الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بِاللَّهِ {لَوْلَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ} يَقُولُ: هَلَّا نَزَلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنُ {جُمْلَةً وَاحِدَةً} كَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ عَلَى مُوسَى جُمْلَةً وَاحِدَةً؟ قَالَ اللَّهُ: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} تَنْزِيلُهُ عَلَيْكَ الْآيَةَ بَعْدَ الْآيَةِ، وَالشَّيْءَ بَعْدَ الشَّيْءِ، لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ نَزَّلْنَاهُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} قَالَ: كَانَ اللَّهُ يُنِْزِلُ عَلَيْهِ الْآيَةَ، فَإِذَا عَلِمَهَا نَبِيُّ اللَّهِ نَزَلَتْ آيَةً أُخْرَى لَيُعَلِّمَهُ الْكِتَابَ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ، وَيُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَهُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَوْلُهُ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} كَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ عَلَى مُوسَى، قَالَ: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} قَالَ: كَانَ الْقُرْآنُ يَنِْزِلُ عَلَيْهِ جَوَابًا لِقَوْلِهِمْ: لِيَعْلَمَ مُحَمَّدٌ أَنَّ اللَّهَ يُجِيبُ الْقَوْمَ بِمَا يَقُولُونَ بِالْحَقِّ، وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} لِنُصَحِّحَ بِهِ عَزِيمَةَ قَلْبِكَ وَيَقِينَ نَفْسِكَ، وَنُشَجِّعُكَ بِهِ. وَقَوْلُهُ {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} يَقُولُ: وَشَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ عَلَّمْنَاكَهُ حَتَّى تَحْفَظَنَّهُ، وَالتَّرْتِيلُ فِي الْقِرَاءَةِ: التَّرَسُّلُ وَالتَّثَبُّتُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُغِيرَةُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، فِي قَوْلِهِ: {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} قَالَ: نَزَلَ مُتَفَرِّقً. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} قَالَ: كَانَ يَنِْزِلُ آيَةً وَآيَتَيْنِ وَآيَاتٍ جَوَابًا لَهُمْ إِذَا سَأَلُوا عَنْ شَيْءٍ أَنْزَلَهُ اللَّهُ جَوَابًا لَهُمْ، وَرَدًّا عَنِ النَّبِيِّ فِيمَا يَتَكَلَّمُونَ بِهِ. وَكَانَ بَيْنَ أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ نَحْوَ مِنْ عِشْرِينَ سَنَةً. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَوْلُهُ: {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} قَالَ: كَانَ بَيْنَ مَا أُنْزَلَ الْقُرْآنُ إِلَى آخِرِهِ أُنْزَلَ عَلَيْهِ لِأَرْبَعِينَ، وَمَاتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِثِنْتَيْنِ أَوْ لِثَلَاثٍ وَسِتِّينَ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى التَّرْتِيلِ: التَّبْيِينُ وَالتَّفْسِيرُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} قَالَ: فَسَّرْنَاهُ تَفْسِيرًا، وَقَرَأَ: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا}.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَا يَأْتِيكَ يَا مُحَمَّدُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ بِمَثَلٍ يَضْرِبُونَهُ إِلَّا جِئْنَاكَ مِنَ الْحَقِّ، بِمَا نُبْطِلُ بِهِ مَا جَاءُوا بِهِ، وَأَحْسَنَ مِنْهُ تَفْسِيرًا. كَمَا حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ} قَالَ: الْكِتَابُ بِمَا تَرُدُّ بِهِ مَا جَاءُوا بِهِ مِنَ الْأَمْثَالِ الَّتِي جَاءُوا بِهَا وَأَحْسَنَ تَفْسِيرً. وَعَنَى بِقَوْلِهِ {وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} وَأَحْسَنَ مِمَّا جَاءُوا بِهِ مِنَ الْمَثَلِ بَيَانًا وَتَفْصِيلًا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} يَقُولُ: أَحْسَنُ تَفْصِيلً. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} قَالَ: بَيَانًا. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} يَقُولُ: تَفْصِيلًا. وَقَوْلُهُ: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ: هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ يَا مُحَمَّدُ، الْقَائِلُونَ لَكَ {لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} وَمَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ، الَّذِينَ يُحْشَرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ، فَيُسَاقُونَ إِلَى جَهَنَّمَ شَرٌّ مُسْتَقَرًّا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ، وَأَضَلُّ مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا طَرِيقًا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ} قَالَ: الَّذِي أَمْشَاهُمْ عَلَى أَرْجُلِهِمْ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُمْشِيَهُمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ {أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا} مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ {وَأَضَلُّ سَبِيلًا} قَالَ: طَرِيقً. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْأَزْدِيُّ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: ثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ} قَالَ: حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يُحْشَرُ الْكَافِرُ عَلَى وَجْهِهِ؟ قَالَ: الَّذِي أَمْشَاهُ عَلَى رِجْلَيْهِ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُمْشِيَهُ عَلَى وَجْهِهِ".» حَدَّثَنَا أَبُو سُفْيَانَ الْغَنَوِيُّ يَزِيدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا خَلَّادُ بْنُ يَحْيَى الْكُوفِيُّ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: كَيْفَ يَحْشُرُهُمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ؟ قَالَ: "الَّذِي يَحْشُرُهُمْ عَلَى أَرْجُلِهِمْ قَادِرٌ بِأَنْ يَحْشُرُهُمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ".» حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَرَّاقُ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ أَبِي دَاوُدَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: " «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَيْفَ يُحْشَرُ أَهْلُ النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ؟ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِي أَمْشَاهُمْ عَلَى أَقْدَامِهِمْ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُمْشِيَهُمْ عَلَى وُجُوهِهِم» ". حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ الْمِقْدَامِ قَالَ: ثَنَا حَزْمٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ: «قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ} فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، كَيْفَ يَمْشُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ؟ قَالَ: أَرَأَيْتَ الَّذِي أَمْشَاهُمْ عَلَى أَقْدَامِهِمْ أَلَيْسَ قَادِرًا أَنْ يُمْشِيَهُمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ".» حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَنْصُورُ بْنُ زَاذَانَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ، عَنْ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: "يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ: صِنْفٌ عَلَى الدَّوَابِّ، وَصِنْفٌ عَلَى أَقْدَامِهِمْ، وَصِنْفٌ عَلَى وُجُوهِهِمْ، فَقِيلَ: كَيْفَ يَمْشُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ؟ قَالَ: إِنَّ الَّذِي أَمْشَاهُمْ عَلَى أَقْدَامِهِمْ، قَادِرٌ أَنْ يُمْشِيَهُمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَعَّدُ مُشْرِكِي قَوْمِهِ عَلَى كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ، وَتَكْذِيبِهِمْ رَسُولَهُ وَيُخَوِّفُهُمْ مِنْ حُلُولِ نِقْمَتِهِ بِهِمْ، نَظِيرَ الَّذِي يَحِلُّ بِمَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ رُسُلَهَا (وَلَقَدْ آتَيْنَا) يَا مُحَمَّدُ (مُوسَى الْكِتَابَ) يَعْنِي التَّوْرَاةَ، كَالَّذِي آتَيْنَاكَ مِنَ الْفُرْقَانِ {وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا} يَعْنِي مُعِينًا وَظَهِيرًا {فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} يَقُولُ: فَقُلْنَا لَهُمَا: اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِإِعْلَامِنَا وَأَدِلَّتِنَا، فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا. وَفِي الْكَلَامِ مَتْرُوكٌ اسْتُغْنِيَ بِدَلَالَةِ مَا ذَكَرَ مِنْ ذِكْرِهِ وَهُوَ: فَذَهَبَا فَكَذَّبُوهُمَا فَدَمَّرْنَاهُمْ حِينَئِذٍ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا رُسُلَنَا، وَرَدُّوا عَلَيْهِمْ مَا جَاءُوهُمْ بِهِ مِنَ الْحَقِّ، أَغْرَقْنَاهُمْ بِالطُّوفَانِ {وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً} يَقُولُ: وَجَعْلُنَا تَغْرِيقَنَا إِيَّاهُمْ وَإِهْلَاكَنَا عِظَةً وَعِبْرَةً لِلنَّاسِ يَعْتَبِرُونَ بِهَا {وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا} يَقُولُ: وَأَعْدَدْنَا لَهُمْ مِنَ الْكَافِرِينَ بِاللَّهِ فِي الْآخِرَةِ عَذَابًا أَلِيمًا، سِوَى الَّذِي حَلَّ بِهِمْ مِنْ عَاجَلِ الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَدَمَّرْنَا أَيْضًا عَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي أَصْحَابِ الرَّسِّ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَصْحَابُ الرَّسِّ مِنْ ثَمُودَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {وَأَصْحَابَ الرَّسِّ} قَالَ: قَرْيَةٌ مِنْ ثَمُودَ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هِيَ قَرْيَةٌ مِنَ الْيَمَامَةِ يُقَالُ لَهَا الْفَلْجُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: ثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، قَالَ: قَالَ قَتَادَةُ: الرَّسُّ: قَرْيَةٌ مِنَ الْيَمَامَةِ يُقَالُ لَهَا الْفَلْجُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيجٍ، قَالَ عِكْرِمَةُ: أَصْحَابُ الرَّسِّ بِفَلْجٍ هُمْ أَصْحَابُ يس. وَقَالَ آخَرُونَ: هُمْ قَوْمٌ رَسُّوا نَبِيَّهُمْ فِي بِئْرٍ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: كَانَ الرَّسُّ بِئْرًا رُسُّوا فِيهَا نَبِيَّهُمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ بِئْرٌ كَانَتْ تُسَمَّى الرَّسُّ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَأَصْحَابَ الرَّسِّ} قَالَ: هِيَ بِئْرٌ كَانَتْ تُسَمَّى الرَّسُّ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُمَارَةَ، قَالَ: ثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي يَحْيَى عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَأَصْحَابَ الرَّسِّ} قَالَ: الرَّسُّ بِئْرٌ كَانَ عَلَيْهَا قَوْمٌ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ، قَوْلُ مَنْ قَالَ: هُمْ قَوْمٌ كَانُوا عَلَى بِئْرٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّسَّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: كُلُّ مَحْفُورٍ مِثْلُ الْبِئْرِ وَالْقَبْرِ وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: سَبَقْتَ إِلِى فَرَطٍ بِاهِلٍ *** تَنَابِلَةٍ يَحِْفِرُونَ الرِّسَاسَا يُرِيدُ أَنَّهُمْ يَحْفِرُونَ الْمَعَادِنَ، وَلَا أَعْلَمُ قَوْمًا كَانَتْ لَهُمْ قِصَّةً بِسَبَبِ حُفْرَةٍ، ذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ إِلَّا أَصْحَابَ الْأُخْدُودِ، فَإِنْ يَكُونُوا هُمُ الْمَعْنِيِّينَ بِقَوْلِهِ: {وَأَصْحَابَ الرَّسِّ} فَإِنَّا سَنَذْكُرُ خَبَرَهُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ إِذَا انْتَهَيْنَا إِلَى سُورَةِ الْبُرُوجِ، وَإِنْ يَكُونُوا غَيْرَهُمْ فَلَا نَعْرِفُ لَهُمْ خَبَرًا، إِلَّا مَا جَاءَ مِنْ جُمْلَةِ الْخَبَرِ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَوْمٌ رَسُّوا نَبِيَّهُمْ فِي حُفْرَةٍ. إِلَّا مَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْعَبْدُ الْأَسْوَد» ". وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بَعَثَ نَبِيًّا إِلَى أَهْلِ قَرْيَةٍ فَلَمْ يُؤْمَنْ مِنْ أَهْلِهَا أَحَدٌ إِلَّا ذَلِكَ الْأَسْوَدَ، ثُمَّ إِنَّ أَهْلَ الْقَرْيَةِ عَدَوْا عَلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَحَفَرُوا لَهُ بِئْرًا فَأَلْقَوْهُ فِيهَا، ثُمَّ أَطْبَقُوا عَلَيْهِ بِحَجَرٍ ضَخْمٍ، قَالَ: وَكَانَ ذَلِكَ الْعَبْدُ يَذْهَبُ فَيَحْتَطِبُ عَلَى ظَهْرِهِ، ثُمَّ يَأْتِي بِحَطَبِهِ فَيَبِيعُهُ، فَيَشْتَرِي بِهِ طَعَامًا وَشَرَابًا، ثُمَّ يَأْتِي بِهِ إِلَى ذَلِكَ الْبِئْرِ، فَيَرْفَعُ تِلْكَ الصَّخْرَةَ، فَيُعِينُهُ اللَّهُ عَلَيْهَا، فَيُدْلِي إِلَيْهِ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ، ثُمَّ يُعِيدُهَا كَمَا كَانَتْ، قَالَ: فَكَانَ كَذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ. ثُمَّ إِنَّهُ ذَهَبَ يَوْمًا يَحْتَطِبُ، كَمَا كَانَ يَصْنَعُ، فَجَمَعَ حَطَبَهُ، وَحَزَمَ حُزْمَتَهُ وَفَرَغَ مِنْهَا؛ فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَحْتَمِلَهَا وَجَدَ سِنَةً، فَاضْطَجَعَ فَنَامَ، فَضَرَبَ اللَّهُ عَلَى أُذُنِهِ سَبْعَ سِنِينَ نَائِمًا. ثُمَّ إِنَّهُ هَبَّ فَتَمَطَّى، فَتَحَوَّلَ لِشَقِّةِ الْآخَرَ، فَاضْطَجَعَ، فَضَرَبَ اللَّهُ عَلَى أُذُنِهِ سَبْعَ سِنِينَ أُخْرَى. ثُمَّ إِنَّهُ هَبَّ فَاحْتَمَلَ حُزْمَتَهُ، وَلَا يَحْسَبُ إِلَّا أَنَّهُ نَامَ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، فَجَاءَ إِلَى الْقَرْيَةِ فَبَاعَ حُزْمَتَهُ، ثُمَّ اشْتَرَى طَعَامًا وَشَرَابًا كَمَا كَانَ يَصْنَعُ ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى الْحُفْرَةِ فِي مَوْضِعِهَا الَّتِي كَانَتْ فِيهِ فَالْتَمَسَهُ فَلَمْ يَجِدْهُ، وَقَدْ كَانَ بَدَا لِقَوْمِهِ فِيهِ بَدَاءً، فَاسْتَخْرَجُوهُ وَآمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ، قَالَ: فَكَانَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَسْأَلُهُمْ عَنْ ذَلِكَ الْأَسْوَدِ مَا فَعَلَ؟ فَيَقُولُونَ: مَا نَدْرِي، حَتَّى قَبَضَ اللَّهُ النَّبِيَّ، فَأَهَبَّ اللَّهُ الْأَسْوَدَ مِنْ نَوْمَتِهِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ ذَلِكَ الْأَسْوَدَ لَأَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ" غَيْرَ أَنَّ هَؤُلَاءِ فِي هَذَا الْخَبَرِ يَذْكُرُ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِنَبِيِّهِمْ وَاسْتَخْرَجُوهُ مِنْ حُفْرَتِهِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونُوا الْمَعْنِيِّينَ بِقَوْلِهِ: {وَأَصْحَابَ الرَّسِّ} لِأَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ عَنْ أَصْحَابِ الرَّسِّ أَنَّهُ دَمَّرَهُمْ تَدْمِيرًا، إِلَّا أَنْ يَكُونُوا دُمِّرُوا بِأَحْدَاثٍ أَحْدَثُوهَا بَعْدَ نَبِيِّهِمُ الَّذِي اسْتَخْرَجُوهُ مِنَ الْحُفْرَةِ وَآمَنُوا بِهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ وَجْهًا {وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا} يَقُولُ: وَدَمَّرْنَا بَيْنَ أَضْعَافِ هَذِهِ الْأُمَمِ الَّتِي سَمَّيْنَاهَا لَكُمْ أُمَمًا كَثِيرَةً. كَمَا حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ شَبِيبٍ، قَالَ: ثَنَا خَلَفُ بْنُ خَلِيفَةَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: خَلَفْتُ بِالْمَدِينَةِ عَمِّي مِمَّنْ يُفْتِي عَلَى أَنَّ الْقَرْنَ سَبْعُونَ سَنَةً، وَكَانَ عَمُّهُ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي رَافِعٍ كَاتِبَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، قَالَ: ثَنَا حَفْصُ بْنُ غَيَّاثٍ، عَنِ الْحَجَّاجِ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: الْقَرْنُ أَرْبَعُونَ سَنَةً. وَقَوْلُهُ: {وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَكُلُّ هَذِهِ الْأُمَمِ الَّتِي أَهْلَكْنَاهَا الَّتِي سَمَّيْنَاهَا لَكُمْ أَوْ لَمْ نُسَمِّهَا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ يَقُولُ: مَثَّلْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَنَبَّهْنَاهَا عَلَى حُجَجِنَا عَلَيْهَا، وَأَعْذَرْنَا إِلَيْهَا بِالْعِبَرِ وَالْمَوَاعِظِ، فَلَمْ نُهْلِكْ أُمَّةً إِلَّا بَعْدَ الْإِبْلَاغِ إِلَيْهِمْ فِي الْمَعْذِرَةِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: {وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ} قَالَ: كُلٌّ قَدْ أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَيْهِ، ثُمَّ انْتَقَمَ مِنْهُ. وَقَوْلُهُ: {وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَكُلُّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذَكَرْنَا لَكُمْ أَمْرَهُمُ اسْتَأْصَلْنَاهُمْ، فَدَمَّرْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ إِبَادَةً، وَأَهْلَكْنَاهُمْ جَمِيعًا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: {وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا} قَالَ: تَبَّرَ اللَّهُ كُلًّا بِعَذَابٍ تَتْبِيرً. