الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المغني **
والقسم بصفات الله ـ تعالى كالقسم بأسمائه وصفاته تنقسم أيضا ثلاثة أقسام أحدها ما هو صفات لذات الله ـ تعالى, لا يحتمل غيرها كعزة الله تعالى وعظمته, وجلاله وكبريائه وكلامه فهذه تنعقد بها اليمين في قولهم جميعا وبه يقول الشافعي, وأصحاب الرأي لأن هذه من صفات ذاته لم يزل موصوفا بها وقد ورد الأثر بالقسم ببعضها, فروى أن النار تقول: " قط قط وعزتك " رواه البخاري والذي يخرج من النار يقول: " وعزتك لا أسألك غيرها " وفي كتاب الله ـ تعالى ـ : الثاني, ما هو صفة للذات ويعبر به عن غيرها مجازا كعلم الله وقدرته, فهذه صفة للذات لم يزل موصوفا بها وقد تستعمل في المعلوم والمقدور اتساعا كقولهم: اللهم اغفر لنا علمك فينا ويقال: اللهم قد أريتنا قدرتك, فأرنا عفوك ويقال: انظر إلى قدرة الله أي مقدوره فمتى أقسم بهذا كان يمينا وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة إذا قال: وعلم الله لا يكون يمينا لأنه يحتمل المعلوم ولنا, أن العلم من صفات الله ـ تعالى فكانت اليمين به يمينا موجبة للكفارة كالعظمة, والعزة والقدرة وينتقض ما ذكروه بالقدرة, فإنهم قد سلموها وهي قرينتها فأما إن نوى القسم بالمعلوم والمقدور, احتمل أن لا يكون يمينا وهو قول أصحاب الشافعي لأنه نوى بالاسم غير صفة لله مع احتمال اللفظ ما نواه فأشبه ما لو نوى القسم بمحلوف في الأسماء التي يسمى بها غير الله ـ تعالى وقد روي عن أحمد, أن ذلك يكون يمينا بكل حال ولا تقبل منه نية غير صفة الله ـ تعالى وهو قول أبي حنيفة في القدرة لأن ذلك موضوع للصفة فلا يقبل منه نية غير الصفة, كالعظمة وقد ذكر طلحة العاقولي في أسماء الله تعالى المعرفة فاللام التعريف كالخالق والرازق, أنها تكون يمينا بكل حال لأنها لا تنصرف إلا إلى اسم الله كذا هذا الثالث مالا ينصرف بإطلاقه إلى صفة الله تعالى, لكن ينصرف بإضافته إلى الله ـ سبحانه ـ لفظا أو نية كالعهد والميثاق, والأمانة ونحوه فهذا لا يكون يمينا مكفرة إلا بإضافته أو نيته وسنذكر ذلك فيما بعد ـ إن شاء الله تعالى ـ . وإن قال: وحق الله فهي يمين مكفرة وبهذا قال مالك, والشافعي وقال أبو حنيفة: لا كفارة لها لأن حق الله طاعته ومفروضاته وليست صفة له ولنا أن لله حقوقا يستحقها لنفسه من البقاء, والعظمة والجلال والعزة, وقد اقترن عرف الاستعمال بالحلف بهذه الصفة فتنصرف إلى صفة الله تعالى كقوله: وقدرة الله وإن نوى بذلك القسم بمخلوق, فالقول فيه كالقول في الحلف بالعلم والقدرة إلا أن احتمال المخلوق بهذا اللفظ أظهر. وإن قال: لعمر الله فهي يمين موجبة للكفارة وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعي إن قصد اليمين, فهي يمين وإلا فلا وهو اختيار أبي بكر لأنها إنما تكون يمينا بتقدير خبر محذوف فكأنه قال: لعمر الله ما أقسم به فيكون مجازا, والمجاز لا ينصرف إليه الإطلاق ولنا أنه أقسم بصفة من صفات ذات الله فكان يمينا موجبا للكفارة, كالحلف ببقاء الله ـ تعالى فإن معنى ذلك الحلف ببقاء الله ـ تعالى وحياته ويقال: العمر والعمر واحد وقيل: معناه وحق الله وقد ثبت له عرف الشرع والاستعمال, قال الله تعالى:
فلا لعمر الذي قد زرته حججا ** وما أريق على الأنصاب من جسد وقال آخر: إذا رضيت كرام بنى قشير ** لعمر الله أعجبنى رضاها وقال آخر: ولكن لعمر الله ما ظل مسلما ** كغر الثنايا واضحات الملاغم وهذا في الشعر والكلام كثير وأما احتياجه إلى التقدير فلا يصح فإن اللفظ إذا اشتهر في العرف, صار من الأسماء العرفية يجب حمله عليه عند الإطلاق دون موضوعه الأصلى على ما عرف من سائر الأسماء العرفية, ومتى احتاج اللفظ إلى التقدير وجب التقدير له ولم يجز اطراحه, ولهذا يفهم مراد المتكلم به من غير اطلاع على نية قائله وقصده كما يفهم أن مراد المتكلم بهذا من المتقدمين القسم ويفهم من القسم بغير حرف القسم في أشعارهم القسم في مثل قوله: فقلت يمين الله أبرح قاعدا ** ويفهم من القسم الذي حذف في جوابه حرف " لا " أنه مقدر مراد, كهذا البيت ويفهم من قول الله تعالى: {اسأل القرية} [يوسف: 82]. أيها المنكح الثريا سهيلا ** عمرك الله كيف يلتقيان
فقد قيل: هو مثل قوله: نشدتك الله ولهذا ينصب اسم الله تعالى فيه وإن قال: لعمري, أو عمرك فليس بيمين في قول أكثرهم وقال الحسن في قوله: لعمرك: عليه الكفارة ولنا أنه أقسم بحياة مخلوق, فلم تلزمه كفارة كما لو قال: وحياتى وذلك لأن هذا اللفظ يكون قسما بحياة الذي أضيف إليه العمر فإن التقدير, لعمرك قسمى أو ما أقسم به والعمر: الحياة أو البقاء. وإن قال: وايم الله, أو وايمن الله فهي يمين موجبة للكفارة والخلاف فيه كالذي ذكرناه في الفصل الذي قبله وقد كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقسم به وانضم إليه عرف الاستعمال, فوجب أن يصرف إليه واختلف في اشتقاقه فقيل: هو جمع يمين وحذفت النون فيه في البعض تخفيقا لكثرة الاستعمال وقيل: هو من اليمين, فكأنه قال: ويمين الله لأفعلن وألفه ألف وصل. وحروف القسم ثلاثة الباء وهي الأصل وتدخل على المظهر والمضمر جميعا والواو, وهي بدل من الباء وتدخل على المظهر دون المضمر لذلك وهي أكثر استعمالا, وبها جاءت أكثر الأقسام في الكتاب والسنة وإنما كانت الباء الأصل لأنها الحرف الذي تصل به الأفعال القاصرة عن التعدي إلى مفعولاتها والتقدير في القسم, أقسم بالله كما قال الله تعالى: تالله يبقى على الأيام ذو حيد ** بمشمخر به الضيان والآس
فإن قال: ما أردت به القسم لم يقبل منه لأنه أتى باللفظ الصريح في القسم, واقترنت به قرينة دالة عليه وهو الجواب بجواب القسم ويحتمل أن يقبل منه في قوله: تالله لأقومن إذا قال: أردت أن قيامى بمعونة الله وفضله لأنه فسر كلامه بما يحتمله ولا يقبل في الحرفين الآخرين لعدم الاحتمال ويحتمل أن لا يقبل بحال لأنه أجاب بجواب القسم فيمنع صرفه إلى غيره. وإن أقسم بغير حرف القسم, فقال: الله لأقومن بالجر أو النصب كان يمينا وقال الشافعي: لا يكون يمينا إلا أن ينوي لأن ذكر اسم الله تعالى بغير حرف القسم, ليس بصريح في القسم فلا ينصرف إليه إلا بالنية ولنا أنه سائغ في العربية, وقد ورد به عرف الاستعمال في الشرع فروى (أن عبد الله بن مسعود أخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قتل أبا جهل فقال: آلله إنك قتلته؟ قال: الله إني قتلته) ذكره البخاري (وقال لركانة بن عبد يزيد: الله ما أردت إلا واحدة؟ قال ما أردت إلا واحدة) وقال امرؤ القيس: فقلت يمين الله أبرح قاعدا ** وقال أيضا: فقالت يمين الله ما لك حيلة** وقد اقترنت به قرينتان تدلان عليه إحداهما الجواب بجواب القسم والثاني, النصب والجر في اسم الله ـ تعالى فوجب أن تكون يمينا كما لو قال: والله وإن قال: الله لأفعلن بالرفع ونوى اليمين, فهي يمين لكنه قد لحن فهو كما لو قال: والله بالرفع وإن لم ينو اليمين, فقال أبو الخطاب: يكون يمينا لأن قرينة الجواب بجواب القسم كافية والعامي لا يعرف الإعراب فيأتي به إلا أن يكون من أهل العربية, فإن عدوله عن إعراب القسم دليل على أنه لم يرده ويحتمل