الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة **
ثم في يوم الأحد رابع شهر رمضان أخرج السلطان الأمير أرغون شاه النوروزي والأمير ناصر الدين محمد بن بولي من القاهرة إلى دمشق بطالين وقد تقدم أن كليهما قد ولي الأستادارية بالديار المصرية. وفي هذه الأيام
. ولما كان يوم الجمعة تاسع شهر رمضان سار غرابان من ساحل بولاق ظاهر القاهرة في بحر النيل بعد أن أشحنا بالمقاتلة والأسلحة وكان فيهما من المماليك السلطانية ثمانون نفرًا غير المطوعة ورسم السلطان لهم أن يسيروا في البحر إلى طرابلس ويأخذوا أيضًا من سواحل الشام عدة أغربة أخر فيها المقاتلة ويسيروا في البحر المالح لعلهم يجدون من يتجرم في البحر من الفر ج وهذه أول غزوة جهزها السلطان الملك الأشرف برسباي رحمه الله. ثم في يوم الثلاثاء رابع شوال أمر السلطان بحفر صهريج بوسط صحن جامع الأزهر فابتدأوا فيه من هذا اليوم وحفروا بوسط صحن الجامع المذكور فوجدوا فيه آثار فسقية قديمة وبها عدة أموات ثم شرعوا في بنائها حتى كملت وعمر فوقها مقعد لطيف على صفة السبيل وانتفع أهل الجامع به ودام سنين إلى أن أمر السلطان الملك الظاهر جقمق بهدمه فهدم وردم. ثم في يوم السبت تاسع عشرين شوال المذكور حضر الأمراء الخدمة السلطانية على العادة ونزلوا إلى دورهم فاستدعى السلطان بعد نزولهم الأمير بيبغا المظفري أتابك العساكر إلى القلعة فلما صار إليها قبض عليه وقيد وحمل إلى الإسكندرية من يومه. ثم في يوم الخميس رابع ذي القعدة خلع السلطان على الأمير قجق العيساوي أمير سلاح باستقراره أتابك العساكر بالديار المصرية عوضًا عن بيبغا المظفري بحكم القبض عليه وخلع على إينال النوروزي أمير مجلس باستقراره أمير سلاح عوضًا عن قجق المذكور وأنعم السلطان بإقطاع بيبغا المذكور على الأمير إينال الجكمي أحد الأمراء البطالين بالقدس وكتب بإحضاره وعلى الأمير حسين بن أحمد المدعو تغري برمش البهنسي التركماني نائب قلعة الجبل نصفين بالسوية بعد أن أخرج منه بلدة القليوبية. ثم في يوم الاثنين ثامن ذي القعدة خلع السلطان على قاضي القضاة شمس الدين محمد الهروي المعزول عن وظيفة كتابة السر قبل تاريخه باستقراره قاضي قضاة الشافعية بالديار المصرية عوضًا عن قاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن حجر بحكم عزله وهذه ولاية القاضي الهروي الثانية للقضاء. وقدم الأمير إينال الجكمي من القدس في يوم الاثنين خامس عشرة وخلع السلطان عليه باستقراره أمير مجلس عوضًا عن إينال النوروزي. وفي هذه الأيام أنعم السلطان على الأمير تنبك من بردبك الظاهري أحد أمراء العشرات ورأس نوبة بإمرة طبلخاناه عوضًا عن تغري برمش البهنسي واستقر أيضًا عوضه في نيابة قلعة الجبل. وتنبك المذكور هو أتابك العساكر بديار مصر في زماننا هذا. ثم في يوم السبت العشرين من ذي القعدة وصلت الغزاة المقدم ذكرهم بالغنائم والأسرى. وكان من خبرهم أنهم لما خرجوا من ثغر دمياط تبعهم خلائق من المطوعة في سلورة وساروا إلى طرابلس وسار معهم أيضًا غرابان وتوجهوا الجميع إلى الماغوصة فأضافهم متملكها وأكرمهم فلم يتعرضوا لبلاده ومضوا عنه إلى بلد يقال لها