الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الخِطط المقريزية المسمى بـ «المواعظ والاعتبار بذكر الخِطط والآثار» **
أجلّ حصن للمسلمين وهي جزيرة تقرب من الجنادل محيط بها النيل فيها بلد كبير يسكنه خلق كثير من الناس وبها نخل عظيم ومنبر في جامع وإليها تنتهي سفن النوبة وسفن المسلمين من أسوان وبينها وبين القرية التي تعرف بالقصر وهي أوّل بلد النوبة ميل واحد وبينها وبين أسوان أربعة أميال ومن أسوان إلى هذا الموضع جنادل في البحر لا تسلكها المراكب إلا بالحيلة ودلالة من يخبر ذلك من الصيادين الذين يصيدون هناك وبالقصر مسلحة وباب إلى بلد النوبة. ذكر حائط العجوز هذا الحائط كان حصنًا لأرض مصر يحدق بجميعها وكان فيه محارس ومسالح ومن ورائه خليج يجري فيه الماء معقود عليه القناطر عملته دلوكة بنت زبا وقد وَهِيَ وتلاشى ولم يبق منه إلا يسير في شط النيل الشرقيّ ينتهي إلى أسوان. قال أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم في كتاب فتوح مصر: فبقيت مصر بعد غرقهم يعني فرعون وجنوده وليس فيها من أشراف أهلها أحد ولم يبق بها إلا العبيد والأجراء والنساء فأعظم أشراف من بمصر من النساء أن يولين منهم أحدًا وأجمع رأيهنّ أن يولين امرأة منهن يقال لها: دلوكة بنت زبا وكان لها عقل ومعرفة وتجارب وكانت في شرف منهنّ وموضع وهي يومئذ بنت مائة سنة وستين سنة فملكوها فخافت أن يتناولها ملوك الأرض فجمعت نساء الأشراف فقالت لهنّ: إنّ بلادنا لم يكن يطمع فيها أحد ولا يمدّ عينه إليها وقد هلك أكابرنا وأشرافنا وذهب السحرة الذين كنا نقوى بهم وقد رأيت أن أبني حصنًا أحدق به جميع بلادنا فأضع عليه المحارس من كل ناحية فإنا لا نأمن من أن يطمع فينا الناس فبنت جدارًا أحاطت به على جميع أرض مصر كلها المزارع والمدائن والقرى وجعلت دونه خليجًا يجري فيه الماء وأقامت القناطر والترع وجعلت فيه محارس ومسالح على كل ثلاثة أميال محرس ومسلحة وفيما بين ذلك محارس صغار على كل ميل وجعلت في كل محرس رجالًا وأجرت عليهم الأرزاق وأمرتهم أن يحرسوا بالأجراس فإذا أتاهم أحد يخافونه ضرب بعضهم إلى بعض بالأجراس فأتاهم الخبر من أيّ جهة كانت في ساعة واحدة فنظروا في ذلك فمنعت بذلك مصر ممن أرادها وفرغت من بنائه في ستة أشهر وهو الجدار الذي يقال له: جدار العجوز بمصر وقد بقيت بالصعيد منه بقايا كبيرة والله أعلم. البقط: ما يقبض من سبي النوبة في كل عام ويحمل إلى مصر ضريبة عليهم فإن كانت هذه الكلمة عربية فهي إمّا من قولهم في الأرض بقط من بقل وعشب أي نبذ من مرعى فيكون معناه على هذا نبذة من المال أو يكون من قولهم إن في بني تميم بقطًا من ربيعة أي فرقة أو قطعة فيكون معناه على هذا فرقة من المال أو قطعة منه ومنه بقط الأرض فرقة منها وبقط الشيء: فرقه. والبقط: أن تعطي الحبة على الثلث أو الربع والبقط أيضًا: ما سقط من التمر إذا قطع فأخطأ المخرف فيكون معناه على هذا بعض ما في أيدي النوبة وكان يؤخذ منهم في قرية يقال لها: القصر مسافتها من أسوان خمسة أميال فيما بين بلد بلاق وبلد النوبة وكان القصر فرضة لقوص وأوّل ما تقرّر هذا البقط على النوبة في إمارة عمرو بن العاص لما بعث عبد الله بن سعد بن أبي سرح بعد