الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الخِطط المقريزية المسمى بـ «المواعظ والاعتبار بذكر الخِطط والآثار» **
هذه المدينة بساحل بحر القلزم وهي من مدن العماليق على تل بين جبلين وفي الجبلين ثقوب كثيرة لا تحصى مملوءة أمواتًا ومن هناك إلى بحر القلزم مرحلة واحدة ويقال له هناك ساحل بحر فاران وهو البحر الذي أغرق الله فيه فرعون وبين مدينة فاران والتيه مرحلتان ويذكر أنّ فاران اسم لجبال مكة وقيل: اسم لجبال الحجاز وهي التي ذكرت في التوراة والتحقيق أنّ فاران والطور كورتان من كور مصر القبلية وهي غير فاران المذكورة في التوراة وقيل: إنّ فاران بن عمرو بن عمليق هو الذي نسب إليه جبال الحرم فقيل: جبال فاران وبعضهم يقول: جبال فران وكانت مدينة فاران من جملة مدائن مدين إلى اليوم وبها نخل كثير مثمر أكلت من ثمره وبها نهر عظيم وهي خراب يمرّ بها العربان. ذكر أرض الجفار اعلم أنّ الجفار اسم لخمس مدائن وهي: الفرما والبقارة والورادة والعريش ورفج والجفار كله رمل وسمي بالجفار لشدة المشي فيه على الناس والدواب من كثرة رمله وبعد مراحله والجفار تجفر فيه الإبل فاتخذ له هذا الاسم كما قيل للحبل الذي يهجر به البعير هجار وللذي يحجر به حجار وللذي يعقل به عقال وللذي يبطن به بطان وللذي يخطم به خطام وللذي يزم به زمام واشتقت البقارة من البقر والورادة من الوريد والعريش أخذ من العرش وقيل: إن رفج اسم جبل. وكان يسكن الجفار في القديم خذام بن العريان. ويقال: إنّ أرض الجفار كانت في الدهر الأول والزمن الغابر متصلة العمارة كثيرة البركات مشهورة بالخيرات لكثرة زراعة أهلها الزعفران والعصفر وقصب السكر وكان ماؤها غزيرًا عذبًا ثم صار بها نخل يحدق بها من كل النواحي إلى أن دمرها الله تدميرًا فصارت إلى اليوم ذات رمل عظيم يُسلك فيه إلى العريش وإلى رفج كله قفر تعرف بقعته برمل الغرابيّ قليل الماء عديم المرعى لا أنيس به فسبحان محيل الأحوال. ذكر صعيد مصر الصعيد: المرتفع من الأرض وقيل: الأرض المرتفعة من الأرض المنخفضة وقيل: ما لم يخالطه رمل ولا سبخة وقيل: هو وجه الأرض وقيل: الأرض الطيبة وقيل: هو كل تراب طيب وتسمية هذه الجهة من أرض مصر بهذا الاسم إنما حدث في الإسلام سماها العرب بذلك لأنها جهة مرتفعة عما دونها من أرض مصر ولذلك يقال فيها: أعلى الأرض ولأنها أرض ليس فيها قال الأستاذ إبراهيم بن وصيف شاه: ولما حضرت مصرايم الوفاة عهد إلى ابنه قبطيم وكان قد قسم أرض مصر بين بنيه. فجعل لقبطيم من بلد إلى أسوان ولأشمون من بلد أشمون إلى منف ولأتريب الحوف كله ولصا من ناحية صا البحيرة إلى قرب برقة وقال لأخيه فارق لك من برقة إلى الغرب فهو صاحب إفريقية وولده الأفارق وأمر كلّ واحد من بنيه أن يبني لنفسه مدينة في مَوْضعه. وقال ابن عبد الحكم: فلما كثر ولد مصر وأولاد أولادهم قطع مِصر لكل واحد منهم قطعة يحوزها لنفسه ولولده وقسم لهم هذا النيل فقطع لابنه قفط موضع قفط فسكنها وبه سُميت: قفط قفطًا وما فوقها إلى أسوان وما