الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****
1 - القيلولة في اللّغة: من قال يقيل قيلاً وقيلولةً، وقائلةً: نام نصف النهار. ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ، قال الشّربينيّ الخطيب: القيلولة هي النّوم قبل الزوال. وقال العينيّ: القيلولة معناها النّوم في الظهيرة. وقال المناويّ: القيلولة: النّوم وسط النهار عند الزوال وما قاربه من قبل أو بعد.
2 - نوم القائلة مستحبّ. قال الموصليّ: تستحبّ القيلولة. قال عليه الصلاة والسلام: «قيلوا فإنّ الشياطين لا تقيل»، وقال: «استعينوا بطعام السحر على صيام النهار، وبالقيلولة على قيام الليل»، يعني الصلاة فيه وهو التهجّد وما في معناه من ذكر وقراءة فإنّ النفس إذا أخذت حظها من نوم النهار استقبلت السهر بنشاط وقوة انبساط، فأفاد ندب التسحّر والنّوم وسط النهار وبقصد التقوّي على الطاعة. وقال الشّربينيّ الخطيب: يسنّ للمتهجّد القيلولة وهي النّوم قبل الزوال وهي بمنزلة السّحور للصائم. وللتفصيل (ر: نوم). 3 - وقت القائلة هو من الأوقات التي تقتضي عادة الناس الانكشاف فيها وملازمة التعرّي، وهي ثلاثة أوقات ذكرها الله تعالى في قوله سبحانه: {مِن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء}، فما قبل الفجر وقت انتهاء النّوم ووقت وضع ثياب النّوم ولبس ثياب النهار، ووقت القائلة وقت التجرّد أيضاً وهي الظهيرة، وبعد صلاة العشاء وقت التعرّي للنّوم فالتكشّف غالب في هذه الأوقات، يروى «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث غلاماً من الأنصار يقال له مدلج إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ظهيرةً ليدعوه فوجده نائماً قد أغلق عليه الباب فدق الغلام الباب فناداه ودخل فاستيقظ عمر وجلس فانكشف منه شيء، فقال عمر: وددت أنّ الله نهى أبناءنا ونساءنا وخدمنا عن الدّخول علينا في هذه الساعات إلا بإذن، ثم انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد هذه الآية قد أنزلت {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ}، فخر ساجداً شكراً لله تعالى»، فقد أدب الله عز وجل عباده في هذه الآية بأن يكون العبيد إذ لا بال لهم، والأطفال الذين لم يبلغوا الحلم إلا أنّهم عقلوا معاني الكشفة ونحوها يستأذنون على أهليهم في هذه الأوقات الثلاثة وهي الأوقات التي تقتضي عادة الناس الانكشاف فيها وملازمة التعرّي. ثم اختلف الصحابة في هذه الآية هل هي محكمة أو منسوخة؟ فقال ابن عمر رضي الله عنهما: هي محكمة: يعني في الرّجال خاصةً، وقال ابن عباس رضي الله عنهما قد ذهب حكمها. روى عكرمة أنّ نفراً من أهل العراق سألوا ابن عباس فقالوا: يا ابن عباس، كيف ترى في هذه الآية التي أمرنا فيها بما أمرنا فلا يعمل بها أحد، قول الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ...}، وقرأها. فقال ابن عباس: إنّ الله رفيق بجميع المؤمنين يحبّ الستر وكان الناس ليس لبيوتهم ستور ولا حجال، فربما دخل الخادم أو ولده أو يتيمه، والرجل على أهله، فأمر الله بالاستئذان في تلك العورات. فجاءهم الله بالسّتور والخير، فلم أر أحداً يعمل بذلك.
1 - القيمة في اللّغة: الثمن الذي يقوم به المتاع، والقيمة واحدة القيم، وهي ثمن الشيء بالتقويم. وفي الاصطلاح: ما قوّم به الشيء بمنزلة المعيار من غير زيادة ولا نقصان.
أ - الثمن: 2 - الثمن في اللّغة: العوض، والجمع أثمان، وثمنته تثميناً: جعلت له ثمناً، والثمن: اسم لما يأخذه البائع في مقابلة المبيع، عيناً كان أو سلعةً، كلّ ما يحصل عوضاً عن شيء فهو ثمنه. وفي اصطلاح الفقهاء هو: ما يبذله المشتري من عوض للحصول على المبيع، وتطلق الأثمان أيضاً على الدراهم والدنانير. وعلى ذلك فالثمن ما يقع به التراضي بين المتعاقدين سواء أكان مساوياً للقيمة أم أزيد منها أم أنقص. ب - السّعر: 3 - السّعر في اللّغة: هو الذي يقوم عليه الثمن، والجمع أسعار، وقد سعّروا: اتفقوا على سعر، وسعرت الشيء تسعيراً: جعلت له سعراً معلوماً ينتهي إليه. ويقال: له سعر: إذا زادت قيمته، وليس له سعر: إذا أفرط رخصه، وسعر السّوق: ما يكون شائعاً بين التّجار، والتسعير: تقدير السّلطان للناس سعراً محدداً. ولا يخرج استعمال الفقهاء للفظ سعر عن المعنى اللّغويّ. وعلى ذلك فالسّعر: ما يحدّده البائع ثمناً للسّلعة أو ما يحدّده السّلطان. أما القيمة فهي ما يساويه الشيء في تقويم المقوّمين. ج - المِثْل: 4 - المثل في اللّغة: الشبه، يقال: هذا مثله ومثله كما يقال: شبيهه وشبهه. ويطلق الفقهاء المثلي على ما تماثلت آحاده وأجزاؤه من الأموال بحيث يمكن أن يقوم بعضها مقام بعض دون فرق يعتدّ به. وفي مجلة الأحكام العدلية: هو ما يوجد مثله في السّوق بدون تفاوت يعتدّ به، وهو يشمل المكيلات والموزونات والمعدودات، والمثليّ من الأموال قسيم القيميّ. وعلى ذلك فالقيمة يقدر بها الأشياء القيمية، أما المثل فيقدر به المثليات.
تجب القيمة فيما يأتي: ومن أمثلة ذلك: أ - المبيع في البيع الفاسد: 5 - البيع الفاسد واجب الفسخ حقّاً لله تعالى، ويجب ردّ المبيع إلى البائع، وردّ الثمن إلى المشتري، فإذا هلك المبيع عند المشتري وكان قيميّاً كالحيوان والعروض والعقار ضمن المشتري قيمته، وهذا عند الحنفية، وهو المذهب عند الحنابلة، نص عليه أحمد في رواية ابن منصور وأبي طالب. وحكى القاضي في المجرد وابن عقيل في الفصول عن أبي بكر عبد العزيز أنّ المقبوض بالبيع الفاسد يضمن بالمسمى، وهو اختيار الشيخ تقيّ الدّين وقال: إنّه قياس المذهب. ويفصّل المالكية بين البيع الفاسد المختلف في فساده وبين الفاسد المتفق على فساده. ففي البيع الفاسد المختلف في فساده - ولو خارج المذهب - إذا فات المبيع بيد المشتري فإنّه يضمنه بالثمن الذي وقع به البيع إلا ما يستثنى من ذلك. وإن كان البيع متفقاً على فساده فإنّ المشتري يضمن قيمته إن كان متقوماً، ومثله إن كان مثليّاً، وهذا ما مشى عليه خليل وهو المشهور، وهي طريقة ابن شاس وابن الحاجب، وأصلها لابن يونس وعزاها لابن القاسم في غير المدونة. والطريقة الثانية لابن رشد وابن بشير واللخميّ والمازريّ أنّ اللازم مع الفوات هو القيمة مطلقاً سواء أكان المبيع قيميّاً أم مثليّاً. وقال الشافعية: إذا تلف المبيع في البيع الفاسد فإنّ المشتري يضمن مثله في المثليّ، وأقصى قيمه إن كان متقوماً، وهذا ما جاء في بعض كتب الشافعية كمغني المحتاج وأسنى المطالب، وقال الشّهاب الرمليّ تعليقاً على قول الروض: " يضمن المبيع التالف بالمثل في المثليّ "، هذا ما نص عليه الشافعيّ، وإن صحح الماورديّ أنّه يضمن بقيمته أيضاً، وادعى في البحر أنّه لا خلاف فيه. كذلك ذكر الزركشيّ أنّ الرافعي أطلق وجوب القيمة دون تفصيل بين المثليّ والمتقوّم، وبه صرح الماورديّ، لكنّ الزركشيّ قال: إنّه ضعيف. هذا الذي سبق إنّما هو بالنّسبة للبيع الفاسد عند الحنفية،وهو والباطل سواء عند الجمهور. أما عند الحنفية في البيع الباطل فإنّ المبيع إذا تلف بيد المشتري فإنّه لا ضمان على المشتري فيه عند أبي حنفية ; لأنّه أمانة في يده فيهلك بغير شيء. وعند أبي يوسف ومحمد يضمن قيمته ; لأنّ البائع ما رضي بقبضه مجاناً. 6 - إذا وجبت قيمة المبيع في البيع الفاسد فللفقهاء اتّجاهات في وقت وجوب القيمة. فعند الحنفية، وهو المشهور عند المالكية، وفي وجه عند الشافعية: أنّه يجب ضمان القيمة يوم قبض المبيع، قال الحنفية: ولو زادت قيمته في يده فأتلفه ; لأنّه إنّما يدخل في ضمانه بالقبض فلا يتغير كالغصب. وعند الحنابلة - كما قاله القاضي ونص عليه أحمد - وهو قول محمد من الحنفية ووجه عند الشافعية: أنّه يجب ضمان القيمة يوم تلف المبيع قالوا: ; لأنّه مأذون في إمساكه فأشبه العارية. والمذهب عند الشافعية أنّ القيمة تجب بأقصى القيم من حين القبض إلى حين التلف ; لأنّه مخاطب في كلّ لحظة من جهة الشرع بردّه، وهو قول عند الحنابلة ذكره الخرقيّ في الغصب، قال ابن قدامة: فيخرج هاهنا " البيع الفاسد "، بل هو هنا أولى ; لأنّ العين كانت على ملك صاحبها في حال زيادتها وعليه ضمان نقصها مع زيادتها، فكذلك في حال تلفها. وفي قول عند المالكية تجب القيمة يوم البيع. ب - المغصوب: 7 - من غصب شيئاً لزمه ردّه ما كان باقياً لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي»، فإن تلف في يده لزمه بدله ; لأنّه لما تعذر ردّ العين وجب ردّ ما يقوم مقامها في المالية، فإن كان المغصوب مما له مثل كالمكيلات والموزونات والعدديات المتقاربة فعلى الغاصب مثله ; لأنّ ضمان الغصب ضمان اعتداء، والاعتداء لم يشرع إلا بالمثل، قال الله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}، والمثل المطلق هو المثل صورةً ومعنىً، فأما القيمة فمثل من حيث المعنى دون الصّورة. ولأنّ ضمان الغصب ضمان جبر الفائت، ومعنى الجبر بالمثل أكمل منه من القيمة، فلا يعدل عن المثل إلى القيمة إلا عند التعذّر. وإن كان مما لا مثل له فعليه قيمته ; لأنّه تعذر إيجاب المثل معنىً وهو القيمة ; لأنّها المثل الممكن. والأصل في ضمان القيمة ما روى عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أعتق شركًا له في عبد فكان له مال يبلغ ثمن العبد قوّم عليه قيمة العدل»، فأمر صلى الله عليه وسلم بالتقويم في حصة الشريك ; لأنّها متلفة بالعتق ولم يأمر بالمثل ; ولأنّ هذه الأشياء لا تتساوى أجزاؤها وتتباين صفاتها، فالقيمة فيها أعدل وأقرب إليها فكانت أولى، والنص الوارد في العبد يكون وارداً في إتلاف كلّ ما لا مثل له دلالةً. وحكي عن العنبريّ أنّه يجب في كلّ شيء مثله مثليّاً كان أو متقوماً، لما ورد عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنّها قالت: «ما رأيت صانعة طعام مثل صفية أهدت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم إناء فيه طعام، فما ملكت نفسي أن كسرته، فسألت النّبي صلى الله عليه وسلم عن كفارته فقال: إناء كاناء، وطعام كطعام». وعن أنس «أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم كان عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين مع خادم بقصعة فيها طعام، فضربت بيدها فكسرت القصعة فضمها وجعل فيها الطعام، وقال: كلوا، وحبس الرسول والقصعة حتى فرغوا، فدفع القصعة الصحيحة، وحبس المكسورة». ولأنّ «النّبي صلى الله عليه وسلم استسلف بعيراً ورد مثله». وينظر تفصيل ذلك في (غصب ف / 19، 20، 23).
8 - ذهب الحنفية والمالكية وهو رواية عن أحمد إلى أنّ الغاصب يضمن قيمة المتقوّم التالف يوم الغصب. وعند الشافعية يضمن بأقصى قيمة من وقت الغصب إلى وقت التلف ; لأنّه غاصب في الحال التي زادت فيها قيمته فلزمه ضمان قيمته فيها: والمذهب عند الحنابلة: وجوب القيمة يوم تلف المغصوب. وينظر تفصيل ذلك في (غصب ف / 24).
9 - مما تجب فيه القيمة أيضاً المضمون المثليّ إذا تعذر ردّ المثل، وذلك كالمبيع في البيع الفاسد إذا كان مثليّاً، وكالمغصوب المثليّ كذلك. ويوضّح الشافعية والحنابلة كيفية تعذّر المثل في أنّه إما لعدم وجوده، أو لبعده وعدم إمكان الوصول إليه، أو لوجوده بزيادة على ثمن مثله، ففي هذه الحالات تجب قيمة المثل وهي معتبرة عند الشافعية أقصى قيمة من وقت قبض المبيع الفاسد أو من وقت الغصب إلى وقت تعذّر المثل، وعند الحنابلة إنّما تجب قيمة المثل يوم إعواز المثل لوجوب القيمة في الذّمة حين انقطاع المثل فاعتبرت القيمة حينئذ. وعند الحنفية تجب قيمة المثل يوم الخصومة عند أبي حنيفة، وقال أبو يوسف تجب القيمة يوم الغصب، وقال محمد تجب القيمة يوم الانقطاع. ويفرّق المالكية بين ما يجب عند تعذّر المثل في البيع الفاسد وبين تعذّره في الغصب، فقالوا: إنّ المبيع في البيع الفاسد إذا تلف وكان مثليّاً فإنّه يضمن بالقيمة في الأحوال الآتية: أ - إذا تعذر وجوده. ب - إذا بيع جزافاً ولم يعلم كيله أو وزنه بعد البيع. ج - إذا بيع بكيل أو وزن أو عدّ ولكن نسي ذلك وقت القضاء بالردّ. د - إذا علم كيله أو وزنه أو عدده ولكن تعذر وجوده يوم القضاء بالردّ. ففي هذه الأحوال يضمن قيمته يوم القضاء بالردّ. أما المغصوب المثليّ إذا تلف فإنّ المغصوب منه يصبر لوقت الوجود ليأخذ المثل.
10 - إذا اختلف البائع والمشتري في ثمن المبيع فقال البائع: بعتك بكذا، وقال المشتري: اشتريت بكذا ولا بينة لواحد منهما، تحالفا ويفسخ البيع إن لم يتراضيا. فإذا تلف المبيع عند المشتري فقد اختلف الفقهاء في كيفية ضمانه. فعند الحنابلة، وهو قول النّوويّ من الشافعية وصححه في الحاوي، وهو ما مشى عليه صاحب المهذب، وهو قول عند المالكية على ما في التوضيح وغيره: أنّ المشتري يضمن المبيع بالقيمة، سواء أكان مثليّاً أم قيميّاً. والمشهور عند الشافعية على ما ذكره الشّربينيّ الخطيب، وهو قول عند المالكية: أنّ المشتري يضمن المثل إن كان مثليّاً، والقيمة إن كان قيميّاً.
11 - من المضمونات ما تجب فيه القيمة والمثل معاً، وذلك في الصيد المملوك إذا قتله المحرم أو قتله الحلال في الحرم، فإنّه يضمنه بالقيمة للمالك وبالمثل الصّوريّ لحقّ الله تعالى، وذلك كما إذا استعار صيداً مملوكاً من حلال وتلف عنده، وهذا إذا كان له مثل لقوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ}. فإن كان مما لا مثل له من النعم كالعصافير المملوكة وجبت فيه قيمتان: إحداهما تجب حقّاً لله تعالى، والأخرى تجب لمالكه.
1 - القيميات في اللّغة: جمع مفرده قِيمِيّ، يقال: شيء قِيمِيّ نسبةً إلى القيمة على لفظها; لأنّه لا وصف له ينضبط به في أصل الخلقة حتى ينسب إليه. والقيمة: ثمن الشيء بالتقويم. والقيميّ في الاصطلاح: ما لا يوجد له مثل في السّوق، أو يوجد لكن مع التفاوت المعتدّ به في القيمة كالمثليّ المخلوط بغيره، وكالعدديات المتفاوتة التي يكون بين أفرادها وآحادها تفاوت في القيمة كالأنعام.