اللمسون من جزيرة قبرص فوجدوا أهلها قد استعدوا لقتالهم وأخرجوا أهاليهم وعيالهم وخرجوا في سبعين فارسًا تقريبًا وثلاثين راجلًا فقاتلهم مسلمون حتى هزموهم وقتلوا منهم فارسًا واحدًا وعدة رجال وغرقوا بعض أغربة وأحرقوا بعضها ونهبوا ما وجدوه من ظروف السمن والعسل وغير ذلك وأسروا ثلاثة وعشرين رجلًا وأخذوا قطع جوخ كثيرة فسر الناس بعودهم وسلامتهم وتشوق كل أحد للجهاد. انتهى. ثم في ثامن عشرين ذي الحجة خلع السلطان على الشيخ سعد الدين سعد ابن قاضي القضاة شيخ الإسلام شمس الدين محمد الديري الحنفي باستقراره في مشيخة صوفية الجامع المؤيدي ثم في تاسع عشرين المحرم من سنة ثمان وعشرين وثمانمائة ركب السلطان مخفًا من قلعة الجبل ونزل إلى جامعه بخط العنبريين وكشف عمائره. ثم ركب وسار إلى جامع الأزهر لرؤية الصهريج الذي عمره. ثم تقدم وزار الشيخ خليفة والشيخ سعيدًا وهما من المغاربة لهما بالجامع الأزهر مدة سنين وشهرا بالخير والصلاح. ثم خرج من الجامع إلى دار الشيخ محمد بن سلطان وهو أيضًا أحد من يظن فيه الخير والصلاح فزاره أيضًا وعاد إلى القلعة. ثم في هذا الشهر أيضًا وقع الشروع في عمل عدة مراكب لغزو بلاد الفرنج واستمر العمل فيهم كل يوم إلى أن نزل السلطان في يوم الثلاثاء حادي عشر صفر من سنة ثمان وعشرين المذكورة وكشف عمل المراكب المذكورة ثم عاد من على جزيرة الفيل إلى جهة مناظر الخمس وجوه المعروفة بالتاج التي كان الملك المؤيد جددها فأقام بها ساعة هينة وعاد من على الخندق من جهة خليج الزعفران إلى أن طلع إلى القلعة. هذا كله والسلطان لا يفتر عن الفحص على أخبار جاني بك الصوفي ولا يكذب في أمره خبر مخبر. ثم في يوم الاثنين رابع عشرين صفر خلع السلطان على الشيخ محب الدين أحمد بن نصر الله بن أحمد بن محمد بن عمر الششتري البغدادي الحنبلي باستقراره قاضي قضاة الحنابلة بالديار المصرية بعد موت قاضي القضاة علاء الدين علي بن محمود بن مغلي وكل منهما كان أعجوبة زمانه في الحفظ وسعة العلم. ثم في ليلة الجمعة خامس شهر ربيع الأول عمل السلطان المولد النبوي بالحوش السلطاني من قلعة الجبل كعادة عمله في كل سنة. ثم فى يوم الأحد سابعه سار الأمير أرنبغا اليونسي الناصري أحد أمراء العشرات ورأس نوبة تجريدة إلى مكة ومعه مائة مملوك من المماليك السلطانية وتوجه معه سعد الدين إبراهيم المعروف بابن المرة أحد الكتاب لأخذ مكس المراكب الواردة ببندر جدة من بلاد الهند وهذا أول ظهور أمر جدة. وكان ذلك بتدبير الأمير يشبك الساقي الأعرج فإنه نفاه الملك المؤيد شيخ إلى مكة فأقام بها سنين وعلم أحوال أشراف مكة وما هم عليه فحسن للسلطان الاستيلاء على بندر جدة ولا زال به حتى وقع ذلك وصار أمر جدة كما هي عليه الآن. ثم في يوم الخميس سابع عشر شهر ربيع الآخر قدم الأمير سودون من عبد الرحمن نائب الشام إلى القاهرة وطلع إلى القلعة بعد أن تلقاه أكابر الدولة وقبل الأرض وخلع عليه باستمراره وأنزل بمكان يليق به إلى أن خلع السلطان عليه خلعة السفر وعاد إلى محل ولايته في سادس عشر شهر ربيع الآخر المذكور. وفي هذا الشهر كمل عمارة البرج الذي عمر بالقرب من الطينة على بحر