دونها إلى أشمون في الشرق والغرب وقطع لأشمون من أشمون فما دونها في الشرق والغرب إلى منف فسكن أشمون أشمون فسميت به وقطع لأتريب ما بين منف إلى صا فسكن أتريب فسميت به وقطع لصا ما بين صا إلى البحر فسكن صا فسميت به فكانت مصر كلها على أربعة أجزاء: جزأين بالصعيد وجزأين بأسفل الأرض. وقال أبو الفضل جعفر بن ثعلب بن جعفر الأدفوي في كتاب الطالع السعيد في تاريخ الصعيد: مسافة إقليم الصعيد الأعلى مسيرة اثني عشر يومًا بسير الجمال وعرضه ثلاث ساعات وأكثر بحسب الأماكن العامرة ويتصل عرضه في الكورة الشرقية بالبحر الملح وأراضي البجة وفي الغربية بألواح وهي كورتان: شرقية وغربية والنيل بينهما فاصل وأوّل الشرقية من مرج بني هميم المتصلة أرضها بأراضي جرجا من عمل أخميم وآخرها من قبليّ الهو ويليها أوّل أراضي النوبة وفي هذه الكورة تيج وقفط وقوص وأوّل الكورة الغربية برديس تتصل أرضها بأرض جرجا وفي هذه الكورة الغربية سَمْهُود وآخر الكورة الغربية أسوان وبحافته أكثر النخل من الجانبين تكون مساحة الأراضي التي فيها النخل والبساتين تقارب عشرين ألف فدّان والمستولي على إقليم الصعيد المشتري. ويقال: كان بصعيد مصر نخلة تحمل عشرة أرادب تمرًا فغصبها بعض الولاة فلم تحمل في ذلك العام ولا تمرة واحدة وكانت هذه النخلة في الجانب الغربيّ وبيع منها في الغلاء كل ويبة بدينار. ويقال: لما صوّرت الدنيا لأمير المؤمنين هارون بن محمد الرشيد لم يستحسن إلا كورة سيوط من صعيد مصر فإنها ثلاثون ألف فدّان في استواء من الأرض لو وقعت فيها قطرة ماء لانتشرت في جميعها. وبالصعيد بقايا سحر قديم حكى الأمير طقطبا والي قوص في أيام الناصر محمد بن قلاون قال: أمسكت امرأة ساحرة فقلت لها: أريد أن أبصر شيئًا من سحرك. فقالت: أجود عملي أن أسحر العقرب على اسم شخص بعينه فلا بدّ أن تقع عليه ويصيبه سمها فتقتله. فقلت: أريني هذا واقصديني بسحرك. فأخذت عقربًا وعملت ما أحبت ثم أرسلت العقرب فتبعني وأنا أتنحى عنه وهو يقصدني فجلست على تخت وضعته على بركة ماء فأقبل العقرب إلى ذلك الماء وأخذ في التوصل إليّ فلم يطق ذلك فمرّ إلى الحائط وصعد فيه وأنا أشاهده حتى وصل إلى السقف ومرّ فيه إلى أن صار فوقي وألقى نفسه صوبي وسعى نحوي حتى قرب مني فضربته فقتلته ثم قتلت الساحرة أيضًا. وأرض الصعيد كثيرة المواشي من الضأن وغير ذلك لكثرة نتاجه حتى أن الرأس الواحد من نعاج الضأن يتولد عنه في عشر سنين ألف وأربع وعشرون رأسًا وذلك بتقدير السلامة وأن تلد كلها إناثا وتلدّ مرّة واحدة في كل سنة ولا تلد في كل بطن غير رأس واحد وإلا فإن ولدت في السنة مرّتين وكان في كل بطن رأسان تضاعف العدد وتأمل حساب ما قلناه تجده صحيحًا وقد شوهد كثيرًا أن من أغنام الصعيد ما يلد في السنة ثلاث مرّات ويلد في البطن الواحد ثلاثة أرؤس. وكانت الكثرة والغلبة ببلاد الصعيد لست قبائل وهم: بنو هلال وبلى وجهينة وقريش ولواته وبنو كلاب وكان ينزل مع هؤلاء عدّة قبائل سواهم من الأنصار ومن مزينة وبني دراج