المثليات: 2 - المثليات جمع مثليّ، والمثل في اللّغة: الشبه يقال: هذا مثله ومثله، كما يقال شبيهه وشبهه. ويطلق الفقهاء المثلي على ما تماثلت آحاده وأجزاؤه من الأموال بحيث يمكن أن يقوم بعضها مقام بعض دون فرق يعتدّ به. وفي المجلة: المثليّ ما يوجد مثله في السّوق بدون تفاوت يعتدّ به كالمكيل والموزون والعدديات المتقاربة. وعلى ذلك فالمثليّ قسيم القيميّ من الأموال.
ومن أمثلة ذلك ما يلي: أ - البيع: 3 - يجوز أن تكون الأموال القيمية كالعروض والحيوانات وغير ذلك محلّاً للبيع باتّفاق الفقهاء، مع مراعاة استيفاء الشّروط المعتبرة في ذلك من كون هذه الأموال مملوكةً للعاقد طاهرةً منتفعاً بها مقدوراً على تسليمها معلومةً لكلّ من العاقدين. وينظر تفصيل ذلك في مصطلح (بيع ف / 28 وما بعدها). ب - الإجارة: 4 - يجوز أن تكون منفعة الأموال القيمية محلّاً لعقد الإجارة كاستئجار دار للسّكنى، وحيوان للرّكوب أو لنقل متاع، مع مراعاة استيفاء الشّروط المعتبرة في ذلك من كون المنفعة معلومةً ومقدوراً على استيفائها... وغير ذلك، وهذا باتّفاق. وينظر تفصيل ذلك في مصطلح (إجارة ف / 29 وما بعدها).
ومن أمثلة ذلك ما يلي: أ - السلم: 5 - يشترط لصحة السلم أن يكون المسلم فيه مما يمكن أن يضبط قدره وصفته بالوصف على وجه لا يبقى بعد الوصف إلا تفاوت يسير، ولذلك يجوز السلم في المثليات كالمكيلات والموزونات ; لأنّها ممكنة الضبط قدراً وصفةً، وهذا باتّفاق. وكذلك يجوز السلم في القيميات التي تنضبط بالصّفات عند الجمهور، وذهب الحنفية إلى عدم صحة السلم في القيميات إلا أنّهم استثنوا بعضها استحساناً. قال الكاسانيّ: أما الذرعيات كالثّياب والبسط والحصر والبواري ونحوها فالقياس أن لا يجوز السلم فيها ; لأنّها ليست من ذوات الأمثال للتفاوت الفاحش بين ثوب وثوب، ولهذا لم تضمن بالمثل في ضمان العدديات بل بالقيمة فأشبه السلم في اللآلئ والجواهر إلا أنّا استحسنّا الجواز لقول الله عز وجل في آية الدين: {وَلاَ تَسْأَمُوْاْ أَن تَكْتُبُوْهُ صَغِيرًا أَو كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ}، والمكيل والموزون لا يقال فيه الصغير والكبير، وإنّما يقال ذلك في الذرعيات والعدديات ; ولأنّ الناس تعاملوا السلم في الثّياب لحاجتهم إلى ذلك فيكون إجماعاً منهم على الجواز فيترك القياس بمقابلته ; ولأنّه إذا بين جنسه وصفته ونوعه وطوله وعرضه يتقارب التفاوت فيلحق بالمثل في باب السلم لحاجة الناس. (ر: سلم ف 21). 6 - واختلف الجمهور فيما يمكن ضبطه بالصّفات من القيميات فيجوز السلم فيه وما لا يمكن ضبطه بالصّفات فلا يجوز السلم فيه. فذهب المالكية إلى أنّ كل القيميات يجوز السلم فيها ; لأنّها يمكن ضبطها بالصّفات، ولذلك أجازوا السلم في الثّياب والحيوان واللّؤلؤ والجواهر الكبيرة ; لأنّ كل ذلك يمكن ضبطه بالصّفات عندهم فقالوا في اللّؤلؤ: يمكن حصر صفته بذكر جنسه وعدده ووزن كلّ حبة وبيان صفتها وهكذا. وعند الشافعية يجوز السلم في الثّياب والأصواف والأخشاب والأحجار ; لأنّ ذلك مما يمكن عندهم ضبطه بالوصف كما أجازوا السلم في الحيوان، قالوا: ; لأنّه ثبت في الذّمة قرضاً بحديث: «أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكراً فقدمت عليه إبل من إبل الصدقة، فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره، فرجع إليه أبو رافع فقال: لم أجد فيها إلا خياراً رباعيّاً، فقال: أعطه إياه. إنّ خيار الناس أحسنهم قضاءً» فقيس السلم على القرض، ولم يجيزوا السلم في الجواهر كاللّؤلؤ والعقيق والياقوت ولا في الجلود ; لأنّ ذلك مما لا يمكن ضبطه بالوصف. واختلفت الرّواية عند الحنابلة في السلم في الأشياء القيمية، قال ابن قدامة: اختلفت الرّواية في السلم في الحيوان، فروي أنّه لا يصحّ السلم فيه وهو قول الثوريّ، وروي ذلك عن عمر وابن مسعود وحذيفة وسعيد بن جبير والشعبيّ والجوزجانيّ ; لما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنّه قال: إنّ من الرّبا أبواباً لا تخفى وإنّ منها السلم في السّنّ ; ولأنّ الحيوان يختلف اختلافاً متبايناً فلا يمكن ضبطه، وظاهر المذهب صحة السلم فيه، نص عليه في رواية الأثرم، قال ابن المنذر: وممن روينا عنه أنّه لا بأس بالسلم في الحيوان ابن مسعود وابن عباس وابن عمر وسعيد بن المسيّب والحسن والشعبيّ ومجاهد والزّهريّ والأوزاعيّ ; ولأنّ أبا رافع قال: «استسلف النبيّ صلى الله عليه وسلم من رجل بكراً» ; ولأنّه ثبت في الذّمة صداقاً فثبت في السلم كالثّياب. وقال ابن قدامة: واختلفت الرّواية في السلم في غير الحيوان مما لا يكال ولا يوزن ولا يذرع فنقل إسحاق بن إبراهيم عن أحمد أنّه قال: لا أرى السلم إلا فيما يكال أو يوزن أو يوقف عليه، قال أبو الخطاب: معناه يوقف عليه بحدّ معلوم لا يختلف كالذرع، فأما الرّمان والبيض فلا أرى السلم فيه، وحكى ابن المنذر عنه وعن إسحاق: أنّه لا خير في السلم في الرّمان والسفرجل والبطّيخ والقثاء والخيار ; لأنّه لا يكال ولا يوزن ومنه الصغير والكبير، فعلى هذه الرّواية لا يصحّ السلم في كلّ معدود مختلف كالبقول ; لأنّه يختلف ولا يمكن تقدير البقل بالحزم ; لأنّ الحزم يمكن في الصغير والكبير فلم يصح السلم فيه كالجواهر، ونقل إسماعيل بن سعيد وابن منصور جواز السلم في الفواكه والسفرجل والرّمان والموز والخضراوات ونحوها ; لأنّ كثيراً من ذلك مما يتقارب وينضبط بالصّغر والكبر، وما لا يتقارب ينضبط بالوزن. ب - القرض: 7 - اختلف الفقهاء في قرض الأشياء القيمية فعند الحنفية لا يصحّ قرض القيميات كالحيوان والعقار وكلّ شيء متفاوت ; لأنّ القرض إعارة ابتداءً حتى صح بلفظها، معاوضة انتهاءً ; لأنّه لا يمكن الانتفاع به إلا باستهلاك عينه فيستلزم إيجاب المثل في الذّمة، وهذا لا يتأتى في غير المثليّ، قال في البحر: ولا يجوز في غير المثليّ ; لأنّه لا يجب ديناً في الذّمة، ويملكه المستقرض بالقبض الصحيح، والمقبوض بقرض فاسد يتعين لردّ، وفي القرض الجائز لا يتعين بل يردّ المثل وإن كان قائماً. وعلى هذا فإنّ قرض ما لا يجوز قرضه من القيميات يعتبر عاريةً من حيث إنّه يجب ردّ عينه. وفي الأصحّ عند الشافعية وهو وجه عند الحنابلة قاله أبو الخطاب أنّ القيميات التي لا تنضبط أو يندر وجودها لا يجوز قرضها ; لأنّه يتعذر أو يتعسر ردّ المثل، وردّ المثل هو الواجب في الأظهر. وذهب المالكية وهو مقابل الأصحّ عند الشافعية وهو الوجه الثاني عند الحنابلة أنّه يجوز قرض القيميات بناء على أنّه يجوز ردّ مثل المتقوّم صورةً ; «لأنّ النّبي صلى الله عليه وسلم استسلف بكراً ورد رباعيّاً» ; ولأنّه لو وجبت القيمة لافتقر إلى العلم بها. قال ابن عبد البرّ: وقرض كلّ شيء واستقراضه جائز من العروض والعين والحيوان. ج - الشركة: 8 - لا يصحّ أن يكون رأس مال الشركة من الأموال القيمية ; لتعذّر الخلط في المتقومات ; لأنّها أعيان متميّزة، حينئذ تتعذر الشركة ; لأنّ بعضها قد يتلف فيذهب على صاحبه وحده ; ولأنّها تقتضي الرّجوع عند فسخها برأس المال أو مثله، ولا مثل لها يرجع إليه وقيمتها لا يجوز عقدها عليها ; لأنّها قد تزيد في أحدهما قبل بيعه فيشاركه الآخر في العين المملوكة له وثمنها معدوم حال العقد وغير مملوك لهما. وهذا في الجملة عند جمهور الفقهاء خلافاً للمالكية فيجوز عندهم في المتقوّم كالعروض والأعيان، وكلّ بالقيمة. وينظر تفصيل ذلك في مصطلح (شركة ف / 44).
1 - القيّم في اللّغة: من قام بالأمر قياماً وقوماً: اهتم به بالرّعاية والحفظ، ومنه قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ}، والقوام اسم لمن يكون مبالغاً في القيام بالأمر، وقيّم اليتيم هو الذي يقوم بأمره، ويتعهد شؤونه بالرّعاية والحفظ. وفي الاصطلاح هو من يعيّنه الحاكم لتنفيذ وصايا من لم يوص معيناً لتنفيذ وصيته، والقيام بأمر المحجورين من أولاده من أطفال، ومجانين وسفهاء، وحفظ أموال المفقودين ممن ليس لهم وكيل. ويسمّيه المالكية: مقدم القاضي أو نائب القاضي.
أ - الوصيّ: 2 - الوصيّ هو من يعهد إليه الأب أو الجدّ أو القاضي بالتصرّف بعد موت الأب أو الجدّ فيما كان له التصرّف فيه في حياته من شؤونه: كقضاء ديونه واقتضائها، وردّ المظالم والودائع، واستردادها، وتنفيذ وصاياه والولاية على أولاده الذين له الولاية عليهم من أطفال ومجانين وسفهاء، والنظر في أموالهم، بحفظها والتصرّف فيها بما لهم فيه الحظّ. والصّلة أنّ الوصي أعمّ من القيّم. ب - الوكيل: 3 - الوكيل هو من يقوم بشؤون الغير بتفويض منه في حال حياته، والوكيل ينصبه الشخص في حال حياته، والقيّم ينصبه القاضي.
يتعلق بالقيّم أحكام منها: 4 - ولاية القيّم، بعد ولاية الأب، والجدّ، ووصيّهما ووصيّ وصيّهما مطلقاً عند الحنفية، وإن لم يمنعه الوليّ من الإيصاء عند المالكية، وإن أذن له الوليّ في الإيصاء في الأظهر عند الشافعية والحنابلة ; لأنّه: يستفيدها من القاضي، وهي متأخّرة عن هؤلاء، لخبر: «السّلطان وليّ من لا ولي له» ; ولأنّ الأبوة داعية إلى كمال النظر في حقّ الصغير لوفور شفقة الأب ووصيّه قائم مقامه ; لأنّه اختاره ورضيه، فالظاهر أنّه ما اختاره من بين الناس إلا لعلمه بأنّ شفقته على ورثته مثل شفقته عليهم وكذا الجدّ، ووصيّه ; ولأنّ شفقة الأب والجدّ تنشأ عن القرابة، ووصيّهما يقوم مقامهما، بخلاف القاضي ووصيّه، فإنّها تنشأ لكونه مظنّة العلم والعدالة والتقوى فتأخرت ولايته عن ولايتهما، ووصيّه نائب عنه.
5 - القيّم كوصيّ الميّت في التصرّفات إلا في بعض المسائل ذكرها الحنفية، وخالفهم غيرهم في معظمها. الأولى: أنّه ليس للقيّم الشّراء لنفسه ولا أن يبيع ممن لا تقبل شهادته له، بخلاف وصيّ الأصل فيجوز له ذلك إذا كان فيه للمحجور غبطة ظاهرة عند أبي حنيفة. وقال المالكية: لا يشتري الوصيّ مطلقاً من التركة على جهة الكراهة ; لأنّه يتهم على المحاباة فإن اشترى شيئاً من التركة تعقبه الحاكم بالنظر في المصلحة فإن كان صواباً أمضاه وإلا رده. وقال الشافعية: ليس للوصيّ بيع مال الموصى عليه لنفسه ولا بيع مال نفسه له، والقاضي وأمينه كالوصيّ، والمجنون والسفيه كالطّفل أما الأب والجدّ فلهما ذلك. وقال الحنابلة: لا يصحّ أن يبيع وليّ صغير وسفيه ومجنون من مال مولّيه لنفسه أو يشتري لنفسه ; لأنّه مظنّة التّهمة أما الأب فله ذلك. الثانية: إذا خصص القاضي ولاية القيّم بشيء معين تخصص به فلا يجاوزه، بخلاف وصيّ الأصل. وقال جمهور الفقهاء: ليس للوصيّ مطلقاً أن يتجاوز ما خصص له الموصي في التصرّفات ولا يكون وصيّاً في غير ما خصص له الموصي ; لأنّه استفاد التصرّف بإذن الموصي فكان مقصوراً على ما أذن له. الثالثة: جاء في الدّرّ المختار لا يجوز للقيّم أن يؤجّر الصغير لعمل ما، قال ابن عابدين: ينبغي أن يستثنى تسليمه في حرفة. وفي أدب الأوصياء: للوصيّ أن يؤجّر نفس اليتيم وعقاراته وسائر أمواله ولو بيسير الغبن. وعند المالكية يجوز للوصيّ وللحاكم أو من يقيمه أن يبيع ما تدعو الضرورة لبيعه من مال اليتيم والتسوّق بالمبيع. وعند الشافعية: يجبر القاضي الصبي والسفيه على الاكتساب إن كان لهما كسب ليرتفقا به في النفقة وغيرها. الرابعة: ليس للقاضي عزل وصيّ الأصل إن ضعف عن الكفاية، بل يضمّ إليه من يعينه، فمنصوب الأصل يحتفظ به ما أمكن ولا يعزل عن التصرّف، وله عزل القيّم ; لأنّه هو الذي ولَّاه. الخامسة: لا يملك القيّم القبض إلا بإذن مبتدأ من القاضي بعد الإيصاء، بخلاف وصيّ الأصل. السادسة: للقاضي نهي القيّم عن بعض التصرّفات وليس له نهي وصيّ الميّت عند الحنفية. وعند جمهور الفقهاء: يستويان في امتناع ما منع منهما. (ر: وصيّ). السابعة: ليس للقيّم نصب وصيّ عند موته وإذا فعل لا يصير الثاني وصيّاً، بخلاف وصيّ الأصل، هذا عند الحنفية، وقال الجمهور: لا يكون وصيّ وصيّ الأصل وصيّاً إلا إذا أذن الأصل في حياته لوصيّه بذلك. (ر: وصيّ).
انظر: توثيق.
انظر: كفر.
انظر: قيّم، ولاية.
انظر: تطيّب، تكفين.
1 - الكالئ في اللّغة: النسيئة والسلف، يقال: كلأ الدين يكلأ: تأخر فهو كالئ. وفي الحديث أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم: «نهى عن بيع الكالئ بالكالئ»، قال أبو عبيدة: يعني النسيئة بالنسيئة. والمراد به في اصطلاح الفقهاء: الدين. ويذكرون لفظ الكالئ في الكلام على بيع الدين بالدين مستدلّين بالنهي الوارد عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. ففي منح الجليل أثناء الكلام على ذكر البيوع الممنوعة قال: وكالئ بمثله ثم قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكالئ بالكالئ»، أي الدين بالدين.
العين: 2 - تطلق العين في اللّغة على أشياء مختلفة، فمنها العين الباصرة، ومنها العين الجارية. وتطلق العين أيضاً على ما ضرب من الدنانير، وقد يقال لغير المضروب: عين أيضاً، قال في التهذيب والعين: النّقد، يقال: اشتريت بالدين أو بالعين. ويطلق الفقهاء في اصطلاحهم كلمة العين في مقابل الدين، باعتبار أنّ الدين هو ما يثبت في الذّمة من غير أن يكون معيناً مشخصاً، سواء كان نقدًا أو غيره، أما العين فهي الشيء المعين المشخص. قال النّوويّ: المال المستحقّ عند غيره قسمان: دين، وعين. والصّلة بين العين والدين: أنّ العين مقابل الدين.