أن لا يكون قسما في حق العامي لأنه ليس بقسم في حق أهل العربية فلم يكن قسما في غيرهم كما لو لم يجبه بجواب القسم. ويجاب القسم بأربعة أحرف حرفان للنفي, وهما " ما " و " لا " وحرفان للإثبات وهما " إن " و " اللام " المفتوحة وتقوم " إن " المكسورة, مقام " ما " النافية مثل قوله: تالله يبقى على الأيام ذو حيد ** وقال آخر: فقلــت يمين الله أبرح قاعدا ** أي: لا أبرح. فإن قال: لاها الله ونوى اليمين فهو يمين لما روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال في سلب قتيل أبي قتادة: لاها الله إذا تعمد إلى أسد من أسد الله, يقاتل عن الله ورسوله فيعطيك سلبه؟ (فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : صدق وإن لم ينو اليمين) فالظاهر أنه لا يكون يمينا لأنه لم يقترن به عرف ولا نية ولا في جوابه حرف يدل على القسم وهذا مذهب الشافعي رضي الله عنه. قال: [أو بآية من القرآن] وجملته أن الحلف بالقرآن, أو بآية منه أو بكلام الله يمين منعقدة, تجب الكفارة بالحنث فيها وبهذا قال ابن مسعود والحسن وقتادة, ومالك والشافعي وأبو عبيد, وعامة أهل العلم وقال أبو حنيفة وأصحابه: ليس بيمين ولا تجب به كفارة فمنهم من زعم أنه مخلوق, ومنهم من قال: لا يعهد اليمين به ولنا أن القرآن كلام الله وصفة من صفات ذاته, فتنعقد اليمين به كما لو قال: وجلال الله وعظمته وقولهم: هو مخلوق قلنا: هذا كلام المعتزلة, وإنما الخلاف مع الفقهاء وقد روي عن ابن عمر أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (القرآن كلام الله غير مخلوق) وقال ابن عباس في قوله تعالى: وإن حلف بالمصحف, انعقدت يمينه وكان قتادة يحلف بالمصحف ولم يكره ذلك إمامنا وإسحاق لأن الحالف بالمصحف إنما قصد الحلف بالمكتوب فيه وهو القرآن, فإنه بين دفتي المصحف بإجماع المسلمين. قال: [أوتصدق بملكه أو بالحج] وجملته أنه إذا أخرج النذر مخرج اليمين بأن يمنع نفسه أو غيره به شيئا, أو يحث به على شيء مثل أن يقول: إن كلمت زيدا فلله على الحج, أو صدقة مالي أو صوم سنة فهذا يمين حكمه أنه مخير بين الوفاء بما حلف عليه, فلا يلزمه شيء وبين أن يحنث فيتخير بين فعل المنذور, وبين كفارة يمين ويسمى نذر اللجاج والغضب ولا يتعين عليه الوفاء به, وإنما يلزم نذر التبرر وسنذكره في بابه وهذا قول عمر وابن عباس, وابن عمر وعائشة وحفصة, وزينب بنت أبي سلمة وبه قال عطاء وطاوس وعكرمة, والقاسم والحسن وجابر بن زيد, والنخعي وقتادة وعبد الله بن شريك, والشافعي والعنبري وإسحاق, وأبو عبيد وأبو ثور وابن المنذر وقال سعيد بن المسيب: لا شيء في الحلف بالحج وعن الشعبي, والحارث العكلي وحماد والحكم: لا شيء في الحلف بصدقة ماله لأن الكفارة إنما تلزم بالحلف بالله تعالى, لحرمة الاسم وهذا ما حلف باسم الله ولا يجب ما سماه لأنه لم يخرجه مخرج القربة, وإنما التزمه على طريق العقوبة فلم يلزمه وقال أبو حنيفة ومالك: يلزمه الوفاء بنذره لأنه نذر فيلزمه الوفاء به, كنذر التبرر وروي نحو ذلك عن الشعبي ولنا ما روي عمران بن حصين قال: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: (لا نذر في غضب, وكفارته كفارة يمين) رواه سعيد بن منصور والجوزجاني في " المترجم " وعن عائشة, أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (من حلف بالمشي أو الهدى أو جعل ماله في سبيل الله, أو في المساكين أو في رتاج الكعبة فكفارته كفارة اليمين) ولأنه قول من سمينا من الصحابة, ولا مخالف لهم في عصرهم ولأنه يمين فيدخل في عموم قوله تعالى:
|