الملح وجاء مربع الشكل مساحة كل ربع منه ثلاثون ذراعًا وشحن بالأسلحة وأقيم فيه خمسة وعشرون مقاتلًا فيهم عشرة فرسان وأنزل حوله جماعة من عرب الطينة فانتفع به المسلمون غاية النفع. وذلك أن الفرنج كانت تقبل في مراكبها نهارًا إلى بر الطينة وتنزل بها وتتخطف الناس من المسلمين من هناك في مرورهم من قطيا إلى جهة العريش من غير أن يمنعهم من ذلك أحد لخلو هذا المحل من الناس. وتولى عمارة هذا البرج المذكور الزيني عبد القادر بن فخر الدين بن عبد الغني بن أبي الفرج وأخذ الأجر والحجر الذي بني هذا البرج به من خراب مدينة الفرما وأحرق أيضًا الجير من حجارتها. وقد تقدم ذكر غزو الفرما في مجيء عمرو بن العاص إلى مصر في أول هذا الكتاب. ثم في يوم السبت عاشر جمادى الأولى خلع السلطان على الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله ناظر الخواص الشريفة باستقراره أستادارًا عوضًا عن ولده صلاح الدين محمد. ثم في يوم الاثنين ثاني عشر جمادى الأولى المذكورة خلع السلطان على القاضي كريم الدين عبد الكريم بن سعد الدين بركة المعروف بابن كاتب جكم باستقراره في وظيفته نظر الخاص الشريف عوضًا عن بدر الدين بن نصر الله المذكور. وخلع على أمين الدين إبراهيم بن مجد الدين عبد الغني بن الهيصم باستقراره ناظر الدولة عوضًا عن كريم الدين بن كاتب جكم المذكور. ثم في عاشر جمادى الآخرة أمسك السلطان القاضي نجم الدين عمر بن حجي كاتب السر وسلم إلى الأمير جاني بك الأشرفي الدوادار الثاني فسجنه بالبرج من قلعة الجبل وأحيط بداره وكان سبب مسك ابن حجي أنه التزم عن ولايته كتابة السر بعشرة آلاف دينار ثم تسلم ما كان جاريًا في إقطاع ابن السلطان من حمايات علم الدين داود بن الكويز ومستأجراته على أن يقوم لديوان ابن السلطان في كل سنة بألف وخمسمائة دينار فحمل في مدة ولايته لكتابة السر إلى الخزانة الشريفة خمسة آلاف دينار في دفعات متفرقة فلما كان هذه الأيام طلب السلطان منه حمل ما تأخر وهو ستة آلاف دينار أو خمسمائة دينار فسأل السلطان مشافهة أن ينعم عليه بالألف وخمسمائة دينار المقررة من الحمايات والمستأجرات وتشكى من قلة متحصلها معه فلم يجب السلطان سؤاله. فنزل إلى داره وكتب ورقة إلى السلطان تتضمن أنه غرم من حين ولي كتابة السر إلى يوم تاريخه اثني عشر ألف دينار منها الحمل إلى الخزانة خمسة آلاف دينار ولمن لا يسمى مبلغ الذي دينار وللأمراء أربعة الاف دينار وذكر تفصيل الأربعة آلاف دينار. فلما قرئت على السلطان فهم أنه أراد بمن لا يذكر أنه الأمير جاني بك الدوادار. وأخذ السلطان يسأل من جاني بك عندما حضر هو والأمراء عما وصل إليهم وإليه من ابن حجي فأجابوه بما لا يليق في حق ابن حجي فما هو إلا أن طلع ابن حجي إلى القلعة حصل بينهما مفاحشات وله سبب آخر خفي وهو أن السلطان استدعى الأمير سودون من عبد الرحمن نائب الشام بكتاب عبد الباسط فلما وقعت بطاقة سودون من عبد الرحمن سأل ابن حجي: لم جاء نائب الشام فقيل له: بطلب من السلطان فقال: أنا لم أكتب له عن السلطان بالمجيء فقال عبد الباسط: أنا كتبت له. فحنق نجم الدين لما سمع هذا الكلام وخاشن عبد الباسط