الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الخِطط المقريزية المسمى بـ «المواعظ والاعتبار بذكر الخِطط والآثار» **
تمم الله على الإسلام بركتها فتحنا الخزائن وبذلنا الأموال وفرّقنا السلاح وجمعنا العربان والمطوّعة وخلقًا لا يعلمهم إلا الله جاءوا من كل فج عميق ومكان سحيق فلما رأى العدوّ ذلك أرسل يطلب الصلح على ما وقع الاتفاق بينهم وبين الملك الكامل فأبينا ولما كانت ليلة الأربعاء تركوا خيامهم وأموالهم وأثقالهم وقصدوا دمياط هاربين فسرنا في آثارهم طالبين وما زال السيف يعمل في أدبارهم عامّة الليل وقد حلّ بهم الخزي والويل فلما أصبحنا يوم الأربعاء قتلنا منهم ثلاثين ألفًا غير من ألقى نفسه في اللجج وأما الأسرى فحدّث عن الحر ولا حرج والتجأ الفرنسيس إلى المينة وطلب الأمان فأمّناه وأخذناه وكرمناه وسلمناه دمياط بعون الله تعالى وقوله وجلاله وعظمته وبعث مع الكتاب غفارة الملك فرنسيس فلبسها الأمير جمال الدين بن يغمور وهي: اشكر لاطا أحمر بفرو سنجاب فقال الشيخ نجم الدين بن إسرائيل: إنّ غفارة الفرنسيس جاءت فهي حقًا لسيد الأمراء وقال آخر: أسيّدُ أملاك الزمان بأسرهم تنجزت من نصر الإله وعوده فلا زال مولانا يبيح حمى العدى ويُلبس أثواب الملوك عبيده وأخذ الملك المعظم يهدّد زوجة أبيه شجرة الدر ويطالبها بمال أبيه فخافته وكاتبت مماليك الملك الصالح تحرّضهم عليه وكان المعظم لما وصل إليه الفارس أقطاي إلى حصن كيفا وعده أن يعطيه إمرة فلم يفِ له بها وأعرض مع ذلك عن مماليك أبيه واطّرح أمراءه وصرف الأمير حسام الدين بن أبي عليّ عن نيابة السلطنة وأحضره إلى العسكر ولم يعبأ به وأبعد غلمان أبيه واختص بمن وصل معه من المشرق وجعلهم في الوظائف السلطانية فجعل الطواشي مسرورًا خادمه إستادارًا وعمل صبيحًا وكان عبدًا حبشيًا فحلًا خازنداره وأمر أن تكون له عصا من ذهب وأعطاه مالًا جزيلًا وإقطاعات جليلة وكان إذا سكر جمع الشمع وضرب رؤوسها بالسيف حتى تنقطع ويقول هكذا أفعل بالبحرية فإنه كان فيه هرج وخفة واحتجب على العكوف بملاذه فنفرت منه النفوس وبقي كذلك إلى يوم الاثنين تاسع عشري المحرّم وقد جلس على السماط فتقدّم إليه أحد المماليك البحرية وضربه بسيف قطع أصابع يديه ففرّ إلى البرج فاقتحموا عليه وسيوفهم مصلتة فصعد أعلى البرج الخشب فرموه بالنشاب وأطلقوا الناس في البرج فألقى نفسه ومرّ إلى البحر وهو يقول: ما أريد ملككهم دعوني أرجع إلى الحصن يا مسلمين ما فيكم من يصطنعني ويجيرني. وسائر العساكر بالسيوف واقفة فلم يجبه أحد والنشاب يأخذه من كل ناحية وأدركوه فقطع بالسيوف ومات حريقًا غريقًا قتيلًا في يوم الاثنين المذكور وترك على الشط ثلاثة أيام ثم دفن. ولما قتل الملك المعظم اتفق أهل الدولة على إقامة شجرة الدر والدة خليل في مملكة مصر وأن يكون مقدّم العسكر الأمير عز الدين أيبك التركمانيّ الصالحيّ وحلف الكل على ذلك وسيروا إليها عز الدين الروميّ فقدم عليها في قلعة الجبل وأعلمها بما اتفق فرضيت به وكتبت على التواقيع علامتها وهي والدة خليل وخطب لها على المنابر بمصر والقاهرة وجرى الحديث مع الملك روادفرنس في تسليم دمياط وتولى مفاوضته