وبلغ من عمارة الصعيد أن الرجل في أيام الناصر محمد بن قلاون وما بعدها كان يمرّ من القاهرة إلى أسوان فلا يحتاج إلى نفقة بل يجد بكل بلد وناحية عدة دور للضيافة إذا دخل دارًا منها أحضر لدابته علفها وجيء له بما يليق به من الأكل ونحوه وآل أمره الآن إلى أن لا يجد الرجل أحدًا فيما بين القاهرة وأسوان يضيفه لضيق الحال ثم تلاشى أمر بلاد الصعيد منذ سنة الشراقي في أيام الأشرف شعبان بن حسين بن محمد بن قلاون سنة ست وسبعين وسبعمائة وتزايد تلاشيه في أيام الظاهر برقوق لجور الولاة ولم يزل في إثبار إلى أن كانت سنة ست وثمانمائة وشرقت مصر بقصور مدّ النيل فدهي أهل الصعيد من ذلك بما لا يوصف حتى أنه مات من مدينة قوص سبعة عشر ألف إنسان وذلك كله سوى الطرحى على الطرقات ومن لا يعرف من الغرباء ونحوهم ثم دمّر في أيام المؤيد شيخ فلم يبق منه إلا رسوم تبذل الولاة الجهد في محوها نسأل الله حسن الخاتمة. ذكر الجنادل ولمع من أخبار أرض النّوبة الجندل: ما يقل الرجل من الحجارة وقيل: هو الحجر كله الواحدة جندلة والجندل: الجنادل. قال سيبويه: وقالوا جندل يعنون: الجنادل وصرفوه لنقصان البناء عما لا ينصرف وأرض جندلة ذات جندل وقيل: الجندل المكان الغليظ فيه حجارة ومكان جندل كثير الجندل. قال عبد الله بن أحمد بن سليم الأسوانيّ في كتاب أخبار النوبة: والمقرة وعلوة والبجة والنيل وأوّل بلد النوبة قرية تعرف بالقصر من أسوان إليها خمسة أميال وآخر حصن للمسلمين جزيرة تعرف ببلاق بينها وبين قرية النوبة ميل وهو ساحل بلد النوبة ومن أسوان إلى هنا الموضع جنادل كثيرة الحجر لا تسلكها المراكب إلا بالحيلة ودلالة من يخبر بذلك في الصيادين الذين يصيدون هناك لأنّ هذه الجنادل متقطعة وشعاب معترضة في النيل ولانصِبَابه فيها خرير عظيم ودوي يسمع من بعد وبهذه القرية مسلحة وباب إلى بلد النوبة ومنها إلى الجنادل الأولى من بلد النوبة عشر مراحل وهي الناحية التي يتصرف فيها المسلمون ولهم فيما قرب أملاك ويتجرون في أعلاها وفيها جماعة من المسلمين قاطنون لا يفصح أحدهم بالعربية وشجرها كثير وهي ناحية ضيقة شظفة كثيرة الجبال وما تخرج عن النيل وقراها متسطرة على شاطئه وشجرها النخل والمقل وأعلاها أوسع من أدناها وفي أعلاها الكروم والنيل لا يروي مزارعها لارتفاع أرضها وزرعها الفدّان والفدّانان والثلاثة على أعناق البقر بالدواليب والقمح عندهم قليل والشعير أكثر والسلت ويعتقبون الأرض لضيقها فيزرعونها في الصيف بعد تطريتها بالزبل والتراب. الدخن والذرة والجاورس والسمسم واللوبيا. وهذه الناحية نجراش مدينة المريس وقلعة ابريم وقلعة أخرى دونها وبها مينا تعرف بأدواء يُنسب إليها لقمان الحكيم وذو النون وبها بربا عجيب ولهذه الناحية والِ من قبل عظيم النوبة يعرف بصاحب الجبل من أجلّ ولاتهم لقربه من أرض الإسلام ومن يخرج إلى بلد النوبة من المسلمين فمعاملته معه في تجارة أو هدية إليه أو إلى مولاه يقبل الجميع ويكافئ عليه بالرقيق ولا يطلق لأحد الصعود إلى مولاه لمسلم ولا