الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****
1 - سبق تعريف الخيار لغةً في مصطلح: " خيار " بوجه عامّ. أمّا لفظ " الرّؤية " من المركّب الإضافيّ " خيار الرّؤية " فهو مصدر لفعل رأى يرى ومعناه لغةً: النّظر بالعين وبالقلب. أمّا خيار الرّؤية اصطلاحاً: فهو حقّ يثبت به للمتملّك الفسخ، أو الإمضاء عند رؤية محلّ العقد المعيّن الّذي عقد عليه ولم يره، والإضافة في خيار الرّؤية من إضافة السّبب إلى المسبّب أي خيار سببه الرّؤية. وخيار الرّؤية يثبت بحكم الشّرع نظرًا للعاقد الّذي أقدم على شراء ما لم يره، فربّما لا يكون موافقاً له، فقد أباح له الشّارع ممارسة حقّ الخيار بين فسخه أو الاستمرار فيه، وهكذا لا يحتاج خيار الرّؤية إلى اشتراط عند جمهور القائلين به، إلاّ المالكيّة فهو عندهم خيار إراديّ يشترط في بيع الغائب أحياناً تصحيحاً له. وخيار الرّؤية - بالرّغم من سلكه في عداد خيارات الجهالة - هو من الخيارات الّتي يراد بها إتاحة المجال للعاقد ليتروّى وينظر هل المبيع صالح لحاجته أم لا؟
2 - القول بخيار الرّؤية إيجابًا أو نفيًا مرتبط كلّ الارتباط ببيع الشّيء الغائب صحّةً وفساداً. ومن الضّروريّ التّعجيل ببيان المراد بالغيبة في قولهم " العين الغائبة " فالمراد خصوص غيبتها عن البصر بحيث لم تجر رؤيتها عند العقد. سواء أكانت غائبةً أيضاً عن مجلس العقد أو حاضرةً فيه لكنّها مستورةً عن عين العاقد، فهي تسمّى غائبةً في كلتا الحالين، ويستوي في غيابها عن المجلس أن تكون في البلد نفسه أو في بلد آخر من حيث مفهوم الغيبة وإن اختلف الحكم أحياناً. فالغائب هنا هو غير المرئيّ، إمّا لعدم حضوره، وإمّا لانتفاء رؤيته بالرّغم من حضوره، فليس كلّ حاضر مرئيّاً، فقد يكون حاضراً غير مرئيّ.
3 - بيع الغائب مع الوصف صحيح عند الجمهور في الجملة وينظر التّفصيل في مصطلح: (بيع ف / 43 و 44، ج 9 / 23).
4 - اختلف الفقهاء في مشروعيّة خيار الرّؤية على ثلاثة أقوال: أ - إثبات خيار الرّؤية، بحكم الشّرع - دون حاجة إلى اتّفاق الإرادتين عليه - وتمكين العاقد بموجبه من الفسخ أو الإمضاء على سبيل التّروّي، ولو كان ما اشتراه موافقاً لما وصف له عند العقد. وهذا ما ذهب إليه الحنفيّة. ب - القول بخيار رؤية يشترطه المشتري في بيع ما لم يره ليصحّ عقده، وهو لا يثبت بحكم الشّرع بل هو إراديّ محض يجب على العاقد اشتراطه في بعض صور بيع الغائب وبدونه يفسد العقد، وهذا تحقيق ما ذهب إليه المالكيّة. ج - نفي خيار الرّؤية مطلقاً، وهو القول الجديد المعتبر في مذهب الشّافعيّة، وأشهر الرّوايتين في مذهب أحمد. أدلّة الحنفيّة ومن معهم: 5 - احتجّ الحنفيّة بقوله تعالى: {أَحَلَّ اللَّهُ البَيعَ}. وهذا على عمومه، فيشمل بيع العين الغائبة، ولا يخرج منه إلاّ بيع منعه كتاب أو سنّة أو إجماع. وبقوله صلى الله عليه وسلم: «من اشترى شيئاً لم يره فهو بالخيار إذا رآه». وقد جاء من رواية مكحول مرسلاً بلفظه وزيادة: «إن شاء أخذه، وإن شاء تركه». ومن الآثار المرويّة عن الصّحابة ما أخرجه الطّحاويّ عن علقمة بن وقّاص اللّيثيّ أنّ طلحة بن عبيد اللّه اشترى من عثمان بن عفّان مالاً، فقيل لعثمان: إنّك قد غبنت - وكان المال بالكوفة لم يره عثمان حين ملكه - فقال عثمان: لي الخيار لأنّي بعت ما لم أر. فقال طلحة: لي الخيار، لأنّي اشتريت ما لم أر، فحكّما بينهما جبير بن مطعم فقضى أنّ الخيار لطلحة ولا خيار لعثمان. واستدلّوا به من المعقول: بالقياس على النّكاح، فإنّه لا يشترط رؤية الزّوجين بالإجماع، والقياس على بيع ما له صواني كالرّمّان والجوز. دليل المانعين: 6 - ودليل من لم يقل بخيار الرّؤية أنّ بيع الغائب أصلاً لا يصحّ كما سبق. وأمّا المالكيّة فخيار الرّؤية عندهم هو أشبه بخيار الشّرط، لأنّه يجب على العاقد اشتراطه ليصحّ بيع الغائب.
7 - إنّ سبب ثبوت هذا الخيار هو عدم الرّؤية، كما يدلّ على ذلك الحديث، واسمه، وتعريفه، وقال آخرون: إنّ سببه هو الرّؤية نفسها، فالإضافة إلى الرّؤية هي من إضافة الشّيء إلى سببه " ويصحّ أن تكون من إضافة الشّيء إلى شرطه كما ذهب إليه بعض المصنّفين ". ولا ينبني على هذا الاختلاف كبير فائدة.
8 - المراد بالرّؤية في هذا المجال: العلم بالمقصود الأصليّ من محلّ العقد، سواء أكان ذلك العلم يحصل بالرّؤية البصريّة أو بأيّ حاسّة من الحواسّ، كاللّمس، والجسّ، أو الذّوق، أو الشّمّ، أو السّمع. فهو في كلّ شيء بحسبه. وفي رؤية ما سبيل العلم به الرّؤية لا يشترط رؤية جميعه، بل يكفي رؤية ما يدلّ على العلم بالمقصود، ويختلف ذلك بين كون المحلّ شيئاً واحداً،أو أشياء لا تتفاوت آحادها كالمثليّات. ففي الشّيء الواحد يعتبر رؤية ما يدلّ على العلم بالمقصود، وله أمثلة كثيرة في كتب الفقه.
9 - المحلّ المعقود عليه إمّا مثليّ وإمّا قيميّ، وتختلف الرّؤية المعتبرة - أو الاطّلاع والعلم - في أحدهما عن الآخر. والمراد بالمثليّ هنا ما كان معيّناً من المثليّات، لأنّه بمنزلة الأعيان، أمّا إذا كان موصوفاً في الذّمّة فهو دين ولا يجري في العقد عليه خيار الرّؤية لأنّه مختصّ بالأعيان.
10 - القيميّات أو الأشياء غير المثليّة ويطلق عليها: العدديّات المتفاوتة، كالدّوابّ، والأراضي، والثّياب المتفاوتة، ونحو ذلك، لا بدّ فيها من رؤية ما يدلّ على المقصود من الشّيء الواحد، أو رؤية ذلك من كلّ واحد منها إذا كان المبيع أكثر من واحد من تلك الأشياء المتفاوتة، كعدّة دوابّ مثلاً، لأنّ رؤية البعض لا تعرّف الباقي للتّفاوت في آحاده.
أ - الرّؤية من خلف زجاج: لا تكفي عند أبي حنيفة حتّى يرى ما فيه أو ما خلفه دون حائل، وعن محمّد أنّه يكفي، لأنّ الزّجاج لا يخفي صورة المرئيّ، وروى هشام أنّ قول محمّد موافق لقول أبي حنيفة. ب - الرّؤية لما هو في الماء: كسمك " يمكن أخذه من غير اصطياد " قال بعضهم: يسقط خياره، لأنّه رأى عين المبيع، وقال بعضهم: لا يسقط، وهو الصّحيح، لأنّ المبيع لا يرى في الماء على حاله بل يرى أكبر ممّا هو، فهذه الرّؤية لا تعرّف المبيع. ج - الرّؤية بوساطة المرآة: قالوا: لا يسقط خياره، لأنّه ما رأى عينه بل مثاله. د - الرّؤية من وراء ستر رقيق: تعتبر رؤيةً، على ما في فتاوى قاضي خان. هـ - الرّؤية في ضوء يستر لون الشّيء: كرؤية ورق أبيض أو قماش، في ضوء يستر معرفة بياضه كضوء النّار، ليلاً أو نهاراً، لا تعتبر رؤيةً مسقطةً لقيام الخيار. و - الرّؤية بالنّسبة للأعمى: لا يثور التّساؤل فيه إلاّ فيما سبيل معرفته الرّؤية بالبصر، أمّا ما يعرف بالذّوق، أو الشّمّ، أو الجسّ، فهو في ذلك كالبصير، أمّا ما لا بدّ من رؤيته كالدّار ونحوها والنّموذج في المثليّات فيغني عن الرّؤية الوصف بأبلغ ما يمكن، فإذا قال: قد رضيت، سقط خياره، لأنّ الوصف يقام مقام الرّؤية أحياناً، كالسّلم، والمقصود رفع الغبن عنه، وذلك يحصل بالوصف وإن كان بالرّؤية أتمّ.
11 - تناول الفقهاء بالبيان المسهب بعض تلك الأشياء القيميّة " المتفاوتة الآحاد " وخاصّةً ما تكثر الحاجة إلى تداوله، فذكروا ما تكفي رؤيته من كلّ منها لاعتبار الخيار حاصلاً عقب تلك الرّؤية المقتضبة، فيعتبر حينئذ الرّضا والفسخ بعدها. والخلاف في الرّؤية الكافية المثبتة للخيار قد نشأ بناءً على العرف المكانيّ أو الزّمانيّ، وذلك يتيح المجال لوسم جميع ما ذكروه بهذا الميسم، أي أنّه تصوير للعرف في مكان أو زمان معيّن، وأنّه لا ضير في الانعتاق عن تلك القيود إذا كان العرف قد تغيّر، أمّا فيما كانت العلّة في الاجتزاء برؤية بعضه مستمدّةً من العقل أو الوضع اللّغويّ، فذلك باق لبقاء عوامل اعتباره.
أ - كون المحلّ المعقود عليه عيناً: 12 - المراد بالعين ما ينعقد العقد على عينه، لا على مثله، وهو مقابل الدّين " بمعنى ما يعيّن بالوصف ويثبت في الذّمّة ". قال ابن الهمام: لا يتصوّر في النّقد وسائر الدّيون خيار رؤية، لأنّ العقد ينعقد على مثلها لا على عينها. حتّى لو باعه هذا الدّينار بهذه الدّراهم، لصاحب الدّينار أن يدفع غيره، وكذا لصاحب الدّراهم. بخلاف الأواني والحليّ. والوجه فيه أنّ المعقود عليه إذا كان ممّا لا يتعيّن بالتّعيين لا ينفسخ العقد بردّه، لأنّه إذا لم يتعيّن للعقد لا يتعيّن للفسخ فيبقى العقد، وقيام العقد يقتضي ثبوت حقّ المطالبة بمثله، فإذا قبض يردّه هكذا إلى ما لا نهاية له، فلم يكن الرّدّ مفيداً، لأنّ العقد إنّما يرد على المملوك بالعقد، وما لا يتعيّن بالتّعيين لا يملك بالعقد وإنّما يملك بالقبض فلا يرد عليه الفسخ. وكذلك لا حاجة لخيار الرّؤية في غير الأعيان لأنّ المقصود من البيع تحقيق الرّضا، ورضاه في بيع الدّين موكول بالوصف، فإذا تحقّق الوصف حصل الرّضا وانتفى ما يقتضي ثبوت الخيار. فيشترط لثبوت خيار الرّؤية أن يكون محلّ العقد " المبيع مثلاً " من الأعيان " أي الأموال العينيّة " وهي ما تتعيّن بالتّعيين ولا يحقّ لدافعها تبديلها. ومثال الأعيان: الأراضي والدّوابّ وكلّ ما لم يكن من المثليّات. أمّا المثليّات فبعضها أعيان وبعضها ديون، بحسب تعيين العاقد لها، فإذا عقد على مكيل أو موزون معيّن بالإشارة أو أيّة وسيلة تجعل العقد ينصبّ عليها دون أمثالها فهي حينئذ عين، ويثبت فيها خيار الرّؤية، أمّا إذا قال: بعتك كذا من الحنطة، وبيّن أوصافها، فهي قد ثبتت في الذّمّة ولم تقع على معيّن، بالرّغم من كونها عنده لكنّه لم يعيّنها للعقد. وعلى هذا قال قاضي خان في فتاويه: " المكيل والموزون إذا كان عيناً فهو بمنزلة سائر الأعيان، وكذا التّبر من الذّهب والفضّة والأواني، ولا يثبت خيار الرّؤية فيما ملك ديناً في الذّمّة كالسّلم " أي المسلم فيه ط، والدّراهم والدّنانير عيناً كان أو ديناً، والمكيل والموزون إذا لم يكن معيّنًا فهو بمنزلة الدّراهم والدّنانير ". قال ابن الهمام: ومنه - أي الأعيان - بيع إناء من فضّة أو ذهب لأنّه ليس من الأثمان الخالصة. وكذا رأس مال السّلم إذا كان عيناً يثبت فيه خيار الرّؤية للمسلم إليه، أمّا الدّراهم والدّنانير فقد تمحّضت ديوناً فهي لا تقبل التّعيين. ب - كون المعقود عليه في عقد يقبل الفسخ: أي ينفسخ بالرّدّ: 13 - وذلك كالبيع، فإذا ردّ المبيع انفسخ العقد، وكالإجارة - إذا ردّ العين المأجورة - والصّلح عن دعوى المال بردّ المال المصالح عنه، والقسمة بردّ النّصيب، فإنّ هذه العقود تنفسخ بردّ محلّها فيثبت فيها خيار الرّؤية، أمّا مثل المهر في عقد النّكاح، أو البدل في الخلع، وبدل الصّلح في عقد الصّلح عن دم العمد ونحوها، فإنّ تلك العقود المشتملة عليها لا تنفسخ بردّ هذه الأموال بالرّغم من أنّها أعيان. ذلك أنّ الرّدّ لمّا لم يوجب الانفساخ بقي العقد قائماً، وقيامه يوجب المطالبة بالعين لا بما يقابلها من القيمة. فلو كان له أن يردّه كان له أن يردّه أبداً. إذ كلّما آلت إليه عين بديلة ثبت فيها خيار رؤية وردّ وهكذا، فلا بدّ من أن يكون العقد ممّا ينفسخ بالرّدّ ليكون لثبوت خيار الرّؤية فيه جدوى. ج - عدم الرّؤية عند العقد، أو قبله، مع عدم التّغيّر: 14 - سبب ثبوت الخيار أنّ الرّؤية السّابقة تمنع ثبوت الخيار إذا توفّر فيها أمران،أحدهما: عدم التّغيّر، فبالتّغيّر يصير شيئًا آخر فيكون مشترياً شيئاً لم يره. والأمر الثّاني: لا بدّ أن يكون عالماً وقت العقد أنّ ما يعقد عليه هو مرئيّه السّابق، فلو لم يعلم به كأن رأى ثوباً ثمّ اشتراه ملفوفاً بساتر وهو لا يعلم أنّه ذلك الّذي رآه فله الخيار. لعدم ما يوجب الحكم عليه بالرّضا. وسواء في الرّؤية أن تكون للمعقود عليه كلّه، أو لنموذج منه، أو الجزء الدّال على الكلّ. واشترط بعضهم في الرّؤية السّابقة أن تحصل مع قصد الشّراء حينئذ، فلو رآه لا لقصد الشّراء ثمّ اشتراه يثبت له الخيار عند هؤلاء. وهذا القيد جاء في الفتاوى الظّهيريّة وجامع الفصولين مصدّراً بلفظ " قيل " - وهي صيغة تمريض - لكنّ ابن نجيم في البحر قال عقبه: " ووجهه ظاهر، لأنّه لا يتأمّل التّأمّل المفيد " ثمّ قال الحصكفيّ صاحب الدّرّ المختار: " ولقوّة مدركه عوّلنا عليه " غير أنّ ذلك لم يرق للخير الرّمليّ والمقدسيّ، كما ذكر ابن عابدين، بحجّة أنّه خلاف الظّاهر من الرّواية، وأنّه مناف لإطلاقاتهم. واعتبار عدم رؤية المعقود عليه شرطاً لقيام الخيار، هو ما جرى عليه الكاسانيّ - وهو شديد الوضوح في ظاهره - لكن للكمال بن الهمام عبارة توهم خلافه وهي قوله في تحليل لفظ: " خيار الرّؤية ": الإضافة من قبيل إضافة الشّيء إلى شرطه، لأنّ الرّؤية شرط ثبوت الخيار، وعدم الرّؤية هو السّبب لثبوت الخيار عند الرّؤية. فهو قد اعتبر الرّؤية شرطاً، وعند الكاسانيّ الشّرط عكسه: عدم الرّؤية. د - رؤية المعقود عليه، أو ما هو بمنزلتها بعد العقد: 15 - أشار ابن الهمام إلى أنّ الرّؤية شرط ثبوت الخيار كما رأينا، ومن لم ينصّ على ذلك في عداد الشّروط اكتفى بالبيان الصّريح بأنّ وقت ثبوته هو وقت الرّؤية. قال ابن عابدين: الرّؤية بعد الشّراء شرط ثبوت الخيار.
