الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****
1 - الوقت: مقدار من الزّمان مقدّر لأمرٍ ما، وكلّ شيءٍ قدّرت له حيناً فقد وقّته توقيتاً. وأوقات الصّلاة هي: الأزمنة الّتي حدّدها الشّارع لفعل الصّلاة أداءً، فالوقت سبب وجوب الصّلاة، فلا تصحّ قبل دخوله، وتكون (قضاءً) بعد خروجه.
2 - تنقسم الصّلوات الّتي لها وقت معيّن إلى ثلاثة أقسامٍ عند الحنفيّة: القسم الأوّل: صلوات مفروضة، وهي الصّلوات الخمس. القسم الثّاني: صلوات واجبة، وهي الوتر والعيدان. القسم الثّالث: صلوات مسنونة، كالسّنن القبليّة والبعديّة للصّلوات الخمس. والجمهور لا يفرّقون بين الفرض والواجب، والوتر عندهم سنّة، وكذلك العيدان عند المالكيّة والشّافعيّة، وهي فرض كفايةٍ عند الحنابلة.
أصل مشروعيّة هذه الأوقات: 3 - أصل مشروعيّة هذه الأوقات عرف بالكتاب، قال تعالى: {فَسُبْحَانَ اللّهِ حينَ تُمْسُونَ وحين تُصْبِحُون وله الحمدُ في السّمواتِ والأرضِ وَعَشِيّاً وحين تُظْهرون} قال بعض المفسّرين: إنّ المراد بالتّسبيح الصّلاة، أي: صلّوا حين تمسون، أي حين تدخلون في وقت المساء، والمراد به المغرب والعشاء. و {حين تصبحون} المراد به صلاة الصّبح. والمراد بقوله تعالى: {وعشيّاً} صلاة العصر، وبقوله تعالى: {وحين تظهرون} صلاة الظّهر. وكذلك قوله تعالى: {أَقِمِ الصّلاةَ لِدُلوكِ الشَّمْسِ إلى غَسَقِ اللّيل وَقُرْآنَ الفجرِ إنّ قُرْآنَ الفجرِ كان مَشْهوداً}. وقد بيّنت السّنّة الشّريفة أوقات الصّلاة كحديث إمامة جبريل للنّبيّ صلى الله عليه وسلم ونصّه: «أَمَّني جبريلُ عند البيت مرّتين، فصلّى الظّهرَ في الأولى منهما حين كان الفيءُ مثلُ الشّراك، ثمّ صلّى العصرَ حين كان كلّ شيءٍ مثل ظلّه، ثمّ صلّى المغرب حين وجبت الشّمس وأفطر الصّائم، ثمّ صلّى العشاء حين غابَ الشّفقُ، ثمّ صلّى الفجر حين بَرَقَ الفجرُ وحَرُمَ الطّعامُ على الصّائم، وصلّى المرّةَ الثّانيةَ الظّهرَ حين كان ظلّ كلّ شيءٍ مثله لوقت العصرَ بالأمس، ثمّ صلّى العصر حين كان ظلّ كلّ شيءٍ مِثْلَيه، ثمّ صلّى المغرب لوقته الأوّل، ثمّ صلّى العشاءَ الآخرةَ حين ذهبَ ثلثُ اللّيل، ثمّ صلّى الصّبح حين سَفَرَت الأرض، ثمّ التفت إليّ جبريل وقال: يا محمّدُ هذا وقتُ الأنبياءِ من قبلك، والوقتُ فيما بين هذين الوقتين»
4 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ عدد أوقات الصّلوات المفروضة خمسٌ بقَدْرِ عدد الصّلوات، وما روي عن أبي حنيفة من أنّ الوتر فرض فيكون عدد الأوقات ستّاً ليس صحيحاً، بل إنّه يقول: إنّ الوتر واجب، وهو أقلّ رتبةً من الفرض.
5 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ مبدأ وقت الصّبح طلوع الفجر الصّادق ويسمّى الفجر الثّاني، وسمّي صادقاً، لأنّه بيّن وجه الصّبح ووضّحه، وعلامته بياض ينتشر في الأفق عرضاً. أمّا الفجر الكاذب، ويسمّى الفجر الأوّل، فلا يتعلّق به حكم، ولا يدخل به وقت الصّبح، وعلامته بياض يظهر طولاً يطلع وسط السّماء ثمّ ينمحي بعد ذلك. والفرق بين الفجرين مقدّر بثلاث درجاتٍ. والدّليل على ذلك حديث إمامة جبريل للنّبيّ صلى الله عليه وسلم. حيث قال: «ثمّ صلّى الفجر حين برق الفجر وحرم الطّعام على الصّائم، وصلّى المرّة الثّانية الصّبح حين أسفرت الأرض، ثمّ التفت إليّ فقال: يا محمّد هذا وقت الأنبياء من قبلك، والوقت فيما بين هذه الوقتين» 6 - أمّا نهاية وقت الصّبح، فعند أبي حنيفة وأصحابه: قبيل طلوع الشّمس، وذهب مالك في أحد الأقوال عنه إلى أنّ الوقت الاختياريّ للصّبح إلى الإسفار، وبعد الإسفار إلى طلوع الشّمس وقت ضرورةٍ لأصحاب الأعذار، كالحائض تطهر بعد الإسفار، ومثل ذلك النّفساء، والنّائم يستيقظ، والمريض يبرأ من مرضه، جاز لهؤلاء الصّلاة في هذا الوقت من غير كراهيةٍ، وفي قولٍ آخر عن مالكٍ أنّ الصّبح كلّ وقته اختياريّ. وذهب الشّافعيّة إلى أنّ الصّبح له أربعة أوقاتٍ: وقت فضيلةٍ وهو أوّله، ووقت اختيارٍ إلى الإسفار، وجوازٍ بلا كراهةٍ إلى الحمرة، وكراهة بعد الحمرة، والمراد بوقت الفضيلة ما فيه ثواب أكثر من وقت الاختيار، والمراد بوقت الجواز بلا كراهةٍ ما لا ثواب فيه. وذهب أحمد بن حنبلٍ إلى أنّ آخر وقتها الاختياريّ الإسفار. وبعد الإسفار وقت عذرٍ وضرورةٍ حتّى تطلع الشّمس، فمن نام عن صلاة الصّبح ولم يستيقظ إلاّ بعد الإسفار، جاز له أن يصلّي الصّبح بلا كراهةٍ. وظاهره أنّه إذا استيقظ عند طلوع الفجر، وأخّر صلاة الصّبح إلى ما بعد الإسفار بدون عذرٍ، كانت صلاته مكروهةً. 7- ممّا تقدّم يعرف أنّ جمهور الفقهاء على أنّ آخر وقت الصّبح طلوع الشّمس، لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «إنّ للصّلاة أوّلاً وآخراً، وإنّ أوّل وقت الفجر حين يطلع الفجرُ، وآخره حين تطلعُ الشّمسُ»
8 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ مبدأه من زوال الشّمس عن وسط السّماء تجاه الغرب، ولا يصحّ أداؤها قبل الزّوال. ويعرف الزّوال بأن تغرز خشبةً مستويةً في أرضٍ مستويةٍ، والشّمس لا زالت في المشرق، فما دام ظلّ الخشبة ينتقص، فالشّمس قبل الزّوال، فإذا لم يكن للخشبة ظلّ، أو تمّ نقص الظّلّ، بأن كان الظّلّ أقلّ ما يكون، فالشّمس في وسط السّماء، وهو الوقت الّذي تحظر فيه الصّلاة، فإذا انتقل الظّلّ من المغرب إلى المشرق، وبدأ في الزّيادة، فقد زالت الشّمس من وسط السّماء ودخل وقت الظّهر. والدّليل على أنّ أوّل وقت الظّهر الزّوال، حديث إمامة جبريل المتقدّم. وأمّا نهاية وقت الظّهر فجمهور الفقهاء، ومعهم الصّاحبان، إلى أنّ آخر وقت الظّهر بلوغ ظلّ الشّيء مثله سوى فيء الزّوال، لحديث إمامة جبريل المتقدّم وفيه: «أنّه صلّى به الظّهر في اليوم الثّاني حين صار ظلّ كلّ شيءٍ مثله». وأمّا عند أبي حنيفة: حين يبلغ ظلّ الشّيء مثليه سوى فيء الزّوال: والمراد بفيء الزّوال: الظّلّ الحاصل للأشياء حين تزول الشّمس عن وسط السّماء، وسمّي فيئاً، لأنّ الظّلّ رجع إلى المشرق بعد أن كان في المغرب، ويختلف ظلّ الزّوال طولاً وقصراً وانعداماً باختلاف الأزمنة والأمكنة. وكلّما بعد المكان من خطّ الاستواء كلّما كان فيء الزّوال أطول، وهو في الشّتاء أطول منه في الصّيف. واستدلّ أبو حنيفة على أنّ آخر وقت الظّهر بلوغ ظلّ الشّيء مثليه سوى فيء الزّوال، بما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «إنّما بَقَاؤكم فيما سَلَفَ قَبْلَكُم من الأمم كان بين صلاةِ العصرِ إلى غروبِ الشّمسِ، أوتِيَ أهلُ التّوراة التّوراةَ فعملوا حتّى انتصفَ النّهارَ عَجَزوا، فأُعْطُوا قيراطاً قيراطاً. ثمّ أُوتيَ أهلُ الإنجيل الإنجيلَ فعَمِلُوا إلى صلاةِ العصرِ ثمّ عَجَزُوا فأعطُوا قِيراطاً قِيراطاً، ثمّ أُوتينا القرآنَ، فعملْنا إلى غُروب الشّمس، فأُعْطِينا قِيراطين قيراطين، فقال أهل الكتابين: أَيْ ربّنَا أعطيتَ هؤلاءِ قيراطين قيراطين، وأُعطَيتنا قيراطاً قيراطاً، ونحن كنّا أكثر عملاً، قال: قال اللّه عزّ وجلّ: هل ظَلَمْتُكم من أجْرِكم من شيءٍ، قالوا: لا. قال: فهو فضلي أوتيه من أشاء» دلّ الحديث على أنّ مدّة العصر أقلّ من مدّة الظّهر ولا يكون ذلك إلاّ إذا كان آخر وقت الظّهر المثلين. واستدلّ لأبي حنيفة كذلك بحديث أبي سعيدٍ قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «أبردوا بالظّهر، فإنّ شدّة الحرّ من فيح جهنّم» والإبراد لا يحصل إلاّ إذا كان ظلّ كلّ شيءٍ مثليه، لا سيّما في البلاد الحارّة كالحجاز. والمشهور في مذهب الشّافعيّ أنّ الظّهر له وقت فضيلةٍ وهو أوّله، ووقت اختيارٍ إلى آخره، ووقت عذرٍ لمن يجمع بين الظّهر والعصر جمع تأخيرٍ، فيصلّي الظّهر في وقت العصر عند الجمع. وذهب مالك إلى أنّ الوقت الاختياريّ للظّهر إلى بلوغ ظلّ كلّ شيءٍ مثله، ووقته الضّروريّ حين الجمع بين الظّهر والعصر جمع تأخيرٍ، فيصلّي الظّهر بعد بلوغ الظّلّ مثله، إلى ما قبل غروب الشّمس بوقتٍ لا يسع إلاّ صلاة العصر.
9 - أمّا مبدأ وقت العصر فهو عند الصّاحبين وجمهور الفقهاء من حين الزّيادة على المثل، وعند أبي حنيفة من حين الزّيادة على المثلين وذهب أكثر المالكيّة إلى تداخل وقتي الظّهر والعصر، فلو أنّ شخصاً صلّى الظّهر عند صيرورة ظلّ كلّ شيءٍ مثله، وآخر صلّى العصر في هذا الوقت كانت صلاتهما أداءً، وخالف في هذا ابن حبيبٍ وابن العربيّ. استدلّ أبو حنيفة بمفهوم الحديث الّذي تقدّم، وهو قوله صلى الله عليه وسلم «إنّ مَثَلَكم ومثل من قبلكم من الأمم...»، وقال أبو حنيفة: إذا كان مفهوم الحديث أنّ مدّة العصر أقلّ من مدّة الظّهر، فواجب أن يكون أوّل وقت العصر بعد الزّيادة على المثلين. واستدلّ الجمهور بحديث إمامة جبريل المتقدّم، وفيه «أنّه صلّى بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم العصر حين صار ظلّ كلّ شيءٍ مثله»، أي بعد الزّيادة على المثل، وإنّما قالوا ذلك دفعاً للتّعارض في الحديث، لأنّ ظاهر الحديث يدلّ على أنّه صلّى به العصر حين صار ظلّ كلّ شيءٍ مثله في اليوم الأوّل، وهو يتعارض مع صلاته الظّهر في اليوم الثّاني حين صار ظلّ كلّ شيءٍ مثله، الأمر الّذي يدلّ على تداخل وقتي الظّهر والعصر، فدفعاً لهذا التّعارض قالوا: إنّه صلّى به العصر حين صار ظلّ كلّ شيءٍ مثله، أي بعد الزّيادة على المثل. واستدلّ المالكيّة بظاهر حديث إمامة جبريل، وفيه: «أنّه صلّى به العصر في اليوم الأوّل في الوقت الّذي صلّى به الظّهر في اليوم الثّاني»، الأمر الّذي يدلّ على تداخل الوقتين. 10 - أمّا نهاية وقت العصر عند أبي حنيفة فما لم تغب الشّمس، وهو مذهب الحنابلة، لقوله صلى الله عليه وسلم: «من أدرك ركعةً من العصر قبل أن تغرب الشّمس فقد أدرك العصر» ويضيف الحنابلة: أنّ وقت الاختيار ينتهي بمبدأ اصفرار الشّمس، وفي روايةٍ: حين يصير ظلّ كلّ شيءٍ مثليه. وذهب المالكيّة في إحدى الرّوايات عنهم إلى أنّ آخر وقتها ما لم تصفرّ الشّمس، لحديث: «إذا صلّيتم العصر فإنّه وقتٌ إلى أن تَصْفَرَّ الشّمس». وذهب الشّافعيّة إلى أنّ العصر له سبعة أوقاتٍ، فضيلة: أوّله، ووقت اختيارٍ: إلى المثلين، ووقت عذرٍ - لمن يجمع بين الظّهر والعصر جمع تأخيرٍ - فيجوز له أن يصلّي الظّهر والعصر في وقت العصر، ووقت ضرورةٍ كالحائض والنّفساء تطهران في آخر الوقت، والمريض يبرأ في آخر الوقت أيضاً، ووقت جوازٍ بلا كراهةٍ وهو بعد المثلين، ووقت كراهةٍ حرمةٍ، وهو ما قبل آخر الوقت بوقتٍ لا يسع جميعها.
11 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ مبدأ وقت المغرب من غروب الشّمس، لحديث إمامة جبريل المتقدّم، وفيه: «أنّه صلّى به المغرب حين غربت الشّمس في اليومين جميعهما». أمّا آخر وقتها فعند الحنفيّة حين يغيب الشّفق، وهو مذهب الحنابلة والشّافعيّ في القديم، لقوله صلى الله عليه وسلم: «وقت صلاة المغرب ما لم يغب الشّفق». والقول المشهور عند المالكيّة أنّه لا امتداد له، بل يقدّر بقدر ثلاث ركعاتٍ بعد تحصيل شروطها من مكاره حدثٍ وخبثٍ وستر عورةٍ. ولحديث إمامة جبريل المتقدّم، وفيه: «أنّه صلّى المغرب بعد غروب الشّمس في اليومين جميعاً». ومذهب الشّافعيّ في الجديد: ينقضي وقتها بمضيّ قدر وضوءٍ وستر عورةٍ وأذانٍ وإقامةٍ وخمس ركعاتٍ، وهي ثلاث ركعاتٍ المغرب وركعتان سنّة بعدها.
12 - يبدأ وقت العشاء حين يغيب الشّفق بلا خلافٍ بين أبي حنيفة وصاحبيه، إلاّ أنّهم اختلفوا في معنى الشّفق، فذهب أبو حنيفة إلى أنّ الشّفق هو البياض الّذي يظهر في جوّ السّماء بعد ذهاب الحمرة الّتي تعقب غروب الشّمس، وذهب الصّاحبان إلى أنّ الشّفق هو الحمرة، وهو مذهب جمهور الفقهاء، والفرق بين الشّفقين يقدّر بثلاث درجاتٍ، وهي تعدل اثنتي عشرة دقيقةً. وذهب الشّافعيّة إلى أنّ للعشاء سبعة أوقاتٍ: وقت فضيلةٍ وهو أوّله، واختيار إلى آخر ثلث اللّيل الأوّل، وقيل إلى نصف اللّيل لحديث: «لولا أن أَشُقّ على أمّتي لأَخّرتُ صلاةَ العشاء إلى نِصْفِ اللّيل» وجواز بلا كراهةٍ للفجر الأوّل، وبكراهةٍ إلى الفجر الثّاني، ووقت حرمةٍ وضرورةٍ وعذرٍ. استدلّ أبو حنيفة على أنّ الشّفق هو البياض، بما روي عن أبي هريرة في حديث: «إنّ آخر وقت المغرب حين يسودّ الأفق» وإنّما يسودّ إذا خفيت الشّمس في الظّلام، وهو وقت مغيب الشّفق الأبيض. واستدلّ الجمهور على أنّ الشّفق هو الحمرة بما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «أنّه كان يصلّي العشاء عند مغيب القمر في اللّيلة الثّالثة» وهو وقت مغيب الشّفق الأحمر. 13 - أمّا نهاية وقت العشاء، فحين يطلع الفجر الصّادق بلا خلافٍ بين أبي حنيفة وأصحابه، وهو مذهب الشّافعيّة، وغير المشهور عند المالكيّة، لما روي عن أبي هريرة «أوّل وقت العشاء حين يغيب الشّفق، وآخره حين يطلع الفجر» والمشهور في مذهب المالكيّة أنّ آخر وقتها ثلث اللّيل، لحديث إمامة جبريل المتقدّم، وفيه: «أنّه صلّاهما في اليوم الثّاني في ثلث اللّيل». وذهب الحنابلة إلى أنّ آخر وقتها الاختياريّ ثلث اللّيل، وبعده إلى طلوع الفجر وقت ضرورةٍ، بأن يكون مريضاً شفي من مرضه، أو حائضاً أو نفساء طهرتا.