فتح مصر إلى النوبة سنة عشرين وقيل: سنة إحدى وعشرين في عشرين ألفًا فمكث بها زمانًا فكتب إليه عمرو يأمره بالرجوع إليه. فلما مات عمرو رضي الله عنه نقض النوبة الصلح الذي جرى بينهم وبين عبد الله بن سعد وكثرت سراياهم إلى الصعيد فأخربوا وأفسدوا فغزاهم مرّة ثانية عبد الله بن سعد بن أبي سرح وهو على إمارة مصر في خلافة عثمان رضي الله عنه سنة إحدى وثلاثين وحصرهم بمدينة دنقلة حصارًا شديدًا ورماهم بالمنجنيق ولم تكن النوبة تعرفه وخسف بهم كنيستهم بحجر فبهرهم ذلك وطلب ملكهم واسمه: قليدوروث الصلح وخرج إلى عبد الله وأبدى ضعفًا ومسكنة وتواضعًا فتلقاه عبد الله ورفعه وقرّبه ثم قرر الصلح معه على ثلثمائة وستين رأسًا في كل سنة ووعده عبد الله بحبوب يهديها إليه لما شكا له قلة الطعام ببلده وكتب لهم كتابًا نسخته بعد البسملة. عهد من الأمير عبد الله بن سعد بن أبي سرح لعظيم النوبة ولجميع أهل مملكته عهد عقده على الكبير والصغير من النوبة من حدّ أرض أسوان إلى حدّ أرض علوة أنّ عبد الله ابن سعد جعل لهم أمانًا وهدنةً جارية بينهم وبين المسلمين ممن جاورهم من أهل صعيد مصر وغيرهم من المسلمين وأهل الذمّة إنكم معاشر النوبة آمنون بأمان الله وأمان رسوله محمد النبيّ صلى الله عليه وسلم أن لا نحاربكم ولا ننصب لكم حربًا ولا نغزوكم ما أقمتم على الشرائط التي بيننا وبينكم على أن تدخلوا بلدنا مجتازين غير مقيمين فيه وندخل بلدكم مجتازين غير مقيمين فيه وعليكم حفظ من نزل بلدكم أو يطرقه من مسلم أو معاهد حتى يخرج عنكما وإنّ عليكم ردّ كل آبق خرج إليكم من عبيد المسلمين حتى تردّوه إلى أرض الإسلام ولا تستولوا عليه ولا تمنعوا منه ولا تتعرّضوا لمسلم قصده وحاوره إلى أن ينصرف عنه وعليكم حفظ المسجد الذي ابتناه المسلمون بفناء مدينتكم ولا تمنعوا منه مُصليًا وعليكم كنسه وإسراجه وتكرمته وعليكم في كل سنة ثلثمائة وستون رأسًا تدفعونها إلى إمام المسلمين من أوسط رقيق بلادكم غير المعيب يكون فيها ذكران وإناث ليس فيها شيخ هرم ولا عجوز ولا طفل لم يبلغ الحلم تدفعون ذلك إلى والي أسوان وليس على مسلم دفع عدوّ عرض لكم ولا منعه عنكم من حدّ أرض علوة إلى أرض أسوان فإن أنتم آويتم عبد المسلم أو قتلتم مسلمًا أو معاهدًا أو تعرّضتم للمسجد الذي ابتناه المسلمون بفناء مدينتكم بهدم أو منعتم شيئًا من الثلثمائة رأس والستين رأسًا فقد برئت منكم هذه الهدنة والأمان وعدنا نحن وأنتم على سواء حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين علينا بذلك عهد الله وميثاقه وذمّته وذمّة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ولنا عليكم بذلك أعظم ما تدينون به من ذمّة المسيح وذمّة الحواريين وذمّة من تعظمونه من أهل دينكم وملتكم الله الشاهد بيننا وبينكم على ذلك. كتبه عمرو بن شرحبيل في رمضان سنة إحدى وثلاثين. وكانت النوبة دفعت إلى عمرو بن العاص ما صولحوا عليه من البقط قبل نكثهم وأهدوا إلى عمرو أربعين رأسًا من الرقيق فلم يقبلها وردّ الهدية إلى كبير البقط ويقال له: سمقوس فاشترى له بذلك جهازًا وخمرًا ووجهه إليه وبعث إليهم عبد الله بن سعد ما وعدهم به من الحبوب قمحًا وشعيرًا وعدسًا وثيابًا وخيلًا ثم