لغيره. وأوّل الجنادل من بلد النوبة قرية تعرف بتقوى هي ساحل وإليها تنتهي مراكب النوبة المصعدة من القصر أوّل بلدهم ولا تتجاوزها المراكب ولا يطلق لأحد من المسلمين ولا من غيرهم الصعود منها إلا بإذن من صاحب جبلهم ومنها إلى المقس الأعلى ست مراحل وهي جنادل كلها وشرّ ناحية رأيتها لهم لصعوبتها وضيقها ومشقة مسالكها أما بحرها فجنادل وجبال معترضة فيه حتى إن النيل ينصب من شعاب ويضيق في مواضع حتى يكون سعة ما بين الجانبين خمسين ذراعًا وبرّها مجاوب ضيقة وجبال شاهقة وطرقات ضيقة حتى لا يمكن الراكب أن يصعد منها والراجل الضعيف يعجز عن سلوكها ورمال في غربها وشرقها وهذه الجبال حصنهم وإليها يفزع أهل الناحية التي قبلها المتصلة بأرض الإسلام وفي جزائرها نخل يسير وزرع حقير وأكثر أكلهم السمك ويدّهنون بشحمه وهي من أرض مريس وصاحب الجبل واليهم والمسلحة بالمقس الأعلى صاحبها من قبل كبيرهم شديد الضبط لها حتى أنّ عظيمهم إذا صار بها وقف به المسلحي وأوهم أنه يفتش عليه حتى يجد الطريق إلى ولده ووزيره فمن دونهما ولا يجوزها دينار ولا درهم إذ كانوا لا يتبايعون بذلك إلا دون الجنادل مع المسلمين وما فوق ذلك لا بيع بينهم ولا شراء وإنما هي معاوضة بالرقيق والمواشي والحبال والحديد والحبوب ولا يطلق لأحد أن يجوزها إلا بإذن الملك ومن خالف كان جزاؤه القتل كائنًا من كان وبهذا الاحتياط تنكتم أخبارهم حتى إنّ العسكر منهم يهجم على البلد إلى البادية وغيرهم فلا يعلمون به والسنباد الذي يخرط به الجوهر يخرج من النيل في هذه المواضع يُغطس عليه فيوجد جسمه باردًا مخالفًا للحجارة فإذا أشكل عليه نفخ فيه بالفم فيعرف ومن هذه المسلحة إلى قرية تعرف: بساي جنادل أيضًا وهي آخر كرسيهم ولهم فيها أسقف وفيها بربا. ثم ناحية سقلودا وتفسيرها السبع ولاة وهي أشبه الأرض بالأرض المتاخمة لأرض الإسلام في السعة والضيق في مواضع والنخل والكرم والزرع وشجر المقل وفيها شيء من شجر القطن ويعمل منه ثياب وخشة وبها شجر الزيتون وواليها من قبل كبيرهم وتحت يده ولاة يتصرّفون وفيها قلعة تعرف: بأصطنون وهي أوّل الجنادل الثلاثة وهي أشدّ الجنادل صعوبة لأنّ فيها جبلًا معترضًا من الشرق إلى الغرب في النيل والماء ينصب من ثلاثة أبواب وربما رجع إلى ما بين عند انحساره شديد الخرير عجيب المنظر يتحدّر الماء عليه من علو الجبل وقبليه فُرش حجارة في النيل نحو ثلاثة بُرد إلى قرية تعرف: بيستو وهي آخر قرى مريس وأوّل بلد مقرة ومن هذا الموضع إلى حدّ المسلمين لسانهم مريسي وهي آخر عمل متملكهم ثم ناحية بقون وتفسيرها بالعجب وهي عند اسمها لحسنها وما رأيت على النيل أوسع منها وقدّرت أن سعة النيل فيها من الشرق إلى الغرب مسيرة خمس مراحل الجزائر تقطعه والأنهار منه تجري بينها على أرض منخفضة وقرى متصلة وعمارة حسنة بأبرجة حمام ومواش وأنعام وأكثر ميرة مدينتهم منها وطيورها النقيط والنوبي والببغا وغير ذلك من الطيور الحسان وأكثر نزهة كبيرهم في هذه الناحية. قال: وكنت معه في بعض