الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الخِطط المقريزية المسمى بـ «المواعظ والاعتبار بذكر الخِطط والآثار» **
اعلم: أن موضع الفيوم كان مغيض ماء النيل فلما ولي السيد يوسف الصدّيق عليه السلام تدبير أمور مصر عمرها. قال ابن وصيف شاه: ثم ملك الريان بن الوليد وهو فرعون وسف والقبط تسميه: نهر أوش فجلس على سرير الملك وكان عظيم الخلق جميل الوجه عاقلًا متمكنًا فوعد بالجميل وأسقط عن الناس خراج ثلاث سنين وفرّق المال في الخاص والعامّ. وملك على البلد رجلًا من أهل بيته يقال له: أطفين وهو الذي يسميه أهل الأثر العزيز فأمر أن ينصب له في قصر الملك سرير من فضة يجلس عليه ويغدو فيه ويروح إلى باب الملك ويخرج العمال والكتاب بين يديه فكفى نهراوش ما خلف ستره وقام بجميع أموره وخلاه للذته فانغمس نهر أوش في لهوه ولم ينظر في عمل ولا ظهر للناس حينًا والبلد عامر وهو لا يسأل عن شيء وعمل له مجالس من زجاج ملوّن وحولها ماء فيه أسماك مفرطة وبلور ملون فكان إذا وقعت عليه الشمس ظهر له شعاع عجيب وعملت له عدة منتزهات على عدد أيام السنة فكان كل يوم في موضع منها وعمل له في كل موضع من الآنية والفرش ما ليس لغيره فاتصل بملوك النواحي تشاغله بلذاته وتدبير أطفين. فسار ملك من العماليق يقال له: أبو قابوس عاكر بن ينحوم إلى مصر ونزل على حدودها فجهز إليه العزيز جيشًا عليه قائد يقال له: بريانس فأقام يحاربه ثلاث سنين فظفر به العمليقيّ وقتللا وهدم الأعلام والمصانع وقوي طمعه في البلد فاجتمع الناس إلى قصر الملك واستغاثوا فخرج إليهم وعرض جيوشه وخرج في ستمائة ألف مقاتل سوى الأتباع فالتقوا من وراء الحوف وكان بينهما قتال شديد فانهزم العمليقي وتبعه نهراوش إلى حدّ الشام وقتل خلقًا من أصحابه وأفسد زروعهم وأشجارهم وحرّق وصلب ونصب أعلامًا على الأماكن التي وصلها وزبر عليها أنى لمن تجاوز هذا المكان بالمرصاد. وقيل: إنه بلغ الموصل وضرب على أهل الشام خراجًا وبنى عند العريش مدينة لطيفة وشحنها بالرجال ورجع إلى مصر فحشد من جميع الأعمال جنودًا واستعدّ لغزو ملك الغرب وخرج في سبعمائة ألف فمر بأرض البربر وأجلى كثيرًا منها وجهز قائدًا في السفن من ناحية رقودة إلى جزائر بني يافث فعاث فيها وخرج من ناحية أرض البربر فقتل وصالح بعضهم على مال حملوه إليه ومضى إلى إفريقية وقرطاجنة فصالحوه على مال ومرّ حتى بلغ مصب البحر الأخضر إلى بحر الروم وهو موضع أصنام النحاس فأقام هناك صنمًا زبر عليه اسمه وتاريخ خروجه وضرب على أهل تلك النواحي الخراج وعدّى إلى الأرض الكبيرة. وسار إلى الأندلس فحاربه ملكها أيامًا ثم صالحه على مال وأن يمنع من يغزو مصر من ناحيته وانصرف على غير البحر مشرّقًا في بلاد البربر فلم يمرّ بأمّه إلا ودخلت في طاعته ومرّ في الجنوب فقتل خلقًا وبعث قائدًا إلى مدينة على البحر الأسود فخرج إليه ملكها وذكر له حال الريان ومصالحة الملوك له فقال: ما بلغنا أحد قط وسأله القائد عن البحر هل ركبه أحد قط فقال: ما يقدر أحد على ركوبه وربما أظله غمام فلا يرى أيامًا. وقدم الريان فحملوا الهدايا إليه وفاكهة أكثرها الموز وحجارة سوداء إذا جعلت في الماء صارت بيضاء ثم سار الملك على أمم السودان إلى مملكة الدمدام الذين يأكلون الناس فخرجوا إليه عراة