3 - من البيوع الممنوعة شرعاً بيع الكالئ بالكالئ، أي: بيع الدين بالدين، وذلك لما روى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم: «نهى عن بيع الكالئ بالكالئ»، قال ابن عرفة: تلقّي الأئمة هذا الحديث بالقبول يغني عن طلب الإسناد فيه، وقال ابن المنذر: أجمعوا على أنّ بيع الدين بالدين لا يجوز. والحكمة في النهي عن بيع الكالئ بالكالئ هي - كما يقول القرافيّ -: أنّه إذا اشتملت المعاملة على شغل الذّمتين توجهت المطالبة من الجهتين، فكان ذلك سبباً لكثرة الخصومات والعداوات، فمنع الشرع ما يفضي لذلك وهي بيع الدين بالدين. أما بيع الكالئ بالعين ففيه تفصيل واختلاف بين الفقهاء. والتفصيل في (بيع منهيّ عنه ف / 53 - 57، ودين ف / 58 - 62).
انظر: كهانة.
1 - الكبائر جمع كبيرة، وهي لغةً: الإثم. واصطلاحاً: كما قال القرطبيّ: كلّ ذنب عظم الشرع التوعّد عليه بالعقاب وشدده، أو عظم ضرره في الوجود. ولها تعريفات أخرى. وهناك من عرف الكبائر بالعدّ، قال الزركشيّ: اختلفوا في الكبيرة، هل تُعرَّف بالحدّ أو بالعدّ، على وجهين. وبالأول قال الجمهور. وقد جاء في النّصوص الشرعية وكلام الفقهاء التعبير عن الكبيرة أيضاً بالموبقة، كما في حديث: «اجتنبوا السبع الموبقات...»، وبالفاحشة، كما في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ} خلافاً للحليميّ، فإنّه قسم الذّنوب إلى ثلاثة أنواع هي الصغائر، والكبائر، والفواحش، ومثل لذلك بقتل النفس هو كبيرة، فإن قتل ذا رحم محرم فهو فاحشة، وهكذا تنقسم سائر الذّنوب عنده بحسب ما يلابس الذنب.
أ - المعصية: 2 - المعصية، أو العصيان لغةً: خلاف الطاعة. واصطلاحاً: مخالفة أمر الله تعالى، بترك ما أمر به، أو فعل ما نهى عنه، سواء كان الذنب كبيراً أم صغيراً، فهي أعمّ من الصغائر والكبائر. ب - اللَّمَم: 3 - من معاني " اللمم " في اللّغة: صغار الذّنوب. ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ. والصّلة بينهما أنّ اللمم قسيم الكبائر.
4 - لا خلاف بين الفقهاء في تحريم الكبائر لقول الله تعالى: {وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ}، وقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: «اجتنبوا السبع الموبقات...».
5 - ذهب جمهور العلماء إلى تقسيم المعاصي إلى صغائر وكبائر، واستدلّوا لذلك بالكتاب والسّنّة. فمن الكتاب قوله تعالى: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}، وكذلك قوله تعالى في مدح المؤمنين الأتقياء: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ}. ومن السّنّة قوله صلى الله عليه وسلم: «ألا أنبّئكم بأكبر الكبائر...»، وغير ذلك من الأحاديث. وقد قال الغزاليّ: إنكار الفرق بين الصغيرة والكبيرة لا يليق بالفقيه. وخالف في ذلك بعض الأصوليّين، كأبي بكر بن الطيّب " الباقلانيّ "، وأبي إسحاق الإسفرايينيّ، وأبي المعالي الجوينيّ، وأبي نصر عبد الرحيم القشيريّ، وهو ما حكاه القاضي عياض عن المحقّقين، ونسبه ابن بطال إلى الأشعرية، فذهبوا إلى أنّ جميع المعاصي كبائر بالنظر إلى من عصي سبحانه، فكلّها بالنّسبة إلى جلاله كبائر، وإن كان بعضها أعظم وقعاً من بعض، وإنّما يقال لبعضها صغائر بالإضافة إلى ما هو أكبر منها، كالقبلة المحرمة صغيرة بالنّسبة إلى الزّنا، لا أنّها صغيرة في نفسها، كما استدلّوا بقول ابن عباس رضي الله عنهما: كلّ ما نهى الله عنه كبيرة. وقال القرافيّ: الصغيرة والكبيرة في المعاصي ليس من جهة من عصى، بل من جهة المفسدة الكائنة في ذلك الفعل، فالكبيرة ما عظمت مفسدتها، والصغيرة ما قلت مفسدتها. أما ضابط الكبيرة، فقد قال العزّ بن عبد السلام: لم أقف لأحد من العلماء على ضابط للكبيرة لا يسلم من الاعتراض، والأولى ضبطها بما يشعر بتهاون مرتكبها بدينه إشعاراً دون الكبائر المنصوص عليها، قال الحافظ ابن حجر: " وهو ضابط جيّد ". وقد سلك بعض المتأخّرين مسلكاً مشابهاً، لكنّه عول على المفسدة، لا على التهاون، فكلّ معصية ساوت مفسدتها أدنى مفسدة كبيرة منصوص عليها فهي كبيرة، ومثل لذلك بدلالة الكفار على المسلمين هي أشدّ فساداً من الفرار من الزحف المنصوص على أنّه كبيرة. ومن الضوابط المذكورة للكبيرة: - قول الزيلعيّ: ما كان حراماً لعينه. - وقول خواهر زاده: ما كان حراماً محضاً سواء سُمّي في الشرع فاحشةً أم لم يسم ولكن شرع عليه عقوبةً محضةً بنص قاطع إما في الدّنيا بالحدّ أو الوعيد بالنار في الآخرة. وقول الماورديّ: ما أوجبت الحد أو توجه بسببها إلى الفاعل وعيد. وما نقله القاضي أبو يعلى عن الإمام أحمد بأنّها: كلّ ذنب أوجب الله فيه حدّاً في الدّنيا أو ختمه بنار في الآخرة. ومن الضوابط قول ابن الصلاح: للكبائر أمارات، منها: إيجاب الحدّ، ومنها: الإيعاد عليها بالعذاب بالنار ونحوها في الكتاب والسّنّة، ومنها: وصف صاحبها بالفسق، ومنها: اللعن. وقال ابن حجر الهيتميّ: قصدوا التقريب وليست بحدود جامعة. ونفى الواحديّ وجود ضابط للكبيرة وأنّه بقصد الشارع فقال: الصحيح أنّه ليس للكبائر حدّ يعرفه العباد وتتميز به عن الصغائر تمييز إشارة، ولو عرف ذلك لكانت الصغائر مباحةً، ولكن أخفي ذلك على العباد، ليجتهد كلّ واحد في اجتناب ما نهي عنه، رجاء أن يكون مجتنباً للكبائر، ونظيره إخفاء الصلاة الوسطى في الصلوات، وليلة القدر في رمضان. قال ابن حجر الهيتميّ بعدما أورد بعض الحدود: " مقتضى كلام الإمام وغيره أنّ الحدود السابقة هي لما عدا الكفر، وإن صح أن يسمى كبيرةً بل هو أكبر الكبائر ".
6 - اختلف العلماء في حصر الكبائر بعدد أو عدم حصرها. فذهب أكثرهم إلى أنّ ما ورد منها بعدد معين ليس المراد منه الحصر، وأجابوا عن الحكمة في الاقتصار في بعض الأحاديث على عدد معين، كسبع مثلاً بأجوبة عديدة، منها: أ - أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم أُعْلِم بالكبائر المذكورات أولاً، ثم أعلم بما زاد، فيجب الأخذ بالزائد. ب - أنّ الاقتصار وقع بحسب المقام، بالنّسبة للسائل أو من وقعت له واقعة. وذهب بعض العلماء إلى حصرها في عدد معين هو: أ - ثلاث: روي ذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه. ب - أربع: روي أيضاً عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: الكبائر أربع: اليأس من روح الله، والقنوط من رحمة الله، والأمن من مكر الله، والشّرك بالله، دل عليها القرآن، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم قال: «الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين وقتل النفس، واليمين الغموس»، وعن أنس رضي الله عنه، ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبائر، أو سئل عن الكبائر فقال: «الشّرك بالله، وقتل النفس، وعقوق الوالدين، فقال: ألا أنبّئكم بأكبر الكبائر؟ قال: قول الزّور، أو شهادة الزّور». وأشار ابن حجر الهيتميّ إلى ضبط بعضهم الكبائر بأنّها كلّ فعل نص الكتاب على تحريمه " أي بصريح التحريم " وهو أربعة أشياء: أكل لحم الميتة، والخنزير، ومال اليتيم، والفرار من الزحف. ج - سبع: واستدلّوا بما روى أبو هريرة رضي الله عنه «أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم قال: اجتنبوا السبع الموبقات قالوا: يا رسول الله، وما هنّ؟ قال: الشّرك بالله، والسّحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحقّ، وأكل الرّبا، وأكل مال اليتيم، والتولّي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات». قال ابن حجر الهيتميّ: وممن صرح بأنّ الكبائر سبع: عليّ رضي الله عنه، وعطاء، وعبيد بن عمير. د - ثمان: وذلك بزيادة «عقوق الوالدين» على السبع التي في حديث أبي هريرة السابق. وقد وفق بعض الشّراح بين عدّ الكبائر سبعاً، وعدّها ثمانياً، باعتبار أكل الرّبا وأكل مال اليتيم كبيرةً واحدةً، بجامع الظّلم. هـ - تسع: أشار إلى هذا الزركشيّ لحديث: «الكبائر تسع»، وزاد على حديث أبي هريرة السابق: «الإلحاد في الحرم، وعقوق الوالدين». و - عشر: روي ذلك عن ابن مسعود. ز - أربع عشرة: أشار إليه الزركشيّ. ح - خمس عشرة: أشار إليه ابن حجر الهيتميّ. ط - سبع عشرة: نقل القول بذلك الشيخ عليش. ي - سبعون: قال الزركشيّ: أنهاها الذهبيّ إلى سبعين في جزء صنّفه في الكبائر. ك - أربعمائة وسبع وستّون: أنهى ابن حجر الهيتميّ الكبائر إلى هذا العدد، منها ستّ وستّون كبائر باطنة مما ليس له مناسبة بخصوص أبواب الفقه، أي تتعلق بأعمال القلوب، والباقي كبائر ظاهرة تتعلق بالجوارح. ل - سبعمائة: روي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنه، أخرج الطبرانيّ عنه أنّه قيل له: الكبائر سبع، فقال: هي إلى السبعين أقرب، وفي رواية إلى السبعمائة، قال الحافظ ابن حجر: ويحمل كلامه على المبالغة بالنّسبة لمن اقتصر على السبع. قال القرافيّ: ما وردت السّنّة أو الكتاب العزيز بجعله كبيرةً أو أجمعت عليه الأمة أو ثبت فيه حدّ من حدود الله تعالى، كقطع السرقة وجلد الشّرب ونحوهما، فإنّها كلها كبائر قادحة في العدالة إجماعاً وكذلك ما فيه وعيد صرّح به في الكتاب أو في السّنّة فنجعله أصلاً وننظر، فما ساوى أدناه مفسدةً، أو رجح عليها مما ليس فيه نص ألحقناه به...
7 - قسم الفقهاء الكبائر إلى كبيرة وأكبر، وذلك لما روي عن أبي بكرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أنبّئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله قال ثلاثاً: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس فقال: ألا وقول الزّور وشهادة الزّور، ألا وقول الزّور وشهادة الزّور فما زال يقولها حتى قلت: لا يسكت»، وفي رواية «حتى قلنا: ليته سكت»، أي إشفاقاً عليه صلى الله عليه وسلم قال الحافظ ابن دقيق العيد: يستفاد من قوله صلى الله عليه وسلم: «أكبر الكبائر» انقسام الذّنوب إلى كبير وأكبر، وذلك بحسب تفاوت مفاسدها، ولا يلزم من كون هذه أكبر الكبائر استواء رتبها أيضاً في نفسها. وقال الحافظ ابن حجر: حديث " أكبر الكبائر " ليس على ظاهره من الحصر، بل " من " فيه مقدرة، أي من أكبر الكبائر فقد ثبت في أشياء أخر أنّها من أكبر الكبائر، ثم ذكر الأحاديث الواردة في أكبر الكبائر، فبلغت عشرين كبيرةً، وبعد إسقاطه المتداخل منها بلغت ثلاث عشرة هي: أ - الإشراك بالله. ب - عقوق الوالدين. ج - قول الزّور وشهادة الزّور " وهذه ثلاثة التي في الحديث السابق ".
د - قتل النفس، لحديث أنس في أكبر الكبائر. هـ - الزّنا بحليلة الجار، لحديث ابن مسعود: قلت: «يا رسول الله، أيّ الذنب أعظم قال: أن تجعل لله ندّاً وهو خلقك، قلت: ثم أيّ؟ قال: أن تقتل ولدك من أجل أن يطعم معك، قلت: ثم أيّ؟ قال. أن تزاني حليلة جارك» فأورد هذه بينها. و - اليمين الغموس، لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين أو قال: اليمين الغموس». ز - استطالة المرء في عرض رجل مسلم، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ من أكبر الكبائر استطالة المرء في عرض رجل مسلم». ح - منع فضل الماء ومنع الفحل، لحديث بريدة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ من أكبر الكبائر الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، ومنع فضل الماء ومنع الفحل». ط - سوء الظنّ بالله تعالى، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أكبر الكبائر سوء الظنّ بالله». ي - مضاهاة الخلقة بالتصوير، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: يقول الله تعالى: «ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي». ك - اللدد في الخصومة، لحديث عائشة رضي الله عنها مرفوعاً: «أبغض الرّجال إلى الله الألدّ الخصم». ل - سبّ الأبوين، لحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما مرفوعاً: «إنّ من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه...». قال السّيواسيّ: أكبر الكبائر الشّرك، وأصغر الصغائر حديث النفس، وبينهما وسائط.
8 - قال القرافيّ: رتب المفاسد مختلفة، وأدنى رتب المفاسد يترتب عليها الكراهة، ثم كلما ارتقت المفسدة عظمت الكراهة، حتى تكون أعلى رتب المكروهات، تليها أدنى رتب المحرمات، ثم تترقى رتب المحرمات حتى تكون أعلى رتب الصغائر، يليه أدنى الكبائر ثم تترقى رتب الكبائر بعظم المفسدة حتى تكون أعلى رتب الكبائر، يليها الكفر.
9 - لا يخرج المؤمن من الإيمان بارتكابه الكبائر ; لأنّ أصل الإيمان من التصديق بالله تعالى، والإيمان والتصديق موجودان في مرتكب الكبيرة، وإذا مات قبل أن يتوب فهو في مشيئة الله وعفوه: إن شاء غفر له، وإن شاء أخذه بذنوبه، ولا يخلد في النار، بل تكون عاقبته إلى الجنّة، هذا ما عليه أهل السّنّة، واستدلّوا بقوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء}، وكذلك قوله تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} فسماهم مؤمنين مع صدور القتال ظلماً من إحدى الطائفتين.
10 - العدالة: كما قال الغزاليّ هيئة راسخة في النفس تحمل على ملازمة التقوى والمروءة جميعاً، حتى تحصل ثقة النّفوس بصدقه، فلا ثقة بقول من لا يخاف الله تعالى خوفاً وازعاً عن الكذب. وقد نقل ابن حزم الإجماع على أنّ ارتكاب الكبائر جرحة تردّ به الشهادة، وقال الكاسانيّ: الأصل أنّ من ارتكب جريمةً، فإن كانت من الكبائر سقطت عدالته إلا أن يتوب. وصرح المالكية بأنّ العدل هو من لم يفعل معصيةً كبيرةً بلا توبة منها بأن لم يفعلها أصلاً أو تاب منها، فإن فعلها ولم يتب منها فلا تقبل شهادته، فلا يشترط في العدل عدم مباشرة المعصية مطلقاً لتعذّره. وفيما يلي بعض التوضيحات: أ - صرح كلّ من القرافيّ وابن الشاطّ أنّ انخرام العدالة ورد الشهادة بارتكاب الكبائر ليس سببه الارتكاب نفسه، بل ما يلزم عنه، وهو أنّه يدلّ على الجرأة على مخالفة المرتكب للشارع في أوامره ونواهيه، أو كما اختار ابن الشاطّ " احتمال الجرأة " فمن دلت قرائن حاله على الجرأة ردت شهادته، كمرتكب الكبيرة المعلوم من دلائل الشرع أنّها كبيرة، أو المصرّ على الصغيرة إصراراً يؤذن بالجرأة، ومن احتمل حاله أنّه فعل ما فعل من ذلك جرأةً أو فلتةً توقّف عن قبول شهادته، ومن دلت دلائل حاله أنّه فعل ما فعله من ذلك فلتةً غير متصف بالجرأة قبلت شهادته، وذلك ; لأنّ السبب لردّ الشهادة ليس إلا التّهمة بالاجتراء على الكذب، كالاجتراء على ارتكاب ما ارتكبه من المخالفة. فإذا عري عن الاتّصاف بالجرأة واحتمال الاتّصاف بها بظاهر حاله سقطت التّهمة. ب - بين الخرشيّ أنّ العدالة المشترط فيها اجتناب الكبائر هي مطلق العدالة، فمن لم يستوف هذا الشرط يكون فاسقاً، بخلاف العدالة الخاصة المشترطة للشهادة، فمن شروطها اجتناب ما يخلّ بالمروءة، وعدمه ليس فسقاً. ج - لا يترتب انخرام العدالة إلا على الارتكاب للكبيرة فعلاً، فلو نوى العدل فعل كبيرة غداً لم يصر بذلك فاسقاً، بخلاف نية الكفر.