وبيان وقت الوجوب ووجوب الأداء: 14 - الوقت الموسّع عند الحنفيّة لكلٍّ من الفرائض هو: من أوّل الوقت إلى ألاّ يبقى من الوقت أكثر ممّا يسع تكبيرة الإحرام للصّلاة، فإذا لم يبق من الوقت إلاّ ما يسع تكبيرة الإحرام للصّلاة فهو وقت مضيّق، يحرم التّأخير عنه. وعند زفر: يتضيّق الوقت إذا لم يبق إلاّ ما يتّسع لركعات الصّلاة. أمّا وقت الوجوب فهو من أوّل الوقت إلى ما قبل خروجه بزمنٍ يسع تكبيرة الإحرام أو ثلاث ركعات المغرب مثلاً. وأمّا وقت وجوب الأداء فهو الوقت الباقي الّذي يسع تكبيرة الإحرام أو ثلاث ركعات المغرب. هذا الّذي ذكرناه هو مذهب الحنفيّة، ومنه يتبيّن أنّ وجوب الأداء يتعلّق بآخر الوقت، وقبل آخر الوقت يكون المكلّف مخيّراً بين أداء الصّلاة في أيّ جزءٍ من أجزاء الوقت وبين عدم أدائها. وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ وجوب الأداء يتعلّق بأيّ جزءٍ من أجزاء الوقت ولا يتعلّق بآخر الوقت. ويظهر أثر الخلاف في مقيمٍ سافر في آخر وقت الظّهر، فعند الحنفيّة حين يقضي الظّهر يقضيه ركعتين، لأنّ وجوب الأداء يتعلّق بآخر الوقت، وهو في آخر الوقت كان مسافراً، فيقضي صلاة المسافرين. وعند غير الحنفيّة يقضي الظّهر أربعاً، لأنّ وجوب الأداء يتعلّق بالجزء الأوّل من الوقت وما بعده، وهو في الجزء الأوّل من الوقت كان مقيماً فوجب عليه قضاء صلاة المقيمين. ومثل ذلك عند الحنفيّة إذا حاضت المرأة أو نفست في آخر الوقت أو جنّ العاقل أو أغمي عليه في آخر الوقت لا يجب عليهم قضاء هذا الفرض إذا زال المانع، لأنّ وجوب الأداء يتعلّق بآخر الوقت، وهؤلاء جميعاً ليسوا أهلاً للخطاب في آخر الوقت، وحيث لم يجب عليهم الأداء لم يجب عليهم القضاء.
وقت الصّبح المستحبّ: 15 - ذهب الحنفيّة إلى أنّه يستحبّ الإسفار بالفجر أي تأخيره إلى أن ينتشر الضّوء ويتمكّن كلّ من يريد الصّلاة بجماعةٍ في المسجد من أن يسير في الطّريق بدون أن يلحقه ضرر، كأن تزلّ قدمه، أو يقع في حفرةٍ، أو غير ذلك من الأضرار الّتي تنشأ من السّير في الظّلام، والدّليل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «أسفروا بالفجر فإنّه أعظم للأجر». ولأنّ في الإسفار تكثيراً للجماعة، وفي التّغليس أي السّير في الظّلمة تقليلها، فكان أفضل، هذا في حقّ الرّجال، أمّا النّساء فإنّهنّ يصلّين في بيوتهنّ أوّل الوقت، ويستوي في ذلك الشّابّات والعجائز، لا سيّما في هذا الزّمان الّذي ظهر فيه الفساد في البرّ والبحر. وكذلك الحاجّ في مزدلفة فجر يوم النّحر، يصلّي الفجر بغلسٍ في أوّل الوقت، ليتفرّغ لواجب الوقوف الّذي يبدأ بطلوع الفجر الثّاني يوم النّحر وآخره طلوع الشّمس منه، لأنّ الوقوف واجب من واجبات الحجّ. وذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ التّغليس - أي السّير في الظّلام - أفضل، لما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كُنَّ نساءُ المؤمناتِ يَشْهَدن مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم صلاةَ الفجرِ مُتَلَفِّعاتٍ بمروِطِهِنّ، ثمّ يَنْقَلِبْنَ إلى بيوتِهنَّ حين يَقْضِينَ الصّلاةَ لا يَعْرِفهنّ أحدٌ من الغَلَسِ». 16 - أمّا وقت الظّهر المستحبّ، فقد ذهب الحنفيّة، وهو مذهب الحنابلة إلى الإبراد بظهر الصّيف، والتّعجيل بظهر الشّتاء، إلاّ في يوم غيمٍ فيؤخّر. ومعنى الإبراد بالظّهر تأخيره إلى أن تخفّ حدّة الحرّ، ويتمكّن الذّاهبون إلى المسجد من السّير في ظلال الجدران، وإنّما كان التّأخير أفضل لقوله صلى الله عليه وسلم «أَبْرِدُوا بالظّهرِ فإنّ شدّة الحرِّ من فيحِ جهنّم» ولأنّ في التّأخير تكثير الجماعة، وفي التّعجيل تقليلها فكان أفضل. أمّا ظهر الشّتاء فيستحبّ تعجيله، لأنّ الصّلاة في أوّل وقتها رضوان اللّه، ولا مانع من التّعجيل، لأنّ المانع من التّعجيل في ظهر الصّيف لحوق الضّرر بالمصلّين، الأمر الّذي يؤدّي إلى تقليل الجماعة، وهذا المانع غير موجودٍ في ظهر الشّتاء، فكان التّعجيل أفضل. أمّا في يوم الغيم فيؤخّر، مخافة أن يصلّي الظّهر قبل دخول وقته. وذهبت المالكيّة إلى أنّ التّعجيل أفضل صيفاً وشتاءً إلاّ لمن ينتظر جماعةً، فيندب التّأخير بربع القامة، أمّا في شدّة الحرّ فيندب التّأخير حتّى يبلغ الظّلّ نصف قامةٍ. والمراد بربع القامة أو نصفها - اللّذين يندب التّأخير إليها عند المالكيّة - ربع المثل أو نصفه. وذهب الشّافعيّة إلى أنّه إن كان يصلّي وحده يعجّل، وإن كان يصلّي بجماعةٍ يؤخّر حتّى يكون للحيطان ظلّ يمشي فيه طالب الجماعة، بشرط أن يكون في بلدٍ حارٍّ كالحجاز. 17 - أمّا وقت العصر المستحبّ: فعند الحنفيّة يستحبّ تأخيرها ما لم تتغيّر الشّمس، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يؤخّر العصر ما دامت الشّمس بيضاء نقيّةً وليتمكّن من التّنفّل قبلها، لأنّ التّنفّل بعدها مكروه. وذهب جمهور الفقهاء إلى استحباب تعجيلها، لقوله صلى الله عليه وسلم: «الوقتُ الأوّلُ من الصّلاةِ رضوان اللّه، والوقتُ الآخرُ عَفْو اللّه» 18 - أمّا وقت المغرب المستحبّ: فلا نعلم خلافاً بين الفقهاء في استحباب تعجيلها، لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تزال أمّتي بخيرٍ - أو قال على الفطرة - ما لم يؤخّروا المغرب إلى أن تشتبك النّجوم» ويستحبّ تأخيرها في يوم الغيم مخافة أن تصلّى قبل دخول وقتها. 19 - أمّا وقت العشاء المستحبّ: فعند الحنفيّة يستحبّ تأخير العشاء إلى ما قبل ثلث اللّيل، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «لولا أن أشقّ على أمّتي لأخّرت العشاء إلى ثلث اللّيل أو نصفه»، والتّأخير إلى النّصف مباح، وبعد النّصف مكروه كراهةً تحريميّةً. والمكروه تحريماً عند الحنفيّة ما يعاقب على فعله عقاباً أقلّ من عقاب تارك الفرض، أعني أنّه يكون بترك واجبٍ عمداً. ويستحبّ تعجيلها في يوم الغيم مظنّة المطر أو البرد، لأنّهما يؤدّيان إلى تقليل الجماعة. وذهب الحنابلة إلى أنّه يستحبّ تأخيرها إلى آخر الوقت إن لم يشقّ على المصلّين، لحديث: «لولا أن أشقّ على أمّتي...» الّذي تقدّم ذكره قريباً. أمّا أوقات الاستحباب عند المالكيّة والشّافعيّة فقد تقدّمت.
20 - الصّلوات الواجبة - غير الفرض - الّتي لها وقت معيّن، هي: الوتر عند أبي حنيفة والعيدان. أ - أمّا الوتر: فقد ذهب أبو حنيفة إلى أنّ مبدأ وقت الوتر هو بعينه مبدأ وقت العشاء، وهو مغيب الشّفق الأبيض، إلاّ أنّه لا يصلّى الوتر قبل العشاء للتّرتيب اللّازم بينهما. وذهب الصّاحبان إلى أنّ مبدأ وقته بعد صلاة العشاء، وهو مذهب جمهور الفقهاء. استدلّ أبو حنيفة بدليلٍ معقولٍ، وهو أنّه لو لم يصلّ العشاء حتّى طلوع الفجر، لزمه قضاء الوتر والعشاء باتّفاقٍ، ولو كان وقته بعد صلاة العشاء لم يلزمه قضاء الوتر لأن لم يتحقّق وقته، لأنّ وقته بعد صلاة العشاء، وهو لم يصلّها، ويستحيل أن تنشغل ذمّته بصلاة الوتر بدون فعل العشاء، فدلّ ذلك على أنّ وقته هو وقت العشاء. واستدلّ الجمهور بقوله صلى الله عليه وسلم: «إنّ اللّه زادكم صلاةً، فصلّوها فيما بين العشاء إلى صلاة الصّبح: الوتر، الوتر» وكلمة (بين) في الحديث تدلّ على أنّ الوتر بعد العشاء. والخلاف بين الجمهور وبين أبي حنيفة حقيقيّ، يظهر أثره في حال ما إذا صلّى العشاء بغير وضوءٍ ناسياً، ثمّ توضّأ وصلّى الوتر، ثمّ تذكّر أنّه صلّى العشاء بغير وضوءٍ، فعند أبي حنيفة يعيد العشاء دون الوتر، لأنّه صلّى العشاء بغير وضوءٍ، أمّا الوتر فلا يعيده، لأنّه صلّاه في وقته بوضوءٍ، وعند الجمهور يعيد الوتر والعشاء. أمّا الوتر فلأنّه صلّاه في غير وقته، وأمّا العشاء فلأنّه صلّاها بغير وضوءٍ. أمّا نهاية وقت الوتر فهو طلوع الفجر الصّادق لا نعلم خلافاً في ذلك، لحديث: «إنّ اللّه زادكم صلاةً...» الّذي تقدّم ذكره. ب - أمّا العيدان فوقتهما بعد طلوع الشّمس وارتفاعها قدر رمحٍ أو رمحين، ويختلف وقتهما باختلاف الأمكنة. وأمّا نهاية وقتهما فزوال الشّمس من وسط السّماء، وهذا ممّا لا نعلم فيه خلافاً. 21 - أمّا السّنن الّتي لها وقت معيّن وتسمّى السّنن الرّاتبة المؤكّدة الّتي تطلب كلّ يومٍ، فعند أبي حنيفة وأصحابه: اثنتا عشرة ركعةً في اليوم واللّيلة، وهي ركعتان قبل الفجر، وأربع قبل الظّهر، وركعتان بعده، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وفي يوم الجمعة يصلّي أربع ركعاتٍ قبل الجمعة، وأربعاً بعدها، فتكون الرّكعات المطلوبة في يوم الجمعة أربع عشرة ركعةً، بخلاف سائر الأيّام، فإنّ المطلوب فيها في كلّ يومٍ اثنتا عشرة ركعةً. والأصل في هذه السّنن ما روي عن عائشة رضي الله عنها من قوله صلى الله عليه وسلم: «من ثابر على اثنتي عشرة ركعةً في اليوم واللّيلة بنى اللّه له بيتاً في الجنّة: ركعتين قبل الفجر، وأربعٍ قبل الظّهر، وركعتين بعده، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء» وأمّا الأربع الّتي بعد الجمعة فدليلها قوله صلى الله عليه وسلم: «من كان منكم مُصَلِّياً بعد الجمعةِ فَلْيُصَلِّ أربعاً». وذهب مالك إلى أنّ المطلوب أن تصلّى ركعتا الفجر. قال: وتأكّد النّفل قبل الظّهر وبعدها، وقبل العصر، وبعد المغرب والعشاء فلا حدّ في الجميع، ويكفي في تحصيل النّدب ركعتان. وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ المسنون من الصّلوات عشر ركعاتٍ: ركعتان قبل الصّبح، وركعتان قبل الظّهر، وركعتان بعده، وركعتان بعد كلٍّ من المغرب والعشاء. لحديث ابن عمر رضي الله عنهما: «حفظت عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عشرَ ركعاتٍ: ركعتين قبل الظّهر، وركعتين بعده، وركعتين بعد المغرب في بيته، وركعتين قبل العشاء في بيته، وركعتين قبل صلاة الصّبح». 22 - أمّا المندوب عند الحنفيّة فأربع قبل العصر وقبل العشاء وبعده، وستّ بعد المغرب. وذهبت الشّافعيّة إلى أنّ غير المؤكّد أن يزيد ركعتين قبل الظّهر وبعدها، ويندب أربع قبل العصر، واثنتان قبل العشاء. ولتفصيله ورأي بقيّة المذاهب ارجع إلى المندوب من الصّلوات في (باب النّوافل).
عدد أوقات الكراهة: 23 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ عددها ثلاثة: عند طلوع الشّمس إلى أن ترتفع بمقدار رمحٍ أو رمحين، وعند استوائها في وسط السّماء حتّى تزول، وعند اصفرارها بحيث لا تتعب العين في رؤيتها إلى أن تغرب. واستثنى الشّافعيّة الصّلاة بمكّة ويوم الجمعة كما يأتي. وإنّما كانت هذه الأوقات أوقات كراهةٍ، لأنّ الشّمس تطلع وتستوي وتصفرّ بين قرني الشّيطان فتكون الصّلاة في هذه الأوقات تشبّهاً بمن يعبدون الشّمس، لأنّهم يعبدونها في هذه الأوقات. يدلّ على ذلك ما أخرجه مالك في الموطّأ والنّسائيّ أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الشّمس تطلع ومعها قرن الشّيطان، فإذا ارتفعت فارَقَها، ثمّ إذا استوت قارنها، فإذا زالت فارقها، فإذا دنت للغروب قارنها، فإذا غربت فارقها، ونهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن الصّلاة في تلك السّاعات». وذهب المالكيّة إلى أنّ عدد أوقات الكراهة اثنان: عند الطّلوع وعند الاصفرار، أمّا وقت الاستواء فلا تكره الصّلاة فيه عندهم، وحجّتهم في ذلك عمل أهل المدينة، فإنّهم كانوا يصلّون في وقت الاستواء، وعمل أهل المدينة حجّة عند مالكٍ، لأنّ المدينة موطن الرّسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والوحي كان ينزل بين ظهرانيهم، فلو صحّ حديث عقبة بن نافعٍ الّذي سنذكره فيما بعد، والّذي يدلّ على النّهي في وقت الاستواء، لعملوا به. وذهبت الشّافعيّة إلى أنّ الأوقات الثّلاثة مكروهة إلاّ في مكّة، وإلاّ يوم الجمعة عند الاستواء. أمّا في مكّة فلقوله صلى الله عليه وسلم «يا بَني عبد منافٍ لا تَمْنَعُوا أحداً طافَ بهذا البيتِ وصلَّى أيّةَ ساعةٍ شاءَ من ليلٍ أو نهارٍ». وأمّا يوم الجمعة عند الاستواء فلأنّ المسلمين كانوا يصلّون في خلافة عمر في وقت الاستواء حتّى يخرج إليهم عمر ليخطب فيهم، ولم ينكر عليهم ذلك. 24 - ولا يعلم خلاف بين الفقهاء في كراهة التّطوّع المطلق في هذه الأوقات. أمّا السّنن، فقد ذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى كراهتها لحديث عقبة بن عامرٍ: «ثلاث ساعاتٍ كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلّي فيهنّ، أو أن نقبر فيهنّ موتانا: حين تطلع الشّمس بازغةً حتّى ترتفع، وحين يقوم قائم الظّهيرة حتّى تميل الشّمس، وحين تضيّف الشّمس للغروب - أي حين تميل - حتّى تغرب». والمراد بقبر الموتى في الحديث صلاة الجنازة، لا الدّفن، فإنّ الدّفن في هذه الأوقات غير مكروهٍ. وعن مالكٍ روايتان: إحداهما إباحة السّنن في هذه الأوقات، إلاّ تحيّة المسجد فإنّها مكروهة عنده، والثّانية: كراهة السّنن مطلقاً في هذه الأوقات. وحجّته على الرّواية الأوّل: أنّه ورد في هذا الموضوع دليلان متعارضان يمكن الجمع بينهما أحدهما: حديث عقبة المارّ ذكره، والّذي يدلّ على كراهة الصّلاة أيّ صلاةٍ كانت في هذه الأوقات. ثانيهما: قوله صلى الله عليه وسلم «إذا رقد أحدكم عن الصّلاة أو غفل فليصلّها إذا ذكرها»، فإنّ هذا الحديث يدلّ على جواز الصّلاة في كلّ وقتٍ عند التّذكّر. وأشار ابن رشدٍ إلى أنّه يمكن الجمع بين الحديثين، بأن نستثني من الصّلوات المنهيّ عنها في حديث عقبة السّنن، ويكون النّهي منصّباً على الفرائض، أمّا السّنن فليست منهيّاً عنها. وحجّة مالكٍ على الرّواية الثّانية، وهي كراهة السّنن في هذه الأوقات: حديث عقبة الّذي يدلّ على كراهة الصّلاة مطلقاً فيها. وأجاز الشّافعيّة صلاة الكسوف وتحيّة المسجد إذا دخل المسجد لا لغرض أن يصلّيها، بأن دخل المسجد لقضاء حاجةٍ، ثمّ صلّى تحيّة المسجد. وأجاز الحنابلة ركعتي الطّواف. 25 - وأمّا حكم صلاة الفرض والواجب في هذه الأوقات، فقد ذهب الحنفيّة إلى أنّه لا يجوز قضاء ما فاته في هذه الأوقات، لحديث عقبة المارّ ذكره، والّذي يدلّ على النّهي عن الصّلاة فيها مطلقاً. ولا تجوز صلاة الجنازة إذا حضرت في غير الوقت المكروه، ثمّ أخّرت الصّلاة عليها بدون عذرٍ إلى الوقت المكروه. ولا تجوز سجدة تلاوةٍ تليت آيتها أو سمعت في غير الوقت المكروه، ثمّ سجد لها التّالي أو السّامع في الوقت المكروه. أمّا إذا حضرت الجنازة في الوقت المكروه، ثمّ صلّى عليها في هذا الوقت، فهي صحيحة مع الكراهة. ومثل ذلك سجدة التّلاوة إذا تليت آيتها في الوقت المكروه، ثمّ سجد لها التّالي أو السّامع في هذا الوقت، فإنّها تصحّ مع الكراهة. ودليل الحنفيّة على عدم صحّة صلاة الجنازة، إذا حضرت الجنازة في الوقت غير المكروه، ثمّ أخّرت الصّلاة عليها إلى الوقت المكروه: حديث عقبة المارّ ذكره. ودليلهم على صحّة صلاة الجنازة وسجدة التّلاوة مع الكراهة: أن ما وجب في وقتٍ ناقصٍ يؤدّي في النّاقص مع الكراهة، وما وجب في كاملٍ لا يؤدّى في النّاقص، ومن أجل ذلك صحّ عصر اليوم مع الكراهة، إذا أدّي في وقت الاصفرار، لأنّه وجب في ناقصٍ فيؤدّى كما وجب، ولم يصحّ عصر أمس إذا أدّاه في وقت الاصفرار، اليوم، لأنّه وجب في كاملٍ فلا يؤدّى في النّاقص. وذهب جمهور الفقهاء إلى جواز قضاء الفائتة في هذه الأوقات الثّلاثة، لحديث: «إذا رقد أحدكم عن الصّلاة أو غفل عنها فليصلّها إذا ذكرها»، دلّ الحديث على جواز قضاء الفائتة في كلّ وقتٍ عند التّذكّر.