الأوقات فكان سيرنا في ظل شجر من الحافتين في الخلجان الضيقة وقيل: إنّ التمساح لا يضرّ هناك ورأيتهم يعبرون أكثر هذه الأنهار سباحة ثم سفد بقل وهي ناحية ضيقة شبيهة بأوّل بلادهم إلا أنّ فيها جزائر حسانًا وفيها دون المرحلتين نحو ثلاثين قرية بالأبنية الحسان والكنائس والأديار والنخل الكثير والكروم والبساتين والزرع ومروج كبار فيها إبل وجمال صهب مؤبلة للنتاج وكبيرهم يكثر الدخول إليها لأنّ طرفها القبليّ يحاذي دنقلة مدينتهم ومن مدينة دنقلة دار المملكة إلى أسوان خمسون مرحلة وذكر صفتها ثم قال: إنهم يسقفون مجالسهم بخشب السنط وبخشب الساج الذي يأتي به النيل في وقت الزيادة سقالات منحوتة لا يدري من أين تأتي. ولقد رأيت على بعضها علامة غريبة ومسافة ما بين دنقلة إلى أوّل بلد علوة أكثر مما بينها وبين أسوان وفي ذلك من القرى والضياع والجزائر والمواشي والنخل والشجر والمقل والزرع والكرم أضعاف ما في الجانب الذي يلي أرض الإسلام وفي هذه الأماكن جزائر عظام مسيرة أيام فيها الجبال والوحش والسباع ومَفَاوز يخاف فيها العطش والنيل يعطف من هذه النواحي إلى مطلع الشمس وإلى مغربها مسيرة أيام حتى يصير المصعد كالمنحدر وهي الناحية التي تبلغ العطوف من النيل إلى المعدن المعروف: بالشلة وهو بلد يعرف بشنقير ومنه خرج العمري وتغلب على هذه الناحية إلى أن كان من أمره ما كان وفرس البحر يكثر في هذه المواضع ومن هذه الموضع طرق إلى سواكن وباصع ودهلك وجزائر البحر ومنها عبر من نجا من بني أمية عند هربهم إلى النوبة وفيها خلق من البجة يعرفون بالرنافج انتقلوا إلى النوبة قديمًا وقطنوا هناك وهم على حدتهم في الرعي واللغة لا يخالطون النوبة ولا يسكنون قراهم وعليهم والٍ من قبل النوبة. ذكر تشعب النيل من بلاد علوة ومن يسكن عليه من الأمم اعلم أنّ النوبة والمقرة جنسان بلسانين كلاهما على النيل فالنوبة هم: المريس المجاورون لأرض الإسلام وبين أوّل بلدهم وبين أسوان خمسة أميال ويقال: إنّ سلها جد النوبة ومقري جدّ المقرة من اليمن. وقيل: النوبة ومقري من حمير وأكثر أهل الأنساب على أنهم جميعًا من ولد حام بن نوح وكان بين النوبة والمقرة حروب قبل النصرانية وأوّل أرض المقرة قرية تعرف بنافة على مرحلة من أسوان ومدينة ملكهم يقال لها: نجراش على أقل من عشر مراحل من أسوان ويقال: إن موسى صلوات الله عليه غزاهم قبل مبعثه في أيام فرعون فأخرب نافة وكانوا صابئة يعبدون الكواكب وينصبون التماثيل لهم ثم تنصروا جميعًا النوبة والمقرة ومدينة دنقلة وهي دار مملكتهم وأوّل بلاد علوة قرى في الشرق على شاطئ النيل تعرف بالأبواب ولهذه الناحية والٍ من قبل صاحب علوة يعرف بالرحراح. والنيل يتشعب من هذه الناحية على سبعة أنهار فمنها نهر يأتي من ناحية المشرق كدر الماء يجف في الصيف حتى يسكن بطنه فإذا كان وقت زيادة النيل نبع فيه الماء وزادت البرك التي فيه وأقبل المطر والسيول في سائر البلد فوقعت الزيادة في النيل وقيل: إنّ آخر هذا النهر عين عظيمة تأتي من جبل. قال مؤرخ النوبة: وحدّثني سيمون صاحب عهد بلد علوة أنه يوجد في بطن هذا النهر حوت لا قشر له ليس هو من جنس ما في النيل يحفر عليه قامة وأكثر حتى يخرج وهو كبير وعليه جنس مولد بين العلوة والبجة يقال لهم: الديجيون وجنس يقال لهم: بازة يأتي من عندهم طير يعرف بحمام بازين وبعد هؤلاء أوّل بلاد الحبشة ثم النيل الأبيض وهو نهر يأتي من ناحية الغرب شديد البياض مثل اللبن. قال: وقد سألت من طرق بلاد السودان من المغاربة عن النيل الذي عندهم وعن لونه فذكر أنه يخرج من جبال الرمل أو جبل الرمل وأنه يجتمع في بلد السودان في برك عظام ثم ينصب إلى ما لا يعرف وإنه ليس بأبيض فإمّا أن يكون اكتسب ذلك اللون مما يمرّ عليه أو من نهر آخر ينصب إليه وعليه أجناس من جانبيه ثم النيل الأخضر وهو نهر يأتي من القبلة مما يلي الشرق شديد الخضرة صافي اللون جدًّا يرى ما في قعره من السمك وطعمه مخالف لطعم النيل يعطش الشارب منه بسرعة وحيتان الجميع واحدة غير أنّ الطعم مختلف ويأتي فيه وقت الزيادة خشب الساج والبقم والغثاء وخشب له رائحة كرائحة اللبان وخشب غليظ ينحت ويعمل منه مقدام وعلى شاطئه ينبت هذا الخشب أيضًا وقيل: إنه وجد فيه عود البخور. قال: وقد رأيت على بعض سقالات الساج المنحوتة التي تأتي فيه وقت الزيادة علامة غريبة ويجتمع هذان النهران الأبيض والأخضر عند مدينة متملك بلد علوة ويبقيان على ألوانهما قريبًا من مرحلة ثم يختلطان بعد ذلك وبينهما أمواج كبار عظيمة بتلاطمهما. قال: وأخبرني من نقل النيل الأبيض وصبه في النيل الأخضر فبقي فيه مثل اللبن ساعة قبل أن يختلطا وبين هذين النهرين جزيرة لا يعرف لها غاية وكذلك لا يعرف لهذين النهرين نهاية فأوّلهما يعرف عرضه ثم يتسع فيصير مسافة شهر ثم لا تدرك سعتهما لخوف من يسكنهما بعضهم من بعض لأنّ فيهما أجناسًا كثيرة وخلقًا عظيمًا قال: وبلغني أنّ بعض متملكي بلد علوة سار فيها يريد أقصاها فلم يأتِ عليه بعد سنين وإنّ في طرفها القبليّ جنسًا يسكنون ودوابهم في بيوت تحت الأرض مثل السراديب بالنهار من شدة حرّ الشمس ويسرحون في الليل وفيهم قوم عراة والأنهار الأربعة الباقية تأتي أيضًا من القبلة مما يلي الشرق أيضًا في وقت واحد ولا يعرف لها نهاية أيضًا وهي دون النهرين الأبيض والأخضر في العرض وكثرة الخلجان والجزائر وجميع الأنهار الأربعة تنصب في الأخضر وكذلك الأوّل الذي قدّمت ذكره ثم يجتمع مع الأبيض وكلها مسكونة عامرة مسلوك فيها بالسفن وغيرها وأحد هذه الأربعة يأتي مرّة من بلاد الحبشة. قال: ولقد أكثرت السؤال عنها واستكشفتها من قوم عن قوم فما وجدت مخبرًا يقول إنه وقف على نهاية جميع هذه الأنهار والذي انتهى إليه علم من عرّفني عن آخرين إلى خراب وأنه يأتي في وقت الزيادة في هذه الأنهار آلة مراكب وأبواب وغير ذلك فيدل على عمارة بعد الخراب فأمّا الزيادة فيجمعون أنها من الأمطار مع مادة تأتي من ذاتها والدليل على ذلك النهر الذي يجف ويسكن بطنه ثم ينبع وقت الزيادة. ومن عجائبه: أنّ زيادته في أنهار مجتمعة وسائر