في ذلك الأمير حسام الدين بن أبي عليّ الهديانيّ فأجاب إلى تسليمها وأن يُخلى عنه بعد محاورات وسير إلى الفرنج بدمياط يأمرهم بتسليمها إلى المسلمين فسلموها بعد جهد جهيد من كثرة المراجعات في يوم الجمعة ثالث صفر ورفع العلم السلطاني على سورها وأعلن فيها بكلمة الإسلام وشهادة الحق بعدما أقامت بيد الفرنج أحد عشر شهرًا وسبعة أيام وأفرج عن الملك روادفرنس وعن أخيه وزوجته ومن بقي من أصحابه إلى البرّ الغربيّ وركبوا البحر من الغد وهو يوم السبت رابع قل للفرنسيس إذا جئته مقال نصح عن قؤول نصيح آجرك الله على ما جرى من قبل عباد يسوع المسيح أتيت مصر تبتغي ملكها تحسب أنّ الزمر يا طبل ريح فساقك الحين إلى أدهم ضاق به عن ناظريك الفسيح وكل أصحابك أودعتهم بحسن تدبيرك بطن الضريح خمسون ألفًا لا يرى منهم إلا قتيل أو أسير جريح وفقك الله لأمثالها لعلّ عيسى منكم يستريح إن كان بابًا كم بذار راضيًا فرب غش قد أتى من نصيح قل لهم أن أضمروا عودة لأخذ ثأرٍ أو لنقد صحيح دار ابن لقمان على حالها والقيد باقي والطواشي صبيح وقدر الله أن الفرنسيس هذا بعد خلاصه من هذه الوقعة جمع عدّة جموع وقصد يونس فقال شاب من أهلها يقال له أحمد بن إسماعيل الزيات: يا فرنسيس هذه أخت مصر فتأهب لما إليه تصير فكان هذا فألًا حسنًا فإنه مات وهو على محاصرة تونس ولما تسلم الأمراء دمياط وردت البشرى إلى القاهرة فضربت البشائر وزينت القاهرة ومصر فقدمت العساكر من دمياط يوم الخميس تاسع صفر فلما كان في سلطنة الأشرف موسى بن الملك المسعود أقسيس بن الملك الكامل والملك المعزّ عز الدين التركماني وكثر الاختلاف بمصر واستولى الملك الناصر يوسف بن العزيز على دمشق اتفق أرباب الدولة بمصر وهم المماليك البحرية على تخريب مدينة دمياط خوفًا من مسير الفرنج إليها مرّة أخرى فسيروا إليها الحجارين والفعلة فوقع الهدم في أسوارها يوم الاثنين الثامن عشر من شعبان سنة ثمان وأربعين وستمائة حتى خربت كلها ومحيت آثارها ولم يبق منها سوى الجامع وصار في قبليها أخصاص على النيل سكنها الناس الضعفاء وسموها المنشية وهذا السور هو الذي بناه أمير المؤمنين المتوكل على الله كما تقدم ذكره. فلما استبدّ الملك الظاهر بيبرس البندقداري: الصالحيّ بمملكة مصر بعد قتل الملك المظفر قطز أخرج من مصر عدّة من الحجارين في سنة تسع وخمسين وستمائة لردم فم بحر دمياط فمضوا وقطعوا كثيرًا من القرابيص وألقوها في بحر النيل الذي ينصب من شمال دمياط في البحر الملح حتى ضاق وتعذر دخول المراكب منه إلى دمياط وهو إلى اليوم على ذلك لا تقدر مراكب البحر الكبار أن تدخل منه وإنما ينقل ما فيها من البضائع في مراكب نيلية تعرف عند أهل دمياط بالجروم واحدها: جرم وتصير مراكب البحر جبل في فم البحر أو رمل يتربى هناك وهذا قول باطل حملهم عليه ما يجدونه من تلافِ المراكب إذا هجمت على هذا المكان وجهلهم بأحوال الوجود وما مرّ من الوقائع وإلى يومنا هذا يخاف على المراكب عند ورودها فم البحر وكثيرًا ما تتلف فيه. وقد سرت إليه حتى شاهدته ورأيته من أعجب ما يراه الإنسان. وأما دمياط الآن فإنها حدثت بعد تخريب مدينة دمياط وعمل هناك أخصاص وما برحت