باللفظ وقال له: اعمل أنت كاتب السر ونظر الجيش معًا. ثم أخذ يخاشنه بالكلام استخفافًا به لمعرفته به قديمًا لأن ابن حجي كان معدودًا من أعيان دمشق وعبد الباسط يوم ذاك بخدمة ابن الشهاب محمود. فأسرها عبد الباسط في نفسه وعلم أنه متى طالت يده ربما يقع منه في حقه ما يكره فأخذ يدبر عليه حتى غير خاطر الأمير جاني بك عليه وتأكدت العداوة بينهما ووقع ما حكيناه. واستمر ابن حجي في البرج من قلعة الجبل إلى ليلة الثلاثاء ثالث عشر جمادى الآخرة من سنة ثمان وعشرين المذكورة وأخرج من البرج في الحديد وحمل إلى دمشق حتى يكشف بها عن سيرته ويأخذ ابن حجي في تجهيزما بقي عليه من المال وكتب في حقه لنائب الشام ولقضاة دمشق بعظائم مستشنعة هو بريء عن غالبها. ثم في يوم الاثنين ثامن عشرة خلع السلطان على القاضي بدر الدين محمد ابن مزهر نائب كاتب وخلع السلطان أيضًا على تاج الدين عبد الوهاب الأسلمي المعروف بالخطير باستقراره في نظر الإسطبل السلطاني عوضًا عن ابن مزهر. وكان الخطير المذكور قريب عهد بالإسلام وله قدم في دين النصرانية وكان يباشر عند الملك الأشرف في أيام إمرته فرقاه إلى هذه الوظيفة وبعد أن كان يخاطب بالشيخ الخطير صار ينعت بالقاضي فيشترك هو وقضاة الشرع الشريف في هذا الاسم وقد تداول هذا البلاء بالمملكة قديمًا وحديثًا. وأنا لا ألوم الملوك في تقديم هؤلاء لأنهم محتاجون إليهم لمعرفتهم لأنواع المباشرة غير أنني أقول: كان يمكن الملك أنه إذا رقى واحدًا من هؤلاء إلى رتبة من الرتب لا ينعته بالقاضي وينعته بالرئيس أو بالكاتب أو مثل ولي الدولة وسعد الدولة وما أشبه ذلك ويدع لفظة قاض لقضاة الشرع ولكاتب السر وناظر الجيش ولفضلاء المسلمين ليعطي كل واحد حقه في شهرته والتعريف به. وقد عيب هذا على مصر قديمًا وحديثًا فقال بعضهم: قاضيها مسلماني وشيخها نصراني وحجها غواني. قلت: فإن كانت ألفاظ هذه الحكاية خالية من البلاغة فهي قريبة مما نحن فيه. والخطير هذا إلى الآن في قيد الحياة وقد كبر سنه وهرم بعدما ولي الوزر بديار مصر ثم نظر الدولة وهو مع ذلك عليه من الغلاسة وعدم النورانية وفقد الحشمة وقلة الطلاوة ما لايعبر عنه. وقد تخومل ولزم داره سنين طويلة من يوم صادره الملك الظاهر جقمق وحط قدره فعد وفي هذا الشهر أخذ السلطان في تجهيز الغزاة وعين جماعة كبيرة من المماليك السلطانية والأمراء وألزم كل أمير أيضًا أن يجهز عشرة مماليك من مماليكه ونجز عمل الطرائد والأغربة. ثم في يوم الاثنين ثالث شهر رجب خلع السلطان على قاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن حجر وأعيد إلى قضاء الديار المصرية بعد عزل قاضي القضاة شمس الدين الهروي. ثم في يوم الثلاثاء رابع شهر رجب المذكور حمل الشريف مقبل أمير الينبغ والشريف رميثة بن عجلان إلى الإسكندرية وسجنا بها. ثم في ثالث عشرة أنفق السلطان في ستمائة رجل من الغزاة مبلغ عشرين دينارًا لكل واحد منهم وجهز الأمراء أيضًا ثلاثمائة رجل ثم نودي: من أراد الجهاد فليحضر لأخذ النفقة. وقام السلطان في الجهاد أتم قيام وقد شرح الله صدره له. ثم في عشرينه سارت خيول الأمراء والأعيان من المجاهدين في البر