفْرِيقَ الَّذِي بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ الَّذِي أُنْـزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَمَا أُنْـزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ}، وَهُمَا يُعَلِّمَانِ مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ، وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا}. وَكَانَ يَقُولُ: أَمَّا السِّحْرُ، فَإِنَّمَا يُعَلِّمُهُ الشَّيَاطِينُ، وَأَمَّا الَّذِي يُعَلِّمُ الْمَلِكَانِ، فَالتَّفْرِيقُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ آخَرُونَ: جَائِزٌ أَنْ تَكُونَ "مَا" بِمَعْنَى "الَّذِي"، وَجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ "مَا" بِمَعْنَى "لَمْ".
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ- وَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْـزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} فَقَالَ الرَّجُلُ: يُعَلِّمَانِ النَّاسَ مَا أُنْـزِلَ عَلَيْهِمَا، أَمْ يُعَلِّمَانِ النَّاسَ مَا لَمْ يَنْـزِلْ عَلَيْهِمَا؟ قَالَ الْقَاسِمُ: مَا أُبَالِي أَيَّتُهُمَا كَانَتْ. حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ، أَنَّ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ سُئِلَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {وَمَا أُنْـزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ}، فَقِيلَ لَهُ: أَأُنْـزِلَ أَوْ لَمْ يُنْـزَلُ؟ فَقَالَ: لَا أُبَالِي أَيُّ ذَلِكَ كَانَ، إِلَّا أَنِّي آمَنْتُ بِهِ.. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي، قَوْلُ مَنْ وَجَّهَ "مَا" الَّتِي فِي قَوْلِهِ: {وَمَا أُنْـزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} إِلَى مَعْنَى "الَّذِي"، دُونَ مَعْنَى "مَا" الَّتِي هِيَ بِمَعْنَى الْجَحْدِ. وَإِنَّمَا اخْتَرْتُ ذَلِكَ، مِنْ أَجْلِ أَنَّ "مَا" إِنْ وُجِّهَتْ إِلَى مَعْنَى الْجَحْدِ، تَنْفِي عَنْ "الْمَلَكَيْنِ" أَنْ يَكُونَا مُنْـزَلًا إِلَيْهِمَا، وَلَمْ يَخْلُ الِاسْمَانِ اللَّذَانِ بَعَّدَهُمَا – أَعْنِي "هَارُوتَ وَمَارُوتَ"- مِنْ أَنْ يَكُونَا بَدَلًا مِنْهُمَا وَتَرْجَمَةً عَنْهُمَا أَوْ بَدَلًا مِنْ "النَّاسِ" فِي قَوْلِهِ: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ}، وَتَرْجَمَةً عَنْهُمْ. فَإِنْ جُعِلَا بَدَلًا مِنَ "الْمَلَكَيْنِ" وَتَرْجَمَةً عَنْهُمَا، بَطَلَ مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مَنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنِ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ}؛ لِأَنَّهُمَا إِذَا لَمْ يَكُونَا عَالِمَيْنِ بِمَا يُفَرَّقُ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ، فَمَا الَّذِي يَتَعَلَّمُ مِنْهُمَا مَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ؟ وَبَعْدُ، فَإِنَّ "مَا" الَّتِي فِي قَوْلِهِ: {وَمَا أُنْـزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ}، إِنْ كَانَتْ فِي مَعْنَى الْجَحْدِ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ}، فَإِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ نَفَى بِقَوْلِهِ: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ}، عَنْ سُلَيْمَانَ أَنْ يَكُونَ السِّحْرُ مَنْ عَمِلَهُ أَوْ مَنْ عِلْمِهِ أَوْ تَعْلِيمِهِ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي نُفِيَ عَنِ الْمَلَكَيْنِ مِنْ ذَلِكَ نَظِيرَ الَّذِي نُفِيَ عَنْ سُلَيْمَانَ مِنْهُ- وَهَارُوتُ وَمَارُوتُ هُمَا الْمَلِكَانِ- فَمَنِ الْمُتَعَلَّمِ مِنْهُ إذًا مَا يُفَرَّقُ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ؟ وَعَمَّنِ الْخَبَرُ الَّذِي أُخْبِرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ}؟ إِنَّ خَطَأَ هَذَا الْقَوْلِ لَوَاضِحٌ بَيِّنٌ. وَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ "هَارُوتَ وَمَارُوتَ" تَرْجَمَةً عَنْ "النَّاسِ" الَّذِينَ فِي قَوْلِهِ: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ}، فَقَدْ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الشَّيَاطِينُ هِيَ الَّتِي تُعَلِّمُ هَارُوتَ وَمَارُوتَ السِّحْرَ، وَتَكُونُ السَّحَرَةُ إِنَّمَا تَعَلَّمَتِ السِّحْرَ مِنْ هَارُوتَ وَمَارُوتَ عَنْ تَعْلِيمِ الشَّيَاطِينِ إِيَّاهُمَا! فَإِنْ يَكُنْ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَلَنْ يَخْلُوَ "هَارُوتُ وَمَارُوتُ"- عِنْدَ قَائِلِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ- مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَا مَلَكَيْنِ، فَإِنْ كَانَا عِنْدَهُ مَلِكَيْنِ، فَقَدْ أَوْجَبَ لَهُمَا مِنَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَالْمَعْصِيَةِ لَهُ بِنِسْبَتِهِ إِيَّاهُمَا إِلَى أَنَّهُمَا يَتَعَلَّمَانِ مِنَ الشَّيَاطِينِ السِّحْرَ وَيُعَلِّمَانِهِ النَّاسَ، وَإِصْرَارُهمَا عَلَى ذَلِكَ وَمَقَامُهُمَا عَلَيْهِ- أَعْظَمُ مِمَّا ذُكِرَ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا أَتَيَاهُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ الَّتِي اسْتَحَقَّا عَلَيْهَا الْعِقَابَ. وَفِي خَبَرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُمَا- أَنَّهُمَا لَا يُعَلِّمَانِ أَحَدًا مَا يَتَعَلَّمُ مِنْهُمَا حَتَّى يَقُولَا {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ}- مَا يُغْنِي عَنِ الْإِكْثَارِ فِي الدِّلَالَةِ عَلَى خَطَأِ هَذَا الْقَوْلِ. أَوْ أَنْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي آدَمَ. فَإِنْ يَكُنْ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَقَدْ كَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَا بِهَلَاكِهِمَا قَدْ ارْتَفَعَ السِّحْرُ وَالْعِلْمُ بِهِ وَالْعَمَلُ- مِنْ بَنِيَ آدَمَ؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ عِلْمُ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِهِمَا يُؤْخَذُ وَمِنْهُمَا يُتَعَلَّمُ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ بِهَلَاكِهِمَا وَعَدَمِ وُجُودِهِمَا، عَدَمُ السَّبِيلِ إِلَى الْوُصُولِ إِلَى الْمَعْنَى الَّذِي كَانَ لَا يُوصَلُ إِلَيْهِ إِلَّا بِهِمَا. وَفِي وُجُودِ السِّحْرِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَوَقْتٍ، أَبْيَنُ الدِّلَالَةِ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ. وَقَدْ يَزْعُمُ قَائِلُ ذَلِكَ أَنَّهُمَا رَجُلَانِ مِنْ بَنِي آدَمَ، لَمْ يُعْدَمَا مِنَ الْأَرْضِ مُنْذُ خُلِقَتْ، وَلَا يُعْدَمَانِ بَعْدَمَا وَجِدَ السِّحْرُ فِي النَّاسِ، فَيَدَّعِي مَا لَا يَخْفَى بُطُولُهُ. فَإِذْ فَسُدْتْ هَذِهِ الْوُجُوهُ الَّتِي دَلَّلْنَا عَلَى فَسَادِهَا، فَبَيِّنٌ أَنَّ مَعْنَى (مَا) الَّتِي فِي قَوْلِهِ: {وَمَا أُنْـزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} بِمَعْنَى "الَّذِي"، وَأَنَّ "هَارُوتَ وَمَارُوتَ"، مُتَرْجَمٌ بِهِمَا عَنِ الْمَلَكَيْنِ، وَلِذَلِكَ فُتِحَتْ أَوَاخِرُ أَسْمَائِهِمَا، لِأَنَّهُمَا فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ عَلَى الرَّدِّ عَلَى "الْمَلَكَيْنِ". وَلَكِنَّهُمَا لَمَّا كَانَا لَا يُجَرَّانِ، فُتِحَتْ أَوَاخِرُ أَسْمَائِهِمَا. فَإِنِ الْتَبَسَ عَلَى ذِي غَبَاءٍ مَا قُلْنَا فَقَالَ: وَكَيْفَ يَجُوزُ لِمَلَائِكَةِ اللَّهِ أَنْ تُعَلِّمَ النَّاسَ التَّفْرِيقَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ؟ أَمْ كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُضَافَ إِلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِنْـزَالُ ذَلِكَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ؟ قِيلَ لَهُ: إِنَّ اللَّهَ-جَلَّ ثَنَاؤُهُ- عَرَّفَ عِبَادَهُ جَمِيعَ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ وَجَمِيعَ مَا نَهَاهُمْ عَنْهُ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ وَنَهَاهُمْ بَعْدَ الْعِلْمِ مِنْهُمْ بِمَا يُؤْمَرُونَ بِهِ وَيُنْهَوْنَ عَنْهُ. وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، لَمَا كَانَ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مَعْنًى مَفْهُومٌ. فَالسِّحْرُ مِمَّا قَدْ نَهَى عِبَادَهُ مَنْ بَنِيَ آدَمَ عَنْهُ، فَغَيْرُ مُنْكَرٍ أَنْ يَكُونَ-جَلَّ ثَنَاؤُهُ- عَلَّمَهُ الْمَلَكَيْنِ اللَّذَيْنِ سَمَّاهُمَا فِي تَنْـزِيلِهِ، وَجَعَلَهُمَا فِتْنَةً لِعِبَادِهِ مَنْ بَنِيَ آدَمَ- كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا يَقُولَانِ لِمَنْ يَتَعَلَّمُ ذَلِكَ مِنْهُمَا: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ}- لِيَخْتَبِرَ بِهِمَا عِبَادَهُ الَّذِينَ نَهَاهُمْ عَنِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ، وَعَنِ السِّحْرِ، فَيُمَحِّصَ الْمُؤْمِنَ بِتَرْكِهِ التَّعَلُّمَ مِنْهُمَا، وَيُخْزِيَ الْكَافِرَ بِتَعَلُّمِهِ السِّحْرَ وَالْكُفْرَ مِنْهُمَا، وَيَكُونَ الْمَلَكَانِ فِي تَعْلِيمِهِمَا مَنْ عَلَّمَا ذَلِكَ- لِلَّهِ مُطِيعِينَ، إِذْ كَانَا عَنْ إِذَنِ اللَّهِ لَهُمَا بِتَعْلِيمِ ذَلِكَ مَنْ عَلَّمَاهُ يُعَلِّمَانِ. وَقَدْ عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهُمْ ضَائِرًا، إِذْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِأَمْرِهِمْ إِيَّاهُمْ بِهِ، بَلْ عُبِدَ بَعْضُهُمْ وَالْمَعْبُودُ عَنْهُ نَاهٍ، فَكَذَلِكَ الْمَلَكَانِ، غَيْرُ ضَائِرِهِمَا سِحْرُ مَنْ سَحَرَ مِمَّنْ تَعْلَمَ ذَلِكَ مِنْهُمَا، بَعْدَ نَهْيِهِمَا إِيَّاهُ عَنْهُ، وَعِظَتِهِمَا لَهُ بِقَوْلِهِمَا: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ}، إِذْ كَانَا قَدْ أَدَّيَا مَا أُمِرَا بِهِ بِقِيلِهِمَا ذَلِكَ، كَمَا:- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عَوْفٍ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا أُنْـزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} إِلَى قَوْلِهِ: (فَلَا تَكْفُرْ)، أُخِذَ عَلَيْهِمَا ذَلِكَ. ذِكْرُ بَعْضِ الْأَخْبَارِ الَّتِي فِي بَيَانِ الْمَلَكَيْنِ، وَمَنْ قَالَ إِنَّ هَارُوتَ وَمَارُوتَ هُمَا الْمَلَكَانِ اللَّذَانِ ذَكَرَ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي قَوْلِهِ: (بِبَابِلَ): حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو شُعْبَةَ الْعَدَوِيُّ فِي جِنَازَةِ يُونُسَ بْنِ جُبَيْرٍ أَبِي غَلَّابٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَفْرَجَ السَّمَاءَ لِمَلَائِكَتِهِ يَنْظُرُونَ إِلَى أَعْمَالِ بَنِي آدَمَ، فَلَمَّا أَبْصَرُوهُمْ يَعْمَلُونَ الْخَطَايَا قَالُوا: يَا رَبِّ، هَؤُلَاءِ بَنُو آدَمَ الَّذِي خَلَقَتْهُ بِيَدِكَ، وَأَسْجَدْتَ لَهُ مَلَائِكَتَكَ، وَعَلَّمْتَهُ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ، يَعْمَلُونَ بِالْخَطَايَا! قَالَ: أَمَا إِنَّكُمْ لَوْ كُنْتُمْ مَكَانَهُمْ لَعَمِلْتُمْ مِثْلَ أَعْمَالِهِمْ. قَالُوا: سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا! قَالَ: فَأُمِرُوا أَنْ يَخْتَارُوا مَنْ يَهْبِطُ إِلَى الْأَرْضِ، قَالَ: فَاخْتَارُوا هَارُوتَ وَمَارُوتَ. فَأُهْبِطَا إِلَى الْأَرْضِ، وَأَحِلَّ لَهُمَا مَا فِيهَا مِنْ شَيْءٍ، غَيْرَ أَنْ لَا يُشْرِكَا بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقَا، وَلَا يَزْنِيَا، وَلَا يَشْرَبَا الْخَمْرَ، وَلَا يَقْتُلَا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ. قَالَ: فَمَا اسْتَمَرَّا حَتَّى عَرَضَ لَهُمَا امْرَأَةٌ قَدْ قُسِّمَ لَهَا نِصْفُ الْحُسْنِ، يُقَالُ لَهَا: (بيذخت) فَلَمَّا أَبْصَرَاهَا أَرَادَا بِهَا زِنًا، فَقَالَتْ: لَا إِلَّا أَنْ تُشْرِكَا بِاللَّهِ، وَتَشْرَبَا الْخَمْرَ، وَتَقْتُلَا النَّفْسَ، وَتَسْجُدَا لِهَذَا الصَّنَمِ! فَقَالَا مَا كُنَّا لِنُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا! فَقَالَ أَحَدهمَا لِلْآخَرِ: ارْجِعْ إِلَيْهَا. فَقَالَتْ: لَا إِلَّا أَنَّ تَشْرَبَا الْخَمْرَ، فَشَرِبَا حَتَّى ثَمِلَا وَدَخَلَ عَلَيْهِمَا سَائِلٌ فَقَتَلَاهُ، فَلَمَّا وَقَعَا فِيمَا وَقَعَ مِنَ الشَّرِّ، أَفْرَجَ اللَّهُ السَّمَاءَ لِمَلَائِكَتِهِ، فَقَالُوا: سُبْحَانَكَ! كُنْتَ أَعْلَمَ! قَالَ: فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ أَنْ يُخَيِّرَهُمَا بَيْنَ عَذَابِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ، فَاخْتَارَا عَذَابَ الدُّنْيَا، فَكُبِّلَا مَنْ أَكْعِبِهِمَا إِلَى أَعْنَاقِهِمَا بِمِثْلِ أَعْنَاقِ الْبُخْتِ، وَجُعِلَا بِبَابِلَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا قَالَا لَمَّا كَثُرَ بَنُو آدَمَ وَعَصَوْا، دَعَتِ الْمَلَائِكَةُ عَلَيْهِمْ وَالْأَرْضُ وَالسَّمَاءُ وَالْجِبَالُ: رَبَّنَا أَلَا تُهْلِكَهُمْ! فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى الْمَلَائِكَةِ: إِنِّي لَوْ أَنْـزَلْتُ الشَّهْوَةَ وَالشَّيْطَانَ مِنْ قُلُوبِكُمْ وَنَـزَلْتُمْ لَفَعَلْتُمْ أَيْضًا! قَالَ: فَحَدَّثُوا أَنْفُسَهُمْ أَنْ لَوِ ابْتُلُوا اعْتَصَمُوا، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِمْ: أَنِ اخْتَارُوا مَلِكَيْنِ مَنْ أَفْضَلِكُمْ، فَاخْتَارُوا هَارُوتَ وَمَارُوتَ، فَأُهْبِطَا إِلَى الْأَرْضِ، وَأُنْـزِلَتِ الزُّهَرةُ إِلَيْهِمَا فِي صُورَةِ امْرَأَةٍ مِنْ أَهْلِ فَارِسَ، وَكَانَ أَهْلُ فَارِسَ يُسَمُّونَهَا "بيذخت". قَالَ: فَوَقَعَا بِالْخَطِيئَةِ، فَكَانَتِ الْمَلَائِكَةُ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينِ آمَنُوا. {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا}. فَلَمَّا وَقَعَا بِالْخَطِيئَةِ، اسْتَغْفِرُوا لِمَنْ فِي الْأَرْضِ، أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. فَخُيِّرَا بَيْنَ عَذَابِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ، فَاخْتَارَا عَذَابَ الدُّنْيَا. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنِي الْحَجَّاجُ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ عُمَيْرِ بْنِ سَعِيدٍ قَالَ، سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ: كَانَتِ الزُّهَرَةُ امْرَأَةً جَمِيلَةً مِنْ أَهْلِ فَارِسَ، وَأَنَّهَا خَاصَمَتْ إِلَى الْمَلَكَيْنِ هَارُوتَ وَمَارُوتَ، فَرَاوَدَاهَا عَنْ نَفْسِهَا، فَأَبَتْ إِلَّا أَنْ يُعْلِّمَاهَا الْكَلَامَ الَّذِي إِذَا تُكُلِّمَ بِهِ يُعْرَجُ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ. فَعَلَّمَاهَا، فَتَكَلَّمَتْ بِهِ، فَعَرَجَتْ إِلَى السَّمَاءِ، فَمُسِخَتْ كَوْكَبًا. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثْنَى قَالَا حَدَّثَنَا مُؤَمِّلُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ- وَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ- جَمِيعًا، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ كَعْبٍ قَالَ: ذَكَرَتِ الْمَلَائِكَةُ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ وَمَا يَأْتُونَ مِنَ الذُّنُوبِ، فَقِيلَ لَهُمُ: اخْتَارُوا مِنْكُمْ اثْنَيْنِ- وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى فِي حَدِيثِهِ: اخْتَارُوا مَلَكَيْنِ- فَاخْتَارُوا هَارُوتَ وَمَارُوتَ، فَقِيلَ لَهُمَا: إِنِّي أُرْسِلُ إِلَى بَنِي آدَمَ رُسُلًا وَلَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ رَسُولٌ، انْـزِلَا لَا تُشْرِكَا بِي شَيْئًا، وَلَا تَزْنِيَا، وَلَا تَشْرَبَا الْخَمْرَ. قَالَ كَعْبٌ: فَوَاللَّهِ مَا أَمْسَيَا مِنْ يَوْمِهِمَا الَّذِي أُهْبِطَا فِيهِ إِلَى الْأَرْضِ حَتَّى اسْتَكْمَلَا جَمِيعَ مَا نُهِيَا عَنْهُ- وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى فِي حَدِيثِهِ: فَمَا اسْتَكْمَلَا يَوْمَهُمَا الَّذِي أُنْـزِلَا فِيهِ حَتَّى عَمِلَا مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنِ أَسَدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنِ الْمُخْتَارِ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي سَالِمٌ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ يُحَدِّثُ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ أَنَّهُ حَدَّثَ: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَنْكَرُوا أَعْمَالَ بَنِيَ آدَمَ وَمَا يَأْتُونَ فِي الْأَرْضِ مِنَ الْمَعَاصِي، فَقَالَ اللَّهُ لَهُمْ: إِنَّكُمْ لَوْ كُنْتُمْ مَكَانَهُمْ أَتَيْتُمْ مَا يَأْتُونَ مِنَ الذُّنُوبِ، فَاخْتَارُوا مِنْكُمْ مَلَكَيْنِ. فَاخْتَارُوا هَارُوتَ وَمَارُوتَ، فَقَالَ اللَّهُ لَهُمَا: إِنِّي أُرْسِلُ رُسُلِي إِلَى النَّاسِ، وَلَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمَا رَسُولٌ، انْـزِلَا إِلَى الْأَرْضِ، وَلَا تُشْرِكَا بِي شَيْئًا، وَلَا تَزْنِيَا. فَقَالَ كَعْبٌ: وَالَّذِي نَفْسُ كَعْبٍ بِيَدِهِ، مَا اسْتَكْمَلَا يَوْمَهُمَا الَّذِي نَـزَلَا فِيهِ حَتَّى أَتَيَا مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا. حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: أَنَّهُ كَانَ مَنْ أَمْرِ هَارُوتَ وَمَارُوتَ أَنَّهُمَا طَعَنَا عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فِي أَحْكَامِهِمْ، فَقِيلَ لَهُمَا: إِنِّي أَعْطَيْتُ ابْنَ آدَمَ عَشْرًا مِنَ الشَّهَوَاتِ، فَبِهَا يَعْصُونَنِي. قَالَ هَارُوتُ وَمَارُوتُ: رَبَّنَا، لَوْ أَعْطَيْتِنَا تِلْكَ الشَّهَوَاتِ ثُمَّ نَـزَلْنَا لَحَكَمْنَا بِالْعَدْلِ، فَقَالَ لَهُمَا: انْـزِلَا فَقَدْ أَعْطَيْتُكُمَا تِلْكَ الشَّهَوَاتِ الْعَشْرَ، فَاحْكُمَا بَيْنَ النَّاسِ. فَنَـزَلَا بِبَابِلَ دُنْبَاوَنْدَ، فَكَانَا يَحْكُمَانِ، حَتَّى إِذَا أَمْسَيَا عَرَجًا فَإِذَا أَصْبَحَا هَبَطَا، فَلَمْ يَزَالَا كَذَلِكَ حَتَّى أَتَتْهُمَا امْرَأَةٌ تُخَاصِمُ زَوْجَهَا، فَأَعْجَبَهُمَا حُسْنُهَا- وَاسْمُهَا بِالْعَرَبِيَّةِ، "الزُّهَرَةُ"، وَبِالنَّبَطِيَّةِ "بيذَخْت"، وَاسْمُهَا بِالْفَارِسِيَّةِ "أناهيذ"- فَقَالَ أَحَدُهمَا لِصَاحِبِهِ: إِنَّهَا لَتُعْجِبُنِي! فَقَالَ الْآخَرُ: قَدْ أَرَدْتُ أَنْ أَذْكُرَ لَكَ فَاسْتَحْيَيْتُ مِنْكَ! فَقَالَ: الْآخَرُ: هَلْ لَكَ أَنْ أَذْكُرَهَا لِنَفْسِهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، وَلَكِنْ كَيْفَ لَنَا بِعَذَابِ اللَّهِ؟ قَالَ الْآخَرُ: إِنَّا نَرْجُو رَحْمَةَ اللَّهِ! فَلَمَّا جَاءَتْ تُخَاصِمُ زَوْجَهَا ذَكَرَا إِلَيْهَا نَفْسَهَا، فَقَالَتْ: لَا حَتَّى تَقْضِيَا لِي عَلَى زَوْجِي، فَقَضَيَا لَهَا عَلَى زَوْجِهَا، ثُمَّ وَاعَدَتْهُمَا خَرِبَةً مِنَ الْخَرِبِ يَأْتِيَانِهَا فِيهَا، فَأَتَيَاهَا لِذَلِكَ، فَلَمَّا أَرَادَ الَّذِي يُوَاقِعُهَا، قَالَتْ: مَا أَنَا بِالَّذِي أَفْعَلُ حَتَّى تُخْبِرَانِي بِأَيِّ كَلَامٍ تَصْعَدَانِ إِلَى السَّمَاءِ، وَبِأَيِّ كَلَامٍ تَنْـزِلَانِ مِنْهَا؟ فَأَخْبَرَاهَا، فَتَكَلَّمَتْ فَصَعِدَتْ، فَأَنْسَاهَا اللَّهُ مَا تَنْـزِلُ بِهِ فَبَقِيَتْ مَكَانهَا، وَجَعَلَهَا اللَّهُ كَوْكَبًا- فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ كُلَّمَا رَآهَا لَعَنَهَا وَقَالَ: هَذِهِ الَّتِي فَتَنَتْ هَارُوتَ وَمَارُوتَ !- فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ أَرَادَا أَنْ يَصْعَدَا فَلَمْ يَسْتَطِيعَا، فَعَرَفَا الْهُلْكَ، فَخُيِّرَا بَيْنَ عَذَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَاخْتَارَا عَذَابَ الدُّنْيَا مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، فَعُلِّقَا بِبَابِلَ، فَجَعْلَا يُكَلِّمَانِ النَّاسَ كَلَامَهُمَا، وَهُوَ السِّحْرُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ قَالَ: لَمَّا وَقَعَ النَّاسُ مِنْ بَعْدِ آدَمَ فِيمَا وَقَعُوا فِيهِ مِنْ الْمَعَاصِي وَالْكُفْرِ بِاللَّهِ، قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ فِي السَّمَاءِ: أَيْ رَبِّ، هَذَا الْعَالَمُ إِنَّمَا خَلَقَتْهُمْ لِعِبَادَتِكَ وَطَاعَتِكَ، وَقَدْ رَكِبُوا الْكُفْرَ، وَقَتْلَ النَّفْسِ الْحَرَامَ، وَأَكْلَ الْمَالِ الْحَرَامَ، وَالسَّرِقَةَ، وَالزِّنَا، وَشُرْبَ الْخَمْرِ! فَجَعَلُوا يَدْعُونَ عَلَيْهِمْ وَلَا يَعْذُرُونَهُمْ، فَقِيلَ لَهُمْ: إِنَّهُمْ فِي غَيْبٍ؛ فَلَمْ يَعْذُرُوهُمْ، فَقِيلَ لَهُمْ: اخْتَارُوا مِنْكُمْ مَلَكَيْنِ آمُرُهُمَا بِأَمْرِي وَأَنْهَاهُمَا عَنْ مَعْصِيَتِي، فَاخْتَارُوا هَارُوتَ وَمَارُوتَ، فَأُهْبِطَا إِلَى الْأَرْضِ، وَجُعِلَ بِهِمَا شَهَوَاتُ بَنِي آدَمَ، وَأُمِرَا أَنْ يَعْبُدَا اللَّهَ وَلَا يُشْرِكَا بِهِ شَيْئًا، وَنُهِيَا عَنْ قَتْلِ النَّفْسِ الْحَرَامِ، وَأَكْلِ الْمَالِ الْحَرَامِ، وَالسَّرِقَةِ، وَالزِّنَا، وَشُرْبِ الْخَمْرِ، فَلَبِثَا عَلَى ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ زَمَانًا يَحْكُمَانِ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ- وَذَلِكَ فِي زَمَانِ إِدْرِيسَ. وَفِي ذَلِكَ الزَّمَانِ امْرَأَةٌ حُسْنُهَا فِي سَائِرِ النَّاسِ كَحُسْنِ الزُّهَرَةِ فِي سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، وَأَنَّهَا أَتَتْ عَلَيْهِمَا، فَخَضَعَا لَهَا بِالْقَوْلِ، وَأَرَادَاهَا عَلَى نَفْسِهَا، وَأَنَّهَا أَبَتْ إِلَّا أَنْ يَكُونَا عَلَى أَمْرِهَا وَدِينِهَا، وَأَنَّهُمَا سَأَلَاهَا عَنْ دِينِهَا الَّتِي هِيَ عَلَيْهِ، فَأَخْرَجَتْ لَهُمَا صَنَمًا وَقَالَتْ: هَذَا أَعْبُدُ. فَقَالَا لَا حَاجَةَ لَنَا فِي عِبَادَةِ هَذَا! فَذَهَبَا فَغَبَرَا مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أَتَيَا عَلَيْهَا فَخَضَعَا لَهَا بِالْقَوْلِ وَأَرَادَاهَا عَلَى نَفْسِهَا، فَقَالَتْ: لَا إِلَّا أَنَّ تَكُونَا عَلَى مَا أَنَا عَلَيْهِ. فَقَالَا لَا حَاجَةَ لَنَا فِي عِبَادَةِ هَذَا! فَلَمَّا رَأَتْ أَنَّهُمَا أَبَيَا أَنْ يَعْبُدَا الصَّنَمَ، قَالَتْ لَهُمَا: اخْتَارَا إِحْدَى الْخِلَالِ الثَّلَاثِ: إِمَّا أَنْ تَعْبُدَا الصَّنَمَ، أَوْ تَقْتُلَا النَّفْسَ، أَوْ تَشْرَبَا الْخَمْرَ. فَقَالَا كُلُّ هَذَا لَا يَنْبَغِي، وَأَهْوَنُ الثَّلَاثَةِ شُرْبُ الْخَمْرِ، فَسَقَتْهُمَا الْخَمْرَ، حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْخَمْرُ فِيهِمَا وَقْعَا بِهَا، فَمَرَّ بِهِمَا إِنْسَانٌ، وَهُمَا فِي ذَلِكَ، فَخَشِيَا أَنْ يُفْشِيَ عَلَيْهِمَا فَقَتَلَاهُ. فَلَمَّا أَنْ ذَهَبَ عَنْهُمَا السُّكْرُ، عَرَفَا مَا وَقَعَا فِيهِ مِنَ الْخَطِيئَةِ، وَأَرَادَا أَنْ يَصْعَدَا إِلَى السَّمَاءِ، فَلَمْ يَسْتَطِيعَا، فَحِيلَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَكُشِفَ الْغِطَاءُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ أَهْلِ السَّمَاءِ، فَنَظَرَتِ الْمَلَائِكَةُ إِلَى مَا وَقَعَا فِيهِ مِنَ الذَّنْبِ، فَعَجِبُوا كُلَّ الْعَجَبِ، وَعَلِمُوا أَنَّ مَنْ كَانَ فِي غَيْبٍ فَهُوَ أَقَلُّ خَشْيَةً فَجَعَلُوا بَعْدَ ذَلِكَ يَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ- وَأَنَّهُمَا لَمَّا وَقَعَا فِيمَا وَقَعَا فِيهِ مِنَ الْخَطِيئَةِ، قِيلَ لَهُمَا: اخْتَارَا عَذَابَ الدُّنْيَا أَوْ عَذَابَ الْآخِرَةِ! فَقَالَا أَمَّا عَذَابُ الدُّنْيَا فَإِنَّهُ يَنْقَطِعُ، وَأَمَّا عَذَابُ الْآخِرَةِ فَلَا انْقِطَاعَ لَهُ؛ فَاخْتَارَا عَذَابَ الدُّنْيَا، فَجَعَلَا بِبَابِلَ، فَهُمَا يُعَذِّبَانِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنَا فَرَجُ بْنُ فَضَالَةَ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ نَافِعٍ قَالَ: سَافَرْتُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخَرِ اللَّيْلِ قَالَ: يَا نَافِعُ انْظُرْ، طَلَعَتِ الْحَمْرَاءُ؟ قُلْتُ: لَا-مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا- ثُمَّ قُلْتُ: قَدْ طَلَعَتْ! قَالَ: لَا مَرْحَبًا وَلَا أَهْلًا! قُلْتُ: سُبْحَانَ اللَّهِ، نَجْمٌ مُسَخَّرٌ سَامِعٌ مُطِيعٌ! قَالَ: مَا قُلْتُ لَكَ إِلَّا مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْمَلَائِكَةَ قَالَتْ: يَا رَبِّ، كَيْفَ صَبْرُكَ عَلَى بَنِي آدَمَ فِي الْخَطَايَا وَالذُّنُوبِ؟ قَالَ: إِنِّي ابْتَلَيْتُهُمْ وَعَافَيْتُكُمْ، قَالُوا: لَوْ كُنَّا مَكَانَهُمْ مَا عَصَيْنَاكَ! قَالَ: فَاخْتَارُوا مَلَكَيْنِ مِنْكُمْ! قَالَ: فَلَمْ يَأْلُوا أَنْ يَخْتَارُوا، فَاخْتَارُوا هَارُوتَ وَمَارُوتَ». حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: وَأَمَّا شَأْنُ هَارُوتَ وَمَارُوتَ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ عَجِبَتْ مِنْ ظُلْمِ بَنِي آدَمَ، وَقَدْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ وَالْكُتُبُ وَالْبَيِّنَاتُ. فَقَالَ لَهُمْ رَبُّهُمُ: اخْتَارُوا مِنْكُمْ مَلَكَيْنِ أُنْـزِلْهُمَا يَحْكُمَانِ فِي الْأَرْضِ بَيْنَ بَنِي آدَمَ. فَاخْتَارُوا هَارُوتَ وَمَارُوتَ. فَقَالَ لَهُمَا حِينَ أَنْـزَلَهُمَا: عَجِبْتُمَا مِنْ بَنِي آدَمَ وَمِنْ ظُلْمِهِمْ وَمَعْصِيَتِهِمْ، وَإِنَّمَا تَأْتِيهِمُ الرُّسُلُ وَالْكُتُبُ مِنْ وَرَاءَ وَرَاءَ، وَأَنْتُمَا لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمَا رَسُولٌ، فَافْعَلَا كَذَا وَكَذَا، وَدَعَا كَذَا وَكَذَا. فَأَمَرَهُمَا بِأَمْرٍ وَنَهَاهُمَا. ثُمَّ نَـزَلَا عَلَى ذَلِكَ لَيْسَ أَحَدٌ لِلَّهِ أَطْوَعَ مِنْهُمَا. فَحَكَمَا فَعَدَلَا. فَكَانَا يَحْكُمَانِ النَّهَارَ بَيْنَ بَنِي آدَمَ، فَإِذَا أَمْسَيَا عَرَجًا وَكَانَا مَعَ الْمَلَائِكَةِ، وَيَنْـزِلَانِ حِينَ يُصْبِحَانِ فَيَحْكُمَانِ فَيَعْدِلَانِ، حَتَّى أُنْـزِلَتْ عَلَيْهِمَا الزُّهَرَةُ- فِي أَحْسَنِ صُورَةِ امْرَأَةٍ- تُخَاصِمُ، فَقَضَيَا عَلَيْهَا، فَلَمَّا قَامَتْ، وَجَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نَفْسِهِ، فَقَالَ أَحَدُهمَا لِصَاحِبِهِ: وَجَدْتَ مِثْلَ مَا وَجَدْتُ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَبَعَثَا إِلَيْهَا: أَنِ ائْتِينَّا نَقْضِ لَكِ، فَلَمَّا رَجَعَتْ، قَالَا لَهَا-وَقَضَيَا لَهَا-: ائْتِينَا! فَأَتَتْهُمَا، فَكَشَفَا لَهَا عَنْ عَوْرَتِهِمَا، وَإِنَّمَا كَانَتْ شَهْوَتُهُمَا فِي أَنْفُسِهِمَا، وَلَمْ يَكُونَا كَبَنِي آدَمَ فِي شَهْوَةِ النِّسَاءِ وَلَذَّاتِهَا، فَلَمَّا بَلَغَا ذَلِكَ وَاسْتَحَلَّاهُ وَافْتَتَنَا، طَارَتِ الزُّهَرَةُ فَرَجَعَتْ حَيْثُ كَانَتْ، فَلَمَّا أَمْسَيَا عَرَجَا فَرَدَّا وَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُمَا، وَلَمْ تَحْمِلْهُمَا أَجْنِحَتُهُمَا، فَاسْتَغَاثَا بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي آدَمَ، فَأَتَيَاهُ فَقَالَا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ! فَقَالَ: كَيْفَ يَشْفَعُ أَهْلُ الْأَرْضِ لِأَهْلِ السَّمَاءِ؟ قَالَا سَمِعْنَا رَبَّكَ يَذْكُرُكَ بِخَيْرٍ فِي السَّمَاءِ! فَوَعَدَهُمَا يَوْمًا، وَغَدًا يَدْعُو لَهُمَا، فَدَعَا لَهُمَا فَاسْتُجِيبَ لَهُ، فَخُيِّرَا بَيْنَ عَذَابِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ، فَنَظَرَ أَحَدُهُمَا إِلَى صَاحِبِهِ، فَقَالَا نَعْلَمُ أَنَّ أَنْوَاعَ عَذَابِ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ كَذَا وَكَذَا فِي الْخُلْدِ، وَمَعَ الدُّنْيَا سَبْعُ مَرَّاتٍ مِثْلُهَا، فَأُمِرَا أَنْ يَنْـزِلَا بِبَابِلَ، فَثَمَّ عَذَابُهُمَا. وَزَعَمَ أَنَّهُمَا مُعَلَّقَانِ فِي الْحَدِيدِ مَطْوِيَّانِ، يُصَفِّقَانِ بِأَجْنِحَتِهِمَا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْقُرَّاءِ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ: {وَمَا أُنْـزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ}، يَعْنِي بِهِ رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي آدَمَ. وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى خَطَأِ الْقِرَاءَةِ بِذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الِاسْتِدْلَالِ، فَأَمَّا مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ، فَإِجْمَاعُ الْحُجَّةِ- عَلَى خَطَأِ الْقِرَاءَةِ بِهَا- مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَقُرَّاءِ الْأَمْصَارِ. وَكَفَى بِذَلِكَ شَاهِدًا عَلَى خَطَئِهَا. وَأَمَأُ قَوْلُهُ (بِبَابِلَ)، فَإِنَّهُ اسْمُ قَرْيَةٍ أَوْ مَوْضِعٌ مِنْ مَوَاضِعِ الْأَرْضِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيهَا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا " بَابِلُ دُنْبَاوَنْدُ". حَدَّثَنِي بِذَلِكَ مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ. وَقَالَ بَعْضُهمْ: بَلْ ذَلِكَ" بَابِلُ الْعِرَاقِ".
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَة- فِي قِصَّةٍ ذَكَرَتْهَا عَنْ امْرَأَةٍ قَدِمَتِ الْمَدِينَةَ، فَذَكَرَتْ أَنَّهَا صَارَتْ فِي الْعِرَاقِ بِبَابِلَ، فَأَتَتْ بِهَا هَارُوتَ وَمَارُوتَ، فَتَعَلَّمَتْ مِنْهُمَا السِّحْرَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَاخْتُلِفَ فِيمَعْنَى السِّحْرِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ خُدَعٌ وَمَخَارِيقُ وَمَعَانٍ يَفْعَلُهَا السَّاحِرُ، حَتَّى يُخَيَّلَ إِلَى الْمَسْحُورِ الشَّيْءُ أَنَّهُ بِخِلَافِ مَا هُوَ بِهِ، نَظِيرَ الَّذِي يَرَى السَّرَابَ مِنْ بَعِيدٍ فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ مَاءٌ، وَيَرَى الشَّيْءَ مِنْ بَعِيدٍ فَيُثْبِتُهُ بِخِلَافِ مَا هُوَ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَكَرَاكِبِ السَّفِينَةِ السَّائِرَةِ سَيْرًا حَثِيثًا يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّ مَا عَايَنَ مِنَ الْأَشْجَارِ وَالْجِبَالِ سَائِرٌ مَعَهُ! قَالُوا: فَكَذَلِكَ الْمَسْحُورُ ذَلِكَ صِفَتُهُ، يَحْسَبُ بَعْدَ الَّذِي وَصَلَ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِ السَّاحِرِ، أَنَّ الَّذِي يَرَاهُ أَوْ يَفْعَلُهُ بِخِلَافِ الَّذِي هُوَ بِهِ عَلَى حَقِيقَتِهِ، كَالَّذِي:- حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَسُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ، قَالَا حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، «عَنْ عَائِشَة: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سُحِرَ، كَانَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَلَمْ يَفْعَلْه) حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، «عَنْ عَائِشَة قالَتْ، سَحَرَ رَسُولُ اللَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَهُودِيٌّ مَنْ يَهُودَ بَنِي زُرَيْقٍ يُقَالُ لَهُ لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ، حَتَّى كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا يَفْعَلُه) حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: كَانَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ يُحَدِّثَانِ: «أَنَّ يَهُودَ بُنِيَ زُرَيْقٍ عَقَدُوا عُقَدَ سِحْرٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلُوهَا فِي بِئْرِ حَزْمٍ، حَتَّى كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يُنْكِرُ بَصَرَهُ، وَدَلَّهُ اللَّهُ عَلَى مَا صَنَعُوا، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بِئْرِ حَزْمٍ الَّتِي فِيهَا الْعُقَدُ فَانْتَزَعَهَا، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: سَحَرَتْنِي يَهُودُ بَنِي زُرَيْقٍ». وَأَنْكَرُ قَائِلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ أَنْ يَكُونَ السَّاحِرُ يَقْدِرُ بِسِحْرِهِ عَلَى قَلْبِ شَيْءٍ عَنْ حَقِيقَتِهِ، وَاسْتِسْخَارِ شَيْءٍ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ- إِلَّا نَظِيرَ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ سَائِرُ بَنِي آدَمَ- أَوْ إِنْشَاءَ شَيْءٍ مِنَ الْأَجْسَامِ سِوَى الْمَخَارِيقِ وَالْخُدَعِ الْمُتَخَيَّلَةِ لِأَبْصَارِ النَّاطِرِينَ بِخِلَافِ حَقَائِقِهَا الَّتِي وَصَفْنَا. وَقَالُوا: لَوْ كَانَ فِي وُسْعِ السَّحَرَةِ إِنْشَاءُ الْأَجْسَامِ وَقَلْبُ حَقَائِقِ الْأَعْيَانِ عَمَّا هِيَ بِهِ مِنَ الْهَيْئَاتِ، لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فَصْلٌ، وَلَجَازَ أَنْ تَكُونَ جَمِيعُ الْمَحْسُوسَاتِ مِمَّا سَحَرَتْهُ السَّحَرَةُ فَقَلَبَتْ أَعْيَانَهَا. قَالُوا: وَفِي وَصْفِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ سَحَرَةَ فِرْعَوْنَ بِقَوْلِهِ: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [سُورَةُ طه: 66]، وَفِي خَبَرِ عَائِشَة عنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ إِذْ سُحِرَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَلَا يَفْعَلُهُ، أَوْضَحُ الدِّلَالَةِ عَلَى بُطُولِ دَعْوَى الْمُدَّعِينَ: أَنَّ السَّاحِرَ يُنْشِئُ أَعْيَانَ الْأَشْيَاءِ بِسِحْرِهِ، وَيَسْتَسْخِرُ مَا يَتَعَذَّرُ اسْتِسْخَارُهُ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ بَنِي آدَمَ، كَالْمَوَاتِ وَالْجَمَادِ وَالْحَيَوَانِ، وَصِحَّةِ مَا قُلْنَا. وَقَالَ آخَرُونَ: قَدْ يَقْدِرُ السَّاحِرُ بِسِحْرِهِ أَنْ يُحَوِّلَ الْإِنْسَانَ حِمَارًا، وَأَنْ يَسْحَرَ الْإِنْسَانَ وَالْحِمَارَ، وَيُنْشِئَ أَعْيَانًا وَأَجْسَامًا، وَاعْتَلَّوْا فِي ذَلِكَ بِمَا:- حَدَّثَنَا بِهِ الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ قَالَ: حَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَة زوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا قَالَتْ: قَدِمَتْ عَلَيَّ امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِ دَوْمَةِ الْجَنْدَلِ، جَاءَتْ تَبْتَغِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَوْتِهِ حَدَاثَةَ ذَلِكَ، تَسْأَلُهُ عَنْ شَيْءٍ دَخَلَتْ فِيهِ مِنْ أَمْرِ السِّحْرِ وَلَمْ تَعْمَلْ بِهِ. قَالَتْ عَائِشَة لعُرْوَةَ: يَا ابْنَ أُخْتِي، فَرَأَيْتُهَا تَبْكِي حِينَ لَمْ تَجِدْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَشْفِيَهَا، كَانَتْ تَبْكِي حَتَّى إِنِّي لِأَرْحَمُهَا! وَتَقُولُ: إِنِّي لَأَخَافُ أَنْ أَكُونَ قَدْ هَلَكْتُ! كَانَ لِي زَوْجٌ فَغَابَ عَنِّي، فَدَخَلَتْ عَلَيَّ عَجُوزٌ فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ: إِنْ فَعَلَتِ مَا آمُرُكِ بِهِ، فَأَجْعَلُهُ يَأْتِيكِ! فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ جَاءَتْنِي بِكَلْبَيْنِ أَسْوَدَيْنِ، فَرَكِبَتْ أَحَدَهُمَا وَرَكِبَتُ الْآخَرَ، فَلَمْ يَكُنْ كَشَيْءٍ حَتَّى وَقَفْنَا بِبَابِلَ، فَإِذَا بِرَجُلَيْنِ مُعَلَّقَيْنِ بِأَرْجُلِهِمَا، فَقَالَا مَا جَاءَ بِكَ؟ فَقُلْتُ: أَتَعَلَّمُ السِّحْرَ؟ فَقَالَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرِي وَارْجِعِي، فَأَبَيْتُ وَقُلْتُ: لَا قَالَا فَاذْهَبِي إِلَى ذَلِكَ التَّنُّورِ فَبِوَلِي فِيهِ، فَذَهَبْتُ فَفَزِعْتُ فَلَمْ أَفْعَلْ، فَرَجَعْتُ إِلَيْهِمَا، فَقَالَا أَفَعَلَتْ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. فَقَالَا فَهَلْ رَأَيْتِ شَيْئًا؟ قُلْتُ: لَمْ أَرَ شَيْئًا! فَقَالَا لِي: لَمْ تَفْعَلِي، ارْجِعِي إِلَى بِلَادِكِ وَلَا تَكْفُرِي فَأَرْبَبْتُ وَأَبَيْتُ، فَقَالَا اذْهَبِي إِلَى ذَلِكَ التَّنُّورِ فَبِوَلِي فِيهِ، فَذَهَبَتْ، فاقْشَعْرَرْتُ، ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَيْهِمَا فَقُلْتُ: قَدْ فَعَلْتُ، فَقَالَا فَمَا رَأَيْتِ؟ فَقُلْتُ: لَمْ أَرَ شَيْئًا. فَقَالَا كَذَبْتِ لَمْ تَفْعَلِي، ارْجِعِي إِلَى بِلَادِكِ وَلَا تَكْفُرِي، فَإِنَّكِ عَلَى رَأْسِ أَمْرِكِ! فَأَرْبَبْتُ وَأَبَيْتُ، فَقَالَا اذْهَبِي إِلَى ذَلِكَ التَّنُّورِ فَبِوَلِي فِيهِ. فَذَهَبْتُ إِلَيْهِ فَبُلْتُ فِيهِ، فَرَأَيْتُ فَارِسًا مُتَقَنِّعًا بِحَدِيدٍ خَرَجَ مِنِّي حَتَّى ذَهَبَ فِي السَّمَاءِ، وَغَابَ عَنِّي حَتَّى مَا أَرَاهُ، فَجِئْتُهُمَا فَقُلْتُ: قَدْ فَعَلْتُ! فَقَالَا مَا رَأَيْتِ؟ فَقُلْتُ: فَارِسًا مُتَقَنِّعًا خَرَجَ مِنِّي فَذَهَبَ فِي السَّمَاءِ حَتَّى مَا أَرَاهُ، فَقَالَا صَدَقْتِ، ذَلِكَ إِيمَانُكِ خَرَجَ مِنْكِ، اذْهَبِي! فَقُلْتُ لِلْمَرْأَةِ: وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ شَيْئًا! وَمَا قَالَا لِي شَيْئًا! فَقَالَتْ: بَلَى، لَنْ تُرِيدِي شَيْئًا إِلَّا كَانَ! خُذِي هَذَا الْقَمْحَ فَابْذُرِي، فَبَذَرْتُ، وَقُلْتُ: أَطْلِعِي! فَأَطْلَعَتْ، وَقُلْتُ: أَحَقْلِي! فَأَحْقَلَتْ، ثُمَّ قُلْتُ: أَفْرِكِي! فَأَفْرَكَتْ، ثُمَّ قُلْت: أَيَبَسِي! فَأَيْبَسَتْ، ثُمَّ قُلْتُ: أَطْحَنِي! فَأَطْحَنَتْ، ثُمَّ قُلْتُ: أَخْبْزِي، فَأَخْبَزَتْ، فَلَمَّا رَأَيْتُ أَنِّي لَا أُرِيدُ شَيْئًا إِلَّا كَانَ، سُقِطَ فِي يَدَى وَنَدِمْتُ وَاللَّهِ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ! وَاللَّهِ مَا فَعَلْتُ شَيْئًا قَطُّ وَلَا أَفْعَلُهُ أَبَدًا. قَالَ أَهْلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ بِمَا وَصَفْنَا، وَاعْتَلُّوْا بِمَا ذَكَرْنَا، وَقَالُوا: لَوْلَا أَنَّ السَّاحِرَ يَقْدِرُ عَلَى فِعْلِ مَا ادَّعَى أَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى فِعْلِهِ، مَا قَدَرَ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ. قَالُوا: وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَتَعَلَّمُونَ مِنَ الْمَلَكَيْنِ مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ، وَذَلِكَ لَوْ كَانَ عَلَى غَيْرِ الْحَقِيقَةِ، وَكَانَ عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيلِ وَالْحُسْبَانِ، لَمْ يَكُنْ تَفْرِيقًا عَلَى صِحَّةٍ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يُفَرِّقُونَ عَلَى صِحَّةٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ "السِّحْرُ" أَخْذٌ بِالْعَيْنِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ: وَمَا يُعَلِّمُ الْمَلَكَانِ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ الَّذِي أُنْـزِلَ عَلَيْهِمَا مِنَ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ، حَتَّى يَقُولَا لَهُ: إِنَّمَا نَحْنُ بَلَاءٌ وَفِتْنَةٌ لَبَنِي آدَمَ، فَلَا تَكْفُرْ بِرَبِّكَ، كَمَا:- حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنْ السُّدِّيِّ قَالَ: إِذَا أَتَاهُمَا- يَعْنِي هَارُوتَ وَمَارُوتَ- إِنْسَانٌ يُرِيدُ السِّحْرَ، وَعَظَاهُ وَقَالَا لَهُ: لَا تَكْفُرْ، إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ! فَإِنْ أَبَى، قَالَا لَهُ: ائْتِ هَذَا الرَّمَادَ فَبُلْ عَلَيْهِ، فَإِذَا بَالَ عَلَيْهِ خَرَجَ مِنْهُ نُورٌ يَسْطُعُ حَتَّى يَدْخُلَ السَّمَاءَ- وَذَلِكَ الْإِيمَانُ- وَأَقْبَلَ شَيْءٌ أَسْوَدُ كَهَيْئَةِ الدُّخَانِ حَتَّى يَدْخُلَ فِي مَسَامِعِهِ وَكُلِّ شَيْءٍ مِنْهُ، فَذَلِكَ غَضَبُ اللَّهِ، فَإِذَا أَخْبَرَهُمَا بِذَلِكَ عَلَّمَاهُ السِّحْرَ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} الْآيَةَ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ وَالْحَسَنِ: {حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ}، قَالَ: أُخِذَ عَلَيْهِمَا أَنْ لَا يَعُلِّمَا أَحَدًا حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ قَالَ: قَالَ قَتَادَةُ: كَانَا يُعَلِّمَانِ النَّاسَ السِّحْرَ، فَأُخِذَ عَلَيْهِمَا أَنْ لَا يُعَلِّمَا أَحَدًا حَتَّى يَقُولَا: (إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ). حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سُفْيَانَ، عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ: قَالَ غَيْرُ قَتَادَةَ: أُخِذَ عَلَيْهِمَا أَنْ لَا يُعَلِّمَا أَحَدًا حَتَّى يَتَقَدَّمَا إِلَيْهِ فَيَقُولَا: (إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ). حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عَوْفٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: أُخِذَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَقُولَا ذَلِكَ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أُخِذَ الْمِيثَاقُ عَلَيْهِمَا أَنْ لَا يُعَلِّمَا أَحَدًا حَتَّى يَقُولَا: (إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ). لَا يَجْتَرِئُ عَلَى السِّحْرِ إِلَّا كَافِرٌ. وَأَمَّا الْفِتْنَةُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، فَإِنَّ مَعْنَاهَا: الِاخْتِبَارُ وَالِابْتِلَاءُ، مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ. وَقَـدْ فُتِـنَ النَّـاسُ فِـي دِينِهِـمْ *** وَخَـلَّى ابْـنُ عَفَّـانَ شَـرُّا طَـوِيلَا وَمِنْهُ قَوْلُهُ: (فَتَنْتُ الذَّهَبَ فِي النَّارِ)، إِذَا امْتَحَنْتَها لِتَعْرِفَ جَوْدَتَهَا مِنْ رَدَاءَتِهَا، "أَفْتِنُهَا فِتْنَةً وَفُتُونًا"، كَمَا:- حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ (إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ)، أَيْ بَلَاءٌ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَوْلُهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا)، خَبَرُ مُبْتَدَأٍ عَنِ الْمُتَعَلِّمِينَ مِنَ الْمَلَكَيْنِ مَا أُنْـزِلَ عَلَيْهِمَا، وَلَيْسَ بِجَوَابٍ لِقَوْلِهِ: (وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ)، بَلْ هُوَ خَبَرٌ مُسْتَأْنَفٌ، وَلِذَلِكَ رُفِعَ فَقِيلَ: (فَيَتَعَلَّمُونَ)، فَمَعْنَى الْكَلَامِ إذًا: وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ، فَيَأْبَوْنَ قَبُولَ ذَلِكَ مِنْهُمَا، فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ: (فَيَتَعَلَّمُونَ)، خَبَرٌ عَنِ الْيَهُودِ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ {"وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْـزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ"}، " {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ}. وَجَعَلُوا ذَلِكَ مِنَ الْمُؤَخَّرِ الَّذِي مَعْنَاهُ التَّقْدِيمُ. وَالَّذِي قُلْنَا أَشْبَهُ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ؛ لِأَنَّ إِلْحَاقَ ذَلِكَ بِالَّذِي يَلِيهِ مِنَ الْكَلَامِ، مَا كَانَ لِلتَّأْوِيلِ وَجْهٌ صَحِيحٌ، أَوْلَى مِنْ إِلْحَاقِهِ بِمَا قَدْ حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مِنْ مُعْتَرِضِ الْكَلَامِ. وَ "الهَاءُ" وَ "المِيمُ" و"الْأَلْفُ" مِنْ قَوْلِهِ: (مِنْهُمَا)، مِنْ ذِكْرِ الْمَلَكَيْنِ، وَمَعْنَى ذَلِكَ: فَيَتَعَلَّمُ النَّاسُ مِنَ الْمَلَكَيْنِ الَّذِي يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ. و"مَا" الَّتِي مَعَ "يُفَرِّقُونَ" بِمَعْنَى "الَّذِي". وَقِيلَ: مَعْنَى