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ: ثَنَا ابْنُ يَمَانٍ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ {وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا} قَالَ: تَتْبِيرٌ بِالنَّبَطِيَّةِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيجٍ، قَوْلُهُ: {وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا} قَالَ: بِالْعَذَابِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَقَدْ أَتَى هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أَمْطَرَهَا اللَّهُ مَطَرَ السُّوءِ وَهِيَ سَدُومُ، قَرْيَةُ قَوْمِ لُوطٍ. وَمَطَرُ السُّوءِ: هُوَ الْحِجَارَةُ الَّتِي أَمْطَرَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَأَهْلَكَهُمْ بِهَا. كَمَا: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ} قَالَ: حِجَارَةٌ، وَهِيَ قَرْيَةُ قَوْمِ لُوطٍ، وَاسْمُهَا سَدُومُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خَمْسُ قَرْيَاتٍ، فَأَهْلَكَ اللَّهُ أَرْبَعَةً، وَبَقِيَتِ الْخَامِسَةُ، وَاسْمُهَا صَعْوَةُ. لَمْ تَهْلَكْ صَعْوَةُ، كَانَ أَهْلُهَا لَا يَعْمَلُونَ ذَلِكَ الْعَمَلَ، وَكَانَتْ سَدُومُ أَعْظَمُهَا، وَهِيَ الَّتِي نَزَلَ بِهَا لُوطٌ، وَمِنْهَا بُعِثَ، وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنَادِي نَصِيحَةً لَهُمْ: يَا سَدُومُ، يَوْمٌ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ، أَنْهَاكُمْ أَنْ تَعَرَّضُوا لِعُقُوبَةِ اللَّهِ، زَعَمُوا أَنَّ لُوطًا ابْنَ أَخِي إِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَ. وَقَوْلُهُ: {أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا} يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: أَوَلَمْ يَكُنْ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ قَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ يَرَوْنَ تِلْكَ الْقَرْيَةَ، وَمَا نَزَلَ بِهَا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ بِتَكْذِيبِ أَهْلِهَا رُسُلَهُمْ، فَيَعْتَبِرُوا وَيَتَذَكَّرُوا، فَيُرَاجِعُوا التَّوْبَةَ مِنْ كُفْرِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: مَا كَذَّبُوا مُحَمَّدًا فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا رَأَوْا مَا حَلَّ بِالْقَرْيَةِ الَّتِي وَصَفْتُ، وَلَكِنَّهُمْ كَذَّبُوهُ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَخَافُونَ نُشُورًا بَعْدَ الْمَمَاتِ، يَعْنِي أَنَّهُمْ لَا يُوقِنُونَ بِالْعِقَابِ وَالثَّوَابِ، وَلَا يُؤْمِنُونَ بِقِيَامِ السَّاعَةِ، فَيَرْدَعُهُمْ ذَلِكَ عَمَّا يَأْتُونَ مِنْ مَعَاصِي اللَّهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ {أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا} بَعْثًا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَإِذَا رَآكَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ قَصَصْتُ عَلَيْكَ قِصَصَهُمْ {إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا} يَقُولُ: مَا يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا سُخْرِيَةً يَسْخَرُونَ مِنْكَ، يَقُولُونَ: {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ} إِلَيْنَا (رَسُولًا) مِنْ بَيْنِ خَلْقِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُخْبِرًا عَنْ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَهْزَءُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّهُمْ يَقُولُونَ إِذَا رَأَوْهُ: قَدْ كَادَ هَذَا يُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا الَّتِي نَعْبُدُهَا، فَيَصُدُّنَا عَنْ عِبَادَتِهَا لَوْلَا صَبْرُنَا عَلَيْهَا، وَثُبُوتُنَا عَلَى عِبَادَتِهَا {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ} يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: سَيَبِينُ لَهُمْ حِينَ يُعَايِنُونَ عَذَابَ اللَّهِ قَدْ حَلَّ بِهِمْ عَلَى عِبَادَتِهِمُ الْآلِهَةَ {مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا} يَقُولُ: مِنَ الرَّاكِبِ غَيْرَ طَرِيقِ الْهُدَى، وَالسَّالِكِ سَبِيلَ الرَّدَى أَنْتَ أَوْهَمُ. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا} قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا} قَالَ: ثَبَتْنَا عَلَيْهَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا}. يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ: (أَرَأَيْتَ) يَا مُحَمَّدُ {مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ} شَهْوَتَهُ الَّتِي يَهْوَاهَا وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ كَانَ يَعْبُدُ الْحَجَرَ، فَإِذَا رَأَى أَحْسَنَ مِنْهُ رَمَى بِهِ، وَأَخْذَ الْآخَرَ يَعْبُدُهُ، فَكَانَ مَعْبُودَهُ وَإِلَهَهُ مَا يَتَخَيَّرُهُ لِنَفْسِهِ، فَلِذَلِكَ قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أَفَأَنْتَ تَكُونُ يَا مُحَمَّدُ عَلَى هَذَا حَفِيظًا فِي أَفْعَالِهِ مَعَ عَظِيمِ جَهْلِهِ؟ (أَمْ تَحْسَبُ) يَا مُحَمَّدُ أَنَّ أَكْثَرَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ (يَسْمَعُونَ) مَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ، فَيَعُونَ (أَوْ يَعْقِلُونَ) مَا يُعَايِنُونَ مِنْ حُجَجِ اللَّهِ، فَيَفْهَمُونَ {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ} يَقُولُ: مَا هُمْ إِلَّا كَالْبَهَائِمِ الَّتِي لَا تَعْقِلُ مَا يُقَالُ لَهَا، وَلَا تَفْقَهُ، بَلْ هُمْ مِنَ الْبَهَائِمِ أَضَلُّ سَبِيلًا لِأَنَّ الْبَهَائِمَ تَهْتَدِي لِمَرَاعِيهَا، وَتَنْقَادُ لِأَرْبَابِهَا، وَهَؤُلَاءِ الْكَفَرَةُ لَا يُطِيعُونَ رَبَّهُمْ، وَلَا يَشْكُرُونَ نِعْمَةَ مَنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ، بَلْ يَكْفُرُونَهَا، وَيَعْصُونَ مَنْ خَلَقَهُمْ وَبَرَأَهُمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: (أَلَمْ تَرَ) يَا مُحَمَّدُ {كَيْفَ مَدَّ} رَبُّكَ (الظِّلَّ) وَهُوَ مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} يَقُولُ: مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} قَالَ: مَدَّهُ مَا بَيْنَ صَلَاةِ الصُّبْحِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا يَعْقُوبُ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، فِي قَوْلِهِ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا} قَالَ: الظِّلُّ: مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَزِيعٍ، قَالَ: ثَنَا أَبُو مِحْصَنٍ، عَنْ حَصِينٍ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، قَالَ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} قَالَ: مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: {كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} قَالَ. ظَلَّ الْغَدَاةَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: الظِّلُّ: ظَلُّ الْغَدَاةَ. قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَوْلُهُ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} قَالَ: مَدَّهُ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} يَعْنِي: مِنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ. قَوْلُهُ: {وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا} يَقُولُ: وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ دَائِمًا لَا يَزُولُ، مَمْدُودًا لَا تُذْهِبُهُ الشَّمْسُ، وَلَا تُنْقِصُهُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا} يَقُولُ: دَائِمًا. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ، ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: {وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا} قَالَ: لَا تُصِيبُهُ الشَّمْسُ وَلَا يَزُولُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ. قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا} قَالَ: لَا يَزُولُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا} قَالَ: دَائِمًا لَا يَزُولُ. وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا} يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ثُمَّ دَلَلْنَاكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ بِنَسْخِ الشَّمْسِ إِيَّاهُ عِنْدَ طُلُوعِهَا عَلَيْهِ، أَنَّهُ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ رَبِّكُمْ، يُوجِدُهُ إِذَا شَاءَ، وَيُفْنِيهِ إِذَا أَرَادَ؛ وَالْهَاءُ فِي قَوْلِهِ: "عَلَيْهِ" مِنْ ذِكْرِ الظِّلِّ. وَمَعْنَاهُ: ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَى الظِّلِّ دَلِيلًا. قِيلَ: مَعْنَى دَلَالَتِهَا عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ تَكُنِ الشَّمْسُ الَّتِي تَنْسَخُهُ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ شَيْءٌ، إِذَا كَانَتِ الْأَشْيَاءُ إِنَّمَا تُعْرَفُ بِأَضْدَادِهَا، نَظِيرُ الْحُلْوِ الَّذِي إِنَّمَا يُعْرَفُ بِالْحَامِضِ وَالْبَارِدِ بِالْحَارِّ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا} يَقُولُ: طُلُوعُ الشَّمْسِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا} قَالَ: تَحْوِيهِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلُهُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا} قَالَ: أَخْرَجَتْ ذَلِكَ الظِّلَّ فَذَهَبَتْ بِهِ وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ثُمَّ قَبَضْنَا ذَلِكَ الدَّلِيلَ مِنَ الشَّمْسِ عَلَى الظِّلِّ إِلَيْنَا قَبْضًا خَفِيًّا سَرِيعًا بِالْفَيْءِ الَّذِي نَأْتِي بِهِ بِالْعَشِيِّ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} قَالَ: حَوَى الشَّمْسُ الظِّلَّ. وَقِيلَ: إِنَّ الْهَاءَ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا} عَائِدَةٌ عَلَى الظِّلِّ، وَإِنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: ثُمَّ قَبَضْنَا الظِّلَّ إِلَيْنَا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَذَلِكَ أَنَّ الشَّمْسَ إِذَا غَرَبَتْ غَابَ الظِّلُّ الْمَمْدُودُ، قَالُوا: وَذَلِكَ وَقْتُ قَبْضِهِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: (يَسِيرًا) فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: سَرِيعًا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} يَقُولُ: سَرِيعًا. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَاهُ: قَبْضًا خَفِيًّا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رَفِيعٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} قَالَ: خَفِيًّا. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيجٍ {قَبْضًا يَسِيرًا} قَالَ: خَفِيًّا، قَالَ: إِنَّ مَا بَيْنَ الشَّمْسِ وَالظِّلِّ مِثْلُ الْخَيْطِ، وَالْيَسِيرُ الْفَعِيلُ مِنَ الْيُسْرِ، وَهُوَ السَّهْلُ الْهَيِّنُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. فَمَعْنَى الْكَلَامِ إِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، يَتَوَجَّهُ لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ؛ لِأَنَّ سُهُولَةَ قَبْضِ ذَلِكَ قَدْ تَكُونُ بِسُرْعَةٍ وَخَفَاءٍ. وَقِيلَ: إِنَّمَا قِيلَ {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} لِأَنَّ الظِّلَّ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ لَا يَذْهَبُ كُلُّهُ دُفْعَةً، وَلَا يُقْبِلُ الظَّلَامَ كُلَّهُ جُمْلَةً، وَإِنَّمَا يُقْبَضُ ذَلِكَ الظِّلُّ قَبْضًا خَفِيًّا، شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ وَيَعْقُبُ كُلَّ جُزْءٍ مِنْهُ يَقْبِضُهُ جُزْءٌ مِنَ الظَّلَامِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: الَّذِي مَدَّ الظِّلَّ ثُمَّ جَعَلَ الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ اللَّيْلَ لِبَاسًا. وَإِنَّمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ {جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا} لِأَنَّهُ جَعَلَهُ لِخَلْقِهِ جُنَّةً يَجْتَنُونَ فِيهَا وَيَسْكُنُونَ، فَصَارَ لَهُمْ سِتْرًا يَسْتَتِرُونَ بِهِ، كَمَا يَسْتَتِرُونَ بِالثِّيَابِ الَّتِي يُكْسَوُنَّهَا. وَقَوْلُهُ: {وَالنَّوْمَ سُبَاتًا} يَقُولُ: وَجَعَلَ لَكُمُ النَّوْمَ رَاحَةً تَسْتَرِيحُ بِهِ أَبْدَانُكُمْ، وَتَهْدَأُ بِهِ جَوَارِحُكُمْ. وَقَوْلُهُ: {وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَجَعَلَ النَّهَارَ يَقَظَةً وَحَيَاةً مِنْ قَوْلِهِمْ: نُشِرَ الْمَيِّتُ، كَمَا قَالَ الْأَعْشَى: حَتَّى يقُِولَ النَّاسُ مِمَّا رَأَوْا *** يِا عَجَبَا لِلْمَيِّتِ النَّاشِرِ وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ: {وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا}. وَكَانَ مُجَاهِدٌ يَقُولُ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ مَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: {وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} قَالَ: يَنْشُرُ فِيهِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلُهُ. وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا الْقَوْلَ الَّذِي اخْتَرْنَا فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، أَنَّهُ عَقِيبَ قَوْلِهِ: {وَالنَّوْمَ سُبَاتًا} فِي اللَّيْلِ. فَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَوَصْفُ النَّهَارِ بِأَنَّ فِيهِ الْيَقَظَةَ وَالنُّشُورَ مِنَ النَّوْمِ أَشْبَهُ إِذْ كَانَ النَّوْمُ أَخَا الْمَوْتِ. وَالَّذِي قَالَهُ مُجَاهِدٌ غَيْرُ بَعِيدٍ مِنَ الصَّوَابِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّهُ جَعَلَ النَّهَارَ مَعَاشًا، وَفِيهِ الِانْتِشَارُ لِلْمَعَاشِ، وَلَكِنَّ النُّشُورَ مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: نَشَرَ، فَهُوَ بِالنَّشْرِ مِنَ الْمَوْتِ وَالنَّوْمِ أَشْبَهُ، كَمَا صَحَّتِ الرِّوَايَةُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ «كَانَ يَقُولُ إِذَا أَصْبَحَ وَقَامَ مِنْ نَوْمِهِ: " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَمَا أَمَاتَنَا، وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ".»
