الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعالبي المسمى بـ «الجواهر الحسان في تفسير القرآن» ***
{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)} وقوله سبحانه: {إِنَّمَا جزاؤا الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ...} الآية: روى أنس بن مالك وغيره: «أن الآية نزلَتْ في قومٍ مِنْ عُكْلٍ وعُرَيْنَةَ قَدِمُوا عَلَى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَسْلَمُوا، ثم إنهم مَرِضُوا، واستوخموا المدينَةَ، فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؛ أنْ يَكُونُوا فِي لقَاح الصَّدَقَةِ، وَقَالَ: " اشربوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا "، فخرَجُوا فِيهَا، فَلَمَّا صَحُّوا، قَتَلُوا الرَّاعِيَ، واستاقوا الإبِلَ، فَبَلَغَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَبَرُهُمْ، فَبَعَثَ الطَّلَبَ فِي آثَارِهِمْ، فَأُخِذُوا، قَالَ جَمِيعُ الرُّوَاةِ: فَقَطَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ مِنْ خِلاَفٍ، وَسَمَرَ أَعْيُنَهُمْ، ويروى: وَسَمَلَ وَتَرَكَهُمْ فِي جَانِبِ الْحَرَّةِ، يَسْتَسْقُونَ، فَلاَ يُسْقَوْنَ»، فقيل: إن هذه الآية ناسخةٌ لفعْله صلى الله عليه وسلم بالعُرَنِيِّينَ، ووقَف الأمْر على هذه الحدودِ. وقال جماعةٌ: إنها غير ناسخةٍ لذلك الفعْل؛ لأن العرنيين مرتدُّون، لا سيَّما، وفي بعض الطُّرُق؛ أنهم سَمَلُوا أَعْيُنَ الرِّعَاءِ، وقالوا: هذه الآيةُ هي في المحارِبِ المُؤْمِنِ. قال مالك: المُحَارِبُ عندنا: مَنْ حَمَلَ على الناس السلاحَ فِي مِصْرٍ أو بَرِّيَّةٍ، فكابرهم عن أنفسهم وأموالهم، دون نَائِرَةٍ، ولا دَخلٍ، ولا عداوةٍ؛ وبهذا القولِ قال جماعةٌ من أهل العِلْمِ، قالوا: والإمامُ مخيَّرٌ فيه بأن يعاقبه بما رأى مِنْ هذه العقوبات، فأما قَتْلُ المحارِبِ، فبالسَّيْف ضربةً للعنُق، وأما صَلْبه، فبعد القتْلِ عند جماعة، وقال جماعة: بل يُصْلَبُ حيًّا، ويُقْتلُ بالطعن على الخَشَبة، وروي هذا عن مالك، وهو الأظهر من الآيةِ، وهو الأنكى في النكال، وأما القَطْع، فاليد اليمنى من الرُّسْغ والرِّجْل الشِّمال من المَفْصِلِ. وقوله سبحانه: {أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرض}: الظاهر: أن الأرض في هذه الآية هي أرضُ النازلة، وقد جنب الناس قديماً الأرض التي أصابُوا فيها الذُّنُوب؛ ومنه حديثُ الذي نَاءَ بصَدْره نحو الأرْضِ المقدَّسة، وينبغي للإمام، إنْ كان هذا المحارِبُ المنفيُّ مخُوفَ الجانِبِ، يظنُّ به أن يعود إلى حِرابةٍ وإفسادٍ أنْ يسجنه في البلد الذي يغرب إلَيْهِ، وإنْ كان غير مخُوفِ الجانبِ، ترك مسرَّحاً، وهذا هو صريحُ مذهب مالك. وقوله تعالى: {ذلك لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدنيا} إشارة إلى هذه الحدود التي تُوقَعُ بهم، فيحتمل الخزي لمن عوقب، وعذاب الآخرة لمن سَلِمَ في الدنيا، وبالجملة فهم في المشيئة. وقوله سبحانه: {إِلاَّ الذين تَابُواْ}: استثنى عز وجل التائِبَ قبل أنْ يُقْدَرَ عليه، وأخبر سبحانه بِسُقُوطِ حقوقِهِ عنْه؛ بقوله: {فاعلموا أَنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}، والعلماءُ على أن الآية في المؤمنين، ويؤخذ المحارِب بحقوقِ الناسِ، وإن تاب؛ هذا هو الصحيح.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)} وقوله تعالى: {ياأيها الذين ءَامَنُواْ اتقوا الله وابتغوا إِلَيهِ الوسيلة...} الآية: هذه الآية وعْظٌ من اللَّه تعالى بعقب ذكر العقوبات النازلة بالمحاربين، وهذا من أبلغ الوعْظ؛ لأنه يرد على النفوس، وهي خائفةٌ وجِلَةٌ {وابتغوا}: معناه: اطلبوا، و{الوسيلة}: القُرْبَةُ، وأما الوسيلةُ المطلوبةُ لنبيِّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم، فهي أيضاً من هذا؛ لأن الدعاء له بالوسيلةِ والفضيلةِ إنما هو أنْ يُؤْتَاهُما في الدنيا، ويتَّصف بهما، ويكونُ ثمرةُ ذلك في الآخرةِ التشفيعَ في المَقَامِ المحمودِ، قلْتُ: وفي كلامه هذا ما لا يخفى، وقد فسر النبيُّ صلى الله عليه وسلم الوسيلةَ التي كان يَرْجُوها من ربه، «وأَنَّهَا دَرَجَةٌ فِي الجَنَّةِ لاَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ إلاَّ لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ...» الحديث، وخص سبحانه الجهادَ بالذكْر، وإن كان داخلاً في معنى الوسيلة تشريفاً له؛ إذ هو قاعدةُ الإسلام. وقوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النار}: إخبار بأنهم يتمنَّوْنَ هذا، وقال الحسنُ بْنُ أبي الحسن: إذا فَارَتْ بهم النارُ، قَرُبُوا من حاشيتها، فحينئِذٍ يريدونَ الخُرُوجَ، ويطمعون به، وتأوَّل هو وغيره الآية على هذا؛ قلْتُ: ويؤيِّده ما خرَّجه البخاريُّ في رؤية النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ «حَيْثُ أَتَاهُ آتيَانِ، فَأَخَذَا بِيَدِهِ»، وفيه: «فَأَقْبَلَ الرَّجُلُ الَّذِي فِي النَّهْرِ، فَإذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ، رمى الرجل بِحَجَرٍ فِي فِيهِ»، وفيه أيضاً: «فَانْطَلَقْنَا إلى ثُقْبٍ مِثْلِ التَّنُّورِ أَعْلاَهُ ضَيِّقٌ وَأَسْفَلُهُ وَاسِعٌ تَتَوَقَّدُ تَحْتَهُ نَارٌ، فَإذَا اقترب، ارتفعوا، فَإذَا خَمَدَتْ، رَجَعُوا فِيهَا، وَفِيهَا رِجَالٌ وَنِسَاءٌ عُرَاةٌ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ فَقَالاَ: انطلق» الحديث، وأخبر سبحانه عن هؤلاءِ الكفَّار؛ أنهم ليسوا بخارجين من النار، بل عذابهم فيها مقيمٌ مؤبَّد.
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)} وقوله سبحانه: {والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا...} الآيةَ: قلت: المسروقُ: مال أو غيره. فشرط المال: أنْ يكون نصاباً، بعد خروجه، مملوكاً لغير السارقِ، ملكاً محترماً تامًّا، لا شُبهة له فيه، مُحْرَزاً، مُخْرَجاً منه إلى ما ليس بِحِرْزٍ له، استسرارا. فالنصاب: ربعُ دينارٍ أو ثلاثةُ دراهم، أو ما يساوِي ثلاثة دراهمَ، وقوله: {أَيْدِيَهُمَا} يعني: أَيْمانَ النوعَيْن، والنَّكَال: العذابُ، والنِّكْل: القَيْد. وقوله سبحانه: {فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ الله يَتُوبُ عَلَيْهِ...} الآية: جمهورُ العلماءِ على أَنَّ توبة السارق لا تُسْقِطُ عنه القَطْعَ، وقال الشافعيُّ: إذا تاب السارق قبل أنْ يتلبَّس الحُكَّام بأخْذه، فتوبته تَدْفَعُ عنه حُكْمَ القطع؛ قياساً على توبة المُحَارِبِ. وقوله سبحانه: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السموات والأرض يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ} أي: فلا معقِّب لحكمه سبحانه، ولا معتَرِضَ عليه، يفعلُ ما يَشَاء لا إله إلا هو.