ذَلِكَ: السِّحْرُ الَّذِي يُفَرِّقُونَ بِهِ. وَقِيلَ: هُوَ مَعْنًى غَيْرُ السِّحْرِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَهُمْ فِي ذَلِكَ فِيمَا مَضَى قَبْل. وَأَمَّا "الْمَرْءُ"، فَإِنَّهُ بِمَعْنَى: رَجُلٍ مِنْ أَسْمَاءِ بَنِي آدَمَ، وَالْأُنْثَى مِنْهُ "الْمَرْأَة". يُوَحَّدُ وَيُثَنَّى، وَلَا تُجْمَعُ ثَلَاثَتُهُ عَلَى صُورَتِهِ، يُقَالُ مِنْهُ: (هَذَا امْرُؤٌ صَالِحٌ، وَهَذَانَ امْرَآنِ صَالِحَانِ)، وَلَا يُقَالُ: هَؤُلَاءِ امْرُؤُو صِدْقٍ، وَلَكِنْ يُقَالُ: "هَؤُلَاءِ رِجَالُ صِدْقٍ"، وَقَوْمُ صِدْقٍ. وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ تُوَحَّدُ وَتُثَنَّى وَلَا تُجْمَعُ عَلَى صُورَتِهَا. يُقَالُ: هَذِهِ امْرَأَةٌ، وَهَاتَانِ امْرَأَتَانِ"، وَلَا يُقَالُ: هَؤُلَاءِ امْرَآتٌ، وَلَكِنْ: (هَؤُلَاءِ نِسْوَةٌ). وَأَمَّا "الزَّوْجُ"، فَإِنَّ أَهْلَ الْحِجَازِ يَقُولُونَ لِامْرَأَةِ الرَّجُلِ: (هِيَ زَوْجُهُ) بِمَنْـزِلَةِ الزَّوْجِ الذِّكْرِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} [سُورَةُ الْأَحْزَابِ: 37]، وَتَمِيمٌ وَكَثِيرٌ مِنْ قِيسٍ وَأَهْلِ نَجْدٍ يَقُولُونَ: (هِيَ زَوْجَتُهُ)، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: وَإِنَّ الَّـذِي يَمْشِـي يُحَـرِّشُ زَوْجَـتِي *** كَمَـاشٍ إِلَـى أُسْـدٍ الشَّـرَى يَسْـتَبِيلُهَا فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيْفَ يُفَرِّقُ السَّاحِرُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ؟قِيلَ: قَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى عَلَى أَنَّ مَعْنَى "السِّحْرِ": تَخْيِيلُ الشَّيْءِ إِلَى الْمَرْءِ بِخِلَافِ مَا هُوَ بِهِ فِي عَيْنِهِ وَحَقِيقَتِهِ، بِمَا فِيهِ الْكِفَايَةُ لِمَنْ وُفِّقَ لِفَهْمِهِ. فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ صَحِيحًا بِالَّذِي اسْتَشْهَدْنَا عَلَيْهِ، فَتَفْرِيقُهُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ: تَخْيِيلُهُ بِسِحْرِهِ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَخْصَ الْآخَرِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ بِهِ فِي حَقِيقَتِهِ، مِنْ حُسْنٍ وَجَمَالٍ، حَتَّى يُقَبِّحَهُ عِنْدَهُ، فَيَنْصَرِفُ بِوَجْهِهِ وَيُعْرِضُ عَنْهُ، حَتَّى يُحْدِثَ الزَّوْجُ لِامْرَأَتِهِ فِرَاقًا، فَيَكُونُ السَّاحِرُ مُفَرَّقًا بَيْنَهُمَا بِإِحْدَاثِهِ السَّبَبَ الَّذِي كَانَ مِنْهُ فُرْقَةُ مَا بَيْنَهُمَا، وَقَدْ دَلَّلْنَا، فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِنَا هَذَا، عَلَى أَنَّ الْعَرَبَ تُضِيفُ الشَّيْءَ إِلَى مُسَبِّبِهِ مِنْ أَجْلِ تَسَبُّبِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَاشَرَ فِعْلَ مَا حَدَثَ عَنِ السَّبَبِ، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، فَكَذَلِكَ تَفْرِيقُ السَّاحِرِ بِسِحْرِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَهُ عَدَدٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ}، وَتَفْرِيقُهُمَا: أَنْ يُؤَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ، وَيُبَغَّضُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى صَاحِبِهِ. وَأَمَّا الَّذِينَ أَبَوْا أَنْ يَكُونَ الْمَلَكَانِ يُعَلِّمَانِ النَّاسَ التَّفْرِيقَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ، فَإِنَّهُمْ وَجَّهُوا تَأْوِيلَ قَوْلِهِ: (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا) إِلَى "فَيَتَعَلَّمُونَ مَكَانَ مَا عَلَّمَاهُمْ مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: لَيْتَ لَنَا كَذَا مِنْ كَذَا"، أَيْ مَكَانِ كَذَا، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: جَـمَعَتْ مِـنَ الْخَـيْرَاتِ وَطْبًا وَعُلْبَةً *** وَصَـرًّا لِأَخْـلَافِ الْمُزَنَّمَـةِ الْـبُزْلِ وَمِـنْ كُـلِّ أَخْـلَاقِ الْكِـرَامِ نَمِيمَـةً *** وَسَـعْيًا عَـلَى الْجَـارِ الْمُجَاوِرِ بِالنَّجْلِ يُرِيدُ بِقَوْلِهِ: "جَمَعَتْ مِنَ الْخَيِّرَاتِ"، مَكَانَ خَيْرَاتِ الدُّنْيَا، هَذِهِ الْأَخْلَاقَ الرَّدِيئَةَ وَالْأَفْعَالَ الدَّنِيئَةَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْآخَرِ: صَلَـدَتْ صَفَـاتُكَ أَنْ تَلِيـنَ حُيُودُهَـا *** وَوَرِثْـتَ مِـنْ سَـلَفِ الْكِـرَامِ عُقُوقَا يَعْنِي: وَرِثْتَ مَكَانَ سَلَفِ الْكِرَامِ عُقُوقًا مِنْ وَالِدَيْكِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}. قَالَ أَبُو جعفرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}، وَمَا الْمُتَعَلِّمُونَ مِنَ الْمَلَكَيْنِ هَارُوتَ وَمَارُوتَ مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ، بِضَارِّينَ- بِالَّذِي تَعْلَّمُوهُ مِنْهُمَا، مِنَ الْمَعْنَى الَّذِي يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ- مِنْ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ إِلَّا مَنْ قَدْ قَضَى اللَّهُ عَلَيْهِ أَنَّ ذَلِكَ يَضُرُّهُ. فَأَمَّا مَنْ دَفَعَ اللَّهُ عَنْهُ ضُرَّهُ، وَحَفِظَهُ مِنْ مَكْرُوهِ السِّحْرِ وَالنَّفْثِ وَالرُّقَى، فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ ضَارِّهِ، وَلَا نَائِلُهُ أَذَاهُ. وَلِـ "الْإِذْنِ" فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَوْجُهٌ، مِنْهَا: الْأَمْرُ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْإِلْزَامِ، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ قَوْلُهُ: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}؛ لِأَنَّ اللَّهَ-جَلَّ ثَنَاؤُهُ- قَدْ حَرَّمَ التَّفْرِيقَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَحَلِيلَتِهِ بِغَيْرِ سِحْرٍ- فَكَيْفَ بِهِ عَلَى وَجْهِ السِّحْرِ؟- عَلَى لِسَانِ الْأُمَّةِ. وَمِنْهَا: التَّخْلِيَةُ بَيْنَ الْمَأْذُونِ لَهُ، وَالْمُخْلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ. وَمِنْهَا الْعِلْمُ بِالشَّيْءِ، يُقَالُ مِنْهُ: (قَدْ أَذِنْتُ بِهَذَا الْأَمْرِ) إِذَا عَلِمْتُ بِهِ "آذَنُ بِهِ إِذْنًا"، وَمِنْهُ قَوْلُ الْحُطَيْئَةِ: أَلَا يَـا هِنْـدُ إِنْ جَـدَّدْتِ وَصْـلًا *** وَإِلَّا فَـأْذَنِينِي بِـانْصِرَامِ يَعْنِي فَأَعْلِمِينِي. وَمِنْهُ قَوْلُهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ} [سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 279]، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى الْآيَةِ، كَأَنَّهُ قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ، بِالَّذِي تَعْلَّمُوا مِنَ الْمَلَكَيْنِ، مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِعِلْمِ اللَّهِ. يَعْنِي: بِالَّذِي سَبَقَ لَهُ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ يَضُرُّهُ. كَمَا:- حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا سُوِيدُ بْنُ نَصْرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ سُفْيَانَ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}، قَالَ: بِقَضَاءِ اللَّهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: (وَيَتَعَلَّمُونَ)، النَّاسُ الَّذِينَ يَتَعَلَّمُونَ مِنَ الْمَلَكَيْنِ مَا أُنْـزِلَ عَلَيْهِمَا مِنَ الْمَعْنَى الَّذِي يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ، يَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا السِّحْرَ الَّذِي يَضُرُّهُمْ فِي دِينِهِمْ، وَلَا يَنْفَعُهُمْ فِي مَعَادِهِمْ. فَأَمَّا فِي الْعَاجِلِ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّهُمْ قَدْ كَانُوا يَكْسِبُونَ بِهِ وَيُصِيبُونَ بِهِ مَعَاشًا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ}، الْفَرِيقَ الَّذِينَ لَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ، نَبَذُوا كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ، فَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: لَقَدْ عَلِمَ النَّابِذُونَ- مَنْ يَهُودِ بَنِيَ إِسْرَائِيلَ- كِتَابِي وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ تَجَاهُلًا مِنْهُمُ، التَّارِكُونَ الْعَمَلَ بِمَا فِيهِ مِنْ اتِّبَاعِكَ يَا مُحَمَّدُ وَاتِّبَاعِ مَا جِئْتَ بِهِ، بَعْدَ إِنْـزَالِي إِلَيْكَ كِتَابِي مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ، وَبَعْدَ إِرْسَالِكَ إِلَيْهِمْ بِالْإِقْرَارِ بِمَا مَعَهُمْ وَمَا فِي أَيْدِيهِمْ، الْمُؤْثِرُونَ عَلَيْهِ اتِّبَاعَ السِّحْرِ الَّذِي تَلَتْهُ الشَّيَاطِينُ عَلَى عَهْدِ سُلَيْمَانَ، وَالَّذِي أُنْـزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ- لَمَنِ اشْتَرَى السِّحْرَ بِكِتَابِي الَّذِي أَنْـزَلْتُهُ عَلَى رَسُولِي فَآثَرَهُ عَلَيْهِ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ. كَمَا:- حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ}، يَقُولُ: قَدْ عَلِمَ ذَلِكَ أَهْلُ الْكِتَابِ فِي عَهْدِ اللَّهِ إِلَيْهِمْ: أَنَّ السَّاحِرَ لَا خَلَاقَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. حَدَّثَنَا مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ}، يَعْنِي الْيَهُودَ. يَقُولُ: لَقَدْ عَلِمَتِ الْيَهُودُ أَنَّ مِنْ تَعَلَّمَهُ أَوِ اخْتَارَهُ، مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ. وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ}، لِمَنِ اشْتَرَى مَا يُفَرِّقُ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ}، قَالَ: قَدْ عَلِمَتْ يَهُودُ أَنَّ فِي كِتَابِ اللَّهِ فِي التَّوْرَاةِ: أَنَّ مَنِ اشْتَرَى السِّحْرَ وَتَرَكَ دِينَ اللَّهِ، مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ، فَالنَّارُ مَثْوَاهُ وَمَأْوَاهُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَمَّا قَوْلُهُ: (لِمَنِ اشْتَرَاهُ)، فَإِنَّ "مَنْ" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، وَلَيْسَ قَوْلُهُ: (وَلَقَدْ عَلِمُوا) بِعَامِلٍ فِيهَا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: (وَلَقَدْ عَلِمُوا)، بِمَعْنَى الْيَمِينِ، فَلِذَلِكَ كَانَتْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ بِمَعْنَى: وَاللَّهِ لِمَنِ اشْتَرَى السِّحْرَ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ. وَلِكَوْنِ قَوْلِهِ: (قَدْ عَلِمُوا) بِمَعْنَى الْيَمِين، حُقِّقَتْ بِـ "لَامِ الْيَمِينِ"، فَقِيلَ: (لِمَنِ اشْتَرَاهُ)، كَمَا يُقَالُ: (أُقْسِمُ لَمَنْ قَامَ خَيْرٌ مِمَّنْ قَعَدَ). وَكَمَا يُقَالُ: (قَدْ عَلِمْتَ، لَعَمْرٌو خَيْرٌ مِنْ أَبِيكَ). وَأَمَّا "مَنْ" فَهُوَ حَرْفُ جَزَاءٍ. وَإِنَّمَا قِيلَ: (اشْتَرَاهُ) وَلَمْ يَقِلْ: (يَشْتَرُوهُ)، لِدُخُولِ "لَامِ الْقَسَمِ" عَلَى "مَنْ". وَمِنْ شَأْنِ الْعَرَبِ- إِذَا أَحْدَثَتْ عَلَى حَرْفِ الْجَزَاءِ لَامَ الْقَسَمِ- أَنْ لَا يَنْطِقُوا فِي الْفِعْلِ مَعَهُ إِلَّا بِـ "فَعَلَ" دُونَ "يَفْعَلُ"، إِلَّا قَلِيلًا كَرَاهِيَةَ أَنْ يُحْدِثُوا عَلَى الْجَزَاءِ حَادِثًا وَهُوَ مَجْزُومٌ، كَمَا قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ} [سُورَةُ الْحَشْرِ: 12]، وَقَدْ يَجُوزُ إِظْهَارُ فِعْلِهِ بَعْدَهُ عَلَى "يَفْعَلُ" مَجْزُومًا، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: لَئِـنْ تَـكُ قَـدْ ضَـاقَتْ عَلَيْكُمْ بُيُوتُكُمْ *** لَيْعْلَـمُ رَبِّـي أَنَّ بَيْتِـي وَاسِـعُ وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ}. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: (الْخَلَاقُ) فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: النَّصِيبُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ}، يَقُولُ: مِنْ نَصِيبٍ. حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ}، مِنْ نَصِيبٍ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، قَالَ سُفْيَانُ: سَمِعْنَا فِي: {وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ}، أَنَّهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ. وَقَالَ بَعْضُهمْ: (الْخَلَاقُ) هَهُنَا الْحُجَّةُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ}، قَالَ: لَيْسَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ حُجَّةٌ. وَقَالَ آخَرُونَ: الْخَلَاقُ: الدِّينُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ قَالَ: قَالَ الْحَسَنُ: {مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ}، قَالَ: لَيْسَ لَهُ دِينٌ. وَقَالَ آخَرُونَ: (الْخَلَاقُ) هَهُنَا الْقِوَامُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ}، قَالَ: قِوَامٌ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: مَعْنَى "الخَلَاقِفِي قَوْلِهِ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ " فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: النَّصِيبُ. وَذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ مَعْنَاهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَيُؤَيِّدَنَّ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ بِأَقْوَامٍ لَا خَلَاقَ لَهُمْ". يَعْنِي لَا نَصِيبَ لَهُمْ وَلَا حَظَّ فِي الْإِسْلَامِ وَالدِّينِ. وَمِنْهُ قَوْلُ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ: يَدْعُـونَ بَـالْوَيْلِ فِيهَـا لَا خَـلَاقَ لَهُمْ *** إِلَّا سَـرَابِيلُ مِـنْ قِطْـرٍ وَأَغْـلَالِ يَعْنِي بِذَلِكَ: لَا نَصِيبَ لَهُمْ وَلَا حَظَّ، إِلَّا السَّرَابِيلُ وَالْأَغْلَالُ. فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ}: مَا لَهُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ حَظٌّ مِنَ الْجَنَّةِ، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِيمَانٌ وَلَا دِينٌ وَلَا عَمَلٌ صَالِحٌ يُجَازَى بِهِ فِي الْجَنَّةِ وَيُثَابُ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ لَهُ حَظٌّ وَنَصِيبٌ مِنَ الْجَنَّةِ. وَإِنَّمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ}، فَوَصَفَهُ بِأَنَّهُ لَا نَصِيبَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَهُوَ يَعْنِي بِهِ: لَا نَصِيبَ لَهُ مِنْ جَزَاءٍ وَثَوَابٍ وَجَنَّةٍ دُونَ نَصِيبِهِ مِنَ النَّارِ، إِذْ كَانَ قَدْ دَلَّ ذَمُّهُ-جَلَّ ثَنَاؤُهُ- أَفْعَالَهُمُ- الَّتِي نَفَى مِنْ أَجْلِهَا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ نَصِيبٌ- عَلَى مُرَادِهِ مِنَ الْخَبَرِ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا نَصِيبَ لَهُمْ فِيهَا مِنَ الْخَيْرَاتِ، وَأَمَّا مِنَ الشُّرُورِ فَإِنَّ لَهُمْ فِيهَا نَصِيبًا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: قَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى قَبْلُ عَلَى أَنَّ مَعْنَى "شَرَوْا": (بَاعُوا)، فَمَعْنَى الْكَلَامِ إِذًا: وَلَبِئْسَ مَا بَاعَ بِهِ نَفْسَهُ مَنْ تَعَلَّمَ السِّحْرَ لَوْ كَانَ يَعْلَمُ سُوءَ عَاقِبَتِهِ، كَمَا: حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ}، يَقُولُ: بِئْسَ مَا بَاعُوا بِهِ أَنْفُسَهُمْ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: وَكَيْفَ قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}؟ وَقَدْ قَالَ قَبْلُ: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ}، فَكَيْفَ يَكُونُونَ عَالِمِينَ بِأَنَّ مَنْ تَعَلَّمَ السِّحْرَ فَلَا خَلَاقَ لَهُمْ، وَهُمْ يَجْهَلُونَ أَنَّهُمْ بِئْسَ مَا شَرَوْا بِالسِّحْرِ أَنْفُسَهُمْ؟ قِيلَ: إِنَّ مَعْنَى ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي تَوَهَّمْتَهُ، مِنْ أَنَّهُمْ مَوْصُوفُونَ بِالْجَهْلِ بِمَا هُمْ مَوْصُوفُونَ بِالْعِلْمِ بِهِ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ مِنَ الْمُؤَخَّرِ الَّذِي مَعْنَاهُ التَّقْدِيمُ، وَإِنَّمَا مَعْنَى الْكَلَامِ: وَمَا هُمْ ضَارُّونَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ، وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، وَلَقَدْ عَلِمُوا لِمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ. فَقَوْلُهُ: {لَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}، ذَمٌّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ فِعْلَ الْمُتَعَلِّمِينَ مِنَ الْمَلَكَيْنِ التَّفْرِيقَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ، وَخَبَرٌ مِنْهُ-جَلَّ ثَنَاؤُهُ- عَنْهُمْ أَنَّهُمْ بِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ، بِرِضَاهُمْ بِالسِّحْرِ عِوَضًا عَنْ دِينِهِمُ الَّذِي بِهِ نَجَاةُ أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْهُلْكَةِ، جَهْلًا مِنْهُمْ بِسُوءِ عَاقِبَةِ فِعْلِهِمْ، وَخَسَارَةِ صَفْقَةِ بَيْعِهِمْ؛ إِذْ كَانَ قَدْ يَتَعَلَّمُ ذَلِكَ مِنْهُمَا مَنْ لَا يَعْرِفُ اللَّهَ، وَلَا يَعْرِفُ حَلَالَهُ وَحَرَامَهُ، وَأَمْرَهُ وَنَهْيَهُ. ثُمَّ عَادَ إِلَى الْفَرِيقِ- الَّذِينَ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ نَبَذُوا كِتَابَهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا أُنْـزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ- فَأَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا أَنَّ مَنِ اشْتَرَى السِّحْرَ، مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ؛ وَوَصْفَهُمْ بِأَنَّهُمْ يَرْكَبُونَ مَعَاصِيَ اللَّهِ عَلَى عِلْمٍ مِنْهُمْ بِهَا، وَيَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ، وَيُؤَثِّرُونَ اتِّبَاعَ الشَّيَاطِينِ وَالْعَمَلَ بِمَا أَحْدَثَتْهُ مِنَ السِّحْرِ، عَلَى الْعَمَلِ بِكِتَابِهِ وَوَحْيِهِ وَتَنْـزِيلِهِ، عِنَادًا مِنْهُمْ، وَبَغْيًا عَلَى رُسُلِهِ، وَتَعَدِّيًا مِنْهُمْ لِحُدُودِهِ، عَلَى مَعْرِفَةٍ مِنْهُمْ بِمَا لِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْعِقَابِ وَالْعَذَابِ، فَذَلِكَ تَأْوِيلُ قَوْلِهِ. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ الزَّاعِمِينَ أَنَّ قَوْلَهُ: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ}، يَعْنِي بِهِ الشَّيَاطِينَ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)، يَعْنِي بِهِ النَّاسَ. وَذَلِكَ قَوْلٌ لِجَمِيعِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ مُخَالِفٌ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: (وَلَقَدْ عَلِمُوا لِمَنِ اشْتَرَاهُ)، مَعْنِيٌّ بِهِ الْيَهُودُ دُونَ الشَّيَاطِينِ: ثُمَّ هُوَ- مَعَ ذَلِكَ- خِلَافُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ التَّنْـزِيلُ؛ لِأَنَّ الْآيَاتِ قَبْلَ قَوْلِهِ: (وَلَقَدْ عَلِمُوا لِمَنِ اشْتَرَاهُ)، وَبَعْدَ قَوْلِهِ: (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)، جَاءَتْ مِنَ اللَّهِ بِذَمِّ الْيَهُودِ وَتَوْبِيخِهِمْ عَلَى ضَلَالِهِمْ، وَذَمًّا لَهُمْ عَلَى نَبْذِهِمْ وَحْيَ اللَّهِ وَآيَاتِ كِتَابِهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، مَعَ عِلْمِهِمْ بِخَطَأِ فِعْلِهِمْ، فَقَوْلُهُ: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ}، أَحَدُ تِلْكَ الْأَخْبَارِ عَنْهُمْ. وَقَالَ بَعْضُهمْ: إِنَّ الَّذِينَ وَصَفَ اللَّهَ-جَلَّ ثَنَاؤُهُ- بِقَوْلِهِ: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}، فَنَفَى عَنْهُمُ الْعِلْمَ، هُمُ الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ}. وَإِنَّمَا نَفَى عَنْهُمْ-جَلَّ ثَنَاؤُهُ- الْعِلْمَ بِقَوْلِهِ: (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)- بَعْدَ وَصْفِهِ إِيَّاهُمْ بِأَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا بِقَوْلِهِ: (وَلَقَدْ عَلِمُوا)- مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ لَمْ يَعْمَلُوا بِمَا عَلِمُوا، وَإِنَّمَا الْعَالِمُ الْعَامِلُ بِعِلْمِهِ، وَأَمَّا إِذَا خَالَفَ عَمَلُهُ عِلْمَهُ، فَهُوَ فِي مَعَانِي الْجُهَّالِ. قَالَ: وَقَدْ يُقَالُ لِلْفَاعِلِ الْفِعْلُ بِخِلَافِ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَ، وَإِنْ كَانَ بِفِعْلِهِ عَالِمًا: (لَوْ عَلِمْتَ لَأَقْصَرْتَ) كَمَا قَالَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ الْمُزَنِيُّ، وَهُوَ يَصِفُ ذِئْبًا وَغُرَابًا تَبِعَاهُ لِيَنَالَا مِنْ طَعَامِهِ وَزَادِهِ: إِذْ حَـضَرَانِي قُلْـتُ: لـو تَعْلَمَانِهِ! *** أَلَـمْ تَعْلَمَـا أَنِّـي مِـنَ الـزَّادِ مُرْمِلُ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ قَالَ لَهُمَا: (لَوْ تَعْلَمَانِهِ)، فَنَفَى عَنْهُمَا الْعِلْمَ، ثُمَّ اسْتَخْبَرَهُمَا فَقَالَ: أَلَمْ تَعْلَمَا؟ قَالُوا: فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: (وَلَقَدْ عَلِمُوا لِمَنِ اشْتَرَاهُ) وَ(لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ). وَهَذَا تَأْوِيلٌ وَإِنْ كَانَ لَهُ مَخْرَجٌ وَوَجْهٌ فَإِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ الْمَفْهُومِ بِنَفْسِ الْخِطَابِ، أَعْنِي بِقَوْلِهِ: (وَلَقَدْ عَلِمُوا) وَقَوْله: (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)، وَإِنَّمَا هُوَ اسْتِخْرَاجٌ، وَتَأْوِيلُ الْقُرْآنِ عَلَى الْمَفْهُومِ الظَّاهِرِ الْخِطَابِ دُونَ الْخَفِيِّ الْبَاطِنِ مِنْهُ، حَتَّى تَأْتِيَ دِلَالَةٌ- مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهُ- بمعنىً خِلَافَ دَلِيلِهِ الظَّاهِرِ الْمُتَعَارَفِ فِي أَهْلِ اللِّسَانِ الَّذِينَ بِلِسَانِهِمْ نَـزَلَ الْقُرْآنُ-أَوْلَى.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا}، لَوْ أَنَّ الَّذِينَ يَتَعَلَّمُونَ مِنَ الْمَلَكَيْنِ مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ، "آمَنُوا" فَصَدَّقُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِمْ، و"اتَّقَوْا" رَبَّهُمْ فَخَافُوهُ فَخَافُوا عِقَابَهُ، فَأَطَاعُوهُ بِأَدَاءِ فَرَائِضِهِ وَتَجَنَّبُوا مَعَاصِيَهُ- لَكَانَ جَزَاءَُ اللَّهِ إِيَّاهُمْ، وَثَوَابُهُ لَهُمْ عَلَى إِيمَانِهِمْ بِهِ وَتَقْوَاهُمْ إِيَّاهُ، خَيْرًا لَهُمْ مِنَ السِّحْرِ وَمَا اكْتَسَبُوا بِهِ، "لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ" أَنَّ ثَوَابَ اللَّهِ إِيَّاهُمْ عَلَى ذَلِكَ خَيْرٌ لَهُمْ مِنَ السِّحْرِ وَمِمَّا اكْتَسَبُوا بِهِ. وَإِنَّمَا نَفَى بِقَوْلِهِ: (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) الْعِلْمَ عَنْهُمْ: أَنْ يَكُونُوا عَالِمِينَ بِمَبْلَغِ ثَوَابِ اللَّهِ، وَقَدْرِ جَزَائِهِ عَلَى طَاعَتِهِ. و"الْمَثُوبَةُ" فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: أَثَبْتُكَ إِثَابَةً وَثَوَابًا وَمَثُوبَةً"، فَأَصِلُ ذَلِكَ مِنْ: "ثَابَ إِلَيْكَ الشَّيْءُ" بِمَعْنَى: رَجَعَ. ثُمَّ يُقَالُ: "أَثَبْتُهُ إِلَيْكَ ": أَيْ، رَجَعْتُهُ إِلَيْكَ وَرَدَدْتُهُ، فَكَانَ مَعْنَى "إِثَابَةُ الرَّجُلِ الرَّجُلَ عَلَى الْهَدِيَّةِ وَغَيْرِهَا": إِرْجَاعُهُ إِلَيْهِ مِنْهَا بَدَلًا وَرَدُّهُ عَلَيْهِ مِنْهَا عِوَضًا، ثُمَّ جُعِلَ كُلُّ مُعَوِّضٍ غَيْرَهُ مِنْ عَمَلِهِ أَوْ هَدِيَّتِهِ أَوْ يَدٍ لَهُ سَلَفَتْ مِنْهُ إِلَيْهِ: مُثِيبًا لَهُ. وَمِنْهُ "ثَوَابُ" اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عِبَادَهُ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، بِمَعْنَى إِعْطَائِهِ إِيَّاهُمُ الْعِوَضَ وَالْجَزَاءَ عَلَيْهِ، حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْهِمْ بَدَلٌ مِنْ عَمَلِهِمُ الَّذِي عَمِلُوا لَهُ. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ أَنَّ قَوْلَهُ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ} مِمَّا اكْتُفِيَ- بِدِلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَى مَعْنَاهُ- عَنْ ذِكْرِ جَوَابِهِ، وَأَنَّ مَعْنَاهُ: وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَأُثِيبُوا، وَلَكِنَّهُ اسْتَغْنَى- بِدِلَالَةِ الْخَبَرِ عَنِ الْمَثُوبَةِ- عَنْ قَوْلِهِ: لَأُثِيبُوا. وَكَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّي أَهْلِ الْبَصْرَةِ يُنْكِرُ ذَلِكَ، وَيَرَى أَنَّ جَوَابَ قَوْلِهِ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا}، (لَمُثَوَّبَةٌ)، وَأَنَّ "لَوْ" إِنَّمَا أُجِيبَتْ "بِالْمَثُوبَةِ"، وَإِنْ كَانَتْ أُخْبِرَ عَنْهَا بِالْمَاضِي مِنَ الْفِعْلِ لِتَقَارُبِ مَعْنَاهُ مِنْ مَعْنَى "لَئِنْ" فِي أَنَّهُمَا جَزَاءَانِ، فَإِنَّهُمَا جَوَابَانِ لِلْإِيمَانِ، فَأَدْخَلَ جَوَابَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبَتِهَا – فَأُجِيبَتْ "لَوْ" بِجَوَابِ "لَئِنْ"، و"لَئِنْ" بِجَوَابِ "لَوْ"، لِذَلِكَ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَجْوِبَتُهُمَا، فَكَانَتْ "لَوْ" مِنَ حُكْمِهَا وَحَظِّهَا أَنْ تُجَابَ بِالْمَاضِي مِنَ الْفِعْلِ، وَكَانَتْ "لَئِنْ" مِنَ حُكْمِهَا وَحَظِّهَا أَنْ تُجَابَ بِالْمُسْتَقْبَلِ مِنَ الْفِعْلِ- لِمَا وَصَفْنَا مَنْ تُقَارِبُهُمَا؛ فَكَانَ يَتَأَوَّلُ مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا}: وَلَئِنْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ. وَبِمَا قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ "الْمَثُوبَةِ" قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}، يَقُولُ: ثَوَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}، أَمَّا "الْمَثُوبَةُ"، فَهُوَ الثَّوَابُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ}، يَقُولُ: لَثَوَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
|