26 - وهي عشرة أوقاتٍ، كما ذكرها الشّرنبلاليّ: وأوصلها ابن عابدين إلى نيّفٍ وثلاثين موضعاً، أهمّها: الوقت الأوّل: قبل صلاة الصّبح. 27 - ذهب جمهور الفقهاء إلى كراهية التّنفّل قبل صلاة الصّبح إلاّ بسنّة الفجر. وذهب المالكيّة إلى أنّه يجوز أن يصلّي الوتر إذا كان من عادته أن يصلّيه باللّيل، فلم يصلّه حتّى طلع الفجر. واستدلّ الجمهور على كراهة التّنفّل قبل صلاة الصّبح بقوله صلى الله عليه وسلم «لِيبلّغْ شاهدُكم غائِبَكُمْ، ولا تصلّوا بعد الفجر إلاّ سَجْدتين». أي لا صلاة بعد طلوع الفجر إلاّ ركعتي الفجر. الوقت الثّاني: بعد صلاة الصّبح: 28 - اتّفق الفقهاء على كراهة التّنفّل المطلق (وهو ما لا سبب له) بعد صلاة الصّبح، لما رواه الشّيخان أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا صلاةَ بعد صلاة العصر حتّى تغربَ الشّمسُ، ولا صلاةَ بعد صلاةِ الصّبحِ حتّى تطلع الشّمس». وذهب الشّافعيّة إلى جواز أداء كلّ صلاةٍ لها سبب، كالكسوف والاستسقاء والطّواف، وسواء أكانت فائتةً فرضاً أم نفلاً، «لأنّه صلى الله عليه وسلم صلّى بعد العصر ركعتين وقال: هما اللّتان بعد الظّهر». وذهب الحنابلة إلى جواز الإتيان بسنّة الفجر بعد صلاة الصّبح، إذا نسيها ولم يتذكّرها إلاّ بعد صلاة الصّبح، لما روي عن قيس بن فهدٍ قال: «خرج رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فأقيمت الصّلاة، فصلّيت معه الصّبح، فوجدني أصلّي، فقال: مهلاً يا قيس أصلاتان معاً؟ قلت: يا رسول اللّه إنّي لم أكن ركعت ركعتي الفجر. قال: فلا إذن» ظنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّ الرّجل يصلّي الصّبح بعد أن صلّاه معه، فأنكر عليه، فلمّا علم أنّه يصلّي سنّة الفجر لم ينكر عليه. ولأنّه صلى الله عليه وسلم قضى سنّة الظّهر بعد العصر، وسنّة الفجر في معناها. الوقت الثّالث: بعد صلاة العصر: 29 - ذهبت الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة إلى كراهة التّنفّل المطلق بعد صلاة العصر، لحديث الشّيخين الّذي تقدّم: «لا صلاة بعد صلاة العصر». وذهب الحنابلة إلى جواز قضاء سنّة الظّهر بعد صلاة العصر، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى نافلة الظّهر بعد صلاة العصر. الوقت الرّابع: قبل صلاة المغرب: 30 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى كراهة التّنفّل قبل صلاة المغرب، لقوله صلى الله عليه وسلم: «بين كلّ أذانين صلاة إلاّ المغرب». والمراد بالأذانين: الأذان والإقامة، فبين أذان الصّبح وإقامته سنّة الفجر، وبين أذان الظّهر وإقامته سنّة الظّهر القبليّة، وبين أذان العصر وإقامته أربع ركعاتٍ مندوبةً عند الحنفيّة، وبين أذان العشاء وإقامته أربع ركعاتٍ مندوبةً عند الحنفيّة إلاّ المغرب لقصر وقته. وقال الشّافعيّة: صلاة ركعتين قبل المغرب سنّة على الصّحيح كما قال النّوويّ، للأمر بهما في حديث أبي داود «صلّوا قبل صلاة المغرب ركعتين»، وقال الحنابلة: هما جائزتان، وليستا بسنّةٍ. كما استدلّوا أيضاً بما رواه مسلم عن أنس بن مالكٍ: «كنّا بالمدينة فإذا أذّن المؤذّن لصلاة المغرب ابتدروا السّواري، فيركعون ركعتين ركعتين حتّى إنّ الرّجل الغريب ليدخل المسجد، فيحسب أنّ الصّلاة قد صلّيت من كثرة من يصلّيهما». الوقت الخامس: عند خروج الخطيب حتّى يفرغ من صلاته: 31 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى كراهة التّنفّل عند خروج الخطيب إلى المنبر، لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا قلت لصاحبك أنصت - والإمام يخطب - فقد لغوت». دلّ الحديث على أنّ من يأمر غيره بالإنصات، كان أمره لغواً من الكلام منهيّاً عنه، فإذا كان الأمر بالإنصات - وهو أمر بمعروفٍ - لغواً من الكلام منهيّاً عنه، كان التّنفّل لغواً من الأعمال منهيّاً عنه، أضف إلى ذلك أنّ التّنفّل يفوّت الاستماع إلى الخطيب الّذي هو واجب، فلا يترك الواجب من أجل النّفل. واستثنى الشّافعيّة والحنابلة تحيّة المسجد لمن دخل والإمام يخطب، فأجازوا التّنفّل بركعتين. لحديث جابرٍ قال: «جاء سليك الغطفانيّ في يوم الجمعة ورسول اللّه صلى الله عليه وسلم يخطب فجلس، فقال له: يا سليك قم فاركع ركعتين وتجوّز فيهما». الوقت السّادس: عند الإقامة: 32 - ذهبت الحنفيّة إلى كراهة التّنفّل عند الإقامة للصّلاة المفروضة، إلاّ سنّة الفجر إذا لم يخف فوت الجماعة، أمّا إذا خاف فوتها تركها، وإنّما كره التّنفّل لقوله صلى الله عليه وسلم «إذا أقيمت الصّلاة فلا صلاة إلاّ المكتوبة». واستثنى من الحديث سنّة الفجر لكونها آكد السّنن. وذهب المالكيّة إلى أنّه إذا دخل المسجد فوجد الإمام يصلّي الصّبح، فليدخل معه في صلاته، ويترك سنّة الفجر. وإن كان خارج المسجد: فإن خاف أن يفوته الإمام بركعةٍ ترك سنّة الفجر وقضاها بعد طلوع الشّمس، وإن لم يخف أن يفوته الإمام بركعةٍ أتى بالسّنّة خارج المسجد. والفرق بين كونه خارج المسجد وكونه داخله: أنّه إذا كان داخل المسجد وصلّى سنّة الفجر، والإمام يصلّي الصّبح، كانتا صلاتين معاً في موضعٍ واحدٍ، ويكون مختلفاً مع الإمام، فهو يصلّي نفلاً، والإمام يصلّي فرضاً، وهو منهيّ عنه، لما روي عن أبي سلمة بن عبد الرّحمن قال: «سمع قوم الإقامة، فقاموا يصلّون، فخرج عليهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال: أصلاتان معاً؟ أصلاتان معاً؟» وذلك في صلاة الصّبح في الرّكعتين اللّتين قبل الصّبح. وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه إذا أقيمت الصّلاة فلا يشرع في صلاةٍ نافلةٍ ولو راتبةً، ولو شرع فيها لا تنعقد، ويستوي في ذلك سنّة الفجر وغيرها من السّنن، للحديث السّابق. الوقت السّابع: قبل صلاة العيد وبعدها: 33 - ذهبت الحنفيّة إلى كراهة التّنفّل قبل صلاة العيد في المنزل والمسجد، وبعد الصّلاة يكره التّنفّل في المسجد، ولا يكره في المنزل، لأنّ «النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان لا يصلّي قبل العيد شيئاً، فإذا رجع إلى المنزل صلّى ركعتين». وذهب الحنابلة إلى كراهة التّنفّل قبل صلاة العيد وبعدها. وذهب المالكيّة إلى كراهة التّنفّل قبلها وبعدها في المصلّى في المسجد. ومذهب الشّافعيّة أنّه لا يكره التّنفّل قبلها ولا بعدها بعد ارتفاع الشّمس لغير الإمام. الوقت الثّامن: بين الصّلاتين المجموعتين في كلٍّ من عرفة ومزدلفة: 34 - ذهب الفقهاء إلى كراهة التّنفّل بين الصّلاتين المجموعتين جمع تقديمٍ في عرفة، والمجموعتين جمع تأخيرٍ في مزدلفة، فإذا جمع الإمام بين الظّهر والعصر بعرفة، يصلّي الظّهر والعصر في وقت الظّهر، ويترك سنّة الظّهر البعديّة، ومثل ذلك المغرب والعشاء. فيصلّي المغرب والعشاء في وقت العشاء، ويترك سنّة المغرب البعديّة، لأنّه صلى الله عليه وسلم لم يتطوّع بينهما. قال القرطبيّ: فأمّا الفصل بين الصّلاتين بعملٍ غير الصّلاة، فقد ثبت عن أسامة بن زيدٍ «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا جاء المزدلفة نزل فتوضّأ، فأسبغ الوضوء، ثمّ أقيمت الصّلاة فصلّى المغرب، ثمّ أناخ كلّ إنسانٍ بعيره في منزله، ثمّ أقيمت العشاء فصلّى، ولم يصلّ بينهما». وقال ابن المنذر: لا أعلم خلافاً في أنّ السّنّة ألاّ يتطوّع بين الصّلاتين. الوقت التّاسع: عند ضيق وقت المكتوبة: 35 - لا يعلم خلاف بين الفقهاء في أنّه يحرم التّنفّل عند ضيق وقت المكتوبة، فإذا ضاق وقت الظّهر مثلاً، ولم يبق منه إلاّ ما يسع صلاته، حرم التّنفّل لما في التّنفّل من ترك أداء الصّلاة المفروضة والاشتغال بالنّفل، وصرّح المالكيّة والحنابلة بأنّه لم تنعقد نافلةً - ولو راتبةً - مع ضيق الوقت.
تأخير الصّلاة بلا عذرٍ: 36 - لا يعلم خلاف بين الفقهاء في أنّ تأخير الصّلاة عن وقتها بدون عذرٍ ذنب عظيم، لا يرفع إلاّ بالتّوبة والنّدم على ما فرّط من العبد، وقد سمّى النّبيّ صلى الله عليه وسلم من فعل ذلك بأنّه مفرّط أي مقصّر، حيث قال: «ليس التّفريط في النّوم، إنّما التّفريط في اليقظة». 37 - أمّا تأخيرها بعذر النّسيان، فلا نعلم خلافاً بين الفقهاء أيضاً في أنّ العبد غير مؤاخذٍ على هذا التّأخير لقوله صلى الله عليه وسلم: «رفع عن أمّتي الخطأ والنّسيان وما استكرهوا عليه». 38 - وأمّا تأخيرها بعذر النّوم، فالّذي يفهم من قوله صلى الله عليه وسلم: «ليس في النّوم تفريط، إنّما التّفريط في اليقظة، فإذا نسي أحدكم صلاةً أو نام عنها فليصلّها إذا ذكرها». إنّ النّوم الّذي يترتّب عليه تأخير الصّلاة عن وقتها لا يؤاخذ عليه العبد، ولا يعتبر مفرّطاً، وقد نام النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن صلاة الصّبح في حديث التّعريس عن أبي قتادة قال : «سرنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ليلةً، فقال بعضُ القوم: لو عَرَّسْتَ بنا يا رسول اللّه، قال: أخافُ أن تناموا عن الصّلاةِ، قال بلالٌ: أنا أوقظكم، فاضطجعوا، وأسندَ بلالٌ ظهره إلى راحلته، فغلبته عيناه فنامَ، فاستيقظ النّبيّ صلى الله عليه وسلم وقد طلع حاجب الشّمسِ فقال: يا بلال أينَ ما قلتَ؟ فقال: ما أُلقيتْ عليّ نومة مثلها قطّ، قال: إنّ اللّه قبضَ أرواحَكم حين شاء، وردَّها عليكم حين شاء، يا بلال قم فأذّن النّاس بالصّلاة، فتوضّأ، فلمّا ارتفعت الشّمسُ، وابياضّت، قام فصلّى بالنّاس» غير أنّه يفهم من هذا الحديث أنّه إذا غلب على ظنّه أنّه لو نام تفوته الصّلاة يكلّف أحداً بإيقاظه، وهو ما يفهم من مذهب الحنفيّة والمالكيّة. وقد قال الحنفيّة: إنّه يكره النّوم قبل صلاة العشاء، وهو مذهب مالكٍ والشّافعيّة وأحمد، لحديث «أنّه صلى الله عليه وسلم كان يكره النّوم قبلها والحديث بعدها». وفي قولٍ للشّافعيّة يكره النّوم قبل الصّلاة في جميع الأوقات، والظّاهر عندهم كراهة النّوم بعد دخول الوقت، أمّا قبل دخوله فجائز عندهم. 39 - أمّا تأخير الصّلاة عن وقتها، أو تقديمها بعذر السّفر أو المطر، فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى جواز الجمع بعذر السّفر أو المطر لما رواه الشّيخان عن ابن عمر قال: «رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا عجّل به السّير في السّفر يؤخّر المغرب حتّى يجمع بينها وبين العشاء». وروى الشّيخان عن أنس بن مالكٍ قال: «كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشّمس - أي قبل أن تزول الشّمس عن وسط السّماء - أَخّر الظّهرَ إلى وقتِ العصرِ، ثمّ نزل، فجمع بينهما، فإن زاغت الشّمسُ قبل أن يَرْتَحل صلّى الظّهر ثمّ ركب». دلّ الحديث الأوّل على أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا كان مسافراً، وأسرع في السّير، ليصل إلى غرضه في الوقت المناسب، أخّر المغرب حتّى يجمع بينها وبين العشاء. ودلّ الحديث الثّاني على أنّه صلى الله عليه وسلم إذا ابتدأ السّفر قبل دخول وقت الظّهر، أخّر الظّهر وجمع بينها وبين العصر، وإذا ابتدأ السّفر قبل دخول وقت الظّهر، صلّاها ثمّ سافر، ولم يجمع بينها وبين العصر، ويستدلّ للجمهور أيضاً بالأحاديث الواردة في الجمع بين الصّلاتين للسّفر وغيره. وذهب الحنفيّة إلى أنّه لا يجوز ذلك إلاّ في عرفة ومزدلفة، في اليوم التّاسع من ذي الحجّة، فيجمع الإمام بين الظّهر والعصر جمع تقديمٍ، بأن يصلّي الظّهر والعصر في وقت الظّهر بعرفاتٍ، ويجمع بين المغرب والعشاء جمع تأخيرٍ بمزدلفة فيصلّي المغرب والعشاء في وقت العشاء. واشترط أبو حنيفة لجواز هذا الجمع: أن يكون محرماً بحجٍّ لا عمرةٍ، وأن تكون هذه الصّلاة بجماعةٍ، وأن يكون الإمام في جمع عرفة هو السّلطان أو نائبه. ولم يشترط أبو يوسف ومحمّد - صاحبا أبي حنيفة - أن تكون الصّلاة بجماعةٍ، وأجازوا للمحرم بحجٍّ أن يصلّي صلاة الجمع ولو كان منفرداً، أمّا الجمع في مزدلفة فلا يشترط فيه غير الإحرام والمكان، وهو مزدلفة. 40 - وقد تضمّن مذهب أبي حنيفة وأصحابه في هذه المسألة أمرين: الأوّل: أنّه يجوز الجمع في عرفة ومزدلفة بالشّروط السّابقة. الثّاني: لا يجوز الجمع في غير ذلك بعذر سفرٍ أو مطرٍ. أمّا الأمر الأوّل فدليله: أنّ الّذين رَوَوْا نسك النّبيّ صلى الله عليه وسلم في حجّه، اتّفقوا على أنّه كان يجمع هذا الجمع المذكور. وأمّا الأمر الثّاني - وهو أنّه لا يجوز الجمع في غير عرفة ومزدلفة بعذر سفرٍ أو مطرٍ - فدليله: أنّ الصّلوات المفروضة عرفت مؤقّتةً بأوقاتها بالدّلائل المقطوع بها من الكتاب والسّنّة المتواترة والإجماع، فلا يجوز تغييرها عن أوقاتها بنوعٍ من الاستدلال وخبر الواحد، والسّفر أو المطر لا أثر لهما في تأخير الصّلاة عن وقتها أو تقديمها عن وقتها.