فهزمهم وظفر بهم ومرّ على البحر المظلم فغشيهم منه غمام فترجع شمالًا حتى انتهى إلى تمثال من حجر أحمر يومئ بيده ارجعوا وعلى صدره مزبور ما ورائي أحد فسار إلى مدينة النحاس فلم يصل إليها ومضى إلى الوادي المظلم فكانوا يسمعون منه جلبة عظيمة ولا يرون أحدًا لشدة ظلمته وسار إلى وادي الرمل فرأى على معبره أصنامًا عليها أسماء الملوك فأقام عليه صنمًا زبر عليه اسمه فلما أثبت الرمل جاز عليه إلى الخراب المتصل بالبحر الأسود فرأى سباعًا يزأر بعضها على بعض فحكم أنه لا مذهب له من ورائها فرجع وعدّى وادي الرمل ومرّ بأرض العقارب فهلك بعض أصحابه ودفعوا عن أنفسهم أذاها بالرقي فأقام عليه أيامًا حتى كاد يهلك جيشه عطشًا فنزل إليه من الجبل رجل من أفاضل الحكماء وقد لبس شعره جسم فقال للملك: أين تريد أيها المغرور الممدود له في الأجل المرزوق فوق الكفاية أتعبت نفسك وجيشك ألا اجترأت بما تملكه واتكلت على خالقك وربحت الراحة وتركت العناء والغرر بهذا الخلق. فعجب من قوله وسأله عن الماء فدله عليه وسأله عن موضعهم فقال: موضع لا يصل إليه أحد ولا بلغه قبلك أحد فقال: ما عيشك قال: من أصول النبات نقنع به ويكفينا اليسير قال: فمن أين تشربون. قال: من الأمطار والثلوج قال: فلم هربتم منا قال: زهادة في مخالطتكم وإلا فليس لنا ما نخافكم عليه قال: فكيف بكم إذا حميت الشمس. قال: نأوي إلى غِيْرَان تحت هذا الجبل قال: فهل لكم في مال أخلفه لكم قال: إنما يريد المال أهل الترف ونحن لا نستعمل منه شيئًا استغنينا عنه بما قد اكتفينا به وعندنا منه ما لو رأيته لاحتقرت ما عندك قال: فأرنيه فانطلق بنفر من أصحابه إلى أرض في سفح جبلهم فيها قضبان ذهب ناتئة وأراهم واديًا لهم في حافتيه حجارة زبرجد وفيروز فأمر نهراوش أصحابه أن يحملوا من كبار تلك الحجارة ففعلوا. ورأى الحكيم جماعة الملك يُصلون إلى صنم يحملونه معهم فسأل الملك: أن لا يقيم بأرضهم وخوّفه من عبادة الأصنام فودّعه وسار فلم يمرّ بأمّه إلا أثر فيها حتى بلغ النوبة فصالحهم على مال وأقام على دنقلة صنمًا وزبر عليه اسمه ومسيره وسار يريد مدينة منف فكان أهل كل مدينة من مدائن مصر يتلقونه بالفرح والسرور والرياحين والطيب إلى أن بلغ منف فخرج أهلها إليه مع العزيز بأصناف الرياحين والطيب وكان العزيز قد بنى له مجلسًا من زجاج ملوّن وفرشه بأحسن فرش وغرس حوله الأشجار والرياحين وجعل فيه بحرة من زجاج سماويّ وفي أرضه شبه السمك من زجاج أبيض فنزل الملك فيه وأقام الناس يأكلون ويشربون أيامًا كثيرة وتفقد جيشه ففقد منهم سبعين ألفًا ووجد فيهم ممن أسره نيفًا وخمسين ألفًا فكانت مدّة غيبته عن مصر في مسيرة هذه إحدى عشرة سنة. فلما بلغ الملوك قدومه هابوه واشتدّ بأسه وتجبر وبنى في الجانب الشرقيّ قصورًا من رخام ونصب عليها أعلامًا وأمر بالعمارة وإصلاح الجسور واستنباط الأراضي حتى زاد الخراج على مائة ألف ألف دينار. ودخل إلى البلد في أيامه غلام من أهل الشام احتال عليه إخوته وباعوه وكانت قوافل الشام تُعرِّسْ بناحية الموقف اليوم فوقف الغلام ونودي عليه وهو: يوسف الصدّيق ابن يعقوب ابن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن صلوات الله عليهم وسلامه فاشتراه إطفين ليهديه إلى الملك. فلما أتي به قصره رأته