{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آَمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آَخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)} وقوله تعالى: {ياأيها الرسول لاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر...} الآية: تسليةٌ لنبيِّه عليه السلام وتقويةٌ لنفسه؛ بسبب ما كان يلقى من طوائف المنافقين واليهود، والمعنى: قد وعَدْناك النصْرَ والظهورَ عليهم، فلا يحزنْكَ ما يقعُ منهم، ومعنى المسارعة في الكُفْرِ: البِدَارُ إلى نَصْره، والسعْيُ في كيد الإسلام، وإطفاءِ نوره، قال مجاهدٌ وغيره: قوله تعالى: {مِنَ الذين قَالُواْ ءَامَنَّا بأفواههم وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ} يراد به المنافقون. وقوله: {سماعون لِلْكَذِبِ سماعون لِقَوْمٍ ءَاخَرِينَ}: يراد به اليهودُ، ويحتمل أن يراد به اليهود مع المنافقين؛ لأن جميعهم يَسْمَعُ الكذبَ، بعضَهُم مِنْ بعض، ويقبلونه؛ ولذلك جاءَتْ عبارة سَمَاعهم في صيغَةِ المبالغة؛ إذِ المرادُ أنهم يُقْبِلُونَ ويستزيدون من ذلك. وقوله سبحانه: {سماعون لِقَوْمٍ ءَاخَرِينَ}: يحتمل أنْ يريد: يَسْمَعُون منهم، وذكر الطبريُّ عن جابر؛ أن المراد بالقوم الآخرينَ يَهُودُ فَدَكَ، وقيل: يهود خَيْبَر، ويحتمل أنْ يكون معنى {سماعون لِقَوْمٍ ءَاخَرِينَ} بمعنى: جواسيسَ مُسْتَرِقِينَ الكلامَ؛ لينقلوه لقوم آخرينَ، وهذا مما يمكن أن يتصف به المنافقُونَ ويهودُ المدينة، قلْتُ: وهذا هو الذي نَصَّ عليه ابنُ إسحاق في السِّيَرِ. قال: * ع *: وقيل لسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ: هل جرى للجاسُوسِ ذكْرٌ في كتاب اللَّه عزَّ وجلَّ؟ فقال: نعم، وتلا هذه الآية: {سماعون لِقَوْمٍ ءَاخَرِينَ}. وقوله سبحانه: {يُحَرّفُونَ الكلم مِن بَعْدِ مواضعه}: هذه صفةُ اليهود في معنى ما حرَّفوه من التوراةِ، وفيما يحرِّفونه من الأقوال عند كذبهم {مِن بَعْدِ مواضعه}، أي: من بعد أن وُضِعَ مواضِعَهُ، وقصدت به وجوهه القويمة، يقولون إن أوتيتم هذا، فخذوه، روي أنَّ يهود فَدَك قالوا ليهودِ المدينةِ: استفتوا محمَّداً، فإن أفتاكم بما نَحْنُ عليه من الجَلْد والتَّجْبِيَةِ، فخذوه، وإن أفتاكم بالرَّجْم، فاحذروا الرجْمَ؛ قاله الشعبيُّ وغيره وقيل غير هذا من وقائعهم، فالإشارة ب {هذا} إلى التحميمِ والجَلْدِ في الزنا، على قولٍ، ثم قال تعالى لنبيِّه عليه السلام؛ على جهة قَطْع الرجاء منهم: {وَمَن يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ} أي: محنَتَهُ بالكفر، {فلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ الله شَيْئاً}، ثم أخبر تعالى عنهم؛ أنهم الذين سَبَقَ لهم في علْمه ألاَّ يطهِّر قلوبَهُم، وأنْ يكونوا مُدَنَّسِينَ بالكُفْر، {لَهُمْ فِي الدنيا خِزْيٌ}؛ بالذِّلَّة والمَسْكَنة الَّتي ضُرِبَتْ عليهم في أقطار الأرْضِ، وفي كلِّ أُمَّة. قال * ص *: {سماعون}، أي: هم سمَّاعون، ومثله أكَّالون. انتهى. وقوله سبحانه: {أكالون لِلسُّحْتِ}: فعَّالون؛ بناءُ مبالغة، أي: يتكرَّر أَكْلُهم، ويَكْثُر، والسُّحْت: كل ما لا يَحِلُّ كسبه من المال. وقوله تعالى: {فَإِن جَاءُوكَ فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ}: تخييرٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولحكَّامِ أُمَّتِهِ بعده، وقال ابنُ عباس وغيره: هذا التخْييرُ منسوخٌ بقوله سبحانه: {وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ الله} [المائدة: 49]، وقال كثيرٌ من العلماء: هي مُحْكَمَة، وهذا هو الأظهر؛ إن شاء اللَّه، وفِقْهُ هذه الآية أنَّ الأَمَّة مُجْمِعَة فيما علمتُ على أنَّ حاكم المسلمين يحْكُمُ بيْنَ أهْل الذمَّة في تظالمهم، وأمَّا نوازل الأحْكَام التي لا تَظَالُمَ فيها، فالحاكمُ مخيَّر، وإذا رضي به الخَصْمان، فلا بد مِنْ رِضَى أساقِفَتِهِمْ أو أحبارهم؛ قاله ابن القاسِمِ في «العتبية»، قلت: وعبارة الداوديُّ قال مالك: ولا يَحْكُمُ بينهم، إذا اختار الحكم إلا في المظالمِ، فيحكم بينهما بما أنزل اللَّه، ولا يحكم فيهم في الزنا إلا أنْ يعلنوه، فيعاقَبُونَ بسبب إعلانه، ثم يردُّون إلى أساقفتهم، قال مالك: وإنما رجم النبيُّ صلى الله عليه وسلم اليهودِيَّيْنِ قبل أنْ تكون لهم ذمَّة. انتهى. وقال ابنُ العربيِّ في «أحكامه»: إنما أَنْفَذَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم الحُكْمَ بينهم؛ ليحقِّق تحريفَهُم، وتبديلَهم، وكَذِبَهم، وكَتْمَهم مَا في التوراة، ومنْه صفتُهُ صلى الله عليه وسلم فيها، والرجْمُ على زناتهم، وعنه أخبر اللَّه تعالى بقوله: {ياأهل الكتاب قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكتاب وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} [المائدة: 15]؛ فيكون ذلك من آياته الباهرةِ، وحُجَجِهِ البيِّنة، وبراهينِهِ القاطعةِ الدَّامغة للأَمَّة المُخْزية اليهودية. انتهى. وقوله تعالى: {وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً}: أمَّنَ اللَّه سبحانَهُ نبيَّه من ضررهم، إذا أعْرَضَ عنهم، وحقَّر في ذلك شأنهم، {وَإِنْ حَكَمْتَ}، أي: اخترت الحكْمَ في نازلةٍ مَّا، {فاحكم بَيْنَهُم بالقسط}، أيْ: بالعدل، ثم قال سبحانه: {وَكَيْفَ يُحَكّمُونَكَ} المعنى: وكيفَ يحكِّمونك بنيَّةٍ صادقةٍ، وهم قد خالفوا حُكْمَ التوراة التي يصدِّقون بها، وتولَّوْا عن حُكْمِ اللَّه فيها؛ فأنْتَ الذي لا يؤمِنُونَ بك أحرى بأن يخالفوا حُكْمَك، وهذا بيِّن أنهم لا يحكِّمونه عليه السلام إلا رغبةً في ميله إلى أهوائهم. وقوله سبحانه: {مِن بَعْدِ ذلك}، أي: مِنْ بعد كونِ حكمِ اللَّه في التوراة في الرجْمِ وما أشبهه. وقوله تعالى: {وَمَا أولئك بالمؤمنين} يعني: بالتوراة وبموسى.
{إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)} وقوله سبحانه: {إِنَّا أَنزَلْنَا التوراة فِيهَا هُدىً}، أي: إرشاد في المعتقَدِ والشرائعِ، والنورُ: ما يستضاء به مِنْ أوامرها ونواهيها، و{النبيون الذين أَسْلَمُواْ}: هم مَن بُعِثَ من لدنْ موسَى بنِ عمرانَ إلى مدة نبيِّنا محمَّد عليه السلام، وأسلموا: معناه أخْلَصُوا وجوهَهُم ومقاصِدَهم للَّه سبحانه، وقوله: {لِلَّذِينَ هَادُواْ}: متعلِّق ب {يَحْكُمُ} أي: يَحْكُمُونَ بمقتضَى التوراةِ لبني إسرائيل وعليهم، {والربانيون}: عطف على النبيِّين، أي: ويحكم بها الرَّبَّانِيُّون، وهم العلماءُ، وقد تقدَّم تفسير الرَّبَّانِيِّ، والأحْبَارُ أيضاً: العلماءُ، واحدُهم: حِبْرٌ بكسر الحاء، وفتحها، وكثُر استعمال الفَتْح؛ فرقًا بينه وبين «الحِبْرِ» الذي يُكْتَبُ به، وإنما اللفظ عامٌّ في كلِّ حَبْرٍ مستقيمٍ فيما مضى من الزمان قبل مبعَثِ نبيِّنا محمد عليه السلام. وقوله سبحانه: {بِمَا استحفظوا}، أي: بسبب استحفاظ اللَّه تعالى إياهم أمر التَّوْراة، وأخْذِهِ العهدَ علَيْهم؛ في العملِ والقَوْلِ بها، وعرَّفهم ما فيها، فصَارُوا شُهَداء عليه، وهؤلاء ضيَّعوا لَمَّا استحفظوا؛ حتى تبدَّلتِ التوراةُ، والقُرآنُ بخلافِ هذا؛ لقوله تعالى: {وَإِنَّا لَهُ لحافظون} [الحجر: 9]. وقوله تعالى: {فَلاَ تَخْشَوُاْ الناس واخشون}: حكايةٌ لما قيل لعلماء بني إسرائيل. وقوله: {وَلاَ تَشْتَرُواْ بآياتي ثَمَناً قَلِيلاً}: نَهْيٌ عن جميع المكاسِبِ الخبيثةِ بالعلْمِ والتحيُّلِ للدنيا بالدِّين، وهذا المعنى بعينه يتناوَلُ علماء هذه الأمة وحُكَّامَها، ويحتملُ أنْ يكون قوله: {فَلاَ تَخْشَوُاْ الناس...} إلى آخر الآية خطاباً لأمَّة نبينا محمد عليه السلام. واختلف العلماء في المراد بقوله: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الكافرون}. فقالتْ جماعة: المرادُ: اليهودُ بالكافرين والظَّالمين والفاسِقِينَ؛ وروي في هذا حديثٌ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ طريق البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ؛ قال الفَخْر: وتمسَّكت الخوارجُ بهذه الآية في التكْفِير بالذَّنْب، وأجيبَ بأنَّ الآية نزلَتْ في اليهود، فتكون مختصَّة بهم، قال الفَخْر: وهَذا ضعيفٌ؛ لأن الاعتبار بعمومِ اللفظِ، لا بخصوصِ السبَبِ. قلْتُ: وهذه مسألةُ خلافٍ في العامِّ الوارِدِ على سببٍ، هَلْ يبقى على عمومه، أو يُقْصرُ على سببه؟ انتهى. وقالتْ جماعة عظيمةٌ من أهل العلمِ: الآيةُ متناولة كلَّ مَنْ لم يحكُمْ بما أنزل اللَّه، ولكنَّها في أمراء هذه الأمَّة كُفْرُ معصية؛ لا يخرجهم عن الإيمان، وهذا تأويلٌ حسن، وقيل لحذيفة بْنِ اليَمَان: أنزلت هذه الآية في بني إسرائيل، فقال: نِعْمَ الإخْوَةُ لَكُمْ بَنُو إسْرَائِيلَ، إنْ كَانَتْ لَكُمْ كُلُّ حُلْوَةٍ، وَلَهُمْ كُلُّ مُرَّةٍ، لَتَسْلُكُنَّ طَرِيقَهُم قُذَّ الشِّرَاكِ.
{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)} وقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النفس بالنفس...} الآية، أي: وكتبنا على بني إسرائيل في التوراة، ومعنى هذه الآية: الخَبَرُ بأن اللَّه تعالى كتَبَ فرضاً على بني إسرائيل؛ أنه مَنْ قَتَل نفساً، فيجب في ذلك أخْذُ نفسه، ثم هذه الأعضاءُ المذكورةُ كذلك، ثم استمر هذا الحكم في هذه الأُمَّة بما عُلِمَ من شرع النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال ابن عباس: «ورخَّص اللَّه لهذه الأُمَّة، ووسَّع لها بالدِّيَة، ولم يجعلْ لبني إسرائيل ديةً فيما نَزَّل على موسى، والجمهور {أَنَّ النفس بالنفس}: عمومٌ يراد به الخصوصُ في المتماثلين؛ كما ورد في الحديث، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: " لاَ يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ "، وكذلك قوله سبحانه: {والجروح قِصَاصٌ}: عمومٌ يراد به الخصوصُ فيما لا يخافُ منها على النفْسِ، وكُتُبُ الفقْهِ محَلُّ استيعابِ الكلامِ على هذه المعانيِ. قال * ص *: {والجروح قِصَاصٌ}، أيْ: ذاتُ قصاصٍ. انتهى. وقوله سبحانه: {فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ}، المعنى: أنَّ من تصدَّق بجُرْحه أو دمِ وليه، وعفا، فإنَّ ذلك العَفْوَ كفَّارة لذنوبه يعظم اللَّه أجْره بذلك، قاله ابن عمر وغيره، وفي معناه حديثٌ مرويٌّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قُلْتُ: وهو قوله: صلى الله عليه وسلم: " مَا مِنْ رَجُلٍ يُصَابُ بِشَيْءٍ فِي جَسَدِهِ فَتَصَدَّقَ بِهِ إلاَّ رَفَعَهُ اللَّهُ بِهِ دَرَجَةً، وَحَطَّ عَنْهُ بِهِ خَطِيئَةً "، رواه الترمذيُّ. انتهى. وقيل: المعنى: فذلك العفو كفَّارة للجارحِ عن ذلك الذنْبِ؛ كما أن القِصَاص كفَّارة، فكذلك العفو كفَّارة وأما أجر العافي، فعلى اللَّه تعالى؛ قاله ابن عبَّاس وغيره. وقيل: المعنى: إذَا جنى جانٍ، فجُهِلَ، وخَفِيَ أمره، فتصدَّق هذا الجاني؛ بأن اعترفَ بذلك، ومكَّنَ من نفسه؛ فذلك الفعْلُ كفَّارة لذنبه.
{وَقَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47) وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)} وقوله سبحانه: {وَقَفَّيْنَا على ءاثارهم بِعَيسَى ابن مَرْيَمَ...} الآية: الضميرُ في {ءاثارهم} للنبيِّين. وقوله: {وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ}: خُصَّ المتقون بالذِّكْر؛ لأنهم المقصودُ به في عِلْمِ اللَّه وإنْ كان الجميعُ يدعى إلى توحيدِ اللَّه، ويوعَظُ، ولكنَّ ذلك على غَيْرِ المتَّقين عَمًى وحَيْرةٌ. وقرأ حمزة وحده: «وَلِيَحْكُمَ» بكسرِ اللامِ، وفتحِ الميمِ؛ على «لام كَيْ»، ونصبِ الفعلِ بها، والمعنى: وآتيناه الإِنجيل؛ ليتضمَّن الهدى والنور والتصديق، ولِيَحْكُمَ أهله بما أنزل اللَّه فيه، وقرأ باقي السبْعَةِ: «وَلْيَحْكُمْ» بسكون لامِ الأمرِ، وجزمِ الفعلِ، ومعنى أمره لهم بالحكم: أي: هكذا يجبُ عليهم. قُلْتُ: وإذْ من لازم حكمهم بما أنزلَ اللَّه فيه اتباعهم لنبيِّنا محمد عليه السلام والإيمانُ به؛ كما يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيلِ، قال الفَخْر: قيل: المرادُ: ولْيحكُمْ أهل الإنجيل بما أنزل اللَّه فيه؛ من الدلائلِ الدالَّة على نبوَّة محمَّد صلى الله عليه وسلم قيل: والمرادُ بالفاسقين: مَنْ لم يَمْتَثِلْ من النصارَى. انتهى، وحَسُن عَقِبَ ذلك التوقيفُ على وعيدِ مَنْ خالف ما أنزل اللَّه. وقوله سبحانه: {وَمُهَيْمِناً}، أي: جعل اللَّه القُرآن مهيمناً على الكُتُب، يشهد بما فيها من الحقائقِ، وعلى ما نسبه المحرِّفون إليها، فيصحِّح الحقائق، ويُبْطِلُ التحريفَ، وهذا هو معنى {مُهَيْمِناً}، أي: شاهدٌ، ومصدِّقٌ، ومؤتَمَنٌ، وأمينٌ؛ حسَبَ اختلافِ عبارة المفسِّرين في اللفظة، وقال المبرِّد: «مهَيْمِن»: أصله «مُؤَيْمِن»؛ بُنِيَ من «أَمين»؛ أبدلَتْ همزتُهُ هاءً؛ كما قالوا: أَرَقْتُ المَاءَ، وَهَرَقْتُهُ؛ واستحسنه الزَّجَّاج. وقوله سبحانه: {فاحكم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ الله وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحق}: المعنى؛ عند الجمهور: إن اخترت أنْ تحكم، فاحكم بينهم بما أنْزَلَ اللَّه، وليسَتْ هذه الآيةُ بناسخةٍ لقوله: {أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42]. ثم حذَّر اللَّه تعالى نبيَّه عليه السلام من اتباع أهوائهم. وقوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً ومنهاجا}، أي: لكلِّ أمة؛ قاله الجمهور، وهذا عندهم في الأحكامِ، وأما في المعتَقَدَاتِ، فالدِّين واحدٌ لجميع العالَمِ، ويحتملُ أنْ يكون المرادُ الأنبياءَ، لا سيَّما وقد تقدَّم ذكرهم، وذكر ما أُنْزِلَ عليهم، وتجيء الآيةُ، معَ هذا الاحتمال تنبيهاً لنبيِّنا محمَّد عليه السلام، أيْ: فاحفظ شرعتك ومنهاجَكَ؛ لئلاَ تستزلَّك اليهودُ، أو غيرُهم في شيء منْه، وأكثرُ المتأوِّلين على أن الشِّرْعَة والمِنْهَاجَ بمعنًى واحدٍ، وهي الطريقُ، وقال ابن عباس وغيره: {شِرْعَةً ومنهاجا}: سبيلاً وسُنَّة، ثم أخبر سبحانه؛ أنه لَوْ شاء، لَجَعَل النَّاس أُمَّةً واحدةً، ولكنه لم يشأْ؛ لأنه أراد اختبارهم وابتلاءهم فيما آتاهم مِنَ الكُتُب والشرائع؛ كذا قال ابنُ جُرَيْج وغيره. ثم أمر سبحانه باستباق الخيراتِ في امتثال الأوامر، وخَتَمَ سبحانه بالموعظةِ والتَّذْكير بالمعادِ، فقال: {إلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً}، والمعنى: فالبِدَار البِدَارَ. وقوله سبحانه: {فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}، معناه: في الثَّوَاب والعقَاب، فتُخْبَرُونَ به إخبار إيقاعٍ، وهذه الآية بارعةُ الفَصَاحة، جَمَعتِ المعانِيَ الكثيرةَ في الألفاظِ اليسيرة، وكُلُّ كتابِ اللَّه كذلك، إلاَّ أنَّا بقصورِ أفهامنا يَبِينُ لنا في بَعْضٍ أكثرُ ممَّا يبينُ لنا في بعض. وقوله تعالى: {وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ الله وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ...} الآية: الهوى مقصورٌ يجمعُ على أهْوَاء، والهَوَاء ممدودٌ يُجْمع على أَهْوِيَةٍ، ثم حذَّر تعالى نبيَّه عليه السلام من اليهودِ؛ أنْ يفتنوه؛ بأنْ يَصْرِفُوه عن شيء ممَّا أنزل اللَّه عليه مِنَ الأحكام؛ لأنهم كانوا يريدُونَ أنْ يخدَعُوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقالوا له مراراً: احكم لنا في نازلةِ كَذَا بكَذَا، ونَتَّبِعَكَ على دينك. وقوله سبحانه: {فَإِن تَوَلَّوْاْ}، قبله محذوفٌ، تقديره: فإِنْ حكَّموك واستقاموا، فَنِعِمَّا ذلك، وَإِن تَوَلَّوْا {فاعلم...} الآية، وخصَّص سبحانه إصابتهم ببَعْض الذنوبِ دون كلِّها؛ لأن هذا الوعيد إنما هو في الدنيا، وذنُوبُهم نوعانِ: نوعٌ يخصُّهم، ونوعٌ يتعدى إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، والمؤمنين، وبه توعَّدهم اللَّه في الدنيا، وإنما يعذَّبون بالكُلِّ في الآخرة. وقال الفَخْر: وجوزُوا ببَعْض الذنوبِ في الدنيا، لأنَّ مجازَاتهُمْ بالبَعْض كافٍ في إهلاكهم وتدميرِهِمْ. انتهى. وقوله سبحانه: {فاعلم...} الآية: وعد للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، وقد أنجزه بقصَّة بني قَيْنُقَاعٍ، وقصَّةِ قُرَيْظَةَ والنَّضِيرِ، وإجلاءِ عُمَرَ أهْلَ خيبَرٍ وفَدَك وغيرهم. وقوله تعالى: {وَإِنَّ كَثِيراً مّنَ الناس لفاسقون}: إشارة إليهم، ويندرجُ في عمومِ الآية غَيْرُهُمْ. وقوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ}: إشارة إلى الكُهَّان الذين كانُوا يأخْذُون الحُلْوَان، ويحكُمُون بحَسَب الشهوات، {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْماً}، أي: لا أحد أحسنُ منه حكماً تبارك وتعالى.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53)} وقوله سبحانه: {ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَاءَ}: نهى اللَّه سبحانه المؤمنين بهذه الآية عَن اتخاذِ اليهودِ والنصارى أولياءَ في النُّصْرة والخُلْطة المؤدِّية إلى الامتزاج والمعاضَدَة، وحُكْمُ هذه الآيةِ باقٍ، وكلُّ مَنْ أكثر مخالطةَ هذَيْن الصِّنْفين، فله حَظُّه من هذا المَقْت الذي تضمَّنه قوله تعالى: {فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}، وسببُ نزولِ هذه الآيةِ أنَّه لَمَّا انقضت بدْرٌ وشَجَر أمر بني قَيْنُقَاعٍ، أراد النبيُّ صلى الله عليه وسلم قَتْلهم، فقام دُونَهم عبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابن سَلُولَ مخاصِماً، وقال: يا محمَّد، أَحْسِنْ في مَوَالِيَّ، فَإنِّي امرؤ أَخَافَ الدوائِرَ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: قَدْ وهبتُهُمْ لك، ونزلَتِ الآية في ذلك. وقوله عزَّ وجلَّ: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}: جملةٌ مقطوعة من النَّهْيِ. وقوله تعالى: {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}: إنحاء على عبد اللَّه بْنِ أُبَيٍّ، وعلى كلِّ من اتصف بهذه الصفة. وقوله سبحانه: {فَتَرَى الذين}: المعنى: فترى يا محمد، {الذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ}؛ إشارةً إلى عبد اللَّه بْنِ أُبَيٍّ ومَنْ تبعه من المنافقين على مذهبه في حماية بني قَيْنُقَاعٍ. وقوله تعالى: {يَقُولُونَ نخشى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ}: لفظٌ محفوظٌ عن عبد اللَّه بْنِ أُبَيٍّ ومن تبعه من المنافقين، ودَائِرَةٌ: معناه نَازِلَةٌ من الزمان، وإنما كان ابن أبيٍّ يظهر أنه يستَبْقِيهم لِنُصْرة النبيِّ عليه السلام، وأنه الرأْيُ، وكان يبطنُ خلافَ ذلك. وقوله سبحانه: {فَعَسَى الله أَن يَأْتِيَ بالفتح}، وهو ظهورُ نبيه عليه السلام، وعلوُّ كلمته، وتمكينُهُ مِنْ بني قَيْنُقَاعٍ وقريظَةَ والنَّضِيرِ، وفَتْحُ مكَّة، {أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ} يُهْلِكُ بِهِ أعداءَ الشرع، وهو أيضاً فتْحٌ لا يقع فيه للبَشَر سبَبٌ. وقرأ ابن الزُّبَيْر: «فَيُصْبِحَ الفُسَّاقُ على مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ». وقوله تعالى: {وَيَقُولُ الذين ءَامَنُواْ أهؤلاءآء الذين أَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم}، قرأ نافعٌ وغيره: «يَقُولُ» بغير واو، وقرأ حمزة وغيره: «وَيَقُولُ»، وقرأ أبو عمرو وحْده: «وَيَقُولَ» بالواو، ونصبِ اللامِ؛ فذَهَبَ كثيرٌ من المفسِّرين إلى أنَّ هذا القولَ مِنَ المؤمنين إنما هو إذا جاء الفتْحُ، وحصَلَتْ ندامةُ المنافقين، وفَضَحهم اللَّه تعالى، فحينئذ: يقولُ المؤمنون: {أهؤلاء الذين أَقْسَمُواْ}. وتحتمل الآيةُ أنْ تكون حكايةً لقولِ المؤمنين في وقْتِ قولِ الذين في قلوبهم مرضٌ: {نخشى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ}: إذ فُهِمَ منهم أنَّ تمسُّكهم باليهودِ إنما هو إرصاد لِلَّهِ ولرسولِهِ، فمَقَتَهم النبيُّ عليه السلام والمؤمنون، وترك لهم النبيُّ عليه السلام بني قَيْنُقَاعٍ؛ رغْبةً في المصلحة والأُلْفة، وأما قراءة أَبي عَمْرٍو: «وَيَقُولَ» بالنصب، فلا يتجه معها أَنْ يكون قولَ المؤمنين إلاَّ عند الفَتْح، وظُهورِ ندامة المنافقينَ، وفَضيحَتِهِمْ. وقوله تعالى: {جَهْدَ أيمانهم}: نصْبُ «جَهْدَ» على المصدر المؤكِّد، والمعنى: أهؤلاء هم المُقْسِمُون باجتهاد منهم في الأيمانِ؛ إنهم لَمَعَكُمْ، قد ظهر الآنَ منهم مِنْ موالاة اليهودِ، وخَذْلِ الشريعةِ ما يُكَذِّبُ أيمانهم. وقوله: {حَبِطَتْ أعمالهم}: يحتملُ أنْ يكون إخباراً من اللَّه سبحانه، ويحتملُ أنْ يكون مِنْ قول المؤمنين، ويحتمل أنْ يكون قوله: {حَبِطَتْ} دعاءً، أي: بَطَلَتْ أعمالُهم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59)} وقوله سبحانه: {ياأيها الذين ءَامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ...} الآية: خطابٌ للمؤمنين إلى يوم القيامة، ومعنى الآية؛ أَنَّ اللَّه عزَّ وجلَّ وعَدَ هذه الأمة أنَّ من ارتدَّ منها، فإنه يجيءُ سبحانه بقومٍ ينصُرُونَ الدِّين، ويُغْنُونَ عن المرتدِّين. قال الفَخْر: وقدَّم اللَّه تعالى محبَّته لهم على محبَّتهم له؛ إذ لولا حُبُّه لهم، لما وفَّقهم أنْ صاروا محبِّين له. انتهى، وفي كتاب «القصد إلى اللَّه سبحانه»؛ للمُحَاسِبِيِّ، قُلْتُ للشيخ: فَهَلْ يَلْحَقُ المحبِّينَ للَّه عزَّ وجلَّ خَوْفٌ؟ قال: نَعَمِ، الخَوْفُ لازمٌ لهم؛ كما لزمهم الإيمَانُ لا يزولُ إلاَّ بزَوَاله، وهذا هو خَوْفُ عذابِ التَّقْصيرِ في بدايتهم؛ حتى إذا صاروا إلى خَوْفِ الفَوْت، صاروا إلى الخوف الذي يكُونُ في أعلى حالٍ، فكان الخوف الأوَّلُ يطرقهم خطراتٍ، وصارِ خوْفُ الفَوْتِ وطنات، قلْتُ: فما الحالَةُ التي تَكْشِفُ عن قلوبهم شَدِيدَ الخَوْف والحُزْن؟ قال: الرجاءُ بحُسْن الظَّنِّ؛ لمعرفتهم بسعة فَضْل اللَّه عزَّ وجلَّ، وأَمَلُهُمْ منه أنْ يظفروا بمرادهم، إذا وَرَدُوا عليه، ولولا حُسْن ظنِّهم بربِّهم، لَتَقطَّعت أنفسهم حسراتٍ، وماتوا كَمَداً، قلْتُ: أيُّ شيءٍ أكثَرُ شُغْلِهِمْ، وما الغالبُ على قلوبِهِمْ في جميعِ أحوالهم؟ قال: كثرةُ الذِّكْر لمحبوبهم على طريق الدوامِ والاستقامةِ، لا يَمَلُّونَ، ولا يَفْتُرُون، وقد أجمع الحكماءُ أنَّ من أحَبَّ شيئاً، أكْثَرَ مِنْ ذكره، ثم قال: قال ذُو النُّونِ: مَا أُولِعَ أحَدٌ بذكْرِ اللَّه إلا أفاد منْهُ حُبَّ اللَّهِ تعالَى. انتهى. وفي الآية إنحاءٌ على المنافِقِينَ، وعلى من ارتد في مدة النبيِّ صلى الله عليه وسلم. قال الفَخْر: وهذه الآيةُ إخبارٌ بغَيْبٍ، وقد وقع الخَبَر على وَفْقِهِ؛ فيكون معجزاً، وقد ارتدَّتِ العربُ وغيرهم أيام أبِي بَكْر، فنَصَر اللَّه الدِّين، وأتى بخَيْرٍ منهم. انتهى. وقوله سبحانه: {أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين}، معناه: متذلِّلين مِنْ قِبَلِ أنفسهم، غَيْرَ متكبِّرين، وهذا كقوله عزَّ وجلَّ: {أَشِدَّاء عَلَى الكفار رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]؛ وكقوله عليه السلام: «المُؤْمِنُ هَيِّنٌ لَيِّنٌ»، وفي قراءة ابن مسعودٍ: «أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ غُلَظَاءَ عَلَى الكَافِرِينَ». وقوله تعالى: {وَلاَ يخافون لَوْمَةَ لائِمٍ}: إشارةٌ إلى الرَّدِّ على المنافقين في أَنَّهم يعتَذِرُونَ بممالأَة الأحْلاَفِ والمعارِفِ مِنَ الكفَّار، ويراعُونَ أمرهم، قُلْتُ: وخرَّج أبو بكرِ بْنُ الخطيبِ بسنده على أبي ذِر، قال: «أَوْصَانِي النبيُّ صلى الله عليه وسلم بِسَبْعٍ: أوْصَانِي أَنْ أَنْظُرَ إلى مَنْ هُوَ دُونِي وَلاَ أَنْظُرَ إلى مَنْ هُوَ فَوْقِي يعني: فِي شَأْنِ الدُّنْيَا، وأوْصَانِي بِحُبِّ المَسَاكِينِ وَالدُّنُوِّ مِنْهُمْ، وَأَوْصَانِي أَنْ أَقُولَ الحَقَّ وَإنْ كَانَ مُرًّا، وَأَوْصَانِي أَنْ أَصِلَ رَحِمِي وَإنْ أَدْبَرَتْ، وَأَوْصَانِي أَلاَّ أَخَافَ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لاَئِمٍ، وَأَوْصَانِي ألاَّ أَسْأَلَ النَّاسَ شَيْئاً، وَأَوْصَانِي أَنْ أسْتَكْثِرَ مِنْ: لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ بِاللَّهِ». انتهى. وقوله سبحانه: {ذلك فَضْلُ الله}: الإشارةُ ب «ذلك» إلى كون القومِ يحبُّون اللَّه عزَّ وجلَّ ويحبُّهم، وَوَاسِع: معناها ذو سَعَةٍ فيما يملكُ ويُعْطِي وينعم به سبحانه. وقوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ...} الآية: «إنما» في هذه الآية حاصرةٌ، وقرأ ابن مسعود: «إنَّمَا مَوْلاَكُمُ اللَّهُ»، والزكاةُ هنا: لفظٌ عامٌّ للزكاةِ المفروضةِ، والتطوُّعِ بالصدَقَةِ، ولكلِّ أفعالِ البِرِّ، إذ هي مُنَمِّيَةٌ للحسنات، مطَهِّرة للمَرْءِ مِنْ دَنَسِ السيِّئات، ثم وصفهم سبحانه بتَكْثير الركُوعِ، وخُصَّ بالذكْر؛ لكونه مِنْ أعظم أركان الصلاة، وهي هيئَةُ تواضعٍ، فعبَّر عن جميعِ الصلاَةِ؛ كما قال سبحانه: {والركع السجود} [الحج: 26] هذا هو الصحيحُ.، وهو تأويل الجمهورِ، ولكن اتفق مع ذلك أنَّ عليَّ بْنَ أبي طالِبٍ (رضي اللَّه عنه) أعطى خاتَمَهُ، وهو راكعٌ. قال السُّدِّيُّ: وإن اتفَقَ ذلك لعليٍّ، فالآية عامَّة في جميعِ المؤمنين. ثم أخبر تعالى: أنَّ مَنْ يتولَّى اللَّه ورسولَهُ والمؤمنين، فإنه غالبٌ كُلَّ مَنْ ناوأه، وجاءَتِ العبارةُ عامَّة في أنَّ حِزْبَ اللَّه هم الغالِبُون، ثم نهى سبحانه المؤمنينَ عنِ اتخاذ الَّذينَ اتخذوا دينَنَا هُزُواً ولعباً، وقد ثبت استهزاء الكُفَّار في قوله سبحانه: {إِنَّا كفيناك المستهزءين} [الحجر: 95] وثبت استهزاء أهْل الكتاب في لفظ هذه الآية، وثبت استهزاءُ المُنَافِقِينَ في قولهم لشياطينهم: {إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ} [البقرة: 14]. ثم أمر سبحانه بتَقْواه، ونبَّه النفوسَ بقوله: {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}. وقوله سبحانه: {وَإِذَا ناديتم إِلَى الصلاة اتخذوها هُزُواً وَلَعِباً...} الآية: إنحاءٌ على اليَهُودِ، وتبيينٌ لسوء فعلهم. وقوله: {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسقون}: معنى المحاورةِ: هَلْ تَنْقِمُونَ منا إلا مجموعَ هذه الحالِ؛ مِنْ أنا مؤمنون، وأنتم فاسقون؛ كما تقول لمن تخاصمه: هل تَنْقِمُ مني إلاَّ أَنْ صَدَقْتُ أَنَا وَكَذَبْتَ أَنْتَ وقال بعضُ المتأوِّلين: {وأنَّ أكثركُمْ}: معطوفٌ علَى {ما}؛ كأَنَّه قال: إِلاَّ أَنْ آمنَّا باللَّهِ وبكُتُبِهِ، وبأنَّ أكثركم فاسقُونَ، وهذا مستقيمُ المعنى، وقال: {أَكْثَرَكُمْ}، من حيث إنَّ فيهم مَنْ آمن؛ كابن سَلاَمٍ وغيرِهِ.
{قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60) وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63)} وقوله سبحانه: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذلك مَثُوبَةً}، يعني: مرجعاً عند اللَّه يوم القيامة؛ ومنه: {وَإِذْ جَعَلْنَا البيت مَثَابَةً لِّلنَّاسِ} [البقرة: 125]، ومشى المفسِّرون في هذه الآية على أنَّ الذين أُمِرَ عليه السلام أنْ يقول لهم: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ} هم اليهودُ والكُفَّار المتَّخِذُون دينَنَا هُزُواً ولعباً؛ قال ذلك الطبريُّ، وتُوبِعَ عليه، ولم يُسْنِدْ في ذلك إلى متقدِّم شيئاً، والآيةُ تحتملُ أنْ يكون القول للمؤمنين، أي: قُلْ يا محمَّد، للمؤمنين: هَلْ أنبئكم بِشَرٍّ مِنْ حال هؤُلاء الفاسِقِينَ في وَقْتِ المَرْجِعَ إلى اللَّهِ؛ أولئك أسلافهم الَّذين لعنهم اللَّه، وغَضِبَ عليهم. وقوله سبحانه: {وَجَعَلَ}، هِيَ بمعنى «صَيَّرَ»، وقد تقدَّم قصص مَسْخِهِمْ قِرَدَةً في «البقرة»، و{عَبَدَ الطاغوت}: تقديره: ومَنْ عبَدَ الطاغوتَ، وقرأ حمزةُ وحده «وعَبُدَ الطَّاغُوتِ» بفتحِ العين، وضمِّ الباءِ، وكسرِ التاء مِنَ الطاغوت؛ وذلك أنَّ «عَبُدَ» لفظُ مبالغةٍ؛ كقَدُسَ. قال الفَخْر: قيل: الطاغوتُ هنا: العِجْلُ، وقيل: الطاغوتُ أحبارهم، وكلُّ من أطاع أحداً في معصية اللَّهِ فقد عبده. انتهى. و {مَكَاناً}: يحتمل أن يريد في الآخرةِ، فالمكان على وجْهه، أي: المحلّ إذْ محلُّهم جهنَّم، ويحتملُ أنْ يريد في الدنيا، فهي استعارةٌ للمكانةِ، والحالةِ. وقوله سبحانه: {وَإِذَا جَاءُوكُمْ} يعني: اليهودَ، وخاصَّة المنافقين منهم؛ قاله ابن عباس وغيره. وقوله: {والله أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ}: أي: من الكُفْر، والرؤيةُ هنا تَحْتملُ أنْ تكون قلبيةً، وأنْ تكون بَصَرِيَّةً، و{فِي الإثم}، أي: موجباتِ الإثمِ، واللامُ في: {لَبِئْسَ}: لام قَسَم. وقوله تعالى: {لَوْلاَ ينهاهم الربانيون والأحبار}: تحضيضٌ في ضمنه توبيخٌ لهم، قال الفَخْر: والمعنى: هَلاَّ ينهاهم. انتهى. قال الطبريُّ: كان العلماءُ يقُولُون: ما في القرآن آيةٌ هي أشَدُّ توبيخاً للعلماءِ من هذه الآية، ولا أخْوَفُ عليهم منْها. وقال الضحَّاك بنُ مُزَاحِمٍ: ما في القُرآنِ آيةٌ أخْوَفُ عندي منها؛ إنَّا لا ننهى؛ وقال نحو هذا ابنُ عَبَّاس. وقوله سبحانه: {عَن قَوْلِهِمُ الإثم}: ظاهره أنَّ الإثم هنا يرادُ به الكُفْر، ويحتمل أن يراد سَائِرُ أقوالهم المُنْكَرَة في النبيِّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وقرأ ابن عباس: «بِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ»؛ بغير لام قَسَم.
