الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البغوي المسمى بـ «معالم التنزيل» ***
{مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)}. قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فيه إضمار تقديره مثل صدقات الذين ينفقون أموالهم {كَمَثَلِ} زارع {حَبَّة} وأراد بسبيل الله الجهاد، وقيل جميع أبواب الخير {أَنْبَتَت} أخرجت {سَبْعَ سَنَابِلَ} جمع سنبلة {فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} فإن قيل فما رأينا سنبلة فيها مائة حبة فكيف ضرب المثل به؟ قيل: ذلك متصور، غير مستحيل، وما لا يكون مستحيلا جاز ضرب المثل به وإن لم يوجد، معناه: {فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} فما حدث من البذر الذي كان فيها كان مضاعفا إليها وكذلك تأوله الضحاك فقال: كل سنبلة أنبتت مائة حبة {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} قيل معناه يضاعف هذه المضاعفة لمن يشاء، وقيل: معناه يضاعف على هذا ويزيد لمن يشاء ما بين سبع إلى سبعين إلى سبعمائة إلى ما شاء الله من الأضعاف مما لا يعلمه إلا الله {وَاللَّهُ وَاسِعٌ} غني يعطي عن سعة {عَلِيمٌ} بنية من ينفق ماله.
{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)}. قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} قال الكلبي: نزلت هذه الآية في عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنهما، جاء عبد الرحمن بأربعة آلاف درهم صدقة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كانت عندي ثمانية آلاف فأمسكت منها لنفسي وعيالي أربعة آلاف درهم، وأربعة آلاف أقرضتها ربي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بارك الله فيما أمسكت لك وفيما أعطيت، وأما عثمان فجهز جيش المسلمين في غزوة تبوك بألف بعير بأقتابها وأحلاسها فنزلت فيهما هذه الآية. وقال عبد الرحمن بن سمرة: جاء عثمان رضي الله عنه بألف دينار في جيش العسرة فصبها في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يدخل فيها يده ويقلبها ويقول "ما ضر ابن عفان ما عمل بعد اليوم" فأنزل الله تعالى {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} في طاعة الله {ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا}. وهو أن يمن عليه بعطائه فيقول أعطيتك كذا، ويعد نعمه عليه فيكدرها {وَلا أَذًى} أن يعيره فيقول إلى كم تسأل وكم تؤذيني؟ وقيل من الأذى هو أن يذكر إنفاقه عليه عند من لا يحب وقوفه عليه. وقال سفيان: {مَنًّا وَلا أَذًى} أن يقول قد أعطيتك وأعطيت فما شكرت، قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: كان أبي يقول: إذا أعطيت رجلا شيئا ورأيت أن سلامك يثقل عليه فكف سلامك عنه، فحظر الله على عباده المن بالصنيعة، واختص به صفة لنفسه، لأنه من العباد تعيير. وتكدير ومن الله إفضال وتذكير {لَهُمْ أَجْرُهُمْ} أي ثوابهم {عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}. {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ} أي كلام حسن ورد على السائل جميل، وقيل عدة حسنة. وقال الكلبي: دعاء صالح يدعو لأخيه بظهر الغيب، وقال الضحاك: نزلت في إصلاح ذات البين {وَمَغْفِرَة} أي تستر عليه خلته ولا تهتك عليه ستره، وقال الكلبي والضحاك: بتجاوز عن ظالمه، وقيل يتجاوز عن الفقير إذا استطال عليه عند رده {خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ} يدفعها إليه {يَتْبَعُهَا أَذًى} أي من وتعيير للسائل أو قول يؤذيه {وَاللَّهُ غَنِيٌّ} أي مستغن عن صدقة العباد {حَلِيم} لا يعجل بالعقوبة على من يمن ويؤذي بالصدقة. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ} أي أجور صدقاتكم {بِالْمَن} على السائل، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: بالمن على الله تعالى {وَالأذَى} لصاحبها ثم ضرب لذلك مثلا فقال {كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ} أي كإبطال الذي ينفق ماله {رِئَاءَ النَّاسِ} أي مراءاة وسمعة ليروا نفقته ويقولوا إنه كريم سخي {وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} يريد أن الرياء يبطل الصدقة ولا تكون النفقة مع الرياء من فعل المؤمنين وهذا للمنافقين لأن الكافر معلن بكفره غير مراء {فَمَثَلُه} أي مثل هذا المرائي {كَمَثَلِ صَفْوَانٍ} الحجر الأملس، وهو واحد وجمع، فمن جعله جمعا فواحده صفوانة ومن جعله واحدا فجمعه صفي {عَلَيْه} أي على الصفوان {تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ} المطر الشديد العظيم القطر {فَتَرَكَهُ صَلْدًا} أي أملس، والصلد الحجر الصلب الأملس الذي لا شيء عليه فهذا مثل ضربه الله تعالى لنفقة المنافق والمرائي والمؤمن الذي يمن بصدقته ويؤذي ويري الناس في الظاهر أن لهؤلاء أعمالا كما يرى التراب على هذا الصفوان فإذا كان يوم القيامة بطل كله واضمحل لأنه لم يكن لله عز وجل كما أذهب الوابل ما على الصفوان من التراب فتركه صلدا {لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا} أي على ثواب شيء مما كسبوا وعملوا في الدنيا {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}. أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي، أخبرنا أبو الحسن الطيسفوني، أخبرنا عبد الله بن عمر الجوهري، أخبرنا أحمد بن علي الكشميهني، أخبرنا علي بن حجر، أخبرنا إسماعيل بن جعفر، أخبرنا عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب، عن عاصم بن عمر عن محمود بن لبيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر" قالوا: يا رسول الله وما الشرك الأصغر؟ قال "الرياء يقول الله لهم يوم يجازي العباد بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء". أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة أخبرنا أبو طاهر محمد بن أحمد الحارثي أخبرنا أبو الحسن محمد بن يعقوب الكسائي أخبرنا عبد الله بن محمد بن محمود، أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الخلال، أخبرنا عبد الله بن المبارك عن حيوة بن شريح، أخبرني الوليد بن أبي الوليد أبو عثمان المدائني أن عقبة بن مسلم حدثه أن شفيا الأصبحي حدثه أنه دخل المدينة فإذا هو برجل قد اجتمع عليه الناس فقال من هذا؟ قالوا: أبو هريرة، فدنوت منه حتى قعدت بين يديه وهو يحدث الناس فلما سكت وخلا قلت له: أنشدك الله بحق، لما حدثتني حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إن الله إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ليقضي بينهم، وكل أمة جاثية فأول من يدعو به رجل جمع القرآن، ورجل قتل في سبيل الله، ورجل كثير المال، فيقول الله للقارئ: ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟ فقال: بلى يا رب قال: فماذا عملت فيما علمت؟ قال: كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار، فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت ويقول الله تعالى: بل أردت أن يقال فلان قارئ فقد قيل ذلك، ويؤتى بصاحب المال فيقول الله له: ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد؟ قال: بلى يا رب، قال: فما عملت فيما آتيتك؟ قال: كنت أصل الرحم وأتصدق. فيقول الله له: كذبت، وتقول الملائكة كذبت ويقول الله تعالى: بل أردت أن يقال فلان جواد فقد قيل ذلك، ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله فيقول له: فبماذا قتلت؟ فيقول: يا رب أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت، فيقول الله: كذبت وتقول الملائكة: كذبت، ويقول الله تعالى: بل أردت أن يقال فلان جريء فقد قيل ذلك، ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتي فقال: يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول خلق تسعر بهم النار يوم القيامة".
{وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)}. قوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّه} أي طلب رضا الله تعالى {وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ}. قال قتادة: احتسابا، وقال الشعبي والكلبي: تصديقا من أنفسهم، أي يخرجون الزكاة طيبة بها أنفسهم على يقين بالثواب وتصديق بوعد الله، ويعلمون أن ما أخرجوا خير لهم مما تركوا، وقيل على يقين بإخلاف الله عليهم. وقال عطاء ومجاهد: يثبتون أي يضعون أموالهم، قال الحسن: كان الرجل إذا هم بصدقة تثبت فإن كان لله أمضى وإن كان يخالطه شك أمسك، وعلى هذا القول يكون التثبيت بمعنى التثبت، كقوله تعالى: "وتبتل إليه تبتيلا (8- المزمل) أي تبتلا {كَمَثَلِ جَنَّةٍ} أي بستان قال المبرد والفراء: إذا كان في البستان نخل فهو جنة وإن كان فيه كرم فهو فردوس {بِرَبْوَة} قرأ ابن عامر وعاصم بربوة وإلى ربوة في سورة المؤمنون بفتح الراء وقرأ الأخرون بضمها وهي المكان المرتفع المستوي الذي تجري فيه الأنهار فلا يعلوه الماء ولا يعلو عن الماء، وإنما جعلها بربوة لأن النبات عليها أحسن وأزكى {أَصَابَهَا وَابِلٌ} مطر شديد كثير {فَآتَتْ أُكُلَهَا} ثمرها، قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بالتخفيف، وقرأ الباقون بالتثقيل، وزاد نافع وابن كثير تخفيف أكله والأكل، وخفف أبو عمرو رسلنا ورسلكم ورسلهم وسبلنا. {ضِعْفَيْنِ} أي أضعفت في الحمل قال عطاء: حملت في السنة من الريع ما يحمل غيرها في سنتين، وقال عكرمة: حملت في السنة مرتين {فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ} أي فطش، وهو المطر الضعيف الخفيف ويكون دائما. قال السدي: هو الندى، وهذا مثل ضربه الله تعالى لعمل المؤمن المخلص فيقول: كما أن هذه الجنة تريع في كل حال ولا تخلف سواء قل المطر أو كثر، كذلك يضعف الله صدقة المؤمن المخلص الذي لا يمن ولا يؤذي سواء قلت نفقته أو كثرت، وذلك أن الطل إذا كان يدوم يعمل عمل الوابل الشديد. {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.
{أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)}. {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ} هذه الآية متصلة بقوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى" قوله أيود يعني: أيحب أحدكم أن تكون له جنة أي بستان من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار. {لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ} أولاد صغار ضعاف عجزة {فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ} الريح العاصف التي ترتفع إلى السماء كأنها عمود وجمعه أعاصير {فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ} هذا مثل ضربه الله لعمل المنافق والمرائي يقول: عمله في حسنه كحسن الجنة ينتفع به كما ينتفع صاحب الجنة بالجنة، فإذا كبر أو ضعف وصار له أولاد ضعاف وأصاب جنته إعصار فيه نار فاحترقت فصار أحوج ما يكون إليها وضعف عن إصلاحها لكبره وضعف أولاده عن إصلاحها لصغرهم ولم يجد هو ما يعود به على أولاده ولا أولاده ما يعودون به عليه فبقوا جميعا متحيرين عجزة لا حيلة بأيديهم، كذلك يبطل الله عمل هذا المنافق والمرائي حين لا مغيث لهما ولا توبة ولا إقالة. قال عبيد بن عمير: قال عمر رضي الله عنه يوما لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: فيمن ترون هذه الآية نزلت {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} قالوا: الله أعلم، فغضب عمر رضي الله عنه فقال: قولوا نعلم أو لا نعلم، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين، فقال عمر رضي الله عنه: ابن أخي قل ولا تحقر نفسك، قال ابن عباس رضي الله عنهما: ضربت مثلا لعمل، فقال عمر رضي الله عنه: أي عمل؟ فقال ابن عباس رضي الله عنهما: لعمل المرائي قال عمر رضي الله عنه لرجل غني يعمل بطاعة الله بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله" {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ} خيار، قال ابن مسعود رضي الله عنه ومجاهد: من حلالات {مَا كَسَبْتُمْ} بالتجارة والصناعة وفيه دلالة على إباحة الكسب وأنه ينقسم إلى طيب وخبيث. أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان، أخبرنا أبو جعفر الرياني، أخبرنا حميد بن زنجويه، أخبرنا يعلى بن عبيد، أخبرنا الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن أطيب ما يأكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه". أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أبو منصور السمعاني، أخبرنا أبو جعفر الرياني، أخبرنا حميد بن زنجويه، أخبرنا عبد الله بن صالح، أخبرنا أبو معاوية بن صالح عن بحير بن سعد عن خالد بن معدان عن المقدام بن معد يكرب أنه حدثه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده، وكان داود لا يأكل إلا من عمل يديه". أخبرنا أبو القاسم يحيى بن علي بن محمد الكشميهني، أخبرنا نجاح بن يزيد المحاربي بالكوفة، أخبرنا أبو جعفر محمد بن علي بن دحيم الشيباني، أخبرنا أحمد بن حازم، أخبرنا يحيى بن عبيد، أخبرنا أبان بن إسحاق عن الصباح بن محمد بن مرة الهمداني عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يكتسب عبد مالا حراما فيتصدق منه فيقبل الله منه، ولا ينفق منه فيبارك له فيه ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار، إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكن يمحو السيئ بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث". والزكاة واجبة في مال التجارة عند أكثر أهل العلم، فبعد الحول يقوم العروض فيخرج من قيمتها ربع العشر إذا كان قيمتها عشرون دينارا أو مائتي درهم، قال سمرة بن جندب: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي نعده للبيع". وعن أبي عمرو بن حماس أن أباه قال: مررت بعمر بن الخطاب رضي الله عنه وعلى عنقي أدمة أحملها فقال عمر: ألا تؤدي زكاتك يا حماس؟ فقلت: ما لي غير هذا وأهب في القرظ، فقال ذاك مال، فضع، فوضعتها فحسبها فأخذ منها الزكاة. قوله تعالى: {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأرْضِ} قيل هذا بإخراج العشور من الثمار والحبوب واتفق أهل العلم على إيجاب العشر في النخيل والكروم وفيما يقتات من الحبوب إن كان مسقيا بماء السماء أو من نهر يجري الماء إليه من غير مؤنة، وإن كان مسقيا بساقية أو بنضح ففيه نصف العشر. أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا سعيد بن أبي مريم، أخبرنا عبد الله بن وهب، أخبرني يونس بن يزيد عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم "فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريا العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر". أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، أخبرنا أبو العباس الأصم أخبرنا الربيع، أخبرنا الشافعي، أخبرنا عبد الله بن نافع عن محمد بن صالح التمار عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن عتاب بن أسيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في زكاة الكرم "يخرص كما يخرص النخل ثم تؤدى زكاته زبيبا كما يؤدي زكاة النخل تمرا". واختلف أهل العلم فيما سوى النخل والكروم، وفيما سوى ما يقتات به من الحبوب، فذهب قوم إلى أنه لا عشر في شيء منها، وهو قول ابن أبي ليلى والشافعي رضي الله عنه. وقال الزهري والأوزاعي ومالك رضي الله عنهم: يجب في الزيتون، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: يجب العشر في جميع البقول والخضروات كالثمار إلا الحشيش والحطب، وكل ثمرة أوجبنا فيها الزكاة فإنما يجب ببدو الصلاح، ووقت الإخراج بعد الاجتناء والجفاف، وكل حب أوجبنا فيه العشر فوقت وجوبه اشتداد الحب ووقت الإخراج بعد الدياسة والتنقية، ولا يجب العشر في شيء منها حتى تبلغ خمسة أوسق عند أكثر أهل العلم، وعند أبي حنيفة رحمه الله يجب في كل قليل وكثير منها، واحتج من شرط النصاب بما أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أخبرنا زاهر بن أحمد، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي، أخبرنا أبو مصعب، عن مالك عن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة المازني عن أبيه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة، وليس فيما دون خمسة أواق من الورق صدقة وليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة". وروى يحيى بن عبادة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس في حب ولا تمر صدقة حتى تبلغ خمسة أوسق"، وقال قوم: الآية في صدقات التطوع. أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أبو منصور السمعاني أخبرنا أبو جفر الرياني، أخبرنا حميد بن زنجويه، أخبرنا يحيى بن يحيى أخبرنا أبو عوانة عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنهم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما من مؤمن يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه إنسان أو طير أو بهيمة إلا كان له به صدقة". قوله تعالى: {وَلا تَيَمَّمُوا} قرأ ابن كثير برواية البزي بتشديد التاء في الوصل فيها وفي أخواتها وهي واحد وثلاثون موضعا في القرآن، لأنه في الأصل تاءان أسقطت إحداهما فرد هو الساقطة وأدغم وقرأ الآخرون بالتخفيف ومعناه لا تقصدوا {الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ}. روي عن عدي بن ثابت عن البراء بن عازب قال: كانت الأنصار تخرج إذا كان جذاذ النخل أقناء من التمر والبسر فيعلقونه على حبل بين الإسطوانتين في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأكل منه فقراء المهاجرين، فكان الرجل منهم يعمد فيدخل قنو الحشف وهو يظن أنه جائز عنه في كثرة ما يوضع من الأقناء، فنزل فيمن فعل ذلك {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ} أي الحشف والرديء، وقال الحسن ومجاهد والضحاك: كانوا يتصدقون بشرار ثمارهم ورذالة أموالهم ويعزلون الجيد ناحية لأنفسهم، فأنزل الله تعالى {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ} الرديء {مِنْهُ تُنْفِقُونَ} {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ} يعني الخبيث {إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} الإغماض غض البصر، وأراد هاهنا التجوز والمساهلة، معناه لو كان لأحدكم على رجل حق فجاءه بهذا لم يأخذه إلا وهو يرى أنه قد أغمض له عن حقه وتركه. وقال الحسن وقتادة: لو وجدتموه يباع في السوق ما أخذتموه بسعر الجيد. وروي عن البراء قال: لو أهدي ذلك لكم ما أخذتموه إلا على استحياء من صاحبه وغيظ، فكيف ترضون ما لا ترضون لأنفسكم؟ هذا إذا كان المال كله جيدا فليس له إعطاء الرديء، لأن أهل السهمان شركاؤه فيما عنده، فإن كان كل ماله رديئا فلا بأس بإعطاء الرديء، {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ} عن صدقاتكم {حَمِيد} محمود في أفعاله.
{الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الألْبَابِ (269)}. {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} أي يخوفكم بالفقر، يقال وعدته خيرا ووعدته شرا، قال الله تعالى في الخير "وعدكم الله مغانم كثيرة" (20- الفتح) وقال في الشر "النار وعدها الله الذين كفروا" (72- الحج) فإذا لم يذكر الخير والشر قلت في الخير: وعدته وفي الشر، أوعدته، والفقر سوء الحال وقلة ذات اليد، وأصله من كسر الفقار، ومعنى الآية: أن الشيطان يخوفكم بالفقر ويقول للرجل أمسك عليك مالك فإنك إذا تصدقت به افتقرت {وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} أي بالبخل ومنع الزكاة، وقال الكلبي: كل الفحشاء في القرآن فهو الزنا إلا هذا {وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ} أي لذنوبكم {فَضْلا} أي رزقا خلفا {وَاللَّهُ وَاسِعٌ} غني {عَلِيم}. أخبرنا حسان بن سعيد المنيعي، أخبرنا أبو طاهر الزيادي أخبرنا محمد بن الحسين القطان أخبرنا أحمد بن يوسف السلمي، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن همام بن منبه قال: حدثنا أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله تعالى يقول: ابن آدم أنفق أنفق عليك" وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يمين الله ملأى لا تغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنه لم ينقص ما في يمينه {قال} وعرشه على الماء وبيده الأخرى القسط يرفع ويخفض". أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا عبيد الله بن سعيد أخبرنا عبد الله بن نمير أخبرنا هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر عن أسماء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها "أنفقي ولا تحصي فيحصي الله عليك ولا توعي فيوعي الله عليك". قوله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} قال السدي: هي النبوة، وقال ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة: علم القرآن ناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه ومقدمه ومؤخره وحلاله وحرامه وأمثاله، وقال الضحاك: القرآن والفهم فيه، وقال: في القرآن مائة وتسع آيات ناسخة ومنسوخة وألف آية حلال وحرام، لا يسع المؤمنين تركهن حتى يتعلموهن، ولا تكونوا كأهل نهروان تأولوا آيات من القرآن في أهل القبلة وإنما أنزلت في أهل الكتاب جهلوأ علمها فسفكوا بها الدماء وانتهبوا الأموال وشهدوا علينا بالضلالة، فعليكم بعلم القرآن فإنه من علم فيم أنزل الله لم يختلف في شيء منه. وقال مجاهد: هي القرآن والعلم والفقه، وروى ابن أبي نجيح عنه: الإصابة في القول والفعل، وقال إبراهيم النخعي: معرفة معاني الأشياء وفهمها. {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ} في محل الرفع على ما لم يسم فاعله، والحكمة خبره، وقرأ يعقوب- يؤت الحكمة- بكسر التاء أي من يؤته الله الحكمة، دليل قراءة الأعمش، ومن يؤته الله، حكي عن الحسن {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ} قال: الورع في دين الله {فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ} يتعظ {إِلا أُولُو الألْبَابِ} ذوو العقول.
{وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (272)}. قوله تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ} فيما فرض الله عليكم {أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ} أي: ما أوجبتموه أنتم على أنفسكم في طاعة الله فوفيتم به {فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} يحفظه حتى يجازيكم به، وإنما قال: يعلمه، ولم يقل: يعلمها لأنه رده إلى الآخر منهما كقوله تعالى: "ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا" (112- النساء) وإن شئت حملته على "ما" كقوله: "وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به" (231- البقرة) ولم يقل بهما {وَمَا لِلظَّالِمِينَ} الواضعين الصدقة في غير موضعها بالرياء أو يتصدقون من الحرام {مِنْ أَنْصَارٍ} أعوان يدفعون عذاب الله عنهم، وهي جمع نصير، مثل: شريف وأشراف. قوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ} أي تظهروها {فَنِعِمَّا هِيَ} أي: نعمت الخصلة هي و"ما" في محل الرفع "وهي" في محل النصب كما تقول نعم الرجل رجلا فإذا عرفت رفعت، فقلت: نعم الرجل زيد، وأصله نعم ما فوصلت، قرأ أهل المدينة غير ورش وأبو عمرو وأبو بكر: فنعما بكسر النون وسكون العين، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي: بفتح النون وكسر العين، وقرأ ابن كثير ونافع برواية ورش ويعقوب وحفص بكسرهما، وكلها لغات صحيحة وكذلك في سورة النساء. {وَإِنْ تُخْفُوهَا} تسروها {وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ} أي تؤتوها الفقراء في السر {فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} وأفضل وكل مقبول إذا كانت النية صادقة ولكن صدقة السر أفضل، وفي الحديث "صدقة السر تطفئ غضب الرب. أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أخبرنا زاهر بن أحمد، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي، أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن حبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم عن أبي سعيد الخدري أو عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله تعالى، ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه". وقيل: الآية في صدقة التطوع، أما الزكاة المفروضة فالإظهار فيها أفضل حتى يقتدي به الناس، كالصلاة المكتوبة في الجماعة أفضل، والنافلة في البيت أفضل وقيل: الآية في الزكاة المفروضة كان الإخفاء فيها خيرا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما في زماننا فالإظهار أفضل حتى لا يساء به الظن. قوله تعالى: {وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُم} قرأ ابن كثير وأهل البصرة وأبو بكر بالنون ورفع الراء أي ونحن نكفر، وقرأ ابن عامر وحفص بالياء ورفع الراء، أي ويكفر الله، وقرأ أهل المدينة وحمزة والكسائي بالنون والجزم نسقا على الفاء التي في قوله "فهو خير لكم" لأن موضعها جزم بالجزاء، وقوله ومن سيئاتكم قيل "من" صلة، تقديره نكفر عنكم سيئاتكم، وقيل: هو للتحقيق والتبعيض، يعني: نكفر الصغائر من الذنوب، {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}. {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} قال الكلبي سبب نزول هذه الآية أن ناسا من المسلمين كانت لهم قرابة وأصهار في اليهود وكانوا ينفقون عليهم قبل أن يسلموا فلما أسلموا كرهوا أن ينفقوا عليهم وأرادوهم على أن يسلموا، وقال سعيد بن جبير كانوا يتصدقون على فقراء أهل الذمة، فلما كثر فقراء المسلمين، نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التصدق على المشركين كي تحملهم الحاجة على الدخول في الإسلام فنزل قوله {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} فتمنعهم الصدقة ليدخلوا في الإسلام حاجة منهم إليها، {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} وأراد به هداية التوفيق، أما هدي البيان والدعوة فكان على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعطوهم بعد نزول الآية. {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ} أي مال {فَلأنْفُسِكُم} أي تعملونه لأنفسكم {وَمَا تُنْفِقُونَ إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} وما جحد، لفظه نفي ومعناه نهي، أي لا تنفقوا إلا ابتغاء وجه الله {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ} شرط كالأول ولذلك حذف النون منهما {يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} أي يوفر لكم جزاؤه، ومعناه: يؤدي إليكم، ولذلك دخل فيه إلا {وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} لا تنقصون من ثواب أعمالكم شيئا، وهذا في صدقة التطوع، أباح الله تعالى أن توضع في أهل الإسلام وأهل الذمة، فأما الصدقة المفروضة فلا يجوز وضعها إلا في المسلمين وهم أهل السهمان المذكورون في سورة التوبة.
{لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)}. قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} اختلفوا في موضع هذه اللام: قيل هي مردودة على موضع اللام من قوله "فلأنفسكم" كأنه قال: وما تنفقوا من خير فللفقراء، وإنما تنفقون لأنفسكم، وقيل: معناها الصدقات التي سبق ذكرها، وقيل: خبره محذوف تقديره: للفقراء الذين صفتهم كذا حق واجب، وهم فقراء المهاجرين، كانوا نحوا من أربعمائة رجل، لم يكن لهم مساكن بالمدينة ولا عشائر، وكانوا في المسجد يتعلمون القرآن ويرضخون النوى بالنهار، وكانوا يخرجون في كل سرية يبعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أصحاب الصفة، فحث الله تعالى عليهم الناس فكان من عنده فضل أتاهم به إذا أمسى. {الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فيه أقاويل؛ قال قتادة- وهو أولاها- حبسوا أنفسهم على الجهاد في سبيل الله {لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأرْضِ} لا يتفرغون للتجارة وطلب المعاش وهم أهل الصفة الذين ذكرناهم، وقيل: حبسوا أنفسهم على طاعة الله، وقيل: معناه حبسهم الفقر والعدم عن الجهاد في سبيل الله، وقال سعيد بن جبير: قوم أصابتهم جراحات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجهاد في سبيل الله فصاروا زمنى، أحصرهم المرض والزمانة عن الضرب في سبيل الله للجهاد، وقال ابن زيد: معناه: من كثرة ما جاهدوا صارت الأرض كلها حربا عليهم فلا يستطيعون ضربا في الأرض من كثرة أعدائهم، {يَحْسَبُهُم} قرأ أبو جعفر وابن عامر وعاصم وحمزة: يحسبهم وبابه بفتح السين وقرأ الآخرون بالكسر {الْجَاهِل} بحالهم {أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} أي من تعففهم عن السؤال وقناعتهم يظن من لا يعرف حالهم أنهم أغنياء، والتعفف التفعل من العفة وهي الترك يقال: عف عن الشيء إذا كف عنه وتعفف إذا تكلف في الإمساك. {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} السيماء