تزداد إلى أن صارت بلدة كبيرة ذات أسواق وحمامات وجوامع ومدارس ومساجد ودورها تشرف على النيل الأعظم ومن ورائها البساتين وهي أحسن بلاد الله منظرًا. وقد أخبرني الأمير الوزير المشير الإستادار يلبغا السالمين رحمه الله أنه لم ير في البلاد التي سلكها من سمرقند إلى مصر أحسن من دمياط هذه فظننت أنه يغلو في مدحها إلى أن شاهدتها فإذا هي أحسن بلد وأنزهه وفيها أقول: سقى عهد دمياط وحياه من عهد ** فقد زادني ذكراه وجدًا على وجد ولا زالت الأنواء تسقي سحابها ديارًا ** حكت من حسنها جنة الخلد فلله أنهار تحف بروضها ** لكالمرهف المصقول أو صفحــة الخد وبشنينها الريان يحكي متيمًا ** تبدّل من وصل الأحبة بالصـــــدّ فقام على رجليه في الدمع غارقًا ** يراعي نجوم الليل من وحشة الفقد وظلّ على الأقدام تحسب أنه ** لطول انتظار من حبيب على وعد ولا سيما تلك النواعير إنها ** تجدد حزن الواله المدنف الفرد أطارحها شجوي وصارت كأنما ** تطارح شكواها بمثل الذي أبدي فقد خلتها الأفلاك فيها نجومها ** تدور بمحض النفع منها وبالسعد وفي البرك الغرّاء يا حسن نوفر ** حلا وغدا بالزهو يسطو على الورد سماء من البلور فيها كواكب عجيبة ** صبغ اللون محكمة النضد وفي شاطئ النيل المقدس نزهة ** تعيد شباب الشيب في عيشه الرغد وتنشي رياحًا تطرد الهمّ والأسى ** وتنشي ليالي الوصل من طيبها عندي وفي مرج البحرين جمّ عجائب تلوح ** وتبدو من قريب ومن بعد فكم قد مضى لي من أفانين لذة ** بشاطئها العذب الشهيّ لذي الورد وكم قد نعمنا في البساتين برهة ** بعيش هنيء في أمان وفي سعد وفي البرزخ المأنوس كم لي خلوة ** وعند شطا عن أيمن العلم الفرد هناك ترى عين البصيرة ما ترى ** من الفضل والأفضال والخير والمجد فيا رب هيئ لي بفضلك عودة ** ومنّ بها في غير بلوى ولا جهد وبدمياط حيث كانت المدينة التي هدمت جامع من أجلّ مساجد المسلمين تسمية العامّة مسجد فتح وهو المسجد الذي أسسه المسلمون عند فتح دمياط. أول ما فتح الله أرض مصر على يد عمرو بن العاص وعلى بابه مكتوب بالقلم الكوفيّ أنه عمر بعد سنة خمسمائة من الهجرة وفيه عدة من عمد الرخام منها ما يعز وجود مثله وإنما عرف بجامع فتح لنزول شخص يقال له: فاتح به فقالت العامّة: جامع فتح. وإنما هو: فاتح بن عثمان الأسمر التكروريّ قدم من مراكش إلى دمياط على قدم التجريد وسقى بها الماء في الأسواق احتسابًا من غير أن يتناول من أحد شيئًا ونزل في ظاهر الثغر ولزم الصلاة مع الجماعة وترك الناس جميعًا ثم أقام بناحية تونة من بحيرة تنيس وهي خراب نحو سبع سنين ورمّ مسجدها ثم انتقل من تونة إلى جامع دمياط وأقام في وكر بأسفل المنارة من غير أن يخالط أحدًا إلا إذا أقيمت الصلاة خرج وصلى فإذا سلم الإمام عاد إلى وكره فإن عارضه أحد بحديث كلَّمه وهو قائم بعد انصرافه من الصلاة وكانت حاله أبدًا اتصالًا في انفصال وقربًا في ابتعاد وأنسًا في نفار وحج فكان يفارق أصحابه عند الرحيل فلا يرونه إلا وقت النزول ويكون سيره منفردًا عنهم لا يكلم أحدًا إلى أن عاد إلى دمياط فأخذ في ترميم الجامع وتنظيفه بنفسه حتى نقي ما كان فيه من الوطواط بسقوفه وساق الماء إلى صهاريجه