11 - عرف مما سبق في الكلام عن انخرام عدالة مرتكب الكبيرة أنّه يفسق بذلك. قال الزركشيّ: من أتى بشيء من الكبائر فسق وسقطت عدالته ثم نقل عن الصيرفيّ التصريح بذلك.
12 - قال القرافيّ: الصغيرة لا تقدح في العدالة ولا توجب فسوقاً، إلا أن يصر عليها فتكون كبيرةً... فإنّه لا صغيرة مع إصرار، ولا كبيرة مع استغفار كما قال السلف... ويعنون بالاستغفار التوبة بشروطها، لا طلب المغفرة مع بقاء العزم، فإنّ ذلك لا يزيل كِبَر الكبيرة ألبتة. وقد أورد الزركشيّ في عداد الكبائر إدمان الصغيرة. وخالف في هذا بعض الفقهاء، كأبي طالب القضاعيّ، حيث نقل عنه الزركشيّ أنّ الإصرار له حكم ما أصر به عليه فالإصرار على الصغيرة صغيرة. واعتبار الإصرار على الصغيرة كبيرةً هو من باب الإلحاق كما قال الرمليّ، فهو لا يصيّر الصغيرة كبيرةً حقيقةً، وإنّما يلحقها بها في الحكم، وبعبارة بعض الحنفية من شراح المنار: الإصرار على الصغيرة هو كبيرة لغيرها، أما الكبيرة بالضابط الأصليّ فهي كبيرة بنفسها. جاء في حواشي شرح المنار أنّ الإصرار تكرار الفعل تكرّراً يشعر بقلة المبالاة بأمر الدّين، وقال أمير بادشاه: الإصرار أن تتكرر منه الصغيرة تكراراً يشعر بقلة مبالاته بأمر دينه إشعار ارتكاب الكبيرة بذلك. وأما حقيقة التكرار المشترط في تحقّق الإصرار فيعرف من تقسيم الزركشيّ الإصرار إلى قسمين: أحدهما: حكميّ، وهو العزم على فعل الصغيرة بعد الفراغ منها، فهذا حكمه حكم من كررها فعلاً، بخلاف التائب منها، فلو ذهل عن ذلك ولم يعزم على شيء فهذا هو الذي تكفّره الأعمال الصالحة. والثاني: الإصرار بالفعل، وعبر عنه بعضهم بالمداومة أو الإدمان، وعن بعض الشافعية قال: لا أجعل المقيم على الصغيرة المعفوّ عنها مرتكبًا للكبيرة إلا أن يكون مقيماً على المعصية المخالفة أمر الله دائماً، ونحوه في المغني لابن قدامة.
13 - لا خلاف في أنّ الشّرك الذي هو أكبر الكبائر يحبط الثواب، قال الله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ}، فمن أشرك بالله بعد توحيده له تعالى، أو كفر مرتدّاً عن إيمانه، أو كانت كبيرته استحلال محرم أو تحريم حلال كذلك، فإنّه يحبط ثواب أعماله للرّدة، وقد نص عليه الشافعيّ. واختلف هل يحبط العمل أيضاً، بحيث يجب عليه إعادة الحجّ بعد عودته للإسلام، وهل يترتب الحبوط على مجرد الرّدة أو بالموت عليها، فذهب الشافعية - خلافاً للحنفية - إلى أنّ الحبوط بالموت على الرّدة، لقوله تعالى: {فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}، فعليه لا يجب إعادة الحجّ الذي فعله قبل ردته إذا أسلم بعدها، قال القليوبيّ: قيد بعضهم العمل الذي تحبطه الرّدة بما وقع حال التكليف لا قبله. وتفصيله في مصطلح (ردة ف / 48). أما الكبائر الأخرى فقد وردت نصوص في شأن بعضها بأنّه يحبط ثواب العمل، مثل: القذف: عن حذيفة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ قذف المحصنة يهدم عمل مائة سنة». - الرّبا: وفيه حديث عائشة رضي الله عنها وقولها لأمّ ولد زيد بن أرقم رضي الله عنه: «لقد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم»، وذلك في شأن معاملة فيها رباً. - سؤال العراف: عن صفية رضي الله عنها عن بعض أزواج النبيّ رضي الله عنهن أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلةً».
14 - يختلف المقصود بالعفو عن الكبائر بحسب نوع الكبيرة، هل هي اعتداء على ما هو حقّ لله تعالى، كشرب الخمر، أو اعتداء على ما فيه حقّ لله تعالى وللعبد، كالقذف والسرقة: فالعفو بالنّسبة للنوع الأول هو فيما يتعلق بالآخرة، فإذا لم يتب مرتكب الكبيرة فهو عند أهل السّنّة في مشيئة الله وعفوه، لقوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء}، وقوله صلى الله عليه وسلم: «تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب في الدّنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله فأمره إلى الله: إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه قال: فبايعناه على ذلك». قال القرطبيّ: الكبائر عند أهل السّنّة تغفر لمن أقلع عنها قبل الموت، وقد يغفر لمن مات عليها من المسلمين كما قال تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء}، والمراد بذلك من مات على الذّنوب، فلو كان المراد من تاب قبل الموت لم تكن للتفرقة بين الإشراك وغيره معنىً، إذ التائب من الشّرك أيضاً مغفور له. وأما بالنّسبة للكبائر التي فيها اعتداء على حقّ الله وحقوق العباد فالحكم في العفو عنها فيه تفصيل: أ - إن كانت الكبيرة جنايةً على النفس أو ما دونها عمداً عدوانًا فلأولياء الدم - أو المجنيّ عليه إن بقي حيّاً - المطالبة بالقصاص أو الدّية أو العفو، والتفصيل في مصطلح (عفو ف / 18 وما بعدها). ب - وإذا كانت الكبيرة سرقةً يجوز عفو المسروق منه عن السارق قبل بلوغ الإمام، فيسقط الحدّ، وتفصيله في مصطلح (سرقة ف / 72). ج - وإذا كانت الكبيرة حرابةً وتاب المحاربون قبل أن يقدر عليهم سقط عنهم حدّ الحرابة من القتل أو الصلب أو القطع أو النّفي، لا إن تابوا بعد القدرة عليهم، وفي الحالتين لا تسقط عنهم حقوق العباد من القصاص في النفس وما دونها والدّيات وغرامة المال فيما لا قصاص فيه. وتفصيله في مصطلح (حرابة ف / 24). د - لا يجوز العفو في شيء من الحدود بعد أن تبلغ الإمام، كما تحرم الشفاعة وطلب العفو، لحديث عائشة رضي الله عنها «أنّ قريشاً أهمتهم المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: من يكلّم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن يجترئ عليه إلا أسامة حبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أتشفع في حدّ من حدود الله؟ ثم قام فخطب فقال: يا أيّها الناس، إنّما ضل من كان قبلكم أنّهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أنّ فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها». هـ - العفو في الكبائر التي فيها تعزير جائز للإمام إذا رأى المصلحة في العفو، واستثنى ابن قدامة ما لو كان التعزير منصوصاً عليه، وتفصيله في مصطلح (عفو ف / 32).
15 - ذهب الجمهور، وهو رأي سعيد بن المسيّب وصفوان بن سليم، إلى أنّ إقامة الحدّ ليس بكفارة، ولا بد معه من التوبة ; لأنّها فرض لازم على العباد، قال ابن رشد (الجدّ) الحدّ يرفع الإثم ويبقى عليه حكم الفسق، ما لم يتب وتظهر توبته. وذهب مجاهد وزيد بن أسلم إلى أنّ إقامة الحدّ بمجرده كفارة، واستدلّوا بما رواه عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم قال: «ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب فهو كفارة له». قال المنهاجيّ: التوبة فيما بين العبد وبين الله تعالى، وهي تسقط الإثم، ويشترط فيها إقلاع، وندم، وعزم أن لا يعود، وتبرئة ذمته من حقّ ماليّ إن تعلقت به، كمنع زكاة أو غصب، بردّه أو بدله إن تلف، قال ابن مفلح: ويعتبر ردّ المظلمة وأن يستحله أو يستمهله، وهذا في الأموال، أما في مثل القذف والغيبة فقد قال الكرميّ: لا يشترط لصحة التوبة منها إعلامه والتحلّل منه، بل يحرم إعلامه (أي: لدرء الفتنة) ثم قال المنهاجيّ: أما التوبة الظاهرة التي تعود بها الشهادة والولاية فالمعاصي إن كانت قوليةً شرط فيها القول، فيقول في القذف: قذفي باطل ولا أعود إليه، أو ما كنت محقّاً في قذفي. وهل من شروط توبته إصلاح العمل والكفّ عن المعصية سنة؟ قال أحمد بن حنبل: مجرد التوبة كاف، وقال مالك: يشترط صلاح حاله أو الزّيادة في صلاحها. وقال بعضهم: ظهور أفعال الخير عليه والتقرّب بالطاعات من غير حدّ بسنة ولا غيرها. وعند الحنفية أقوال: ففي الخانية: الفاسق إذا تاب لا تقبل شهادته ما لم يمض عليه زمن تظهر فيه التوبة، ثم بعضهم قدره بستة أشهر، وبعضهم قدره بسنة، والصحيح أنّ ذلك مفوض إلى رأي القاضي والمعدّل، وفي الخلاصة: ولو كان عدلاً فشهد بزور ثم تاب وشهد تقبل توبته من غير مدة. وهذا في الكبائر كلّها عدا القذف ففيه خلاف، بعد الاتّفاق على زوال اسم الفسق عنه بالتوبة: ذهب المالكية والشافعية والحنابلة إلى أنّه تقبل شهادة القاذف إن تاب سواء أكانت توبته قبل الحدّ أم بعده. واستدلّوا بقوله تعالى: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ، إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} وقالوا: الاستثناء في سياق الكلام على أوله وآخره إلا أن يفرّق بين ذلك خبر، ولأنّ رد الشهادة مستند إلى الفسق، وقد ارتفع بالتوبة، لكنّ مالكًا اشترط أن لا تقبل شهادته في مثل الحدّ الذي أقيم عليه. وذهب الشعبيّ والحسن ومجاهد وعكرمة ومسروق وشريح والحنفية إلى أنّه لا تقبل شهادة القاذف وإن تاب إذا كانت توبته بعد الحدّ، وقالوا: إنّ الاستثناء في الآية عائد إلى أقرب مذكور، وهو الفسق، ولا يرجع إلى ما قبله، وهو عدم قبول الشهادة، لأنّه مقترن بالتأبيد، ولأنّ المنع من قبول الشهادة جعل من تمام عقوبة القاذف، ولهذا لا يترتب المنع - عندهم - إلا بعد الحدّ، وما كان من الحدود ولوازمها لا يسقط بالتوبة، فلو قذف ولم يحد لم ترد شهادته، وتفصيله في مصطلح (قذف ف / 21).
16 - ذهب جمهور الفقهاء وجماعة أهل التفسير إلى أنّ الصغائر تكفر باجتناب الكبائر، لقوله تعالى: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا}، وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ}. كما استدلّوا بحديث أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفّرات ما بينهنّ إذا اجتنبت الكبائر». وذهب الأصوليّون - كما قال القرطبيّ - إلى أنّه لا يجب على القطع تكفير الصغائر باجتناب الكبائر، وإنّما محمل ذلك على غلبة الظنّ وقوة الرجاء، والمشيئة ثابتة بقوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء}، قالوا ولا ذنب عندنا يغفر واجباً باجتناب ذنب آخر، ودل على ذلك أنّه لو قطعنا لمجتنب الكبائر وممتثل الفرائض بتكفير صغائره قطعاً لكانت له في حكم المباح الذي نقطع بأنّه لا تباعة عليه، وذلك نقض لعرى الشريعة، كما استدلّوا بحديث: «من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنّة، فقال له رجل: وإن كان شيئاً يسيراً يا رسول الله؟ قال: وإن قضيباً من أراك» فقد جاء الوعيد الشديد على اليسير كما جاء على الكثير. قال القرطبيّ: إنّ الله تعالى يغفر الصغائر باجتناب الكبائر لكن بضميمة أخرى إلى الاجتناب، وهي إقامة الفرائض. واختلف هل شرط التكفير للصغائر عدم ملابسته لشيء من الكبائر أو لا يشترط؟ حكى ابن عطية وغيره عن الجمهور الاشتراط، لظاهر حديث: «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفّرات ما بينهنّ إذا اجتنبت الكبائر» واختار بعض المحقّقين أنّه لا يشترط، قالوا: والشرط في الحديث بمعنى الاستثناء، والتقدير: مكفّرات ما بينهما إلا الكبائر. ويساعد ذلك مطلق الأحاديث المصرّحة بالتكفير من غير شرط.
17 - روى عباس بن مرداس رضي الله عنه «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لأمته عشية عرفة بالمغفرة فأجيب: إنّي قد غفرت لهم ما خلا الظالم فإنّي آخذ للمظلوم منه، قال: أي ربّ، إن شئت أعطيت المظلوم من الجنّة وغفرت للظالم، فلم يجب عشيته، فلما أصبح بالمزدلفة أعاد الدّعاء، فأجيب إلى ما سأل...»، وروى ابن المبارك «أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم قال: إنّ الله عز وجل غفر لأهل عرفات وأهل المشعر وضمن عنهم التبعات، فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا رسول الله، هذا لنا خاصةً؟ قال: هذا لكم ولمن أتى من بعدكم إلى يوم القيامة، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: كثر خير الله وطاب»، قال ابن عابدين: وتمامه في الفتح وساق فيه أحاديث أخر، والحاصل أنّ حديث ابن ماجه - وإن ضعّف - فله شواهد تصحّحه، والآية أيضاً تؤيّده، ومما يشهد له أيضاً حديث: «من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمّه»، وقوله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن العاص: «أما علمت أنّ الإسلام يهدم ما كان قبله، وأنّ الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأنّ الحج يهدم ما كان قبله». لكن ذكر الأكمل في شرح المشارق في هذا الحديث أنّ الحربي تحبط ذنوبه كلّها بالإسلام والهجرة والحجّ حتى لو قتل وأخذ المال وأحرزه بدار الحرب ثم أسلم لم يؤاخذ بشيء من ذلك، وعلى هذا كان الإسلام كافياً في تحصيل مراده ولكن ذكر صلى الله عليه وسلم الهجرة والحج تأكيدًا في بشارته وترغيباً في مبايعته فإنّ الهجرة والحج لا يكفّران المظالم ولا يقطع فيهما بمحو الكبائر وإنّما يكفّران الصغائر، ويجوز أن يقال والكبائر التي ليست من حقوق أحد كإسلام الذّمّيّ، وكذا ذكر الإمام الطّيبيّ في شرحه وقال: إنّ الشارحين اتفقوا عليه، وهكذا ذكر النّوويّ والقرطبيّ في شرح مسلم. قال ابن عابدين: وفي شرح اللّباب: ومشى الطّيبيّ على أنّ الحج يهدم الكبائر والمظالم، ووقع منازعة غريبة بين أمير بادشاه من الحنفية حيث مال إلى قول الطّيبيّ، وبين الشيخ ابن حجر المكّيّ من الشافعية وقد مال إلى قول الجمهور، وكتبت رسالةً في بيان هذه المسألة، وظاهر كلام الفتح الميل إلى تكفير المظالم أيضاً، وعليه مشى الإمام السرخسيّ في شرح السّير الكبير، وإليه ذهب القرطبيّ. وقال عياض: هو محمول بالنّسبة إلى المظالم على من تاب وعجز عن وفائها، والحاصل أنّ تأخير الدين وغيره، وتأخير نحو الصلاة والزكاة من حقوقه تعالى، فيسقط إثم التأخير فقط عما مضى دون الأصل ودون التأخير المستقبل، ونقله عن التّرمذيّ واللقانيّ، واستظهر ابن عابدين سقوط الدين أيضاً عند العجز كما قال عياض لكنّ تقييد عياض بالتوبة والعجز غير ظاهر ; لأنّ التوبة مكفّرة بنفسها، وهي إنّما تسقط حق الله تعالى لا حق العبد، فتعين كون المسقط هو الحج كما اقتضته الأحاديث. قال ابن نجيم: والصحيح أنّ الحج لا يكفّر الكبائر، وليس مراد القائل بأنّه يكفّرها أنّه يسقط عنه قضاء ما لزمه من العبادات وتركه والمظالم والدين، وإنّما مراده أنّه يكفّر إثم تأخير ذلك، فإذا فرغ منه طولب بقضاء ما لزمه، فإن لم يفعل مع قدرته فقد ارتكب الآن الكبيرة الأخرى، والمسألة ظنّية، فلا يقطع بتكفير الحجّ للكبائر من حقوقه تعالى، فضلاً عن حقوق العباد.