16 - هناك اتّجاهات للفقهاء فيمن يثبت له الخيار. الاتّجاه الأوّل: أنّه للمشتري فقط، وليس للبائع خيار الرّؤية فيما باعه ولم يره، كمن ورث شيئاً من الأعيان في بلد بعيد فباعه قبل رؤيته، وهو ما استقرّ عليه مذهب الحنفيّة، وهذا آخر القولين عن أبي حنيفة، فقد كان يقول أوّلاً بثبوته للبائع أيضاً ثمّ رجع وقال: العقد في حقّ البائع لازم، والخيار للمشتري فقط. واستدلّوا بنصّ الحديث المثبت لخيار الرّؤية، وقالوا: إنّ عدم الخيار ولزوم العقد هو الأصل. وفي بيع المقايضة يثبت خيار الرّؤية للطّرفين، لأنّ كليهما يعتبر مشترياً. الاتّجاه الثّاني: يثبت خيار الرّؤية للبائع أيضًا، وهو القول المرجوع عنه لأبي حنيفة، والقول القديم للشّافعيّ، ورواية مرجوحة عن أحمد، وذلك على افتراض الأخذ بالخيار عند الشّافعيّة والحنابلة، وقد صحّحوا عدم الأخذ به.
17 - يثبت خيار الرّؤية في عقد البيع، والمراد به هنا الشّراء، لأنّ الخيار يثبت فيه للمشتري وحده دون البائع والعقد من وجهته شراء. أمّا في عقد السّلم فإذا كان رأس مال السّلم عيناً يثبت خيار الرّؤية فيه للمسلم إليه. ولا يثبت في رأس مال السّلم إن كان ديناً كما لا يثبت في المسلم فيه بتاتاً، لأنّ شرطه الأساسيّ أن يكون من الدّيون. ولا مدخل لخيار الرّؤية في الصّرف عند الحنفيّة لأنّه بيع دين بدين. ويثبت خيار الرّؤية في الاستصناع للمستصنع المشتري، ولو أتى به الصّانع على الصّفة المشروطة، لأنّه غير لازم في حقّه ولا يثبت للصّانع إذا أراه المستصنع ورضي به في ظاهر الرّواية، وروي عن أبي حنيفة الخيار لهما، وروي عن أبي يوسف لزومه في حقّهما. أمّا الصّانع فليس له خيار الرّؤية في ظاهر الرّواية. وكذلك في عقد الإجارة لا يثبت إلاّ في إجارة الأعيان، كإجارة دار بعينها، أو سيّارة بذاتها، إذا كان المستأجر قد عقد الإجارة دون أن يرى المأجور. وفي عقد القسمة يثبت في قسمة غير المثليّات، أي في نوعين فقط من الأنواع الثّلاثة للمال المقسوم، هما قسمة الأجناس المختلفة جزماً، وقسمة القيميّات المتّحدة الجنس كالثّياب من نوع واحد، أو البقر والغنم، أمّا في قسمة المثليّات المتّحدة الجنس كالمكيلات والموزونات، فلا يثبت خيار الرّؤية فيها، لأنّها ممّا لا تتعيّن بالتّعيين. وهذا إذا كان أحد المقتسمين لم ير نصيبه عند القسمة. وفي عقد الصّلح على ما سبق.
18 - وقت ثبوت خيار الرّؤية هو وقت الرّؤية، لا قبلها. ولذا لو أمضى العقد قبل رؤية المعقود عليه ورضي به صريحاً بأن قال: أجزت أو رضيت أو ما يجري هذا المجرى، ثمّ رآه كان له أن يردّه بخيار الرّؤية. لأنّ النّصّ أثبت الخيار بعد الرّؤية فلو ثبت له حقّ الإجازة قبلها وأجاز لم يثبت له الخيار بعدها، وهذا خلاف النّصّ، ولأنّ المعقود عليه قبل الرّؤية مجهول الوصف. والرّضا بالشّيء قبل العلم به وبوجود سببه محال، فكان ملحقاً بالعدم. ولهذا لم يصحّ إسقاط الخيار قبل الرّؤية أو التّنازل عنه بقوله: رضيت المبيع أو أمضيت العقد، لأنّه لا يصحّ إسقاط الخيار قبل ثبوته بالرّؤية، وإسقاط الشّيء فرع لثبوته، فلا يمكن الإسقاط قبل الثّبوت. فلو أسقط المشتري خياره قبل الرّؤية لم يسقط، وظلّ له حقّ ممارسته عند الرّؤية. قال السّرخسيّ: إنّ في الرّضا قبل الرّؤية هنا إبطال حكم ثبت بالنّصّ وهو الخيار للمشتري عند الرّؤية.
19 - قول الحنفيّة بإمكان الفسخ قبل الرّؤية ليس بناءً على الخيار - لعدم ثبوته قبل الرّؤية - بل لما في العقد من صفة عدم اللّزوم للجهالة المصاحبة له عند العقد، حيث اشتراه دون أن يراه، فهو كالعقود الأخرى غير اللّازمة، ففسخه ممكن لهذا السّبب، ثمّ إذا رآه ثبت له خيار الرّؤية، فكان سبباً آخر للفسخ ولا مانع من اجتماع الأسباب على مسبّب واحد.
20 - للفقهاء في بيان مدى الزّمن الصّالح للرّضا أو الفسخ بعد الرّؤية اتّجاهان: الأوّل: على التّراخي، فليس لخيار الرّؤية مدًى محدود، بل هو مطلق غير مؤقّت بمدّة. فهو يبدأ بالرّؤية ويبقى إلى أن يوجد ما يبطله - ولو في جميع العمر - ولا يتوقّت بإمكان الفسخ. وهذا هو اختيار الكرخيّ من مشايخ الحنفيّة، وهو الأصحّ والمختار كما قال ابن الهمام وابن نجيم وغيرهما. وذلك لأنّ النّصّ مطلق، ولأنّ سبب خيار الرّؤية اختلال الرّضا، والحكم يبقى ما بقي سببه. الثّاني: على الفور، فهو مؤقّت بإمكان الفسخ بعد الرّؤية، حتّى أنّه لو رآه وتمكّن من الفسخ ولم يفسخ سقط خياره بذلك ولزم العقد، وإن لم يوجد منه تصريح بالرّضا أو مسقط آخر للخيار حيث يعتبر ذلك دلالةً على الرّضا. وهذا قول لبعض فقهاء الحنفيّة.
21 - حكم العقد قبل الرّؤية حكم العقد الّذي لا خيار فيه، وهو ثبوت الحلّ للمشتري في المبيع للحالّ، وثبوت الملك للبائع في الثّمن للحالّ، لأنّ ركن العقد في البيع، أو الإجارة، أو القسمة، أو الصّلح صدر مطلقاً عن شرطه. وكان ينبغي أن يلزم العقد لولا أنّه ثبت الخيار " شرعاً " احتياطاً للمشتري، بخلاف خيار الشّرط، لأنّ الخيار ثمّة ثبت بإرادة العاقدين فأثّر في ركن العقد بالمنع من الانعقاد في حقّ الحكم تحقيقاً لرغبة العاقد في تعليق العقد. هذا على القول بصحّة الفسخ قبل الرّؤية، فالعقد غير لازم عند هؤلاء، أمّا من منع الفسخ فهو يرى أنّ العقد باتّ، فلا يلحقه فسخ ولا إجازة إلى أن تحصل الرّؤية، وقد مال ابن الهمام إلى هذا.
22 - منذ قيام خيار الرّؤية " بتحقّق شرطه، وهو الرّؤية " يغدو العقد غير لازم بالاتّفاق، ولكن لا يترتّب عليه أيّ أثر في حكم العقد، فلا يمنع انتقال الملك في البدلين، لأنّ سبب العقد قد وجد خالياً من تعليق حكم العقد، فيظلّ أثره كاملاً كانتقال الملك وغيره. وقد خالف في هذا المالكيّة، فذهبوا إلى أنّ الملك مع خيار الرّؤية لا ينتقل لعدم استقرار العقد باحتمال الفسخ، والملك إنّما هو في العقد المستقرّ. ولا يخفى أنّ استقرار العقد لا يعوق ترتّب الحكم، وإنّما ينشأ عنه تمكّن صاحب الخيار من رفع العقد بالفسخ.
23 - يسقط خيار الرّؤية بالأمور التّالية، سواء حصلت قبل الرّؤية أو بعدها: أ - التّصرّفات في المبيع بما يوجب حقّاً للغير: كما لو باع الشّيء الّذي اشتراه ولم يره لشخص آخر بيعاً لا خيار فيه، أو رهنه، أو آجره، أو وهبه مع التّسليم، لأنّ هذه التّصرّفات لا تكون إلاّ مع الملك، وملك صاحب الخيار ثابت فيها، فصادفت المحلّ ونفذت، وبعد نفوذها لا تقبل الفسخ والرّفع، فبطل الخيار ضرورةً، كما أنّ إبطالها فيه ضياع لحقوق الغير الّتي ترتّبت لهم بهذه التّصرّفات، ففسخ البيع أولى من إبطال حقوقهم. ويستثنى من ذلك ما لا يوجب حقّاً للغير كالبيع بشرط الخيار للبائع، أو المساومة بقصد العرض على البيع، أو الهبة من غير تسليم، لأنّ ذلك لا يربو على صريح الرّضا، وهو لا يبطله قبل الرّؤية. ثمّ إنّ التّصرّف الّذي تعلّق فيه حقّ الغير لو عاد إلى ملكه بردّ قضائيّ، أو بفكّ الرّهن، أو فسخ الإجارة قبل الرّؤية ثمّ رآه فله الخيار. ب - تغيّر المبيع بغير فعله: حصول التّغيّر إمّا بطروء الزّيادة عليه مطلقاً " المنفصلة أو المتّصلة، المتولّدة أو غيرها " على أن تكون مانعةً للرّدّ، وإمّا بالنّقص والتّعيّب - في قول أبي حنيفة - والنّقص المراد هنا هو ما يحصل بآفة سماويّة، أو بفعل أجنبيّ، أو بفعل البائع على التّفصيل المذكور في خياري الشّرط والعيب، كما ذكر الكاسانيّ. ج - تعيّب المبيع في يد المشتري: لأنّه بالتّعيّب لا يمكن إرجاع المبيع إلى البائع كما استلمه المشتري، والفسخ يكون بالحالة الّتي كان عليها المبيع عند العقد وقد استلمه سليمًا فلا يردّه معيباً، ولذا يسقط الخيار. د - إجازة أحد الشّريكين فيما اشترياه ولم يرياه دون صاحبه: وذلك عند أبي حنيفة، حذراً من تفريق الصّفقة على البائع، كما مرّ في خيار العيب. هـ - الموت: واعتباره مسقطاً موضع خلاف. وسيأتي تفصيله.
ذكر الكاسانيّ أنّ الأصل أنّ كلّ ما يبطل خيار الشّرط والعيب يبطل خيار الرّؤية، إلاّ أنّ خيار الشّرط والعيب يسقط بصريح الإسقاط، وخيار الرّؤية لا يسقط بصريح الإسقاط لا قبل الرّؤية ولا بعدها، لأنّ خيار الرّؤية ثبت شرعاً حقّاً للّه تعالى فلا يسقط بإسقاط العبد، وأمّا خيار الشّرط والعيب فقد ثبتا بالاشتراط حقيقةً، أو دلالةً، وما ثبت حقّاً للعبد يحتمل السّقوط بإسقاطه مقصوداً، لأنّ الإنسان يملك التّصرّف في حقّ نفسه مقصوداً، استيفاءً وإسقاطاً، فأمّا ما ثبت حقّاً للّه فالعبد لا يملك التّصرّف فيه إسقاطاً مقصوداً، لأنّه لا يملك التّصرّف في حقّ غيره مقصوداً، لكنّه يحتمل السّقوط بطريق الضّرورة، بأن يتصرّف في حقّ نفسه، ويتضمّن ذلك سقوط حقّ الشّرع، فيسقط حقّ الشّرع في ضمن التّصرّف في حقّ نفسه.
24 - ينتهي الخيار بإجازة العقد إجازةً قوليّةً أو فعليّةً، والإجازة القوليّة هي الرّضا بالعقد، صراحةً أو بما يجري مجراها. أمّا الإجازة الفعليّة فتكون بطريق الدّلالة، بأن يوجد من المشتري تصرّف يدلّ على الرّضا. أمّا الفسخ فمنه اختياريّ، ومنه ضروريّ دون إرادة العاقد.
25 - تتمّ الإجازة الصّريحة بالتّعبير عن الرّضا، وهو بكلّ عبارة تفيد إمضاء العقد، أو اختياره، مثل: أجزته، أو رضيته، أو اخترته. وفي معنى الرّضا الصّريح ما شابهه وجرى مجراه سواء أعلم البائع بالإجازة أم لا، لأنّ الأصل في البيع المطلق اللّزوم.
26 - هي أن يوجد من المشتري تصرّف في المبيع بعد الرّؤية يدلّ على الرّضا، ومن هذه التّصرّفات القبض بعد الرّؤية. والتّصرّف في المبيع تصرّف الملّاك بأن كان ثوباً فقطعه، أو أرضاً فبنى عليها، لأنّ إقدامه على هذه التّصرّفات دليل الرّضا، ولولا هذا التّقدير لكان متصرّفاً في ملك الغير وهو حرام، فجعل ذلك إجازةً، صيانةً له عن ارتكابه.
27 - الفسخ إمّا أن يكون اختياريّاً، أو ضروريّاً، كما ذكر الكاسانيّ، وصورة الفسخ الاختياريّ " الّذي ينتهي به الخيار تبعاً " هي أن يقول: فسخت العقد، أو نقضته،أو رددته، وما يجري هذا المجرى. وأمّا الفسخ الضّروريّ فله صورة واحدة ذكرها الكاسانيّ،وهي أن يهلك المبيع قبل القبض، فينفسخ العقد ضرورةً، وينتهي معه خيار الرّؤية لذهاب المحلّ.
28 - يشترط للفسخ ما يأتي: أ - قيام الخيار، لأنّ الخيار إذا سقط بأحد المسقطات لزم العقد، والعقد اللّازم لا يحتمل الفسخ. ب - أن لا يتضمّن الفسخ تفريق الصّفقة على البائع، فإنّ ردّ بعض المبيع دون بعضه لم يصحّ. وكذا إذا ردّ البعض وأجاز البيع في البعض لم يجز. سواء كان قبل قبضه المعقود عليه أو بعده، لأنّ خيار الرّؤية يمنع تمام الصّفقة، ففي بقاء خيار الرّؤية في البعض تفريق للصّفقة على البائع قبل تمامها وهو باطل. ج - علم البائع بالفسخ، عند أبي حنيفة ومحمّد. وقال أبو يوسف: ليس بشرط، وقد توسّع الكاسانيّ في دلائل هذا الخلاف.
29 - خيار الرّؤية عند الحنفيّة لا ينتقل بالموت، وذلك منسجم مع كونه عندهم لمطلق التّروّي، لا لتحاشي الضّرر أو الخلف في الوصف، وغايته أن ينظر المشتري أيصلح له أم لا، ومع اعتبارهم إيّاه خياراً حكميّاً من جهة الثّبوت فقد قالوا إنّه مرتبط بالإرادة من حيث الاستعمال.
انظر: بيع.
1 - الخيار في اللّغة: اسم مصدر من الاختيار، ومعناه طلب خير الأمرين، أو الأمور. أمّا الشّرط - بسكون الرّاء - فمعناه اللّغويّ: إلزام الشّيء والتزامه في البيع ونحوه، والجمع شروط، وبفتحها: العلامة، والجمع أشراط، والاشتراط: العلامة يجعلها النّاس بينهم. 2 - أمّا في الاصطلاح فقد قال ابن عابدين: " إنّ خيار الشّرط مركّب إضافيّ صار علماً في اصطلاح الفقهاء على: ما يثبت " بالاشتراط " لأحد المتعاقدين من الاختيار بين الإمضاء والفسخ... ". وقد عرّفه من المالكيّة ابن عرفة - بملاحظة الكلام عن بيع الخيار - بقوله: " بيع وقف بتّه أوّلاً على إمضاء يتوقّع ". واحترز بعبارة وقف بتّه عن بيع البتّ، وهو ما ليس فيه خيار. كما ذكروا أنّ قيد أوّلاً لإخراج خيار العيب ونحوه " خيارات النّقيصة " لأنّ أمثال هذا الخيار لم تتوقّف أوّلاً، بل آل أمرها إلى الخيار، أي لأنّ التّخيير فيها يثبت فيما بعد، حين ظهور العيب. 3 - ولخيار الشّرط أسماء أخرى دعاه بها بعض المصنّفين، منها: أ - الخيار الشّرطيّ " بالوصفيّة لا بالإضافة " والسّبب في هذه التّسمية ظاهر، والغرض من وصفه بالشّرطيّ تمييزه عن الخيار " الحكميّ " الّذي يثبت بحكم الشّرع دون الحاجة إلى اشتراط، كخيار العيب. وهذه التّسمية متداولة كثيراً عند المالكيّة. ب - خيار التّروّي،لأنّه شرع للتّروّي وهو النّظر والتّفكّر في الأمر والتّبصّر فيه قبل إبرامه. وهذه التّسمية يستعملها الشّافعيّة أكثر من غيرهم. ج - بيع الخيار، وهذا الاسم واقع على العقد الّذي اقترن بخيار الشّرط، ويعبّر به أصحاب المذاهب كلّهم وبخاصّة المالكيّة.
4 - ذهب جمهور الفقهاء إلى الأخذ بخيار الشّرط واعتباره مشروعاً لا ينافي العقد. واستدلّوا بالسّنّة والإجماع. فأمّا السّنّة: فاستدلّوا بما رواه الدّارقطنيّ عن محمّد بن إسحاق، قال: أخبرنا نافع، أنّ عبد اللّه بن عمر حدّثه «أنّ رجلاً من الأنصار كان بلسانه لوثة، وكان لا يزال يغبن في البيوع، فأتى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال: إذا بعت فقل: لا خلابة، مرّتين» وقال محمّد بن إسحاق: وحدّثني محمّد بن يحيى بن حبّان قال: هو جدّي منقذ بن عمرو، وكان رجلاً قد أصابته آمّة في رأسه، فكسرت لسانه ونازعته عقله، وكان لا يدع التّجارة ولا يزال يغبن، فأتى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك، فقال: «إذا بعت فقل: لا خلابة، ثمّ أنت في كلّ سلعة تبتاعها بالخيار ثلاث ليال، فإن رضيت فأمسك، وإن سخطت فارددها على صاحبها». «وقد كان عمّر طويلاً، عاش ثلاثين ومائة سنة، وكان في زمن عثمان بن عفّان رضي الله عنه حين فشا النّاس وكثروا، يتبايع البيع في السّوق ويرجع به إلى أهله وقد غبن غبناً قبيحاً، فيلومونه ويقولون: لم تبتاع؟ فيقول: أنا بالخيار إن رضيت أخذت، وإن سخطت رددت، قد كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم جعلني بالخيار ثلاثاً، فيردّ السّلعة على صاحبها من الغد وبعد الغد فيقول: واللّه لا أقبلها، قد أخذت سلعتي وأعطيتني دراهم، قال يقول: إنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قد جعلني بالخيار ثلاثاً. فكان يمرّ الرّجل من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فيقول للتّاجر: ويحك إنّه قد صدق، إنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قد كان جعله بالخيار ثلاثاً». واحتجّ بعضهم بإحدى روايات حديث«المتبايعان كلّ منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرّقا» الّتي فيها قوله عليه الصلاة والسلام: «إلاّ بيع الخيار» وفي رواية: «إلاّ صفقة خيار». فحمل هؤلاء ذلك الاستثناء على حالة اشتراط الخيار، وقالوا في معناه: هو خيار كلّ من المتعاقدين في الإقدام على العقد، أو الإحجام عنه قبل التّفرّق، فيمكن أن يمتدّ فيكون له الخيار أطول من تلك الفترة إذا كان البيع مشترطاً فيه خيار. وأمّا الإجماع: فاستدلّ به لخيار الشّرط كثيرون، قال النّوويّ: " وقد نقلوا فيه الإجماع " وقال في موضع آخر: " وهو جائز بالإجماع ". لكنّه أشار في موضع ثالث إلى أنّ صحّته المجمع عليها هي فيما " إذا كانت مدّته معلومةً ". وقال ابن الهمام: " وشرط الخيار مجمع عليه ".
5 - لا يتطلّب ثبوت الخيار التعبير بصيغة معيّنة، فكما يحصل بلفظ اشتراط الخيار يحصل بكل لفظ يدل على ذلك المراد، مثل لفظ " الرضا أو المشيئة " بل يثبت ولو لم يتضمّن الكلام لفظ الخيار أو ما هو بمعناه، فيما إذا ورد عند التعاقد أو بعده ما هو كناية عن الخيار، كما يؤخذ من الفتاوى الهندية حيث جاء فيها: " إذا باع من آخر ثوباً بعشرة دراهم، ثمّ إنّ البائع قال للمشتري: لي عليك الثوب أو عشرة دراهم - وقبل المشتري بذلك - قال محمد: هذا عندنا خيار، كذا في المحيط ". وذكر ابن نجيم نقلاً عن المعراج أنّه لو قال البائع: خذه وانظر إليه اليوم فإن رضيته أخذته بكذا، فهو خيار. ونقل عن الذخيرة مثل هذا الاعتبار فيما لو قال: هو بيع لك إن شئت اليوم. ومن ذلك اشتراط الخيار في الثمن،أو المبيع بدلاً عن اشتراطه في العقد، فيكون بمثابة اشتراطه فيه، فقد نصوا على أنّه لو قال المشتري على أني بالخيار في الثمن أو في المبيع فهو كقوله: على أنّي بالخيار " في العقد ". ومن ذلك: التواطؤ على ألفاظ أو تعابير بأنّها يتولد عنها الخيار، سواء كان ارتباط هذه التعابير بنشؤ الخيار منبعثاً عن الاستعمال الشرعي مباشرة أو العرف. فمما اعتبر من الألفاظ المتواطأ على أنّها يراد بها الخيار، تبعاً للاستعمال الشرعي، عبارة " لا خلابة " شريطة علم العاقدين بمعناها. قال النوويّ: اشتهر في الشرع أنّ قوله: " لا خلابة "عبارة عن اشتراط الخيار ثلاثة أيام، فإذا أطلق المتعاقدان هذه اللفظة، وهما عالمان بمعناها كان كالتصريح بالاشتراط، وإن كانا جاهلين لم يثبت الخيار قطعاً، فإن علمه البائع دون المشتري فوجهان مشهوران، حكاهما المتولي وابن القطان وآخرون أصحهما: لا يثبت، والوجه الثاني: يثبت، وهذا شاذ ضعيف، بل غلط، لأن معظم الناس لا يعرفون ذلك والمشتري غير عارف به. ومن ذلك العقد مع شرط الاستئمار خلال وقت محدد، كما لو قال: بعتك على أن أستأمر فلاناً، وحدد لذلك وقتاً معلوماً، فهو خيار صحيح لدى الحنابلة. وقالوا: إنّ له الفسخ قبل أن يستأمره " لأنّا جعلنا ذلك كناية عن الخيار " واختلف الشافعية في جواز الفسخ قبل الاستئمار، والأصح عندهم أنّه ليس له ذلك قبل أن يستأمره. هذا إذا ضبط شرط الاستئمار بمدة معلومة، أما إذا لم يضبط، فالشافعية يرون في الأصح أنّه غير سائغ. أما الحنابلة فحكمه عندهم حكم الخيار المجهول، لا يصح على الراجح. وذهب المالكية إلى أنّ العادة تقوم مقام التصريح بالخيار. قال الزرقاني من المالكية: " لو جرت العادة باشتراطه " أي خيار الشرط " كان خياراً، لأنّها - أي العادة - كالشرط صراحة ". فإذا تعارف الناس على ثبوت الخيار في بيع سلعة من السلع ثبت الخيار فيها بلا شرط. ومن المقرر أنّ الأخرس تقوم إشارته مقام الصيغة، فإن لم تفهم إشارته أو جنّ أو أغمي عليه، قام وليه من أب أو وصي أو حاكم مقامه.
6 - لا يقوم خيار الشّرط بمجرّد حدوث الاشتراط في العقد، بل لا بدّ من وجود الشّرائط الشّرعيّة له، فإذا اكتملت تلك الشّرائط غدا خيار الشّرط قائماً مرعيّ الاعتبار، وإذا اختلّ شيء منها اعتبر العقد لازماً بالرّغم من اشتراط الخيار في العقد. غير أنّ تلك الشّرائط ليست موضع اتّفاق بين المذاهب، فهي متفاوتة العدد بين مذهب وآخر، وفيما يأتي بيانها:
7 - المراد من المقارنة للعقد أن يحصل اشتراط الخيار مع انعقاد العقد أو لاحقاً به، لا أن يسبق الاشتراط العقد. فلا يصحّ اشتراط الخيار قبل إجراء العقد، إذ الخيار كالصّفة للعقد فلا يذكر قبل الموصوف. وبيان الصّورة المحترز منها ما جاء في الفتاوى الهنديّة عن العتّابيّة أنّه " لو قال: جعلتك بالخيار في البيع الّذي نعقده، ثمّ اشتراه مطلقاً لم يثبت الخيار في البيع عند أبي حنيفة ". ويعتبر بمنزلة المقارنة للعقد ما لو ألحق اشتراط الخيار بالعقد بعدئذ، بتراضي المتعاقدين، فذلك في حكم حصوله في أثناء العقد أو بمجلس العقد عند الملتزمين بمجلس العقد. ذهب إلى تلك التّسوية بين المقارنة واللّحاق الحنفيّة. ومن مستندهم القياس لهذا على ما في النّكاح من جواز الاتّفاق بعد العقد على ما يتّصل به، كالزّيادة في المهر أو الحطّ منه، ودليل هذا الحكم المقيس عليه قول اللّه عزّ وجلّ: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ}. قال ابن الهمام: يجوز إلحاق خيار الشّرط بالبيع، لو قال أحدهما بعد البيع ولو بأيّام: جعلتك بالخيار ثلاثة أيّام صحّ بالإجماع - أي إجماع أئمّة الحنفيّة - ثمّ ذكر أنّ إلحاق الخيار بعد العقد جار مجرى إدخاله في العقد تماماً من حيث نوع الخيار المشروط ومدّته وبقيّة أحكامه. وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه لا يلحق خيار الشّرط بالعقد بعده، بل لا بدّ من وقوعه في صلب العقد، أو في مجلسه. واستدلّ ابن قدامة لمذهب الحنابلة المانع من تأخّر الخيار عن العقد بأنّ العقد بعد انتهاء المجلس أصبح لازماً، فلم يصر جائزاً بقول المتعاقدين. وذكر ابن تيميّة أنّ من أصول الشّافعيّ وأحمد أنّ إلحاق الزّيادة " في الأجرة " والشّروط بالعقود اللّازمة لا يصحّ. وبين هذين الاتّجاهين مذهب ثالث اشترك مع المذهب الأوّل في النّتيجة واختلف عنه في تحديد طبيعة هذا التّصرّف، فقد أجاز المالكيّة إلحاق الخيار بالعقد بعد أن وقع على النّيّات، سواء كان إلحاقه من أحدهما أو من كليهما، فيصحّ الاشتراط اللّاحق، ويلزم من التزمه بعد صدور العقد خالياً منه، لكنّه - وهذا هو الفارق عن المذهب الأوّل - بمثابة بيع مؤتنف، بمنزلة بيع المشتري لها من غير البائع.. صار فيه المشتري بائعاً.. كما ذكر المالكيّة أنّه لو جعل البائع الخيار للمشتري، بناءً على المذهب من أنّ اللّاحق للعقود ليس كالواقع فيها، فما أصاب السّلعة في أيّام الخيار فهو من المشتري. وأشار خليل وشرّاحه إلى أنّ القول بجواز إلحاق الخيار إنّما هو بعد انتقاد البائع الثّمن، أمّا إلحاقه قبل انتقاده فلا يساويه في الجواز لما في الحالة الثّانية من " فسخ دين في دين " وأصل ابن القاسم منعه. وقد ذكروا في خلال مناقشة هذين القولين وجهاً متّفقاً عليه هو أنّ " جعل الخيار لأحد العاقدين ليس عقداً حقيقةً، إذ المقصود منه تطييب نفس من جعل له الخيار لا حقيقة البيع". قال الخرشيّ والدّسوقيّ: لكنّ المرجّح الأوّل وهو المعتمد، أي اقتصار الجواز على ما لو نقد الثّمن، وإن كان ظاهر المدوّنة التّسوية بينهما.