وبلط صحنه وسبك سطحه بالجبس وأقام فيه. وكان قبل ذلك من حين خربت دمياط لا يفتح إلا في يوم الجمعة فقط فرتب فيه إمامًا راتبًا يصلي الخمس وسكن في بيت الخطابة وواظب على إقامة الأوراد به وجعل فيه قرّاء يتلون القرآن بكرة وأصيلًا وقرّر فيه رجلًا يقرأ ميعادًا يذكر الناس ويعلمهم وكان يقول: لو علمت بدمياط مكانًا أفضل من الجامع لأقمت به ولو علمت في الأرض بلدًا يكون فيه الفقير أخمل من دمياط لرحلت إليه وأقمت به وكان إذا ورد عليه أحد من الفقراء ولا يجد ما يطعمه باع من لباسه ما يضيفه به وكان يبيت ويصبح وليس له معلوم ولا ما يقع عليه العين أو تسمعه الأذن وكان يؤثر في السرّ الفقراء والأرامل ولا يسأل أحدًا شيئًا ولا يقبل غالبًا وإذا قبل ما يفتح الله عليه آثر به وكان يبذل جهده في كتم حاله والله تعالى يظهر خيره وبركته من غير قصد منه لذلك وعرفت له عدّة كرامات وكان سلوكه على طريق السلف من التمسك بالكتاب والسنة والنفور عن الفتنة وترك الدعاوي واطراحها وستر حاله والتحفظ في أقواله وأفعاله وكان لا يرافق أحدًا في الليل ولا يعلم أحد يوم صومه من يوم فطره ويجعل دائمًا قول إن شاء اللّه تعالى مكان قول غيره والله. ثم إنّ الشيخ عبد العزيز الدميريّ أشار عليه بالنكاح وقال له: النكاح من السنة فتزوّج في آخر عمره بامرأتين ولم يدخل على واحدة منهما نهارًا البتة ولا أكل عندهما ولا شرب قط وكان ليله ظرفًا للعبادة لكنه يأتي إليهما أحيانًا وينقطع أحيانًا لاستغراق زمنه كله في القيام بوظائف العبادات وإيثار الخلوة وكان خواص خدمه لا يعلمون بصومه من فطره وإنما يحمل إليه ما يأكل ويوضع عنه بالخلوة فلا يرى قط آكلًا وكان يحب الفقر ويؤثر حال المسكنة ويتطارح على الخمول والجفا ويتواضع مع الفقراء ويتعاظم على العظماء والأغنياء وكان يقرأ في المصحف ويطالع الكتب ولم يره أحد يخط بيده شيئًا وكانت تلاوته للقرآن بخشوع وتدبر ولم يعمل له سجادة قط ولا أخذ على أحد عهدًا ولا لبس طاقية ولا قال أنا شيخ ولا أنا فقير ومتى قال في كلامه: إنا تفطَّن لما وقع فيه واستعاذ بالله من قول أنا ولا حضر قط سماعًا ولا أنكر على من يحضره وكان سلوكه صلاحًا من غير إصلاح ويبالغ في الترفع على أبناء الدنيا ويترامى على الفقراء ويقدّم لهم الأكل ولم يقدّم لغني أكلًا البتة وإذا اجتمع عنده الناس قدّم الفقير على الغني وإذا مضى الفقير من عنده سار معه وشيعه عدة خطوات وهو حافٍ بغير نعل ووقف على قدميه ينظره حتى يتوارى عنه ومن كان من الفقراء يُشار إليه بمشيخة جلس بين يديه بأدب مع إمامته وتقدّمه في الطريق ويقول: ما أقول لأحد افعل أو لا تفعل من أراد السلوك يكفيه أن ينظر إلى أفعاله فإن من لم يتسلك بنظره لا يتسلك بسمعه. وقال له شخص من خواصه: يا سيدي ادع الله لنا أن يفتح علينا فنحن فقراء فقال: إن أردتم فتح الله فلا تبقوا في البيت شيئًا ثم اطلبوا فتح الله بعد ذلك فقد جاء لا تسأل الله ولك خاتم من حديد ومن كلامه: الفقير بحال البكر إذا سأل زالت بكارته وسأله بعض خواصه: أن يدعو له بسعة وشكا له الضيق فقال: أنا ما أدعو لك بسعة بل أطلب لك الأفضل والأكمل. وكان مع اشتغاله بالعبادة واستغراق