امرأته زليخا وهي ابنة عمه فقالت: اتركه لنا نربيه لينفعنا وكان من أمرها ما قصه الله تعالى في القرآن فكانت تكتم حبه حتى غلبت فخلت به وتزينت له وعرّفته أنها تحبه وأنه وإن واتاها على ما تريده منه حَبَته بمال عظيم فامتنع من ذلك ورأت أن تغلبه فما زالت تعاركه وهو ممتنع منها إلى أن وافى زوجها وراءه وهو هارب منها وكان العزيز عنينًا لا يأتي النساء فجعل يوسف يعتذر إليه وقالت: إني كنت نائمة فأتاني يراودني عن نفسي وتبين من شاهد أهلها أن الأمر من قبل امرأته فقال ليوسف: أعرض عن هذا أي عن اعتذارك وقال لها: استغفر لذنبك وقد كان خبر أطفين والغلام بلغ الملك وكان نهراوش عاود العكوف على اللهو والاحتجاب عن الناس واتصل خبر زليخا ويوسف بنساء الخاصة فعيرنها بذلك فدعت جماعة منهنّ وصنعت لهنّ طعامًا وشرابًا وعملت مجلسين مذهبين وفرشتهما بديباج أصفر مذهب وأرخت عليهما ستور الديباج وأمرت المواشط بتزين يوسف وإخراجه من المجلس الذي يحاذي المجلس الذي كانت مع النسوة فيه وكان المجلس محاذيًا للشمس فأخذته المواشط ونظمن شعره بأصناف الجواهر وألبسنه ثوب ديباج أصفر قد نسج بدارات حمر مذهبة فيها أطيار صغار خضر مبطن ببطانة خضراء ومن تحته غلالة حمراء وعلى رأسه تاج قد نظم بالدرّ والجوهر وأخرجن من تحت التاج أطراف شعره على جبهته ورددن ذوائبه على صدره وجعلن جبهته مكشوفة والتاج محيط بها وفي أذنيه قرطي جوهر ومن خلف طوق القباء شعر مسبل بين كتفيه منظوم مثبك بالذهب والجوهر وفي عنقه طوق منظوم بذهب مشدد بجوهر أحمر ودرِّ فاخر وفي وسطه منطقة ذهب فيها لوالب جوهر ملوّن ولها معاليق منظومة وألبسنه خفين أبيضين منقوشين بأخضر على نقوش ذهب وجعلن للقباء الذي عليه وشاحين وإفراور يحيط بأسفله وكميه من جوهر أخضر وعقرين صدغيه على خديه وكحلن عينيه ودفعن إليه مذبة شعرها أخضر. فلما فرغ النساء من طعامهنّ وشربن أقداحًا قدمت إليهنّ سكاكين قبِضِهن من جوهر ليقطعن بها الفاكهة فيقال: إنهنّ أخذن أترجًا وهنّ يقطعنه إذ قالت لهنّ: قد بلغني حديثكنّ في أمري مع عبدي فقلن لها: الأمر كما بلغك لأنك أعلى قدرًا من هذا ومثلك يرتفع عن أولاد الملوك لحسنك وشرفك فكيف ترضين بغلامك. فقالت: لم يبلغكنّ الصدق ولا هو عندي بهذا وأومأت إلى المواشط أن يخرجن يوسف فرفعن الستور عن المجلس الذي يحاذي مجلسها وبرز منه يوسف محاذيًا بوجهه الشمس فأشرق المجلس وما فيه من وجه يوسف وأقبل بالمذبة وهنّ يرمقنه. فوقف على رأس زليخا يذب عنها فاشتغل النساء برؤيته وجعلن يقطعن أيديهنّ موضع الفاكهة التي كانت معهن ولا يعين الكلام ذهولًا منهنّ بما رأين من حسن يوسف فقالت لهنّ زليخا ما لكنّ قد اشتغلتن عن خطابي بالنظر إلى عبدي فقلن: معاذ الله ما هذا عبدك. إن هذا إلا ملك كريم ولم يبق منهن امرأة إلا حاضت وأنزلت شهوة من محبته فقالت زليخا عند ذلك: فهذا الذي لمتني فيه فقلن: ما ينبغي لأحد أن يلومك في هذا ومن لامك فقد ظلمك فدونكه قالت: قد فعلت فأبى عليّ فخاطبنه لي. فكانت كل واحدة منهنّ تخاطبه وتدعوه سرًا إلى نفسها وتبتذل له وهو يمتنع عليها فإذا يئست منه أن يجيبها لنفسها خاطبته من جهة زليخا وقالت: مولاتك تحبك وأنت تكرهها ما ينبغي أن تخالفها فقال: ما لي بذلك حاجة فلما رأين ذلك أجمعن على أخذه غصبًا