تطاول الرسم على ذلك فصار رسمًا يأخذونه عند دفع البقط في كل سنة وصارت الأربعون رأسًا التي أهديت إلى عمرو يأخذها والي مصر. وعن أبي خليفة حميد بن هشام البحتريّ أن الذي صولح عليه النوبة ثلثمائة وستون رأسًا لفيء المسلمين ولصاحب مصر أربعون رأسًا ويدفع إليهم ألف أردب قمحًا ولرسله ثلثمائة أردب ومن الشعير كذلك ومن الخمر ألف اقتيز للمتملك ولرسله ثلثمائة اقتيز وفرسين من نتاج خيل الإمارة ومن أصناف الثياب مائة ثوب ومن القباطيّ أربعة أثواب للمتملك ولرسله ثلاثة ومن البقطرية ثمانية أثواب ومن المعلمة خمسة أثواب وجبة مجملة للملك ومن قمص أبي بقطر عشرة أثواب ومن أحاص عشرة أثواب وهي ثياب غلاظ. قال أبو خليفة: ليس في كتاب عبد الله بن وهب ولا في كتاب الواقديّ تسمية ينتهي إليها وإنما أخذت التسمية من أبي زكريا قال أبو زكريا: سمعت والدي عمرو بن صالح يقول هذا الخبر فحفظت منه ما وقفت عليه وقال: حضرت مجلس الأمير عبد الله بن طاهر وهو على مصر فقال: أنت عثمان بن صالح الذي وجهنا إليك في كتاب بقط النوبة قلت: نعم فأقبل علي محفوظ بن سليمان فقال: ما أعجب أمر هذه البلدة وجهنا إليهم نطلب عِلْمًا من علومهم وإلى هذا الشيخ فما شقانا أحد منهم فقلت: أصلح الله الأمير إنّ الذي طلبت من خبر النوبة عندي قد حفظه شيوخ عن الشيوخ الذين حضروا هناك والهدنة والصلح الذي جرى بين عبد الله بن سعد وبين النوبة ثم حدّثته عن أخبارهم كما سمعت فأنكر عطية الخمر فقلت: قد أنكرها عبد العزيز بن مروان وكان هذا المجلس بفسطاط مصر سنة إحدى عشرة ومائتين بعد أن تم الصلح بينه وبين عبد الله بن السريّ بن الحكم التميميّ الأمير كان قبله قال عثمان بن صالح فوجه الأمير إلى الديوان بظهر المسجد الجامع بمصر فاستخرج منه خبر النوبة فوجده كما ذكرت فسرّه ذلك. وعن مالك بن أنس: أنه كان يرى أنّ أرض النوبة إلى حدّ علوة صلح وكان لا يجيز شراء رقيقهم وكان أصحابه مثل عبد الله بن عبد الحكم وعبد الله بن وهب والليث بن سعد ويزيد بن أبي حبيب وغيرهم من فقهاء مصر يرون خلاف ذلك. قال الليث بن سعد: نحن أعرف بأرض النوبة من الإمام مالك بن أنس إنما صولحوا على أن لا تغزوهم ولا تمنع منهم عدوًّا فما استرقه متملكهم أو غزا بعضهم بعضًا فشراؤه جائز وما استرقه بغاة المسلمين وسرّاقهم فغير جائز وكان عند جماعة منهم جوارٍ نوبيات لفرشهم ولم يزل النوبة يؤدّون البقط في كل سنة ويدفع إليهم ما تقدّم ذكره إلى أيام أمير المؤمنين المعتصم بالله أبي إسحاق بن الرشيد وكبير النوبة يومئذٍ زكرياء بن بحنس وكانت النوبة ربما عجزت عن دفع البقط فشنت الغارة عليهم ولاة المسلمين القريبون من بلادهم ويمنع من إخراج الجهاز إليهم فأنكر فيَرْقي ولد كبيرهم زكرياء على أبيه بذله الطاعة لغيره واستعجزه فيما يدفع فقال له أبوه فما تشاء قال: عصيانهم ومحاربتهم قال أبوه: هذا شيء رآه السلف من آبائنا صوابًا وأخشى أن يفضي هذا الأمر إليك فتقدم على محاربة المسلمين غير أني أوجهك إلى ملكهم رسولًا فأنت ترى حالنا وحالهم فإن رأيت لنا بهم طاقة حاربناهم على خبرة وإلا سألته الإحسان إلينا فشخص فيرقى إلى بغداد وكانت البلدان تزين له ويسير على المدن وانحدر بانحداره رئيس البجة بأسبابه