إلى طرابلس وعدتها نحو ثلاثمائة فرس لتحمل من طرابلس صحبة غزاتها في البحر لحيث هو القصد. ثم ركب السلطان في يوم الجمعة من القلعة بغير قماش الخدمة بعد صلاة الجمعة ونزل إلى ساحل بولاق حتى شاهد الأغربة والطرائد التي عملت برسم الجهاد وقد أشحنوا بالسلاح والرجال ثم عاد إلى القلعة. ثم ركب من الغد المقام الناصري محمد ابن السلطان الملك الأشرف من القلعة ونزل ومعه لالاته الأمير جاني بك الأشرفي الدوادار الثاني وتوجه إلى بيت زين الدين عبد الباسط المطل على النيل ببولاق حتى شاهد الأغربة عند سفرهم فانحدر أربعة أغربة بكل غراب أمير وتقدم الأربعة الأمير جرباش الكريمي الظاهري حاجب الحجاب المعروف بقاشق فكان لسفر هذه المراكب ببولاق يوم مشهود. ثم انحدر بعد هذه الأغربة الأربعة أربعة أغربة أخر في كل واحد منهم مقدم من أعيان المماليك السلطانية وكان آخرهم سفرًا الغراب الثامن في يوم الأربعاء ثالث شعبان وهذه الغزوة الثانية من غزوات الملك الأشرف برسباي. ثم في هذا الشهر أفرج السلطان عن الأمير الكبير طرباي من سجنه بالإسكندرية ونقل إلى القدس الشريف بطالًا ليقيم به غير مضيق عليه بعد أن أنعم عليه بألف دينار. وكان الإفراج عن طرباي بخلاف ما كان في ظن الناس وعد ذلك من محاسن الملك الأشرف كون طرباي المذكور كان عانده في الملك وكونه أيضًا من عظماء الملوك وأكابر المماليك الظاهرية برقوق ممن يخاف منه فلم يلتفت الأشرف إلى هذا كله وأفرج عنه لما كان بينهما من الود القديم والصحبة من مبدئ أمرهما. ثم في يوم الثلاثاء ثامن شهر رمضان المذكور أمسك السلطان الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله الأستادار وأمسك معه ولده الأمير صلاح الدين محمد المعزول عن الأستادارية بأبيه المذكور وعوقا بالقلعة أربعة أيام ثم نزلا على أنهما يقومان بنفقة الجامكية شهرًا وعليقه وكانت الجامكية يوم ذاك كل شهر ثلاثين ألف دينار. ثم في يوم الخميس عاشره خلع السلطان على زين الدين عبد القادر بن فخر الدين حسن بن نصر الله. ثم في رابع عشرة خلع السلطان على جمال الدين يوسف بن الصفي الكركي المعزول عن كتابة سر دمشق عوضًا عن بدر الدين حسين. وفي يوم الثلاثاء ثاني عشرين شهر رمضان الموافق لرابع عشر مسرى أو في النيل ستة عشر ذراعًا ونزل المقام الناصري محمد ابن السلطان لتخليق المقياس وفتح خليج السد على العادة ونزل معه الملك الصالح محمد ابن الملك الظاهر ططر وحضر تخليق المقياس وفتح الخليج فتعجب الناس لنزوله مع ابن السلطان بعد خلعه من ملك مصر حسبما تقدم. قلت: وكان قصد الأشرف برسباي بركوب الملك الصالح محمد هذا مع ولده انبساط الصالح كونه كان كالمحجور عليه بقلعة الجبل وتنزهه لا كما زعم بعض الناس أنه يريد بذلك مشيه في خدمة ولده وازدراءه. كل ذلك وخاطر السلطان مشغول بأمر جاني بك الصوفي والفحص عنه مستمر غير أن السلطان يتشاغل بشيء بعد شيء وهو الآن مشغول الفكرة في أمر المجاهدين لايبرح يترقب أخبارهم إلى أن كان يوم الخميس تاسع شوال ورد عليه الخبر من طرابلس بنصرة المسلمين على الفرنج فدقت البشائر لذلك بقلعة الجبل وغيرها وجمع القضاة وأعيان الديار المصرية