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)} وقوله سبحانه وتعالى: {وَقَالَتِ اليهود يَدُ الله...} إلى قوله: {لاَ يُحِبُّ المفسدين}: هذه الآيةُ تعديدُ كبيرةٍ في أقوالهم وكُفْرهم، أي: فَمَنْ يقول هذه العظيمةَ، فلا يُسْتنكَرُ نفاقُهُ وسعْيُهُ في رَدِّ أمر اللَّه تعالى. قال ابن عباس وجماعة: معنى قولهم: التبخيلُ؛ وذلك أنهم لحقَتْهم سَنَةٌ وجَهْدٌ، فقالوا هذه المقالة، يعْنُونَ بها؛ أنَّ اللَّه بَخِلَ عليهم بالرِّزْقِ والتوسعَةِ، تعالَى اللَّه عن قَوْلِهِمْ، وهذا المعنى يشبه ما في قوله تعالى: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ} [الإسراء: 29] فإن المراد: لا تَبْخَلْ؛ ومنه قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ البَخِيلِ وَالمُتَصَدِّقِ...» الحديثَ، وذكر الطبري والنَّقَّاش؛ أن هذه الآية نزلَتْ في فِنْحَاص اليَهُودِيِّ، وأنه قالها. وقوله سبحانه: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ}: خبرٌ يحتملُ في الدنيا، ويحتمل في الآخرة، فإن كان خبراً عن الدنيا، فالمعنى: غُلَّت أيديهم عن الخَيْرِ والإنفاقِ في وجوه البِرِّ ونحوه، وإذا كان خبراً عن الآخرة، فالمعنى: غُلَّتْ في النار، قلْتُ: ويَحْتَمِلُ الأمْرَيْنِ معاً. وقوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ}: العقيدةُ في هذا المعنى: نَفْيُ التشبيه عن اللَّه سبحانه، وأنه ليس بِجِسْمٍ، ولا له جارِحَةٌ، ولا يُشَبَّهُ، ولا يُكَيَّفُ، ولا يَتحيَّز، ولا تَحُلُّهُ الحوادثُ، تعالى عما يقول المبطلون عُلُوًّا كبيراً، قال ابن عبَّاس في هذه الآية: {يَدَاهُ}: نعمتاه، ثم اختلفت عبارة النَّاس في تَعْيِين النعمتَيْن: فقيل: نعمةُ الدنيا، ونعمةُ الآخرةِ، وقيل: النعمة الظاهرة، والنعمة الباطنةُ، والظاهر أن قوله سبحانه: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} عبارةٌ عن إنعامه على الجملة، وعبَّر عنها باليدَيْن؛ جرياً على طريقة العرب في قولهم: فُلاَنٌ يُنْفِقُ بِكِلْتَا يَدَيْهِ؛ ومنه قول الأعشى: [الطويل] يَدَاكَ يَدَا مَجْدٍ فَكَفٌّ مُفِيدَة *** وَكَفٌّ إذَا مَا ضُنَّ بِالمَالِ تُنْفِقُ ويؤيِّد أن اليدَيْن هنا بمعنى الإنعامِ قرينةُ الإنفاق، ثم قال تعالى لنبيِّه عليه السلام: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم}، يعني: اليهودَ {مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ طغيانا وَكُفْراً}، ثم قال سبحانه: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة والبغضاء إلى يَوْمِ القيامة}، العداوة: أخصُّ من البغضاء؛ لأن كلَّ عدوٍّ، فهو يُبْغضُ، وقد يُبْغضُ مَنْ ليس بعدُوٍّ، والبغضاء: قد لا تتجاوَزُ النفوسَ، وقد ألقى اللَّه سبحانه الأمرَيْن على بني إسرائيل. قال الفَخْر: وقد أوقع اللَّه بَيْنَ فِرَقِهِمْ الخصومةَ الشَّديدة، وانتهى أمرهم إلى أنْ يُكَفِّرَ بعضهم بعضاً، وفي قوله: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة...}: قولان: أحدهما: أن المراد ما بَيْن اليهودِ والنصارى من العداوةِ؛ لأنه جرى ذكْرُهُمْ في قوله: {لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَاء} [المائدة: 51]، وهذا قول الحسنِ ومُجَاهد. والثاني: ما وقع من العداوة بين فِرَقِ اليهود، فإنَّ بعضهم جبريَّةٌ وبعضهم قَدَرية، وبعضهم مُوَحِّدة، وبعضهم مُشَبِّهة، وكذلك بَيْن فرقِ النصارى؛ كالمَلْكَانِيَّة، والنُّسْطُورِيَّة، واليَعْقُوبيَّة. انتهى. وقوله سبحانه: {كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله}: استعارة بليغةٌ، قال مجاهد: معنى الآيةِ: كلَّما أوقدوا ناراً لحَرْبِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، أطفأها اللَّه، فالآيةُ بشارةٌ لنبيِّنا محمد عليه السلام وللمؤمنين، وباقي الآية بيِّن.
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)} وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الكتاب ءَامَنُواْ...} الآية: هذه الآية تحتملُ أنْ يراد بها معاصروا النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وتحتملُ أنْ يراد بها الأسلافُ، والمعاصِرُونَ. وقوله سبحانه: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة}، أي: أظهروا أحْكَامها، فهي كإقامةِ السُّوق، وإقامةِ الصَّلاةِ. وقوله سبحانه: {والإنجيل}: يقتضي دخُولَ النصارى في لفظُ أهْلِ الكتابِ؛ في هذه الآية، قلْتُ: وقال مكِّيٌّ: معنى: {أَقَامُواْ التوراة والإنجيل}: أيْ: عملوا بما فيهما، وأقروا بصفة النبيِّ صلى الله عليه وسلم وبنبوَّته. انتهى من «الهداية». وقوله: {وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِمْ مّن رَّبِّهِمْ}: معناه: مِنْ وحْيٍ وسُنَنٍ على ألْسِنَةِ الأنبياء عليهم السلام، واختُلِفَ في معنى: {مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم}، فقال ابن عباس وغيره: المعنى: لأعطتهم السماءُ مطَرها، والأرض نباتَهَا بفَضْلِ اللَّه تعالى، وقال الطبريُّ وغيره: إن الكلام استعارة ومبالغةٌ في التوسِعَةِ؛ كما يقالِ: فُلاَنٌ قد عمَّهُ الخَيْرُ مِنْ قَرْنِهِ إلى قَدَمِهِ. وقوله سبحانه: {مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ}: معناه: معتدِلَةٌ، والقَصْد والاقتصاد: الاعتدال والرفْقُ والتوسُّط الحَسَن في الأقوال والأفعال، قال ابنُ زَيْد: وهؤلاءِ هُمْ أهْل طاعَةِ اللَّه من أهْل الكتاب. قال * ع *: وهذا هو الراجِحُ.
{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68)} وقوله سبحانه: {ياأيها الرسول بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ...} الآية: هذه الآية أمْرٌ مِنَ اللَّه تعالى لنبيِّه عليه السلام بالتبليغِ على الاستيفاء والكمالِ؛ لأنه قد كان بَلَّغ صلى الله عليه وسلم، وإنما أُمِرَ في هذه الآيةِ بِأَلاَّ يتوقَّفَ عن شَيْء مخافةَ أحَدٍ؛ وذلك أنَّ رسالته عليه السلام تضمَّنت الطَّعْنَ على أنواع الكَفَرة، وبيانَ فسادِ حالِهِم، فكان يلقى منهم صلى الله عليه وسلم عَنَتاً، وربَّما خافهم أحياناً قبل نزول هذه الآية، فقال الله تعالى له: {بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ}، أيْ: كاملاً، {والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس}، قالتْ عائشةُ أمُّ المؤمنين (رضي اللَّه عنها): «مَنْ زَعَمَ أنَّ محمداً كَتَمَ شيئاً مِنَ الوَحْيِ، فقد أَعْظَم الفريةَ، واللَّه تعالى يقولُ: {ياأيها الرسول بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ...} الآية»، وقال عبدُ اللَّهِ بنُ شَقِيقٍ: كان رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يتعقبه أصحابُهُ يحْرُسُونه، فلما نزلَتْ: {والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس}، خرَجَ، فقَالَ: " يَا أَيُّها النَّاسُ، الحقوا بِمَلاَحِقِكُمْ؛ فَإنَّ اللَّهَ قَدْ عَصَمَنِي "، قلْتُ: وخرَّج الترمذيُّ هذا الحديثَ أيضاً من طريق عائشة، وكما وجَبَ عليه التبليغُ عليه السلام، وجب على علماءِ أمته، وقد قال عليه السلام: " بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَة "، وعن زيدِ بنِ ثابتٍ (رضي اللَّه عنه) قَالَ: سَمِعْتُ رسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " نَضَّرَ اللَّهُ امرأ سَمِعَ مِنَّا حَدِيثاً، فَحَفِظَهُ حتى يُبَلِّغَهُ؛ فَرُبَّ حَامِلٍ فِقْهٍ إلى مَنْ لَيْسَ بِفَقِيةٍ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ "، رواه أبو داود، واللفظ له، والترمذيُّ والنسائي وابنُ ماجة، وابن حِبَّانَ في «صحيحِهِ»، وقال التِّرمذيُّ: هذا حديثٌ حسنٌ، ورواه مِنْ حديث ابن مسعود، وقال: حسنٌ صحيحٌ. انتهى من «السلاح». وقال محمد بن كَعْبٍ القُرَظِيُّ: نزِلَتْ هذه الآيةُ بسبب الأعرابيِّ الذي اخترط سيْفَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ ليقتُلَهُ به. قال ابنُ العربيِّ: قوله تعالى: {والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس}: معناه: يَجْعَلْ بينَكَ وبينهم حجاباً يمنع من وصُولِ مكروههم إلَيْك؛ كَعِصَامِ الْقِرْبَةِ الذي يَمْنَعُ سَيَلاَنَ الماءِ منها، ولعلمائنا في الآية تأويلاتٌ. أصحها: أنَّ العصمة عامَّة في كلِّ مكروهٍ، وأنَّ الآية نزلَتْ بعد أنْ شُجَّ وجهه، وكُسِرَتْ ربَاعِيَتُهُ صلى الله عليه وسلم. وقيل: إنه أراد مِنَ القتل خاصَّة، والأول أصحُّ، وقد كان صلى الله عليه وسلم أُوتِيَ بَعْضَ هذه العَصْمَةِ بمكَّة في قوله تعالى: {إِنَّا كفيناك المستهزءين} [الحجر: 95] ثم كمُلَتْ له العصْمَةُ بالمدينةِ، فعُصِمَ من النَّاس كلِّهم. انتهى من كتابه في تفسير أفعال اللَّه الواقعة في القرآن. ثم أمر تعالى نبيَّه عليه السلام؛ أنْ يقولَ لأهْل الكتابِ الحاضِرِينَ معه: {لَسْتُمْ على شَيْء}، أيْ: على شيءٍ مستقيمٍ؛ {حتى تُقِيمُواْ التوراة والإنجيل}، وفي إقامتهما الإيمانُ بنبيِّنا محمَّد عليه السلام، قلْتُ: وهذه الآية عنْدِي مِنْ أَخْوَفِ آية في القرآنِ؛ كما أشار إلى ذلك سفيانُ، فتأمَّلها حقَّ التأمُّل. وقوله سبحانه: {وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مّن رَّبِّكُمْ} يعني به القرآن.
{إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69) لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70)} وقوله تعالى: {إِنَّ الذين ءَامَنُواْ والذين هَادُواْ والصابئون والنصارى مَنْ ءَامَنَ بالله واليوم الأخر وعَمِلَ صالحا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}: الذين آمنوا: لفظٌ عامٌّ لكلِّ مؤمنٍ من مِلَّةِ نبيِّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم ومِنْ غَيْرها من المِلَلِ، فكأنَّ ألفاظ الآية حُصِرَ بها الناسُ كلُّهم، وبُيِّنَتِ الطوائفُ على اختلافها، وهذا هو تأويلُ الجمهور، وقد مَضَى الكلامُ في «سورة البقرة»، فراجعْهُ هناك، وقرأ الجمهورُ: «وَالصَّابِئُونَ»، وقرئ خارجَ السبعة: «والصَّابِئِينَ»، وهي بيِّنة الإعراب، وأما على قراءة الجمهورِ، فاختلف في إعرابها، ومَذْهَبُ سبيَوَيْهِ، والخَلِيلِ، ونُحَاةِ البَصْرة: أنه من المقدَّم الذي معناه التأْخِيرُ، كأنَّه قال: إنَّ الذين آمنوا والذين هَادُوا، مَنْ آمَنَ باللَّه واليومِ الآخِرِ وعَمِلَ صالحاً، فلا خَوْفٌ عليهم ولا هم يحزنُونَ، والصَّابِئُونَ والنصارى كذلك. قال * ص *: ووجه ثانٍ أنَّ خبر «إنَّ» محذوفٌ، أي: إنَّ الذين آمنوا لهم أجْرُهُمْ، وخبر «الصَّابئين»: {مَنْ ءَامَنَ} وما بعده، قال ابنُ عُصْفُورٍ؛ وهو حَسَنٌ جدًّا؛ إذ ليس فيه أكثر من حَذْفِ خبرِ «إنَّ»؛ للفهم، وهو جائزٌ في فصيحِ الكلامِ. انتهى. قلتُ: قال ابْنُ مالكٍ: وهو أسهلُ من التقديمِ والتأخيرِ، وقيل: إن الصابِئين في موضِعِ نَصْبٍ، ولكنه جاء على لغة بَلْحَارِثِ الذين يَجْعَلُونَ التثنيةَ بالأَلِفِ على كل حال، والجَمْعَ بالواو على كُلِّ حال؛ قاله أبو البقاء، وقيل غير هذا.
{وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ ُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآَيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)} وقوله سبحانه: {وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ}: المعنى في هذه الآيةِ: وظَنَّ هؤلاءِ الكفرةُ باللَّه، والعصاةُ مِنْ بني إسرائيل ألاَّ يكونَ مِنَ اللَّه ابتلاءٌ لهُمْ وأخذ في الدنيا، فلَجُّوا في شهواتهم، وعَمُوا فيها، إذْ لم يُبْصِرُوا الحقَّ، وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم: " حُبُّكَ الشَّيْءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ " وقوله سبحانه: {ثُمَّ تَابَ الله عَلَيْهِمْ}، قالتْ جماعة من المفسِّرين: هذه التوبةُ هِيَ رَدُّهم إلى بَيْتِ المَقْدِس بعد الإخراج الأول، ورَدُّ مُلْكِهِمْ وحَالِهِم، ثم عَمُوا وصَمُّوا بعد ذلك؛ حتى أُخْرِجُوا الخرجةَ الثانيةَ، ولم ينجبرُوا أبداً، ومعنى: {تَابَ الله عَلَيْهِمْ}؛ أي: رجَعَ بهم إلى الطاعةِ والحقِّ، ومِنْ فصاحة القُرآن: استناد هذا الفعْلِ الشريفِ إلى اللَّه تعالى، واستناد العمى وَالصَّمَمَ اللَّذَيْن هما عبارةٌ عن الضَّلال؛ إليهم، ثم أخبر تعالى إخباراً مؤكَّداً بلام القَسَمِ عن كُفْر القائلين: {إِنَّ الله هُوَ المسيح ابن مَرْيَمَ} وهذا قولُ اليَعْقُوبِيَّةِ من النصارى، ثم أخبر تعالى عن قول المسيحِ لهم، فقال: {وَقَالَ المسيح يابني إسراءيل اعبدوا الله رَبِّي وَرَبَّكُمْ...} الآية: فضَلُّوا هم، وكفروا؛ بسَبَب ما رأَوْا على يديه من الآيات. وقوله تعالى: {وَمَا للظالمين مِنْ أَنصَارٍ}، يحتملُ أنْ يكون مِنْ قولِ عيسى عليه السلام لبني إسرائيل، ويحتمل أنْ يكون إخباراً من اللَّه سبحانه لنبيِّه محمد عليه السلام. وقوله تعالى: {لَّقَدْ كَفَرَ الذين قَالُواْ إِنَّ الله ثالث ثلاثة وَمَا مِنْ إله إِلاَّ إله واحد...} الآية: إخبارٌ مؤكِّد؛ كالذي قبله، عن هذه الطائفة النَّاطقة بالتثليث، وهم فِرَقٌ، منهم النُّسْطُورِيَّة وغيرهم، ولا معنى لذكْر أقوالهم في كُتُب التَّفْسِير. وقوله سبحانه: {ثالث ثلاثة}: لا يَجوزُ فيه إلاَّ الإضافةُ، وخفض «ثلاثة»؛ لأن المعنى أحدُ ثلاثةٍ، فإنْ قلت: زَيْدٌ ثَالِثُ اثنين، أَوْ رَابِعُ ثَلاَثَةٍ، جاز لك أنْ تضيفَ؛ كما تقدَّم، وجاز ألاَّ تضيفَ، وتَنْصِب «ثَلاَثة»؛ على معنى: زَيْدٌ يربِّع ثلاثةً. وقوله سبحانه: {وَمَا مِنْ إله إِلاَّ إله واحد...} الآية: خَبَرٌ صادِعٌ بالحَقِّ، وهو سبحانه الخالِقُ المُبْدِعُ المتَّصِفُ بالصفات العُلاَ، سبحانه وتعالى عَمَّا يقول الظالمون علوًّا كبيراً، ثم توعَّدهم، إنْ لم ينتهوا عما يقولُونَ، ثم رَفَق جلَّ وعلا بهم؛ بتحضيضه إيَّاهم على التوبة، وطَلَبِ المَغْفرة، ثم وصَفَ نفسه سبحانه بالغُفْرَانِ والرَّحْمة؛ استجلابا للتائِبِينَ وتَأْنيساً لهم؛ ليكونوا على ثِقَةٍ من الانتفاعِ بتوبتهم. قال * ص *: {لَيَمَسَّنَّ}: اللامُ فيه جوابُ قَسَمٍ محذوفٍ قبل أداة الشرطِ. انتهى. وقوله تعالى: {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ}: بناءُ مبالغةٍ مِنَ الصِّدْقِ، ويحتملُ من التَّصْديق؛ وبه سُمِّيَ أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ (رضي اللَّه عنه)؛ وهذه الصفةُ لمريم تدفع قولَ مَنْ قال: إنها نَبِيَّةٌ. وقوله سبحانه: {كَانَا يَأْكُلاَنِ الطعام}: تنبيهٌ على نقص البشريَّة، وعلى حالٍ مِنَ الاحتياجِ إلى الغذاءِ تنتفِي معها الألوهيَّةُ، و{يُؤْفَكُونَ}: معناه: يُصْرَفُونَ؛ ومنه قوله عز وجل: {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} [الذاريات: 9]، والأرْضُ المأْفُوكَةُ الَّتِي صُرِفَتْ عن أن ينالها المَطَرُ، والمَطَرُ في الحقيقةِ هو المَصْرُوفُ، ولكنْ قيل: أرضٌ مأفوكةٌ؛ لما كانَتْ مأفوكاً عنها.
{قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)} وقوله تعالى: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً والله هُوَ السميع العليم...} الآية: الضَّرُّ بفتح الضاد: المصدَرُ، وبضمها الاِسم، وهو عدَمُ الخَيْرِ، و{السميع}؛ لأقوالهم {والعليم} بنيَّاتهم، والغُلُوُّ: تجاوُزُ الحدِّ؛ من غَلاَ السَّهْمُ؛ إذا تجاوَزَ الغَرَضَ المقصُودَ، وتلك المسافَةُ هي غَلْوَتُهُ، وهذه المخاطَبَةُ هي للنصارَى الذي غَلَوْا في عيسى، والقوم الذين نُهِيَ النصارى عن اتباع أهوائهم هو بَنُو إسرائيل، ووَصَف تعالى اليهودَ؛ بأنهم ضَلُّوا قديماً، وأضلوا كثيراً من أتباعهم، ثم أكَّد الأمر بتَكْرار قوله تعالى: {كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السبيل}.