والسيمياء والسمة: العلامة التي يعرف بها الشيء، واختلفوا في معناها هاهنا، فقال مجاهد: هي التخشع والتواضع، وقال السدي: أثر الجهد من الحاجة والفقر، وقال الضحاك: صفرة ألوانهم من الجوع والضر وقيل رثاثة ثيابهم، {لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} قال عطاء: إذا كان عندهم غداء لا يسألون عشاء، وإذا كان عندهم عشاء لا يسألون غداء، وقيل: معناه لا يسألون الناس إلحافا أصلا لأنه قال: من التعفف، والتعفف ترك السؤال، ولأنه قال: تعرفهم بسيماهم، ولو كانت المسألة من شأنهم لما كانت إلى معرفتهم بالعلامة من حاجة، فمعنى الآية، ليس لهم سؤال فيقع فيه إلحاف، والإلحاف: الإلحاح واللجاج. أخبرنا أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري، أخبرنا أبو سعيد محمد بن إبراهيم بن الإسماعيلي، أخبرنا محمد بن يعقوب، أخبرنا محمد بن عبد الله بن الحكم أخبرنا أنس بن عياض عن هشام بن عروة عن أبيه عن الزبير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لأن يأخذ أحدكم حبله فيذهب فيأتي بحزمة حطب على ظهره فيكف الله بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أشياءهم أعطوه أو منعوه". أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أخبرنا زاهر بن أحمد، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي، أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن أبي الزناد، عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس المسكين بهذا الطواف الذي يطوف على الناس، ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان" قالوا: فمن المسكين يا رسول الله؟ قال: "الذي لا يجد غنى فيغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس". وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من سأل وله أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافا". أخبرنا أبو سعيد عبد الله بن أحمد الطاهري، أخبرنا جدي أبو سهل عبد الصمد بن عبد الرحمن البزار، أخبرنا محمد بن زكريا بن عدافر، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم بن عباد الدبري، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن هارون بن رياب عن كنانة العدوي عن قبيصة بن مخارق قال: إني تحملت بحمالة في قومي فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إني تحملت بحمالة في قومي وأتيتك لتعينني فيها قال: "بل نتحملها عنك يا قبيصة ونؤديها إليهم من الصدقة" ثم قال "يا قبيصة إن المسألة حرمت إلا في إحدى ثلاث: رجل أصابته جائحة فاجتاحت ماله فيسأل حتى يصيب قواما من عيشه ثم يمسك، وفي رجل أصابته حاجة حتى يشهد له ثلاثة نفر من ذوي الحجا من قومه وأن المسألة قد حلت له فيسأل حتى يصيب القوام من العيش ثم يمسك، وفي رجل تحمل بحمالة فيسأل حتى إذا بلغ أمسك، وما كان غير ذلك فإنه سحت يأكله صاحبه سحتا". أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي، أخبرنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي، أخبرنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي، أخبرنا أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي، أخبرنا قتيبة، أخبرنا شريك عن حكيم بن جبير عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد عن أبيه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من سأل الناس وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش أو خدوش أو كدوح". قيل يا رسول الله وما يغنيه؟ قال "خمسون درهما أو قيمتها من الذهب". قوله تعالى: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ} مال {فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} وعليه مجاز {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً} روي عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزلت هذه الآية في علي بن أبي طالب رضي الله عنه كانت عنده أربعة دراهم لا يملك غيرها فتصدق بدرهم ليلا وبدرهم نهارا وبدرهم سرا وبدرهم علانية. وعن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهم قال لما نزلت {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} بعث عبد الرحمن بن عوف بدنانير كثيرة إلى أصحاب الصفة، وبعث علي بن أبي طالب رضي الله عنه في جوف الليل بوسق من تمر فأنزل الله تعالى فيهما {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} الآية عنى بالنهار علانية: صدقة عبد الرحمن بن عوف، وبالليل سرا: صدقة علي رضي الله عنه، وقال أبو أمامة وأبو الدرداء ومكحول والأوزاعي: نزلت في الذين يرتبطون الخيل للجهاد فإنها تعلف ليلا ونهارا سرا وعلانية. أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا علي بن حفص، أخبرنا ابن المبارك، أخبرنا طلحة بن أبي سعيد قال: سمعت سعيدا المقبري يحدث أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من احتبس فرسا في سبيل الله إيمانا بالله وتصديقا بوعده فإن شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة". وقوله تعالى: {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} قال الأخفش: جعل الخبر بالفاء، لأن "الذين" بمعنى "من" وجواب من بالفاء بالجزاء، أو معنى الآية: من أنفق كذا فله أجره عند ربه {وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}.
{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (277)}. قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا} أي يعاملون به، وإنما خص الأكل لأنه معظم المقصود من المال {لا يَقُومُونَ} يعني يوم القيامة من قبورهم {إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ} أي يصرعه {الشَّيْطَان} أصل الخبط الضرب والوطء، وهو ضرب على غير استواء يقال: ناقة خبوط للتي تطأ الناس وتضرب الأرض بقوائهما {مِنَ الْمَسِّ} أي الجنون يقال: مس الرجل فهو ممسوس إذا كان مجنونا، ومعناه: أن آكل الربا يبعث يوم القيامة وهو كمثل المصروع. أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم السرخسي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا أحمد بن محمد بن يوسف، أخبرنا عبد الله بن يحيى، أخبرنا يعقوب بن سفيان أخبرنا إسماعيل بن سالم، أخبرنا عباد بن عباد عن أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة الإسراء قال: "فانطلق بي جبريل عليه السلام إلى رجال كثير كل رجل منهم بطنه مثل البيت الضخم منضدين على سابلة آل فرعون- وآل فرعون يعرضون على النار غدوا وعشيا- قال: فيقبلون مثل الإبل المنهومة يخبطون الحجارة والشجر لا يسمعون ولا يعقلون، فإذا أحس بهم أصحاب تلك البطون قاموا، فتميل بهم بطونهم فيصرعون، ثم يقوم أحدهم فيميل به بطنه فيصرع، فلا يستطيعون أن يبرحوا حتى يغشاهم آل فرعون فيردوهم مقبلين ومدبرين، فذلك عذابهم في البرزخ بين الدنيا والآخرة {قال} وآل فرعون يقولون: اللهم لا تقم الساعة أبدا {قال} ويوم القيامة يقال: "أدخلوا آل فرعون أشد العذاب" (46- غافر) قلت: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس". قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} أي ذلك الذي نزل بهم لقولهم هذا واستحلالهم إياه، وذلك أن أهل الجاهلية كان أحدهم إذا حل ماله على غريمه فطالبه به فيقول الغريم لصاحب الحق: زدني في الأجل حتى أزيدك في المال، فيفعلان ذلك، ويقولون سواء علينا الزيادة في أول البيع بالربح أو عند المحل لأجل التأخير فكذبهم الله تعالى وقال: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} واعلم أن الربا في اللغة الزيادة قال الله تعالى: "وما آتيتم من الربا ليربو في أموال الناس" أي ليكثر "فلا يربو عند الله" (39- الروم) وطلب الزيادة بطريق التجارة غير حرام في الجملة، إنما المحرم زيادة على صفة مخصوصة في مال مخصوص بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، أخبرنا أبو العباس الأصم، أخبرنا الربيع، أخبرنا الشافعي، أخبرنا عبد الوهاب عن أيوب بن أبي تميمة عن محمد بن سيرين عن مسلم بن يسار ورجل آخر عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورق بالورق، ولا البر بالبر، ولا الشعير بالشعير ولا التمر بالتمر ولا الملح بالملح إلا سواء بسواء، عينا بعين، يدا بيد، ولكن بيعوا الذهب بالورق، والورق بالذهب، والبر بالشعير، والشعير بالبر، والتمر بالملح، والملح بالتمر يدا بيد كيف شئتم- ونقص أحدهما الملح أو التمر وزاد أحدهما: من زاد وازداد فقد أربى". وروى هذا الحديث مطرف عن محمد بن سيرين عن مسلم بن يسار وعبد الله بن عتيك عن عبادة فالنبي صلى الله عليه وسلم نص على ستة أشياء. وذهب عامة أهل العلم إلى أن حكم الربا يثبت في هذه الأشياء الست بالأوصاف فيها فيتعدى إلى كل مال توجد فيه تلك الأوصاف، ثم اختلفوا في تلك الأوصاف، فذهب قوم: إلى أن المعنى في جميعها واحد وهو النفع وأثبتوا الربا في جميع الأموال، وذهب الأكثرون إلى أن الربا يثبت في الدراهم والدنانير بوصف وفي الأشياء المطعومة بوصف آخر، واختلفوا في ذلك الوصف فقال قوم: ثبت في الدراهم والدنانير بوصف، النقدية، وهو قول مالك والشافعي، وقال قوم: ثبت بعلة الوزن وهو قول أصحاب الرأي وأثبتوا الربا في جميع الموزونات مثل الحديد والنحاس والقطن ونحوها. وأما الأشياء الأربعة فذهب قوم إلى أن الربا ثبت فيها بعلة الكيل وهو قول أصحاب الرأي، وأثبتوا الربا في جميع المكيلات مطعوما كان أو غير مطعوم كالجص والنورة ونحوها، وذهب جماعة إلى أن العلة فيها الطعم مع الكيل والوزن، فكل مطعوم وهو مكيل أو موزون يثبت فيه الربا، ولا يثبت فيما ليس بمكيل ولا موزون، وهو قول سعيد بن المسيب، وقاله الشافعي رحمه الله في القديم، وقال في الجديد: يثبت فيها الربا بوصف الطعم، وأثبت الربا في جميع الأشياء المطعومة من الثمار والفواكه والبقول والأدوية مكيلة كانت أو موزونة لما روي عن معمر بن عبد الله قال: كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الطعام بالطعام مثلا بمثل". فجملة مال الربا عند الشافعي ما كان ثمنا أو مطعوما، والربا نوعان: ربا الفضل وربا النساء، فإذا