41 - اختلف علماء الحنفيّة فيمن لم يجد بعض الأوقات الخمسة، كسكّان المناطق القطبيّة، فإنّ هذه المناطق تستمرّ في نهارٍ دائمٍ ستّة أشهرٍ، وفي ليلٍ دائمٍ ستّة أشهرٍ أخرى، كما يقول الجغرافيّون، فهل يجب على سكّان هذه المناطق - إن كانوا مسلمين - أن يصلّوا الصّلوات الّتي لم يجدوا وقتاً لها، بأن يقدّروا لكلّ صلاةٍ وقتاً أو تسقط عنهم هذه الصّلوات؟. وكذلك في بعض البلاد القريبة من المناطق القطبيّة، تأتي فيها فترات لا يوجد وقت العشاء، أو يطلع الفجر بعد مغيب الشّفق مباشرةً. وفي بعض المناطق لا تغيب الشّمس مطلقاً. ذهب بعض علماء الحنفيّة إلى عدم سقوط هذه الصّلوات عنهم، ويقدّرون لكلّ صلاةٍ وقتاً، ففي السّتّة الأشهر الّتي تستمرّ في نهارٍ دائمٍ يقدّرون للمغرب والعشاء والوتر والفجر وقتاً، مثل ذلك السّتّة الأشهر الأخرى يقدّرون للصّبح والظّهر والعصر وقتاً، باعتبار أقرب البلاد الّتي لا تتوارى فيها الأوقات الخمسة. وقد استدلّوا على ذلك بالقياس على أيّام الدّجّال، الّذي هو من علامات السّاعة الكبرى، فقد أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالتّقدير فيها، في الحديث الّذي رواه مسلم قال: «ذكر النّبيّ صلى الله عليه وسلم الدّجّال ولبثه في الأرض أربعين يوماً: يوم كسنةٍ، ويوم كشهرٍ، ويوم كجمعةٍ، وسائر أيّامه كأيّامكم. قال الرّاوي قلنا: يا رسول اللّه: أرأيت اليوم الّذي كالسّنة، أتكفينا فيه صلاة يومٍ؟ قال: لا، ولكن اقدروا له». أي صلّوا صلاة سنةٍ في اليوم الّذي هو كسنةٍ، وقدّروا لكلّ صلاةٍ وقتاً. وذهب بعض فقهاء الحنفيّة إلى سقوط الصّلوات الّتي لم يجدوا وقتاً لها، لأنّ الوقت سبب للوجوب، فإذا عدم السّبب - وهو الوقت - عدم المسبّب وهو الوجوب. وهذا ينطبق على البلاد الّتي يقصر فيها اللّيل أربعين يوماً في الصّيف، فقبل أن يغيب الشّفق الأحمر، يظهر الفجر الصّادق فلا يوجد وقت للعشاء والوتر، لأنّ أوّل وقت العشاء مغيب الشّفق الأحمر، وقد ظهر الفجر الصّادق قبل أن يغيب الشّفق. فذهب بعض علماء الحنفيّة والمالكيّة إلى عدم سقوط الوتر والعشاء عن أهل هذه البلاد، بل يقدّرون للعشاء والوتر وقتاً باعتبار أقرب البلاد إليهم. وذهب بعض آخر من علماء الحنفيّة إلى سقوط الوتر والعشاء، وهو الّذي مشى عليه صاحب نور الإيضاح وعبارته: ومن لم يجد وقتها لم تجب عليه. لكنّه خلاف المذهب وما عليه المتون. وذهب بعض المالكيّة، وهو مذهب الشّافعيّة إلى تقدير مغيب شفق أقرب البلاد إليهم، فإذا كان أقرب البلاد إليهم يغيب فيها الشّفق بعد ساعةٍ من غروب الشّمس، ومدّة اللّيل في هذه البلاد ثماني ساعاتٍ، فيكون أوّل العشاء عندهم بعد ساعةٍ من غروب الشّمس، وإذا كانت مدّة اللّيل في البلاد الّتي ليس فيها عشاء اثنتي عشرة ساعةً، فيقدّر مغيب الشّفق عندهم بساعةٍ ونصفٍ من غروب الشّمس، لأنّ مدّة بقاء الشّفق في أقرب البلاد إليهم ساعة، وهي تعادل الثّمن من اللّيل، لأنّ اللّيل عندهم ثماني ساعاتٍ، والبلاد الّتي ليس فيها عشاء وليلها اثنتا عشرة ساعةً، يقدّر لغياب الشّفق ثمن هذه المدّة، وهي ساعة ونصف. وذهب الشّافعيّة إلى وجوب قضاء العشاء على أهل هذه البلاد، ولا يسقط عنهم. قال ابن عابدين: هذه المسألة نقلوا فيها الخلاف بين ثلاثةٍ من مشايخنا وهم: البقّاليّ والحلوانيّ والبرهانيّ الكبير، وأفتى البقّاليّ: بعدم الوجوب، وكان الحلوانيّ يفتي بالقضاء، ثمّ وافق البقّاليّ حينما أرسل إليه من يسأله عمّن أسقط صلاةً من الصّلوات الخمس: أيكفر؟ فأجاب البقّاليّ السّائل: من قطعت يداه أو رجلاه كم فروض وضوئه؟ قال: ثلاث. قال: فكذلك الصّلاة، فاستحسن الحلوانيّ، ورجع إلى قول البقّاليّ بعدم الوجوب. أمّا الكمال ابن الهمام فقد رجّح القول بالوجوب، ومنع ما أفتى به البقّاليّ من القول بعدم الوجوب لعدم السّبب وهو الوقت، كما يسقط غسل اليدين عن مقطوعهما. وقال: لا يرتاب متأمّل في ثبوت الفرق بين عدم محلّ الفرض، وبين عدم السّبب وهو الوقت. إلى أن قال: وانتفاء الدّليل على الشّيء لا يلزم فيه انتفاء هذا الشّيء، لجواز دليلٍ آخر. وقد وجد وهو ما تواطأت عليه أخبار الإسراء، من فرض اللّه تعالى الصّلوات الخمس، وجعلها شرعاً عامّاً لأهل الآفاق، لا تفضيل بين قطرٍ وقطرٍ. قال ابن عابدين: وقد ورد في هذه المسألة قولان مصحّحان في المذهب، والأرجح القول بالوجوب، لا سيّما إذا قال به إمام من الأئمّة، وهو الشّافعيّ رضي الله عنه، وهل ينوي القضاء أو لا ينويه؟ ذكر في الظّهيريّة أنّه لا ينوي القضاء لفقد وقت الأداء، واعترضه الزّيلعيّ بأنّه إذا لم ينو القضاء يكون أداءً، ضرورةً لا واسطة بينهما، وهي ليست أداءً، لأنّ الوقت الّذي صلّيت فيه ليس وقتاً لصلاة العشاء، بل وقت لصلاة الصّبح. ومعنى التّقدير عند الحنفيّة: افتراض أنّ الوقت موجود، وإن كان الوقت وقتاً لصلاة الصّبح، وهذا بخلاف معنى التّقدير عند الشّافعيّة وبعض المالكيّة، على ما بيّنّاه سابقاً من مذهبهم. أمّا البلاد الّتي يقصر فيها وقت الظّهر، فيبلغ ظلّ الشّيء مثله بعد زوال الشّمس عن وسط السّماء بوقتٍ قصيرٍ لا يتمكّن فيه المصلّي من صلاة الظّهر، فلم نجد في كتب الفقهاء نصّاً على حكم هذه المسألة.
انظر: أوقات الصّلاة.
انظر: أوقات الصّلاة.
1- الأوقاص: جمع وقصٍ بفتحتين، وقد تسكن القاف، والوقص من معانيه في اللّغة: قصر العنق، كأنّما ردّ في جوف الصّدر. والكسر: يقال: وقصت عنقه أي: كسرت ودقّت. وقد استعمل في الشّرع: لما بين الفريضتين في أنصبة زكاة الإبل والبقر والغنم، أو هو: ما بين الفريضتين في الغنم والبقر، أو في البقر خاصّةً، وهو واحد الأوقاص. فمثلاً إذا بلغت الغنم أربعين، ففيها شاة إلى أن تبلغ مائةً وعشرين، فإذا بلغت مائةً وإحدى وعشرين، ففيها شاتان. فالثّمانون الّتي بين الأربعين وبين المائة وإحدى وعشرين وقصٍ.
أ - الأشناق: 2 - الأشناق: جمع شنقٍ، هذا وجاء في المصباح وغيره من كتب اللّغة أنّ الشّنق بفتحتين: ما بين الفريضتين، وبعضهم يقول: هو الوقص، وبعض الفقهاء يخصّ الشّنق بالإبل، والوقص بالبقر والغنم. وفسّر مالك الشّنق بما يزكّى من الإبل بالغنم. كالخمس من الإبل ففيها شاة، والعشر فيها شاتان، والخمس عشرة فيها ثلاث شياهٍ، والعشرين فيها أربع. ب - العفو: 3 - يقال لما بين الفريضتين أيضاً: العفو، وهو في اللّغة مصدر عفا، ومن معانيه: المحو والإسقاط. وأمّا عند الفقهاء فإنّه كالوقص، بمعنى أنّه الّذي يفصل بين الواجبين في زكاة النّعم، أو في كلّ الأموال، وسمّي عفواً لأنّه معفوّ عنه، أي لا زكاة فيه.
4 - يبحث عن الأحكام الخاصّة بالأوقاص في مصطلح (زكاة) أي فيما يتعلّق منها بزكاة النّعم، وهي الإبل والبقر والغنم، إذ الأوقاص كما سبق: ما بين الفريضتين من كلّ الأنعام، والمراد بالفريضتين النّصابان. فما بين كلّ نصابين يعتبر وقصاً. هذا، والأوقاص في الإبل على خمس مراتب: الأولى: الأربعة الّتي تفصل بين ما تجب فيه الشّاة وهي الخمس من الإبل، والشّاتان وهي العشر، والثّلاث شياهٍ وهي الخمس عشرة، والأربع شياه وهي العشرون، وبنت المخاض وهي الخمس والعشرون. الثّانية: العشرة، وهي الّتي تفصل بين ما تجب فيه بنت المخاض، وهي الخمس والعشرون، وما تجب فيه بنت اللّبون وهي السّتّ والثّلاثون. الثّالثة: التّسعة، وهي الّتي تفصل بين ما تجب فيه بنت اللّبون وهي السّتّ والثّلاثون، وما تجب فيه الحقّة، وهي السّتّ والأربعون. الرّابعة: الأربع عشرة، وهي الّتي تفصل بين ما تجب فيه الحقّة وهي السّتّ والأربعون، وما تجب فيه الجذعة وهي الإحدى والسّتّون. وهي الّتي تفصل أيضاً بين ما تجب فيه الجذعة وهي الإحدى والسّتّون، وما تجب فيه بنتا اللّبون وهي السّتّ والسّبعون، والّتي تفصل أيضاً بين هذه وبين ما تجب فيه الحقّتان وهي الإحدى والتّسعون. الخامسة: التّسع والعشرون، وهي الّتي تفصل بين ما تجب فيه الحقّتان وهي الإحدى والتّسعون، وما تجب فيه ثلاث بنات لبونٍ وهي الإحدى والعشرون بعد المائة عند ابن القاسم من المالكيّة وعند الشّافعيّة والحنابلة، إذ زيادة الواحدة على المائة والعشرين تؤثّر عندهم في تغيير الواجب. وأمّا الحنفيّة فقد ذكروا أنّ زيادة الواحدة على المائة والعشرين لا تؤثّر في تغيير الواجب، وإنّما يتغيّر الواجب عندهم بزيادة خمسٍ، فيستمرّ أخذ الحقّتين عندهم إلى أربعٍ وعشرين بعد المائة. فالمرتبة الخامسة من مراتب الوقص على هذا القول تكون ثلاثاً وثلاثين. والّذي ارتضاه الإمام مالك أنّ الواجب بعد المائة والعشرين يتغيّر بزيادة عشرةٍ، فإن كان الزّائد أقلّ من ذلك، فإنّ السّاعي مخيّر بين أخذ الحقّتين أو ثلاث بنات لبونٍ. والتّفصيل مع الأدلّة وما قيل فيها محلّه مصطلح: (زكاةٍ).
5 - الأوقاص في البقر لا تخرج عن عددين: أحدهما: التّسعة، وهي الّتي تفصل بين ما يجب فيه التّبيع أو التّبيعة، وهو الثّلاثون، وما يجب فيه المسنّة أو المسنّ وهو الأربعون، وهو الّتي تقع أيضاً بعد العدد الّذي يتغيّر فيه الواجب بزيادة عشرةٍ اتّفاقاً وهو السّتّون، وما فوقها كالتّسعة الّتي بين السّتّين والسّبعين. والسّبعين والثّمانين. وهكذا. الثّاني: التّسعة عشر، وهي الّتي تفصل بين العدد الّذي تجب فيه المسنّة أو المسنّ على خلافٍ في ذلك وهو الأربعون، والعدد الّذي يتغيّر بعده الواجب بزيادة عشرةٍ وهو السّتّون، فإنّها وقص لا زكاة فيه عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وأبي يوسف ومحمّدٍ من الحنفيّة. هذا وتذكر كتب الحنفيّة ثلاث رواياتٍ عن أبي حنيفة في البقر إذا زاد عددها على الأربعين. سيأتي ذكرها.
6 - الأوقاص في الغنم تكون على النّحو التّالي: أوّلاً: الثّمانون، وهي الّتي تفصل بين ما تجب فيه الشّاة الواحدة وهي الأربعون، وما تجب فيه الشّاتان وهي الإحدى والعشرون بعد المائة. ثانياً: التّسع والسّبعون، وهي الّتي تفصل بين ما تجب فيه الشّاتان وهي الإحدى والعشرون بعد المائة، وما تجب فيه الثّلاث الشّياه وهي الواحدة بعد المائتين. ثالثاً: التّسع والتّسعون، وهي الّتي تقع بعد العدد الّذي تجب فيه الثّلاث الشّياه وهو الواحد بعد المائتين وقبل العدد الّذي يتغيّر بعده الواجب بزيادة مائةٍ وهو الثّلاثمائة، فيستمرّ بعد ذلك الوقص على تسعٍ وتسعين.
7 - ذكر الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة في زكاة أوقاص الإبل قولين: أحدهما: أنّها لا زكاة فيها، لأنّ الزّكاة إنّما تتعلّق بالنّصاب فقط، ولأنّ الوقص عفو بعد النّصاب كما هو عفو أيضاً قبل النّصاب، فالأربعة الواقعة بعد الخمسة وقبل العشرة عفو، إذ هي كالأربعة الواقعة قبل الخمس. وهذا القول هو قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وهو أيضاً أحد قولين في مذهب المالكيّة، وقول الشّافعيّة أيضاً في القديم والجديد. الثّاني: أنّها تزكّى، وهو قول محمّدٍ وزفر من الحنفيّة، وهو أيضاً القول الّذي رجع إليه الإمام مالك، وهو أيضاً قول الشّافعيّ في رواية البويطيّ، ودليل هذا القول حديث أنسٍ: «في أربعٍ وعشرين من الإبل فما دونها من الغنم في كلّ خمسٍ شاة، فإذا بلغت خمساً وعشرين إلى خمسٍ وثلاثين ففيها بنت مخاضٍ أنثى»، فجعل الفرض في النّصاب وما زاد. ولأنّه زيادة على نصابٍ فلم يكن عفواً، كالزّيادة على نصاب القطع في السّرقة. ويظهر أثر الخلاف - كما جاء في حاشية ابن عابدين - فيمن ملك تسعاً من الإبل، فهلك بعد الحول منها أربعة لم يسقط شيء على الأوّل، ويسقط على الثّاني أربعة أتساع شاةٍ. هذا وأمّا الحنابلة فقد ذكروا أنّ الأوقاص لا زكاة فيها قولاً واحداً، لأنّ الزّكاة إنّما تتعلّق بالنّصاب فقط، فلو كان له تسع إبلٍ مغصوبةٍ حولاً، فخلص منها بعيراً، لزمه خمس شاةٍ.
8 - اختلف الفقهاء في زكاة ما زاد على الأربعين إلى السّتّين من البقر على ثلاثة أقوالٍ: أحدها: أنّ هذه الزّيادة وقص لا زكاة فيها، وهو ما ذهب إليه المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة، وهو رواية عن أبي حنيفة وصاحبيه، ودليل هذا القول «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لمّا بعث معاذاً إلى اليمن أمره أن يأخذ من كلّ ثلاثين من البقر تبيعاً أو تبيعةً، ومن كلّ أربعين مسنّاً أو مسنّةً، فقالوا: الأوقاص، فقال: ما أمرني فيها بشيءٍ، وسأسأل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا قدمت عليه، فلمّا قدم على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم سأله عن الأوقاص فقال: ليس فيها شيء». وفسّروها بما بين أربعين إلى ستّين، ولأنّ الأصل في الزّكاة أن يكون بين كلّ واجبين وقص، لأنّ توالي الواجبات غير مشروعٍ فيها، لا سيّما فيما يؤدّي إلى التّشقيص في المواشي. الثّاني: وهو قول أبي حنيفة في رواية الأصل عنه - وهي الرّواية الثّانية - أنّ ما زاد على الأربعين يجب فيه بحسابه إلى السّتّين، ففي الواحدة الزّائدة ربع عشر مسنّةٍ، أو ثلث عشر التّبيع، وفي الثّنتين نصف عشر مسنّةٍ أو ثلثا عشر تبيعٍ وهكذا. ودليل هذا القول هو أنّ المال سبب الوجوب، ونصب النّصاب بالرّأي لا يجوز، وكذا إخلاؤه عن الواجب بعد تحقّق سببه، وأمّا حديث معاذٍ فهو غير ثابتٍ، لأنّه لم يجتمع برسول اللّه صلى الله عليه وسلم بعد ما بعثه إلى اليمن في الصّحيح. الثّالث: وهو قول أبي حنيفة في رواية الحسن عنه - وهي الرّواية الثّالثة - أنّه لا شيء في الزّيادة حتّى تبلغ خمسين، فإذا بلغتها ففيها مسنّة وربع مسنّةٍ أو ثلث تبيعٍ. ودليل هذا القول هو أنّ الأوقاص من البقر تسع تسع، كما قبل الأربعين وبعد السّتّين، فكذا هنا.
9 - ولا زكاة في أوقاص الغنم بالاتّفاق
انظر وقف.
انظر مقادير.
1 - الأولويّة لغةً: مصدر صناعيّ للأوّل، أي كون الشّيء أولى من غيره. ويقال: هو أولى بكذا: أي أحرى به وأجدر وأقرب وأحقّ، مشتقّ من الوليّ: وهو القرب. وقد استعمل الأصوليّون والفقهاء الأولى بمعنى: الأحرى والأفضل، إلاّ أنّ أفعل التّفضيل هنا على غير بابه، بدليل أنّ مقابل الأولى - وهو المسمّى عندهم بخلاف الأولى - لا فضل فيه، بل فيه نوع كراهةٍ خفيفةٍ. كما استعمل الفقهاء الأولى أيضاً بمعنى الأحقّ، على غير باب أفعل التّفضيل أيضاً، بمعنى أنّه المستحقّ للشّيء دون غيره.
أوّلاً: 2 - يعبّر الأصوليّون والفقهاء أحياناً عن النّدب الخفيف بالأولى، وقد يقولون: إنّ الأمر على سبيل الأولويّة. ثانياً: 3 - الأمر بالشّيء يفيد النّهي عن ضدّه في الجملة، فالأمر بفعل المندوبات يستفاد منه النّهي عن تركها، لكن لمّا كان ترك المندوب لا يستوجب إثماً، عبّر عن ذلك التّرك بأنّه خلاف الأولى. وعند الحنفيّة أنّ من ارتكب خلاف الأولى فقد أساء. والإساءة عندهم دون الكراهة، أو أفحش، أو أنّها وسط بين كراهة التّنزيه والتّحريم. ثالثاً: الدّلالة والفحوى: 4 - من أنواع الدّلالة اللّفظيّة " الدّلالة والفحوى " وهي: ثبوت حكم المنطوق للمسكوت لفهم مناط الحكم باللّغة، كقوله تعالى {فلا تَقُلْ لهما أفٍّ} ويفهم منه تحريم الضّرب، لأجل أنّ مناط النّهي عنه هو الإيذاء، وهذا مفهوم لغةً، من غير حاجةٍ إلى نظرٍ واستدلالٍ، فكان منهيّاً عنه، ومن جزئيّاته الضّرب فيكون منهيّاً عنه أيضاً، ولا يجب في الدّلالة أولويّة المسكوت في تحقّق المناط فيه. وقيل: إنّه تنبيه بالأدنى على الأعلى فتشترط الأولويّة على هذا، ويخرج ما فيه مساواة، ويسمّى الأوّل عندئذٍ فحوى الخطاب، كما يطلق عليه (المفهوم الأوّل) ويسمّى الثّاني (لحن الخطاب). والمشهور أنّ فحوى الخطاب ولحن الخطاب مترادفان. رابعاً: قياس الأولى: 5 - من أنواع القياس: القياس الجليّ، وهو: ما قطع فيه بنفي الفارق، أو كان تأثير الفارق فيه احتمالاً ضعيفاً. فالأوّل كقياس الأمة على العبد في تقويم حصّة الشّريك على شريكه المعتق الموسر وعتقها عليه. ومثال ما كان فيه تأثير الفارق احتمالاً ضعيفاً: قياس العمياء على العوراء في المنع من التّضحية، حيث إنّ العمياء ترشد للمرعى الحسن، بخلاف العوراء، فإنّها توكل إلى بصرها - وهو ناقص - فلا تسمن، فيكون العور مظنّة الهزال. وجوابه أنّ المنظور إليه في عدم الإجزاء نقص الجمال بسبب نقص تمام الخلقة، لا نقص السّمن. وقيل: الجليّ: القياس الأوّل، كقياس الضّرب على التّأفيف في التّحريم، وعلى التّعريف الأوّل يصدق بالأولى كالمساوي. وهناك خلاف في كون قياس الأوّل من القياس الأصوليّ أو اللّغويّ، ينظر في محلّه. وتمام الكلام على ما سبق محلّه الملحق الأصوليّ. خامساً: 6 - من الألفاظ الدّالّة على الأولويّة عند الحنفيّة أحياناً كلمة (لا بأس)، لكن الغالب استعمالها فيما تركه أولى، وإن كانت قد تستعمل في المندوب أحياناً، فإن قالوا: لا بأس بكذا دلّ على أنّ المستحبّ غيره غالباً.