18 - للنبيّ صلى الله عليه وسلم من الشفاعات الخاصة به شفاعته في قوم استوجبوا النار بأعمالهم، فيشفع فيهم، فلا يدخلونها، هذا مذهب أهل السّنّة. وقد جزم السّيوطيّ في الخصائص بأنّ هذه الشفاعة من خصائصه صلى الله عليه وسلم وجزم القاضي وابن السّبكيّ بعدم اختصاصه صلى الله عليه وسلم بها، وأشار العزّ بن عبد السلام إلى أنّه يشاركه فيه صلى الله عليه وسلم الملائكة والأنبياء عليهم الصلاة والسلام والمؤمنون. وهذه الشفاعة هي غير الشفاعة العامة أو العظمى لفصل القضاء بين الناس بعد المحشر، فتلك تعمّ جميع الخلق، وهي متفق عليها بين الأمة أنّها من خصائصه. قال الأشعريّ: أجمع المسلمون أنّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم شفاعةً... وهي للمذنبين المرتكبين الكبائر. واستدلّوا لشفاعته صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر بما روى أنس رضي الله عنه أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم قال: «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي». قال ابن أبي العزّ: تواترت الأحاديث في شفاعته صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر، وقد خفي علم ذلك عن الخوارج والمعتزلة. والتفصيل في مصطلح (شفاعة ف / 6).
انظر: أطعمة.
1 - الكِبر بكسر الكاف وسكون الباء عند أهل اللّغة: العظمة، وكبر الشيء معظمه، قال تعالى: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} أي: تحمل معظمه. واصطلاحاً: عرفه الغزاليّ بأنّه الخلق الذي في النفس، وهو الاسترواح والرّكون إلى رؤية النفس فوق المتكبر عليه. وعرفه ابن القيّم بأنّه خلق باطن يصدر عن أعمال هي ثمرته، فيظهر على الجوارح، وذلك الخلق هو رؤية النفس على المتكبر عليه، يعني يرى نفسه فوق الغير في صفات الكمال. وهو في سنّة الرسول صلى الله عليه وسلم: عدم قبول الحقّ ترفّعاً، واحتقار الناس، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم قال: «الكبر بطر الحقّ وغمط الناس».
أ - الكبرياء: 2 - قال الراغب الأصفهانيّ: الكبرياء هي الترفّع عن الانقياد، وذلك لا يستحقّه غير الله، قال تعالى: {وَلَهُ الْكِبْرِيَاء فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، وفي الحديث: «قال الله: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما قذفته في النار» بينما يرى أبو هلال العسكريّ أنّ الكبرياء هي العزّ والملك، وليست من الكبر في شيء، قال تعالى: {وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء فِي الأَرْضِ}، يعني: الملك والسّلطان والعزة. ب - العُجْب: 3 - العجب بالشيء الزهو وكثرة السّرور به، وفلان معجب بنفسه: إذا كان مسروراً بخصالها، وليس العجب من الكبر في شيء، قال عليّ بن عيسى: العجب عقد النفس على فضيلة لها ينبغي أن يتعجب منها وليست هي لها، ولكنّه يدعو إلى الكبر ; لأنّه أحد أسبابه. ويرى ابن حجر الهيتميّ: أنّ العُجب هو استعظام النّعمة والرّكون إليها مع نسيان إضافتها إلى الله تعالى، ويذكر أبو حامد الغزاليّ - ويوافقه ابن قيّم الجوزية - في ذلك فرقاً بين الكبر والعجب فيقول: العجب لا يستدعي غير المعجب، حتى لو قدّر أن يخلق الإنسان وحده تصوّر أن يكون معجباً، ولا يتصور أن يكون متكبّراً إلا أن يكون معه غيره، وهو يرى نفسه فوقه. ج - الجُبْر: 4 - الجبر هو التعاظم مع القهر، والجبروت أبلغ من الجبر، لأنّ الواو والتاء للمبالغة، كالملك والملكوت، قال النّوويّ: الجبروت هو الكبر والتعظّم والارتفاع والقهر، والجبار هو المتكبّر الشرس سيّئ الخلق، ويقال أيضاً للقاهر غيرَه: جبار، كما قال تعالى: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ}، ونقل ابن كثير عن أبي عمران الجونيّ وقتادة أنّهما قالا: آية الجبابرة القتل بغير حقّ. ويقول الراغب الأصفهانيّ: الجبار هو من يجبر نقيصته بادّعاء منزلة من التعالي لا يستحقّها، كقوله تعالى: {وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ}. والكبر أعمّ من الجبر.
5 - اتفق العلماء على أنّ الكبر من الكبائر، ذكر ذلك الذهبيّ. وذكر القرطبيّ في تفسير قوله تعالى: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ}، قال: من ضرب بنعله من الرّجال، إن فعل ذلك تعجّباً حرم، فإنّ العجب كبيرة، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنّة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر»، وقوله صلى الله عليه وسلم: «مثقال ذرة» يشمل القليل والكثير منه، فلا يرخص بالكبر مهما كان قليلاً، قال الشوكانيّ: والحديث يدلّ على أنّ الكبر مانع من دخول الجنّة وإن بلغ من القلة إلى الغاية. وإذا كان الكبر هو الصّفة النفسية، وهي قصد الاستعلاء على الغير في مكرمة من المكارم، فإنّ هذا الكبر - أي: التكبّر - إما أن يحتاج إليه، أو لا يحتاج إليه. فإن احتيج إليه كان محموداً، كالتكبّر على الظلمة، وعلى أعداء الله من الكفار المحاربين، ونحوهم، ولذلك جاز الاختيال في الحرب إرهاباً للعدوّ. وإن لم يحتج إليه، فإنّه إما أن ترافقه نية التكبّر، أو لا ترافقه نية التكبّر، فإن رافقته نية التكبّر فهو كبيرة من الكبائر. وإن لم ترافقه نية التكبّر، فإنّ الفعل إما أن يكون من شعار المتكبّرين، أو لا يكون من شعار المتكبّرين. فإن كان من شعار المتكبّرين كتصعير الخدّ، والاختيال في المشي، وإسبال الإزار، ونحو ذلك، كان مكروهاً. وإن لم يكن من شعار المتكبّرين، كالأكل متكئاً، وتشمير الأكمام، ونحو ذلك لم يكن به بأس، قال في الفتاوى الهندية: والحاصل أنّ كل ما كان على وجه التكبّر يكره، وإن فعل لحاجة أو ضرورة لا - أي: لا يكره -، على هذا فإنّ من لبس الثّياب الجميلة الرفيعة من غير نية التكبّر فلا إثم عليه، قال الشوكانيّ: وهذا مما لا خلاف فيه فيما أعلم، بل إنّ لبس رفيع الثّياب من غير نية التكبّر، بل بنية أن يكون له وقع في قلوب سامعيه وهو يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر كان مثاباً، قال الشوكانيّ: إنّ الأعمال بالنّيات، فلبس المنخفض من الثّياب تواضعاً وكسراً لسورة النفس التي لا يؤمن عليها من التكبّر إن لبست غالي الثّياب من المقاصد الصالحة الموجبة للمثوبة من الله، ولبس الغالي من الثّياب عند الأمن على النفس من التسامي المشوب بنوع من التكبّر لقصد التوصّل بذلك إلى تمام المطالب الدّينية من أمر بمعروف أو نهي عن منكر عند من لا يلتفت إلا إلى ذوي الهيئات لا شك أنّه من الموجبات للأجر، لكنّه لا بد من تقييد ذلك بما يحلّ لبسه شرعاً.
6 - الكبر صفة نفسية في الإنسان، لها مظاهر أكثر من أن تحصى، ومن هذه المظاهر: أ - تصعير الوجه: وهو يعني: ميل العنق، والإشاحة بالوجه عن النظر كبراً، وهو من صفات المتكبّرين، ولذلك نهى الله تعالى عنه بقوله جل شأنه: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ الله لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}. ب - الاختيال في المشي: وهو يعني التبختر والتعالي في المشية، وهو محرم بقوله تعالى: {وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً، كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيٍّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً}، وبقوله صلى الله عليه وسلم: «بينما رجل يمشي في حلة تعجبه نفسه، مرجل شعره، إذ خسف الله به، فهو يتجلجل إلى يوم القيامة». وكما يكون الاختيال باللّباس الفاخر يكون أيضاً بفرش البيوت، وبركوب السيارات الفاخرة، قال في الفتاوى الهندية: إرخاء السّتر على الباب مكروه ; لأنّه زينة وتكبّر. ورُخّص بالاختيال في الحرب على ما تقدم. ج - الترفّع عن مجالسة من هو أدنى منه: كما ترفع المشركون عن مجالسة الفقراء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: سلمان وصهيب وبلال وخباب، ونحوهم رضي الله عنهم أجمعين، حيث قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو طردت هؤلاء عنك لغشيناك وحضرنا مجلسك، فقد روى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: «كنّا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ستة نفر، فقال المشركون للنبيّ صلى الله عليه وسلم: اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا، قال: وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان لست أسمّيهما، فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع، فحدث نفسه، فأنزل الله عز وجل: {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}». ويدخل في الترفّع عن المجالسة الترفّع عن الزّيارة، لأنّ من ترفع عن مجالسة شخص تكبراً ترفع عن زيارته. د - الترفّع عن السلام أو مصافحة من هو أدنى منه منزلةً في المال أو الجاه أو نحو ذلك، احتقاراً له. هـ - أن يمشي ويمشي أتباعه خلفه: يكره للرجل أن يمشي ومعه أتباعه من جند أو تلاميذ أو أنصار يمشون خلفه، إذا أراد بذلك التكبّر. و - الرّكوب ومعه أتباعه: يكره للرجل الرّكوب ومعه رجاله يمشون إذا أراد به التكبّر. ز - حُبُّه القيام له: والقيام على ضربين: الأول: قيام على رأسه وهو قاعد، فهذا منهيّ عنه، قال صلى الله عليه وسلم: «من سره أن يتمثل له الرّجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار»، وهذه عادة الأعاجم والمتكبّرين. الثاني: قيام عند مجيء الإنسان، فقد كان السلف لا يكادون يفعلونه، قال أنس: «لم يكن شخص أحب إليهم - أي: إلى الصحابة - من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وكانوا إذا رأوه لم يقوموا لما يعلمون من كراهيته لذلك». وقد قال العلماء: يستحبّ القيام للوالدين والإمام العادل وفضلاء الناس، وقد صار هذا كالشّعار بين الأفاضل، فإذا تركه الإنسان في حقّ من يصلح أن يفعل في حقّه لم يأمن أن ينسبه إلى الإهانة والتقصير في حقّه فيوجب ذلك حقداً، واستحباب هذا في حقّ القائم لا يمنع الذي يقام له أن يكره ذلك، ويرى أنّه ليس بأهل لذلك. ح - التميّز في الطعام: ذكر في الفتاوى الهندية أنّه يكره للرجل أن يأكل وسط الخبز ويدع حواشيه لغيره ; لأنّ فيه تكبراً، ويكره أن يأكل الخبز الحواري - أي: الأبيض - ويطعم مماليكه خشكار - أي: الأسمر -. ط - الأكل متكئاً: اتفقوا على تحريم الأكل متكئاً تكبراً، فإن كان لغير التكبّر فقد اختلفوا في كراهته، فكرهه بعضهم ; لأنّه من فعل المتكبّرين، وأصله مأخوذ من ملوك العجم، إلا أن يكون بالمرء مانع لا يتمكن معه من الأكل إلا متكئاً فيباح له ذلك، وأباحه البعض الآخر، وقد نقل عن بعض السلف جواز الأكل متكئاً، بينما ينقل إبراهيم النّخعيّ عن السلف أنّهم كانوا يكرهون أن يأكلوا تكأةً، ولكنّه جعل علةً ذلك مخافة أن تعظم بطونهم، والأصل في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «إنّي لا آكل متكئاً». ي - لبس جلود الحيوانات الكاسرة: يحرم لبس جلود الحيوانات الكاسرة كالنّمور والسّباع تكبراً، وإذا حرم لبسها فإنّه يحرم فرشها تكبراً في البيوت التي يستقبل فيها الضّيوف، ولكن لا بأس أن يجعل منها مصلّىً أو مِيْثَرَةُ السرج. ك - إطالة الثوب إلى أسفل من الكعبين: اتفقوا على تحريم إطالة الثوب إلى أسفل من الكعبين اختيالاً وتكبراً ; لقوله صلى الله عليه وسلم: «من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة»، واتفقوا على إباحة إطالة الثوب إلى أسفل من الكعبين للحاجة، كما إذا كان بساقيه حموشة - أي: دقة ورقة - فلا يكره ما لم يقصد التدليس. واختلفوا في إطالتها إلى أسفل من الكعبين من غير كبر ولا اختيال ولا حاجة: فذهب الجمهور إلى الكراهة التنزيهية. ل - مسح العرق وماء الوضوء بالخرقة: كره الحنفية أن يحمل الشخص خرقةً خاصةً ليمسح بها عرقه أو ينشّف بها ماء الوضوء عن أعضائه أو يتمخط بها، إن أراد بذلك التكبّر، أما إذا لم يرد بها التكبّر فلا كراهة في ذلك.
7 - قال ابن قيّم الجوزية: إنّ الكبر من المهلكات، ومداواته فرض عين، ولك في معالجته مقامان: الأول: في استئصال أصله وقطع شجرته، وذلك بأن يعرف الإنسان نفسه، ويعرف ربه، فإنّه إن عرف نفسه حق المعرفة، علم أنّه أذلّ من كلّ ذليل، ويكفيه أن ينظر في أصل وجوده بعد العدم من تراب، ثم من نطفة خرجت من مخرج البول، ثم من علقة، ثم من مضغة، فقد صار شيئاً مذكوراً بعد أن كان جماداً لا يسمع ولا يبصر ولا يحسّ ولا يتحرك، فقد ابتدأ بموته قبل حياته، وبضعفه قبل قوته، وبفقره قبل غناه، وقد أشار الله تعالى إلى هذه بقوله: {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ، ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} وبقوله: {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} فأحياه بعد الموت، وأحسن تصويره، وأخرجه إلى الدّنيا فأشبعه وأرواه، وكساه وهداه وقواه، فمن هذه بدايته فأي وجه لكبره وفخره؟ ! !. على أنّه لو دام له الوجود على اختياره لكان لطغيانه طريق، بل قد سلّط عليه الأخلاط المتضادة، والأمراض الهائلة، بينما بنيانه قد تم، إذ هو قد هوى وتهدم، لا يملك لنفسه ضرّاً ولا نفعاً، بينما هو يذكر الشيء فينساه، ويستلذّ الشيء فيرديه، ويروم الشيء فلا يناله، ثم لا يأمن أن يسلب حياته بغتةً. هذا أوسط حاله، وذاك أول أمره، وأما آخر أمره: فالموت الذي يعيده جماداً كما كان، ثم يلقى في التّراب فيصير جيفةً منتنةً، وتبلى أعضاؤه، وتنخر عظامه، ويأكل الدّود أجزاءه، ويعود تراباً يعمل منه الكيزان، ويعمر منه البنيان، ثم بعد طول البلى تجمع أجزاؤه المتفرّقة ويساق إلى الحساب. والثاني: من اعتراه الكبر من جهة النّسب، فليعلم أنّ هذا تعزّز بكمال غيره، ثم يعلم أباه وجده، فإنّ أباه القريب نطفة قذرة، وأباه البعيد تراب. ومن اعتراه الكبر بالجمال فلينظر إلى باطنه نظر العقلاء، ولا ينظر إلى ظاهره نظر البهائم. ومن اعتراه من جهة القوة، فليعلم أنّه لو آلمه عرق عاد أعجز من كلّ عاجز، وإن شوكة دخلت في رجله لأعجزته، وبقة لو دخلت في أذنه لأقلقته. من تكبر بالغنى، فإذا تأمل خلقاً من اليهود وجدهم أغنى منه، فأفّ لشرف تسبقه به اليهود، ويستلبه السارق في لحظة، فيعود صاحبه ذليلاً. ومن تكبر بسبب العلم، فليعلم أنّ حجة الله على العالم آكد من حجته على الجاهل، وليتفكر في الخطر العظيم الذي هو بصدده، فإنّ خطره أعظم من خطر غيره، كما أنّ قدره أعظم من قدر غيره. وليعلم أيضاً: أنّ الكِبْر لا يليق إلا بالله تعالى، وأنّه إذا تكبر صار ممقوتاً عند الله بغيضاً عنده، وقد أحب الله تعالى منه أن يتواضع، وكذلك كلّ سبب يعالجه بنقيضه، ويستعمل التواضع.