باع مال الربا بجنسه مثلا بمثل بأن باع أحد النقدين بجنسه أو باع مطعوما بجنسه كالحنطة بالحنطة ونحوها يثبت فيه كلا نوعي الربا حتى لا يجوز إلا متساويين في معيار الشرع، فإن كان موزونا كالدراهم والدنانير فيشترط المساواة في الوزن، وإن كان مكيلا كالحنطة والشعير بيع بجنسه، فيشترط المساواة في الكيل ويشترط التقابض في مجلس العقد، وإذا باع مال الربا بغير جنسه نظر: إن باع بما لا يوافقه في وصف الربا مثل أن باع مطعوما بأحد النقدين فلا ربا فيه، كما لو باعه بغير مال الربا، أو إن باعه بما يوافقه مع الوصف مثل أن باع الدراهم بالدنانير أو باع الحنطة بالشعير أو باع مطعوما بمطعوم آخر من غير جنسه فلا يثبت فيه ربا الفضل حتى يجوز متفاضلا أو جُزَافًا ويثبت فيه ربا النساء حتى يشترط التقابض في المجلس، وقول النبي صلى الله عليه وسلم "لا تبيعوا الذهب بالذهب- إلى أن قال- إلا سواء بسواء" فيه إيجاب المماثلة وتحريم الفضل عند اتفاق الجنس، وقوله "عينا بعين" فيه تحريم النساء، وقوله "يدا بيد كيف شئتم" فيه إطلاق التفاضل عند اختلاف الجنس مع إيجاب التقابض في المجلس، هذا في ربا المبايعة. ومن أقرض شيئا بشرط أن يرد عليه أفضل فهو قرض جر منفعة وكل قرض جر منفعة فهو ربا. قوله تعالى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ} تذكير وتخويف، وإنما ذكر الفعل ردا إلى الوعظ {فَانْتَهَى} عن أكل الربا {فَلَهُ مَا سَلَفَ} أي ما مضى من ذنبه قبل النهي مغفور له {وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} بعد النهي إن شاء عصمه حيث يثبت على الانتهاء، وإن شاء خذله حتى يعود، وقيل: {مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} فيما يأمره وينهاه ويحل له ويحرم عليه وليس إليه من أمر نفسه شيء {وَمَنْ عَادَ} بعد التحريم إلى أكل الربا مستحلا له {فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}. أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا محمد بن المثنى حدثني غندر، أخبرنا شعبة عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه أنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الدم وثمن الكلب وكسب البغي، ولعن آكل الربا وموكله والواشمة والمستوشمة والمصور". أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر الجرجاني، أخبرنا عبد الغافر بن محمد الفارسي، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي أخبرنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، أخبرنا مسلم بن الحجاج، أخبرنا زهير بن حرب، أخبرنا هشيم أخبرنا أبو الزبير عن جابر رضي الله عنه قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه، وقال: "هم سواء". أخبرنا أبو سعيد الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أنا أبو محمد المخلدي، أنا أبو حامد بن الشرقي أخبرنا أحمد بن يوسف السلمي، أخبرنا النضر بن محمد، أخبرنا عكرمة بن عمار، أخبرنا يحيى هو ابن أبي كثير قال: حدثني أبو سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الربا سبعون بابا أهونها عند الله عز وجل كالذي ينكح أمه". قوله تعالى {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} أي ينقصه ويهلكه ويذهب ببركته، وقال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} يعني لا يقبل منه صدقة ولا جهادا ولا حجة ولا صلة {وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} أي يثمرها ويبارك فيها في الدنيا، ويضاعف بها الأجر والثواب في العقبى {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ} بتحريم الربا {أَثِيم} فاجر بأكله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (281)}. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} قال عطاء وعكرمة: نزلت في العباس بن عبد المطلب وعثمان بن عفان رضي الله عنهما وكانا قد أسلفا في التمر فلما حضر الجذاذ قال لهما صاحب التمر: إن أنتما أخذتما حقكما لا يبقى لي ما يكفي عيالي فهل لكما أن تأخذا النصف وتؤخرا النصف وأضعف لكما؟ ففعلا فلما حل الأجل طلبا الزيادة، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاهما فأنزل الله تعالى هذه الآية فسمعا وأطاعا وأخذا رءوس أموالهما. وقال السدي: نزلت في العباس وخالد بن الوليد وكانا شريكين في الجاهلية يسلفان في الربا إلى بني عمرو بن عمير، ناس من ثقيف، فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا فأنزل الله تعالى هذه الآية فقال النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع في خطبته يوم عرفة "ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، كان مسترضعا في بني سعد فقتله هذيل، وربا الجاهلية كلها، وأول ربا أضع ربا العباس بن عبد المطلب فإنها موضوعة كلها". وقال مقاتل: نزلت في أربعة إخوة من ثقيف، مسعود وعبد ياليل وحبيب وربيعة وهم بنو عمرو بن عمير بن عوف الثقفي، كانوا يداينون بني المغيرة بن عبد الله بن عمير بن مخزوم وكانوا يربون فلما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم على الطائف أسلم هؤلاء الإخوة فطلبوا رباهم من بني المغيرة، فقال بنو المغيرة: والله ما نعطي الربا في الإسلام وقد وضعه الله تعالى عن المؤمنين، فاختصموا إلى عتاب بن أسيد وكان عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم على مكة فكتب عتاب بن أسيد إلى النبي صلى الله عليه وسلم بقصة الفريقين وكان ذلك مالا عظيما فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا}. {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}. {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا} أي إذا لم تذروا ما بقي من الربا {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} قرأ حمزة وعاصم برواية أبي بكر فآذنوا بالمد على وزن آمنوا، أي فأعلموا غيركم أنكم حرب لله ورسوله، وأصله من الأذن أي أوقعوا في الآذان، وقرأ الآخرون فأذنوا مقصورا بفتح الذال أي فاعلموا أنتم وأيقنوا بحرب من الله ورسوله، وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: يقال لآكل الربا يوم القيامة خذ سلاحك للحرب، قال أهل المعاني: حرب الله: النار وحرب رسول الله: السيف. {وَإِنْ تُبْتُمْ} أي تركتم استحلال الربا ورجعتم عنه {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ} بطلب الزيادة {وَلا تُظْلَمُونَ} بالنقصان عن رأس المال فلما نزلت الآية قال بنو عمرو الثقفي ومن كان يعامل بالربا من غيرهم: بل نتوب إلى الله، فإنه لا يدان لنا بحرب الله ورسوله، فرضوا برأس المال، فشكا بنو المغيرة العسرة وقالوا: أخرونا إلى أن تدرك الغلات فأبوا أن يؤخروا فأنزل الله تعالى {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ}. يعني وإن كان الذي عليه الدين معسرا، رفع الكلام باسم كان ولم يأت لها بخير وذلك جائز في النكرة، تقول، إن كان رجلا صالحا فاكرمه، وقيل "كان" بمعنى وقع، وحينئذ لا يحتاج إلى خبر، قرأ أبو جعفر عسرة بضم السين {فَنَظِرَة} أمر في صيغة الخبر تقديره فعليه نظرة {إِلَى مَيْسَرَةٍ} قرأ نافع ميسرة بضم السين وقرأ الآخرون بفتحها وقرأ مجاهد ميسرة بضم السين مضافا ومعناها اليسار والسعة {وَأَنْ تَصَدَّقُوا} أي تتركوا رءوس أموالكم إلى المعسر {خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} قرأ عاصم تصدقوا بتخفيف الصاد والآخرون بتشديدها. أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي، أخبرنا أبو الطيب سهل بن محمد بن سليمان، أخبرنا أبو العباس إسماعيل بن عبد الله الميكالي، أخبرنا عبد الله بن أحمد بن موسى بن عبدان الحافظ، أخبرنا أبو طاهر أحمد بن عمرو بن السرح، أخبرنا ابن وهب عن جرير عن حازم عن أيوب عن يحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه أنه كان يطلب رجلا بحق فاختبأ منه فقال: ما حملك على ذلك قال: العسرة، فاستحلفه على ذلك فحلف فدعا بصكه فأعطاه إياه وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أنظر معسرا أو وضع عنه أنجاه الله من كرب يوم القيامة". أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أبو منصور محمد بن سمعان أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني، أخبرنا حميد بن زنجويه، أخبرنا عبيد الله بن موسى، أخبرنا إسرائيل عن منصور عن ربعي عن أبي مسعود رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم "إن الملائكة لتلقت روح رجل كان قبلكم فقالوا هل عملت خيرا قط؟ قال: لا قالوا: تذكر، قال: لا إلا أني رجل كنت أداين الناس فكنت آمر فتياني أن ينظروا الموسر ويتجاوزوا عن المعسر، قال الله تبارك وتعالى "تجاوزوا عنه". أخبرنا عبد الواحد بن المليحي، أخبرنا أبو منصور السمعاني أخبرنا أبو جعفر الرياني، أخبرنا حميد بن زنجويه، أخبرنا أحمد بن عبد الله، أخبرنا زائدة عن عبد الملك بن عمير عن ربعي عن أبي اليسر قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول "من أنظر معسرا أو وضع عنه أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله". فصل في الدين وحسن قضائه وتشديد أمره أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا أبو الوليد، أخبرنا شعبة، أخبرنا سلمة بن كهيل قال: سمعت أبا سلمة بمنى يحدث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا تقاضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأغلظ له فهم به أصحابه فقال: دعوه فإن لصاحب الحق مقالا واشتروا له بعيرا فأعطوه إياه، قالوا: لا نجد إلا أفضل من سنه قال: "اشتروه فأعطوه إياه فإن خياركم أحسنكم قضاء". أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أخبرنا زاهر بن أحمد السرخسي، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي، أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مطل الغني ظلم وإذا أتبع أحدكم على ملئ فليتبع". أخبرنأ عبد الوهاب بن محمد الخطيب، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، أخبرنا أبو العباس الأصم، أخبرنا الربيع، أخبرنا الشافعي، أخبرنا إبراهيم بن سعيد بن إبراهيم عن أبيه عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه". أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أخبرنا زاهر بن أحمد السرخسي، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي، أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن عبد الله بن أبي قتادة الأنصاري عن أبيه أنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت إن قتلت في سبيل الله صابرا محتسبا، مقبلا غير مدبر، يكفر الله عني خطاياي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "نعم" فلما أدبر ناداه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أمر به فنودي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيف قلت؟ " فأعاد عليه قوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "نعم إلا الدين" كذلك قال جبريل". قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} قرأ أهل البصرة بفتح التاء أي تصيرون إلى الله، وقرأ الآخرون بضم التاء وفتح الجيم، أي: تردون إلى الله تعالى: {ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} قال ابن عباس رضي الله عنهما: هذه آخر آية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له جبريل عليه السلام ضعها على رأس مائتين وثمانين آية من سورة البقرة وعاش بعدها رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدا وعشرين يوما، وقال ابن جريج: تسع ليال، وقال سعيد بن جبير: سبع ليال، ومات يوم الاثنين لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول حين زاغت الشمس سنة إحدى عشرة من الهجرة، قال الشعبي عن ابن عباس رضي الله عنهما آخر آية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية الربا.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخْرَى وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلا تَرْتَابُوا إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)}. قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} قال ابن عباس رضي الله عنهما لما حرم الله الربا أباح السلم وقال: أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى قد أحله الله تعالى في كتابه وأذن فيه ثم قال "يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه". قوله: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ} أي تعاملتم بالدين، يقال: داينته إذا عاملته بالدين وإنما قال {بِدَيْن} بعد قوله تداينتم لأن المداينة قد تكون مجازاة وقد تكون معاطاة فقيده بالدين ليعرف المراد من اللفظ، وقيل: ذكره تأكيدا كقوله تعالى: "ولا طائر يطير بجناحيه" (38- الأنعام) {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} الأجل مدة معلومة الأول والآخر، والأجل يلزم في الثمن في البيع وفي السلم حتى لا يكون لصاحب الحق الطلب قبل محله، وفي القرض لا يلزم الأجل عن أكثر أهل العلم {فَاكْتُبُوه} أي اكتبوا الذي تداينتم به، بيعا كان أو سلما أو قرضا. واختلفوا في هذه الكتابة: فقال بعضهم: هي واجبة، والأكثرون على أنه أمر استحباب فإن ترك فلا بأس كقوله تعالى "فإذا قضيتم الصلاة فانتشروا في الأرض" (10- الجمعة) وقال بعضهم كانت كتابة الدين والإشهاد والرهن فرضا ثم نسخ الكل بقوله "فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي ائتمن أمانته" وهو قول الشعبي ثم بين كيفية الكتابة فقال جل ذكره {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ} أي ليكتب كتاب الدين بين الطالب والمطلوب {كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} أي بالحق من غير زيادة ولا نقصان ولا تقديم أجل ولا تأخير {وَلا يَأْبَ} أي لا يمتنع {كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ} واختلفوا في وجوب الكتابة على الكاتب وتحمل الشهادة على الشاهد، فذهب قوم إلى وجوبها إذا طولب وهو قول مجاهد، وقال الحسن تجب إذا لم يكن كاتب غيره، وقال قوم هو على الندب والاستحباب، وقال الضحاك كانت عزيمة واجبة على الكاتب والشاهد فنسخها قوله تعالى "ولا يضار كاتب ولا شهيد" {كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ} أي كما شرعه الله وأمره {فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} يعني: المطلوب يقر على نفسه بلسانه ليعلم ما عليه، والإملال والإملاء لغتان فصيحتان معناهما واحد، جاء بهما القرآن، فالإملال هاهنا، والإملاء قوله تعالى: "فهي تملى عليه بكرة وأصيلا" (5- الفرقان) {وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} يعني الممل {وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا} أي ولا ينقص منه، أي من الحق الذي عليه شيئا. {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا} أي جاهلا بالإملاء، قاله مجاهد، وقال الضحاك والسدي: طفلا صغيرا، وقال الشافعي رحمه الله، السفيه: المبذر المفسد لماله أو في دينه. قوله {أَوْ ضَعِيفًا} أي شيخا كبيرا وقيل هو ضعيف العقل لعته أو جنون {أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ} لخرس أو عي أو عجمة أو حبس أو غيبة لا يمكنه حضور الكاتب أو جهل بما له وعليه {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ} أي قيمه {بِالْعَدْل} أي بالصدق والحق، وقال ابن عباس رضي الله عنه ومقاتل: أراد بالولي صاحب الحق، يعني إن عجز من عليه الحق من الإملال فليملل ولي الحق وصاحب الدين بالعدل لأنه أعلم بحقه، {وَاسْتَشْهِدُوا} أي وأشهدوا {شَهِيدَيْن} أي شاهدين {مِنْ رِجَالِكُمْ} يعني الأحرار المسلمين، دون العبيد والصبيان والكفار، وهو قول أكثر أهل العلم، وأجاز شريح وابن سيرين شهادة العبيد {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ} أي لم يكن الشاهدان رجلين {فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} أي فليشهد رجل وامرأتان. وأجمع الفقهاء على أن شهادة النساء جائزة مع الرجال في الأموال حتى تثبت برجل وامرأتين واختلفوا في غير الأموال فذهب جماعة إلى أنه تجوز شهادتهن مع الرجال في غير العقوبات، وهو قول سفيان الثوري وأصحاب الرأي، وذهب جماعة إلى أن غير المال لا يثبت إلا برجلين عدلين وذهب الشافعي رحمه الله إلى أن ما يطلع عليه النساء غالبا كالولادة والرضاع والثيوبة والبكارة ونحوها يثبت بشهادة رجل وامرأتين، وبشهادة أربع نسوة، واتفقوا على أن شهادة النساء غير جائزة في العقوبات. قوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} يعني من كان مرضيا في ديانته وأمانته، وشرائط قبول الشهادة سبعة: الإسلام والحرية والعقل والبلوغ والعدالة والمروءة وانتفاء التهمة، فشهادة الكافر مردودة لأن المعروفين بالكذب عند الناس لا تجوز شهادتهم، فالذي يكذب على الله تعالى أولى أن يكون مردود الشهادة، وجوز أصحاب الرأي شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض، ولا تقبل شهادة العبيد، وأجازها شريح وابن سيرين وهو قول أنس بن مالك رضي الله عنه، ولا قول للمجنون حتى يكون له شهادة، ولا تجوز شهادة الصبيان سئل ابن عباس رضي الله عنهما عن ذلك؟ فقال: لا تجوز، لأن الله تعالى يقول: "ممن ترضون من الشهداء" والعدالة شرط، وهي أن يكون الشاهد مجتنبا للكبائر غير مصر على الصغائر، والمروءة شرط، وهي ما يتصل بآداب النفس مما يعلم أن تاركه قليل الحياء، وهي حسن الهيئة والسيرة والعشرة والصناعة، فإن كان الرجل يظهر من نفسه شيء منها ما يستحي أمثاله من إظهاره في الأغلب يعلم به قلة مروءته وترد شهادته، وانتفاء التهمة شرط حتى لا تقبل شهادة العدو على العدو وإن كان مقبول الشهادة على غيره، لأنه متهم في حق عدوه، ولا تقبل شهادة الرجل لولده ووالده وإن كان مقبول الشهادة عليهما، ولا تقبل شهادة من يجر بشهادته إلى نفسه نفعا، كالوارث يشهد على رجل يقتل مورثه، أو يدفع عن نفسه بشهادته ضررا كالمشهود عليه يشهد بجرح من يشهد عليه لتمكن التهمة في شهادته. أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الحسن المروزي، أخبرنا أبو العباس أحمد بن محمد بن سراج الطحان أخبرنا أبو أحمد محمد بن قريش بن سليمان، أخبرنا علي بن عبد العزيز المكي، أخبرنا أبو عبيد القاسم بن سلام أخبرنا مروان الفزاري عن شيخ من أهل الحيرة يقال له يزيد بن زياد عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها ترفعه "لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا ذي غمر على أخيه ولا ظنين في ولاء ولا قرابة ولا القانع مع أهل البيت". قوله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا} قرأ حمزة إن تضل بكسر الألف {فَتُذَكِّرَ} برفع الراء، ومعناه الجزاء والابتداء، وموضع تضل جزم بالجزاء إلا أنه لا يتبين في التضعيف "فتذكر" رفع لأن ما بعد فاء الجزاء مبتدأ، وقراءة العامة بفتح الألف ونصب الراء على الاتصال بالكلام الأول، وتضل محله نصب بأن فتذكر منسوق عليه، ومعنى الآية: فرجل وامرأتان كي تذكر {إِحْدَاهُمَا الأخْرَى} ومعنى تضل أي تنسى، يريد إذا نسيت إحداهما شهادتها، تذكرها الأخرى فتقول ألسنا حضرنا مجلس كذا وسمعنا كذا؟ قرأ ابن كثير وأهل البصرة: فتذكر مخففا، وقرأ الباقون مشددا، وذكر واذكر بمعنى واحد، وهما متعديان من الذكر الذي هو ضد النسيان، وحكي عن سفيان بن عيينة أنه قال: هو من الذكر أي تجعل إحداهما الأخرى ذكرا أي تصير شهادتهما كشهادة ذكر، والأول أصح لأنه معطوف على النسيان. قوله تعالى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} قيل أراد به إذا ما دعوا لتحمل الشهادة، سماهم شهداء على معنى أنهم يكونون شهداء وهو أمر إيجاب عند بعضهم، وقال قوم: تجب الإجابة إذا لم يكن غيره فإن وجد غيره فهو مخير وهو قول الحسن، وقال قوم: هو أمر ندب وهو مخير في جميع الأحوال، وقال بعضهم، هذا في إقامة الشهادة وأدائها فمعنى الآية "ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا" لأداء الشهادة التي تحملوها، وهو قول مجاهد وعطاء وعكرمة وسعيد بن جبير، وقال الشعبي: الشاهد بالخيار ما لم يشهد، وقال الحسن: الآية في الأمرين جميعا في التحمل والإقامة إذا كان فارغا.
{وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)}. {وَلا تَسْأَمُوا} أي ولا تملوا {أَنْ تَكْتُبُوهُ} والهاء راجعة إلى الحق {صَغِيرًا} كان الحق {أَوْ كَبِيرًا} قليلا كان أو كثيرا {إِلَى أَجَلِهِ} إلى محل الحق {ذَلِكُم} أي الكتاب {أَقْسَط} أعدل {عِنْدِ اللَّهِ} لأنه أمر به، واتباع أمره أعدل من تركه {وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ} لأن الكتابة تذكر الشهود {وَأَدْنَى} وأحرى وأقرب إلى {أَلا تَرْتَابُوا} تشكوا في الشهادة {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً} قرأهما عاصم بالنصب على خبر كان وأضمر الاسم، مجازه: إلا أن تكون التجارة تجارة {حاضرة} أو المبايعة تجارة، وقرأ الباقون بالرفع وله وجهان: أحدهما: أن تجعل الكون بمعنى الوقوع معناه إلا أن تقع تجارة. والثاني: أن تجعل الاسم في التجارة والخبر في الفعل وهو قوله {تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} تقديره إلا أن تكون تجارة حاضرة دائرة بينكم، ومعنى الآية إلا أن تكون تجارة حاضرة يدا بيد تديرونها بينكم ليس فيها أجل {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلا لا تكتبوها} يعني التجارة {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} قال الضحاك: هو عزم من الله تعالى، والإشهاد واجب في صغير الحق وكبيره نقدا أو نسيئا، وقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: الأمر فيه إلى الأمانة لقوله تعالى "فإن أمن بعضكم بعضا" الآية، وقال الآخرون هو أمر ندب. قوله تعالى: {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} هذا نهي للغائب، وأصله يضارر، فأدغمت إحدى الرائين في الأخرى ونصبت لحق التضعيف لاجتماع الساكنين، واختلفوا فيه فمنهم من قال: أصله يضارر بكسر الراء الأولى، وجعل الفعل للكاتب والشهيد، معناه لا يضار الكاتب فيأبى أن يكتب ولا الشهيد فيأبى أن يشهد، ولا يضار الكاتب فيزيد أو ينقص أو يحرف ما أملي عليه ولا الشهيد فيشهد بما لم يستشهد عليه، وهذا قول طاووس والحسن وقتادة، وقال قوم: أصله يضارر بفتح الراء على الفعل المجهول وجعلوا الكاتب والشهيد مفعولين ومعناه أن يدعو الرجل الكاتب أو الشاهد وهما على شغل مهم، فيقولان: نحن على شغل مهم فاطلب غيرنا فيقول الداعي إن الله أمركما أن تجيبا ويلح عليهما فيشغلهما عن حاجتهما فنهي عن ذلك وأمر بطلب غيرهما {وَإِنْ تَفْعَلُوا} ما نهيتكم عنه من الضرر {فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} أي معصية وخروج عن الأمر {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}. {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} قرأ ابن كثير وأبو عمرو فرهن بضم الهاء والراء، وقرأ الباقون فرهان، وهو جمع رهن مثل بغل وبغال وجبل وجبال، والرهن جمع الرهان جمع الجمع، قاله الفراء والكسائي، وقال أبو عبيد وغيره: هو جمع الرهن أيضا مثل سقف وسقف وقال أبو عمرو وإنما قرأنا فرهن ليكون فرقا بينهما وبين رهان الخيل، وقرأ عكرمة فرهن بضم الراء وسكون الهاء، والتخفيف والتثقيل في الرهن لغتان مثل كتب وكتب ورسل ورسل ومعنى الآية: وإن كنتم على سفر ولم تجدوا آلات الكاتبة فارتهنوا ممن تداينونه رهونا لتكون وثيقة لكم بأموالكم، واتفقوا على أن الرهن لا يتم إلا بالقبض، وقوله "فرهن مقبوضة" أي ارتهنوا واقبضوا حتى لو رهن ولم يسلم فلا يجبر الراهن على التسليم فإذا سلم لزم من جهة الراهن حتى لا يجوز له أن يسترجعه ما دام شيء من الحق باقيا، ويجوز في الحضر الرهن مع وجود الكاتب، وقال مجاهد: لا يجوز الرهن إلا في السفر عند عدم الكاتب لظاهر الآية، وعند الآخرين خرج الكلام في الآية على الأعم الأغلب لا على سبيل الشرط. والدليل عليه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم رهن درعه عند أبي الشحم اليهودي ولم يكن ذلك في السفر ولا عند عدم كاتب {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} وفي حرف أبي "فإن ائتمن" يعني فإن كان الذي عليه الحق أمينا عند صاحب الحق فلم يرتهن منه شيئا لحسن ظنه به. {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَه} أي فليقضه على الأمانة {وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} في أداء الحق، ثم رجع إلى خطاب الشهود وقال: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} إذا دعيتم إلى إقامتها نهى عن كتمان الشهادة وأوعد عليه فقال {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} أي فاجر قلبه، قيل: ما أوعد الله على شيء كإيعاده على كتمان الشهادة، قال: "فإنه آثم قلبه" وأراد به مسخ القلب، نعوذ بالله من ذلك {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ} بيان الشهادة وكتمانها {عَلِيمٌ}.
{لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)}. {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ} ملكا وأهلها له عبيد وهو مالكهم {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} اختلف العلماء في هذه الآية، فقال قوم: هي خاصة ثم اختلفوا في وجه خصوصها فقال بعضهم: هي متصلة بالآية الأولى نزلت في كتمان الشهادة أو تخفوا الكتمان يحاسبكم به الله وهو قول الشعبي وعكرمة، وقال بعضهم: نزلت فيمن يتولى الكافرين دون المؤمنين، يعني وإن تعلنوا ما في أنفسكم من ولاية الكفار أو تسروا يحاسبكم به الله، وهو قول مقاتل كما ذكر في سورة آل عمران "لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين" إلى أن قال "قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله" (29- آل عمران).
{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)}. وذهب الأكثرون إلى أن الآية عامة ثم اختلفوا فيها فقال قوم: هي منسوخة بالآية التي بعدها. والدليل عليه ما أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أخبرنا عبد الغافر بن محمد، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، أنا مسلم بن الحجاج، حدثني محمد بن المنهال الضرير وأمية بن بسطام العيشي واللفظ له قالا أخبرنا يزيد بن زريع أنا روح وهو ابن القاسم عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم "لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله" الآية قال: اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بركوا على الركب فقالوا: أي رسول الله صلى الله عليه وسلم كلفنا من الأعمال ما نطيق: الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا، بل قولوا {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} فلما قرأها القوم وذلت بها ألسنتهم أنزل الله في أثرها {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} قال نعم {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} قال نعم {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} قال نعم {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} قال نعم. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما بمعناه،، وقال في كل ذلك: قد فعلت، بدل قوله نعم، وهذا قول ابن مسعود وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم وإليه ذهب محمد بن سيرين ومحمد ابن كعب وقتادة والكلبي. أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي، أخبرنا أبو محمد عبد الله بن يوسف الأصفهاني، أخبرنا أبو بكر أحمد بن إسحاق الفقيه، أخبرنا يعقوب بن يوسف القزويني، أخبرنا القاسم بن الحكم العرني، أخبرنا مسعر بن كدام عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله عز وجل تجاوز عن أمتي ما وسوست به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل به". وقال بعضهم الآية غير منسوخة لأن النسخ لا يرد على الأخبار إنما يرد على الأمر والنهي وقوله {يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} خبر لا يرد عليه النسخ، ثم اختلفوا في تأويلها فقال قوم: قد أثبت الله تعالى للقلب كسبا فقال "بما كسبت قلوبكم" (225- البقرة) فليس لله عبد أسَرّ عملا أو أعلنه من حركة من جوارحه أو همسة في قلبه إلا يخبره الله به ويحاسبه عليه ثم يغفر ما يشاء ويعذب بما يشاء، وهذا معنى قول الحسن يدل عليه قوله تعالى "إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا" (36- الإسراء). وقال الآخرون: معنى الآية أن الله عز وجل يحاسب خلقه بجميع ما أبدوا من أعمالهم أو أخفوه ويعاقبهم عليه، غير أن معاقبته على ما أخفوه مما لم يعلموه بما يحدث لهم في الدنيا من النوائب والمصائب والأمور التي يحزنون عليها وهذا قول عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية فقال: "يا عائشة هذه معاتبة الله العبد بما يصيبه من الحمى والنكبة حتى الشوكة والبضاعة يضعها في كمه فيفقدها فيروع لها حتى إن المؤمن يخرج من ذنوبه كما يخرج التبر الأحمر من الكير". أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أبو منصور السمعاني أخبرنا أبو جعفر الرياني، أخبرنا حميد بن زنجويه، أخبرنا عبد الله بن صالح، حدثني الليث، حدثني يزيد بن أبي حبيب عن سعيد بن سنان عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد الله بعبده الشر أمسك عليه بذنبه حتى يوافيه به يوم القيامة". وقال بعضهم {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ} يعني ما في قلوبكم مما عزمتم عليه {أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} ولا تبدوه وأنتم عازمون عليه يحاسبكم به الله فأما ما حدثت به أنفسكم مما لم تعزموا عليه فإن ذلك مما لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ولا يؤاخذكم به، دليله قوله تعالى "لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم" (225- البقرة). وقال عبد الله بن المبارك: قلت لسفيان: أيؤاخذ العبد بالهمَّة قال: إذا كان عزما أخذ بها، وقيل معنى المحاسبة الإخبار والتعريف، ومعنى الآية: وإن تبدوا ما في أنفسكم فتعملوا به أو تخفوه مما أضمرتم ونويتم يحاسبكم به الله ويجزيكم به ويعرفكم إياه، ثم يغفر للمؤمنين إظهارا لفضله، ويعذب الكافرين إظهارا لعدله، وهذا معنى قول الضحاك، ويروى ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما، يدل عليه أنه قال: يحاسبكم به الله ولم يقل يؤاخذكم به، والمحاسبة غير المؤاخذة والدليل عليه ما أخبرنا أبو طاهر محمد بن علي الزراد، أخبرنا أبو القاسم علي بن أحمد الخزاعي، أنا أبو سعيد الهيثم بن كليب، أنا عيسى بن أحمد العسقلاني، أنا يزيد بن هارون، أنا همام بن يحيى عن قتادة عن صفوان بن محرز قال: كنت آخذا بيد عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما فأتاه رجل فقال: كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى؟ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله تعالى يدني المؤمن يوم القيامة حتى يضع عليه كنفه يستره من الناس فيقول: أي عبدي أتعرف ذنب كذا وكذا؟ فيقول: نعم أي رب ثم يقول أي عبدي تعرف ذنب كذا وكذا؟ فيقول: نعم أي رب، حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه قد هلك، قال فإني سترتها عليك في الدنيا وقد غفرتها لك اليوم، ثم يعطى كتاب حسناته، وأما الكافر والمنافقون فيقول الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين" (18- هود). قوله تعالى: {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} رفع الراء والياء أبو جعفر وابن عامر وعاصم ويعقوب وجزمهما الآخرون، فالرفع على الابتداء والجزم على النسق، روى طاووس عن ابن عباس رضي الله عنهما، فيغفر لمن يشاء الذنب العظيم ويعذب من يشاء على الذنب الصغير، "لا يُسْأَلُ عما يفعل وهم يُسْألون والله على كل شيء قدير" (230- الأنبياء). قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ} أي صدق {بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ} يعني كل واحد منهم، ولذلك وحَّد الفعل {وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} قرأ حمزة والكسائي: كتابه، على الواحد يعني القرآن، وقيل معناه الجمع وإن ذكر بلفظ التوحيد كقوله تعالى: "فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب" (213- البقرة) وقرأ الآخرون وكتبه بالجمع كقوله تعالى: "وملائكته وكتبه ورسله" (136- النساء)، {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} فنؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعلت اليهود والنصارى، وفيه إضمار تقديره يقولون لا نفرق، وقرأ يعقوب لا يفرق بالياء فيكون خبرا عن الرسول، أو معناه لا يفرق الكل وإنما قال "بين أحد" ولم يقل بين آحاد لأن الأحد يكون للواحد والجمع قال الله تعالى: "فما منكم من أحد عنه حاجزين" (47- الحاقة) {وَقَالُوا سَمِعْنَا} قولك {وَأَطَعْنَا} أمرك. روي عن حكيم عن جابر رضي الله عنهما أن جبريل عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه وسلم حين نزلت هذه الآية: إن الله قد أثنى عليك وعلى أمتك فسل تعطه، فسأل بتلقين الله تعالى فقال {غُفْرَانَكَ} وهو نصب على المصدر أي اغفر غفرانك، أو نسألك غفرانك {رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِير لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} ظاهر الآية قضاء الحاجة، وفيها إضمار السؤال كأنه قال: وقالوا لا تكلفنا إلا وسعنا، وأجاب أي لا يكلف الله نفسا إلا وسعها أي طاقتها، والوسع: اسم لما يسع الإنسان ولا يضيق عليه، واختلفوا في تأويله فذهب ابن عباس رضي الله عنه وعطاء وأكثر المفسرين إلى أنه أراد به حديث النفس الذي ذكر في قوله تعالى {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} كما ذكرنا، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: هم المؤمنون خاصة، وسَّع عليهم أمر دينهم ولم يكلفهم فيه إلا ما يستطيعون كما قال الله تعالى: "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر" (185- البقرة) وقال الله تعالى: "وما جعل عليكم في الدين من حرج" (78- الحج) وسئل سفيان بن عيينة عن قوله عز وجل {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} قال: إلا يسرها ولم يكلفها فوق طاقتها، وهذا قول حسن لأن الوسع ما دون الطاقة. قوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ} أي للنفس ما عملت من الخير، لها أجره وثوابه {وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} من الشر وعليها وزره {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا} أي لا تعاقبنا {إِنْ نَسِينَا} جعله بعضهم من النسيان الذي هو السهو، قال الكلبي كانت بنو إسرائيل إذا نسوا شيئا مما أمروا به أو أخطأوا عجلت لهم العقوبة، فحرم عليهم من شيء من مطعم أو مشرب على حسب ذلك الذنب، فأمر الله المؤمنين أن يسألوه ترك مؤاخذتهم بذلك، وقيل هو من النسيان الذي هو الترك كقوله تعالى: "نسوا الله فنسيهم" (67- التوبة). قوله تعالى: {أَوْ أَخْطَأْنَا} قيل معناه القصد والعمد يقال: أخطأ فلان إذا تعمد، قال الله تعالى: "إنَّ قتلهم كان خطأ كبيرا" (31- الإسراء) قال عطاء: إن نسينا أو أخطأنا يعني: إن جهلنا أو تعمدنا، وجعله الأكثرون من الخطأ الذي هو الجهل والسهو، لأن ما كان عمدا من الذنب فغير معفو عنه بل هو في مشيئة الله، والخطأ معفو عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه. قوله تعالى: {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا} أي عهدا ثقيلا وميثاقا لا نستطيع القيام به فتعذبنا بنقضه وتركه {كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} يعني اليهود، فلم يقوموا به فعذبتهم، هذا قول مجاهد وعطاء وقتادة والسدى والكلبي وجماعة. يدل عليه قوله تعالى: "وأخذتم على ذلكم إصري" (81- آل عمران) أي عهدي، وقيل: معناه لا تشدد ولا تغلظ الأمر علينا كما شددت على من قبلنا من اليهود، وذلك أن الله فرض عليهم خمسين صلاة وأمرهم بأداء ربع أموالهم في الزكاة ومن أصاب ثوبه نجاسة قطعها ومن أصاب ذنبا أصبح وذنبه مكتوب على بابه ونحوها من الأثقال والأغلال، وهذا معنى قول عثمان وعطاء ومالك بن أنس وأبي عبيدة وجماعة. يدل عليه قوله تعالى: "ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم" (157- الأعراف) وقيل: الإصر ذنب لا توبة له، معناه اعصمنا من مثله، والأصل فيه العقل والإحكام. قوله تعالى: {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} أي لا تكلفنا من الأعمال ما لا نطيقه وقيل هو حديث النفس والوسوسة حكي عن مكحول أنه قال: هو الغلمة، قيل الغُلْمة: شدة الشهوة، وعن إبراهيم قال: هو الحب، وعن محمد بن عبد الوهاب قال: العشق وقال ابن جريج: هو مسخ القردة والخنازير وقيل هو شماتة الأعداء، وقيل: هو الفرقة والقطيعة نعوذ بالله منها. قوله تعالى: {وَاعْفُ عَنَّا} أي تجاوز وامْحُ عنا ذنوبنا {وَاغْفِرْ لَنَا} استر علينا ذنوبنا ولا تفضحنا {وَارْحَمْنَا} فإننا لا ننال العمل إلا بطاعتك، ولا نترك معصيتك إلا برحمتك {أَنْتَ مَوْلانَا} ناصرنا وحافظنا وولينا {فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}. روى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عز وجل {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا} قال الله تعالى "قد غفرت لكم" وفي قوله لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا قال: "لا أوأخذكم" {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا} قال: "لا أحمل عليكم إصرا" {وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} قال: "لا أحملكم" {وَاعْفُ عَنَّا} إلى آخره قال "قد عفوت عنكم، وغفرت لكم، ورحمتكم ونصرتكم على القوم الكافرين". وكان معاذ بن جبل إذا ختم سورة البقرة قال: آمين. أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أنا عبد الغافر بن محمد، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي، أنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، أنا مسلم بن الحجاج، أنا أبو بكر بن أبي شيبة أنا أبو أسامة حدثني مالك بن مِغْوَل عن الزبير بن عدي عن طلحة بن علي بن مصرّف عن مرة عن عبد الله قال: لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى به إلى سدرة المنتهى وهي في السماء السادسة، إليها ينتهي ما يُعْرَجُ به من الأرض فَيُقْبَضُ منها، وإليها ينتهي ما يُهْبَطُ به فوقها فَيُقْبَضُ منها قال: "إذ يغشى السدرة ما يغشى" (16- النجم) قال: فراش من ذهب قال: وأعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا: الصلوات الخمس وأعطي خواتِيْمَ سُورةِ البقرة، وغُفِرَ لمن لا يشرك بالله من أمته شيئا من المُقْحَمَاتِ" كبائر الذنوب. أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي أنا أبو نعيم عبد الملك بن الحسين الإسفراييني أنا أبو عوانة يعقوب بن إسحاق الحافظ، أنا يونس وأحمد بن شيبان قالا ثنا سفيان بن عيينة عن منصور عن إبراهيم عن عبد الرحمن بن يزيد عن أبي مسعود رضي الله عنهم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الآيتان من آخر سورة البقرة من قرأ بهما في ليلة كَفَتَاهُ". أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أبو منصور السمعاني، أنا أبو جعفر الرياني، أخبرنا حميد بن زنجويه، أنا العلاء بن عبد الجبار، أنا حماد بن سلمة، أخبرنا الأشعث بن عبد الرحمن الجرمي، عن أبي قلابة عن أبي الأشعث الصنعاني، عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تعالى كتب كتابا قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام فأنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة فلا تقرآن في دار ثلاث ليال فيقربها شيطان".
|