7 - يذكر الأصوليّون مباحث الأولويّة والأولى في مباحث الحكم وأنواعه، وفي مباحث الدّلالة وأنواع القياس كما تقدّم. كما يذكرها الفقهاء بمناسبة الكلام على صيغة " لا بأس " وفي مواضع متفرّقةٍ بحسب المناسبات كالأولى بالإمامة وبالصّلاة على الميّت والدّفن والذّبح في الحجّ وبالحضانة وتربية اللّقيط ونحو ذلك.
انظر: ولاية.
1- الإياس من الشّيء، واليأس منه: انقطاع الرّجاء والطّمع والأمل فيه (واليأس) مصدر يئس ييأس فهو يائس. وقد ورد في كلام العرب كثيراً: أيس ييأس فهو آيس. هذا، ويقال للرّجل يائس وآيس، وللمرأة يائسة وآيسة، لكن إن أريد يأسها من الحيض خاصّةً قيل: هي آيس، بدون تاءٍ، وهو الأحرى على قواعد اللّغة، ويرد فيها أيضاً في كلام الفقهاء كثيراً: آيسة. هذا، ويرد اليأس والإياس في كلام الفقهاء بمعنيين: الأوّل، وهو اصطلاح لهم: أن يكون بمعنى انقطاع الحيض عن المرأة بسبب الكبر والطّعن في السّنّ. والثّاني: هو المعنى اللّغويّ المتقدّم، ومنه قولهم: اليأس من رحمة اللّه، وقولهم: توبة اليائس أي توبة من يئس من الحياة. وفيما يلي بيان أحكام هذين المعنيين.
2 - الإياس دور من حياة المرأة، ينقطع فيه الحيض والحمل، بسبب تغيّراتٍ تطرأ على جسمها. ويرافق هذا الانقطاع اضطراب في وظائف الأعضاء، واضطرابات نفسيّة.
أ - القعود: 3 - قعود المرأة بمعنى إياسها. فقد فسّره أهل اللّغة بانقطاع الحيض والولد عنها. قال ابن السّكّيت: امرأة قاعد إذا قعدت عن المحيض. فإذا أردت القعود قلت: هي قاعدة. وجمعها قواعد. وقد فسّر قوله تعالى: {والقواعدُ من النّساءِ} بمن انقطع عنهنّ الحيض. وقال الزّجّاج: هنّ اللّاتي قعدن عن الأزواج. ب - العقر والعقم: 4 - المرأة العاقر: هي الّتي لا تلد. ويقال للرّجل أيضاً: عاقر، إن كان لا يولد له. والعقم أيضاً في المرأة والرّجل، يقال: قد عقمت المرأة بمعنى: أعقمها اللّه. فهي عقيم ومعقومة. ويقال للرّجل أيضاً: عقيم، إن كان لا يولد له. ويظهر أنّ المرأة يقال لها: عاقر وعقيم، إذا كانت لا تحمل ولو كانت ذات حيضٍ، وبهذا تخالف الآيسة، فإنّ المرأة لا تكون آيسةً إلاّ إذا امتنع عنها الحيض بسبب السّنّ، ثمّ إن امتنع الحيض بسبب ذلك امتنع الحمل عادةً ولا بدّ. فكلّ آيسةٍ عقيم، ولا عكس. ج - امتداد الطّهر: 5 - قد يمتنع الحيض عن المرأة قبل سنّ الإياس لعارضٍ من هزالٍ أو مرضٍ أو رضاعٍ، فلا يسمّى ذلك يأساً. وقد يكون امتناعه لسببٍ غير معلومٍ، فيقال لها في كلّ تلك الأحوال (ممتدّة الطّهر) أو (منقطعة الحيض). وفرّق في (الدّرّ المنتقى) بين هذين الاصطلاحين فقال: منقطعة الحيض: هي الّتي بلغت بالسّنّ ولم تحض قطّ. ومرتفعة الحيض: هي من حاضت ولو مرّةً، ثمّ ارتفع حيضها وامتدّ طهرها، ولذا تسمّى ممتدّة الطّهر.
6 - يقرّر الأطبّاء أنّ وظيفة الحمل لدى المرأة تستمرّ لديها بعد البلوغ خمس وثلاثون عاماً، تتعطّل لديها بعدها وظيفة الحمل والإنجاب. وقد اختلف الفقهاء في تحديد سنّ الإياس على أقوالٍ: - 1 - فقال بعضهم: لا حدّ لأكثره. وعليه فأيّ سنٍّ رأت فيها الدّم فهو حيض. ولو كان ذلك بعد السّتّين. وهذا قول بعض الحنفيّة. قالوا: لا يحدّ الإياس بمدّةٍ، بل إياسها أن تبلغ من السّنّ ما لا يحيض مثلها فيه. فإذا بلغته، وانقطع دمها، حكم بإياسها. فما رأته بعد الانقطاع حيض، فيبطل به الاعتداد بالأشهر، وتفسد الأنكحة أي يظهر فساد نكاحها إن كانت اعتدّت بالأشهر وتزوّجت، ثمّ رأت الدّم. - 2 - وقيل: يحدّ بخمسٍ وخمسين سنةً. وهو قول عند الحنفيّة، هو رواية الحسن عن أبي حنيفة، قيل فيه إنّ عليه الاعتماد، وإنّ عليه أكثر المشايخ، فما رأته من الدّم بعدها فليس بحيضٍ في ظاهر المذهب، إلاّ إذا كان دماً خالصاً فحيض، حتّى يبطل به الاعتداد بالأشهر، إن جاءها قبل تمام الأشهر لا بعدها، حتّى لا تفسد الأنكحة، قالوا: وهو المختار للفتوى، وعليه فالنّكاح إن وقع بعد انقضاء الأشهر ثمّ رأت الدّم جائز. - 3 - وقيل يحدّ بخمسين سنةً، وهو قول للحنفيّة، قال صاحب الدّرّ: عليه المعوّل والفتوى في زماننا. وهو رواية عن أحمد. واحتجّ أصحاب هذا القول بقول عائشة رضي الله عنها:" لن ترى المرأة في بطنها ولداً بعد الخمسين ". - 4 - وقيل يحدّ سنّ اليأس بالنّسبة إلى كلّ امرأةٍ بيأس نساء عشيرتها من الأبوين، لتقاربهنّ في الطّبع. فإذا بلغت السّنّ الّذي ينقطع فيه حيضهنّ فقد بلغت سنّ اليأس، وهذا أحد قولي الشّافعيّ. - 5 - والقول الجديد للشّافعيّ: المعتبر سنّ اليأس لجميع النّساء بحسب ما يبلغ الخبر عنهنّ. وأقصاه فيما علم اثنتان وستّون سنةً. وقيل: ستّون. وقيل خمسون. - 6 - وقيل بالتّفريق بين بعض الأجناس وبعضٍ، فهو للعربيّات ستّون عاماً، وللعجميّات خمسون. وهو رواية عن أحمد. قال ابن قدامة: لأنّ العربيّة أقوى طبيعةً. - 7 - وذهب المالكيّة، والحنابلة فيما نقله الخرقيّ عن أحمد إلى أنّ الإياس له حدّان: أعلى وأدنى. فأقلّه عندهم جميعاً خمسون سنةً. وأعلاه عند المالكيّة سبعون. قالوا: فمن بلغت سبعين فدمها غير حيضٍ قطعاً. ومن لم تبلغ خمسين فدمها حيض قطعاً. ولا يسأل النّساء - أي ذوات الخبرة - فيهما. وما بين ذلك يرجع فيه للنّساء، لأنّه مشكوك فيه. وأعلاه عند أحمد على هذه الرّواية ستّون سنةً، تيأس بعدها يقيناً. وما بين الخمسين والسّتّين من الدّم مشكوك فيه، لا تترك له الصّوم والصّلاة. وتقضي الصّوم المفروض احتياطاً. قال ابن قدامة: الصّحيح إن شاء اللّه أنّه متى بلغت المرأة خمسين فانقطع حيضها عن عادتها عدّة مرّاتٍ لغير سببٍ فقد صارت آيسةً، لأنّ وجود الحيض في حقّ هذه نادر، بدليل قلّة وجوده، وقول عائشة:" لن ترى المرأة في بطنها ولداً بعد الخمسين "فإذا انضمّ إلى هذا انقطاعه عن العادة مرّاتٍ حصل اليأس من وجوده، فلها حينئذٍ أن تعتدّ بالأشهر، وإن انقطع قبل ذلك فحكمها حكم من ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه - أي فتتربّص تسعة أشهرٍ لاستبراء الرّحم، وثلاثة أشهرٍ للعدّة - وإن رأت الدّم بعد الخمسين على العادة الّتي كانت تراه فيها فهو حيض في الصّحيح، لأنّ دليل الحيض الوجود في زمن الإمكان، وهذا يمكن وجود الحيض فيه، وإن كان نادراً. وإن رأته بعد السّتّين فقد تيقّن أنّه ليس بحيضٍ لأنّه لم يوجد ذلك.
7 - ذكر هذا الشّرط الحنفيّة في سياق القول بأنّ سنّ الإياس خمسون أو خمس وخمسون عاماً، قالوا: يشترط للحكم بالإياس في هذه المدّة أن ينقطع الدّم عنها مدّةً طويلةً، وهي ستّة أشهرٍ في الأصحّ. قالوا: والأصحّ ألاّ يشترط أن يكون انقطاع ستّة أشهرٍ بعد مدّة الإياس. بل لو كان منقطعاً قبل مدّة الإياس، ثمّ تمّت مدّة الإياس، وطلّقها زوجها يحكم بإياسها وتعتدّ بثلاثة أشهرٍ. ولم يتعرّض لهذا الشّرط غير الحنفيّة فيما اطّلعنا عليه.
8 - لم يعرض لهذه المسألة بالنّصّ عليها فيما اطّلعنا عليه غير الحنفيّة. فقد قالوا: إنّ المرأة إذا بلغت بالسّنّ، واستمرّ امتناع الحيض، فإنّها يحكم بإياسها متى بلغت ثلاثين عاماً. نقله في البحر عن الجامع. ومقتضى إطلاق غيرهم أنّه لا يحكم بإياسها إلاّ متى بلغت سنّ الإياس المعتبر، كغيرها.
9 - السّنّة في طلاق المرأة أن يكون في طهرٍ لم يأتها فيه زوجها، أو أثناء الحمل. أمّا طلاقها أثناء الحيض، أو في طهرٍ أصابها فيه، فإنّه طلاق بدعيّ. وأمّا الآيسة من الحيض فقد قيل: لا سنّة لطلاقها ولا بدعة، وقال الحنفيّة: السّنّة في طلاقها أن تطلق على رأس كلّ شهرٍ طلقةً. وقيل: طلاقها طلاق سنّيّ ولو بعد الوطء. وينظر تفصيل ذلك في (طلاقٍ).
10 - تعتدّ ذات الأقراء من الطّلاق بثلاثة أقراءٍ. والحامل عدّتها إلى وضع حملها، أمّا الّتي أيست من الحيض، إن كانت حرّةً فعدّتها من الطّلاق ثلاثة أشهرٍ من حين الطّلاق. وهذا متّفق عليه. لقول اللّه تعالى: {واللّائي يَئِسْنَ من المحيضِ من نسائِكم إنِ ارْتَبْتُم فعِدَّتُهُنَّ ثَلاثةُ أشْهُرٍ}. والتّفصيل في (عدّةٍ).
11 - إنّ المطلّقة إذا ارتفع حيضها، وعرفت ما رفعه من رضاعٍ أو مرضٍ أو نفاسٍ، فإنّها تنتظر زوال العارض وعود الدّم وإن طال، إلاّ أن تصير في سنّ اليأس، فعند ذلك تعتدّ عدّة الأيسات. أمّا إن كان ارتفاع حيضها لسببٍ لا تعلمه، وكانت حرّةً، فقد قيل: تتربّص سنةً: تسعة أشهرٍ للحمل، ثمّ تعتدّ بثلاثة أشهرٍ كالآيسة. وقيل في مدّة تربّصها غير ذلك (ر: عدّة).
12 - إنّ المرأة إذا اجتمع لها مع الإياس انقطاع رجائها في النّكاح ثبت لها نوع من الرّخصة في كمال الاستتار. قال اللّه تعالى: {والقواعدُ من النّساءِ اللّاتي لا يَرْجُون نِكاحاً فليسَ عليهنّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهنّ غيرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزينَةٍ}، قال القرطبيّ في تفسيرها: هنّ العجّز اللّواتي قعدن عن التّصرّف من السّنّ، وقعدن عن الولد والمحيض. هذا قول أكثر العلماء. وقال أبو عبيدة: هنّ اللّاتي قعدن عن الولد، وليس ذلك بمستقيمٍ، لأنّ المرأة تقعد عن الولد، وفيها مستمتع. وإنّما خصّ القواعد بهذا الحكم - وهو جواز وضع الجلباب أو الرّداء عنهنّ، إذا كان ما تحته من الثّياب ساتراً لما يجب ستره - لانصراف الأنفس عنهنّ، وقيل: لا بأس بالنّظر منها إلى ما يظهر غالباً وهو مذهب الحنابلة، إذ لا مذهب للرّجال فيهنّ، فأبيح لهنّ ما لم يبح لغيرهنّ، وأزيل عنهنّ كلفة التّحفّظ المتعبة لهنّ.
13 - الإياس من حصول بعض الأشياء جائز ولا بأس به. بل استحضار الإياس من بعض الأشياء البعيدة الحصول قد يكون راحةً للنّفس من تطلّبها. وفي الحديث «أجمع الإياس ممّا في أيدي النّاس». ولكن لا يجوز للمؤمن اليأس من روح اللّه ورحمته. ومن أمثلة الإياس من رحمة اللّه الإياس من الرّزق أو نحوه كالولد، أو وجود المفقود، أو يأس المريض من العافية، أو يأس المذنب من المغفرة. والإياس من رحمة اللّه تعالى منهيّ عنه. وقد عدّه العلماء من الكبائر. قال ابن حجرٍ المكّيّ: عدّ ذلك كبيرةً هو ما أطبقوا عليه، لما ورد فيه من الوعيد الشّديد. كقوله تعالى: {إنّه لا يَيْأسُ من رَوْحِ اللّه إلاّ القومُ الكافرون}، وقوله تعالى: {وَمَنْ يقنطُ من رحمةِ ربّه إلاّ الضّالّون}. وروى ابن أبي حاتمٍ والبزّار عن ابن عبّاسٍ «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم سئل: ما الكبائر؟ فقال: الشّرك باللّه، والإياس من روح اللّه، والأمن من مكر اللّه، وهذا أكبر الكبائر» قيل: والأشبه أن يكون الحديث موقوفاً، وبكونه أكبر الكبائر صرّح ابن مسعودٍ كما رواه عبد الرّزّاق والطّبرانيّ. ثمّ قال ابن حجرٍ: وإنّما كان اليأس من رحمة اللّه من الكبائر لأنّه يستلزم تكذيب النّصوص القطعيّة. ثمّ هذا اليأس قد ينضمّ إليه حالة هي أشدّ منه، وهي التّصميم على عدم وقوع الرّحمة له، وهذا هو القنوط، بحسب ما دلّ عليه سياق الآية: {وإنْ مَسَّهُ الشّرُّ فيئوس قنوط} وتارةً ينضمّ إليه أنّه مع اعتقاده عدم وقوع الرّحمة له يرى أنّه سيشدّد عذابه كالكفّار. وهذا هو المراد بسوء الظّنّ باللّه تعالى. وقد ورد النّهي عن اليأس من الرّزق في مثل قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لحبّةٍ وسواءٍ ابني خالد «لا تيأسا من الرّزق ما تهزهزت رءوسكما». وورد النّهي عن القنوط بسبب الفقر والحاجة أو حلول المصيبة في مثل قوله تعالى: {وإذا أَذَقْنَا النّاسَ رحمةً فَرِحُوا بها وإنْ تُصِبْهم سيّئةٌ بما قَدَّمَتْ أَيْدِيْهم إذا هم يَقْنطون أوَلم يَرَوْا أنَّ اللّه يَبْسُطُ الرّزقَ لمن يشاءُ وَيَقْدِرُ إنّ في ذلك لآياتٍ لِقَومٍ يؤمنون}. وورد النّهي عن اليأس من مغفرة الذّنوب في قوله تعالى: {قلْ يا عبادِيَ الّذين أسْرَفُوا على أنفسِهم لا تَقْنَطُوا من رحمةِ اللّه إنَّ اللّه يَغْفِرُ الذّنوبَ جميعاً إنّه هو الغفورُ الرّحيمُ}. فإنّ اللّه تعالى لا يتعاظمه ذنب أن يغفره، فرحمته وسعت كلّ شيءٍ. ومن أجل ذلك فالإنابة إلى اللّه تعالى مطلوبة، وباب التّوبة إليه من الذّنوب جميعاً مفتوح للعبد ما لم يغرغر، أي حين ييأس من الحياة. فتوبة اليائس - وهي توبة من يئس من الحياة كالمحتضر - المشهور أنّها غير مقبولةٍ، كإيمان اليائس. وهو قول الجمهور. وفرّق بعض الحنفيّة بين توبة اليائس وإيمان اليائس، فقالوا بقبول الأوّل دون الثّاني (ر: احتضار. توبة). أمّا من مات على كفره فإنّه هو اليائس حقّاً من مغفرة اللّه ورحمته، لقوله تعالى: {والّذين كفروا بآياتِ اللّه وَلِقَائِه أولئك يَئِسُوا من رحمتي وأولئك لهم عذابٌ أليم}، بخلاف من مات على الإيمان فإنّ الرّحمة ترجى له.
انظر نكاح.
انظر وتر.
انظر أمانة.
1 - الإيجاب: لغةً مصدر أوجب. يقال أوجب الأمر على النّاس إيجاباً: أي ألزمهم به إلزاماً، ويقال: وجب البيع يجب وجوباً أي: لزم وثبت، وأوجبه إيجاباً: ألزمه إلزاماً. واصطلاحاً: يطلق على عدّة معانٍ، منها: طلب الشّارع الفعل على سبيل الإلزام، وهو بهذا يخالف الاختيار. ومنها: التّلفّظ الّذي يصدر عن أحد العاقدين. وقد اختلف الفقهاء في تعريفه بهذا المعنى، فقال الحنفيّة: الإيجاب: هو ما صدر أوّلاً من أحد العاقدين بصيغةٍ صالحةٍ لإفادة العقد، والقبول: ما صدر ثانياً من أيّ جانبٍ كان. ويرى غير الحنفيّة أنّ الإيجاب: ما صدر من البائع، والمؤجّر، والزّوجة، أو وليّها، على اختلافٍ بين المذاهب، سواء صدر أوّلاً أو آخراً، لأنّهم هم الّذين سيملّكون: المشتري السّلعة المبيعة، والمستأجر منفعة العين، والزّوج العصمة، وهكذا.