8 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه لا بدّ من تقييد الخيار بمدّة معلومة مضبوطة من الزّيادة والنّقصان، فلا يصحّ اشتراط خيار غير مؤقّت أصلاً، وهو من الشّروط المفسدة عند الجمهور، وسيأتي الكلام فيه بالتّفصيل. قال الكاسانيّ: والأصل فيه أنّ شرط الخيار يمنع انعقاد العقد في حقّ الحكم للحال، فكان شرطاً مغيّراً مقتضى العقد، وأنّه مفسد للعقد في الأصل، وهو القياس، إلاّ أنّا عرفنا جوازه استحساناً " بخلاف القياس " بالنّصّ، فبقي ما وراء المنصوص عليه على أصل القياس. والحكمة في توقيت المدّة أن لا يكون الخيار سبباً من أسباب الجهالة الفاحشة الّتي تؤدّي إلى التّنازع، وهو ممّا تتحاماه الشّريعة في أحكامها. 9- وللمدّة الجائز ذكرها حدّان: حدّ أدنى، وحدّ أقصى. أمّا الحدّ الأدنى فلا توقيت له، وليس له قدر محدود بحيث لا يقلّ عنه فيجوز مهما قلّ، لأنّ جواز الأكثر يدلّ بالأولويّة على جواز الأقلّ، ومن هنا نصّ بعض الحنفيّة وغيرهم على أنّه يجوز " ولو لحظةً ". قال الكاسانيّ: أقلّ مدّة الخيار ليس بمقدّر. ونحوه نصوص غير الحنفيّة من غير خلاف يعرف. وأمّا الحدّ الأقصى للمدّة الجائزة فقد اختلفت فيه المذاهب اختلافاً كثيراً، يمكن حصره في الاتّجاهات الفقهيّة التّالية: التّفويض للمتعاقدين مطلقاً - التّفويض لهما في حدود المعتاد - التّحديد بثلاثة أيّام. الاتّجاه الأوّل: التّفويض للمتعاقدين مطلقاً: 10 - مقتضى هذا الاتّجاه جواز اتّفاق المتعاقدين في خيار الشّرط على أيّ مدّة مهما طالت، وهو مذهب أحمد، ومحمّد بن الحسن وأبي يوسف، وابن أبي ليلى وابن شبرمة والثّوريّ وابن المنذر، وإسحاق بن راهويه، وأبي ثور، وعبيد اللّه بن الحسن العنبريّ، لكنّه قال: لا يعجبني الطّويل. فعند هؤلاء الفقهاء تجوز الزّيادة عن ثلاثة أيّام، لما في النّصوص المثبتة للخيار من الإطلاق وعدم التّفصيل، ولأنّ الخيار حقّ يعتمد الشّرط من العاقد فرجع إليه في تقديره. أو يقال: هو مدّة ملحقة بالعقد فتقديرها إلى المتعاقدين. وهناك صورة نادرة تشبه ما سبق في الحدّ الأدنى للمدّة لكنّها تستحقّ الإشارة إليها، لما في بحثها من تقييد الخيار بأن لا ينافي العقد ويفقده غايته. تلك الصّورة ما لو شرط المتعاقدان مدّةً طويلةً خارجةً عن العادة " كألف سنة، ومائة سنة " فقد استوجه صاحب غاية المنتهى أن لا يصحّ لإفضائه - على هذه الصّيغة ونحوها - إلى المنع من التّصرّف في الثّمن والمثمّن، وهذا المنع مناف للعقد الّذي جعله الشّارع إرفاقاً للمتعاقدين، وقد وافقه الشّارح على ذلك. الاتّجاه الثّاني: التّفويض للمتعاقدين في حدود المعتاد: 11 - وهذا مذهب مالك وحده. فيتحدّد أقصى مدّة الخيار الجائزة بقدر الحاجة، نظراً لاختلاف المبيعات،فللعاقد تعيين المدّة الّتي يشاء على أن لا يجاوز الحدّ المعتاد في كلّ نوع. قال ابن رشد: وأمّا عمدة أصحاب مالك فهو أنّ المفهوم من الخيار هو اختبار المبيع، وإذا كان ذلك كذلك وجب أن يكون ذلك محدوداً بزمان إمكان اختبار المبيع، وذلك يختلف بحسب كلّ مبيع. وبما أنّ لهذا الاتّجاه الفقهيّ تقديرات محدّدةً بحسب الحاجات المعقود عليها فقد جرى تصنيفها لدى المالكيّة إلى زمر: العقار: 12 - وأقصى مدّته شهر، وما ألحق به هو ستّة أيّام، فأقصى المدّة الّتي يجوز مدّ الخيار إليها في العقار (36) يوماً. وهناك اليومان الملحقان بزمن الخيار وهما للتّمكين من ردّ المبيع إذا كان حين انتهاء المدّة " الشّهر والأيّام السّتّة " بيد المشتري وهو يريد الفسخ، والحكم عند المالكيّة أن يلزم المبيع على من هو بيده عند انتهاء المدّة دون فرق بين أن يكون الخيار له أو للعاقد الآخر. فاليومان الملحقان هما لهذا الغرض " دفع اللّزوم عن المشترى دون إرادته ". أمّا زمن الخيار للعقار فهو شهر وستّة أيّام. الدّوابّ: 13 - وتختلف المدّة فيها بحسب المقصود من الخيار فيها، فإن كان الخيار لمعرفة قوّتها وأكلها وسعرها فأقصى مدّته ثلاثة أيّام. وإن كان خيار الشّرط متضمّناً أنّها للاختبار في البلد نفسه فالمدّة يوم واحد وشبهه، أمّا إن كان خارجه فأقصى المدّة بريد عند ابن القاسم، وبريدان عند أشهب. وقد ألحق بالثّلاثة الأيّام يوم واحد لتمكين المشتري من ردّ المبيع، كما سلف. بقيّة الأشياء: 14 - وتشمل: الثّياب، والعروض، والمثليّات. وأقصى المدّة لها ثلاثة أيّام ويلحق بها يوم. وقد أطلق الخرشيّ لفظ " المثليّات " على كلّ ما عدا " الرّقيق والعقار والدّوابّ " وبالرّغم من شمول المثليّات للخضر والفواكه إلاّ أنّ لهذين الصّنفين حكماً خاصّاً بهما من حيث المدّة نظراً لطبيعتهما الخاصّة من تسارع التّلف إليهما، فالخضر والفواكه بخاصّة أمد الخيار فيهما بقدر الحاجة، أو بعبارة أخرى المدّة الّتي لا تتغيّر فيها. الاتّجاه الثّالث: التّحديد بثلاثة أيّام: 15 - وهذا التّحديد بثلاثة أيّام بلياليها مهما كان المعقود عليه، مع المنع من مجاوزتها. وهو مذهب أبي حنيفة وصاحبه زفر، والشّافعيّ في الوجه المشهور عنه. وقد احتجّ لهذا التّحديد بما جاء في حديث حبّان بن منقذ السّابق ذكره لإثبات الخيار فيه على ثلاثة أيّام. والبيان الدّقيق لمستند أبي حنيفة في تحديد الثّلاثة الأيّام هو ما ذكره صاحبه أبو يوسف، فقد قال في بيان مذهب الإمام: لا يكون الخيار فوق ثلاثة أيّام، بلغنا عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه كان يقول: «من اشترى شاةً محفّلةً فهو بخير النّظرين ثلاثة أيّام: إن شاء ردّها وردّ معها صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير». فجعل أبو حنيفة الخيار كلّه على قول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم. وكان ابن أبي ليلى يقول: " الخيار جائز شهراً كان أو سنةً وبه نأخذ ". ونحوه مستند الشّافعيّ، كما رواه البيهقيّ في معرفة السّنن قال الشّافعيّ: الأصل في البيع بالخيار أن يكون فاسداً، ولكن لمّا شرط رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في المصرّاة خيار ثلاث في البيع، وروي عنه أنّه جعل لحبّان بن منقذ خيار ثلاث فيما ابتاع، انتهينا إلى ما قال صلى الله عليه وسلم. كما احتجّوا له من المعقول بأنّ الخيار مناف لمقتضى العقد وقد جاز للحاجة، فيقتصر على القليل منه، وآخر القلّة ثلاث، واحتجّ بمثل ذلك النّوويّ بعدما أشار إلى حديث حبّان. الزّيادة على الثّلاث: 16 - إذا زادت مدّة خيار الشّرط على ثلاثة أيّام بلياليها لدى هذا الفريق من الفقهاء القائل بالتّحديد بها، فالعقد فاسد عند أبي حنيفة وزفر، وباطل عند الشّافعيّ، ذهاباً منه إلى أنّ إسقاط الزّيادة لا يصحّح العقد بعد مفارقة المجلس فقط،بل في المجلس أيضاً على المشهور، لأنّ المجلس ثبت لعقد صحيح، لا لفاسد، لوقوعه على وجه لا يثبت دائماً. غير أنّ أبا حنيفة وحده ذهب إلى أنّ إسقاط شرط الخيار الزّائد عن الثّلاث - أو إسقاط الزّيادة - يصحّح العقد، ولو حصل ذلك الإسقاط بعد مفارقة مجلس العقد، وذلك ما لم تمض الأيّام الثّلاثة. وخالفه صاحبه زفر فذهب إلى أنّ إسقاط الزّائد لا يصحّح العقد لأنّ البقاء على حسب الثّبوت. وذهب المالكيّة إلى أنّ من الصّور المفسدة: - اشتراط مشاورة من لا يعلم ما عنده إلاّ بعد فراغ المدّة بأمد، كما لو اشترط الخيار في العقار لمدّة أربعين يوماً مع أنّ المدّة المحدّدة للعقار أقصاها ثمانية وثلاثون يوماً. - اشتراط مدّة زائدة على مدّة تلك السّلعة بكثير، أمّا لو بزيادة يوم أو بعضه فلا يضرّ.
الخيار المطلق 17 - في الخيار المطلق عن المدّة تتّجه المذاهب إلى أربعة اتّجاهات: بطلان العقد أو فساده - بطلان الشّرط دون العقد - صحّة العقد وتعديل الشّرط - صحّة العقد وبقاء الشّرط بحاله. أ - بطلان العقد أو فساده، فالبطلان هو ما ذهب إليه من الفقهاء الشّافعيّة والحنابلة - في إحدى الرّوايتين - وذهب الحنفيّة إلى فساده ولم يفرّقوا هنا بين الجهالة المتفاحشة أو المتقاربة كالحصاد مثلاً، كما ذكر الكاسانيّ، ثمّ إنّ أبا حنيفة وصاحبيه ذهبوا إلى أنّ صاحب هذا الخيار المفسد لو أبطل خياره، أو بيّنه، أو سقط بسبب ما ولزم البيع في الأيّام الثّلاثة التّالية للعقد عند الصّاحبين " خلافاً لأبي حنيفة المشترط حصول ذلك قبل مضيّ الأيّام الثّلاثة " انقلب العقد صحيحاً عند الجميع - بل لو بعد الثّلاثة عند الصّاحبين - لحذف المفسد قبل اتّصاله بالعقد لأنّهما يجيزان الزّيادة عن الثّلاثة. ب - بطلان الشّرط دون العقد، وهو رواية لأحمد ومذهب ابن أبي ليلى. ج - صحّة العقد وتعديل الشّرط، فالخيار المطلق أو المؤبّد هنا يخوّل القاضي تحديد المدّة المألوفة في العادة لاختبار مثل السّلعة الّتي هي محلّ العقد، لأنّ الخيار مقيّد في العادة، فإذا أطلقا حمل عليه. وهذا مذهب مالك. وقد اختار ابن تيميّة أنّ العاقدين إن أطلقا الخيار ولم يوقّتاه بمدّة توجّه أن يثبت ثلاثاً، لخبر حبّان بن منقذ. د - صحّة العقد وبقاء الشّرط بحاله: فيبقى الخيار مطلقاً أبداً كما نشأ حتّى يصدر ما يسقطه. وهذا مذهب ابن شبرمة، وقول لأحمد.
تأبيد الخيار 18 - من الشّروط المفسدة: شرط خيار مؤبّد في البيع بأن قال " أبداً أو أيّاماً ".
التّوقيت بوقت مجهول 19 - من الشّروط المفسدة: شرط خيار مؤقّت بوقت مجهول سواء كانت جهالةً متفاحشةً، كهبوب الرّياح، ومجيء المطر، وقدوم فلان، وموت فلان، ووضع الحامل ونحوه. أو جهالةً متقاربةً، كالحصاد والدّياس، وقدوم الحاجّ.
20 - المراد بالاتّصال أن تبدأ مدّة الخيار من فور إبرام العقد، أي لا يتصوّر أن تتراخى عنه، فلو شرط المتعاقدان الخيار ثلاثة أيّام مثلاً من آخر الشّهر، أو تبدأ من الغد، أو تبدأ متى شاء.. أو شرطا خيار الغد دون اليوم، فسد العقد لمنافاته لمقتضاه، والمراد بالمقتضى هنا: حصول آثاره مباشرةً. هذا ما ذهب إليه الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة، قال النّوويّ: " ويشترط أن تكون المدّة متّصلةً بالعقد. لا يجوز أن يشترط خياراً متراخياً عن العقد " لكنّ الحنفيّة لا يبطلون هذا العقد لأنّه يمكن تصحيحه نظراً لذهابهم إلى التّفرقة بين البطلان والفساد، والفاسد من العقود منعقد ويحتمل بعضه التّصحيح، وسبيل ذلك هنا اعتبار المدّة الفاصلة بين العقد وبين مبدأ المدّة المحدّدة مشمولةً بالشّرط، فقد ذكروا أنّ اشتراط خيار أيّام غير متّصلة بالعقد، مثل ما لو كان العقد في آخر رمضان واشترط خيار يومين بعد رمضان فهو جائز، وله ثلاثة أيّام" اليوم الآخر من رمضان واليومان ممّا بعده". وهكذا يحمل كلامه على إرادة المدّة المتّصلة وما بعدها. أمّا إذا كان الاشتراط غير قابل للحمل على ذلك فهو عقد فاسد مستحقّ للفسخ بإرادة كلّ من العاقدين وبإرادة القاضي، ومثاله في الصّورة السّابقة - عند الشّافعيّة - ما لو ذكر أنّه لا خيار له في رمضان، وله كذا يوماً ممّا بعده فالعقد فاسد. 21 - ويتبع شريطة الاتّصال شريطةً أخرى يمكن تسميتها " الموالاة " لأنّ المراد بها: تتابع أجزاء مدّة الخيار. فلو شرطا الخيار لمدّة ثلاثة أيّام على أنّه يوماً يثبت ويوماً لا يثبت ففيه عند الحنابلة وجهان: أحدهما - وهو اختيار أبي الوفاء بن عقيل -: الصّحّة في اليوم الأوّل، لإمكانه، والبطلان فيما بعده، لأنّ العقد إذا لزم في اليوم الثّاني لم يعد إلى عدم اللّزوم. والوجه الآخر: احتمال بطلان الشّرط كلّه، لأنّه شرط واحد تناول الخيار في أيّام، فإذا فسد في بعضه فسد جميعه.
22 - مستحقّ الخيار أو صاحب الخيار: هو ذلك الشّخص الّذي يكون إليه استعمال الخيار وممارسته سواء كان هو مشترطه أو خوّل إليه من العاقد الآخر، وسواء أكان طرفاً في العقد أم كان أجنبيّاً عنه، ولا يصحّ تطرّق الجهالة إلى مستحقّ الخيار، فلو اتّفق العاقدان على أنّ الخيار لأحدهما لا بعينه، ولم يبيّنا هل هو البائع أم المشتري، أو تعاقدا على أن يكون الخيار لشخص ما يعيّنه أحدهما فيما بعد، أو لمن يشاء أحدهما، فهذا كلّه فيه جهالة مفضية للنّزاع. ولذا صرّح ابن قدامة بأنّه لا يصحّ، لأنّه مجهول ولأنّه يفضي إلى التّنازع. لذا كان لا بدّ من تعيين مستحقّ الخيار تعييناً مشخّصاً أهو للبائع أو للمشتري، وكذلك تعيينه بالذّات إن كان أجنبيّاً عن العقد، وعدم الاكتفاء بذكر الصّفة " مثلاً " كقوله: على أن يكون الخيار لأحد التّجّار أو الخبراء دون تحديد. وقال النّوويّ: " لو بشرط الخيار لأحدهما دون الآخر ففي صحّة البيع قولان، الأصحّ: الصّحّة ".