فقالت زليخا: لا يجوز هذا لكنه إن لم يفعل لأمنعنه اللذات ولأسجننه وأنتزع جميع ما أعطيته فقال يوسف: رب السجن أحب إِليّ مما يدعونني إليه فأقسمت بآلهها وكان صنمًا من زبرجد أخضر باسم عطارد إنه إن لم يفعل لتعجلن له ذلك. ثم أمرت بنزع ثيابه وألبسته الصوف وسألت العزيز حبه ليزول ما قذفها به فأمر به فحبس ورأى الملك في منامه كأن آتيًا أتاه فقال له: إن فلانًا وفلانًا قد عزما على فتلك يريد صاحبي طعامه وشرابه فلما أصبح قرّرهما فاعترفا له وقيل: اعترف أحدهما وأنكر الآخر فأمر بحبسهما وكان اسم صاحب الطعم راسان واسم صاحب الشراب مرطس وكان يوسف عليه السلام وهو في السجن رؤوفًا بمن فيه ويعدهم الفرج فأخبره صاحبا طعام الملك وشرابه برؤياهما التي قصها الله في كتابه فوقع كما قصه يوسف ورأى الملك البقرات والسنابل فعرفه الساقي خبر يوسف فمضى إليه وقصها عليه. فلما عاد إلى الملك قال: جيئوني به فقال يوسف: ما أخرج أو يُكشف أمر النسوة اللاتي من أجلهنّ حُبست فكشف عن ذلك فاعترفت زليخا بالقصة ووجه إليه فأخرج وغُسل من درن السجن وألبس ما يليق بالدخول على الملوك فلما رآه امتلأ قلبه من حبه وإكباره وسأله عن الرؤيا ففسرها كما قال الله تعالى. فقال الملك: ومن يقوم لي بذلك قال: أنا فخلع عليه خلع الملوك وألبسه تاجًا وأمر أن يُطاف به وركب الجيش معه وتردد إلى قصر الملك وجلس على سرير العزيز واستخلفه الملك على ملكه مكانه. ويقال: إنّ العزيز إطفين كان قد مات فزوّجه امرأته وقال لها يوسف: هذا أصلح مما أردت فقالت: اعذرني إنّ زوجي كان عنينًا ولم تَرَك امرأة إلا صبا قلبها إليك من حُسنك وجاءت سِنُّو خصب في مصر فجمع يوسف الغلال وخزنها وأكثر منها فلما جاءت سِنُّو الجدب بدأ النيل في النقصان وكان ينقص كل سنة أكثر من التي قبلها فقحط البلد حتى بيع القمح بالمال والجوهر والدواب والثياب والآنية والعقار وكاد أهل مصر يرحلون عنها لولا تدبير يوسف وقحط الشام أيضًا وكان من مجيء إخوة يوسف ما قصه الله تعالى ووجه إلى أبيه فحمل إلى مصر وجميع أهله وخرج في وجوه أهل مصر فتلقاه وأدخله على الملك وكان يعقوب مهابًا فأعظمه الملك وسأله عن سنه وصناعته وعبادته فقال: سني عشرون ومائة سنة وأما صناعتي فلنا غنم ترعى ننتفع بها وأعبد رب العالمين الذي خلقك وخلقني وهو إله آبائي وإلهك وإله كل شيء. وكان في مجلس الملك كاهن جليل القدر فقال للملك: إني أخاف أن يكون خراب مصر على يد ولد هذا فقال له الملك: فأنَّى لنا خبره فقال الكاهن ليعقوب: أرني إلهك أيها الشيخ قال: إلهي أعظم من أن يُرى قال: فإنا نرى آلهتنا قال: إن آلهتكم من ذهب وفضة وحجارة وجوهر ونحاس وخشب مما يعمله بنو آدم وهم عبيد إلهي لا إله إلا هو العزيز الحكيم قال الكاهن: إنّ كل شيء لا تراه العيون ليس بشيء فغضب يعقوب وكذبه وقال: إنّ الله شيء لا كالأشياء وهو خالق كل شيء لا إله إلا هو قال: فَصِفْهُ لنا قال: إنما يُوصف المخلوق لكنه خالق واحد قديم مدبر أزليّ يَرى ولا يُرى وقام يعقوب مغضبًا فأجلسه الملك وأمر الكاهن فكف عنه فقال الكاهن: إنا نجد في كتبنا أنّ خراب مصر يجري على أيدي هؤلاء فقال الملك: هذا يكون في أيامنا. قال: لا ولا إلى مدة كثيرة والصواب: أن يقتله الملك ولا يبقى من ذريته أحدًا فقال الملك: إن كان