أ - الفرض: 2 - يأتي الفرض لغةً واصطلاحاً بمعنى: الإيجاب. يقال: فرض اللّه الأحكام فرضاً أي أوجبها، ولا فرق عند غير الحنفيّة بين الفرض والإيجاب. أمّا عند الحنفيّة فالفرض: ما ثبت بدليلٍ قطعيٍّ لا شبهة فيه، ويكفر جاحده إذا كان ممّا علم من الدّين بالضّرورة. والواجب ما ثبت بدليلٍ فيه شبهة كالقياس. ب - الوجوب: وهو أثر الإيجاب، فالإيجاب من الحاكم به، والوجوب صفة الفعل المحكوم فيه، فما أوجبه اللّه صار بإيجابه واجباً. ج - النّدب: وهو طلب الشّارع الفعل لا على وجه الإلزام به، كصلاة النّافلة.
3 - الإيجاب الشّرعيّ حكم شرعيّ لا يكون إلاّ من اللّه تعالى، لأنّه خطاب الشّرع للمكلّفين بما يوجبه عليهم. وقد يوجب الإنسان على نفسه فعل طاعةٍ بالنّذر فيجب عليه أداؤه شرعاً، لإيجاب اللّه الوفاء بالنّذر، كأن ينذر شخص صوم أيّامٍ، أو حجّ البيت، أو صدقةً معيّنةً. وينظر لتفاصيل أحكام الواجب الملحق الأصوليّ.
4 - يكون الإيجاب باللّفظ، وهو الأكثر. ويكون بالإشارة المفهمة من الأبكم ونحوه في غير النّكاح. وقد يكون بالفعل كما في بيع المعاطاة. وقد يكون بالكتابة. ويكون الإيجاب بالرّسالة أو الرّسول، إذ يعتبر مجلس تبليغ الرّسالة أو الرّسول، وعلمه بما فيها، هو مجلس الإيجاب. وينظر تفصيل ذلك، والخلاف فيه، في أبواب المعاملات المختلفة وخاصّةً البيوع، وانظر أيضاً مصطلح (إرسالٍ. إشارةٍ. عقدٍ).
5 - يشترط لصحّة الإيجاب في العقود شروط أهمّها: أهليّة الموجب، وتفصيل ذلك في مصطلح (صيغة، وعقد).
6 - يرى بعض الفقهاء - مثل الحنفيّة - أنّ للموجب حقّ الرّجوع قبل القبول، وقال المالكيّة: إنّ الموجب لو رجع عمّا أوجبه لصاحبه قبل أن يجيبه الآخر، لا يفيده رجوعه إذا أجابه صاحبه بالقبول، ولا يملك أن يرجع وإن كان في المجلس. أمّا الشّافعيّة والحنابلة فإنّهم يرون خيار المجلس، وهو يقتضي جواز رجوع الموجب عن إيجابه حتّى بعد قبول العاقد الآخر، فمن باب أولى يصحّ رجوعه قبل اتّصال القبول به.
1 - الإيجار: مصدر آجر، وفعله الثّلاثيّ أجر. يقال: آجر الشّيء يؤجّره إيجاراً. ويقال: آجر فلان فلاناً داره أي: عاقده عليها. والمؤاجرة: الإثابة وإعطاء الأجر. وآجرت الدّار أوجرها إيجاراً، فهي مؤجّرة. والاسم: الإجارة. وللتّفصيل (ر: إجارة ج 1 252) والإيجار (أيضاً) مصدر للفعل أوجر، وفعله الثّلاثيّ (وجر)، يقال: أوجره: إذا ألقى الوجور في حلقه. هذا في اللّغة، ولم يخرج استعمال الفقهاء عن ذلك، فإنّهم يستعملون الإيجار بمعنى: صبّ اللّبن أو الدّواء أو غيرهما في الحلق. واشتهر عندهم التّعبير بلفظ الإجارة بمعنى: بيع المنفعة.
2 - جمهور الفقهاء على أنّ إيجار لبن امرأةٍ في حلق طفلٍ رضيعٍ فيما بين الحولين يثبت به التّحريم، كارتضاعه من ثديها، لأنّ المؤثّر في التّحريم هو حصول الغذاء باللّبن وإنبات اللّحم وإنشاز العظم، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «لا رضاع إلاّ ما أنشز العظم وأنبت اللّحم» وذلك يحصل بالإيجار، لأنّه يصل إلى الجوف، وبذلك يساوي الارتضاع من الثّدي في التّحريم. وفي هذا خلاف لبعض الفقهاء، مع اختلافهم أيضاً في عدد الرّضعات الّتي تنشر الحرمة. وللتّفصيل (ر: رضاع). ويختلف الفقهاء في وصول شيءٍ لجوف الصّائم بالإيجار مكرهاً، هل يصير به مفطراً أم لا؟ يقول الحنفيّة والمالكيّة: لو أوجر الصّائم مكرهاً، أو كان نائماً وصبّ في حلقه شيء، كان مفطراً بذلك، ويجب عليه القضاء. وعند الشّافعيّة والحنابلة: من أوجر مكرهاً لم يكن مفطراً بذلك، لانتفاء الفعل والقصد منه، ولعموم قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «رفع عن أمّتي الخطأ والنّسيان وما استكرهوا عليه».
3 - يأتي تفصيل الإيجار بمعنى صبّ شيءٍ في الحلق في الرّضاع والصّوم، كما يأتي في باب الجنايات، وذلك بإيجار سمٍّ في فم إنسانٍ.
انظر وديعةً.
1 - الإيصاء في اللّغة: مصدر أوصى، يقال: أوصى فلان بكذا يوصي إيصاءً، والاسم الوصاية (بفتح الواو وكسرها) وهو: أن يعهد إلى غيره في القيام بأمرٍ من الأمور، سواء أكان القيام بذلك الأمر في حال حياة الطّالب أم كان بعد وفاته. وفي المغرب: أوصى زيد لعمر بكذا إيصاءً، وقد وصّى به توصيةً، والوصيّة والوصاة اسمان في معنى المصدر، ومنه {مِنْ بعد وَصِيّةٍ تُوصُونَ بها} والوصاية بالكسر مصدر الوصيّ. وقيل الإيصاء: طلب الشّيء من غيره ليفعله على غيبٍ منه حال حياته أو بعد وفاته. أمّا في اصطلاح الفقهاء، فالإيصاء بمعنى الوصيّة، وعند بعضهم هو أخصّ من ذلك، فهو إقامة الإنسان غيره مقامه بعد وفاته في تصرّفٍ من التّصرّفات، أو في تدبير شئون أولاده الصّغار ورعايتهم، وذلك الشّخص المقام يسمّى الوصيّ. أمّا إقامة غيره مقامه في القيام بأمرٍ في حال حياته، فلا يقال له في الاصطلاح إيصاء عندهم، وإنّما يقال له وكالة.
أ - الوصيّة: 2 - يرى الحنفيّة والشّافعيّة: أنّ الوصيّة أعمّ من الإيصاء، فهي عندهم، تصدق على التّمليك المضاف إلى ما بعد الموت بطريق التّبرّع، وتصدق على الإيصاء، وهو طلب شيءٍ من غيره ليفعله بعد وفاته، كقضاء ديونه وتزويج بناته. ويرى المالكيّة وبعض الحنابلة: أنّ الوصيّة والإيصاء بمعنًى واحدٍ. فقد عرّفها المالكيّة بأنّها: عقد يوجب حقّاً في ثلث مال العاقد يلزم بموته، أو يوجب نيابةً عنه بعد موته وعرّفها بعض الحنابلة: بأنّها الأمر بالتّصرّف بعد الموت، أو التّبرّع بالمال بعده. فكلّ من هذين التّعريفين يفيد أنّ الوصيّة قد تكون بالتّبرّع بالمال بعد الموت، وقد تكون بإقامةٍ الموصي غيره مقام نفسه في أمرٍ من الأمور بعد وفاته، فهي شاملة لكلٍّ منهما على السّواء، فكلاهما يطلق عليه اسم الوصيّة. ب - الولاية: 3 - الولاية هي: القدرة على إنشاء العقود والتّصرّفات النّافذة من غير توقّفٍ على إجازة أحدٍ. فإن كانت هذه العقود والتّصرّفات متعلّقةً بمن قام بها سمّيت الولاية ولايةً قاصرةً، وإن كانت متعلّقةً بغيره سمّيت الولاية ولايةً متعدّيةً، وهذه الولاية المتعدّية أعمّ من الوصاية، لأنّ كلّاً منهما يملّك صاحبه التّصرّف بطريق النّيابة عن غيره، إلاّ أنّ الولاية قد يكون مصدرها الشّرع، كولاية الأب على ابنه، وقد يكون مصدرها العقد كما في الوكالة والإيصاء، فإنّه يكون بتولية صاحب الشّأن في التّصرّف، فهو الّذي يعهد إلى غيره بالنّيابة عنه في بعض الأمور بعد وفاته. ج - الوكالة: 4 - الوكالة: إقامة الشّخص غيره مقام نفسه في تصرّف مملوكٍ قابلٍ للنّيابة، ليفعله في حال حياته. فهي تشبه الإيصاء من حيث إنّ كلّاً منهما فيه تفويض للغير في القيام ببعض الأمور نيابةً عمّن فوّضه، إلاّ أنّ بينهما فرقاً من ناحية أنّ التّفويض للغير في الإيصاء يكون بعد الموت، أمّا في الوكالة فإنّ التّفويض يكون في حال الحياة. هذا وسوف يقتصر الكلام في هذا البحث على الإيصاء بمعنى إقامة الوصيّ، أمّا ما يتعلّق بسائر أحكام الوصيّة فينظر في مصطلح: (وصيّةٍ).
5 - يتحقّق عقد الإيصاء بإيجابٍ من الموصي، وقبولٍ من الموصى إليه، ولا يشترط في الإيجاب أن يكون بألفاظٍ مخصوصةٍ، بل يصحّ بكلّ لفظٍ يدلّ على تفويض الأمر إلى الموصى إليه بعد موت الموصي، مثل: جعلت فلاناً وصيّاً، أو عهدت إليه بمال أولادي بعد وفاتي، وما أشبه ذلك. وكذلك القبول، فإنّه يصحّ بكلّ ما يدلّ على الموافقة والرّضى بما صدر من الموصي، سواء أكان بالقول كقبلت أو رضيت، أو أجزت، ونحو ذلك، أم بالفعل الدّالّ على الرّضى، كبيع شيءٍ من التّركة بعد موت الموصي، أو شرائه شيئاً يصلح للورثة، أو قضائه لدينٍ أو اقتضائه له. ولا يشترط في القبول أن يكون في مجلس الإيجاب، بل يمتدّ زمنه إلى ما بعد موت الموصي، لأنّ أثر عقد الإيصاء لا يظهر إلاّ بعد موت الموصي، فكان القبول ممتدّاً إلى ما بعده. وصحّ قبول الإيصاء في حال حياة الموصي عند الحنفيّة، والمالكيّة، والحنابلة، والشّافعيّة في مقابل الأصحّ عندهم، لأنّ تصرّف الموصى إليه يقع لمنفعة الموصي. فلو وقف القبول والرّدّ على موته لم يؤمن أن يموت الموصي، ولم يسند وصيّته إلى أحدٍ، فيكون في ذلك إضرار به، وهذا بخلاف قبول الوصيّة بجزءٍ من المال فإنّ قبول الموصى له لا يكون معتبراً إلاّ بعد موت الموصي، لأنّ الاستحقاق فيها إنّما هو لحقّ الموصى له، فلم يكن ثمّ ما يدعو إلى تقديم القبول على الموت. وفي القول الأصحّ عند الشّافعيّة: لا يصحّ القبول في الإيصاء إلاّ بعد موت الموصي، لأنّ الإيصاء مضاف إلى الموت، فقبل الموت لم يدخل وقته، فلا يصحّ القبول أو الرّدّ قبله، كما في الوصيّة بالمال.
6 - الأصل في الإيصاء إلى الغير أنّه لا يصحّ، وذلك لأنّ صحّة التّصرّف تتوقّف على الولاية عليه ممّن صدر عنه، والموصي تنتهي ولايته بالموت، إلاّ أنّ الشّرع أجازه استثناءً من هذا الأصل، وذلك لما روي أنّ الصّحابة رضي الله تعالى عنهم كان يوصي بعضهم إلى بعضٍ، من غير إنكارٍ على أحدٍ منهم في ذلك، فاعتبر هذا إجماعاً منهم على الجواز. روى سفيان بن عيينة عن هشام بن عروة قال: أوصى إلى الزّبير سبعة من الصّحابة، منهم عثمان، والمقداد، وعبد الرّحمن بن عوفٍ، ومطيع بن الأسود. وروي عن أبي عبيدة أنّه لمّا عبر الفرات أوصى إلى عمر. وروي أنّ ابن مسعودٍ قد أوصى فكتب: إن حدث بي حادث الموت من مرضي هذا، فمرجع وصيّتي إلى اللّه سبحانه، ثمّ إلى الزّبير بن العوّام وابنه عبد اللّه. ولأنّ الإيصاء وكالة وأمانة فأشبه الوديعة، والوكالة في الحياة، وكلاهما جائز، فكذلك الإيصاء.
7 - الإيصاء بالنّسبة للموصي يكون واجباً عليه إذا كان بردّ المظالم، وقضاء الدّيون المجهولة، أو الّتي يعجز عنها في الحال، لأنّ أداءها واجب، والإيصاء هو الوسيلة لأدائه، فيكون واجباً مثله. وكذلك الإيصاء على الأولاد الصّغار ومن في حكمهم إذا خيف عليهم الضّياع، لأنّ في هذا الإيصاء صيانةً لهم من الضّياع، وصيانة الصّغار من الضّياع واجبة بلا خلافٍ، لحديث: «كفى بالمرء إثماً أن يُضَيِّعَ من يَعُول». أمّا الإيصاء بقضاء الدّين المعلوم، وردّ المظالم المعلومة، وتنفيذ الوصايا إن كانت، والنّظر في أمر الأولاد الصّغار ومن في حكمهم الّذين لا يخشى عليهم الضّياع، فهو سنّة أو مستحبّ باتّفاق الفقهاء، تأسّياً بالسّلف الصّالح في ذلك، حيث كان يوصي بعضهم إلى بعضٍ، كما تقدّم. هذا هو حكم الإيصاء بالنّسبة للموصي. أمّا بالنّسبة للوصيّ، فإنّه إذا أوصى إليه أحد جاز له قبول الوصيّة، إذا كانت له قدرة على القيام بما أوصي إليه فيه، ووثق من نفسه أداءه على الوجه المطلوب، لأنّ الصّحابة رضي الله تعالى عنهم كان بعضهم يوصي إلى بعضٍ، فيقبلون الوصيّة، فقد روي أنّ عبد اللّه بن عمر كان وصيّاً لرجلٍ، وكان الزّبير بن العوّام وصيّاً لسبعةٍ من الصّحابة. وقياس مذهب أحمد أنّ ترك الدّخول في الوصيّة أولى، لما فيه من الخطر، وهو لا يعدل بالسّلامة شيئاً، ولذلك كان يرى ترك الالتقاط، وترك الإحرام من قبل الميقات أفضل، تحرّياً للسّلامة واجتناباً للخطر، ويدلّ على ذلك، ما رواه مسلم أنّ النّبيّ قال لأبي ذرٍّ: «إنّي أراك ضعيفاً، وإنّي أحبّ لك ما أحبّ لنفسي، فلا تأَمَّرَنّ على اثنين، ولا تَوَلَّينّ مالَ يتيمٍ». وفي ردّ المحتار: أنّه لا ينبغي للوصيّ أن يقبل الوصاية، لأنّها على خطرٍ، وعن أبي يوسف: الدّخول فيها أوّل مرّةٍ غلط، والثّانية خيانة، والثّالثة سرقة. وعن الحسن: لا يقدر الوصيّ أن يعدل ولو كان عمر بن الخطّاب. وقال أبو مطيعٍ: ما رأيت في مدّة قضائي عشرين سنةً من يعدل في مال ابن أخيه.
8 - الإيصاء ليس تصرّفاً لازماً في حقّ الموصي باتّفاق الفقهاء، فله الرّجوع عنه متى شاء، أمّا في حقّ الوصيّ، فإنّ عقد الإيصاء لا يكون لازماً في حياة الموصي باتّفاق الفقهاء، فله الرّجوع عنه متى شاء، فإذا رجع كان رجوعه عزلاً لنفسه عن الإيصاء. إلاّ أنّ الحنفيّة قيّدوا صحّة هذا الرّجوع بعلم الموصي، ليتمكّن من الإيصاء إلى غيره إذا شاء، فإن رجع عن الوصيّة بغير علم الموصي فلا يصحّ رجوعه حتّى لا يصير مغروراً من جهته. وقيّد الشّافعيّة جواز رجوع الوصيّ عن الوصاية إذا كان الإيصاء واجباً على الموصي بألاّ يتعيّن الوصيّ، أو يغلب على ظنّه تلف المال الموصى برعايته، باستيلاء ظالمٍ عليه من قاصدٍ وغيره، فإن تعيّن الوصيّ، أو غلب على ظنّه تلف المال فليس له الرّجوع عن الوصيّة. أمّا بعد موت الموصي، فليس للوصيّ عزل نفسه عند الحنفيّة والمالكيّة، وهو رواية عن أحمد، ذكرها ابن موسى في الإرشاد، لأنّ الوصيّ لمّا قبل الوصيّة في حياة الموصي فقد جعله يعتمد عليه فيما أوصى به إليه، فإذا رجع عن الوصيّة بعد موته كان تغريراً به، وهو لا يجوز. وقال الشّافعيّة والحنابلة: للوصيّ عزل نفسه بعد موت الموصي، لأنّ الوصاية كالوكالة من حيث إنّ كلّاً منهما تصرّف بالإذن، والوكيل له عزل نفسه متى شاء، فكذلك الوصيّ. وقد استثنى الشّافعيّة من ذلك ما إذا وجب الإيصاء وتعيّن القبول على الوصيّ، فلا يجوز له الرّجوع عن الوصيّة.