23 - خيار الشّرط لا يثبت في غير العقود، والعقود الّتي يمكن فيها وقوع خيار الشّرط هي العقود اللّازمة القابلة للفسخ، لأنّ فائدته إنّما تظهر فيها فقط. أمّا العقود غير اللّازمة فهي بما تتّصف به من طبيعة عدم اللّزوم لا فائدة لاشتراط خيار فيها وأمّا العقود الّتي لا تقبل الفسخ فيتعذّر قيام الخيار فيها، لأنّه يناقض طبيعتها. والبيع هو المجال الأساسيّ لخيار الشّرط، وجريان الخيار في البيع اتّفاقيّ، لأنّه هو العقد الّذي وردت فيه أخبار مشروعيّته، والبيع عقد لازم قابل للفسخ " بطريق الإقالة " فهو يقبل الفسخ بخيار الشّرط. بل يدخل الخيار في البيع الفاسد كما هو نصّ الهداية للمرغينانيّ، كما لا فرق بين كون البيع بيع مساومة، أو بيع أمانة كالمرابحة وأخواتها. أمّا المستثنيات من البيع فهي: السّلم، والصّرف، وبيع الرّبويّ بجنسه، وقد عبّر عنها بعض الحنابلة بقوله: كلّ بيع قبض عوضه شرط لصحّة العقد. وهي عقود يبطلها خيار الشّرط إن لم يحصل إسقاطه في المجلس قبل التّفرّق. وقد نبّه ابن عابدين على أنّ استثناء السّلم والصّرف مخلّ بالضّابط، وهو ثبوته في العقد اللّازم المحتمل الفسخ، فهما أي السّلم والصّرف كذلك. وقد ذهب المالكيّة إلى جوازه في السّلم إلى أجل قصير. وتفصيل ذلك في (سلم، صرف). ويجري خيار الشّرط في الإجارة مطلقاً عند الحنفيّة والمالكيّة، أمّا الشّافعيّة والحنابلة فقيّدوا الخيار بالإجارة الّتي في الذّمّة، أمّا الإجارة المعيّنة فيدخلها الخيار إذا كانت لمدّة غير تالية للعقد. أمّا إن كانت لمدّة تبدأ من فور العقد فلا يصحّ شرط الخيار فيها، لأنّه يفضي إلى فوات بعض المنافع، أو إلى استيفائها في مدّة الخيار، وكلاهما غير جائز، وفي وجه للحنابلة: تجوز في المدّة التّالية للعقد أيضاً، فإن فسخ رجع بقيمة المنافع. والحوالة: اختلف في قبولها خيار الشّرط على رأيين: الأوّل: تقبله، وعليه الحنفيّة وهو احتمال للحنابلة - كما ذكر ابن قدامة - فيجوز عندهم اشتراط الخيار في الحوالة لكلّ من المحال، والمحال عليه - وهما اللّذان يجب رضاهما في عقدها - أمّا المحيل - ورضاه غير واجب في الأصحّ - فليس له اشتراط الخيار أصالةً أي باعتباره طرفاً في العقد، أمّا إن اشترط له كما يشترط الأجنبيّ من قبل أحد العاقدين، بأن اشترطه له المحال أو المحال عليه فيجوز، ولكن تطبّق أحكام الاشتراط لأجنبيّ، وهي ثبوته له على وجه النّيابة فيكون له وللمشترط. وعلّل ابن قدامة قبول الحوالة لخيار الشّرط بأنّها معاوضة يقصد بها العوض. الثّاني: عدم قبول الحوالة لخيار الشّرط، وهو مذهب الشّافعيّة والحنابلة، لأنّ عقد الحوالة لم يبن على المغابنة. ولم نعثر للمالكيّة على رأي في هذه المسألة. وكذلك القسمة: اختلف الرّأي فيها بحسب النّظر إليها هل هي بيع كما قال الحنفيّة أم هي تمييز حقوق كما يرى الشّافعيّة والحنابلة وهو مفاد مذهب المالكيّة. ومن أثبت خيار الشّرط فيها من الحنابلة احتجّ بأنّ خيار الشّرط لم يشرع خاصّاً بالبيع، بل هو للتّروّي وتبيّن أرشد الأمرين، وهذا المعنى موجود في القسمة. والقسمة أنواع: قسمة الأجناس المختلفة، وهي قسمة تراض لا إجبار فيها - وقسمة الجنس من المثليّات، وهي تقبل الإجبار ولا يدخلها خيار الشّرط - وقسمة الجنس الواحد من القيميّات، كالبقر والغنم، أو الثّياب من جنس واحد وهي تقبل الإجبار ويدخلها خيار الشّرط على الصّحيح المفتى به. والكفالة: يدخلها خيار الشّرط عند الحنفيّة خلافاً للمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة. وللكفالة خصّيصة في باب خيار الشّرط من حيث التّوقيت إذ يجوز فيها أكثر من ثلاثة أيّام عند أبي حنيفة خلافاً لمذهبه في اشتراط التّحديد بالثّلاث، لأنّ الكفالة عقد مبنيّ على التّوسّع. والوقف: يجري فيه خيار الشّرط عند أبي يوسف، فقد ذهب إلى أن الواقف إذا شرط في الوقف الخيار لنفسه مدّةً معلومةً جاز الوقف والشّرط، وأمّا عند محمّد، فالوقف باطل، وشرط الخيار فاسد، وهو قول الشّافعيّ وأحمد. وتفصيله في (وقف).
24 - من المقرّر أنّ خيار الشّرط يصحّ اشتراطه لأيّ واحد من المتعاقدين أو لكليهما " ففي البيع مثلاً: للبائع والمشتري ". وهو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء، ولا يعرف في ذلك خلاف، إلاّ ما روي عن سفيان الثّوريّ وابن شبرمة من أنّه يختصّ بالمشتري، وليس للبائع أن يشترطه لنفسه، " ومقتضى هذا النّقل عنهما أنّ مجال الخيار عندهما هو عقد البيع فقط " وعند هذين إذا اشترطه البائع فسد العقد. وفي اشتراطه للعاقدين أو أحدهما لا فرق أن ينشأ الاشتراط من العاقد لنفسه أو منه للعاقد الآخر، وهو أمر يحصل كثيراً، إذ يجعل البائع الخيار للمشتري، كما لو قال البائع: بعت لك ذا الشّيء على أنّك بالخيار، فإذا صدر القبول من المشتري كان الخيار له، ويثبت الخيار لمن شرط له وحده دون العاقد المشترط، إلاّ إذا شرطه لنفسه أيضاً ورضي الآخر.
25 - يصحّ اشتراط الخيار لأجنبيّ عن العقد، سواء وقع الاشتراط من العاقدين أو من أحدهما، وسواء أكان الأجنبيّ المشترط له الخيار شخصاً واحداً معيّناً من العاقدين كليهما أو كان عن كلّ منهما شخص غير من اشترطه الآخر، على ما نصّ عليه الشّافعيّة، وهو غير محتاج إلى نصّ عن غيرهم، لأنّ دلائل الجواز تشمله. وأصل هذا الحكم " صحّة الاشتراط لأجنبيّ " موضع اتّفاق بين الفقهاء، على أن يكون المجعول له الخيار ممّن يجوز قوله - لا كالطّفل غير المميّز - وإلاّ بطل الخيار. ومستند هذا الحكم عند الحنفيّة الاستحسان، فهو على خلاف القياس، ولذا خالف فيه زفر مستدلّاً بأنّ الخيار من مواجب العقد وأحكامه، فلا يجوز عنده اشتراطه لغير العاقدين. واستدلّ القائلون بالجواز بأنّ ثبوته بالاستحسان لمسيس الحاجة إليه، لأنّ فيه مصلحةً ظاهرةً حين يكون المتعاقد قليل الخبرة بالأشياء يخشى الوقوع في الغبن فيلجأ إلى من هو أبصر منه ويفوّض إليه الخيار. وفضلاً عن هذا أنّ ثبوت الخيار للأجنبيّ ليس أصالةً بل هو بطريق النّيابة عن العاقد الّذي جعله له - على ما ذهب إليه الفقهاء - فيقدّر الخيار للعاقد اقتضاءً، ثمّ يجعل الأجنبيّ نائباً عنه، تصحيحاً لتصرّف العاقد. فإذا جعل الخيار لأجنبيّ، فما هي صفة هذا الجعل؟ وما أثره؟ للفقهاء في هذه المسألة وجهتان: إحداهما: أنّه يعتبر بمثابة توكيل لغيره يقتضي ثبوت الخيار لنفسه، فالخيار للعاقد والأجنبيّ معاً. وهذا مذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة. بل إنّ الحنابلة جعلوا الخيار لهما أيضاً فيما لو قصر العاقد الخيار على الأجنبيّ وقال: هو له دوني، وذهب أبو يعلى منهم إلى أنّه حينئذ لا يصحّ. الوجهة الأخرى: أنّه يثبت للأجنبيّ وحده، وهو الأصحّ عند الشّافعيّة وقالوا: إنّ جعل الخيار للأجنبيّ تفويض - أو تحكيم - لا توكيل. وينظر تفصيله في كتب الشّافعيّة.
26 - ممّا يتّصل بمعرفة صاحب الخيار قضيّة اشتراط مشورة فلان من النّاس،أو استئماره: أي معرفة أمره وامتثاله، فذهب المالكيّة إلى أنّ لكلّ من المستأمر والمستأمر الاستقلال في الرّدّ والإمضاء " بخلاف ما لو كان على خياره ورضاه، فلا استقلال له دون من شرط له، وهذا في المشورة المطلقة، أمّا إذا قال على مشورته إن شاء أمضى وإن شاء ردّ فهذا بمنزلة الخيار ". وللمالكيّة هاهنا تفصيل بحسب صيغة جعل الخيار للأجنبيّ،فهي إمّا أن تكون بلفظ المشورة، وإمّا أن تكون بلفظ الخيار أو الرّضا. فإذا قال: على مشورة فلان، فإنّ للعاقد - بائعاً كان أو مشترياً - أن يستبدّ بإبرام العقد أو فسخه دون أن يفتقر ذلك إلى مشورته. لأنّه لا يلزم من المشاورة الموافقة، ومشترط المشورة اشترط ما يقوّي به نظره. أمّا إذا قال: على خيار فلان أو رضاه، ففي ذلك أقوال أربعة، والمعتمد منها أنّه تفويض فليس للعاقد - بائعاً كان أو مشترياً - أن يستقلّ بإبرام العقد أو فسخه، ذلك أنّ اشتراط الخيار - أو الرّضا - للأجنبيّ عندهم ليس توكيلاً بل هو تفويض، حيث إنّه باشتراط الخيار لغيره معرض عن نظر نفسه، وقد ألحقوا بلفظ الخيار أو الرّضا لفظ المشورة - السّابق ذكره - إذا جاء مقيّداً بما يدنو به إلى هذين اللّفظين مثل أن يقول: على مشورة فلان إن شاء أمضى وإن شاء ردّ، فحكم هذا كالخيار والرّضا. ومن هنا يعلم أنّه يلحق باللّفظين ما في معناهما من ألفاظ مستحدثة تؤدّي المعنى نفسه كالرّغبة والرّأي. وعند الشّافعيّة في هذا اتّجاهان: أحدهما: أنّه ليس له أن يفسخ حتّى يقول: استأمرته فأمرني بالفسخ، والاتّجاه الآخر - وعليه الحنابلة -: أنّه لا يشترط استئماره، وأنّ نصّ الشّافعيّ الّذي اعتمده المثبتون قد جاء بقصد الاحتياط لئلاّ يكون كاذباً. ونحوه ما ذكر ابن حزم عن ابن عمر أنّه فضّل " إن أخذت على إن رضيت "، إذ قد يرضى، ثمّ يدّعي أنّه لم يرض، وقد صحّح النّوويّ الرّأي الأوّل. ولا بدّ من تعيين من سيشاوره. أمّا لو قال: على أن أشاور " كما يقع كثيراً "، لم يكف. قال الأذرعيّ: والظّاهر يكفي، وهو في هذا شارط الخيار لنفسه. ولم نعثر للحنفيّة على نصّ في هذه المسألة.
27 - الخيار يثبت للعاقد المشترط الخيار لنفسه مهما كانت صفة العاقد، فسواء أكان مالكاً للمعقود عليه، أم وصيّاً يعقد لمصلحة الموصى عليه، أم وليّاً لمصلحة المولّى عليه، أم كان يعقد بالوكالة. ذلك أنّ اشتراط الخيار في حال الولاية أو الوصاية هو من باب النّظر والرّعاية للصّغير فذلك لهما. وأمّا في الوكالة، فلأنّ تصرّفه بأمر الموكّل وقد أمره بالعقد أمراً مطلقاً فيظلّ على إطلاقه، فيشمل العقد بخيار أو بدونه. وكذلك المضارب أو الشّريك شركة عنان أو مفاوضة، يملك شرط الخيار في معاملات الشّركة بمقتضى إطلاق عقد الشّركة. وهذا شامل لما لو شرط الخيار لنفسه أو للعاقد الآخر الّذي يشاطره التّعاقد على ما ذكر الحنفيّة. أمّا الشّافعيّة فقد قالوا بصحّته في الوكالة - في أصحّ الوجهين - إذا اشترطه الوكيل لنفسه أو لموكّله، لأنّه لا ضرر فيه، كما منعوا الوكيل بالبيع أن يشترط الخيار للمشتري، وكذلك العكس، فليس للوكيل بالشّراء أن يشترط الخيار للبائع، فإن فعل الوكيل ذلك بطل العقد، وهذا ما لم يأذن الموكّل في الصّورتين، والأصحّ عند الشّافعيّة أنّه لا يتجاوز الخيار من شرط له فلا يثبت للموكّل إذا اشترطه الوكيل لنفسه ولا العكس - وهو ظاهر النّصّ عن الشّافعيّ - لأنّ ثبوته بالشّرط فكان لمن شرطه خاصّةً. أمّا إذا أذن له الموكّل في شرط الخيار وأطلق، فشرط الوكيل كذلك بإطلاق، ففيه أوجه، أصحّها أنّه للوكيل، لأنّ معظم أحكام العقد متعلّقة به وحده ولا يلزم العقد برضا الموكّل، لأنّ الخيار منوط برضا وكيله. والحنابلة كالشّافعيّة في صحّة اشتراط الوكيل الخيار لنفسه، لا للعاقد الآخر مع احتمال الجواز عندهم فيها بناءً على الرّواية الّتي تقول: للوكيل التّوكيل. ثمّ إنّ على الوكيل أن يفعل ما فيه حظّ الموكّل، لأنّه مؤتمن. وكما يثبت الخيار لصاحبه على وجه الانفراد إذا كان المشترى أو البائع واحداً، يثبت للمتعدّد أيضاً إذا كان الطّرف المتعاقد متعدّدًا، كما لو باع شريكان شيئاً، أو باع المالك سلعةً لاثنين واشترطا الخيار لهما.
28 - حكم الخيار أنّه يمنع ثبوت حكم العقد، فلا يترتّب عليه الحكم المعتاد للحال في حقّ من له الخيار، وذلك موضع اتّفاق بين أبي حنيفة وصاحبيه، وهو عند أبي حنيفة في حقّ العاقد الآخر أيضاً، وقال صاحباه: الحكم نافذ في حقّ من لا خيار له، لأنّه لا مانع بالنّسبة له - وسيترتّب على ذلك انتقال الملك عنه - ولذا قال الكاسانيّ: " هو للحال موقوف، على معنى أنّه لا يعرف حكمه للحال، وإنّما يعرف عند سقوط الخيار " والعلّة في القول بأنّه موقوف الحكم أنّه لا يدري أيتّصل به الفسخ أو الإجازة. ثمّ قال بعدئذ: " فيتوقّف في الجواب للحال، وهذا تفسير التّوقّف عندنا، وقال في موطن آخر: شرط الخيار يمنع انعقاد العقد في حقّ الحكم للحال ". وتبيّن من منع ثبوت الحكم في حقّ من له الخيار، أنّه لو كان الخيار لكلّ من المتعاقدين لم يترتّب على العقد حكمه في الحال، فلا يخرج المبيع من ملك البائع، ولا الثّمن من ملك المشتري اتّفاقاً بين أئمّة الحنفيّة، فلا يفترق هذا العقد عن العقد الباتّ إلاّ من حيث تعرّضه للفسخ بموجب خيار الشّرط الّذي زلزل حكم العقد وجعله عرضةً للفسخ. ففي حال اشتراط الخيار للطّرفين لا يثبت حكم العقد أصلاً. وإلى مثل ذلك ذهب الشّافعيّة في صورة اشتراط الخيار للطّرفين، حيث نصّوا على أنّه موقوف، لا يحكم بانتقاله للمشتري، ولا أنّه للبائع خالصًا حتّى ينقضي الخيار. وعند المالكيّة ملكيّة محلّ الخيار باقية للبائع، ولم تنتقل إلى المشتري، فحكم العقد المشتمل على خيار أنّه ممنوع عن نفاذه أيّاً كان صاحب الخيار.