بالجامع الأشرفي بخط العنبريين وقرىء عليهم الكتاب الوارد من طرابلس بنصرة المسلمين فضج الناس وأعلنوا بالتكبير والتهليل ونودي بزينة القاهرة ومصر. ثم قرئ الكتاب المذكور من الغد بجامع عمرو بن العاص بمصر. وبينما الناس مستبشرون في غاية ما يكون من السرور والفرح بنصر الله قدم الخبر في يوم الاثنين ثالث عشر شوال المذكور بوصول الغزاة المذكورين إلى الطينة فقلق السلطان من ذلك وتنغص فرح الناس وكثر الكلام في أمر عودهم. وكان من خبرهم: أنهم لما توجهوا من ساحل بولاق إلى دمياط ساروا منه في البحر المالح إلى مدينة طرابلس فطلعوا إليها فانضم عليهم بها خلائق من المماليك والعساكر الشامية وجماعة كبيرة من المطوعة إلى أن رحلوا عن طرابلس في بضع وأربعين مركبًا وساروا إلى جهة الماغوصة فنزلوا عليها بأجمعهم وخيموا في برها الغربي وقد أظهر متملك الماغوصة طاعة السلطان وعرفهم تهيؤ صاحب قبرس واستعداده لقتالهم وحربهم فاستعدوا وأخذوا حذرهم وباتوا بمخيمهم على الماغوصة وهي ليلة الأحد العشرين من شهر رمضان. وأصبحوا يوم الاثنين شنوا الغارات على ما بغربي قبرس من الضياع ونهبوا وأسروا وقتلوا وأحرقوا وعادوا بغنائم كثيرة ثم ساروا ليله الاربعاء يريدون الملاحة وتركوا في البر أربعمائة من الرجالة يسيرون بالقرب منهم إلى أن وصلوا إليها ونهبوها وأسروا وأحرقوا يضًا. ثم ركبوا البحر جميعًا وأصبحوا باكر النهار فوافاهم الفرنج في عشرة أغربة وقرقورة كبيرة فلم يثبتوا للمسلمين وانهزموا من غير حرب واستمر المسلمون بساحل الملاحة وقد أرست مراكبهم عليها. وبينما هم فيما هم فيه كرت أغربة الفرنج راجعة إليهم وكان قصد الفرنج بعودهم أن يخرج المسلمون إليهم فيقاتلوهم في وسط البحر. فلما أرست المسلمون على ساحل الملاحة كرت الفرنج عليهم فبرزت إليهم المسلمون وقاتلوهم قتالًا شديدًا إلى أن هزمهم الله تعالى وعادوا بالخزي وبات المسلمون ليلة الجمعة خامس عشرين شهر رمضان. فلما كان بكرة نهار الجمعة أقبل عسكر قبرس وعليهم أخو الملك ومشى على المسلمين فقاتله مقدار نصف العسكر الإسلامي أشد قتال حتى كسروهم وانهزم أخو الملك بمن كان معه من العساكر بعد أن كان المسلمون أشرفوا على الهلاك ولله الحمد والمنة وقتل المسلمون من الفرنج مقتلة عظيمة. ثم أمر الأمير جرباش بإخراج الخيول إلى البر فأخرجوا الخيول من المراكب إلى البر في ليلة السبت وتجهزوا للمسير ليغيروا على نواحي قبرس من الغد. فلما كان بكرة يوم السبت المذكور ركبوا وساروا إلى المغارات حتر وافوها فأخذوا يقتلون ويأسرون ويحرقون وينهبون القرى حتى ضاقت مراكبها عن حمل الأسرى وامتلأت أيديهم بالغنائم وألقى كثير منهم ما أخذه إلى الأرض. فعند ذلك كتب الأمير جرباش مقدم العساكر المجاهدة كتابًا إلى الأمير قصروه من تمراز نائب طرابلس بهذا الفتح العظيم والنصر المبين صحبة قاصد بعثه الأمير قصروه مع المجاهدين ليأتيه بأخبارهم. فعندما وصل الخبر للأمير قصروه كتب في الحال إلى السلطان بذلك وفي طي كتابه كتاب الأمير جرباش المذكور وهو الكتاب الذي قرىء بالأشرفية بالقاهرة ثم بجامع عمرو بن العاص. ثم إن الأمير جرباش لما رأى أن الأمر