9 - تولية الوصيّ تختلف تبعاً لاختلاف ما يتعلّق الإيصاء به، فإن كان الإيصاء بتصرّفٍ معيّنٍ، كقضاء الدّيون واقتضائها، وردّ الودائع واستردادها، وتنفيذ الوصايا ونحو ذلك، فالّذي يكون له تولية الوصيّ هو صاحب الشّأن في ذلك التّصرّف، لأنّ من له ولاية على تصرّفٍ من التّصرّفات، كان له أن ينيب عنه غيره فيه للقيام به في حال حياته بطريق الوكالة، وبعد وفاته بطريق الوصيّة، أمّا إن كان الإيصاء برعاية الأولاد الصّغار ومن في حكمهم، كالمجانين والمعتوهين، والنّظر في أموالهم بحفظها والتّصرّف فيها بما ينفعهم، فلا خلاف بين الفقهاء في أنّ تولية الوصيّ تكون للأب، لأنّ للأب - عندهم جميعاً - الولاية على أولاده الصّغار ومن في حكمهم في حال حياته، فيكون له الحقّ في إقامة خليفةٍ عنه في الولاية عليهم بعد وفاته. ومثل الأب في هذا الحكم الجدّ عند الحنفيّة والشّافعيّة، فله حقّ تولية الوصيّ، لأنّ الجدّ له عندهم الولاية على أولاد أولاده وإن نزلوا، فيكون له حقّ الإيصاء عليهم لمن شاء بعد موته كالأب. وقال المالكيّة والحنابلة: ليس للجدّ حقّ تولية وصيٍّ عنه على أولاد أولاده، لأنّ الجدّ لا ولاية له عندهم على أموال هؤلاء الأولاد، لأنّه لا يدلي إليهم بنفسه، وإنّما يدلي إليهم بالأب، فكان كالأخ والعمّ، ولا ولاية لأحدهما على مال أولاد أخيه، فكذلك الجدّ لا ولاية له على مال أولاد أولاده. ولوصيّ الأب حقّ الإيصاء بعده لمن شاء عند الحنفيّة، لأنّ الأب أقامه مقام نفسه، فكان له الإيصاء كالأب، ويوافق الحنفيّة في ذلك المالكيّة، إلاّ أنّهم قيّدوا حقّ الوصيّ في الإيصاء لغيره بما إذا لم يمنعه الأب من الإيصاء إلى غيره، فإن منعه من الإيصاء إلى غيره، كأن قال له: أوصيتك على أولادي، وليس لك أن توصي عليهم، فلا يجوز له الإيصاء. وقال الحنابلة والشّافعيّة في الأظهر: ليس للوصيّ حقّ الإيصاء إلى غيره، إلاّ إذا جعل له الإيصاء إلى غيره، لأنّ الوصيّ يتصرّف بطريق النّيابة عن الموصي، فلم يكن له التّفويض إلى غيره، إلاّ إذا أذن له في ذلك، كالوكيل، فإنّه لا يجوز له توكيل غيره فيما وكّل فيه، إلاّ إذا أذن له الموكّل، فكذلك الوصيّ. وللقاضي إذا لم يوص الأب والجدّ أو وصيّهما لأحدٍ أن يعيّن وصيّاً من قبله باتّفاق الفقهاء، لأنّه وليّ من لا وليّ له، كما جاء في الحديث الصّحيح «السّلطان وليّ من لا وليّ له». والقاضي لا يلي أمور القاصرين بنفسه، ولكنّه يكل أمورهم إلى من يعيّنهم من الأوصياء. أمّا الأمّ فليس لها تولية الوصيّ على أولادها عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة لأنّه لا ولاية لها على أولادها في حال حياتها، فلا يكون لها حقّ إقامة خليفةٍ عنها في حال وفاتها. وقال المالكيّة: للأمّ الحقّ في الإيصاء على أولادها، إذا توافرت هذه الشّروط الثّلاثة: - 1 - أن يكون مال الأولاد موروثاً عن الأمّ، فإن كان غير موروثٍ عنها، فليس لها الإيصاء فيه. - 2 - أن يكون المال الموروث عنها قليلاً، فإن كان كثيراً فلا يكون لها الإيصاء عليه، والمعوّل عليه في اعتبار المال قليلاً أو كثيراً هو العرف، فما اعتبر في عرف النّاس كثيراً كان كثيراً، وما اعتبر في عرفهم قليلاً كان قليلاً. - 3 - ألاّ يكون للأولاد أب، أو وصيّ من الأب أو القاضي، فإن وجد واحد من هؤلاء فليس للأمّ حقّ الإيصاء عليهم.
10 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ الوصاية تكون على الصّغار ومن في حكمهم، وهم المجانين والمعتوهون من الجنسين، لأنّهم يحتاجون إلى من يرعى شؤونهم في التّعليم والتّأديب والتّزويج إن احتاجوا إليه، وإذا كان لهم مال احتاجوا إلى من يقوم بحفظه وصيانته واستثماره.
11 - اشترط الفقهاء في الموصى إليه شروطاً لا يصحّ الإيصاء إلاّ بتوافرها، وهذه الشّروط بعضها اتّفق الفقهاء على اشتراطها، وبعضها اختلفوا في اشتراطه. أمّا الشّروط الّتي اتّفقوا على اشتراطها فهي: - 1 - العقل والتّمييز، وعلى هذا لا يصحّ الإيصاء إلى المجنون والمعتوه والصّبيّ غير المميّز، لأنّه لا ولاية لأحدٍ من هؤلاء على نفسه وماله، فلا يكون له التّصرّف في شئون غيره بالطّريق الأولى. - 2 - الإسلام، إذا كان الموصى عليه مسلماً، لأنّ الوصاية ولاية، ولا ولاية لغير المسلم على المسلم، لقول اللّه تبارك وتعالى: {ولنْ يجعلَ اللّهُ للكافرين على المؤمنين سبيلاً} وقوله سبحانه {والمؤمنونَ والمؤمناتُ بعضُهم أولياءُ بعضٍ} ولأنّ الاتّفاق في الدّين باعث على العناية وشدّة الرّعاية بالموافق فيه، كما أنّ الاختلاف في الدّين باعث في الغالب على ترك العناية بمصالح المخالف فيه. - 3 - قدرة الموصى إليه على القيام بما أوصي إليه فيه، وحسن التّصرّف فيه، فإن كان عاجزاً عن القيام بذلك، لمرضٍ أو كبر سنٍّ أو نحو ذلك، فلا يصحّ الإيصاء إليه، لأنّه لا مصلحة ترجى من الإيصاء إلى من كان هذا حاله. وأمّا الشّروط الّتي اختلفوا فيها فهي: - 1 - البلوغ، فهو شرط في الموصى إليه عند المالكيّة والشّافعيّة وهو الصّحيح عند الحنابلة، فلا يصحّ الإيصاء إلى الصّبيّ المميّز، لأنّ غير البالغ لا ولاية له على نفسه ولا على ماله، فلا تكون له الولاية على غيره وماله، كالصّبيّ غير المميّز والمجنون. وقال الحنفيّة: بلوغ الموصى إليه ليس شرطاً في صحّة الإيصاء إليه، بل الشّرط عندهم هو التّمييز، وعلى هذا: لو أوصى الأب أو الجدّ إلى الصّبيّ العاقل كان الإيصاء صحيحاً عندهم، وللقاضي أن يخرجه من الوصاية، ويعيّن وصيّاً آخر بدلاً منه، لأنّ الصّبيّ لا يهتدي إلى التّصرّف، ولو تصرّف قبل الإخراج، قيل ينفذ تصرّفه، وقيل لا ينفذ تصرّفه، وهو الصّحيح، لأنّه لا يمكن إلزامه بالعهدة فيه. وخرّج القاضي وجهاً في مذهب أحمد بصحّة الوصيّة إلى الصّبيّ العاقل، لأنّ أحمد قد نصّ على صحّة وكالته، وعلى هذا يعتبر أن يكون قد جاوز العشر. - 2 - العدالة، والمراد بها: الاستقامة في الدّين، وتتحقّق بأداء الواجبات الدّينيّة، وعدم ارتكاب كبيرةٍ من الكبائر، كالزّنى وشرب الخمر وما أشبه ذلك، فقد ذهب الشّافعيّة، وهو رواية عن الإمام أحمد إلى أنّ الوصيّة إلى غير العدل - وهو الفاسق - لا تصحّ، لأنّ الوصاية ولاية وائتمان، ولا ولاية ولا ائتمان لفاسقٍ. وقال الحنفيّة: العدالة ليست بشرطٍ في الموصى إليه، فيصحّ عندهم الإيصاء للفاسق متى كان يحسن التّصرّف، ولا يخشى منه الخيانة. ويوافق الحنفيّة في ذلك المالكيّة، حيث إنّهم قالوا: المراد بالعدالة الّتي هي شرط في الوصيّ: الأمانة والرّضى فيما يشرع فيه ويفعله، بأن يكون حسن التّصرّف، حافظاً لمال الصّبيّ، ويتصرّف فيه بالمصلحة. وقد روي عن أحمد ما يدلّ على أنّ الوصيّة إلى الفاسق صحيحة، فإنّه قال في رواية ابن منصورٍ: إذا كان (يعني الوصيّ) متّهماً لم تخرج من يده. وهذا يدلّ على صحّة الوصيّة إليه، ويضمّ الحاكم إليه أميناً. أمّا الذّكورة فإنّها ليست بشرطٍ في الوصيّ، فيصحّ الإيصاء إلى المرأة باتّفاق الفقهاء، وقد روي أنّ عمر رضي الله تعالى عنه أوصى إلى ابنته حفصة، ولأنّ المرأة من أهل الشّهادة كالرّجل، فتكون أهلاً للوصاية مثله.
12 - اختلف الفقهاء في الوقت المعتبر لتوافر الشّروط المطلوبة في الموصى إليه، فذهب الشّافعيّة في الأصحّ عندهم، وهو أحد وجهين عند الحنابلة إلى أنّ الوقت المعتبر لتحقّق الشّروط في الموصى إليه أو عدم تحقّقها هو وقت وفاة الموصي، لأنّ هذا الوقت هو وقت اعتبار القبول وتنفيذ الإيصاء، فيكون هو المعتبر دون غيره، وعلى هذا لو انتفت الشّروط كلّها أو بعضها عند الإيصاء، ثمّ وجدت عند الموت، صحّ الإيصاء، ولو تحقّقت الشّروط كلّها عند الإيصاء، ثمّ انتفت أو انتفى بعضها عند الموت، فلا يصحّ الإيصاء. وهذا الرّأي أيضاً هو رأي الحنفيّة والمالكيّة، وإن لم نجده منصوصاً عليه في كتبهم الّتي رجعنا إليها، وذلك بناءً على ما قالوه في اشتراط ألاّ يكون الموصى له بالمال وارثاً للموصي، فإنّهم نصّوا على أنّ الوقت المعتبر لتحقّق هذا الشّرط أو عدم تحقّقه هو وقت وفاة الموصي، لا وقت الوصيّة، وهذا يدلّ دلالةً واضحةً على أنّ وقت الموت هو أيضاً المعتبر عندهم في الشّروط الواجب توافرها في الوصيّ إليه لصحّة الإيصاء. وفي الوجه الثّاني عند الحنابلة، ومقابل الأصحّ عند الشّافعيّة، الوقت المعتبر لتحقّق هذه الشّروط أو عدم تحقّقها هو وقت الإيصاء ووقت وفاة الموصي جميعاً، أمّا وجه اعتبار وجودها عند الإيصاء فلأنّها شروط لصحّة عقد الإيصاء، فاعتبر وجودها حال وجوده، كسائر العقود. وأمّا وجه اعتبار وجودها عند الموت، فلأنّ الموصى إليه إنّما يتصرّف بعد موت الموصي، فاعتبر وجودها عنده، كالإيصاء له بشيءٍ من المال.
13 - سلطة الوصيّ إنّما تكون على حسب الإيصاء عموماً وخصوصاً، فإن كان الإيصاء خاصّاً بشيءٍ، كقضاء الدّيون أو اقتضائها، أو ردّ الودائع أو استردادها، أو النّظر في أمر الأطفال ومن في حكمهم، كانت سلطة الوصيّ مقصورةً على ما أوصي إليه فيه، لا تتعدّاه إلى غيره. وإن كان الإيصاء عامّاً، كأن قال الموصي: أوصيت إلى فلانٍ في كلّ أموري، كانت سلطة الوصيّ شاملةً لجميع التّصرّفات، كقضاء الدّيون واقتضائها، وردّ الودائع واستردادها، وحفظ أموال الصّغار والتّصرّف فيها، وتزويج من احتاج إلى الزّواج من أولاده. وهذا عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وأبي يوسف ومحمّدٍ من الحنفيّة، لأنّ الوصيّ يتصرّف بالإذن من الموصي كالوكيل. فإن كان الإذن خاصّاً كانت سلطته مقصورةً على ما أذن فيه، وإن كان الإذن عامّاً كانت سلطته عامّةً، وقد استثنى الشّافعيّة من ذلك تزويج الصّغير والصّغيرة، فقالوا: لا يصحّ الإيصاء بتزويجهما، لأنّ الصّغير والصّغيرة لا يزوّجهما إلاّ الأب أو الجدّ، ولأنّ الوصيّ لا يتعيّر بدخول الدّنيّ في نسبهم. وقال أبو حنيفة، وهو المفتى به في المذهب: إنّ الإيصاء الصّادر من الأب يكون عامّاً، ولا يقبل التّخصيص بنوعٍ أو مكان أو زمانٍ، لأنّ الوصيّ قائم مقام الأب، وولاية الأب عامّة، فكذلك من يقوم مقامه، ولأنّه لولا ذلك لاحتجنا إلى تعيين وصيٍّ آخر، والموصي قد اختار هذا وصيّاً في بعض أموره، فجعله وصيّاً في الكلّ أولى من غيره، لأنّه رضي بتصرّف هذا في البعض، ولم يرض بتصرّف غيره في شيءٍ أصلاً، وعلى هذا: لو أوصى الأب إلى رجلٍ بتفريق ثلث ماله في وجوه الخير مثلاً، صار وصيّاً عامّاً على أولاده وتركته، ولو أوصى إلى رجلٍ بقضاء دينه، وإلى آخر بتنفيذ وصيّتة، كانا وصيّين في كلّ شيءٍ عند أبي حنيفة.
14 - القاعدة العامّة في عقود الوصيّ وتصرّفاته: أنّ الوصيّ مقيّد في تصرّفه بالنّظر والمصلحة لمن في وصايته، وعلى هذا لا يكون للوصيّ سلطة مباشرة التّصرّفات الضّارّة ضرراً محضاً كالهبة، أو التّصدّق، أو البيع والشّراء بغبنٍ فاحشٍ، فإذا باشر الوصيّ تصرّفاً من هذه التّصرّفات كان تصرّفه باطلاً، لا يقبل الإجازة من أحدٍ، ويكون له سلطة مباشرة التّصرّفات النّافعة نفعاً محضاً، كقبول الهبة والصّدقة والوصيّة والوقف، والكفالة للمال. ومثل هذا: التّصرّفات الدّائرة بين النّفع والضّرر كالبيع والشّراء والإجارة والاستئجار والقسمة والشّركة، فإنّ للوصيّ أن يباشرها، إلاّ إذا ترتّب عليها ضرر ظاهر، فإنّها لا تكون صحيحةً. هذا مجمل القول في عقود الوصيّ وتصرّفاته، أمّا تفصيل القول فيها فهو كما يأتي: أ - يجوز للوصيّ أن يبيع من أموال من في وصايته، وأن يشتري لهم، ما دام البيع أو الشّراء بمثل القيمة أو بغبنٍ يسيرٍ، وهو ما يتغابن فيه النّاس عادةً، لأنّ الغبن اليسير لا بدّ من حصوله في المعاملات الماليّة، فإذا لم يتسامح فيه أدّى ذلك إلى سدّ باب التّصرّفات. أمّا إذا كان البيع أو الشّراء بغبنٍ فاحشٍ، وهو ما لا يتغابن فيه النّاس عادةً، فإنّ العقد لا يكون صحيحاً. وهذا إذا كان المبيع منقولاً، أمّا إن كان عقاراً فلا يجوز للوصيّ أن يبيعه، إلاّ إذا كان هناك مسوّغ شرعيّ، لأنّ العقار محفوظ بنفسه، فلا حاجة إلى بيعه إلاّ إذا وجد مسوّغ شرعيّ، كأن يكون بيع العقار خيراً من بقائه، وذلك في الحالات الآتية: - 1 - أن يرغب شخص في شراء العقار بضعف قيمته أو أكثر، فإنّ الوصيّ في هذه الحالة، يستطيع أن يشتري بالثّمن عقاراً أنفع من الّذي باعه. - 2 - أن تكون ضريبة العقار وما يصرف عليه للصّيانة أو الزّراعة تزيد على غلّاته. - 3 - أن يكون الصّغار ومن في حكمهم في حاجةٍ إلى النّفقة، ولا سبيل إلى تدبير ذلك إلاّ ببيع العقار المملوك لهم، فيسوغ للوصيّ أن يبيع منه قدر ما يكفي للإنفاق عليهم. ومثل ذلك بيع وصيّ الأب أو الجدّ مال نفسه للموصى عليهم، أو شراء مال نفسه لهم، فإنّه لا يجوز إلاّ إذا كان في البيع والشّراء منفعة ظاهرة للموصى عليهم، كأن يبيع العقار لهم بنصف القيمة، ويشتريه منهم بضعف قيمته، وفي غير العقار: أن يبيع لهم ما يساوي خمسة عشر بعشرةٍ، ويشتري ما يساوي عشرةً بخمسة عشر، وهذا على القول المفتى به في مذهب الحنفيّة، وهو رأي الإمام أبي حنيفة. وقال الأئمّة الثّلاثة، ومحمّد، وأبو يوسف في أظهر الرّوايتين عنه: لا يجوز للوصيّ أن يبيع أو يشتري شيئاً من مال الموصى عليهم مطلقاً، وذلك لعدم وفور شفقته، ممّا يجعله يؤثر مصلحة نفسه على مصلحة من في وصايته، ولأنّه متّهم في هذا التّصرّف. ونصّ المالكيّة على أنّ الوصيّ إذا اشترى لنفسه شيئاً من مال الموصى عليهم، نظر الحاكم فيه، فإن وجد في شرائه مصلحةً، بأن اشترى المبيع بقيمته أمضاه، وإن لم يجد فيه مصلحةً ردّه. وللوصيّ اقتضاء الدّين ممّن هو عليه، وله تأخير اقتضاء الدّين الحالّ إن كان في تأخيره مصلحة. ب - وله أن يدفع مال من في وصايته لمن يستثمره استثماراً شرعيّاً، كالمضاربة والمشاركة وغيرهما من كلّ ما لهم فيه خير ومنفعة. كما أنّ له أن يقوم بالاتّجار فيه بنفسه، في نظير جزءٍ من الرّبح عند الحنفيّة. وقال المالكيّة: يكره للوصيّ استثمار مال من في وصايته بجزءٍ من الرّبح، لئلاّ يحابي نفسه، فإن استثمره مجّاناً فلا يكره، بل هو من المعروف الّذي يقصد به وجه اللّه. وقال الحنابلة: متى اتّجر الوصيّ في المال بنفسه، فالرّبح كلّه لليتيم على الصّحيح. واستثمار مال الصّغار ومن في حكمهم واجب على الوصيّ عند الشّافعيّة، لقول عمر رضي الله تعالى عنه:" ابتغوا في أموال اليتامى، لا تأكلها الصّدقة " ومندوب أو مستحبّ عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة، لأنّ فيه خيراً ونفعاً لأصحاب المال، والشّرع يحثّ على فعل ما فيه الخير للنّاس، ولم يوجد ما يدلّ على الوجوب، والأمر بالاتّجار في قول عمر محمول على النّدب، كما قال ابن رشدٍ. ج - وللوصيّ الإنفاق على الصّغار ومن في حكمهم بحسب قلّة المال وكثرته بالمعروف، فلا يضيق على صاحب المال الكثير دون نفقة مثله، ولا يوسّع على صاحب المال القليل بأكثر من نفقة مثله. وله أن يدفع ما يحتاجون إليه من النّفقة إليهم أو إلى من يكونون في حضانته لمدّة شهرٍ، إذا علم أنّهم لا يتلفونه، فإن خاف إتلافه دفع إليهم ما يحتاجونه يوماً فيوماً. ونصّ الحنفيّة على أنّ الوصيّ لا يضمن ما أنفقه في المصاهرات بين اليتيم واليتيمة وغيرهما في خلع الخاطب أو الخطيبة، وفي الضّيافات المعتادة، والهدايا المعهودة، وفي الأعياد - وإن كان له منه بدّ - وفي اتّخاذ ضيافةٍ لختنه للأقارب والجيران، ما لم يسرف فيه، وكذا لمؤدّبه، ومن عنده من الصّبيان، فإن أسرف كان ضامناً لما أسرف فيه. كما نصّوا على أنّ للوصيّ أن ينفق على اليتيم ما يحتاج إليه في تعليم القرآن والأدب، إن كان أهلاً لذلك، وصار الوصيّ مأجوراً على تصرّفه، فإن لم يكن أهلاً لهذا التّعلّم فعليه أن يتكلّف في تعليمه قدر ما يقرأ في صلاته. وفي المغني: يجوز للوصيّ أن يلحق الصّبيّ بالمكتب ليتعلّم القراءة والكتابة، ولا يحتاج إلى إذن حاكمٍ، وكذلك يجوز له أن يسلّمه في صناعةٍ، إذا كانت مصلحته في ذلك. د - وللوصيّ أن يحتال بدين من في وصايته إذا كان المحال عليه أملأ من المدين الأصليّ، فإن كان أعسر منه لم يجز، لأنّ ولايته مقيّدة بالنّظر، وليس من النّظر قبول الحوالة على الأعسر. هـ - ولا يجوز للوصيّ باتّفاق الفقهاء أن يهب شيئاً من مال الصّغير ومن في حكمه، ولا أن يتصدّق، ولا أن يوصي بشيءٍ منه، لأنّها من التّصرّفات الضّارّة ضرراً محضاً، فلا يملكها الوصيّ، ولا الوليّ ولو كان أباً. و - وكذلك لا يجوز له أن يقرض مال الصّغير ونحوه لغيره، ولا أن يقترضه لنفسه، لما في إقراضه من تعطيل المال عن الاستثمار، والوصيّ مأمور بتنميته بقدر الإمكان. وهذا عند الحنفيّة والمالكيّة. وقال الشّافعيّة: لا يجوز الإقراض بلا ضرورةٍ إلاّ بإذن القاضي. وقيّد الحنابلة عدم جواز الإقراض بما إذا لم يكن فيه حظّ لليتيم، فمتى أمكن الوصيّ التّجارة به أو تحصيل عقارٍ له فيه الحظّ لم يقرضه، وإن لم يمكن ذلك وكان في إقراضه حظّ لليتيم جاز، كأن يكون لليتيم مال مثلاً يريد نقله إلى بلدٍ آخر، فيقرضه لرجلٍ ليقضيه بدله في البلد الآخر، يقصد حفظه من الغرر في نقله، أو يخاف عليه الهلاك من نهبٍ أو غرقٍ أو نحوهما، أو يكون ممّا يتلف بتطاول مدّته، أو يكون حديثه خيراً من قديمه كالحنطة. فإن لم يكن فيه حظّ، وإنّما قصد إرفاق المقترض وقضاء حاجته، فهذا غير جائزٍ.