{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)} وقوله تعالى: {لُعِنَ الذين كَفَرُواْ مِن بَنِي إسراءيل...} الآية: قال ابنُ عباس (رضي اللَّه عنه): لُعِنُوا بكلِّ لسانٍ؛ لُعِنُوا في التوراةِ، وفي الزَّبُورِ، والإنجيلِ، والفُرْقَانِ. وقوله سبحانه: {كَانُواْ لاَ يتناهون عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ...} الآية: ذَمَّ اللَّه سبحانه هذه الفِرْقَةَ الملْعُونَةَ؛ بأنهم كانوا لا يَتَنَاهَوْن عن منكرٍ فعلوه، أي: أنهم كانوا يتجاهَرُونَ بالمعاصِي، وإنْ نهى منهم ناهٍ، ولم يمتنعْ عن مواصلةِ العاصِي، ومؤاكلتِهِ، وخُلْطَتِهِ؛ ورَوَى ابن مسعود، قال: قَالَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إنَّ الرَّجُلَ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ كَانَ، إذَا رأى أَخَاهُ على ذَنْبٍ، نَهَاهُ عَنْهُ؛ تَعْذِيراً، فَإذَا كَانَ مِنَ الغَدِ، لَم يَمْنَعْهُ مَا رأى مِنْهُ؛ أَنْ يَكُونَ أَكِيلَهُ أَوْ خَلِيطَهُ، فَلَمَّا رَأَى اللَّهُ تعالى ذَلِكَ مِنْهُمْ، ضَرَبَ بِقُلُوبِ بَعْضِهِمْ على بَعْضٍ، وَلَعَنَهُمْ على لِسَانِ نَبِيِّهِمْ دَاوُدَ وعيسى "، قال ابنُ مسعود: وكانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُتَّكِئاً فَجَلَسَ، وَقَالَ: " لاَ، وَاللَّهِ حتى تَأْخُذُوا على يَدِ الظَّالِمِ، فَتَأطُرُوهُ عَلَى الحَقِّ أَطْراً "، والإجماعُ على أن النهْيَ عن المنْكَرِ واجبٌ لمن أطاقه، ونهى بمعروفِ، أي: برفْقٍ، وقَوْلٍ معروفٍ، وأمْنِ الضرر عليه، وعلى المؤمنين، فإن تعذَّر على أحَدٍ النَّهْيُ؛ لشيءٍ من هذه الوجوه، ففَرْضٌ عليه الإنكارُ بقلبه، وألاَّ يخالِطَ ذا المُنْكَرِ، وقال حُذَّاق أهْل العِلْم: لَيْسَ مِنْ شروط الناهِي أنْ يكون سليماً من المَعْصية، بل ينهَى العُصَاةُ بعضُهم بعضاً. وقوله سبحانه: {لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}: اللامُ لامُ قسَمٍ، وروى أبو داود عن أبي سعيدٍ الخدريِّ، قال: قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " أَفْضَلُ الجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ "، أو قَالَ: " كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ أوْ أَمِيرٍ جَائِرٍ " انتهى. وقوله تعالى لنبيِّه محمَّد عليه السلام: {ترى كَثِيراً} يحتمل أن تكون رؤيةَ عَيْن؛ فلا يريد إلاَّ معاصريه، ويحتمل أنْ تكونَ رُؤْيَة قَلْب؛ وعلى هذا، فيحتمل أن يريد المعاصِرَين له، ويحتمل أن يُرِيدَ أسلافَهُم، و{الذين كَفَرُواْ}: عبدة الأوْثَان. وقوله سبحانه: {لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ...}، أي: قدَّمته للآخرة، واجترحته، ثم فسَّر ذلك قولُه تعالى: {أَن سَخِطَ الله عَلَيْهِمْ}؛ ف {أَن سَخِطَ}: في موضع رَفْعٍ بدَلٍ من {مَا}، ويتحمل أن يكون التقدير: هو أنْ سَخِطَ اللَّه عليهم. وقوله تعالى: {والنَّبِيِّ} إنْ كان المرادُ الأَسْلاَفَ، فالنبيُّ: داودُ وعيسى، وإنْ كان المرادُ معاصِرِي نبيِّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم، فالمراد ب «النبي» هو صلى الله عليه وسلم. وذهب بعضُ المفسِّرين إلى أنَّ قوله سبحانه: {ترى كَثِيراً مِّنْهُمْ} كلامٌ منقطعٌ من ذكر بني إسرائيل، وأنه يعني به المنافقين؛ ونحوه لمجاهد.
{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86)} وقوله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ الناس عَدَاوَةً لّلَّذِينَ ءَامَنُواْ اليهود والذين أَشْرَكُواْ...} الآية: اللامُ في قوله: {لَتَجِدَنَّ}: لام ابتداءٍ، وقال الزَّجَّاج: هي لامُ قَسَمٍ، وهذا خبر مُطْلَقٌ منسحبٌ على الزمان كلِّه، وهكذا هو الأمر حتَّى الآن، وذلك أن اليهودَ مَرَنُوا على تكذيبِ الأنبياء وقَتْلِهِمْ، ومَرَدُوا على استشعار اللعْنَةِ، وضَرْبِ الذِّلَّة والمَسْكنة، فهم قد لَجَّتْ عداوتهم، وكَثُر حَسَدهم، فهم أشدُّ الناسِ عداوةً للمؤمنين؛ وكذلك المشركون عبدةُ الأوثانِ والنِّيران، وأما النصارى، فإنهم يعظمون من أهْلِ الإسلام مَنِ استشعروا مِنه صِحَّة دِينٍ، ويستهينُونَ مَنْ فهموا منه الفِسْقَ، فهم إنْ حاربوا، فإنما حَرْبهم أَنَفَةٌ، لا أنَّ شرعهم يأخذهم بذلك، وإذا سالموا، فَسِلْمُهم صافٍ، واليهودُ (لعنهم اللَّه) ليسوا على شيء من هذه الخِلالِ، بل شأنهم الخُبْث، واللَّيُّ بالألسنة، والمَكْر، والغَدْر، ولم يصفِ اللَّه تعالَى النصارى بأنهم أهْلُ وُدٍّ، وإنما وصفهم بأنهم أقرَبُ من اليهود والمشركين، وفي قوله سبحانه: {الذين قَالُواْ إِنَّا نصارى}: إشارةٌ إلى معاصري نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم من النصارى؛ بأنهم ليسوا على حقيقيَّة النصرانيَّة، وإنما هو قولٌ منهم، وزَعْم. وقوله تعالى: {ذلك بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً...} الآية: معناه: ذلك بأن منهم أهْلَ خشْيَةٍ وانقطاع إلى اللَّه تعالى، وعبادةٍ، وإنْ لم يكونوا على هُدًى، فهم يَميلُونَ إلى أهل العبادةِ والخَشْيَةِ، وليس عند اليهود ولا كان قَطُّ أهْلُ دياراتٍ وصوامِعَ وانقطاعٍ عن الدنيا، بل هم معظِّمون لها، متطاولُون في البنيان، وأمورِ الدنيا؛ حتى كأنهم لا يؤمنون بالآخرة؛ فلذلك لا يرى فيهم زاهد، قال الفَخْر: القُسُّ والْقِسِّيسُ: اسمُ رئيس النصارى، والجمْعُ: قِسِّيسُونَ، وقال قُطْرُب: القُسُّ والقِسِّيس: العَالِمُ؛ بلغة الرُّوم، وهذا مما وقع الوِفَاقُ فيه بَيْن اللغتَيْنِ. انتهى. ووصف اللَّه سبحانه النصارى، بأنهم لا يستكبرون، وهذا موجودٌ فيهم حتى الآن، واليهوديُّ متى وجد عِزًّا، طغى وتكبَّر، ثم مدحهم سبحانه، فقال: {وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرسول تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع...} الآية: قال النوويُّ: ينبغي للقارئ أن يكون شأنُهُ الخشوعَ والتدبُّر والخضوعَ؛ فهذا هو المقصود المطلوبُ، وبه تنشرح الصدورُ، وتستنيرُ القُلُوب، ودلائلُه أكْثَرُ من أنْ تُحْصَر، وأشهرُ من أنْ تُذْكَر، وقد بات جماعةٌ من السَّلَف يتلو الواحدُ منهم آيةً واحدةً، ليلةً كاملةً، أو معظمَ ليلةٍ يتدَبَّرها، وصُعِقَ جماعاتٌ منهم عند سماع القرآن، وقراءتِهِ، وماتَ جماعاتٌ منهم، ويستحب البكاءُ والتباكِي لِمَنْ لا يقدر على البكاء؛ فإن البكاء عند القراءة صفةُ العارفين، وشعارُ عُبَّادِ اللَّه الصَّالحين، قال اللَّه عزَّ وجلَّ: {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} [الإسراء: 109] وقد وردَتْ آثار كثيرة في ذلك. انتهى من «الحلية» للنوويِّ. وذكر ابن عباس وابن جُبَيْر ومجاهد؛ أنَّ هذه الآية نزلَتْ بسبب وَفْدٍ بعثهم النجاشيُّ إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ لِيَرَوْهُ ويَعْرِفُوا حالَهُ، فقرأ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عليهم القُرآن، فَبَكَوْا وآمَنُوا، ورَجعُوا إلى النجاشيِّ، فآمن، ولم يَزَلْ مؤمناً حتى ماتَ، فصلى عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وروي أنَّ نَعْشَ النجاشيِّ كُشِفَ للنبيِّ عليه السلام؛ فكان يراه مِنْ موضعه بالمدينةِ؛ وجاء الخَبَرُ بعد مدة أنَّ النجاشيَّ دُفِنَ في اليومِ الذي صلى فيه النبيُّ صلى الله عليه وسلم عليه، قال أبو صالح: كانوا سبعةً وستين رجلاً، وقال ابن جُبَيْرٍ: كانوا سبعين، عليهم ثيابُ الصُّوف، وكُلُّهم صاحبُ صَوْمَعَة؛ اختارهم النجاشيُّ. وصَدْرُ الآية في قُرْب المودَّة عامٌّ فيهم، ولا يتوجَّه أنْ يكون صَدْر الآية خاصًّا فيمن آمن، وإنما وقع التخصيص مِنْ قوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُواْ}، وجاء الضمير عامًّا؛ إذ قد تُحْمَدُ الجماعةُ بفعْلِ واحدٍ منهم، وفي هذا استدعاء للنصارى، ولُطْفٌ من اللَّه بهم؛ ليؤمنوا. قال * ص *: {مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق}: «مِن» الأولى لابتداءِ الغاية. قال أبو البقاء: ومعناها: مِنْ أجْل الذي عَرَفُوا، و«من» الثانية لبيانِ «ما» الموصولة. انتهى. قال العراقيُّ: {تَفِيضُ}، أي: تسيل منها العَبْرَةُ، وفي الحديثِ: " اقرءوا القُرْآنَ، وابكوا، فَإنْ لَمْ تَبْكُوا، فَتَبَاكَوْا "، خرَّجه البزِّار. انتهى من «الكوكب الدري»، وفيه عن البزَّار أيضاً؛ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: " مَنْ خَرَجَ مِنْ عَيْنَيْهِ مِثْلُ جَنَاحِ ذُبَابٍ دُمُوعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، لَمْ يَدْخُلِ النَّارَ حتى يَعُودَ اللَّبَنُ فِي ضَرْعِهِ " انتهى. وقولهم: {مَعَ الشاهدين}، يعني: نبيِّنا محمَّداً صلى الله عليه وسلم، وأمته؛ قاله ابن عباس وغيره، وقال الطبريُّ: لو قال قائلٌ: معنى ذلك: «مع الشاهِدينَ بتَوْحيدك من جميع العَالَمِ»، لكان صواباً، وهو كلامٌ صحيحٌ؛ وكأن ابنَ عَبَّاس خصَّص أمة محمد؛ لقول اللَّه سبحانه: {وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطاً...} [البقرة: 143]، وقولهم: {وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بالله وَمَا جَاءنَا مِنَ الحق}: توقيفٌ لأنفسهم أو مُحَاجَّةٌ لِمَنْ عارضهم من الكفار، والقومُ الصالِحُون: محمَّد صلى الله عليه وسلم، وأصحابه؛ قاله ابن زيد وغيره من المفسِّرين، ثم ذكر تعالى ما أثابهم به مِنَ النعيم على إيمانهم وإحسانهم، ثم ذكر سبحانه حَالَ الكَافرين المكذِّبين، وأنهم قرناء الجحيمِ.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)} وقوله تعالى: {ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طيبات مَا أَحَلَّ الله لَكُمْ...