أوقاته فيها لا يغفل عن صاحبه ولا ينسى حاجته حتى يقضيها ويلازم الوفاء لأصحابه ويحسن معاشرتهم ويعرف أحوال الناس على طبقاتهم ويعظم العلم ويكرم الأيتام ويشفق على الضعفاء والأرامل ويبذل شفاعته في قضاء حوائج الخاص والعام من غير أن يملّ ولا يتبرّم بكثرة ذلك ويكثر من الإيثار في السرّ ولا يمسك لنفسه شيئًا ويستقلّ ما منه مع كثرة إحسانه ويستكثر ما يلغ إليه وإن كان يسيرًا ويكافئ عليه بأحسن منه ولم يصحب قط أميرًا ولا وزيرًا بل كان في سلوكه طريقه يرفع في تواضع ويعزز مع مسكنة وقرب في ابتعاد واتصال في انفصال وزهد في الدنيا وأهلها وكان أكبر من خبره ومن دعائه لنفسه ولمن يسأل له الدعاء: اللهم بَعّدنا عن الدنيا وأهلها وبعِّدها عنا وما زال على ذلك إلى أن مات آخر ليلة أسفر صباحها عن الثامن من شهر ربيع الآخر سنة خمس وتسعين وستمائة وترك ولدين ليس لهما قوت ليلة وعليه مبلغ الذي درهم دينًا ودفن بجوار الجامع وقبره يُزار إلى يومنا هذا. ذكر شطا شطا: مدينة عند تنيس ودمياط وإليها تنسب الثياب الشطوية ويقال: إنها عرفت بشطا بن الهاموك وكان أبوه خال المقوقس وكان على دمياط فلما فتح الله الحصن على يد عمرو بن العاص واستولى على أرض مصر جهز بعثًا لفتح دمياط فنازلوها إلى أن ملكوا سور المدينة فخرج شطا في ألفين من أصحابه ولحق بالمسلمين وقد كان قبل ذلك يحب الخير ويميل إلى ما يسمعه من سيرة أهل الإسلام. ولما ملك المسلمون دمياط امتنع عليهم صاحب تنيس فخرج شطا إلى البرلس والدميرة وأشموم طناح يستنجد فجمع الناس لقتال أهل تنيس وسار بهم من كان بدمياط من المسلمين ومن قدم مددًا من عند عمرو بن العاص إلى قتال أهل تنيس فالتقى الفريقان وأبلى شطا منهم بلاءً حسنًا وقتل من أبطال تنيس اثني عشر رجلًا واستشهد في ليلة الجمعة النصف من شعبان سنة إحدى وعشرين من الهجرة فقبر حيث هو الآن خارج مياط وبني على قبره وصار الناس يجتمعون هناك في ليلة النصف من شعبان كل عام ويغدون للحضور من القرى وهم على ذلك إلى يومنا هذا وكانت تعمل كسوة الكعبة بشطا. قال الفاكهي: ورأيت فيها كُسوة من كِسا أمير المؤمنين هارون الرشيد من قباطيّ مصر مكتوبًا عليها: بسم الله بركة من الله لعبد الله هارون أمير المؤمنين أطال الله بقاءه مما أمر الفضل بن الربيع مولى أمير المؤمنين بصنعته في طراز شطا كسوة الكعبة سنة إحدى وتسعين ومائة. ومن المواضع المشهورة بدمياط: البرزخ: وهو مسجد بحيرة دمياط تسميه العامّة البرزخ ولا أعرف مستندهم في ذلك وشاهدت فيه عجبًا وهو أنّ به منارة كبيرة مبنية من الآجرّ إذا هزّها أحد اهتزت فلما صعدت أعلاها حيث يقف المؤذنون وحرّكتها رأيت ظلها قد تحرّك بتحريكي لها ويوجد حول هذا المسجد رمم أموات يشبه أن تكون ممن استشهد في وقائع ديبق: قرية من قرى دمياط بنسب إليها الثياب المثقلة والعمائم الشرب الملوّنة والديبقيّ العلم المذهب وكانت العمائم الشرب المذهبة تعمل بها ويكون طول كل عمامة منها مائة ذراع وفيها رقمات منسوجة بالذهب فتبلغ العمامة من الذهب خمسمائة دينار سوى الحرير والغزل. وحدثت هذه العمائم وغيرها في أيام العزيز بالله بن المعز سنة خمس وستين وثلثمائة إلى