يختلف أثر الخيار على انتقال الملك بين كون الخيار للمتعاقدين أو كونه لأحدهما. أ - كون الخيار للمتعاقدين: 29 - إذا كان خيار الشّرط ثابتاً لكلّ من المتعاقدين فلا تغيير يحصل في قضيّة الملك للبدلين، فمحلّ الخيار للبائع باق على ملكه، والثّمن للمشتري أيضاً. ذلك موقف الحنفيّة، يقول الكاسانيّ: فلا ينعقد العقد في حقّ الحكم في البدلين جميعاً، فلا يزول المبيع عن ملك البائع ولا يدخل في ملك المشتري، وكذا الثّمن... لأنّ المانع من الانعقاد في حقّ الحكم موجود في الجانبين جميعًا وهو الخيار. ويقرب منه موقف الشّافعيّة بملاحظة اختيارهم وصف هذه الحالة بأنّ الملك موقوف بانتظار انقضاء مدّة الخيار لعدم أولويّة أحدهما، فإنّ فسخ العقد ظهر عنده أنّ الملك ما زال للبائع، وإن تمّ ظهر أنّ الملك انتقل للمشتري منذ العقد. والمذاهب الأخرى لا تفرد هذه الحالة بالحكم، بل ينصبّ نظرها إلى خيار البائع، فهو المؤثّر في القضيّة فيما إذا كان الخيار له وللمشتري. والرّأي الثّاني في المسألة على النّقيض ممّا سبق، فالملك في العقد المقترن بخيار الشّرط ينتقل إلى المشتري بالعقد نفسه، سواء أكان الخيار لهما أم لأحدهما أيّاً كان، وهذا هو ظاهر المذهب عند الحنابلة، وقد علّلوه بأنّ العقد مع الخيار كالعقد المطلق عنه. ب - كون الخيار لأحدهما: 30 - تختلف مذاهب الفقهاء في تحديد المالك لمحلّ الخيار إذا كان الخيار لأحد المتعاقدين دون الآخر، وتنحصر الآراء في ثلاثة: بقاء الملك، انتقاله، التّفصيل بحسب صاحب الخيار. أ - ذهب الرّأي الأوّل إلى القول بأنّ الملك باق لصاحب المحلّ كما كان قبل حصول العقد وهو البائع، ولا فرق بين أن يكون الخيار للمتعاقدين أو لأحدهما. بهذا قال مالك وأصحابه وهو مذهب اللّيث والأوزاعيّ. وقد عبّر المالكيّة عن هذه المسألة بقولهم: إنّ بيع الخيار منحلّ لا منعقد، بمعنى أنّه على ملك البائع لم ينتقل، فالإمضاء اللّاحق بعدئذ ناقل للملك لا مقرّر. فقد اعتبر هؤلاء يد المشتري على محلّ الخيار يد أمانة، وأنّ البائع هو المالك " والضّامن أيضاً " واحتجّوا بأنّ العقد الّذي وقع فيه الخيار عقد غير لازم، فلم يترتّب عليه حكم، أي هو عقد غير نافذ في الجملة: لم ينتقل الملك عن البائع، كما لو لم يقع قبول من العاقد الآخر " المشتري مثلاً ". ب - الرّأي الثّاني وهو قول عند المالكيّة: إنّ الملك للمشتري، فالإمضاء تقرير لا نقل. وعن أحمد رواية أنّه موقوف في هذه الحالة أيضاً حتّى ينقضي الخيار. ج - والرّأي الثّالث قائم على التّفصيل بحسب صاحب الخيار. فإذا كان الخيار للبائع فالملك باق له، لأنّ اشتراط الخيار منه إبقاء على ملكه فلا ينتقل إلى المشتري، ولهذا نتائج عديدة أبرزها أنّ المشتري - بالرّغم من العقد - لا يملك التّصرّف في محلّ الخيار، كما أنّ تصرّفات البائع تنفذ، وتعتبر فسخاً للعقد، وإلى هذا ذهب أبو حنيفة وصاحباه والشّافعيّ في أظهر الأقوال. وهذا القول للشّافعيّة قائم على التّفصيل بين كون الخيار للبائع أو المشتري - وهو الأظهر - وهناك أقوال ثلاثة أخرى " مطّردة في حال كون الخيار لهما أو لأحدهما ". أحدها: أنّ المبيع ملك للمشتري والثّمن ملك للبائع. والثّاني: أنّ المبيع باق على ملك البائع ولا يملكه المشتري إلاّ بعد انقضاء الخيار من غير فسخ، والثّمن باق على ملك المشتري. والثّالث: أنّ الملك موقوف إلى تمام البيع للحكم بأنّ المبيع كان ملكاً للمشتري منذ العقد، أو أنّه باق على ملك البائع. وأمّا إذا كان الخيار للمشتري فالملك زائل عن البائع عند هؤلاء، حيث لا مانع في حقّه، لأنّ العقد لازم من جهة من لا خيار له وهو البائع. والتّصرّف في محلّ الخيار مقصور على من له الخيار، لأنّه شرع نظراً له وحده، وعلى هذا القدر اتّفق أبو حنيفة وصاحباه، وهو مذهب الشّافعيّة، ويمكن التّعبير عنه بأنّ الملك منتقل عمّن لا خيار له.
31 - اختلف الفقهاء فيمن يتحمّل تبعة هلاك محلّ الخيار على النّحو الآتي: فالحنفيّة فرّقوا في هذه المسألة بين عدّة صور: أ - إذا كان الخيار للبائع - وبالأولى إذا كان له وللمشتري - وهلك محلّ الخيار بيد البائع قبل القبض فالضّمان على البائع بالاتّفاق بين أبي حنيفة وصاحبيه، لأنّه لم يخرج عن ملكه اتّفاقاً، ولم ينضمّ إلى الخيار القبض ليكون له أثر في تعديل ارتباط تبعة الهلاك بالملك، ولا إشكال عند الحنفيّة في انفساخ العقد، كما هو الحال في البيع المطلق عن الخيار. ب - إذا هلك محلّ الخيار في يد المشتري بعد القبض وبعد انقضاء الخيار فالضّمان منه، لأنّه غدا بانقضاء الخيار بيعاً مطلقاً. والضّمان حينئذ بالثّمن لأنّه هلك بعدما أبرم البيع، وإبرامه إذا كان الخيار للبائع لعدم فسخ البائع في المدّة، وإن كان الخيار للمشتري فلأنّ هلاكه بمثابة الإجازة. ج - إذا كان الخيار للبائع وقد قبض المشتري محلّ الخيار فهلك في يد المشتري خلال مدّة الخيار فالضّمان على المشتري، لأنّ البيع قد انفسخ بهلاك المحلّ إذ كان موقوفاً، لأجل خيار البائع، ولا نفاذ للموقوف إذا هلك المحلّ، فبقي في يد المشتري مقبوضاً على جهة العقد " أي المعاوضة "، لا على وجه الأمانة المحضة كالإيداع والإعارة، لأنّ البائع لم يرض بقبض المشتري له إلاّ على جهة العقد. وكذلك الشّافعيّة، وسوّوا بين هذه الحالة وبين إيداع المشتري إيّاه بعد القبض عند البائع. أمّا كيفيّة ضمانه فهو أنّه يضمن بالقيمة - إن لم يكن مثليّاً " لأنّ ضمانه حينئذ بالمثل " - والضّمان بالقيمة، لا بالثّمن، هو الشّأن فيما قبض على جهة العقد، كالمقبوض على سوم الشّراء. وقد جعل الكاسانيّ ضمانه أولى من ضمان المقبوض على سوم الشّراء. د - إذا كان الخيار للمشتري وقد قبض محلّ الخيار فهلك في يده، فالضّمان منه أيضاً، ولكنّ الضّمان هنا بالثّمن. وبين هذه الحالة وسابقتها فرق من حيث كيفيّة الضّمان فهنا الضّمان بالثّمن، وهناك الضّمان بالقيمة، وقد أشار صاحب الهداية إلى وجه الفرق، وتابعه الشّرّاح مفصّلين الوجه نفسه، بأنّه إذا كان الخيار للمشتري وهلك المبيع فإنّه بمثابة تعيّب آل إلى تلف، لأنّ التّلف لا يعرى عن مقدّمة عيب، فبدخول العيب على محلّ الخيار لا يملك المشتري " صاحب الخيار " الرّدّ على البائع حال قيام العيب، كائناً ما كان العيب، فإذا اتّصل به الهلاك لم يبق الرّدّ سائغاً، فيهلك المحلّ بعد أن انبرم العقد بمقدّمات الهلاك،وبلزوم العقد يجب الثّمن لا القيمة. أمّا في حالة كون الخيار للبائع وتلف المبيع عند المشتري بعد القبض، فإنّ تعيّب المبيع وإشرافه على الهلاك لا يمنع الرّدّ حكماً، لأنّ خيار البائع لم يسقط لأنّه لم يعجز عن التّصرّف بحكم الخيار الّذي لو رضي به يتمكّن من الاسترداد، فإذا هلك على ملكه فينفسخ العقد ضرورةً لعدم المحلّ فيكون ضمانه كالمقبوض على سوم الشّراء، أي بالقيمة، لا بالثّمن لفقدان العقد. 32 - أمّا عند المالكيّة فالضّمان منسجم مع الملك الّذي جعلوه ثابتاً مطلقاً للبائع، فالضّمان عليه أيضاً إلاّ في استثناءات يدعو إليها إعواز المشتري الدّليل على حسن نيّته وعدم تفريطه، لأنّ ضمان البائع للتّلف خاصّ بما لو كان تلفاً بحادث سماويّ، أو ضياع، ويتمثّل الأصل في صورتين: الأولى: إذا قبض المشتري محلّ الخيار، فالضّمان على البائع، إذ هو أقدم ملكاً، فلا ينتقل الضّمان عنه إلاّ بتمام انتقال ملكه. وذلك الأصل ثابت فيما إذا كان محلّ الخيار ممّا لا يغاب عليه " أي: ممّا لا يمكن إخفاؤه "، حيث لم يظهر كذب المشتري في دعواه التّلف دون صنعه. الثّانية: إذا كان محلّ الخيار ممّا يغاب عليه ولكن ثبت تلفه أو ضياعه ببيّنة " لأنّ هلاكه ظاهر بغير صنعه، وأنّه غير متعدّ في قبضه كالرّهن والعاريّة ". وفيما وراء هذا الأصل، أو بعبارة أخرى فيما كان محترزاً عنه بقيود الصّورتين السّابقتين (صورة ما لا يغاب عليه ولم يثبت كذب المشتري، " وصورة ما يغاب عليه وثبت أنّ التّلف ليس بصنع المشتري " يكون الضّمان على المشتري. 33 - أمّا الشّافعيّة فقد جاء في شرح الرّوض أنّه لو تلف المبيع بآفة سماويّة بعد القبض والخيار للبائع وحده، انفسخ البيع، لأنّه ينفسخ بذلك عند بقاء يده، فعند بقاء ملكه أولى، ولأنّ نقل الملك بعد التّلف لا يمكن، وإن كان المبيع مودعاً مع البائع فإنّ البيع ينفسخ بتلفه لأنّ يده كيد المشتري ويردّ البائع عليه الثّمن وله في المسألتين على المشتري القيمة في المتقوّم، والمثل في المثليّ ولو كان الخيار للمشتري وحده أو لهما فتلف المبيع بعد قبضه لم ينفسخ البيع لدخوله في ضمانه بالقبض ولم ينقطع الخيار كما لا يمتنع التّحالف بتلف المبيع ولزم المشتري الثّمن إن تمّ العقد، وإن فسخ فالقيمة أو المثل على المشتري واستردّ الثّمن، ولو أتلفه متلف ولو بعد قبضه والخيار للبائع وحده انفسخ البيع كما في صورة التّلف، وإن كان الخيار لهما أو للمشتري وحده وأتلفه أجنبيّ ولو قبل القبض لم ينفسخ، أي البيع، لقيام البدل اللّازم له من قيمة أو مثل مقامه وتلزمه القيمة للمشتري لفوات عين المبيع والخيار بحاله وإن أتلفه المشتري ولو قبل القبض، والخيار له أو لهما استقرّ عليه الثّمن، لأنّه بإتلافه المبيع قابض له أو أتلفه البائع، ولو بعد القبض فكتلفه بآفة. 34 - وأمّا الحنابلة فقد جعلوا الملك للمشتري، وذهبوا إلى أنّ ضمان محلّ الخيار على المشتري لأنّه ملكه، وغلّته له فكان من ضمانه كما بعد انقضاء الخيار. ومئونته عليه. وهذا على إطلاقه " قبل القبض أو بعده " إذا كان محلّ الخيار من غير المكيل أو الموزون ونحوهما كالمعدود والمذروع، شريطة أن لا يكون عدم القبض ناشئًا من منع البائع. أمّا إذا كان محلّ الخيار من المكيل أو الموزون ونحوهما فلا بدّ من القبض ليكون ضمانه على المشتري، فإن كان القبض لم يحصل فالضّمان حينئذ على البائع. ولا يعتبر الحكم في المكيل والموزون استثناءً، بل هو الّذي تقتضيه أصول الحنابلة من اعتبارهم القبض ضميمةً لا بدّ منها في المكيل والموزون لينتقل ضمانه عن البائع إلى المشتري، وهو حكم يتّفق فيه البيع المقيّد بالخيار، والبيع المطلق. وعلّله ابن قدامة بأنّه يتعلّق به حقّ توفية، وجاء في كشّاف القناع أنّ المراد بالقبض في الكيل والموزون هو اكتياله أو وزنه، وليس مجرّد التّخلية كما هو عند الحنفيّة، فبالاكتيال يعرف هل وصل إلى المشتري حقّه كاملاً أم نقص منه أو زاد عنه.
35 - قسّم الحنفيّة الزّوائد الّتي قد تطرأ على المبيع إلى الأقسام التّالية: أ - الزّيادة المتّصلة المتولّدة، كالسّمن في الحيوان وزيادة وزنه، والبرء من داء كان فيه، والنّضج في الثّمر، والحمل الّذي يحدث زمن الخيار " أمّا الموجود عند العقد فهو معقود عليه، كالأمّ، فيقابله قسط من الثّمن على ما قال الشّافعيّة ". ب - الزّيادة المتّصلة غير المتولّدة من الأصل، ومثالها: الصّبغ والخياطة، والبناء في الأرض، والغرس فيها، ولتّ السّويق بسمن. ج - الزّيادة المنفصلة المتولّدة من: الولد، والثّمر، واللّبن، والبيض، والصّوف. د - الزّيادة المنفصلة غير المتولّدة من الأصل. ومثالها: غلّة المأجور، وأرش الجناية على عضو من الحيوان، والعقر وهو ما يعتبر مهراً للوطء بشبهة. هذا تقسيم الحنفيّة للزّوائد، وهم أكثر الفقهاء عنايةً بتنويعها، نظراً لتفاوت أحكامها عندهم بحسب تلك الأنواع. أمّا غير الحنفيّة فما بين موحّد النّظرة إلى الزّيادة، أو مكتف بتقسيم الزّوائد إلى متّصلة أو منفصلة وإدارة الحكم على ذلك فقط. وإنّ للزّوائد في محلّ الخيار أحكاماً أهمّها اثنان: أحدهما: لمن يكون ملك الزّوائد، والثّاني كونها تمنع الرّدّ، أي تعدم الخيار بإلزام صاحبه بالإجازة دون الفسخ. ذهب الحنفيّة إلى أنّ الأصل في الزّيادة أنّها تمنع الرّدّ ويسري امتناع الرّدّ على جميع أنواعها سوى الزّيادة المنفصلة غير المتولّدة اتّفاقاً، والزّيادة المتّصلة المتولّدة على خلاف. فحيث يمتنع الرّدّ ينبرم العقد ويلزم، وتكون الزّوائد مطلقًا للمشتري الّذي صار إليه ملك الأصل. أمّا في الزّيادة المنفصلة غير المتولّدة حيث لا يمتنع الرّدّ، وفي الزّيادة المتّصلة المتولّدة حيث اختلف في امتناعه، فقد اختلفوا فيمن يملك تلك الزّوائد على النّحو الآتي.