الأمر كما تقول فلا يمكننا أن ندفعه ولا نقدر على قتل هؤلاء وأنزل يعقوب ومن معه بوادي السديرُ إلى أن مات فحمل إلى قرية إبراهيم عليه السلام ودفن عنده. ويقال: إنّ نهراوش الملك آمن وكتم إيمانه خوفًا من فساد أمره وأقام ملكًا مائة وعشرين سنة. وفي وقته عمل يوسف الفيوم فإنّ أهل مصر كانوا وَشَوْا به إلى الملك وقالوا: قد كبر ونقص نفعه فاختبره فقال له: إني وهبت هذه الناحية لابنتي وكانت مغايض للماء فدبرها لها فعملها يوسف واحتال للمياه حتى أخرجها وقلع أوحالها وساق المنهي وبنى اللاهون وجعل الماء فيها مقسومًا موزونًا وفرغ منها في شهور أربعة فعجبوا من حكمته.ويقال: إنه أول من هَنْدس بمصر ومات نهراوش: فخلف ابنه درمجوش وسمته أهل الأثر: دارم بن الريان وهو الفرعون الرابع عندهم فحالف سنة أبيه وكان يوسف خليفته فقبل منه بعضًا وخالفه في البعض فمات يوسف في أيامه وله مائة وعشرون سنة فكفن وجعل في تابوت من رخام ودفن في الجانب الغربي فأخصب ونقص الشرقيّ فحوّل إليه فاخصب ونقص الغربيّ فاتفقوا على أن يجعلوه في الشرقيّ عامًا وفي الغربيّ عامًا ثم حدث لهم من الرأي أن يجعلوا له حلقًا وثاقًا ويشدّوا التابوت في وسط النيل فأخصب الجانبان كلاهما. وقال ابن عبد الحكم: فملكهم الريان بن الوليد بن دومع وهو صاحب يوسف النبيّ صلى الله عليه وسلم فلما رأى الملك رؤياه التي رأى وعبره يوسف أرسل إليه الملك فأخرجه من السجن. قال ابن عباس رضي الله عنهما: فأتاه الرسول فقال: ألق عنك ثياب السجن والبس ثيابًا جددًا ولم إلى الملك فدعا له أهل السجن وهو يومئذ ابن ثلاثين سنة فلما أتاه رأى غلامًا حدثًا فقال: أيعلم هذا رؤياي ولا تعلمها السحرة والكهنة. وأقعده قدّامه وقال له: لا تخف قال: فلما استنطقه وسأله عَظُم في عينيه وجعل إليه أمره فدفع إليه خاتمه وولاه ما خلف بابه وألبسه طوقًا من ذهب وثياب حرير وأعطاه دابة مسرجة مزينة كدابة الملك وضرب بالطبل بمصر: إنَّ يوسف خليفة الملك. وعن عكرمة: أن فرعون قال ليوسف: قد سلطنتك على مصر غير أني أريد أن أجعل كرسي أطول من كرسيك بأربع أصابع قال يوسف: نعم وأجلسه على السرير ودخل الملك بيته مع نسائه وفوّض أمر مصر كلها إليه فبسبب عبارة رؤيا الملك مَلَك يوسف مصر. وعن الليث بن سعد قال: حدّثني مشيخة لنا قالوا: اشتدّ الجوع على أهل مصر فاشتروا الطعام بالذهب حتى لم يجدوا ذهبًا فاشتروا بالفضة حتى لم يجدوا فضة فاشتروا بأغنامهم حتى لم يجدوا غنمًا فلم يزل يبيعهم الطعام حتى لم يبق لهم فضة ولا ذهب ولا شاة ولا بقرة في تلك السنين فأتوه في الثالثة فقالوا: لم يبق لنا إلا أنفسنا وأهلونا وأرضونا فاشترى يوسف أرضهم كلها لفرعون ثم أعطاهم يوسف طعامًا يزرعونه على أن لفرعون الخمس. ويقال في خبر بناء يوسف عليه السلام: مدينة الفيوم أنه لما وزر لفرعون ثلاثين سنة عزله فقال: لِمَ عزلتني. فقال: لم أعزلك لريبة ولا أنسى بركتك ولكن آبائي عهدوا إليّ أن لا يتولى لنا وزير أكثر من ثلاثين سنة وإنا نخشى أن يتأصل الوزير حتى يدبر على الملك فقال له يوسف: قد علمتَ نصحي لك حتى صيرت ديار مصر كلها ملكًا لك فأقطعني أرضًا تكون لقوتي وقوت أهلي وعشيرتي فقال له فرعون: اختر حيث شئت فمشى يوسف في قفار الأرض حتى رأى أرض الفيوم وفيها جبل حائل بين