أن مات في شعبان سنة ست وثمانين وثلثمائة. النحريرية: قرية من الأعمال الغربية أسس حكرها الأمير شمس الدين سنقر السعدي نقيب الجيش في أيام الناصر محمد بن قلاون وبالغ في عمارتها فبلغت في أيامه عشرة آلاف درهم فضة ثم خرج عنها فعمرت السلطان وأتسع أمرها حتى أنشئ فيها زيادة على ثلاثين بستانًا ووصل حكرها لكثرة سكانها إلى ألف درهم فضة لكل فدّان وصارت بلدًا كبيرًا لعمل يبلغ في السنة ما بين خراجيّ وهلاليّ ثلثمائة ألف درهم فضة عنها خمسة عشر ألف دينار ذهبًا. ومات سنقر هذا في سنة ثمان وعشرين وسبعمائة وإليه تنسب المدرسة السعدية بخط حمرة البقر خارج باب زويلة. جزيرة بني نصر: منسوبة إلى بني نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن وذلك أن بني حماس بن ظالم بن جعيل بن عمرو بن درهمان بن نصير بن معاوية بن بكر بن هوازن كانت لهم شوكة شديدة بأرض مصر وكثروا حتى ملؤوا أسفل الأرض وغلبوا عليها حتى قويت عليهم قبيلة من البربر تعرف: بلواتة ولواتة تزعم أنها من قيس فأجلَتْ بني نصر وأسكنها الجدار فصاروا أهل قرى في مكان عُرف بهم وسط النيل وهي جزيرة بني نصر هذه. ذكر الطريق فيما بين مدينة مصر ودمشق اعلم: أن البريد أوّل من رتب ثوابه الملك دارا بن بهمن بن كيبشتاسف بن كيهراسف أحد ملوك الفرس. وأما في الإسلام فأول من أقام البريد أمير المؤمنين المهدي محمد بن أبي جعفر المنصور أقامه فيما بين مكة والمدينة واليمن وجعله بغالًا وإبلًا وذلك في سنة ست وستين ومائة. وأصل هذه الكلمة بريد ذنب فإن دارا: أقام في سكك البريد دوابّ محذوفة الأذناب سُميت بريد ذنب وحذف منها نصفها الأخير فقيل: بريد وهذا الحرب الذي يسلكه العساكر والتجار وغيرهم من القاهرة على الرمل إلى مدينة غزة ليس هو الحرب الذي يُسلك في القديم من مصر إلى الشام ولم يحدث هذا الدرب الذي يسلك فيه من الرمل الآن إلا بعد الخمسمائة من سني الهجرة عندما انقرضت الدولة الفاطمية. وكان الدرب أوّلًا قبل استيلاء الفرنج على سواحل البلاد الشامية غير هذا قال أبو عبيد الله بن عبد الله بن خرداذبه في كتاب المسالك والممالك وصفة الأرض والطريق من دمَشق إلى الكسوة: اثنا عشر ميلًا ثم إلى جاسم أربعة وعشرون ميلًا ثم إلى فيق أربعة وعشرون ميلًا ثم إلى طبرية مدينة الأردن ستة أميال ومن طبرية إلى اللجون عشرون ميلًا ثم إلى القلنسوة عشرون ميلًا ثم إلى الرملة مدينة فلسطين أربعة وعشرون ميلًا والطريق من الرملة إلى أزدود اثنا عشر ميلًا ثم إلى غزة عشرون ميلًا ثم إلى العريش أربعة وعشرون ميلًا في رمل ثم إلى الورادة ثمانية عشر ميلًا ثم إلى أم العرب عشرون ميلًا ثم إلى الفرما أربعة وعشرون ميلًا ثم إلى جرير ثلاثون ميلًا ثم إلى القاصرة أربعة وعشرون ميلًا ثم إلى مسجد قضاعة ثمانية عشر ميلًا ثم إلى بلبيس أحد وعشرون ميلًا ثم إلى الفسطاط مدينة مصر أربعة وعشرون ميلًا فهذا كما ترى. إنما كان الدرب المسلوك من مصر إلى دمشق على غير ما هو الآن فيسلك من بلبيس إلى الفرما في البلاد التي تعرف اليوم ببلاد السباخ من الحوف ويسلك من الفرما وهي بالقرب من قطية إلى أم العرب وهي بلاد خراب على البحر فيما بين قطية