ولقيا المعتصم فنظرا إلى ما بهرهما من حال العراق في كثرة الجيوش وعظم العمارة مع ما شاهداه في طريقهما فقرّب المعتصم فيرقي وأدناه وأحسن إليه إحسانًا تامًّا وقبل هديته وكافأه بأضعافها وقال له: تمنّ ما شئت فسأله في إطلاق المحبوسين فأجابه إلى ذلك وكبر في عين المعتصم ووهب له الدار التي نزلها بالعراق وأمر أن يشتري له في كل منزل من طريقه دار تكون لرسلهم فإنه امتنع من دخول دارٍ لأحد في طريقه فأخذ له بمصر: دار بالجيزة وأخرى ببني وائل وأجرى لهم في ديوان مصر سبعمائة دينار وفرسًا وسرجًا ولجامًا وسيفًا محلَّىً وثوبًا مثقلًا وعمامة من الخز وقميص شرب ورداء شرب وثيابًا لرسله غير محدودة عند وصول البقط إلى مصر ولهم حملان وخلع على المتولي القبض البقط وعليهم رسوم معلومة لقابض البقط والمتصرّفين معه وما يهدي إليهم بعد ذلك فغير محدود وهو عندهم هدية يجازون عليها ونظر المعتصم إلى ما كان يدفعه المسلمون فوجده أكثر من البقط وأنكر عطية الخمر وأجرى الحبوب والثياب التي تقدّم ذكرها ومرّر دفع البقط بعد انقضاء كل ثلاث سنين وكتب لهم كتابًا بذلك بقي في يد النوبة وادّعى النوبيّ على قوم من أهل أسوان أنهم اشتروا أملاكًا من عبيده فأمر المعتصم بالنظر في ذلك فأحضر والي البلد والمختار للحكم فيه التابعين من النوبة وسألاهم: عما ادّعاه صاحبهم من بيعهم فأنكروا ذلك وقالوا: نحن رعية فزال ما ادّعاه وطلب أشياء غير ذلك من إزالة المسلحة المعروفة بالقصر عن موضعها إلى الحدّ الذي بينهم وبين المسلمين لأنّ المسلحة على أرضهم فلم يجبه إلى ذلك ولم يزل الرسم جاريًا بدفع البقط على هذا التقرير ويدفع إليهم ما أجراه المعتصم إلى أن قدمت الدولة الفاطمية إلى مصر ذكر ذلك مؤرخ النوبة. وقال أبو الحسن المسعوديّ: والبقط هو ما يقبض من السبي في كل سنة ويحمل إلى مصر ضريبة عليهم وهو ثلثمائة رأس وخمسة وستون رأسًا لبيت المال بشرط الهدنة بين النوبة والمسلمين وللأمير بمصر غير ما ذكرنا أربعون رأسًا ولخليفته المقيم بأسوان وهو المتولي لقبض البقط عشرون رأسًا وللحاكم المقيم بأسوان الذي يحضر مع أمير أسوان قبض البقط خمسة أرؤس ولاثني عشر شاهدًا عدول من أهل أسوان يحضرون مع الحاكم لقبض البقط اثنا عشر رأسًا من السبي على حسب ما جرى به الرسم في صدر الإسلام في بدء إيقاع الهدنة بين المسلمين والنوبة. وقال البلاذري في كتاب الفتوحات: إنّ المقرّر على النوبة أربعمائة رأس يأخذون بها طعامًا أي غلة وألزمهم أمير المؤمنين المهدي محمد بن أبي جعفر المنصور ثلثمائة وستين رأسًا وزراقة. وفي سنة أربع وسبعين وستمائة كثر خبث داود متملك النوبة وأقبل إلى أن قرب من مدينة أسوان وحرق عدة سواق بعدما أفسد بعيذاب فمضى إليه والي قوص فلم يدركه وقبض على صاحب الخيل في عدّة من النوبة وحملهم إلى السلطان الملك الظاهر بيبرس البندقداري بقلعة الجبل فوسطهم وقدم سكندة ابن أخت متملك النوبة متظلمًا من خاله داود فجرّد السلطان معه الأمير شمس الدين آق سنقر الفارقاني الإستادار والأمير عز الدين إيبك الأفرم وأمير جاندار في جماعة كثيرة من العسكر ومن أجناد الولايات وعربان الوجه القبليّ والزراقين والرماة ورجال الحراريق فساروا في أوّل شعبان من