النيل وبينها فوزن ماء النيل حتى رأى أن قاعها يركبه النيل فحرق خرقًا في ذلك الجبل وساق الماء فيه إلى الفيوم فسقى الأرض وعمل في جوانب الماء ثلثمائة وستين قرية على عدد أيام السنة وشحنها بالغلال والأقوات التي ازدرعها فكان إذا نقص النيل ووقع الجوع بأرض مصر باع كل يوم ما جمعه في قرية من قرى الفيوم حتى ملك مصر لنفسه كما جمعها للملك فعظم شأن يوسف وكثر ماله فرده الملك بعد مدّة إلى وزارته وتوفي وهو وزير فأوصى بخروج جثته إلى الأرض المقدّسة فخرج بها هارون بن إفراييم بن يوسف في مائة ألف من بني إسرائيل فهزمته الجبابرة فيما بين مصر والشام وهلك أكثر من معه وعاد بمن بقي معه إلى مصر فأقاموا بها حتى بعث الله موسى بن عمران عليه السلام إلى فرعون رسولًا فخرج ببني إسرائيل من مصر ومعه جثة يوسف عليه السلام. وفي ذلك الزمان استنبطت الفيوم وقيل: كان سبب ذلك أنّ يوسف عليه السلام لما ملك مصر وعظمت منزلته من فرعون وجاوز سنه مائة سنة قال وزراء الملك له: إنّ يوسف قلَّ عمله وتغير عقله ونفدت حكمته فعنفهم فرعون وردّ عليهم مقالتهم وأساء اللفظ لهم فكفوا ثم عاودوه بذلك القول بعد سنين فقال لهم: هلموا ما شئتم من أيّ شيء أختبره به. وكان بلد الفيوم يومئذٍ يُدعى الجوبة وإنما كانت لمصالة ماء الصعيد وفضوله فاجتمع رأيهم على أن تكون هي المحنة التي يمتحنون بها يوسف فقالوا لفرعون: سل يوسف أن يصرف ماء الجوبة عنها ويخرجه منها فتزداد بلدًا إلى بلدك وخراجًا إلى خراجك فدعا يوسف فقال: تعلم مكان ابنتي فلانة مني وقد رأيت إذا بلغت أن أطلب لها بلدًا وإني لم أصب لها إلا الجوبة وذلك إنه بلد بعيد قريب لا يرى بوجه من الوجوه إلا من غابة أو صحراء وكذلك ليست هي تؤتى من ناحية من النواحي من مصر إلا من مفازة وصحراء فالفيوم وسط مصر كمِثل مصر في وسط البلاد لأنّ مصر لا تؤتى من ناحية من النواحي إلا من صحراء أو مفازة قال: وقد اقتطعتها إياها فلا تتركن وجهًا ولا نظرًا إلا بلغته فقال يوسف: نعم أيها الملك متى أردت ذلك فابعث إليّ فإني إن شاء الله فاعل ذلك قال: إن أحبه إلي وأرفعه أعجله فأوحى إلى يوسف أن تحفر ثلاثة خلج خليجًا من أعلى الصعيد من موضع كذا إلى موضع كذا وخليجًا شرقيًا من موضع كذا إلى موضع كذا وخليجًا غريبًا من موضع كذا إلى موضع كذا. فوضع يوسف العمال فحفر خليج المنهى من أعلى أشمون إلى اللاهون وأمر البنائين أن يحفروا اللاهون وحفر خليج الفيوم وهو الخليج الشرقيّ وحفر خليجًا بقرية يقال لها: بنهمت من قرى الفيوم وهو الخليج الغربيّ فخرج ماؤها من الخليج الشرقيّ فصب في النيل وخرج من الخليج الغربيّ فصب في صحراء بنهمت إلى الغرب فلم يبق في الجوبة ماء ثم أدخلها الفعلة فقطع ما كان فيها من القصب والطرفاء وأخرجه منها وكان ذلك ابتداء جري النيل وقد صارت أرض الجوبة نقية برية وارتفع ماء النيل فدخل في رأس المنهي فجرى فيه حتى انتهى إلى اللاهون فقطعه إلى الفيوم فدخل خليجها فسقاها فصارت لجة من النيل وخرج إليها الملك ووزراؤه وكان هذا كله في سبعين يومًا. فلما نظر إليها الملك قال لوزرائه: أولئك هذا عمل ألف يوم فسُميت: الفيوم وأقامت تزرع كما تزرع غوائط مصر. قال: وقد سمعت في استخراج الفيوم غير هذا أنّ يوسف عليه السلام ملك مصر وهو ابن ثلاثين فأقام