والورادة ويقصدها قوم من الناس ويحفرون في كيمانها فيجدون دراهم من فضة خالصة ثقيلة الوزن كبيرة المقدار ويسلك من أم العرب إلى الورادة وكانت بلدة في غير موضعها الآن قد ذكرت في هذا الكتاب. فلما خرج الفرنج من بحر القسطنطينية في سنة تسعين وأربعمائة لأخذ البلاد من أيدي المسلمين وأخذ بغدوين الشوبك وعَمَّره في سنة تسع وخمسمائة وكان قد خرب من تقادم السنين وأغار على العريش وهو يومئذٍ عامر بطل السفر حينئذٍ من مصر إلى الشام وصار يُسك على طريق البرّ مع العرب مخافة الفرنج إلى أن استنقذ السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب بيت المقدس من أيدي الفرنج في سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة وأكثر من الإيقاع بالفرنج وافتتح منهم عدّة بلاد بالساحل وصار يُسلك هذا الدرب على الرمل فسلكه المسافرون من حينئذِ إلى أن ولي ملك مصر الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب فأنشأ بأرض السباخ على طرف الرمل بلدة عرفت إلى اليوم بالصالحية وذلك في سنة أربع وأربعين وستمائة وصار ينزل بها ويقيم فيها ونزل بها من بعده الملوك. فلما ملك مصر الملك الظاهر بيبرس البندقداريّ رتب البريد في سائر الطرقات حتى صار الخبر يصل من قلعة الجبل إلى دمشق في أربعة أيام ويعود في مثلها فصارت أخبار الممالك تَرِد إليه في كل جمعة مرّتين ويتحكم في سائر ممالكه بالعزل والولاية وهو مقيم بالقلعة وأنفق في ذلك مالًا عظيمًا حتى تم ترتيبه وكان ذلك في سنة تسع وخمسين وستمائة وما زال أمر البريد مستمرًّا فيما بين القاهرة ودمشق يوجد بكل مركز من مراكزه عدّة من الخيول المعدّة للركوب وتعرف بخيل البريد وعندها عدّة سُوّاس وللخيل رجال يعرفون بالسوّاقين وأحدهم سوّاق يركب مع رسم بركوبه خيل البريد ليسوق له فرسه ويخدمه مدّة مسيره ولا يركب أحد خيل البريد إلا بمرسوم سلطانيّ فتارة يمنع الناس من ركوبه إلا من انتدبه السلطان لمهماته وتارة يركبه من يريد السفر من الأعيان بمرسوم سلطانيّ وكانت طرق الشام عامرة يوجد بها عند كل بريد ما يحتاج إليه المسافر من زاد وعلف وغيره ولكثرة ما كان فيه من الأمن أدركنا المرأة تسافر من القاهرة إلى الشام بمفردها راكبة أو ماشية لا تحمل زادًا ولا ماء. فلما أخذ تيمورلنك دمشق وسبى أهلها وحرّقها في سنة ثلاث وثمانمائة خربت مراكز البريد واشتغل أهل الدولة بما نزل بالبلاد من المحن وما دُهوا به من كثرة الفتن عن إقامة البريد فاختلّ بانقطاعه طريق الشام خللًا فاحشًا والأمر على ذلك إلى وقتنا هذا وهو سنة ثمان عشرة وثمانمائة. ذكر مدينة حطين هذه المدينة: آثارها إلى اليوم باقية فيما بين حبوة والعاقولة بأرض العاقولة فيما بين قطية والعريش تجاهها بميل ماء عذب تسميه العرب: أبا العروق وهو شرقيها وهذه المدينة تنسب إلى حطين ويقال: حطي بن الملك أبي جاد المديني وأهل قطية اليوم يُسمون تلك الأرض ببلاد حطين والجفر ومَلَك حطين هذا أرض مصر بعد موت أبيه وكان صاحب حرب وبطش وكان ينزل بقلعة في جبال الأردن قريبًا من طبرية وإليه تنسب قرية حطين التي بها الآن قبر شعيب بالقرب من صفد. قال قتادة: أولئك القوم من لخم وكانوا