القاهرة حتى وصلوا إلى أرض النوبة فخرجوا إلى لقائهم على النجب بأيديهم الحراب وعليهم دكادك سود فاقتتل الفريقان قتالًا كبيرًا انهزم فيه النوبة وأغار الأفرم على قلعة الدار وقتل وسبى وأوغل الفارقاني في أرض النوبة برًّا وبحرًا يقتل ويأسر فحاز من المواشي ما لا تعدّ ونزل بجزيرة ميكائيل برأس الجنادل ونفر المراكب من الجنادل ففرّ النوبة إلى الجزائر وكتب لقمر الدولة نائب داود متملك النوبة أمانًا فحلف لسكندة على الطاعة وأحضر رجال المريس ومن فرّ وخاض الأفرم إلى برج في الماء وحصره حتى أخذه وقتل به مائتين وأسر أخًا لداود فهرب داود والعسكر في أثره مدّة ثلاثة أيام وهم يقتلون ويأسرون حتى أذعن القوم وأسرت أم داود وأخته ولم يقدر على داود فتقرّر سكندة عوضه وقرّر على نفسه القطيعة في كل سنة ثلاث فيلة وثلاث زرافات وخمس فهود من إناثها ومائة نجيب أصهب وأربعمائة رأس من البقر المنتجة على أن تكون بلاد النوبة نصفين نصفها للسلطان ونصفها لعمارة البلاد وحفظها ما خلا بلاد الجنادل فإنها كلها للسلطان لقربها من أسوان وهي نحو الربع من بلاد النوبة وأن يحمل ما بها من التمر والقطن والحقوق الجارية بها العادة من قديم الزمان وأن يقوموا بالجزية ما بقوا على النصرانية فيدفع كل بالغ منهم في السنة دينارًا عينًا وكتب نسخة يمين بذلك حلف عليها الملك سكندة. ونسخة يمين أخرى حلفت عليها الرعية وخرّب الأميران كنائس النوبة وأخذ ما فيها وقبض على نحو عشرين أميرًا من أمراء النوبة وأفرج عمن كان بأيدي النوبة من أهل أسوان وعيذاب من المسلمين في أسرهم وألبس سكندة تاج الملك وأقعد على سرير المملكة بعدما حلف والتزم أن يحمل جميع ما لداود ولكل من قتل وأسر من مال ودواب إلى السلطان مع البقط القديم وهو أربعمائة رأس من الرقيق في كل سنة وزرافة من ذلك ما كان للخليفة ثلثمائة وستون رأسًا ولنائبه بمصر أربعون رأسًا على أن يطلق لهم إذا وصلوا بالبقط تامًا من القمح ألف أردب لمتملكهم وثلثمائة أردب لرسله. ذكر صحراء عيذاب اعلم أنّ حُجاج مصر والمغرب أقاموا زيادة على مائتي سنة لا يتوجهون إلى مكة شرّفها الله تعالى إلا من صحراء عيذاب يركبون النيل من ساحل مدينة مصر الفسطاط إلى قوص ثم يركبون الإبل من قوص ويعبرون هذه الصحراء إلى عيذاب ثم يركبون البحر في الجلاب إلى جدّة ساحل مكة وكذلك تجار الهند واليمن والحبشة يردون في البحر إلى عيذاب ثم يسلكون هذه الصحراء إلى قوص ومنها يردون مدينة مصر فكانت هذه الصحراء لا تزال عامرة آهلة بما يصدر أو يرد من قوافل التجار والحجاج حتى إن كانت أحمال البهار كالقرفة والفلفل ونحو ذلك لتوجد ملقاة بها والقفول صاعدة وهابطة لا يعترض لها أحد إلى أن يأخذها صاحبها. فلم تزل مسلكًا للحجاج في ذهابهم وإيابهم زيادة على مائتي سنة من أعوام بضع وخمسين وأربعمائة إلى أعوام بضع وستين وستمائة وذلك منذ كانت الشدّة العظمى في أيام الخليفة المستنصر بالله أبي تميم معدّ بن الظاهر وانقطاع الحج في البرّ إلى أن كسا السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري الكعبة وعمل لها مفتاحًا ثم أخرج قافلة الحاج من البرّ في سنة ست وستين وستمائة فقلّ سلوك الحجاج لهذه الصحراء واستمرّت بضائع