1 - الكتاب في اللّغة مصدر كتب، يقال: كتب الشيء يكتبه كتباً وكتاباً وكتابةً، ويطلق على عدة معان منها: أ - أنّه اسم لما كتب مجموعاً، قاله الأزهريّ. ب - يطلق على ما يكتبه الشخص ويرسله إلى غيره. ج - يطلق على المكتوب وعلى ما كتب فيه. د - يطلق على المنزل من عند الله تعالى، فيشمل القرآن والتوراة والإنجيل. هـ - يطلق على الصّحف المجموعة. وفي اصطلاح الفقهاء: الكتاب هو الذي يشتمل على المسائل سواء كانت قليلةً أو كثيرةً من فنّ أو فنون. وعند الأصوليّين الكتاب هو القرآن الكريم، قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ}، والفقهاء يستعملون هذا المعنى فيقولون في الاستدلال: ودليله الكتاب والسّنّة، والكتاب عند الحنفية يطلق على مختصر الإمام القدوريّ. والكتاب الحكميّ عند الفقهاء ما يكتب فيه شهادة الشّهود على غائب بلا حكم ليحكم المكتوب إليه من القضاة به ويسمى كتاب القاضي إلى القاضي.
أ - السّجلّ: 2 - من معاني السّجلّ لغةً: كتاب العهد ونحوه، وكتاب القاضي، والجمع سجلات، وأسجلت للرجل إسجالاً: كتبت له كتاباً، وسجل القاضي: قضى وحكم وأثبت حكمه في السّجلّ. وفي الاصطلاح يطلق السّجلّ على كتاب القاضي الذي فيه حكمه، قال الحصكفيّ: هذا في عرفهم وفي عرفنا: كتاب كبير تضبط فيه وقائع الناس. وعلى ذلك فالسّجلّ أخصّ من الكتاب ; لأنّه يطلق على كتاب مخصوص. ب - الدفتر: 3 - الدفتر لغةً: جريدة الحساب، والدفتر جماعة الصّحف المضمومة، والدفتر واحد الدفاتر وهي الكراريس، وهو عربيّ، قال ابن دريد: ولا يعرف له اشتقاق. ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ. والصّلة بين الدفتر والكتاب عموم وخصوص مطلق والدفتر أعمّ من الكتاب، والفرق بينهما أنّ الكتاب يفيد أنّه مكتوب، ولا يفيد الدفتر ذلك، تقول: عندي دفتر بياض ولا تقول: عندي كتاب بياض. ج - الرّسالة: 4 - في اللّغة: رِسالة - بكسر الراء - اسم من الرَسَالة - بفتح الراء - يقال رِسَل رَسَلاً ورَسَالةً من باب تعب. يقال أرسلت رسولاً: بعثته برسالة يؤدّيها. والفقهاء يستعملونها تارةً بمعنى الرسول، وتارةً بمعنى الكتاب. وعلى هذا فبين الكتاب والرّسالة عموم وخصوص نسبيّ.
تتعلق بالكتاب أحكام تختلف باختلاف استعمالاته كما يلي: أي إرسال كتاب إلى الغير بشأن أمر من الأمور أو طلب شيء، ويأتي ذلك في مواضع متعدّدة من أبواب الفقه منها:
5 - ذهب الفقهاء إلى جواز كتابة القاضي إلى القاضي بما ثبت لديه من البينات وغيرها، واختلفوا في الشّروط واللّزوم. والتفصيل في مصطلح (قضاء ف / 49، 52، 53).
6 - إذا كتب الزوج إلى زوجته كتاباً بطلاقها، فإن كتب إليها: يا فلانة أنت طالق، أو كتب: هي طالق طلقت في الحال سواء وصل إليها الكتاب أو لم يصل، وهذا باتّفاق، لكن قال المالكية والشافعية إذا كتب لزوجته ناوياً الطلاق حين الكتابة وقع الطلاق ; لأنّ الكتابة طريق في إفهام المراد كالعبارة وقد اقترنت بالنّية، فإن لم ينو لم تطلق ; لأنّ الكتابة تحتمل الفسخ والحكاية وتجربة القلم والمداد وغيرها، وأضاف الشافعية أنّه إذا قرأ ما كتبه حال الكتابة أو بعدها فصريح فإن قال قرأته حاكياً ما كتبته بلا نية طلاق صدّق بيمينه. وقال ابن رشد من المالكية: إن كتب مستشيراً أو متردّداً وأخرج الكتاب عازماً على الطلاق أو لا نية له وقع الطلاق لحمله على أنّه نوى الطلاق، وإن كتب الطلاق غير عازم عليه، بل كتبه متردّداً أو مستشيراً ولم يخرجه، أو أخرجه متردّداً فلا يقع الطلاق إلا إذا وصل الكتاب إلى الزوجة، وإن لم يصل لا يقع الطلاق. وإن كان الطلاق معلقاً فقد ذهب جمهور الفقهاء - الحنفية والشافعية والحنابلة - إلى أنّ الزوج لو علق الطلاق على شرط الوصول إليها، بأن كتب: إذا وصل كتابي إليك فأنت طالق، لا يقع الطلاق حتى يصل إليها الكتاب ; لأنّه علق الوقوع بشرط الوصول فلا يقع قبله كما لو علقه بشرط آخر. والحكم كذلك عند المالكية إذا كانت أداة الشرط " إن " ; لأنّ " إن " صريحة في الشرط فلا تطلق إلا عند وصول الكتاب إليها، أما إذا كانت أداة الشرط " إذا " فقد اختلف المالكية في وقت وقوع الطلاق، فذهب الدردير والدّسوقيّ والخرشيّ إلى وقوع الطلاق في الحال مثل قوله لها في كتابه: أنت طالق وهذا بناء على أنّ أداة الشرط (إذا) لمجرد الظرفية فينجز الطلاق كمن أجل الطلاق بمستقبل. ونقل الدّسوقيّ عن مصطفى الرماصيّ أنّه إذا كتب: إذا وصل لك كتابي ففي توقّفه على الوصول خلاف، وقوى القول بتوقّفه على الوصول، لتضمّن " إذا " معنى الشرط. واعتبر الشيخ عليش في منح الجليل أنّ عدم التنجيز وتوقّف وقوع الطلاق على وصول الكتاب ظاهر مشهور.
7 - ذهب الحنفية والشافعية والحنابلة إلى أنّه إن انمحى ما في كتاب الطلاق المعلق على الوصول أو انطمس ما فيه لعرَق أو غيره بحيث لا يمكن قراءة ما فيه لم يقع الطلاق وإن وصل الكتاب ; لأنّ الشرط وصول الكتاب ولم يوجد ; لأنّ الكتاب عبارة عما فيه الكتابة. وإن ذهب موضع الطلاق فقط وانمحق ووصل باقيه لم يقع الطلاق ; لأنّه لم يبلغها جميع الكتاب ولا ما هو المقصود الأصليّ منه، وهذا ما ذهب إليه الشافعية والحنابلة. وقال الحنفية: إن محا ذكر الطلاق منه وأنفذ الكتاب وقد بقي منه كلام يسمى كتاباً ورسالةً وقع الطلاق لوجود الشرط وهو وصول الكتاب إليها. وإن انمحى ما في الكتاب سوى ما فيه ذكر الطلاق، أو تخرق بعض ما فيه الكتابة سوى ما فيه ذكر الطلاق، ومثل ذلك: ما لو ذهبت سوابقه ولواحقه كالبسملة والحمدلة وبقيت مقاصده، ووصل الكتاب فإنّها تطلق لوصول المقصود، وهذا عند الشافعية والحنابلة. وقال بعض الحنفية: إذا محا ما سوى كتابة الطلاق وأنفذه فوصل إليها لا يقع، بناء على أنّ الرّسالة المتضمنة لمجرد الطلاق لا تكون كتاباً، ذكر ذلك الكمال بن الهمام في فتح القدير ثم قال: وفيه نظر. 8- وللمذاهب فروع مختلفة في وقوع الطلاق بالكتاب بيانها فيما يلي: قال الحنفية: كتب في قرطاس: إذا أتاك كتابي هذا فأنت طالق، ثم نسخه في كتاب آخر، أو أمر غيره بنسخه ولم يمله عليه، فأتاها الكتابان طلقت طلقتين قضاءً، إن أقر أنّهما كتاباه أو برهنت، وفي الدّيانة تقع واحدة بأيّهما أتاها ويبطل الآخر. ولو استكتب من آخر كتاباً بطلاقها وقرأه على الزوج، فأخذه الزوج وختمه وعنونه وبعث به إليها، فأتاها وقع إن أقر الزوج أنّه كتابه. وكذلك الحكم لو قال للرجل ابعث به إليها، أو قال له: اكتب نسخةً وابعث بها إليها. وإن أنكر ولم يقر أنّه كتابه ولم تقم بينة على أنّه كتابه، لكنّه وصف الأمر على وجهه لا تطلق قضاءً ولا ديانةً. وكذا كلّ كتاب لم يكتبه بخطّه ولم يمله بنفسه لا يقع الطلاق ما لم يقر أنّه كتابه. ومن كانت له امرأة تدعى زينب ثم تزوج في بلدة أخرى امرأةً تدعى عائشة، فبلغ زينب فخاف منها، فكتب إليها: كلّ امرأة لي غيرك وغير عائشة طالق، ثم محا قوله: وغير عائشة، وبعث الكتاب إلى زينب لم تطلق عائشة، قال ابن عابدين: وينبغي أن يشهد على كتابة ما محاه ; لئلا يظهر الحال، فيحكم عليه القاضي بطلاق عائشة. وقال الحنفية: لو كتب إلى امرأته بطلاقها ثم أنكر الكتاب وقامت عليه البينة أنّه كتبه بيده فرّق بينهما في القضاء أما فيما بينه وبين الله تعالى إن كان لم ينو الطلاق فهي امرأته، ولو كتب إليها: أما بعد: أنت طالق إن شاء الله تعالى، إن كان موصولاً بكتابته لا تطلق، وإن كتب الطلاق ثم فتر فترةً، ثم كتب: إن شاء الله، فإنّ الطلاق يقع ; لأنّ المكتوب إلى الغائب كالملفوظ، كذا في الفتاوى الكبرى للخاصّيّ والخلاصة. وقال الشافعية: لو كتب: إذا بلغك نصف كتابي هذا، فبلغها كلّه طلقت، فإن ادعت وصول كتابه بالطلاق، فأنكر صدّق بيمينه، فإن أقامت بينةً بأنّه خطّه لم تسمع إلا برؤية الشاهد بكتابه وحفظه عنده لوقت الشهادة. وإن كتب: إذا قرأت كتابي فأنت طالق وهي قارئة، فقرأته طلقت لوجود المعلق عليه. قال الشّربينيّ الخطيب: وعبارة النّوويّ تقتضي أمرين أحدهما: اشتراط اللفظ به إذ القراءة تعطي ذلك، لكن نقل الإمام الاتّفاق على أنّها لو طالعت الكتاب وفهمت ما فيه طلقت وإن لم تتلفظ بشيء. والشرط الثاني: اشتراط قراءة جميع الكتاب، والظاهر الاكتفاء بقراءة المقاصد كما بحثه الأذرعيّ فحكم قراءة بعض الكتاب كوصول بعضه، وإن قُرِئَ عليها الكتاب فلا تطلق في الأصحّ لعدم قراءتها مع إمكانها القراءة، ومقابل الأصحّ أنّها تطلق ; لأنّ المقصود إطلاعها على ما في الكتاب وقد وجد، وإذا كانت لا تعرف القراءة، والزوج يعلم ذلك، فقرئ عليها طلقت ; لأنّ القراءة في حقّ الأمّيّ محمولة على الاطّلاع على ما في الكتاب، وقد وجد بخلاف القارئة،أما إذا لم يعلم الزوج حالها فإنّها لا تطلق على الأقرب في الروضة وأصلها. ولو علق بوصول الكتاب، ثم علق بوصول الطلاق، ووصل، طلقت طلقتين. وقال الحنابلة: إذا كتب لزوجته: إذا أتاك طلاقي فأنت طالق، ثم كتب إليها: إذا أتاك كتابي فأنت طالق فأتاها الكتاب طلقت طلقتين لوجود الصّفتين في مجيء الكتاب، فإن قال: أردت إذا أتاك كتابي فأنت طالق بذلك الطلاق الذي علقته دين، وهل يقبل في الحكم؟ يخرج على روايتين. وإذا كتب لزوجته أنت طالق ثم استمد " أي أخذ المداد من الدواة بالقلم " فكتب: إذا أتاك كتابي، أو علقه بشرط أو استثناء، وكان في حال كتابته للطلاق مريداً للشرط لم يقع طلاقه في الحال ; لأنّه لم ينو الطلاق في الحال، بل نواه في وقت آخر، وإن كان نوى الطلاق في الحال غير معلق بشرط طلقت للحال، وإن لم ينو شيئاً وقلنا: إنّ المُطْلَق يقع به الطلاق نظرنا، فإن كان استمداداً لحاجة أو عادة، لم يقع الطلاق قبل وجود الشرط ; لأنّه لو قال: أنت طالق، ثم أدركه النفس أو شيء يسكته فسكت لذلك، ثم أتى بشرط تعلق به فالكتابة أولى. وإن استمد لغير حاجة ولا عادة وقع الطلاق، كما لو سكت بعد قوله: أنت طالق لغير حاجة ثم ذكر شرطاً. وإن قال: إنّني كتبته مريداً للشرط فقياس قول أصحابنا أنّها لا تطلق قبل الشرط، إلا أنّه يُديّن وهل يقبل في الحكم؟ على وجهين. واشترط الحنابلة الشهادة لإثبات كتاب الطلاق، جاء في المغني: ولا يثبت الكتاب بالطلاق إلا بشاهدين عدلين أنّ هذا كتابه، قال أحمد في رواية حرب في امرأة أتاها كتاب زوجها بخطّه وخاتمه بالطلاق: لا تتزوج حتى يشهد عندها شهود عدول، قيل له: فإن شهد حامل الكتاب؟ قال: لا، إلا شاهدان، فلم يقبل قول حامل الكتاب وحده حتى يشهد معه غيره ; لأنّ الكتب المثبتة للحقوق لا تثبت إلا بشاهدين ككتاب القاضي، وظاهر كلام أحمد أنّ الكتاب يثبت عندها بشهادتهما بين يديها وإن لم يشهدا به عند الحاكم ; لأنّ أثره في حقّها في العدة وجواز التزويج بعد انقضائها. وهذا معنىً يختصّ به، لا يثبت به حقّ على الغير، فاكتفي فيه بسماعها للشهادة. ولو شهد شاهدان أنّ هذا خطّ فلان لم يقبل ; لأنّ الخط يشبه به ويزور، ولهذا لم يقبله الحاكم، ولو اكتفي بمعرفة الخطّ لاكتفي بمعرفتها له من غير شهادة. قال ابن قدامة: وذكر القاضي: أنّه لا يصحّ شهادة الشاهدين حتى يشاهداه يكتبه، ثم لا يغيب عنهما حتى يؤدّيا الشهادة. قال ابن قدامة: والصحيح أنّ هذا ليس بشرط، فإنّ كتاب القاضي لا يشترط فيه ذلك فهذا أولى، وقد يكون صاحب الكتاب لا يعرف الكتابة، وإنّما يستنيب فيها، وقد يستنيب فيها من يعرفها، بل متى أتاها بكتاب وقرأه عليها وقال: هذا كتابي كان لهما أن يشهدا به.
9 - جاء في الهداية وشروحها في باب البيع: الكتاب كالخطاب، وكذا الإرسال، حتى اعتبر مجلس بلوغ الكتاب وأداء الرّسالة، فصورة الكتاب بأن يكتب: أما بعد: فقد بعت عبدي منك بكذا، فلما بلغه الكتاب وفهم ما فيه قال: قبلت، وكان ذلك في المجلس انعقد. وينظر تفصيل ذلك في مصطلح (عقد ف / 13).
10 - روى أبو جعفر عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً: " إنّي لأرى لردّ جواب الكتاب علي حقّاً كما أرى رد جواب السلام "، قال الشيخ تقيّ الدّين: وهو المحفوظ عن ابن عباس يعني موقوفًا، قال ابن مفلح: ويتوجه القول به استحباباً، ويتوجه في الوجوب ما في المكافأة على الهدية وردّ جواب كلمة طيّبة ونحو ذلك. أما إن أفضى ترك ذلك إلى سوء ظنّ وإيقاع عداوة ونحو ذلك توجه الوجوب. ولا بد من ردّ جواب ما قصده الكاتب، وإلا كان الردّ كعدمه شرعاً وعرفاً. وقال القرطبيّ: إذا ورد على إنسان كتاب التحية أو نحوها ينبغي أن يرد الجواب ; لأنّ الكتاب من الغائب كالسلام من الحاضر.
11 - يستحبّ ابتداء الكتاب والرّسالة ببسم الله الرحمن الرحيم، اقتداءً بالكتب السماوية التي أشرفها القرآن الكريم ; لما قاله العلامة أبو بكر التّونسيّ من إجماع علماء كلّ ملة على أنّ الله سبحانه افتتح جميع كتبه ببسم الله الرحمن الرحيم ويشهد له خبر: «بسم الله الرحمن الرحيم فاتحة كلّ كتاب»، وعملاً بخبر: «كلّ أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أقطع»، أي قليل البركة أو مقطوعها. قال القرطبيّ: اتفقوا على كتب بسم الله الرحمن الرحيم في أول الكتب والرسائل وعلى ختمها ; لأنّه أبعد من الرّيبة، وعلى هذا جرى الرسم، وبه جاء الأثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنّه قال: أيّما كتاب لم يكن مختومًا فهو أغلف. وبعد البسملة في الكتاب المرسل إلى الغير يكتب إلى فلان، ولا يكتب لفلان، قال ابن مفلح: قال أبو جعفر الدارميّ أحمد بن سعيد: كتب إليّ أبو عبد الله أحمد بن حنبل: لأبي جعفر أكرمه الله من أحمد بن حنبل، قال: نكتب: إلى أبي فلان ولا نكتب: لأبي فلان، قال: ليس له معنىً إذا كتب لأبي فلان، وقال المروزيّ: كان أبو عبد الله يكتب عنوان الكتاب: إلى أبي فلان وقال: هو أصوب من أن يكتب لأبي فلان. قال أبو جعفر: فأما ابتداء الإنسان بنفسه وكتبه من فلان إلى فلان ففيه اختلاف بين العلماء في العنوان وصدر الكتاب، فأكثرهم يرى أن يبتدئ بنفسه ; لأنّ ذلك عنده هو السّنّة، كما روى محمد بن سيرين أنّ العلاء بن الحضرميّ رضي الله عنه كتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبدأ بنفسه قال أبو جعفر: وعن نافع أنّ ابن عمر رضي الله عنهما كان يقول لغلمانه وولده: إذا كتبتم إلى فلان فلا تبدءوا بي وكان إذا كتب إلى الأمراء بدأ بنفسه، وروي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إذا كتب أحدكم فليبدأ بنفسه إلا إلى والد أو والدة، وإمام يخاف عقوبته»، وقال الربيع بن أنس: ما كان أحد أعظم حرمةً من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أصحابه يكتبون إليه فيبدءون بأنفسهم. وفي القرطبيّ قال ابن سيرين: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنّ أهل فارس إذا كتبوا بدءوا بعظمائهم، فلا يبدأ الرجل إلا بنفسه»، قال أبو الليث في كتاب البستان: ولو بدأ بالمكتوب إليه جاز ; لأنّ الأمة قد اجتمعت عليه وفعلوه لمصلحة رأوا في ذلك، أو نسخ ما كان من قبل. فالأحسن في زماننا هذا أن يبدأ بالمكتوب إليه ثم بنفسه ; لأنّ البداية بنفسه تعدّ منه استخفافاً بالمكتوب إليه إلا أن يكتب إلى غلام من غلمانه.
12 - أمر الله سبحانه وتعالى بتوثيق المعاملات التي تجري بين الناس في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ}، وقد وثق النبيّ صلى الله عليه وسلم فباع وكتب ومن ذلك: «هذا ما اشترى العداء بن خالد بن هوذة من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى منه عبداً أو أمةً لا داء ولا غائلة ولا خبثة، بيع المسلم من المسلم». وأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بالكتاب في الصّلح فيما بينه وبين المشركين. وينظر تفصيل ذلك في (توثيق ف / 12).
13 - يأتي الكتاب بمعنى كتب العلم سواء أكانت شرعيةً أم غير شرعية وهو المعنى الذي عبر عنه صاحب الكلّيات بقوله: الكتاب هو الذي يشتمل على المسائل سواء كانت قليلةً أو كثيرةً من فنّ أو فنون، وكذلك ما جاء في أسنى المطالب. ويتعلق بالكتاب بهذا المعنى أحكام متعدّدة منها:
14 - اتفق الفقهاء على أنّه لا يجوز الاستنجاء بمحترم كالكتب التي فيها ذكر الله تعالى ككتب الحديث والفقه ; لحرمة الحروف، ولما في ذلك من هتك الشريعة والاستخفاف بحرمتها. واختلفوا في الكتب غير المحترمة، ومثلوا لها بكتب السحر والفلسفة وبالتوراة والإنجيل إذا علم تبدّلهما. فذهب المالكية إلى أنّه لا يجوز الاستنجاء بهذه الكتب لحرمة الحروف - أي لشرفها - قال إبراهيم اللقانيّ: محلّ كون الحروف لها حرمة إذا كانت مكتوبةً بالعربيّ، وإلا فلا حرمة لها إلا إذا كان المكتوب بها من أسماء الله تعالى، وقال عليّ الأجهوريّ: الحروف لها حرمة سواء كتبت بالعربيّ أو بغيره. وقال الحطاب: لا يجوز الاستجمار بالمكتوب ولو كان المكتوب باطلاً كالسّحر ; لأنّ الحرمة للحروف، وأسماء الله تعالى إن كتبت في أثناء ما تجب إهانته كالتوراة والإنجيل بعد تحريفهما، فيجوز إحراقها وإتلافها، ولا يجوز إهانتها ; لأنّ الاستنجاء بهذه الكتب إهانة لمكان ما فيها من أسماء الله تعالى ; لأنّها وإن كانت محرمةً فإنّ حرمة أسماء الله تعالى لا تبدل على وجه. وذهب الشافعية إلى أنّ غير المحترم من الكتب ككتب الفلسفة وكذا التوراة والإنجيل إذا علم تبدّلهما وخلوّهما عن اسم معظم فإنّه يجوز الاستنجاء به. وقال ابن عابدين من الحنفية: نقلوا عندنا أنّ للحروف حرمةً ولو مقطعةً، وذكر بعض القراء أنّ حروف الهجاء قرآن أنزلت على هود عليه السلام، ومفاده الحرمة بالمكتوب مطلقاً.
15 - اختلف الفقهاء في حكم مسّ غير المتطهّر كتب العلوم الشرعية. فبالنّسبة لكتب التفسير أجاز المالكية والحنابلة أن يمسها غير المتطهّر ; لأنّها لا تسمى مصحفاً عرفاً ; ولأنّ المقصود من التفسير معاني القرآن لا تلاوته، قال المالكية: وظاهره ولو كتبت فيه آيات كثيرة متوالية وقصدها بالمسّ كما قال ابن مرزوق. وعامة الحنفية على منع مسّ لفظ القرآن الكريم، قال في السّراج عن الإيضاح: لا يجوز مسّ موضع القرآن منها، أما ما سوى ذلك من التفسير وسائر الكتب الشرعية فالتحقيق أنّ فيها ثلاثة أقوال: قول بالكراهة، وقول بعدمها، والثالث: الكراهة في التفسير دون غيره. قال ابن عابدين: والقول الثالث هو الأظهر والأحوط لظهور الفرق، فإنّ القرآن في التفسير أكثر منه في غيره. وقال الشافعية: إن كان القرآن أكثر لا يجوز المسّ وإن كان التفسير أكثر جاز مسّه. وقال ابن عرفة من المالكية: لا يجوز مسّ التفاسير التي فيها آيات كثيرة متوالية. 16 - واختلف الفقهاء كذلك في مسّ الكتب السماوية - غير القرآن - كالتوراة والإنجيل والزبور. فأجاز مسّها لغير المتطهّر المالكية والشافعية والحنابلة ; لأنّها ليست قرآناً. قال المالكية: يجوز مسّها ولو كانت غير مبدلة، إلا أنّ الشافعية قالوا: إن ظنّ أنّ في التوراة ونحوها غير مبدل كره مسّه. واختلفت أقوال الحنفية، ففي حاشية ابن عابدين: قال الشيخ إسماعيل: وفي المبتغى. ولا يجوز مسّ التوراة والإنجيل والزبور. وعلل بعض فقهاء الحنفية ذلك باشتراك سائر الكتب السماوية في وجوب التعظيم، لكنّه قال: نعم، ينبغي أن يخص بما لم يبدل. وفي قول آخر للحنفية أنّه يجوز المسّ، ففي الدّرّ المختار: الظاهر جواز المسّ، قال في النّهر: وقوله تعالى: {لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ}، بناء على أنّ الجملة صفة للقرآن يقتضي اختصاص المنع به. 17 - وكذلك اختلف الفقهاء في حكم مسّ غير المتطهّر كتب الفقه والحديث والأصول والرسائل التي فيها قرآن. فأجاز المالكية والشافعية والحنابلة وبعض فقهاء الحنفية وهو الأصحّ عند أبي حنيفة لغير المتطهّر أن يمسها ويحملها ولو كان فيها آيات من القرآن، بدليل: «أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى هرقل كتاباً وفيه آية» ; ولأنّه لا يقع على مثل ذلك اسم مصحف ولا تثبت لها حرمته. وقال بعض فقهاء الحنفية، ومنهم أبو يوسف ومحمد: إنّه يكره مسّ كتب الأحاديث والفقه لغير المتطهّر ; لأنّها لا تخلو عن آيات القرآن، وقد تقدم ترجيح ابن عابدين القول بقصر الكراهة على كتب التفسير وحدها. وقال الشافعية: يستحبّ التطهّر لحمل كتب الحديث ومسّها.
18 - قال الحنفية: يكره أن يضع المصحف تحت رأسه إلا للحفظ أي حفظه من سارق ونحوه، قال ابن عابدين: وهل التفسير والكتب الشرعية كذلك؟ أقول: الظاهر نعم. وقال الشافعية: يحرم توسّد القرآن وإن خاف سرقته، نعم، إن خاف على المصحف من تلف نحو حرق أو تنجّس أو كافر جاز له أن يتوسده، بل يجب عليه، ويحرم توسّد كتب علم محترم إلا لخوف من نحو سرقة، فإنّه يجوز توسّدها. وقال الحنابلة: يحرم توسّد المصحف والوزن به والاتّكاء عليه ; لأنّ ذلك ابتذال له، قال في الآداب الشرعية: واختار ابن حمدان التحريم، وقطع به في المغني والشرح، وبذلك قال ابن عبد القويّ في كتابه مجمع البحرين، لكن جاء في الآداب الشرعية: ويكره توسّد المصحف، ذكره ابن تميم. أما كتب العلم فقد قال الحنابلة: إن كان فيها قرآن حرم توسّدها والوزن بها والاتّكاء عليها وإن لم يكن فيها قرآن كره ذلك، أما إن خاف عليها سرقةً فلا بأس أن يتوسدها للحاجة، قال أحمد في رواية نعيم بن ناعم وقد سأله: أيضع الرجل الكتب تحت رأسه؟ قال: أي كتب؟ قلت: كتب الحديث، قال: إذا خاف أن تسرق فلا بأس، وأما أن تتخذ وسادةً فلا.
19 - ذكر الحنفية كيفية ترتيب الكتب من حيث الأولوية عند وضعها فوق بعضها. فقالوا: توضع كتب النحو واللّغة أولاً، ثم كتب تعبير الرّؤيا ككتب ابن سيرين وابن شاهين لأفضليته، لكونه تفسيراً لما هو جزء من ستة وأربعين جزءاً من النّبوة وهو الرّؤيا، ثم كتب الكلام، ثم كتب الفقه ; لأنّ معظم أدلته من الكتاب والسّنّة، فيكثر فيه الآيات والأحاديث، بخلاف علم الكلام، فإنّ ذلك خاصّ بالسمعيات منه فقط، ثم كتب الأخبار والمواعظ، ثم التفسير، ثم المصحف فوق الجميع.
20 - ذهب الحنفية والحنابلة إلى أنّه لا يجوز النظر في كتب أهل الكتاب، نقل ابن عابدين قول عبد الغنيّ النابلسيّ: نهينا عن النظر في شيء من التوراة والإنجيل، سواء نقلها إلينا الكفار أو من أسلم منهم. وسئل أحمد عن قراءة التوراة والإنجيل والزبور ونحو ذلك فغضب، وظاهره الإنكار وذكره القاضي، واحتج بأنّ النّبي صلى الله عليه وسلم «لما رأى في يد عمر قطعةً من التوراة غضب وقال: ألم آت بها بيضاء نقيةً». وقد ذكر ابن حجر نص الحديث قال: «نسخ عمر كتاباً من التوراة بالعربية فجاء به إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فجعل يقرأ ووجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتغير، فقال له رجل من الأنصار: ويحك يا ابن الخطاب ألا ترى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنّهم لن يهدوكم وقد ضلّوا، وإنّكم إما أن تكذّبوا بحقّ أو تصدّقوا بباطل، والله لو كان موسى بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني». وقد أهدى رجل إلى السيّدة عائشة رضي الله تعالى عنها هديةً فقالت: لا حاجة لي في هديته بلغني أنّه يتتبع الكتب الأول، والله تعالى يقول: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ}. ونقل ابن حجر في فتح الباري عن الشيخ بدر الدّين الزركشيّ أنّه قال: اغتر بعض المتأخّرين، فرأى جواز مطالعة التوراة ; لأنّ التحريف في المعنى فقط قال الزركشيّ: وهو قول باطل، ولا خلاف أنّهم حرفوا وبدلوا، والاشتغال بنظرها وكتابتها لا يجوز بالإجماع، وقد «غضب النبيّ صلى الله عليه وسلم حين رأى مع عمر رضي الله عنه صحيفةً فيها شيء من التوراة..» إلى آخر الحديث، ولولا أنّه معصية ما غضب النبيّ صلى الله عليه وسلم. وبعد أن ذكر ابن حجر روايات متعدّدةً للحديث بطرق مختلفة قال: والذي يظهر أنّ كراهية ذلك للتنزيه لا للتحريم، ثم قال: والأولى في هذه المسألة التفرقة بين من لم يتمكن ويصير من الراسخين في الإيمان، فلا يجوز له النظر في شيء من ذلك بخلاف الراسخ فيجوز له، ولا سيما عند الاحتياج إلى الردّ على المخالف، ويدلّ على ذلك نقل الأئمة قديماً وحديثاً من التوراة، وإلزامهم اليهود بالتصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم بما يستخرجونه من كتابهم، ولولا اعتقادهم جواز النظر فيه لما فعلوه وتواردوا عليه، وغضب الرسول صلى الله عليه وسلم لا يدلّ على التحريم، فإنّه صلى الله عليه وسلم قد يغضب من فعل المكروه، ومن فعل ما هو خلاف الأولى إذا صدر ممن لا يليق منه ذلك، كغضبه من تطويل معاذ صلاة الصّبح بالقراءة، وقد يغضب ممن يقع منه تقصير في فهم الأمر الواضح مثل الذي سأل عن لقطة الإبل. وقال الحنابلة: ولا يجوز النظر في كتب أهل البدع، ولا في الكتب المشتملة على الحقّ والباطل، ولا روايتها لما في ذلك من ضرر إفساد العقائد. وقال القليوبيّ: تحرم قراءة كتب الرقائق والمغازي الموضوعة كفتوح الشام وقصص الأنبياء وحكاياتهم المنسوبة للواقديّ، وقال أيضاً: ذكر الإمام الشعراويّ في المغني ما نصه: ويحذّر من مطالعة مواضع من كتاب إحياء علوم الدّين للغزاليّ، ومن كتاب قوت القلوب لأبي طالب المكّيّ، ومن تفسير مكّيّ، ومن كلام ابن ميسرة الحنبليّ، ومن كلام منذر بن سعيد البلّوطيّ، ومن مطالعة كتب أبي حيان، أو كتب إخوان الصفا، أو كلام إبراهيم النّجام، أو كتاب خلع النّعلين لابن قسيّ، أو كتب محمد بن حزم الظاهريّ أو كلام المفيد بن رشيديّ، أو كتب محيي الدّين بن عربيّ، أو تائية محمد بن وفا، أو نحو ذلك.