36 - إذا كانت زوائد محلّ الخيار من نوع المنفصلة غير المتولّدة من الأصل، ففيها يجري الخلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه. وهذا الخلاف لا مجال له إن اختار المشتري إمضاء العقد لأنّه حينئذ يتملّك الأصل والزّوائد اتّفاقاً، لأنّه بالإمضاء تبيّن أنّ الزّوائد كسب ملكه فكانت ملكاً له، أمّا إن اختار المشتري الفسخ وإعادة محلّ الخيار إلى البائع فهل يعيد معها الزّوائد أم لا؟ قال أبو حنيفة: يردّ الأصل مع الزّوائد بناءً على أنّ ملك المبيع كان موقوفاً، فإذا حصل الفسخ تبيّن أنّه لم يدخل في ملك المشتري فالزّيادة حصلت على ملك البائع فتردّ إليه مع الأصل. وعند الصّاحبين: المبيع دخل في ملك المشتري فكانت الزّوائد حاصلةً على ملكه، فيظهر أثر الفسخ في الأصل لا في الزّوائد لأنّها بقيت على حكم ملك المشتري فيأخذها هو وهذه المسألة مبنيّة على الخلاف الكبير السّابق.
37 - ذهب أبو حنيفة وأبو يوسف إلى أنّ الخيار يسقط بهذه الزّيادة. وقد عرفنا أنّه حيث يمتنع الرّدّ يتملّك صاحب الخيار الأصل والزّيادة، لأنّه تبيّن بإمضاء العقد أنّه المالك لمحلّ الخيار فيملك زوائده مهما كان وصفها. وعند الإمام محمّد لا يبطل الخيار فله أن يختار بين الإمضاء والفسخ. ويكون مصير هذه الصّورة مماثلاً للصّورة السّابقة " صورة الزّيادة المنفصلة غير المتولّدة " حيث يظلّ صاحب الخيار متمكّناً من استعمال خياره.
للمالكيّة منحىً آخر في شأن الزّوائد، فهم لم ينظروا إلى الاتّصال والانفصال، كما لم يعتبروا التّولّد على إطلاقه، بل خصّوا ما يعتبر جزءاً باقياً من المبيع فاعتبروه لا ينفصل عنه في العقد، ومثّلوا له بالولد والصّوف، فالولد لأنّه ليس بغلّة - ومثله الصّوف - تمّ أم لا " لأنّهما كجزء المبيع، أي أنّ الولد كالجزء الباقي، بخلاف أرش الجناية فإنّه كجزء فات وهو على ملك البائع " يكون مملوكًا للمشتري، وما عداه فهو للبائع، لأنّهم قائلون بأنّ الملك في الأصل - زمن الخيار - يظلّ للبائع حتّى يستعمل صاحب الخيار خياره. ويترتّب على هذا أن تكون الزّوائد كلّها - عدا الولد والصّوف - للبائع. ومن ذلك: أ - الغلّة الحادثة زمن الخيار من لبن وسمن وبيض، للبائع أيضاً. ب - أرش الجناية على المبيع بالخيار للبائع أيضاً. أمّا الشّافعيّة فقد صرّحوا بأنّه لو حصلت زوائد منفصلة في زمن الخيار، كاللّبن والبيض والثّمر، فهي لمن له الملك وهو من انفرد بالخيار، فإن كان الخيار لهما فهي موقوفة كحكم البيع نفسه، فإن فسخ البيع فهي للبائع وإلاّ فللمشتري. أمّا الزّوائد المتّصلة فتابعة للأصل. والحمل الموجود عند البيع كالأصل في أنّه مبيع لمقابلته بقسط من الثّمن، كما لو بيع معه بعد الانفصال لا كالزّوائد. أمّا عند الحنابلة فالزّوائد للمشتري أيضاً، ويشتمل ذلك على المتّصلة والمنفصلة كالكسب والأجرة بل لو كانت نماءً منفصلاً متولّداً من عين المبيع كالثّمرة والولد واللّبن، والحكم كذلك ولو كان المبيع في يد البائع قبل القبض " وفي هذه الحال تعتبر الزّوائد أمانةً عند البائع فلا يضمنها للمشتري إن تلفت بغير تعدّ ولا تفريط خلافًا لحكم المبيع نفسه فهو مضمون قبل قبضه " وسواء تمخّض الخيار عن إمضاء العقد أو فسخه. وقد استدلّ ابن قدامة للمذهب بحديث: «الخراج بالضّمان». وهذا من ضمان المشتري، واستدلّ له أيضاً بانتقال الملك إلى المشتري، أي فهي تتبعه في الانتقال.
38 - اتّفق الفقهاء على أنّه لا يجب تسليم البدلين في مدّة الخيار في حال الإطلاق وعدم اشتراط التّسليم، فليس بواجب على البائع تسليم المبيع ابتداءً، ولا يجب على المشتري تسليم الثّمن ابتداءً لاحتمال الفسخ ما لم تمض مدّة الخيار، أو يسقط صاحب الخيار خياره. أمّا التّسليم للثّمن أو المبيع اختياراً وطواعيةً فلا مانع منه عندهم أي لا يبطل الخيار، فإذا بادر أحدهما أو كلاهما إلى تسليم ما بيده - في مدّة الخيار - فهو جائز، لأيّ منهما كان الخيار، ولا أثر للتّسليم على الخيار فنقد الثّمن للبائع أو دفع المبيع للمشتري لا يبطل الخيار شريطة أن يكون تسليم البائع المبيع للمشتري على وجه الاختبار والنّظر في صلوحه أو عدمه، أمّا إن سلّمه المبيع على وجه التّمليك - والخيار للبائع - فإنّ خياره يبطل. وإذا سلّم أحدهما تطوّعاً فامتنع الآخر فقد اختلف فيه الفقهاء، فأبو حنيفة ذهب إلى أنّه لا يجبر الآخر على التّسليم أيّاً كان صاحب الخيار وله استرداده. ومذهب الشّافعيّة عدم إجبار الآخر أيضاً وهم يقولون: بأنّ لمن سلّم مؤمّلاً التّسليم من صاحبه فلم يحدث، فله أن يستردّ.
39 - يسقط الخيار قبل استعماله بعدد من الأسباب هي: البلوغ في حقّ الصّبيّ الّذي عقد عنه وليّه أو وصيّه، والجنون ونحوه، وموت صاحب الخيار على خلاف في هذا السّبب الأخير: أ - بلوغ الصّبيّ مستحقّ الخيار: 40 - يرى الإمام أبو يوسف من الحنفيّة أنّ دخول الصّغير صاحب الخيار في طور البلوغ، في مدّة خيار الشّرط وغيره من الخيارات المحدّدة بوقت يسقط به الخيار للوليّ أو الوصيّ سعيًا منهما لمصلحة الصّبيّ، ويلزم به العقد. أمّا الإمام محمّد، فقد جزم بأنّ الخيار لا يسقط، ثمّ تعدّدت الرّوايات عنه في مصير الخيار بعدئذ هل ينتقل إلى الصّغير في المدّة أو بدون تحديد مدّة، أو يبقى للوصيّ أو الوليّ؟ ولم نجد لغير الحنفيّة كلاماً في هذه المسألة. ب - طروء الجنون ونحوه: 41 - قد يطرأ الجنون على العاقد صاحب الخيار، ومثله " ما هو في حكمه من حيث ذهاب العقل وعجز الإنسان عن إظهار موقفه، كالإغماء والنّوم أو السّكتة " فإذا بقي ذلك حتّى استغرق وقت الخيار من حالة توقيته سقط الخيار. لكنّ سقوطه ليس لكون الجنون من أسباب سقوط الخيار، بل لانقضاء المدّة دون صدور فسخ منه، فالجنون نفسه ليس مسقطًا بل استغراق الوقت كلّه دون فسخ، ولذا لو أفاق خلال المدّة كان على خياره فيما بقي منها في الأصحّ لدى الحنفيّة. قال ابن نجيم: والتّحقيق أنّ الإغماء والجنون لا يسقطان الخيار وإنّما المسقط له مضيّ المدّة من غير اختيار. واختلف في السّكر هل هو في حكم الجنون أم يفرّق بين ما يحصل منه بالبنج ونحوه من الوسائل المستخدمة في الطّبّ، وبين السّكر بالمحرّم. وينظر في المطوّلات. وقال المالكيّة: إن جنّ من له الخيار وعلم أنّه لا يفيق أو يفيق بعد طول يضرّ الصّبر إليه بالآخر، نظر السّلطان في الأصلح له، أي لا يسقط الخيار. وسيأتي تفصيله في انتقال الخيار. ج - تغيّر محلّ الخيار: 42 - إذا كان تغيّر محلّ الخيار بالهلاك والتّعيّب أو النّقصان، فإنّ الخيار يسقط بهلاك المبيع قبل القبض بلا خلاف بين الفقهاء أسوةً بالعقد الباتّ، فهذا أولى، لأنّه أضعف منه لوجود شرط الخيار. أمّا إن كان الهلاك بعد القبض فقد اختلفت فيه المذاهب، فهو مسقط للخيار عند الحنابلة مطلقاً. وهو بمثابة الفسخ للعقد وسقوط الخيار تبعاً عند المالكيّة. أمّا الحنفيّة والشّافعيّة فيربطونه بمسألة انتقال الملك، فهو عند الحنفيّة يفترق بين كون الخيار للبائع وحده أو له وللمشتري - فالملك للبائع - فإذا هلك لم تمكن المبادلة عليه فينفسخ العقد ويبطل الخيار. أمّا إن كان الخيار للمشتري فالهلاك في عداد مسقطات الخيار الّتي يلزم بها العقد لأنّه عجز عن التّصرّف بحكم الخيار حين أشرفت السّلعة على الهلاك. والشّافعيّة يقولون: إن كان الخيار للبائع وحده ينفسخ العقد، لأنّ الملك للبائع وتعذّر نقله، أمّا إن كان الخيار للمشتري أو لهما معاً، فلا أثر للهلاك على العقد أو الخيار إنّما تتأثّر تصفية هذا العقد، فإن اختار صاحب الخيار الإمضاء فالواجب هو الثّمن وإن اختار الفسخ فالواجب ردّ المثل أو القيمة بدلًا من المبيع. ومثل الهلاك النّقصان بالتّعيّب بما لا يحتمل الارتفاع أو لا يرجى زواله مهما كان قدره أو فاعله، لإخلال النّقصان بشرط ردّ المبيع كما قبض. أمّا لو كان يرجى زواله كالمرض فالخيار باق ولا يردّ حتّى يبرأ في المدّة فإن مضت ولم يبرأ لزم البيع. 43 - وإن كان التّغيّر بالزّيادة: إن كان الخيار للبائع فلا خلاف أنّها لا أثر لها في سقوط الخيار، وإن كان الخيار للمشتري فلا أثر لها أيضاً عند الجمهور مهما كان نوعها وكذلك الحنفيّة في الزّيادة المتّصلة، أو المنفصلة غير المتولّدة، أمّا المنفصلة المتولّدة من الأصل فإنّها تسقط الخيار لتعذّر ورود الفسخ عليها، لأنّها غير مبيع، فالرّدّ بدونها مؤدّ لشبهة الرّبا، وإن ردّها مع الأصل كان ربح ما لم يضمن. د - إمضاء أحد الشّريكين: 44 - إذا تعاقد شريكان مع آخر على أنّهما بالخيار فأجاز أحدهما دون الآخر سقط الخيار بالنّسبة لهما جميعاً ولزم العقد، وهذا عند أبي حنيفة، بحيث لا يملك الشّريك الآخر الفسخ، أمّا عند الصّاحبين فالخيار لا يسقط عمّن لم يجز العقد بل يبقى خياره على حاله. ولم نجد لغير الحنفيّة كلاماً في هذه المسألة. هـ - موت صاحب الخيار: 45 - ذهب الحنفيّة والحنابلة إلى سقوط الخيار بموت صاحبه، سواء أكان الخيار للبائع أم للمشتري، وسواء أكان صاحب الخيار أصيلاً أم نائباً " وكيلاً، أو وصيّاً، أو وليّاً " فبموت من له الخيار يسقط. أمّا المالكيّة والشّافعيّة، فقد ذهبوا إلى بقاء الخيار للورثة، فموت صاحب الخيار عند هؤلاء ليس مسقطاً، بل هو ناقل فقط. أمّا وفاة من عليه الخيار فلا يسقط بها الخيار، بل يبقى الخيار لصاحبه ويكون ردّه إن شاء الرّدّ في مواجهة الورثة، قال السّرخسيّ: وأجمعوا " أي الحنفيّة " أنّه إذا مات من عليه الخيار فإنّ الخيار باق.
46 - ينتهي خيار الشّرط بأحد سببين: الأوّل: إمضاء العقد بإجازته أو بمضيّ مدّة الخيار دون فسخ، والثّاني: فسخ العقد.
47 - ينتهي الخيار بإمضاء العقد، ويكون ذلك إمّا بإجازته، وإمّا بمضيّ مدّة الخيار.
48 - إمضاء العقد بالإجازة ينهي الخيار بالاتّفاق، لأنّ الأصل في العقد اللّزوم والامتناع يعارض الخيار وقد بطل بالإجازة فيلزم العقد.
49 - قسّم الحنفيّة الإجازة إلى نوعين: صريح أو شبه الصّريح، ودلالة. فالصّريح، بالنّسبة للبائع، أن يقول: أجزت العقد - أو البيع مثلاً - أو أمضيته أو أوجبته، أو ألزمته، أو رضيته، أو أسقطت الخيار، أو أبطلته. وشبه الصّريح ما يجري مجرى ذلك، سواء أعلم المشتري الإجازة أم لم يعلم. وذكر الحنفيّة أنّ صاحب الخيار لو قال: هويت أخذه، أو أحببت، أو أعجبني، أو وافقني لا يبطل خياره. أمّا الدّلالة فهي أن يتصرّف صاحب الخيار في محلّ الخيار تصرّف الملّاك، كالبيع، والمساومة، والإجارة، والهبة، والرّهن، سلّم أو لم يسلّم. لأنّ جواز هذه التّصرّفات يعتمد الملك، فالإقدام عليها يكون دليل قصد التّملّك، أو تقرّر الملك - على اختلاف الأصلين - وذلك دليل الإمضاء. هذا إذا كان الخيار للمشتري فإذا كان للبائع فالدّلالة على الإمضاء في حقّه أن يتصرّف في الثّمن بعد قبضه بالبيع أو نحوه، إذا كان الثّمن ممّا يتعيّن بالتّعيين. هذا ولا يشترط بقاء المحلّ للإجازة، ذلك أنّه في الإجازة يثبت الحكم بطريق الظّهور المحض، وليس الإنشاء، فبالإجازة يظهر أنّ العقد من وقت وجوده انعقد في حقّ الحكم، والمحلّ كان قابلاً وقت العقد فهلاكه بعد ذلك لا يمنع الإجازة. كما لا يشترط علم العاقد الآخر بالإجازة. فلو أجاز العقد فإنّه لازم منذ الإجازة سواء أبلغ العاقد الآخر ذلك أم لا. ونحو هذا التّقسيم جاء في المذاهب الأخرى.