15 - النّاظر على الوصيّ هو الشّخص الّذي يعيّنه الموصي أو القاضي لمراقبة أعمال الوصيّ وتصرّفاته المتعلّقة بالوصاية، دون أن يشترك معه في إجرائها، وذلك لضمان قيام الوصيّ بعمله على الوجه الأكمل. وتسميته بهذا الاسم اصطلاح الحنفيّة والمالكيّة، ويسمّيه المالكيّة أيضاً والشّافعيّة: مشرفاً، أمّا الحنابلة فيسمّونه: أميناً. ومهمّة المشرف أن يراقب الوصيّ في إدارة مال الصّغار ومن في حكمهم، وتصرّفاته فيه. وعلى الوصيّ أن يجيب المشرف إلى كلّ ما يطلبه من إيضاحٍ عن إدارته وتصرّفاته، كي يتمكّن من القيام بمهمّته الّتي عيّن من أجلها، وليس للمشرف حقّ الاشتراك في الإدارة ولا الانفراد بالتّصرّف، وإذا خلا مكان الوصيّ كان عليه أن يرعى مال الصّغير ويحفظه إلى أن يعيّن وصيّ جديد.
16 - الإيصاء قد يكون لواحدٍ، وقد يكون لأكثر من واحدٍ. فإذا كان الإيصاء لأكثر من واحدٍ وصدر الإيصاء في عقدٍ واحدٍ، بأن قال الموصي: أوصيت إلى فلانٍ وفلانٍ، وقبل كلّ منهما الوصاية صار وصيّاً، وكذلك إذا حصل الإيصاء إلى كلٍّ منهما بعقدٍ على حدةٍ، بأن أوصى إلى رجلٍ، ثمّ أوصى إلى رجلٍ آخر، فإنّهما يكونان وصيّين، إلاّ إذا قال الموصي: أخرجت الأوّل أو عزلته، أمّا إذا وجدت الوصيّة إليهما بعقدين من غير عزل واحدٍ منهما، فإنّهما يكونان وصيّين، كما لو أوصى إليهما دفعةً واحدةً. فإذا تعدّد الأوصياء، وحدّد الموصي لكلّ واحدٍ اختصاصه، بأن عهد إلى أحد الأوصياء القيام بشئون الأراضي، وإلى آخر بشئون المتجر، أو المصنع، وإلى ثالثٍ بالنّظر في أمر أطفاله، وفي هذه الحالة يكون لكلٍّ منهم ما جعل إليه دون غيره. وكذلك لو أوصى إلى وصيّين في شيءٍ واحدٍ، وجعل لكلّ واحدٍ منهما التّصرّف منفرداً، بأن يقول: أوصيت إلى كلّ واحدٍ منكما بالنّظر في أمر أطفالي، ولكلٍّ منكما أن ينفرد بالتّصرّف، كان لكلّ وصيٍّ أن ينفرد بالتّصرّف، لأنّ الموصي جعل كلّ واحدٍ منهما وصيّاً منفرداً، وهذا يقتضي صحّة تصرّفه على الانفراد. أمّا لو أوصى إلى وصيّين ليتصرّفا مجتمعين، فليس لواحدٍ منهما الانفراد بالتّصرّف، فلو تصرّف أحدهما بدون الآخر أو توكيلٍ منه كان له ردّ تصرّفه، لأنّ الموصي لم يجعل ذلك إليه، ولم يرض بنظره وحده، وهذا لا خلاف فيه بين الفقهاء إلاّ في الصّورة الأولى، وهي ما إذا خصّص لكلّ وصيٍّ عملاً، فإنّ أبا حنيفة يقول: إنّ الوصاية لا تتخصّص بالتّخصيص من الموصي، بل يكون الوصيّ وصيّاً فيما يملكه الموصي، كما تقدّم في الكلام على سلطة الوصيّ. وإذا تعدد الأوصياء، وكان الإيصاء مطلقاً عن التّخصيص أو التّقييد بالانفراد أو الاجتماع، بأن قال: أوصيت إليكما بالنّظر في شئون أطفالي مثلاً، فللفقهاء في ذلك ثلاثة آراءٍ. فأبو حنيفة ومحمّد يقولان: ليس لأحد الوصيّين الانفراد بالتّصرّف، إلاّ أنّهما استثنيا من ذلك بعض التّصرّفات، فأجازا لكلّ واحدٍ الانفراد بها للضّرورة، لأنّها تصرّفات عاجلة لا تحتمل التّأخير، أو لأنّها لازمة لحفظ المال، أو لأنّ اجتماع الرّأي فيها متعذّر، كتجهيز الميّت وقضاء دينه، وردّ المغصوب المعيّن، وردّ الوديعة وتنفيذ الوصيّة المعينتين، وشراء ما لا بدّ للصّغير منه كالطّعام والكسوة، وقبول الهبة له، والخصومة عن الميّت فيما يدعى له أو عليه، ونحو ذلك ممّا يشقّ الاجتماع عليه، أو يضرّ تأخيره. ومذهب الشّافعيّة قريب ممّا ذهب إليه أبو حنيفة ومحمّد، فإنّهم قالوا: إذا أوصى إلى اثنين ولم يجعل لكلٍّ منهما الانفراد بالتّصرّف لم ينفرد أحدهما بالتّصرّف، بل لا بدّ من اجتماعهما فيه، وهذا في أمر الأطفال وأموالهم، وتفرقة الوصايا غير المعيّنة، وقضاء دينٍ ليس في التّركة جنسه. وأمّا ردّ الأعيان المستحقّة كالمغصوب والودائع والأعيان الموصى بها وقضاء دينٍ في التّركة جنسه، فلأحدهما الاستقلال به. وحجّة أصحاب هذا الرّأي أنّ الوصاية إنّما تثبت بالتّفويض من الموصي، فيراعى وصف هذا التّفويض، وهو الاجتماع، لأنّه وصف مفيد، إذ رأي الواحد لا يكون كرأي الاثنين، والموصي ما رضي إلاّ برأيهما، بدليل اختياره لأكثر من واحدٍ، فإنّه يدلّ دلالةً ظاهرةً على أنّ الغرض من ذلك اجتماع رأيهما واشتراكهما في التّصرّفات، حتّى تكون أصلح وأنفع من التّصرّفات الّتي ينفرد بها وصيّ واحد، وإنّما جاز انفراد أحدهما في التّصرّفات المستثناة لأنّها ضروريّات، والضّروريّات مستثناة دائماً. ويرى المالكيّة والحنابلة: أنّه ليس لأحدٍ الوصيّين الانفراد بالتّصرّف، وهذا في جميع الأشياء، فإن تعذّر اجتماعهما فالحاكم - كما نصّ على ذلك الحنابلة - يقيم أميناً مقام الغائب. وحجّتهم في ذلك: أنّ الموصي قد شرّك بين الوصيّين في النّظر، فلم يكن لأحدهما الانفراد في التّصرّف، كالوكيلين، فإنّه ليس لأحدهما أن يتصرّف بدون الآخر، فكذلك الوصيّان. وقال أبو يوسف: لكلٍّ من الوصيّين أن ينفرد بالتّصرّف في جميع الأشياء، وحجّته في ذلك: أنّ الوصاية من قبيل الولاية، وهي وصف شرعيّ لا يتجزّأ، فتثبت لكلٍّ من الوصيّين على وجه الكمال، كولاية الإنكاح إلى الأخوين، فإنّها تثبت لكلٍّ منهما على وجه الكمال، فكذلك الوصاية تثبت لكلٍّ من الوصيّين على وجه الكمال، لأنّ كلّاً منهما ولاية. ولو مات أحد الوصيّين اللّذين لم يجعل لكلٍّ منهما التّصرّف منفرداً جعل القاضي مكانه آخراً، وهذا عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة، لأنّ الوصيّ لمّا أوصى إلى الاثنين لم يرض بنظر الباقي منهما وحده. وقال المالكيّة: لو مات أحد الوصيّين، ولم يوص قبل موته إلى صاحبه أو إلى غيره، كان للحاكم أن ينظر فيما فيه الأصلح، فإن رأى الأصلح في إبقاء الحيّ منهما وصيّاً وحده لم يجعل معه وصيّاً آخر، وإن رأى الأصلح في جعل غيره وصيّاً معه جعل معه غيره.
17 - يجوز للوصيّ أن يأخذ أجراً على نظره وعمله، لأنّ الوصيّ كالوكيل، والوكيل يجوز له أخذ الأجر على عمله، فكذلك الوصيّ، بهذا قال الحنابلة، وبه أيضاً قال المالكيّة، فإنّهم نصّوا على أنّ الوصيّ إذا طلب أجرةً على نظره في مال اليتيم، فعلى القاضي أن يفرض له أجرةً على نظره بقدر شغله في مال اليتيم وشراء نفقته. فإن تورّع عن ذلك فهو خير له. كما نصّوا على أنّ للقاضي أن يفرض للوصيّ أجرةً على نظره إذا كان ذلك سداداً للأيتام. وقال الشّافعيّة: إذا كان النّاظر في أمر الطّفل أجنبيّاً، فله أن يأخذ من مال الطّفل قدر أجرة عمله، فإن أخذ أكثر من ذلك ضمن ما أخذه، ولو لكفايته، وإن كان أباً أو جدّاً، أو أمّاً - بحكم الوصيّة لها - فلا يأخذ من ماله شيئاً إن كان غنيّاً، فإن كان فقيراً فنفقته على الطّفل، وله أن ينفق على نفسه من ماله بالمعروف، ولا يحتاج إلى إذن حاكمٍ. أمّا الحنفيّة فالصّحيح عندهم أنّ الوصيّ إن كان وصيّ الميّت فليس له أجر على وصيّته، وإن كان وصيّ القاضي، فللقاضي أن يجعل له أجر المثل على وصيّته. ومع هذا فقد أجازوا للوصيّ أن يأكل من مال اليتيم إذا كان محتاجاً، ويركب دابّته إذا ذهب في حاجته، لقول اللّه تعالى: {ومن كانَ فقيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف}، ولما روي أنّ رجلاً جاء إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: «إنّ عندي يتيماً عنده مال، وليس لي مال، آكل من ماله؟ قال: كُلْ بالمعروف غيرَ مُسْرِفٍ».
18 - تنتهي الوصاية بأحد الأمور الآتية: - 1 - موت الوصيّ، أو فقده لشرطٍ من الشّروط المعتبرة فيه، فإن مات الوصيّ، أو فقد شرطاً من الشّروط الواجب توافرها لصحّة الإيصاء، كالإسلام والعقل وغيرهما انتهت وصايته باتّفاق الفقهاء، لأنّ هذه الشّروط كما تعتبر في الابتداء تعتبر في الدّوام والبقاء. - 2 - انتهاء مدّة الوصاية، فإذا أقّتت الوصاية بمدّةٍ، كأن قال الموصي: أوصيت إلى فلانٍ لمدّة سنةٍ، أو قال: أوصيت إلى فلانٍ مدّة غياب ولدي فلانٍ، أو إلى أن يصير رشيداً، فإذا حضر أو رشد فهو وصيّي، فإنّ الإيصاء ينتهي إذا حضر ولده، أو صار رشيداً، لأنّ الإيصاء كالإمارة، والإمارة يصحّ توقيتها وتعليقها على الشّرط، فكذلك الإيصاء، ولأنّ الإيصاء مؤقّت شرعاً ببلوغ الأيتام أو إيناس الرّشد، فجاز أن يكون مؤقّتاً بالشّرط، وهذا لا خلاف فيه بين الفقهاء أيضاً. -3- عزل الوصيّ نفسه، فلو عزل الوصيّ نفسه بعد موت الموصي وقبول الإيصاء، انتهت وصايته، وهذا عند الشّافعيّة والحنابلة. أمّا عند الحنفيّة والمالكيّة، وهو رواية عن الإمام أحمد، فإنّ الوصيّ ليس له عزل نفسه عن الإيصاء بعد موت الموصي وقبوله إيّاه إلاّ لعذرٍ، وقد تقدّم الكلام عن ذلك في حكم الإيصاء. - 4 - انتهاء العمل الّذي عهد إلى الوصيّ القيام به، فإن كان هذا العمل هو قضاء الدّيون الّتي على الميّت، أو اقتضاء ديونه الّتي له على غيره، أو توزيع وصاياه على الموصى لهم بها، انتهت الوصاية بدفع الدّيون إلى أصحابها، أو بأخذها ممّن كانت عليهم، أو بإعطاء الوصايا لمن أوصى لهم بها. وإن كان هذا العمل هو النّظر في شئون الأولاد الصّغار وأموالهم، انتهت هذه الوصاية ببلوغ الصّغير عاقلاً رشيداً، بحيث يؤتمن في إدارة أمواله، والتّصرّف فيها، ولم يحدّد جمهور الفقهاء لهذا الرّشد سنّاً معيّنةً يحكم بزوال الوصاية عن القاصر متى بلغها، بل هو موكول إلى ظهوره بالفعل، وذلك عن طريق الاختبار والتّجربة، فإذا دلّت التّجربة على تحقّق الرّشد حكم برشده، وسلّمت إليه أمواله باتّفاق الفقهاء لقول اللّه تعالى: {وابْتَلُوا اليتامى حتّى إذا بَلَغُوا النّكاحَ فإنْ آنَسْتُم منهم رُشْداً فادْفَعُوا إليهم أموالَهم}. وإذا بلغ غير رشيدٍ وكان عاقلاً لا تكمل أهليّته، ولا ترتفع الولاية أو الوصاية عنه في ماله، بل تبقى أمواله تحت يد وليّه أو وصيّه حتّى يثبت رشده، وذلك لقول اللّه تعالى: {ولا تُؤْتُوا السّفهاءَ أموالَكم الّتي جَعَلَ اللّهُ لكم قياماً وارْزُقوهم فيها واكْسُوهم وقولوا لهم قولاً معروفاً وابْتَلوا اليتامى حتّى إذا بَلَغُوا النّكاحَ فإِن آنستم منهم رُشْداً فادفعوا إليهم أموالَهم}، فإنّه منع الأولياء والأوصياء من دفع المال إلى السّفهاء، وأناط دفع المال إليهم بحصول أمرين: البلوغ والرّشد. فلا يجوز أن يدفع إليهم بالبلوغ، مع عدم الرّشد، وليس في هذا النّصّ ولا في غيره تحديد للرّشد بسنٍّ معيّنةٍ، بل هو موكول إلى ظهوره بالفعل، وذلك عن طريق الاختبار والتّجربة، فإن دلّت على تحقّق الرّشد كملت أهليّته، وسلّمت إليه أمواله، وإلاّ بقيت الولاية عليه، وبقيت أمواله تحت يد وليّه أو وصيّه، كما كانت قبل البلوغ مهما طال الزّمن. وقال أبو حنيفة: إذا بلغ الصّغير غير رشيدٍ - وكان عاقلاً - كملت أهليّته، وارتفعت الولاية أو الوصاية عنه، إلاّ أنّه لا تسلّم إليه أمواله، بل تبقى في يد وليّه أو وصيّه حتّى يثبت رشده بالفعل، أو يبلغ خمساً وعشرين سنةً، فإذا بلغ هذه السّنّ سلّمت إليه أمواله، ولو كان مبذّراً لا يحسن التّصرّف، لأنّ منع المال عنه كان على سبيل الاحتياط والتّأديب، وليس على سبيل الحجر عليه، والإنسان بعد بلوغ هذه السّنّ، وصلاحيّته لأن يكون جدّاً، لا يكون أهلاً للتّأديب.
انظر: وفاء.
|