} الآية: قال ابن عباس وغيره نزلَتْ بسبب جماعةٍ من أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم بلغَتْ منهم المواعظ، وخوفُ اللَّه تعالى إلى أنْ حرَّم بعضهم النساء، وبعضُهم النوْمَ بالليلِ، والطِّيبَ، وهَمَّ بعضهم بالاختصاءِ، فبلَغَ ذلك النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: " أَمَّا أنَا فَأَقُومُ وَأَنَامُ، وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، وآتِي النِّسَاءَ، وَأَنَالُ الطِّيبَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي، فَلَيْسَ مِنِّي "، قال الطبريُّ: كان فيما يتلى: «مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِكَ، فَلَيْسَ مِنْ أُمَّتِكَ، وَقَدْ ضَلَّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ»، والطيباتُ في هذه الآية: المستلَذَّات؛ بدليل إضافتها إلى ما أحلَّ اللَّه؛ وبقرينة ما ذُكِرَ من سبب الآية. وقوله سبحانه: {وَلاَ تَعْتَدُواْ}، قال عكرمة وغيره: معناه: في تحريم ما أحلَّ اللَّه، وقال الحسنُ بنُ أبي الحَسَنِ: المعنى: ولا تعتدُوا، فَتُحِلُّوا ما حرَّم اللَّه، فالنهْيَان على هذا تضمَّنا الطرفَيْن؛ كأنه قال: لا تشدِّدوا؛ فتحرِّموا حلالاً، ولا تترخَّصوا؛ فتحلُّوا حراماً، قلتُ: وروى مالكٌ في «الموطإ»، عن أبي النَّضْر، قال: قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لَمَّا ماتَ عثمانُ بْنُ مظعونٍ، ومُرَّ بجَنَازَتِهِ: " ذَهَبْتَ، وَلَمْ تَلْتَبِسْ مِنْهَا بِشَيْءٍ ". قال أبو عمر في «التمهيد»: هذا الحديثُ في «الموطإ» مقطوعٌ، وقد رُوِّينَاه متصلاً مُسْنَداً من وجه صالحٍ حسن، ثم أسند أبو عمر عن عائشةَ، قالَتْ: " لمَّا ماتَ عُثْمَانُ بنُ مظعونٍ، كشف النبيُّ صلى الله عليه وسلم الثَّوْبَ عن وجْهِهِ، وَقَبَّلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وبكى بُكَاءً طويلاً، فلما رُفِعَ عَلَى السَّرِيرِ، قَالَ: طوبى لَكَ يَا عُثْمَان لَمْ تَلْبَسْكَ الدُّنْيَا وَلَمْ تَلْبَسْهَا ". قال أبو عمر: كان عثمانُ بنُ مظعونٍ أحد الفُضَلاء العُبَّاد الزاهدين في الدنْيَا من أصْحَاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المتبتِّلين منهم، وقد كان هو وعليُّ بن أبي طالب هَمَّا أنْ يترهَّبا ويَتْرُكَا النساء، ويُقْبِلا على العبادة، ويحرِّما طيِّباتِ الطعامِ على أنفسهما، فنزلَتْ: {ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طيبات مَا أَحَلَّ الله لَكُمْ...} الآية. ونقل هذا مَعْمَرٌ وغيره عن قتادة. انتهى. وقوله سبحانه: {ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان}: معناه: شدَّدتم، وعَقْدُ اليمينِ كَعَقْدِ الحبل والعهدِ؛ قال الحطيئة: [البسيط] قَوْمٌ إذَا عَقَدُوا عَقْداً لِجَارِهِمُ *** شَدُّوا الْعِنَاجَ وَشَدُّوا فَوْقَهُ الْكَرَبَا قال الفَخْر: وأما وجه المناسبة بَيْنَ هذه الآية والَّتي قبلها، فهو ما تقدَّم مِنْ أنَّ قوماً من الصحابة (رضي اللَّه عنهم) حَرَّموا على أنفسهم المطاعِمَ والمَلاَذَّ، وحلفوا على ذلك، فلمَّا نهاهم اللَّه تعالى عن ذلك، قالوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فكيف نصنع بأَيْمَانِنَا؟ فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية. انتهى. وقوله سبحانه: {فكفارته إِطْعَامُ عَشَرَةِ مساكين}، أي: إشباعهم مرةً واحدةً، وحكم هؤلاءِ ألاَّ يتكرَّر واحدٌ منهم في كفَّارة يمينٍ واحدةً. واختلفَ في معنى قوله سبحانه: {مِنْ أَوْسَطِ}، فرأى مالك وجماعةٌ معه هذا التوسُّط في القَدْر، ورأى ذلك جماعةٌ في الصِّنْف، والوَجْهُ أن يُعَمَّ بلفظ «الوسَطِ» القَدْرُ والصِّنْفُ، فرأى مالكٌ أنْ يُطْعَمَ المسكينُ ب «المدينة» مُدًّا بمُدِّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وذلك رِطْلٌ وثُلُثٌ، وهذا لضيقِ المعيشة بالمدينة، ورأى في غيرها أنْ يتوسَّع، ورأى من يقول: إنَّ التوسُّط إنما هو في الصِّنْف أنْ يكون الرجُلُ المكفِّر يتجنب أدنى ما يأكل الناس في البلد، وينحطُّ عن الأعلى، ويكفِّرُ بالوَسَط من ذلك، ومذهب «المدونة»؛ أنْ يراعي المكفِّر عيش البلد، وتأويلُ العلماء في الحانث في اليمين باللَّه: أنه مخيَّر في الإطعام، أو الكُسْوة، أو العِتْق، والعلماءُ على أنَّ العتق أفضلُ ذلك، ثم الكسوة، ثم الإطعام، وبدأ اللَّه تعالى عباده بالأيسر، فالأيسر، قال الفَخْر: وبدأ سبحانه بالإطعام؛ لأنه أعمُّ وجوداً، والمقصودُ منه التنبيهُ على أنه سبحانه يُرَاعِي التخفيفَ، والتسهيلَ في التكاليفِ، وثانيها: أنَّ الإطعام أفضلُ، قلتُ: وهذا هو مشهورُ مذهب مالكٍ. انتهى، ويجزئ عند مالكٍ من الكُسْوَة في الكفارة ما يجزئ في الصَّلاة. وقوله سبحانه: {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}، أيْ: مؤمنة؛ قاله مالك وجماعةٌ؛ لأن هذا المطْلَق راجعٌ إلى المقيدِ في عِتْقِ الرقبة في قَتْل الخطإ. وقوله سبحانه: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ}: معناه: لم يجدْ في ملكه أحد هذه الثلاث المذكورة. واختلفَ العلماءُ في حدِّ هذا العادِمِ، ومتى يصحُّ له الصيام؛ فقال الشافعيُّ ومالكٌ وجماعة من العلماء: إذا كان المكفِّر لا يملك إلاَّ قوته، وقُوتَ عياله، يَوْمَهُ وليلته، فله أنْ يصوم، فإن كان عنده زائدٌ على ذلك مَا يُطْعِم عشرةَ مساكينَ، لزمه الإطعام، قال الطبريُّ: وقال آخرون: جائز لِمَنْ لم يكُنْ له فضْلٌ على رأس ماله الذي يتصرَّف به في معايشه؛ أنْ يصوم، وقرأ أبيُّ بن كعبٍ، وابن مسعود: «ثلاثة أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ»، وقال بذلك جماعة. وقال مالك وغيره: إن تابع، فحَسَنٌ، وإن فرق، أجزأ، وقوله: {إِذَا حَلَفْتُمْ}، معناه: وأردتم الحِنْثَ، أو وَقَعْتُمْ فيه.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92)} وقوله تعالى: {ياأيها الذين ءَامَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ...} الآية: قال * ع *: وفي معنى الأزلام: الزَّجْرُ بالطيرِ، وأخْذُ الفألِ في الكتب ونحوه ممَّا يصنعه الناسُ، وأخبر سبحانه أنَّ هذه الأشياء رجْسٌ، قال ابن عباس في هذه الآية: رِجْسٌ: سَخَطَ، وقال ابن زَيْدٍ: الرجْسُ الشرُّ. قال * ع *: الرِّجْس: كلُّ مكروهٍ ذميمٍ، وقد يقال للعذابِ والرجْزِ: العذابُ لا غَيْر، والرِّكْس: العَذِرَةُ لا غَيْر، والرِّجْسُ يقال للأمرين. وقوله سبحانه: {فاجتنبوه}: أمر باجتنابه، فحرمت الخمر؛ بظاهر القرآن، ونصِّ الأحاديث، وإجماع الأمة، وأمْرُ الخمر إنما كان بتدريجٍ ونوازلَ كثيرةٍ؛ كقصَّة حمزة، حين جَبَّ الأسْنِمَة، وقولِهِ: وهل أنتم إلا عبيدُ أبِي، ثم أعلم سبحانه عباده أنَّ الشيطان إنَّمَا يريد أنْ تقع العداوةُ بسَبَبِ الخَمْر، وما يعتري عليها بَيْنَ المؤمنينِ، وبسبب المَيْسر؛ إذ كانوا يتقَامَرُونَ عَلَى الأموال؛ حتى رُبَّما بَقِيَ المقمور فقيراً، فَتَحْدُثُ من ذلك ضغائِنُ وعداواتٌ، فإن لم يصلِ الأمر إلى حَدِّ العداوة، كانَتْ بغضاء، ولا تحسُنُ عاقبة قومٍ متباغضين، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: " وَلاَ تَبَاغَضُوا وَلاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إخْوَاناً "، وباجتماع النفوس والكلمة يحمى الدين، ويجاهَدُ العدوُّ، والبغضاءُ تنقضُ عُرَى الدِّين، وتهدم عمادَ الحمايةِ، وكذلك أيضاً يريدُ الشيطانُ أنْ يصدَّ المؤمنين عَنْ ذكْر اللَّه، وعنِ الصلاة، ويشغلهم عنها باتباع الشهواتِ، والخمرُ والميسرُ والقمَارُ كلُّه مِنْ أعظم الآفات في ذلك، وفي قوله سبحانه: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ}: وعيدٌ زائدٌ على معنى: «انتهوا».
{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآَمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94)} وقوله سبحانه: {لَيْسَ عَلَى الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ...} الآية: قال ابن عباس وغيره: لما نزل تحريمُ الخَمْر، قال قومٌ من الصحابة: يا رسول اللَّه، كَيْفَ بِمَنْ مات مِنَّا، وهو يشربها، ويأكل المَيْسِرَ، ونحو هذا من القَوْل، فنزلَتْ هذه الآية، وهذا نظيرُ سؤالِهِمْ عَمَّن مات على القبلة الأولى، والجُنَاحُ: الإثم والحَرَج، والتَّكرار في قوله سبحانه: «اتَّقوا» يقتضي في كلِّ واحدة زيادةً على التي قبلها، وفي ذلك مبالغةٌ في هذه الصِّفَات لهم، وليسَتِ الآيةُ وقفاً على مَنْ عمل الصالحاتِ كلَّها، واتقى كلَّ التقوى، بل هي لكلِّ مؤمن، وإن كان عاصياً أحياناً؛ إذا كان قد عَمِلَ من هذه الخصالِ المَمْدُوحة ما استحق به أنْ يوصف بأنه مؤمنٌ عامل للصالحات متَّقٍ في غالبِ أمره، محسنٌ، فليس على هذا الصِّنْف جُنَاحٌ فيما طعم ممَّا لم يُحَرَّم عليه، و{طَعِمُواْ}: معناه: ذَاقُوا فصَاعداً في رُتَب الأكل والشُّرب، وقد يستعار للنوم وغيره، وحقيقتُهُ في حاسَّة الذَّوْق. وقوله سبحانه: {ياأيها الذين ءَامَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ الله بِشَيْءٍ مِّنَ الصيد}، أي: ليختبرنَّكم ليرى طاعتكم مِنْ معصيتكم، وقوله: «بشيءٍ» يقتضي تبعيضاً، و«مِنْ»: يحتمل أنْ تكون للتبعيض، ويحتمل أنْ تكون لبيانِ الجِنْس؛ كقوله تعالى: {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} [الحج: 30]. وقوله تعالى: {لِيَعْلَمَ الله مَن يَخَافُهُ بالغيب}: معناه: ليستمرَّ علمه تعالى عليه، وهو موجودٌ؛ إذ قد علم تعالى ذلك في الأزل، و{بالغيب}: قال الطبريُّ: معناه: في الدنيا حيثُ لا يَرَى العبْدُ ربَّه، فهو غائبٌ عنه، والظاهر أنَّ المعنى: بالغَيْب من الناس، أي: في الخَلْوة ممَّن خاف اللَّه. انتهى، قلتُ: وقول الطبريِّ أظهر، ثم توعَّد تعالى من اعتدى بعد النهْيِ بالعذابِ الأليم، وهو عذابُ الآخرة.
|