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ الْمُلَقَّحَةَ (بُشْرًا): حَيَاةٌ أَوْ مِنَ الْحَيَا وَالْغَيْثُ الَّذِي هُوَ مُنْزِلَهُ عَلَى عِبَادِهِ {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} يَقُولُ: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّحَابِ الَّذِي أَنْشَأْنَاهُ بِالرِّيَاحِ مِنْ فَوْقِكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ مَاءً طَهُورًا. {لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا} يَعْنِي أَرْضًا قَحِطَةً عَذِيَةً لَا تُنْبِتُ. وَقَالَ: (بَلْدَةً مَيْتًا) وَلَمْ يَقُلْ مَيِّتَةً، لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِذَلِكَ لِنُحْيِيَ بِهِ مَوْضِعًا وَمَكَانًا مَيِّتًا (وَنُسْقِيَهُ) مِنْ خَلْقِنَا (أَنْعَامًا) مِنَ الْبَهَائِمِ {وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا} يَعْنِي الْأَنَاسِيَّ: جَمَعُ إِنْسَانٍ وَجَمْعُ أَنَاسِيِّ، فَجَعَلَ الْيَاءَ عِوَضًا مِنَ النُّونِ الَّتِي فِي إِنْسَانٍ، وَقَدْ يُجْمَعُ إِنْسَانٌ: إِنَاسِينَ، كَمَا يُجْمَعُ النَشْيانُ نَشَايِينُ. فَإِنْ قِيلَ: أَنَاسِيُّ جَمْعٌ وَاحِدُهُ إِنْسِيٌّ، فَهُوَ مَذْهَبٌ أَيْضًا مَحْكِيٌّ، وَقَدْ يُجْمَعُ أَنَاسِيُّ مُخَفَّفَةُ الْيَاءِ، وَكَأَنَّ مَنْ جَمَعَ ذَلِكَ كَذَلِكَ أَسْقَطَ الْيَاءَ الَّتِي بَيْنَ عَيْنِ الْفِعْلِ وَلَامِهِ، كَمَا يُجْمَعُ الْقُرْقُورُ: قَرَاقِيرُ وَقَرَاقِرُ. وَمِمَّا يُصَحِّحُ جَمْعَهُمْ إِيَّاهُ بِالتَّخْفِيفِ، قَوْلُ الْعَرَبِ: أَنَاسِيَةُ كَثِيرَةٌ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لَيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَقَدْ قَسَّمْنَا هَذَا الْمَاءَ الَّذِي أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ طَهُورًا لِنُحْيِيَ بِهِ الْمَيِّتَ مِنَ الْأَرْضِ بَيْنَ عِبَادِي، لَيَتَذَكَّرُوا نِعَمِي عَلَيْهِمْ، وَيَشْكُرُوا أَيَادِيَّ عِنْدَهُمْ وَإِحْسَانِي إِلَيْهِمْ {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} يَقُولُ: إِلَّا جُحُودًا لِنِعَمِي عَلَيْهِمْ، وأَيَادِيَّ عَلَيْهِمْ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ بْنَ مُسْلِمٍ يُحَدِّثُ طَاوُسًا، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا عَامٌ بِأَكْثَرَ مَطَرًا مِنْ عَامٍ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يُصَرِّفُهُ بَيْنَ خَلْقِهِ؛ قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ}. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا عَامٌ بِأَكْثَرَ مَطَرًا مِنْ عَامٍ، وَلَكِنَّهُ يَصْرِفُهُ فِي الْأَرْضِينَ، ثُمَّ تَلَا {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لَيَذَّكَّرُوا}. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ} قَالَ: الْمَطَرُ يُنِْزِلُهُ فِي الْأَرْضِ، وَلَا يُنِْزِلُهُ فِي الْأَرْضِ الْأُخْرَى، قَالَ: فَقَالَ عِكْرِمَةُ: صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لَيَذَّكِرُوا. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لَيَذَّكَّرُوا} قَالَ: الْمَطَرُ مَرَّةً هَاهُنَا، وَمَرَّةً هَاهُنَ. حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ الرَّبِيعِ الرَّازِيُّ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا جُحَيْفَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: لَيْسَ عَامٌ بِأَمْطَرَ مِنْ عَامٍ، وَلَكِنَّهُ يُصَرِّفُهُ، ثُمَّ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ}. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} فَإِنَّ الْقَاسِمَ حَدَّثَنَا قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ: {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} قَالَ: قَوْلُهُمْ فِي الْأَنْوَاءِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَوْ شِئْنَا يَا مُحَمَّدُ لَأَرْسَلْنَا فِي كُلِّ مِصْرٍ وَمَدِينَةٍ نَذِيرًا يُنْذِرُهُمْ بَأْسَنَا عَلَى كُفْرِهِمْ بِنَا، فَيَخِفُّ عَنْكَ كَثِيرٌ مِنْ أَعْبَاءِ مَا حَمَّلْنَاكَ مِنْهُ، وَيَسْقُطُ عَنْكَ بِذَلِكَ مُؤْنَةٌ عَظِيمَةٌ، وَلَكِنَّا حَمَّلْنَاكَ ثِقَلَ نِذَارَةِ جَمِيعِ الْقُرَى، لِتَسْتَوْجِبَ بِصَبْرِكَ عَلَيْهِ إِنْ صَبَرْتَ مَا أَعَدَّ اللَّهُ لَكَ مِنَ الْكَرَامَةِ عِنْدَهُ، وَالْمَنَازِلِ الرَّفِيعَةِ قِبَلَهُ، فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ فِيمَا يَدْعُونَكَ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ تَعْبُدُ آلِهَتَهُمْ، فَنُذِيقُكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ، وَلَكِنْ جَاهِدْهُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ جِهَادًا كَبِيرًا، حَتَّى يَنْقَادُوا لِلْإِقْرَارِ بِمَا فِيهِ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ، وَيَدِينُوا بِهِ وَيُذْعِنُوا لِلْعَمَلِ بِجَمِيعِهِ طَوْعًا وَكَرْهًا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي قَوْلِهِ: {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ} قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ {فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ} قَالَ: بِالْقُرْآنِ. وَقَالَ آخَرُونَ فِي ذَلِكَ بِمَا حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} قَالَ: الْإِسْلَامُ. وَقَرَأَ {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} وَقَرَأَ {وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} وَقَالَ: هَذَا الْجِهَادُ الْكَبِيرُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَاللَّهُ الَّذِي خَلَطَ الْبَحْرَيْنِ، فَأَمْرَجَ أَحَدَهُمَا فِي الْآخَرِ، وَأَفَاضَهُ فِيهِ. وَأَصْلُ الْمَرَجِ الْخَلْطُ، ثُمَّ يُقَالُ لِلتَّخْلِيَةِ مَرَجٌ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ إِذَا خَلَّى الشَّيْءَ حَتَّى اخْتَلَطَ بِغَيْرِهِ، فَكَأَنَّهُ قَدْ مَرَجَهُ، وَمِنْهُ الْخَبَرُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَوْلُهُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: " «كَيْفَ بِكَ يَا عَبْدَ اللَّهِ إِذَا كُنْتَ فِي حُثَالَةٍ مِنَ النَّاسِ، قَدْ مَرَجْتَ عُهُودَهُمْ وَأَمَانَاتِهُمْ، وَصَارُوا هَكَذَا وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِه». يَعْنِي بِقَوْلِهِ: قَدْ مَرَجْتَ: اخْتَلَطْتَ، وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ: {فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} أَيْ مُخْتَلَطٍ. وَإِنَّمَا قِيلَ لِلْمَرَجِ مَرَجٌ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ يَكُونُ فِيهِ أَخْلَاطٌ مِنَ الدَّوَابِّ، وَيُقَالُ: مَرَجْتَ دَابَّتَكَ: أَيُّ خَلَّيْتَهَا تَذْهَبُ حَيْثُ شَاءَتْ. وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ: رَعَى بِهَا مَرَجَ رَبِيعٍ مَمْرَجٍ وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} يَعْنِي أَنَّهُ خَلَعَ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} أَفَاضَ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلُهُ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} يَقُولُ: خَلَعَ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنَا أَبُو تُمَيْلَةَ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ (مَرَجَ) أَفَاضَ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ. وَقَوْلُهُ {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ} الْفُرَاتُ: شَدِيدُ الْعُذُوبَةِ، يُقَالُ: هَذَا مَاءٌ فُرَاتٌ: أَيْ شَدِيدُ الْعُذُوبَةِ وَقَوْلُهُ {وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} يَقُولُ: وَهَذَا مُلِحٌ مَرٌّ، يَعْنِي بِالْعَذْبِ الْفُرَاتِ: مِيَاهُ الْأَنْهَارِ وَالْأَمْطَارِ، وَبِالْمِلْحِ الْأُجَاجِ: مِيَاهُ الْبِحَارِ. وَإِنَّمَا عَنَى بِذَلِكَ أَنَّهُ مِنْ نِعْمَتِهِ عَلَى خَلْقِهِ، وَعَظِيمِ سُلْطَانِهِ، يَخْلِطُ مَاءَ الْبَحْرِ الْعَذْبِ بِمَاءِ الْبَحْرِ الْمِلْحِ الْأُجَاجِ، ثُمَّ يَمْنَعُ الْمِلْحَ مِنْ تَغْيِيرِ الْعَذْبِ عَنْ عُذُوبَتِهِ، وَإِفْسَادِهِ إِيَّاهُ بِقَضَائِهِ وَقُدْرَتِهِ، لِئَلَّا يَضُرَّ إِفْسَادُهُ إِيَّاهُ بِرُكْبَانِ الْمِلْحِ مِنْهُمَا، فَلَا يَجِدُوا مَاءً يَشْرَبُونَهُ عِنْدَ حَاجَتِهِمْ إِلَى الْمَاءِ، فَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا} يَعْنِي حَاجِزًا يَمْنَعُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ إِفْسَادِ الْآخَرِ {وَحِجْرًا مَحْجُورًا} يَقُولُ: وَجَعَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَرَامًا مُحَرَّمًا عَلَى صَاحِبِهِ أَنْ يُغَيِّرَهُ وَيُفْسِدَهُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} يَعْنِي أَنَّهُ خَلَعَ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ، فَلَيْسَ يُفْسِدُ الْعَذْبُ الْمَالِحَ، وَلَيْسَ يُفْسِدُ الْمَالِحُ الْعَذْبَ، وَقَوْلُهُ: {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا} قَالَ: الْبَرْزَخُ: الْأَرْضُ بَيْنَهُمَا {وَحِجْرًا مَحْجُورًا} يَعْنِي: حَجَرَ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِأَمْرِهِ وَقَضَائِهِ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ {وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا}. وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا} قَالَ: مَحْبِسًا، قَوْلُهُ: {وَحِجْرًا مَحْجُورًا} قَالَ: لَا يَخْتَلِطُ الْبَحْرُ بِالْعَذْبِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا} قَالَ: حَاجِزًا لَا يَرَاهُ أَحَدٌ، لَا يَخْتَلِطُ الْعَذْبُ فِي الْبَحْرِ. قَالَ ابْنُ جُرَيجٍ: فَلَمْ أَجِدْ بَحْرًا عَذْبًا إِلَّا الْأَنْهَارَ الْعِذَابَ، فَإِنَّ دِجْلَةَ تَقَعُ فِي الْبَحْرِ، فَأَخْبَرَنِي الْخَبِيرُ بِهَا أَنَّهَا تَقَعُ فِي الْبَحْرِ، فَلَا تَمُورُ فِيهِ بَيْنَهُمَا مِثْلُ الْخَيْطِ الْأَبْيَضِ، فَإِذَا رَجَعَتْ لَمْ تَرْجِعْ فِي طَرِيقِهَا مِنَ الْبَحْرِ، وَالنِّيلَ يَصُبُّ فِي الْبَحْرِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي أَبُو تُمَيْلَةَ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا} قَالَ: الْبَرْزَخُ أَنَّهُمَا يَلْتَقِيَانِ فَلَا يَخْتَلِطَانِ، وَقَوْلُهُ {حِجْرًا مَحْجُورًا}: أَيْ لَا تَخْتَلِطُ مُلُوحَةُ هَذَا بِعُذُوبَةِ هَذَا، لَا يَبْغِي أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ رَجَاءٍ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا} قَالَ: هَذَا الْيُبْسُ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا} قَالَ: جَعَلَ هَذَا مِلْحًا أُجَاجًا، قَالَ: وَالْأُجَاجُ: الْمَرُّ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} يَقُولُ: خَلَعَ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ، فَلَا يُغَيِّرُ أَحَدُهُمَا طَعْمَ الْآخَرِ {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا} هُوَ الْأَجَلُ مَا بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ {وَحِجْرًا مَحْجُورًا} جَعَلَ اللَّهُ بَيْنَ الْبَحْرِينِ حِجْرًا، يَقُولُ: حَاجِزًا حَجَزَ أَحَدَهُمَا عَنِ الْآخَرِ بِأَمْرِهِ وَقَضَائِهِ.
حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا} وَجَعَلَ بَيْنِهِمَا سِتْرًا لَا يَلْتَقِيَانِ. قَالَ: وَالْعَرَبُ إِذَا كَلَّمَ أَحَدُهُمُ الْآخَرَ بِمَا يَكْرَهُ قَالَ حِجْرًا، قَالَ: سِتْرًا دُونَ الَّذِي تَقُولُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا الْقَوْلَ الَّذِي اخْتَرْنَاهُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا} دُونَ الْقَوْلِ الَّذِي قَالَهُ مَنْ قَالَ مَعْنَاهُ: إِنَّهُ جَعَلَ بَيْنَهُمَا حَاجِزًا مِنَ الْأَرْضِ أَوْ مِنَ الْيُبْسِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَخْبَرَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ أَنَّهُ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ، وَالْمَرْجُ: هُوَ الْخَلْطُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ عَلَى مَا بَيَّنْتُ قَبْلُ، فَلَوْ كَانَ الْبَرْزَخُ الَّذِي بَيْنَ الْعَذْبِ الْفُرَاتِ مِنَ الْبَحْرِينِ، وَالْمِلْحِ الْأُجَاجِ أَرْضًا أَوْ يَبَسًا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَرَجَ لِلْبَحْرَيْنِ، وَقَدْ أَخْبَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهُ مَرَجَهُمَا، وَإِنَّمَا عَرَّفَنَا قُدْرَتَهُ بِحَجْزِهِ هَذَا الْمِلْحَ الْأُجَاجَ عَنْ إِفْسَادِ هَذَا الْعَذْبِ الْفُرَاتِ، مَعَ اخْتِلَاطِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِصَاحِبِهِ. فَأَمَّا إِذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي حَيِّزٍ عَنْ حَيِّزِ صَاحِبِهِ، فَلَيْسَ هُنَاكَ مَرَجٌ، وَلَا هُنَاكَ مِنَ الْأُعْجُوبَةِ مَا يُنَبِّهُ عَلَيْهِ أَهْلَ الْجَهْلِ بِهِ مِنَ النَّاسِ، وَيُذَكَّرُونَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ مَا ابْتَدَعَهُ رَبُّنَا عَجِيبًا، وَفِيهِ أَعْظَمُ الْعِبَرِ وَالْمَوَاعِظِ وَالْحُجَجِ الْبَوالِغِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَاللَّهُ الَّذِي خَلَقَ مِنَ النُّطَفِ بَشَرًا إِنْسَانًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا، وَذَلِكَ سَبْعَةٌ، وَصِهْرًا، وَهُوَ خَمْسَةٌ. كَمَا حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} النِّسَبُ: سَبْعٌ، قَوْلُهُ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ}... إِلَى قَوْلِهِ {وَبَنَاتُ الْأُخْتِ} وَالصِّهْرُ خَمْسٌ، قَوْلُهُ: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ}... إِلَى قَوْلِهِ {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ}. وَقَوْلُهُ: {وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} يَقُولُ: وَرَبُّكَ يَا مُحَمَّدُ ذُو قُدْرَةٍ عَلَى خَلْقٍ مَا يَشَاءُ مِنَ الْخَلْقِ، وَتَصْرِيفِهِمْ فِيمَا شَاءَ وَأَرَادَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَيَعْبُدُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ بِاللَّهِ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا تَنْفَعُهُمْ، فَتَجْلِبُ إِلَيْهِمْ نَفْعًا إِذَا هُمْ عَبَدُوهَا، وَلَا تَضُرُّهُمْ إِنْ تَرَكُوا عِبَادَتَهَا، وَيَتْرُكُونَ عِبَادَةَ مَنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ هَذِهِ النِّعَمَ الَّتِي لَا كَفَاءَ لِأَدْنَاهَا، وَهِيَ مَا عَدَّدَ عَلَيْنَا جَلَّ جَلَالُهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ قَوْلِهِ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} إِلَى قَوْلِهِ: (قَدِيرًا)، وَمِنْ قُدْرَتِهِ الْقُدْرَةُ الَّتِي لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ مَعَهَا شَيْءٌ أَرَادَهُ، وَلَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ فِعْلُ شَيْءٍ أَرَادَ فِعْلَهُ، وَمَنْ إِذَا أَرَادَ عِقَابَ بَعْضِ مِنْ عَصَاهُ مِنْ عِبَادِهِ أَحَلَّ بِهِ مَا أَحَلَّ بِالَّذِينِ وَصَفَ صِفَتَهُمْ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَأَصْحَابِ الرَّسِّ، وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا، فَلَمْ يَكُنْ لِمَنْ غَضَبُ عَلَيْهِ مِنْهُ نَاصِرٌ، وَلَا لَهُ عَنْهُ دَافِعٌ {وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَكَانَ الْكَافِرُ مُعِينًا لِلشَّيْطَانِ عَلَى رَبِّهِ، مُظَاهِرًا لَهُ عَلَى مَعْصِيَتِهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا حَكَّامٌ، عَنْ عَنْبَسَةَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا} قَالَ: يُظَاهِرُ الشَّيْطَانَ عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ بِعَيْنِهِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: {عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا} قَالَ: مُعِينًا. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلُهُ. قَالَ ابْنُ جُرَيجٍ: أَبُو جَهْلٍ مُعِينًا ظَاهَرَ الشَّيْطَانَ عَلَى رَبِّهِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: {وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا} قَالَ: عَوْنًا لِلشَّيْطَانِ عَلَى رَبِّهِ عَلَى الْمَعَاصِي. حَدَّثَنِي يُونُسُ. قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا} قَالَ: عَلَى رَبِّهِ عَوِينًا. وَالظَّهِيرُ: الْعَوِينُ. وَقَرَأَ قَوْلَ اللَّهِ: {فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ} قَالَ: لَا تَكُونُنَّ لَهُمْ عَوِينًا. وَقَرَأَ أَيْضًا قَوْلَ اللَّهِ: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ} قَالَ: ظَاهَرُوهُمْ: أَعَانُوهُمْ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا} يَعْنِي: أَبَا الْحَكَمِ الَّذِي سَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ. وَقَدْ كَانَ بَعْضُهُمْ يُوَجِّهُ مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا} أَيْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ هَيِّنًا، مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: ظَهَرْتُ بِهِ، فَلَمْ أَلْتَفِتْ إِلَيْهِ، إِذَا جَعَلَهُ خَلْفَ ظَهْرِهِ فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ، وَكَأَنَّ الظَّهِيرَ كَانَ عِنْدَهُ فَعِيلْ صَرَفَ مِنْ مَفْعُولٍ إِلَيْهِ مِنْ مَظْهُورٍ بِهِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَكَانَ الْكَافِرُ مَظْهُورًا بِهِ. وَالْقَوْلُ الَّذِي قُلْنَاهُ هُوَ وَجْهُ الْكَلَامِ، وَالْمَعْنَى الصَّحِيحُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَخْبَرَ عَنْ عِبَادَةِ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ مِنْ دُونِهِ، فَأُولَى الْكَلَامِ أَنْ يَتْبَعَ ذَلِكَ ذَمَّهُ إِيَّاهُمْ، وَذَمَّ فِعْلَهُمْ دُونَ الْخَبَرِ عَنْ هَوَانِهِمْ عَلَى رَبِّهِمْ، وَلَمْ يَجْرِ لِاسْتِكْبَارِهِمْ عَلَيْهِ ذَكْرٌ، فَيُتْبَعُ بِالْخَبَرِ عَنْ هَوَانِهِمْ عَلَيْهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ) يَا مُحَمَّدُ إِلَى مَنْ أَرْسَلْنَاكَ إِلَيْهِ (إِلَّا مُبَشِّرًا) بِالثَّوَابِ الْجَزِيلِ، مَنْ آمَنَ بِكَ وَصَدَّقَكَ، وَآمَنَ بِالَّذِي جِئْتَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِي، وَعَمِلُوا بِهِ (وَنَذِيرًا) مَنْ كَذَّبَكَ وَكَذَّبَ مَا جِئْتَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِي، فَلَمْ يُصَدِّقُوا بِهِ، وَلَمْ يَعْمَلُوا {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} يَقُولُ لَهُ: قُلْ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَرْسَلْتُكَ إِلَيْهِمْ، مَا أَسْأَلُكُمْ يَا قَوْمِ عَلَى مَا جِئْتُكُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّي أَجْرًا، فَتَقُولُونَ: إِنَّمَا يَطْلُبُ مُحَمَّدٌ أَمْوَالَنَا بِمَا يَدْعُونَا إِلَيْهِ، فَلَا نَتْبَعُهُ فِيهِ، وَلَا نُعْطِيهِ مِنْ أَمْوَالِنَا شَيْئًا، {إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} يَقُولُ: لَكِنَّ مَنْ شَاءَ مِنْكُمُ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا طَرِيقًا بِإِنْفَاقِهِ مِنْ مَالِهِ فِي سَبِيلِهِ، وَفِيمَا يُقَرِّبُهُ إِلَيْهِ مِنَ الصَّدَقَةِ وَالنَّفَقَةِ فِي جِهَادِ عَدُوِّهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ سُبُلِ الْخَيْرِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَتَوَكَّلْ يَا مُحَمَّدُ عَلَى الَّذِي لَهُ الْحَيَاةُ الدَّائِمَةُ الَّتِي لَا مَوْتَ مَعَهَا، فَثِقْ بِهِ فِي أَمْرِ رَبِّكَ وَفَوَّضَ إِلَيْهِ، وَاسْتَسْلِمْ لَهُ، وَاصْبِرْ عَلَى مَا نَابَكَ فِيهِ. قَوْلُهُ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} يَقُولُ: وَاعْبُدْهُ شُكْرًا مِنْكَ لَهُ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكَ. قَوْلُهُ: {وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} يَقُولُ: وَحَسْبُكَ بِالْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ خَابِرًا بِذُنُوبِ خَلْقِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهَا، وَهُوَ مُحْصٍ جَمِيعَهَا عَلَيْهِمْ حَتَّى يُجَازِيَهُمْ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} فَقَالَ: (وَمَا بَيْنَهُمَا) وَقَدْ ذَكَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَالسَّمَاوَاتُ جِمَاعٌ، لِأَنَّهُ وَجَّهَ ذَلِكَ إِلَى الصِّنْفَيْنِ وَالشَّيْئَيْنِ، كَمَا قَالَ الْقَطَامِيُّ: أَلَمْ يَحْزُنْكَ أَنَّ حِبِالَ قَيْسٍ *** وتَغْلَبَ قَدْ تَبَايَنَتَا انْقِطَاعِا يُرِيدُ: وَحِبَالُ تَغْلَبَ فَثَنَّى، وَالْحِبَالُ جَمْعٌ، لِأَنَّهُ أَرَادَ الشَّيْئَيْنِ وَالنَّوْعَيْنِ. وَقَوْلُهُ: (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) قِيلَ: كَانَ ابْتِدَاءُ ذَلِكَ يَوْمَ الْأَحَدِ، وَالْفَرَاغُ يَوْمَ الْجُمْعَةَ {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} يَقُولُ: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ وَعَلَا عَلَيْهِ، وَذَلِكَ يَوْمَ السَّبْتِ فِيمَا قِيلَ. وَقَوْلُهُ: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} يَقُولُ: فَاسْأَلْ يَا مُحَمَّدُ خَبِيرًا بِالرَّحْمَنِ، خَبِيرًا بِخَلْقِهِ، فَإِنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَا خَلَقَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَوْلُهُ: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} قَالَ: يَقُولُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا أَخْبَرْتُكَ شَيْئًا، فَاعْلَمْ أَنَّهُ كَمَا أَخْبَرْتُكَ، أَنَا الْخَبِيرُ، وَالْخَبِيرُ فِي قَوْلِهِ: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْهَاءِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ بِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لَمَّا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَإِذَا قِيلَ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ مَنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ: {اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ} أَيِ اجْعَلُوا سُجُودَكُمْ لِلَّهِ خَالِصًا دُونَ الْآلِهَةِ وَالْأَوْثَانِ. قَالُوا: {أَنَسْجُدُ لَمَّا تَأْمُرُنَا}. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ: (لَمَّا تَأْمُرُنَا) بِمَعْنَى: أَنَسْجَدُ نَحْنُ يَا مُحَمَّدُ لَمَّا تَأْمُرُنَا أَنْتَ أَنْ نَسْجُدَ لَهُ. وَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ "لِمَا يَأْمُرُنَا"بِالْيَاءِ، بِمَعْنَى: أَنَسْجَدُ لَمَّا يَأْمُرُ الرَّحْمَنُ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ مُسَيْلِمَةَ كَانَ يُدْعَى الرَّحْمَنَ، فَلَمَّا قَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ، قَالُوا: أَنَسْجَدُ لِمَا يَأْمُرُنَا رَحْمَنَ الْيَمَامَةِ؟ يَعْنُونَ مُسَيْلِمَةَ بِالسُّجُودِ لَهُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ، أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مُسْتَفِيضَتَانِ مَشْهُورَتَانِ، قَدْ قَرَأَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عُلَمَاءُ مِنَ الْقُرَّاءِ، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ. وَقَوْلُهُ: {وَزَادَهُمْ نُفُورًا} يَقُولُ: وَزَادَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ قَوْلُ الْقَائِلِ لَهُمْ: اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ مِنْ إِخْلَاصِ السُّجُودِ لِلَّهِ، وَإِفْرَادِ اللَّهِ بِالْعِبَادَةِ بُعْدًا مِمَّا دُعُوا إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ فِرَارًا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: تَقَدَّسَ الرَّبُّ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا، وَيَعْنِي بِالْبُرُوجِ: الْقُصُورُ، فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى وَسَلَمُ بْنُ جُنَادَةَ، قَالُوا: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي، عَنْ عَطِيَّةَ بْنِ سَعْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا} قَالَ: قُصُورًا فِي السَّمَاءِ، فِيهَا الْحَرَسُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثَنِي أَبُو مُعَاوِيَةَ، قَالَ: ثَنِي إِسْمَاعِيلُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ رَافِعٍ، فِي قَوْلِهِ: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا} قَالَ: قُصُورًا فِي السَّمَاءِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا حَكَّامٌ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ {جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا} قَالَ: قُصُورًا فِي السَّمَاءِ. حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ سَيْفٍ، قَالَ: ثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، فِي قَوْلِهِ: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا} قَالَ: قُصُورًا فِي السَّمَاءِ فِيهَا الْحَرَسُ. وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ النُّجُومُ الْكِبَارُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثَنَا يَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا} قَالَ: النُّجُومُ الْكِبَارُ. قَالَ: ثَنَا الضَّحَّاكُ، عَنْ مَخْلَدٍ، عَنْ عِيسَى بْنِ مَيْمُونٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: الْكَوَاكِبُ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: (بُرُوجًا) قَالَ: الْبُرُوجُ: النُّجُومُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: هِيَ قُصُورٌ فِي السَّمَاءِ، لِأَنَّ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ {وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} وَقَوْلُ الْأَخْطَلِ: كَأَنَّهَا بُرْجُ رُومِيٍّ يُشَيِّدُهُ *** بِانٍ بِجَصٍّ وآجَرٍ وأحْجِارِ يَعْنِي بِالْبُرْجِ: الْقَصْرُ. قَوْلُهُ: {وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا} اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ {وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا} عَلَى التَّوْحِيدِ، وَوَجَّهُوا تَأْوِيلَ ذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ جَعَلَ فِيهَا الشَّمْسَ، وَهِيَ السِّرَاجُ الَّتِي عَنِيَ عِنْدَهُمْ بِقَوْلِهِ: {وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا}. كَمَا حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: {وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا} قَالَ: السِّرَاجُ: الشَّمْسُ. وَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفِيِّينَ "وَجَعَلَ فِيهَا سُرُجًا"عَلَى الْجِمَاعِ، كَأَنَّهُمْ وَجَّهُوا تَأْوِيلَهُ: وَجَعَلَ فِيهَا نُجُومًا {وَقَمَرًا مُنِيرًا} وَجَعَلُوا النُّجُومَ سُرُجًا إِذْ كَانَ يُهْتَدَى بِهَا. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ فِي قِرَاءَةِ الْأَمْصَارِ، لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَجْهٌ مَفْهُومٌ، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ. وَقَوْلُهُ: {وَقَمَرًا مُنِيرًا} يَعْنِي بِالْمُنِيرِ: الْمُضِيءُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا}. اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً} فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَلَفًا مِنَ الْآخَرِ، فِي أَنَّ مَا فَاتَ أَحَدَهُمَا مِنْ عَمَلٍ يَعْمَلُ فِيهِ لِلَّهِ، أُدْرِكَ قَضَاؤُهُ فِي الْآخَرِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا يَعْقُوبُ الْقِمِّيُّ، عَنْ حَفْصِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ شِمْرِ بْنِ عَطِيَّةَ، عَنْ شَقِيقٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ: فَاتَتْنِي الصَّلَاةُ اللَّيْلَةَ، فَقَالَ: أَدْرِكْ مَا فَاتَكَ مِنْ لَيْلَتِكَ فِي نَهَارِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ {جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا}. حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً} يَقُولُ: مَنْ فَاتَهُ شَيْءٌ مِنَ اللَّيْلِ أَنْ يَعْمَلَهُ أَدْرَكَهُ بِالنَّهَارِ، أَوْ مِنَ النَّهَارِ أَدْرَكَهُ بِاللَّيْلِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: {جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً} قَالَ: جَعَلَ أَحَدَهُمَا خَلَفًا لِلْآخَرِ، إِنْ فَاتَ رَجُلًا مِنَ النَّهَارِ شَيْءٌ أَدْرَكَهُ مِنَ اللَّيْلِ، وَإِنْ فَاتَهُ مِنَ اللَّيْلِ أَدْرَكَهُ مِنَ النَّهَارِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ جَعَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُخَالِفًا صَاحِبَهُ، فَجَعَلَ هَذَا أُسْوَدُ وَهَذَا أَبْيَضُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: {اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً} قَالَ: أَسْوَدُ وَأَبْيَضُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلُهُ. حَدَّثَنَا أَبُو هِشَامٍ الرِّفَاعِيِّ، قَالَ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ يَمَانٍ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عُمَرَ بْنِ قَيْسِ بْنِ أَبِي مُسْلِمٍ الْمَاصِرِ، عَنْ مُجَاهِدٍ {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً} قَالَ: أَسْوَدُ وَأَبْيَضُ.
وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَخْلُفُ صَاحِبَهُ، إِذَا ذَهَبَ هَذَا جَاءَ هَذَا، وَإِذَا جَاءَ هَذَا ذَهَبَ هَذَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، قَالَ: ثَنَا قَيْسٌ، عَنْ عُمَرَ بْنِ قَيْسٍ الْمَاصِرِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: {جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً} قَالَ: هَذَا يَخْلُفُ هَذَا، وَهَذَا يَخْلُفُ هَذَ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً} قَالَ: لَوْ لَمْ يَجْعَلْهُمَا خِلْفَةً لَمْ يَدْرِ كَيْفَ يَعْمَلُ، لَوْ كَانَ الدَّهْرُ لَيْلًا كُلُّهُ كَيْفَ يَدْرِي أَحَدٌ كَيْفَ يَصُومُ، أَوْ كَانَ الدَّهْرُ نَهَارًا كُلُّهُ كَيْفَ يَدْرِي أَحَدٌ كَيْفَ يُصَلِّي. قَالَ: وَالْخِلْفَةُ: مُخْتَلِفَانِ، يَذْهَبُ هَذَا وَيَأْتِي هَذَا، جَعَلَهُمَا اللَّهُ خِلْفَةً لِلْعِبَادِ، وَقَرَأَ {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} وَالْخِلْفَةُ: مَصْدَرٌ، فَلِذَلِكَ وُحِّدَتْ، وَهِيَ خَبَرٌ عَنِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ؛ وَالْعَرَبُ تَقُولُ: خَلَفَ هَذَا مِنْ كَذَا خِلْفَةً، وَذَلِكَ إِذَا جَاءَ شَيْءٌ مَكَانَ شَيْءٍ ذَهَبَ قَبْلَهُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: وَلَهَا بِالَمَاطِرُونَ إِذَا *** أَكَلَ النَّمْلُ الَّذِي جَمَعَا خِلْفَةٌ حَتَّى إِذَا ارْتَبَعَتْ *** سَكَنَتْ مِنْ جِلَّقٍ بِيَعَا وَكَمَا قَالَ زُهَيْرٌ: بِهَا الْعَيِْنُ وَالْآرَامُ يَمْشِينَ خِلْفَةً *** وَأَطْلَاؤُهِا يَنْهَضِْنَ مِنْ كُِلِّ مَجْثَمِ يَعْنِي بِقَوْلِهِ: يَمْشِينَ خِلْفَةً: تَذْهَبُ مِنْهَا طَائِفَةٌ، وَتَخْلُفُ مَكَانَهَا طَائِفَةٌ أُخْرَى. وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنَّ زُهَيْرًا أَرَادَ بِقَوْلِهِ: خِلْفَةً: مُخْتَلِفَاتِ الْأَلْوَانِ، وَأَنَّهَا ضُرُوبٌ فِي أَلْوَانِهَا وَهَيْئَاتِهَا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ أَنَّهَا تَذْهَبُ فِي مَشْيِهَا كَذَا، وَتَجِيءُ كَذَا. وَقَوْلُهُ {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَخُلُوفُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْآخَرَ حُجَّةً وَآيَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَكَّرَ أَمْرَ اللَّهِ، فَيُنِيبُ إِلَى الْحَقِّ {أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} أَوْ أَرَادَ شُكْرَ نِعْمَةِ اللَّهِ الَّتِي أَنْعَمَهَا عَلَيْهِ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ {أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} قَالَ: شَكَرَ نِعْمَةَ رَبِّهِ عَلَيْهِ فِيهِمَا. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ} ذَاكَ آيَةٌ لَهُ {أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} قَالَ: شَكَرَ نِعْمَةَ رَبِّهِ عَلَيْهِ فِيهِمَ. وَاخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: (يَذَّكَّرَ) فَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ وَبَعْضُ الْكُوفِيِّينَ: (يَذَّكَّرَ) مُشَدَّدَةً، بِمَعْنَى يَتَذَكَّرُ. وَقَرَأَهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفِيِّينَ: "يَذْكُرَ" مُخَفَّفَةً، وَقَدْ يَكُونُ التَّشْدِيدُ وَالتَّخْفِيفُ فِي مِثْلِ هَذَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ. يُقَالُ: ذَكَرْتُ حَاجَةَ فَلَانٍ وَتَذَكَّرْتُهَا. وَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ مُتَقَارِبَتَا الْمَعْنَى، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ الصَّوَابَ فِيهِمَا.
|