النواحي والبلدان في مصر وما يليها والصعيد وأسوان وبلد النوبة وعلوة وما وراء ذلك في زمان واحد وأكثر ما وقف عليه من هذه الزيادة أنه ربما وجدت مثلًا بأسوان ولا توجد بقوص ثم تأتي بعد فإذا كثرت الأمطار عندهم واتصلت السيول عُلم أنها سنة ريّ وإذا قصرت الأمطار عُلم أنها سنة ظمأ قال: وأما من طرق بلاد الزنج فإنهم أخبروني عن مسيرهم في بحر الصين إلى بلاد الزنج بالريح الشماليّ مُساحلين للجانب الشرقيّ من جزيرة مصر حتى ينتهوا إلى موضع يعرف برأس حفري وهو عندهم آخر جزيرة مصر فينظرون كوكبًا يهتدون به فيقصدون الغرب ثم يعودون إلى البحري ويصير الشمال في وجوههم حتى يأتوا إلى قبيلة من بلاد الزنج وهي مدينة متملكهم وتصير قبلتهم للصلاة إلى جدّة. قال: وبعض الأنهار الأربعة يأتي من بلاد الزنج لأنه يأتي فيه الخشب الزنجيّ وسوبة مدينة العلوي شرقيّ الجزيرة الكبرى التي بين البحرين الأبيض والأخضر في الطرف الشماليّ منها عند مجتمعهما وشرقيها النهر الذي يجف ويسكن بطنه وفيها أبنية حسان ودور واسعة وكنائس كثيرة الذهب وبساتين ولها رباط فيه جماعة من المسلمين ومتملك علوة أكثر مالًا من متملك المقرة وأعظم جيشًا وعنده من الخيل ما ليس عند المقريّ وبلده أخصب وأوسع والنخل والكرم عندهم يسير وأكثر حبوبهم الذرة البيضاء التي مثل الأرز منها خبزهم ومزرهم واللحم عندهم كثير لكثرة المواشي والمروج الواسعة العظيمة السعة حتى أنه لا يوصل إلى الجبل إلا في أيام وعندهم خيل عتاق وجمال صهب عراب ودينهم النصرانية يعاقبة وأساقفتهم من قبل صاحب الإسكندرية كالنوبة وكتبهم بالرومية يفسرونها بلسانهم وهم أقل فهمًا من النوبة وملكهم يسترق من شاء من رعيته بجرم وبغير جرم ولا ينكرون ذلك عليه بل يسجدون له ولا يعصون أمره على المكروه الواقع بهم وينادون المُلك يعيش فليكن أمره وهو يتتوجّ بالذهب والذهب كثير في بلده. ومما في بلده من العجائب: أنّ في الجزيرة الكبرى التي بين البحرين جنسًا يعرف: بالكرنينا. لهم أرض واسعة مزروعة من النيل والمطر فإذا كان وقت الزرع خرج كل واحد منهم بما عنده من البذر واختط على مقدار ما معه وزرع في أربعة أركان الخطة يسيرًا وجعل البذر في وسطه الخطة وشيئًا من المزر وانصرف عنه فإذا أصبح وجد ما اختط قد زرع وشرب المزر فإذا كان وقت الحصاد حصد يسيرًا منه ووضعه في موضع أراده ومعه مزر وينصرف فيجد الزرع قد حصد بأسره وجرّن فإذا أراد دراسه وتفريته فعل به كذلك وربما أراد أحدهم أن ينقي زرعه من الحشيش فيلفظ بقلع شيء من الزرع فيصبح وقد قلع جميع الزرع وهذه الناحية التي فيها ما ذكرته بلدان واسعة مسيرة شهرين في شهرين يزرع جميعها في وقت واحد وميرة بلد علوة ومتملكهم من هذه الناحية فيوجهون المراكب فتوسق وربما وقع بينهم حرب. قال: وهذه الحكاية صحيحة معروفة مشهورة عند جميع النوبة والعلوة وكل من يطرق ذلك البلد من تجار المسلمين لا يشكون فيه ولا يرتابون به ولولا أنّ اشتهاره وانتشاره مما لا يجوز التواطؤ على مثله لما ذكرت شيئًا منه