50 - جاء في فتاوى قاضي خان أنّه لو صالح المشتري البائع صاحب الخيار على دراهم مسمّاة، أو على عرض بعينه على أن يسقط الخيار ويمضي البيع جاز ذلك ويكون زيادةً في الثّمن. وكذا لو كان صاحب الخيار هو المشتري فصالحه البائع على أن يسقط الخيار فيحطّ عنه من الثّمن كذا أو يزيده هذا العرض بعينه في البيع جاز ذلك أيضاً. ثانياً - انتهاء الخيار بمضيّ المدّة: 51 - اتّفق الفقهاء - في الجملة - على أنّ مضيّ المدّة ينتهي به خيار الشّرط، ذلك لأنّه خيار مؤقّت بمدّة " سواء أكانت بتحديد العاقد، أم بتقدير الشّارع في حال الإطلاق "، فإذا انقضت المدّة الّتي وقّت بها الخيار فمن البدهيّ أن ينتهي بمضيّها " لأنّ المؤقّت إلى غاية ينتهي عند وجود الغاية ". واشتراط الخيار في مدّة معلومة منع من لزوم العقد تلك المدّة - والأصل هو اللّزوم - فبانقضاء المدّة يثبت موجب العقد، وترك صاحب الخيار الفسخ حتّى تنقضي المدّة رضاً منه بالعقد. على ذلك تواردت نصوص الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة، خلافاً للقاضي أبي يعلى منهم. أمّا المالكيّة فهم في الحقيقة قائلون بأنّ مضيّ المدّة ينهي الخيار، غير أنّ لهم اتّجاهاً خاصّاً فيما ينتج عن مضيّ المدّة، فإذا كان الحال عند غيرهم اعتباره إمضاءً للعقد من صاحب الخيار كائناً من كان، فمذهب المالكيّة أنّه انتهاء للخيار وليس إمضاءً للعقد إلاّ حيث تنقضي المدّة، والمبيع بيد من له الخيار، فإذا كان الخيار للمشتري " مثلاً " كان ترك المبيع في يده بمثابة الإمضاء ولزوم العقد عليه، أمّا إذا كان الخيار للبائع وانقضى الأمد - والمبيع في يده - فذلك بمثابة الفسخ من البائع. هذا من حيث أداؤه إلى إمضاء العقد. أمّا اعتبار مضيّ المدّة فسخاً أو إجازةً فينظر إلى من ينقضي زمن الخيار والمبيع بيده، سواء أكان صاحب الخيار أم غيره، فإن كان بيد البائع آنئذ فهو فسخ، وإن كان بيد المشتري فهو إمضاء، قال الدّسوقيّ: " يلزم المبيع بالخيار من هو بيده منهما كان صاحب الخيار أو غيره بانقضاء زمن الخيار وما ألحق به وهو اليوم واليومان ". وللمالكيّة تفصيلات تنظر في كتبهم.
52 - ينقسم الفسخ إلى صريح ودلالة، أو بنظرة أخرى إلى فسخ قوليّ، وفسخ فعليّ، فالفسخ القوليّ أو الصّريح يقع بمثل قوله: فسخت البيع، أو استرجعت المبيع، أو رددته، أو رددت الثّمن ونحو ذلك، فكلّ هذا فسخ صريح، ومنه قول البائع في زمن الخيار: لا أبيع حتّى تزيد في الثّمن، مع قول المشتري لا أفعل، وكذلك منه عكس هذه الصّورة بأن يقول المشتري: لا أشتري حتّى ينقص عنّي من الثّمن، على قول البائع لا أفعل. وكذا منه طلب البائع حلول الثّمن المؤجّل، وطلب المشتري تأجيل الثّمن الحالّ فكلّ هذا فسخ. وصورة الفسخ دلالةً - ويسمّى الفسخ الفعليّ - " أو الفسخ بالفعل كما سمّاه ابن الهمام ": أن يتصرّف صاحب الخيار تصرّف الملّاك في المبيع. هذا إذا كان صاحب الخيار هو البائع، فإن كان هو المشتري فبأن يتصرّف تصرّف الملّاك في الثّمن، شريطة أن يكون الثّمن عيناً. أمّا إن كان ديناً فلا يتصوّر الفسخ دلالةً في حقّ البائع ولذلك أغفله ابن الهمام مقتصراً على تصويره في حقّ المشتري، لأنّه لو تصرّف البائع في الثّمن - وهو دين - يحمل على أنّه تصرّف في ماله الخاصّ لا في الثّمن " لأنّ الأثمان لا تتعيّن بالتّعيين ". والسّبب في الاعتداد بالتّصرّف كالملّاك في إسقاط الخيار أنّ الخيار إذا كان للبائع فتصرّفه في المبيع تصرّف الملّاك دليل استبقاء ملكه فيه. وإذا كان الخيار للمشتري فتصرّفه تصرّف الملّاك في الثّمن إذا كان عيناً دليل أيضاً على استبقاء ملكه فيه. واستبقاء ملك كلّ منهما لا يكون إلاّ بالفسخ، فالإقدام على التّصرّف المذكور يكون فسخاً للعقد دلالةً، قال ابن الهمام، ومن قبله الكاسانيّ: " والحاصل أنّ ما وجد من البائع في المبيع لو وجد منه في الثّمن لكان إجازةً للبيع: يكون فسخاً للبيع دلالةً ". والفسخ دلالةً متّفق على عدم اشتراط علم الآخر به، أمّا في الفسخ الصّريح أو ما يجري مجراه ففيه خلاف بين الحنفيّة. ثمّ إنّ للفسخ دلالةً بعد هذا الضّابط تفاريع منها: - أكل المبيع وشربه ولبسه، يسقط الخيار. وفي فتاوى قاضي خان: إذا لبسه مرّةً لا يبطل خياره. - النّسخ من الكتاب، لنفسه أو غيره، لا يسقط الخيار، ولو درس فيه يسقط. - ركوب الدّابّة ليسقيها، أو يردّها، ويعلفها، إجازة. وقيل إن كان لا يمكنه ذلك بدون الرّكوب لا يكون إجازةً. وأطلق قاضي خان في فتاويه أنّه لا يبطل خياره فقال: وركوبها ليسقيها أو يردّها على البائع لا يبطل خياره استحسانًا، فجعله من الاستحسان. - بيع محلّ الخيار من غيره، أو هبته أو رهنه - مع التّسليم - مسقط للخيار، أمّا لو وهبه أو رهنه ولم يسلّم لا ينفسخ. - إيجار محلّ الخيار فسخ ولو لم يسلّم، وقيل: ليس فسخاً ما لم يسلّم. - تسليم محلّ الخيار إلى المشتري في مدّة الخيار، وفرّق أبو بكر بن الفضل بين التّسليم على وجه الاختيار فلا يبطل خياره ولا يملكه المشتري، والتّسليم على وجه التّمليك فيبطل خياره. قال الزّيلعيّ: وكذا كلّ تصرّف لا يحلّ إلاّ في الملك، وكذا كلّ تصرّف لا ينفذ إلاّ في الملك كالبيع والإجارة.
53 - يشترط لاعتبار الفسخ نافذاً الشّرائط التّالية: أ - قيام الخيار، لأنّ الخيار إذا زال، بالسّقوط مثلاً، يلزم العقد، فلا أثر للفسخ حينئذ. ب - علم العاقد الآخر بالفسخ، ويعبّر عنه في بعض المراجع الفقهيّة بعبارة الفسخ بحضرة العاقد، وعكسه الفسخ في غيبته، والمراد من الحضرة، العلم لا الحضور، وذلك عند أبي حنيفة ومحمّد، فإن جرى الفسخ من صاحب الخيار دون علم العاقد الآخر فالفسخ موقوف: إن علم به في مدّة الخيار نفذ، وإن لم يبلغه حتّى مضت المدّة لزم العقد لعدم اعتبار ذلك الفسخ. وفي هذه الفترة - حيث يعتبر موقوفاً - لو عاد العاقد عن فسخه فأمضى العقد قبل علم الآخر فذلك منه معتبر فيلزم العقد ويبطل فسخه السّابق. أمّا أبو يوسف فقد نقلت عنه أقوال ثلاثة: الأوّل مثل مذهب أبي حنيفة ومحمّد وقد رجع عنه، وقول آخر له بعدم اشتراط علم العاقد الآخر، وقول ثالث بالنّظر إلى صاحب الخيار، فإن كان هو البائع فلا يشترط بل يقتصر اشتراط العلم في خيار المشتري لكنّ القول المشهور عنه عدم اشتراط علم العاقد الآخر بالفسخ ورجّح ابن الهمام قول أبي يوسف هذا، وبيّن أنّ الفسخ بالقول هو الّذي وقع الخلاف في جوازه بغير علم الآخر، وأمّا الفسخ بالفعل فيجوز بغير علمه اتّفاقًا بين أئمّة الحنفيّة. وعدم اشتراط علم العاقد الآخر بالفسخ هو مذهب الجمهور: المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة والرّوايات السّابقة لبعض أئمّة الحنفيّة، وهو مذهب الثّوريّ وأبي ثور، على ما ذكر الطّبريّ. واستدلّوا بأنّ الفاسخ منها مسلّط على الفسخ من جهة صاحبه الّذي لا خيار له فلا يتوقّف فسخه على علمه، فهو كبيع الوكيل مع عدم علم الموكّل وهو جائز، فلا يشترط الرّضا هنا ولا هناك، ولهذا نظائر، منها: أنّ الفسخ كالإجازة في هذا، لأنّهما شقيقان كلاهما لاستعمال الخيار فهو - كما قال البابرتيّ - قياس لأحد شطري العقد على الآخر. ج - أن لا ينشأ عن الفسخ تفريق الصّفقة، أي أن يقع الفسخ على جميع الصّفقة، فليس له أن يمضي العقد في بعض الصّفقة ويفسخ في بعضها الآخر، لأنّ ذلك يؤدّي إلى تفرّق الصّفقة. ومثل ذلك يقال في الإجازة في البعض، فينشأ عنه تفريق الصّفقة في اللّزوم وهو لا يجوز إلاّ برضاهما. والمالكيّة يجبرون العاقد على ردّ الجميع إن أجاز العقد في البعض وردّ البعض حيث لم يرض العاقد الشّركة، وقال الشّافعيّة: لو أراد الفسخ في أحد الشّيئين اللّذين فيهما الخيار فالأصحّ لا يجوز لتفريق الصّفقة، أمّا لو اشترى اثنان شيئًا من واحد صفقةً واحدةً بشرط الخيار فلأحدهما الفسخ في نصيبه. الأدلّة: لكلّ من القائلين باشتراط علم العاقد الآخر أو عدم اشتراطه أدلّة تدور بين وجوه من المعقول والاستشهاد بالنّظائر الفقهيّة.
54 - ذهب مالك والشّافعيّ إلى أنّ خيار الشّرط ينتقل إلى الوارث بموت الموروث، وذكر أبو الخطّاب من الحنابلة وجهاً بإرث خيار الشّرط مطلقاً. وقد علّل القائلون بانتقال الخيار للوارث باعتبار الخيار من مشتملات التّركة، لأنّه حقّ ثابت لإصلاح المال، كالرّهن وحبس المبيع على تحصيل الثّمن. واستدلّوا بأدلّة من السّنّة والمعقول. فمن السّنّة قوله صلى الله عليه وسلم: «من ترك مالاً أو حقّاً فلورثته»، وخيار الشّرط حقّ للموروث فينتقل إلى الوارث بموته كما يقضي الحديث. ثمّ قاسوا خيار الشّرط على خياري العيب والتّعيين المتّفق على انتقالهما للوارث بالموت، بجامع أنّ كلّاً من تلك الخيارات يتعلّق بالعين فينتقل إلى الوارث بمجرّد انتقالها. وذهب الحنفيّة إلى أنّ خيار الشّرط لا يورث، ومن عباراتهم في تقرير ذلك قول الزّيلعيّ: الخيار صفة للميّت، لأنّه ليس هو إلاّ مشيئةً وإرادةً فلا ينتقل عنه كسائر أوصافه. واستدلّوا لمذهبهم بأنّ حقّ الفسخ بخيار الشّرط لا يصحّ الاعتياض عنه فلم يورث، نظير حقّ الرّجوع في الهبة قبل القبض إذا مات الواهب لم يورث عنه. وقالوا أيضاً: خيار الشّرط ليس وصفاً بالمبيع حتّى يورث بإرثه وإنّما هو مشيئة وإرادة، فهو وصف قائم بشخص من ثبت له فلا يورث عنه، لأنّ الإرث يجري فيما يمكن نقله، والوصف الشّخصيّ لا يقبل النّقل بحال. وذهب الحنابلة وحدهم إلى التّفصيل بين مطالبة الميّت بالخيار قبل موته أو عدم المطالبة، فإن مات صاحب الخيار دون أن يطالب بحقّه في الخيار، بطل الخيار ولم يورث، أمّا إن طالب بذلك قبل موته فإنّه يورث عنه. فالأصل أنّ خيار الشّرط غير موروث إلاّ بالمطالبة من المشترط. وقد صوّره بعض متأخّري الحنابلة بأنّه نقل، وتوريث من المورّث لورثته بإراداته، حيث جاء في الفواكه العديدة قول الفقيه عبد اللّه بن ذهلان - شيخ المؤلّف -: " إذا مات وورث خياره ورثته، لشرطة لهم فأسقطه أحد الورثة سقط خيار الجميع ". وقد جاءت تلك العبارة إيضاحاً وتقييداً لعبارة أحد الكتب الّتي جاءت موهمةً أنّ خيار الشّرط يورث مطلقاً، وليس الأمر كذلك بل يشترط لذلك مطالبة المورّث بحقّ الخيار. وأمّا ابن قدامة فقال: المذهب أنّ خيار الشّرط بالنّسبة للميّت منهما يبطل بموته، ويبقى خيار الآخر بحاله، إلاّ أن يكون الميّت قد طالب بالفسخ قبل موته فيه فيكون لورثته.
55 - سبق مذهب الحنفيّة في أنّ الجنون يسقط الخيار على تفصيل ينظر في فقرة /41. وأمّا الشّافعيّة فلا فرق عندهم بين البائع والمشتري، فقد ذهبوا إلى أنّه إذا طرأ الجنون - أو الإغماء - على صاحب الخيار لم ينقطع خياره، بل يقوم وليّه أو الحاكم مقامه فيفعل ما فيه الأحظّ من الفسخ والإجازة وكذلك إذا أصابه خرس - ولم تكن له إشارة مفهومة أو كتابة - نصّب الحاكم نائباً عنه. ولم نجد للحنابلة كلاماً في هذه المسألة. أمّا المالكيّة فقد فرّقوا بين الجنون والإغماء: أ - ففي الجنون إذا علم أنّه لا يفيق، أو يفيق بعد وقت طويل يضرّ الانتظار إليه بالعاقد الآخر، ينظر السّلطان أو نوّابه في الأصلح له من إمضاء أو ردّ، ولو لم ينظر السّلطان حتّى مضى جزء من المدّة فزال الجنون يحتسب ما مضى من المدّة على الظّاهر، ولو لم ينظر حتّى أفاق بعد أمد الخيار لا يستأنف له أجل على الظّاهر، والمبيع لازم لمن هو بيده. ومثل المجنون - في الحكم - المفقود، على الرّاجح، وقيل: هو كالمغمى عليه. ب - وفي الإغماء ينتظر المغمى عليه لكي يفيق ويختار لنفسه، إلاّ إذا مضى زمن الخيار وطال إغماؤه بعد مضيّ المدّة بما يحصل به الضّرر للآخر فيفسخ. ولا ينظر له السّلطان. فإن لم يفسخ حتّى أفاق بعد أيّام الخيار استؤنف له الأجل، وهذا الحكم خلاف ما مرّ في المجنون. هذا وقد يزول الطّارئ الّذي نقل الخيار بسببه من صاحبه إلى غيره، كالجنون النّاقل للخيار إلى السّلطان، لو أفاق بعده لا عبرة بما يختاره بل المعتبر بما نظره السّلطان. هذا ما ذهب إليه المالكيّة، وخالفهم فيه الشّافعيّة، ففي هذه الحال: لو أفاق العاقد وادّعى أنّ الغبطة خلاف ما فعله القيّم عنه ينظر الحاكم في ذلك، فإن وجد الأمر كما يقول المفيق مكّنه من الفسخ والإجازة ونقص فعل القيّم، وإن لم يكن ما ادّعاه المفيق ظاهراً، فالقول قول القيّم مع يمينه، لأنّه أمين فيما فعله إلاّ أن يقيم المفيق بيّنةً بما ادّعاه.
|