نزولًا بالرقة وقيل: كانت أصنامهم تماثيل البقر ولهذا أخرج لهم السامريّ عجلًا وآثار هذه المدينة باقية إلى اليوم فيما بقي من مدينة فاران والقلزم ومدين وأيلة تمرّ بها الأعراب. ذكر عين شمس وكان يقال لها في القديم: رعمساس وكانت عين شمس هيكلًا يحج الناس إليه ويقصدونه من أقطار الأرض في جملة ما كان يحج إليه من الهياكل التي كانت في قديم الدهر ويقال: إنّ الصابئة أخذت هذه الهياكل عن عاد وثمود ويزعمون أنه عن شيث بن آدم وعن هرمس الأوّل وهو إدريس وإن إدريس هو أوّل من تكلم في الجواهر العلوية والحركات النجومية وبنى الهياكل ومجد الله فيها. ويقال: إنّ الهياكل كانت عدّتها في الزمن الغابر: اثني عشر هيكلًا وهي هيكل: العلة الأولى وهيكل: العقل وهيكل: السياسة وهيكل: الصورة وهيكل: النفس وكانت هذه الهياكل الخمسة مستديرات والهيكل السادس هيكل: زحل وهو مسدس وبعده هيكل: المشتري وهو مثلث ثم هيكل: المرّيخ وهو مربع وهيكل: الشمس وهو أيضًا مربع وهيكل: الزهرة وهو مثلث مستطيل وهيكل: عطارد مثلث في جوف مربع مستطيل وهيكل: القمر مثمن. وعللوا عبادتهم للهياكل بأن قالوا: لما كان صانع العالم مقدّسًا عن صفات الحدوث وجب العجز عن إدراك جلاله وتعين أن يتقرّب إليه عباده بالمقرّبين لديه وهم: الروحانيون ليشفعوا لهم ويكونوا وسائط لهم عنده وعنوا بالروحانيين: الملائكة وزعموا أنها المدبرات للكواكب السبعة السيارة في أفلاكها وهي هياكلها وأنه لا بدّ لكل روحانيّ من هيكل ولا بدّ لكل هيكل من فلك وأن نسبة الروحانيّ إلى الهيكل نسبة الروح إلى الجسد وزعموا: أنه لا بد من رؤية المتوسط بين العباد وبين بارئهم حتى يتوجه إليه العبد بنفسه ويستفيد منه ففزعوا إلى الهياكل التي هي السيارات فعرفوا بيوتها من الفلك وعرفوا مطالعها ومغاربها واتصالاتها وما لها من الأيام والليالي والساعات والأشخاص والصور والأقاليم وغير ذلك مما هو معروف في موضعه من العلم الرياضي. وسموا هذه السبعة السيارة: أربابًا وآلهة وسموا: الشمس إله الآلهة ورب الأرباب وزعموا أنها المفيضة على ألسنة أنوارها والمظهرة فيها آثارها فكانوا يتقرّبون إلى الهياكل تقرّبًا إلى الرّوحانيين لتقربهم إلى الباري لزعمهم أن الهياكل أبدان الروحانيين وكلّ من تقرّب إلى شخص فقد تقرّب إلى روحه. وكانوا: يُصلون لكل كوكب يومًا يزعمون أنه رب ذلك اليوم وكانت صلاتهم في ثلاثة أوقات: الأولى عند طلوع الشمس والثانية عند استوائها في الفلك والثالثة عند غروبها فيُصلون لزحل يوم السبت وللمشتري يوم الأحد وللمريخ يوم الاثنين وللشمس يوم الثلاثاء وللزهرة يوم الأربعاء ولعطارد يوم الخميس وللقمر يوم الجمعة. ويقال: إنه كان ببلخ هيكل بناه: بنو حمير على اسم القمر لتعارض به الكعبة فكانت الفرس تحجه وتكسوه الحرير وكان اسمه: نوبهر فلما تمجست الفرس عملته بيت نار وقيل للموكل بسدانته: برمك يعني والي مكة وانتهت البرمكة إلى جد خالد جدّ جعفر بن يحيى بن خالد فأسلم على يد هشام بن عبد الملك وسماه عبد الله وخرّب هذا الهيكل قيس بن الهيثم في أوّل خلافة معاوية سنة إحدى وأربعين وكان بناءَ عظيمًا حوله أروقة وثلثمائة وستون مقصورة لسكن خدّامه.
|