21 - نص الشافعية على جواز بيع كتب الأدب. ونص الحنابلة غير أبي طالب على جواز بيع كتب العلم. وكره مالك بيع كتب الفقه، قال ابن يونس من المالكية قد أجاز غير الإمام مالك بيع كتب الفقه، قال ابن عبد الحكم: بيعت كتب ابن وهب بثلثمائة دينار وأصحابنا متوافرون فلم ينكروه، وكان أبي وصيّه. وقال الشافعية: لا يصحّ بيع كتب الكفر والسّحر والتنجيم والشعبذة والفلسفة، بل يجب إتلافها لتحريم الاشتغال به. وأجاز الحنفية والمالكية والشافعية بيع المصاحف وشراءها لما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنّه سئل عن بيع المصاحف فقال: لا بأس يأخذون أجور أيديهم ; ولأنّه طاهر منتفع به فهو كسائر الأموال، وقال ابن وهب: أخبرني رجال من أهل العلم عن يحيى بن سعيد ومكحول وغير واحد من التابعين أنّهم لم يكونوا يرون ببيع المصاحف بأساً، وسئل عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما ومروان بن الحكم عن بيع المصاحف والتّجارة فيها فقالا: لا نرى أن يجعله متجراً، ولكن ما عملت بذلك فلا بأس. وقال أبو الخطاب من الحنابلة: يجوز بيع المصاحف مع الكراهة. وقال ابن قدامة: ورخص في بيع المصاحف الحسن والحكم وعكرمة ; لأنّ البيع يقع على الجلد والورق، وبيع ذلك مباح. والمذهب عند الحنابلة أنّه يحرم بيع المصحف ولو في دين، قال أحمد: لا نعلم في بيع المصحف رخصةً ; لأنّ تعظيمه واجب، وفي بيعه ابتذال له وترك لتعظيمه. لكنّ الحنابلة أجازوا شراء المصحف ; لأنّه استنقاذ له كشراء الأسير، كما أجازوا شراء كتب الزندقة لإتلافها ; لأنّ في الكتب مالية الورق وتعود ورقاً منتفعاً به بالمعالجة. 22 - ولا يجوز بيع المصاحف وكتب العلوم الشرعية للكافر. قال المالكية: مُنع بيع مصحف وجزئه وكتب حديث وفقه، وعلم شرعيّ لكافر، ويشمل العلم الشرعي نحو النحو من آلات العلوم الشرعية لاشتماله على الآيات والأحاديث وأسماء الله تعالى. وقال الدّسوقيّ: يمنع بيع كتب العلم لهم مطلقاً وظاهره ولو كان الكافر الذي يشتري ما ذكر يعظّمه ; لأنّ مجرد تملّكه له إهانة، ويمنع أيضاً، بيع التوراة والإنجيل لهم ; لأنّها مبدلة، ففيه إعانة لهم على ضلالهم. ويجبر الكافر على إخراج ما بيع له من ذلك من ملكه. وقال الشافعية: لا يصحّ شراء الكافر المصحف ولا يتملكه بسلم ولا بهبة ولا وصية، ولا كتب حديث ولا آثار سلف ولا كتب فقه لما في ذلك من الإهانة لها، قال الأذرعيّ: والمراد بآثار السلف حكايات الصالحين لما في ذلك من الإهانة والاستهزاء بهم، قال السّبكيّ: والأحسن أن يقال: كتب علم وإن خلت عن الآثار تعظيماً للعلم الشرعيّ، وتعليله يفيد جواز تملّكه كتب علوم غير شرعية. وينبغي منعه من تملّك ما يتعلق منها بالشرع ككتب النحو واللّغة، قال شيخنا: وفيما قاله نظر، أي بل الظاهر الجواز وهو كذلك. وقال الحنابلة: إن اشترى الكافر مصحفاً فالبيع باطل ; لأنّه يمنع من استدامة الملك عليه، فمنع منه ابتداءً كسائر ما يحرم بيعه.
23 - رهن كتب الحديث لغير المسلم فيها عند الشافعية قولان: أحدهما: يبطل الرهن، والقول الثاني: يصحّ ويجبر على تركه في يد مسلم، وقال أبو عليّ الطبريّ في الإفصاح: يصحّ الرهن قولاً واحداً ويجبر على تركه في يد مسلم. وقال الحنابلة: يصحّ رهن كتب الحديث والتفسير لكافر بشرط جعلها بيد مسلم عدل لأمن المفسدة، فإن لم يشترط ذلك لم يصح. 24 - وقد اختلف الفقهاء في رهن المصحف، فأجاز رهنه الحنفية والمالكية والشافعية. وحكى ابن قدامة من الحنابلة روايتين في رهن المصحف. إحداهما: لا يصحّ رهنه، وذلك ; لأنّ المقصود من الرهن استيفاء الدين من ثمنه، ولا يحصل ذلك إلا ببيعه، وبيعه غير جائز. والثانية: يصحّ رهنه وعللها بقوله: إذا رهن مصحفاً لا يقرأ فيه إلا بإذنه فظاهر هذا صحة رهنه.
25 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ الواقف لو شرط أن لا يعار الكتاب الموقوف إلا برهن فالشرط باطل، ولا يصحّ هذا الرهن ; لأنّ الكتب غير مضمونة في يد الموقوف عليه، ولا يقال لها عارية أيضاً، بل الآخذ لها إن كان من أهل الوقف استحق الانتفاع ويده عليها يد أمانة فشرط أخذ الرهن عليها فاسد، وإن أعطى يكون رهناً فاسداً ويكون في يد خازن الكتب أمانةً، هذا إن أريد الرهن الشرعيّ، وإن أريد مدلوله لغةً، وأن يكون تذكرةً فيصحّ الشرط ; لأنّه غرض صحيح، وإذا لم يعلم مراد الواقف فالأقرب الحمل على اللّغويّ تصحيحاً لكلامه، وفي بعض الأوقات يقول الواقف: لا تخرج إلا بتذكرة فيصحّ، ويكون المقصود أنّ تجويز الواقف الانتفاع مشروط بذلك، ولا نقول: إنّها تبقى رهناً، بل له أخذها فيطالبه الخازن بردّ الكتاب، وعلى كلّ فلا تثبت له أحكام الرهن ولا بيعه، ولا بدل الكتاب الموقوف بتلفه إن لم يفرّط.
26 - ذهب الفقهاء إلى جواز إعارة الكتب واستعارتها. وذهب الشافعية والحنابلة إلى وجوب إعارة المصحف، قال الشافعية: وذلك لمن دخل عليه وقت الصلاة ولم يجد من يعلّمه وهو يحسن القراءة، وقال بعضهم: الوجوب مسلم من جهة المستعير إذا وجد من يعيره، وأما على المالك فلا. وقال الحنابلة: تجب إعارة المصحف لمحتاج لقراءة فيه ولم يجد غيره، وهذا إذا لم يكن مالكه محتاجاً إليه. وفي الآداب الشرعية: إن طلب أحد المصحف ليقرأ فيه لم يجب بذله، وقيل: يجب، وقيل: عند الحاجة إليه. وأفتى أبو عبد الله الزّبيديّ بوجوب إعارة كتب الحديث إذا كتب صاحبها اسم من سمعه ليكتب نسخة السماع، وقال الزركشيّ: والقياس أنّ العارية لا تجب عيناً، بل هي أو النقل إذا كان الناقل ثقةً. وخرج أبو عقيل من الحنابلة وجوب إعارة الكتب للمحتاج إليها من القضاة والحكام وأهل الفتوى. وقال ابن الجوزيّ: ينبغي لمن ملك كتاباً أن لا يبخل بإعارته لمن هو أهل له.
27 - قال الحنفية: من استعار كتاباً فوجد به خطأً أصلحه إن علم رضا صاحبه، وإن علم أنّ صاحب الكتاب يكره إصلاحه ينبغي أن لا يصلحه، وإلا فإن أصلحه جاز، ولو لم يفعله لا إثم عليه إلا في القرآن ; لأنّ إصلاحه واجب بخطّ مناسب. وقال الشافعية: لو استعار كتاباً ليقرأ فيه فوجد فيه خطأً لا يصلحه، إلا أن يكون قرآناً فيجب كما قاله العباديّ، وتقييده بالإصلاح يعلم أنّ ذلك لو كان يؤدّي إلى نقص قيمته لرداءة خطّ ونحوه امتنع ; لأنّه إفساد لماليته لا إصلاح. قال الجمل: وينبغي أن يدفعه لمن يصلحه حيث كان خطّه مناسباً للمصحف، وغلب على ظنّه إجابة المدفوع إليه، ولم تلحقه مشقة في سؤاله. أما الكتاب الموقوف فيصلح جزماً، خصوصاً ما كان خطأً محضاً لا يحتمل التأويل، وهذا إذا تحقق ذلك دون ما ظنّه، ومتى تردد في عين لفظ أو في الحكم لا يصلح شيئاً وما اعتيد من كتابة (لعله كذا) إنّما يجوز في ملك الكاتب. ولا يكتب حواشي بهامش الكتاب وإن احتيج إليها، لما فيها من تغيير الكتاب من أصله، ولا نظر لزيادة القيمة بفعله.
28 - ذهب الحنفية والمالكية إلى عدم جواز إجارة الكتب، سواء أكانت كتب فقه أم أدب أم شعر أم غناء، قال ابن عابدين: ; لأنّ القراءة إن كانت طاعةً كالقرآن، أو كانت معصيةً كالغناء، فالإجارة عليها لا تجوز، وإن كانت مباحةً كالأدب والشّعر، فهذا مباح له قبل الإجارة فلا تجوز، ولو انعقدت تنعقد على الحمل وتقليب الأوراق، والإجارة عليه لا تنعقد ولو نص عليه ; لأنّه لا فائدة فيه للمستأجر. وعند الحنابلة يجوز إجارة الكتب، قال البهوتيّ: يجوز استئجار كتاب حديث أو فقه أو شعر مباح أو لغة أو صرف أو نحوه لنظر أو قراءة أو نقل أو به خطّ حسن يكتب عليه ويتمثل منه ; لأنّه لا تجوز إعارته لذلك فجازت إجارته. 29 - وأجاز المالكية وهو وجه عند الحنابلة إجارة المصحف ; لأنّه انتفاع مباح تجوز الإعارة من أجله فجازت فيه الإجارة كسائر الكتب. ولا تجوز إجارته عند الحنفية وفي وجه عند الحنابلة، قال الحنفية: ; لأنّ القراءة فيه طاعة والإجارة على الطاعة لا تجوز. وقال ابن قدامة: علة ذلك إجلال كلام الله وكتابه عن المعاوضة به وابتذاله بالأجر في الإجارة.
30 - ذهب الحنفية والمالكية إلى أنّ المحجور عليه لفلس يباع ماله ولو كتباً، ولو احتاج لها، ولو فقهاً ; لأنّ شأن العلم أن يحفظ. وفي قول عند المالكية: إنّ الكتب لا تباع أصلاً، قال الدّسوقيّ: واعلم أنّ الخلاف هو في الكتب الشرعية كالفقه والتفسير والحديث وآلة ذلك، أما غيرها فلا خلاف في وجوب بيعها. وما ذهب إليه الحنفية والمالكية هو ما يستفاد من كلام الحنابلة، فقد جاء في المغني عند الكلام على بيع متاع المفلس قال: ويستحبّ بيع كلّ شيء في سوقه: البزّ في البزازين، والكتب في سوقها. وذهب العباديّ وغيره من الشافعية إلى أنّه يترك للعالم كتبه، فلا تباع لسداد الدين. وقالوا: يشترى للمفلس ما يحتاج إليه. وقالوا أيضاً: يباع المصحف مطلقاً ; لأنّه تسهل مراجعة حفظته، ومنه يؤخذ أنّه لو كان بمحلّ لا حافظ فيه ترك له.
31 - الأصل في النظر في كتاب الغير حديث النبيّ صلى الله عليه وسلم: «من نظر في كتاب أخيه بغير إذنه فإنّما ينظر في النار». قال ابن الأثير في النّهاية: هذا محمول على الكتاب الذي فيه سرّ وأمانة يكره صاحبه أن يطلع عليه، قال: وقيل: هو عامّ في كلّ كتاب. وقال المروزيّ: قلت لأبي عبد الله: رجل سقطت منه ورقة فيها أحاديث فوائد فأخذتها، ترى أن أنسخها وأسمعها؟ قال: لا، إلا بإذن صاحبها. وقال ابن حجر العسقلانيّ: الأثر الوارد في النهي عن النظر في كتاب الغير يخصّ منه ما يتعين طريقًا إلى دفع مفسدة هي أكثر من مفسدة النظر. ومما يدخل في مسألة النظر في كتاب الغير: النظر في الكتاب المرهون، هل يجوز للمرتهن النظر فيه أم لا؟. نقل الطحطاويّ عن الولوالجية: أنّه لو رهن مصحفاً وأمره بالقراءة فيه، فإن قرأ فيه صار عاريةً وبطل الرهن، حتى لو هلك في تلك الحالة لم يهلك بالدين، فإن فرغ منه صار رهناً، ولو هلك يهلك بالدين. وفي المدونة: قلت: أرأيت المصحف أيجوز أن يرتهن في قول مالك؟ قال: نعم ولا يقرأ فيه، قلت: فإن لم يكن في أصل الرهن شرط أن يقرأ فيه، فتوسع له ربّ المصحف أن يقرأ فيه بعد ذلك، قال مالك: لا يعجبني ذلك. وفي الآداب الشرعية قال أحمد في رواية مهنا في رجل رهن مصحفاً هل يقرأ فيه؟ قال: أكره أن ينتفع من الرهن بشيء، وقال في رواية عبد الله في الرجل يكون عنده مصحف رهن: لا يقرأ إلا بإذنه، وقال في رواية إسحاق بن إبراهيم في الرجل رهن عنده المصحف يستأذنه في القراءة فيه، فإن أذن له قرأ فيه.
32 - ذهب المالكية والشافعية والحنابلة إلى أنّ الكتب المحرمة يجوز إتلافها، قال المالكية: كتب العلم المحرم كالتوراة والإنجيل يجوز إحراقها وإتلافها إذا كانا محرفين. وقال الشافعية يجب إتلاف كتب الكفر والسّحر والتنجيم والشعبذة والفلسفة لتحريم الاشتغال بها. وصرح الحنابلة بأنّه يصحّ شراء كتب الزندقة لإتلافها ; لأنّ في الكتب مالية الورق، وتعود ورقاً منتفعاً به بالمعالجة. وقال الحنفية: الكتب التي لا ينتفع بها يمحى عنها اسم الله وملائكته ورسله ويحرق الباقي، ولا بأس بأن تلقى في ماء جار كما هي، أو تدفن وهو أحسن كما في الأنبياء، وكذا جميع الكتب إذا بليت وخرجت عن الانتفاع بها، قال ابن عابدين: وفي الذخيرة: المصحف إذا صار خلقاً وتعذرت القراءة منه لا يحرق بالنار، وإليه أشار محمد وبه نأخذ، ولا يكره دفنه، وينبغي أن يلف بخرقة طاهرة ويلحد له ; لأنّه لو شق ودفن يحتاج إلى إهالة التّراب عليه وفي ذلك نوع تحقير، إلا إذا جعل فوقه سقف، وإن شاء غسله بالماء، أو وضعه في موضع طاهر لا تصل إليه يد محدث ولا غبار ولا قذر، تعظيماً لكلام الله عز وجل.
33 - يجوز عند المالكية والشافعية والحنابلة وقف الكتب النافعة ; لأنّها في حكم الخيل تحبس للغزو عليها، والسّلاح للقتال به. واختلف فقهاء الحنفية بناء على اختلافهم في وقف المنقول. قال الكاسانيّ: لا يجوز وقف الكتب على أصل أبي حنيفة ; " لأنّه لا يجيز وقف المنقول " وأما على قولهما - أي أبي يوسف ومحمد - فقد اختلف المشايخ فيه، وحكي عن نصر بن يحيى أنّه وقف كتبه على الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة. وفي الهداية وشروحها: كان محمد بن سلمة لا يجيزه، ونصر بن يحيى يجيزه، ووقف كتبه إلحاقاً لها بالمصاحف، وهذا صحيح ; لأنّ كل واحد يمسك للدّين تعليماً وتعلّماً وقراءةً، والفقيه أبو جعفر يجيزه وبه نأخذ، وفي العناية عن فتاوى قاضي خان: اختلف المشايخ في وقف الكتب، وجوزه الفقيه أبو الليث وعليه الفتوى. ونص الحنابلة والشافعية على أنّه لا يصحّ الوقف على كتب التوراة والإنجيل ; لأنّها معصية لكونها منسوخةً مبدلةً، ولذلك غضب النبيّ صلى الله عليه وسلم حين رأى مع عمر صحيفةً فيها شيء من التوراة وقال: «ألم آت بها بيضاء نقيةً؟». قال الحنابلة: ويلحق في ذلك كتب الخوارج والقدرية ونحوهما.
34 - ذهب المالكية والشافعية والحنابلة وأبو يوسف من الحنفية إلى إقامة الحدّ على من سرق كتباً نافعةً، كالتفسير والحديث والفقه وغيرها من العلوم النافعة إذا بلغت قيمة المسروق نصاباً. وأضاف الشّربينيّ الخطيب من الشافعية: أنّه لو سرق شخص المصحف الموقوف على القراءة لم يقطع إذا كان قارئًا ; لأنّ له فيه حقّاً، وكذا إن كان غير قارئ ; لأنّه ربما تعلم منه، قال الزركشيّ: أو يدفعه إلى من يقرأ فيه لاستماع الحاضرين. وذهب الحنفية والحنابلة إلى أنّه لا يقام الحدّ على من يسرق المصحف، وقال الحنفية ولا على من يسرق كتب التفسير والحديث والفقه وغيرها من العلوم النافعة ; لأنّ آخذها يتأول في أخذه القراءة والتعلّم. وينظر تفصيل ذلك في مصطلح (سرقة ف / 28 - 31).
كِتابة انظر: توثيق، مكاتبة.
انظر: أهل الكتاب.
انظر: أهل الكتاب.
|