لشناعته فأما أهل الناحية فيزعمون إن الجنّ تفعل ذلك وأنها تظهر لبعضهم وتخدمهم بحجارة ينطاعون لهم بها وتعمل لهم عجائب وأنّ السحاب يطيعهم. قال: ومن عجائب ما حدّثني به متملك المقرة للنوبة أنهم يمطرون في الجبال ويلتقطون منه للوقت سمكًا على وجه الأرض وسألتهم عن جنسه فذكروا أنه صغير القدر بأذناب حمر قال: وقد رأيت جماعة وأجناسًا ممن تقدّم ذكر أكثرهم يعترفون بالباري سبحانه وتعالى ويتقرّبون إليه بالشمس والقمر والكواكب ومنهم من لا يعرف الباري ويعبد الشمس والنار ومنهم من يعبد كل ما استحسنه من شجرة أو بهيمة وذكر أنه رأى رجلًا في مجلس عظيم المقرة سأله عن بلده فقال: مسافته إلى النيل ثلاثة أهِلة وسأله عن دينه فقال: ربي وربك الله وربُّ الملك وربُّ الناس كلهم واحد وإنه قال له: فأين يكون. قال: في السماء وحده وقال: إنه إذا أبطأ عنهم المطر أو أصابهم الوباء أو وقع بدوابهم آفة صعدوا الجبل ودعوا الله فيجابون للوقت وتقضى حاجتهم قبل أن ينزلوه وسأله هل أرسل فيكم رسول. قال: لا فذكر له بعثة موسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم وسلامه وما أبدوا به من المعجزات فقال: إذا كانوا فعلوا هذا فقد صدقوا ثم قال: قد صدّقتهم إن كانوا فعلوا. قال مؤلفه رحمه الله: وقد غلب أولاد كنز الدولة على النوبة وملكوها من سنة وبنى بدنقلة جامع يأوي إليه الغرباء واعلم أن على ضفة النيل أيضًا الكانم وملكها مسلم وبينه وبين بلاد مالي مسافة بعيدة جدًّا وقاعدة ملكه بلدة اسمها حميمي وأوّل مملكته من جهة مصر بلدة اسمها زرلا وآخرها طولًا بلدة يقال لها: كاكا وبينهما نحو ثلاثة أشهر وهم يتلثمون وملكهم متحجب لا يُرى إلا يومي العيدين بكرة وعند العصر وطول السنة لا يكلمه أحد إلا من وراء حجاب وغالب عيشهم الأرز وهو ينبت من غير بذر وعندهم القمح والذرة والتين والليمون والباذنجان واللفت والرطب ويتعاملون بقماش ينسج عندهم اسمه: دندي طول كل ثوب عشرة أذرع يشترون به من ربع ذراع فأكثر ويتعاملون أيضًا بالودع والخرز والنحاس المكسر والورق وجميع ذلك بسعر ذلك القماش وفي جنوبها شعارى وصحارى فيها أشخاص متوحشة كالفيول قريبة من شكل الآدميّ لا يلحقها الفارس تؤذي الناس ويظهر في الليل أيضًا شبه نار تضيء فإذا مشى أحد ليلحقها بعدت عنه ولو جرى إليها لا يصل إليها بل لا تزال أمامه فإذا رماها بحجر فأصابها تشظى منها شرر وتعظم عندهم اليقطينة حتى تصنع منها مراكب يعبر فيها في النيل. وهذه البلاد بين إفريقية وبرقة ممتدّة في الجنوب إلى سمت الغرب الأوسط وهي بلاد قحطان وشطن وسوء مزاج وأوّل من بث بها الإسلام الهادي العثمانيّ ادّعى أنه من ولد عثمان بن عفان رضي الله عنه وصارت بعده لليزنيين من بني سيف بن في يزن وهم على مذهب الإمام مالك بن أنس رحمه الله والعدل قائم بينهم وهم يابسون في الدين لا يلينون وبنوا بمدينة مصر مدرسة للمالكية عرفت بمدرسة ابن رشيق في سني أربعين وستمائة وصارت وفودهم تنزل بها وسيرد ذكرها في المدارس إن شاء الله تعالى.
|