يدبرها أربعين سنة فقال أهل مصر: قد كبر يوسف واختلف رأيه فعزلوه وقالوا: اختر لنفسك من الموات أرضًا تقطعها لنفسك وتصلحها وتعمل رأيك فيها فإن رأينا من رأيك وحسن تدبيرك ما نعلم أنك في زيادة من عقلك رددناك إلى ملكك فاعترض البريّة في نواحي مصر فاختار موضع الفيوم فأعطيها فشق إليها خليج المنهي من النيل حتى أدخله الفيوم كلها وفرغ من حفر ذلك كله في سنة. قال يزيد بن أبي حبيب: وبلغنا أنه إنما عمل ذلك بالوحي وقوي على ذلك بكثرة الفعلة والأعوان فنظروا فإذا الذي أحياه يوسف من الفيوم لا يعلمون له بمصر كلها مثلًا ولا نظيرًا فقالوا: ما كان يوسف قط أفضل عقلًا ولا رأيًا ولا تدبيرًا منه اليوم فردّوا إليه الملك فأقام ستين سنة أخرى تمام مائة سنة حتى مات وهو ابن ثلاثين ومائة سنة. قال: ثم بلغ يوسف قول وزراء الملك وإنه إنما كان ذلك على المحنة منهم له فقال للملك: عندي من الحكمة والتدبير غير ما رأيت فقال له الملك: وما ذاك قال: أنزل الفيوم من كل كورة من كور مصر أهل بيت وآمر أهل كل بيت أن يبنوا لأنفسهم قرية وكانت قرى الفيوم على عدد كور مصر فإذا فرغوا من بناء قراهم صيرت لكل قرية من الماء بقدر ما أصير لها من الأرض لا يكون في ذلك زيادة ولا نقص وأصير لكل قرية شربًا في زمانٍ لا ينالهم الماء إلا فيه وأصير مطأطئًا للمرتفع ومرتفعًا للمطأطئ بأوقات من الساعات في الليل والنهار وأصير لها قبضات فلا يقصر بأحد دون حقه ولا يزداد فوق قدره فقال له فرعون: هذا من ملكوت السماء. قال: نعم فبدأ يوسف فأمر ببنيان القرى وحدَّد لها حُدودًا وكانت أوّل قرية عُمرت بالفيوم قرية يقال لها سانة وهي القرية التي كانت تنزلها بنت فرعون ثم أمر بحفر الخليج وبنيان القناطر فلما فرغوا من ذلك استقبل وزن الأرض ووزن الماء ومن يومئذٍ حدثت الهندسة ولم يكن الناس يعرفونها قبل ذلك وكان أوّل من قاس النيل بمصر يوسف ووضع مقياسًا بمنف. قال جامعه: وفي التوراة: أن فرعون ألزم بني إسرائيل البناء وضرب اللبن فبنوا له عدة مدن محصنة منها فيثوم وعرمسيس. قال الشارح: هي الفيوم وحوف رمسيس وفي زمان الريان بن الوليد دخل يعقوب عليه السلام وولده مصر وهم ثلاثة وسبعون نفسًا ما بين رجل وامرأة فأنزلهم يوسف ما بين عين شمس إلى الفرما وهي أرض ريفية بريّة وكان يعقوب لما دنا من فلما دخل يعقوب على فرعون كلمه وكان يعقوب شيخًا كبيرًا حليمًا حسن الوجه واللحية جهير الصوت فقال له فرعون: أيها الشيخ كم أتى عليك قال: عشرون ومائة وكان بُهمن ساحر فرعون قد وصف صفة يعقوب ويوسف وموسى صلوات الله عليهم في كتبه وأخبر أن خراب مصر وهلاك أهلها يكون على أيديهم ووضع البربايات وصفات من تخرب مصر على يديه. فلما رأى يعقوب قام إلى مجلسه فكان أول ما سأله عنه أن قال: من تعبد أيها الشيخ قال له يعقوب: أعبد الله إله كل شيء فقال: فكيف تعبد من لا تَرى. قال يعقوب: إنه أعظم وأجلّ من أن يراه أحد قال: فنحن نرى آلهتنا قال يعقوب: إن آلهتكم من عمل أيدي بني آدم من يموت ويبلى وإن هي لأعظم وأرفع وهو أقرب إلينا من حبل الوريد فنظر بهمن إلى فرعون فقال: هذا الذي يكون هلاك بلادنا على يديه. قال فرعون: أفي أيامنا أو في أيام غيرنا قال: ليس في أيامك ولا أيام بنيك قال الملك: فهل تجد هذا فيما قضى به إلهكم قال: نعم