أخذ حده وأن السلامة غنيمة ثم ظهر له بعض تخوف عسكره فإنه بلغهم أن صاحب قبرس قد جمع عساكر كثيرة واستعد لقتال المسلمين فشاور من كان معه من الأمراء والأعيان فأجمع رأي الجميع على العود إلى جهة الديار المصرية مخافة من ضجر العسكر الإسلامي إن طال القتال بينهم وبين أهل قبرس إذا صاروا في مقابله. فعند ذلك أجمع رأي الأمير جرباش المذكور أن يعود بالعساكر الإسلامية على أجمل وجه فحل القلاع بعد أن تهيأ للسفر وسار عائدًا حتى أرسى على الطينة قريبًا من قطيا وثغر دمياط ثم توجهوا إلى الديار المصرية. ولما بلغ الناس ذلك وتحقق كل أحد ما حصل للمسلمين من النصر والظفر عاد سرورهم لأن السلطان كان لما بلغه عودهم نادى في الناس: من أراد الجهاد فليحضر لأخذ النفقة فكثر قلق الناس لذلك وظنوا كل هذا ما كان من أمر الغزاة. وأما السلطان فإنه أفرج في يوم الاثنين ثالث عشر شوال عن الأمير الكبير بيبغا المظفري من سجن الإسكندرية ونقله إلى ثغر دمياط وأنعم عليه بفرس بقماش ذهب ليركبه بدمياط إلى حيث يشاء. ثم أخذ السلطان ينتظر الغزاة إلى أن قدموا عليه يوم السبت خامس عشرين شوال المقدم ذكره ومعهم ألف وستون أسيرًا ممن أسروا في هذه الغزوة. وباتوا تلك الليلة بساحل بولاق وصعدوا في بكرة يوم الأحد سادس عشرينه إلى القلعة وبين أيديهم الأسرى والغنائم وهي على مائة وسبعين حمالًا وأربعين بغلًا وعشرة جمال ما بين جوخ وصوف وصناديق وحديد وآلات حربية وأوان وسار الجميم من شارع القاهرة وقد جلس الناس بالحوانيت والبيوت والأسطحة والشوارع بحيث إن الشخص كان لا يكاد أن يمر إلى طريقه إلا بعد مشقة كبيرة وربما لا يستطيع السير ويرجع إلى حيث أتى. وبالجملة فإنه كان يومًا مشهودًا لم يعهد مثله في الدولة التركية. ولما طلع ذلك كله إلى القلعة وعرض على السلطان رسم السلطان ببيع الأسرى وتقويم الأصناف فقومت الأصناف. ثم بتددىء بالبيع في يوم الاثنين سابع عشرين شوال بالحراقة من باب السلسلة بحضرة الأمير جقمق العلائي أمير آخور الكبير وتولى البيع عن السلطان الأمير إينال الششماني الناصري أحد أمراء العشرات ورأس نوبة فاشتراهم الناس على اختلاف طبقاتهم من أمير وجندي وقاض وفقيه وتاجر وعامي. ورسم السلطان أن لا يفرق بين الآباء وأولادهم ولا بين قريب وقريبه فكانوا يشترونهم جميعًا والذي كان وحده أبيع وحده. واستمر البيع فيهم أيامًا وجمع ما تحصل من أثمانهم فأنفق السلطان من ذلك على المجاهدين فأعطى لطائفة سبعة دنانير ونصفًا ولطائفة ثلاثة دنانير ونصفًا وانقضى أمر المجاهدين في هذه السنة. قال المقريزي: في يوم الجمعة سابع ذي الحجة اتفقت حادثة شنيعة وهي أن الخبز قل وجوده في الأسواق فعندما خرج بدر الدين محمود العيني محتسب القاهرة من داره سائرًا إلى القلعة صاحت عليه العامة واستغاثوا بالأمراء وشكوا إليهم المحتسب فعرج عن الشارع وطلع إلى القلعة وهو خائف من رجم العامة له وشكاهم إلى السلطان وكان يختص به ويقرأ له في الليل تواريخ الملوك ويترجمها له بالتركية فحنق السلطان وبعث طائفة من الأمراء إلى باب زويلة فأخذوا أفواه السكك ليقبضوا على الناس فرجم بعض العبيد بعض الأمراء بحجر