قال: فكيف تقدر أن تقيل من يريد إلهه هلاك قومه على يديه فلا يعبأ بهذا الكلام. وعن كعب: أنّ يعقوب عاش في أرض مصر ست عشرة سنة فلما أحضرته الوفاة قال ليوسف: لا تدفني بمصر فإذا مت فاحملوني فادفنوني في مغارة جبل جيرون وجيرون قال: فلما مات لطخوه بمرّ وصبر وجعلوه في تابوت من ساج فكانوا يفعلون به ذلك أربعين يومًا حتى كلم يوسف فرعون فأعلمه: أنّ أباه قد مات وإنه سأله أن يقبره في أرض كنعان فأذن له وخرج معه أشراف أهل مصر حتى دفنه وانصرف. وقيل: قبر يعقوب بمصر فأقام بها نحوًا من ثلاث سنين ثم حمل إلى بيت المقدس وأوصاهم بذلك عند موته. قال: ثم مات الريان بن الوليد فملكهم من بعده ابنه دارم بن الريان وفي زمانه توفي يوسف عليه السلام فلما حضرته الوفاة قال: إنكم ستخرجون من أرض مصر إلى أرض آبائكم فاحملوا عظامي معكم فمات فجعلوه في تابوت ودفنوه في أحد جانبي النيل فأخصب الجانب الذي كان فيه وأجدب الجانب الآخر فحوّلوه إلى الجانب الآخر فأخصب الجانب الذي حوّلوه إليه وأجدب الآخر. فلما رأوا ذلك جمعوا عظامه فجعلوها في صندوق من حديد وجعلوا فيه سلسلة وأقاموا عمودًا على شاطئ النيل وجعلوا في أصله سكة من حديد وجعلوا السلسلة في السكة وألقوا الصندوق في وسط النيل فأخصب الجانبان جميعًا. وكان سبب حمل عظام يوسف من مصر إلى الشام أنّ سارة ابنة أسر بن يعقوب عمَّرت حتى صارت عجوزًا كبيرة ذاهبة المصر فلما سرى موسى عليه السلام ببني إسرائيل غشيتهم ضبابة حالت بينهم وبين الطريق أن يبصروه وقيل لموسى: لن تعبر إلا ومعك عظام يوسف قال: ومن يدري أين موضعها. قالوا: عجوز كبيرة ذاهبة البصر تركناها في الديار فرجع موسى فلما سمعت حسه قالت: ما ردّك قال: أمرت أن أحمل عظام يوسف قالت: ما كنتم لتعبروا إلا وأنا معكم قال: دليني على عظام يوسف فدلته عليهما فأخذ عظام يوسف معه إلى التيه. يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم: خلل الرحمن صلوات الله عليهم أحد الأسباط الاثني عشر ولد بأرض كنعان من بلاد الشام ورأى الأحد عشر كوكبًا والشمس والقمر له ساجدين وعمره سبع عشرة سنة وكاد إخوته على ذلك وباعوه من قوم مدنيين فساروا به إلى مصر وباعوه لقائد فرعون فأقام في منزله اثني عشر شهرًا ثم راودته امرأة العزيز عن نفسه فاعتصم وكذبت عليه إلى أن حبس ومكث في السجن عشر سنين وقيل غير ذلك فلم يزل في السجن إلى أن رأى الساقي والخباز ذينك المنامين وفسر لهما يوسف وخرجا فأنسي الساقي يوسف سنتين إلى أن رأى الملك البقر والسنابل فذكره وأتاه فقص عليه الرؤيا وعبرها فأخرج من السجن وله حينئذٍ ثلاثون سنة فاستوزره الملك ومن ذلك الوقت إلى أن صار يعقوب إلى مصر تسع سنين منها سبع سنين من سني الشبع وسنتان من سني الجوع وكان ليعقوب في السنة التي صار فيها إلى مصر مائة سنة وثلاثون سنة وكان أهل بيته حينئذِ سبعين نفسًا ومنذ سار إلى مصر إلى أن ولد موسى عليه السلام مائة وثلاثون سنة أخرى.فلما مضى له بمصر سبع عشرة سنة توفي وعمره مائة وسبع وأربعون سنة فخاف الأسباط حينئذ مقابلة يوسف إياهم فقالوا: إنّ أباك أوصى أن تغفر ذنب إخوتك فإنك وهم عبيد الله إله أبيك فبكى يوسف وقال لهم: لا تحتاجون إلى ذلك ووعدهم بخيرٍ تممه لهم ومات يوسف وله مائة سنة وعشر سنين والله أعلم.
|