أصابه فقبض عليه وضرب ثم قبض على جماعة كبيرة من الناس وأحضروا بين يدي السلطان فرسم بتوسيطهم ثم أسلمهم إلى الوالي فضربهم وقطع آنافهم وآذانهم وسجنهم ليلة السبت. ثم عرضوا من الغد على السلطان فأفرج عنهم وعدتهم اثنان وعشرون رجلًا من المستورين ما بين شريف وتاجر فتنكرت القلوب من أجل ذلك وانطلقت الألسنة بالدعاء وغيره. انتهى كلام المقريزي برمته. وهو كما قال غير أنه سكت عن رجم العامة للعينتابي المذكور يريد بذلك تقوية الشناعة على العيني لبغض كان بينهما قديمًا وحديثًا. ثم قدم كتاب الأمير تغري بردي المحمودي رأس نوبة النوب وأمير حاج المحمل من مكة في يوم الجمعة حادي عشرين ذي الحجة يتضمن أنه لما نزل عقبة أيلة بعث قاصدًا إلى الشريف حسن بن عجلان أمير مكة يرغبه في الطاعة ويحذره عاقبة المخالفة فقدم عليه ابنه بركات بن حسن بن عجلان وقد نزل بطن مر في ثامن عشرين ذي القعدة فسر بقدومه ودخل معه مكة في أول ذي الحجة وحلف له بين الحجر الأسود والملتزم أن أباه لا يناله مكروه من قبله ولا من قبل السلطان فعاد إلى أبيه وقدم به مكة في يوم الاثنين ثالث ذي الحجة وأنه حلف له ثانيًا وألبسه التشريف السلطاني وقرره في إمرة مكة على عادته وأنه عزم على حضوره إلى السلطان صحبة الركب واستخلاف ولده بركات على مكة. انتهى. ثم في يوم الاثنين خامس عشرين المحرم سنة تسع وعشرين وثمانمائة خلع السلطان على الأمير إينال الششماني أحد أمراء العشرات ورأس نوبة باستقراره في حسبة القاهرة عوضًا عن قاضي ثم في رابع عشرين المحرم قدم الأمير تغري بردي المحمودي رأس نوبة النوب وأمير حاج المحمل بالمحمل وقدم معه الأمير الشريف حسن بن عجلان فأكرمه السلطان وأنزله بمكان يليق به. ثم خلع عليه في يوم سابع عشرينه باستقراره في إمرة مكة على عادته بعد أن ألتزم بحمل ثلانين ألف دينار وأرسل قاصده إلى مكة ليحضر المبلغ المذكور وأقام هو بالقاهرة رهينة. وقدم أيضًا مع الحاج الأمير قرقماش الشعباني الناصري أحد مقدمي الألوف بعد أن أقام بمكة نحو السنتين شريكًا لأمير مكة في هذه المدة ومهد أمورها وأقمع عبيد مكة ومفسديها وأبادهم. ثم في يوم الأربعاء نصف صفر جمع السلطان الأمراء والقضاة كثيرًا من أكابر التجار وتحدث معهم في إبطال المعاملة بالذهب المشخص الذي يقال له الإفرنتي وهو من ضرب الفرنج وعليه شعار كفرهم الذي لا تجيزه الشريعة المحمدية وأن يضرب عوضه ذهبًا عليه السكة الإسلامية فصوب من حضر رأي السلطان في إبطاله. وهذا الإفرنتي المذكور قد كثرت المعاملة به في زماننا من حمود سنة ثمانمائة في أكثر مدائن الدنيا مثل: القاهرة ومصر والبلاد الشامية وكثر بلاد الروم وبلاد الشرق والحجاز واليمن حتى صار هو النقد الرائج والمطلوب في المعاملات. وانفض المجلس على ذلك وقد كثر ثناء الناس على السلطان بسبب إبطال ذلك. ولما كان الغد طلب السلطان صناع دار الضرب وشرع في ضرب الذهب الأشرفي وتطلب من ثم في سادس عشرينه نودي بالقاهرة بإبطال المعاملة بالذهب الإفرنتي وأن يتعامل الناس بالدنانير الأشرفية زنة الدينار منها زنة الإفرنتي ثم ألزم السلطان الناس بحمل ما عندهم من الإفرنتية إلى دار الضرب.
|