التجار تحمل من عيذاب إلى قوص حتى بطل ذلك بعد سنة ستين وسبعمائة وتلاشى أمر قوص من حينئذٍ وهذه الصحراء مسافتها من قوص إلى عيذاب سبعة عشر يومًا ويفقد فيها الماء ثلاثة أيام متوالية وتارة يفقد أربعة أيام وعيذاب مدينة على ساحل بحر جدة وهي غير مسوّرة وأكثر بيوتها أخصاص وكانت من أعظم مراسي الدنيا بسبب أنّ مراكب الهند واليمن تحط فيها البضائع وتقلع منها مع مراكب الحجاج الصادرة والواردة فلما انقطع ورود مراكب الهند واليمن إليها صارت المرسى العظيمة عدن من بلاد اليمن إلى أن كانت أعوام بضع وعشرين وثمانمائة فصارت جدّة أعظم مراسي الدنيا وكذلك هرمز فإنها مرسى جليل وعيذاب في صحراء لا نبات فيها وكل ما يؤكل بها مجلوب إليها حتى الماء وكان لأهلها من الحجاج والتجار فوائد لا تحصى وكان لهم على كل حمل يحملونه للحجاج ضريبة مقرّرة وكانوا يكارون الحجاج الجلاب التي تحملهم في البحر إلى جدّة ومن جدّة إلى عيذاب فيجتمع لهم من ذلك مال عظيم ولم يكن في أهل عيذاب إلا من له جلبة فأكثر على قدر يساره. وفي بحر عيذاب مغاص اللؤلؤ في جزائر قريبة منها تخرج إليها الغوّاصون في وقت معين من كل سنة في الزوارق حتى يوافوه بتلك الجزائر فيقيمون هنالك أيامًا ثم يعودون بما قسم لهم من الحظ والمغاص فيها قريب القعر وعيش أهل عيذاب عيش البهائم وهم أقرب إلى الوحش في أخلافهم من الإنس وكان الحجاج: يجدون في ركوبهم الجلاب على البحر أهوالًا عظيمة لأنّ الرياح تلقيهم في الغالب بمراسي في صحارى بعيدة مما يلي الجنوب فينزل إليهم التجار من جبالهم فيكارونهم الجمال ويسلكون بهم على غير ماء فربما هلك أكثرهم عطشًا وأخذ التجار ما كان معهم ومنهم من يضلّ ويهلك عطشًا والذي يسلم منهم يدخل إلى عيذاب كأنه نشر من كفن قد استحالت هيئاتهم وتغيرت صفاتهم وأكثر هلاك الحجاج بهذه المراسي ومنهم من يساعده الريح فتحطه بمرسى عيذاب وهو الأقل وجلباتهم التي تحمل الحجاج في البحر لا يستعمل فيها مسمار البتة إنما يخيط خشبها بالقنبار وهو متخذ من شجر النارجيل ويخللونها بدسر من عيدان ابنخل ثم يسقونها بسمن أو دهن الخروع أو دهن القرش وهو حوت عظيم في البحر يبتلع الغرقى وقلاع هذه الجلاب من خوص شجر المقل. ولأهل عيذاب في الحجاج أحكام الطواغيت فإنهم يبالغون في شحن الجلبة بالناس حتى يبقى بعضهم فوق بعض حرصًا على الأجرة ولا يبالون بما يصيب الناس في البحر بل يقولون دائمًا علينا بالألواح وعلى الحجاج بالأرواح وأهل عيذاب من البجاة. ولهم ملك منهم وبها والِ من قبل سلطان مصر وأدركت قاضيها عندنا بالقاهرة أسود اللون والبجاة قوم لا دين لهم ولا عقل ورجالهم ونساؤهم أبدًا عراة وعلى عوراتهم خرق وكثير ذكر مدينة الأقصر هذه المدينة من مدائن الصعيد العظيمة يقال: إنّ أهلها المريس ومنها: الحمير المريسية. ذكر البلينا هذه وذكر الكمال الأدفويّ: أنه وقع بين أهل البلاد ووالي قوص فتوجهوا إلى القاهرة وصرفوه وولي غيره وطلع الخطيب بالبلينا صحبته وكان إقطاعه أرمنت فلما وصل إليها أضافه أهلها بستين منسفًا من طعام اللبن فقال للخطيب: في بلادكم مثل هذا. فقال الخطيب: وحلوى فلما وصل إلى أخميم تقدّم الخطيب إلى البلينا فعندما وصل الوالي إليها أخرجوا له ستين منسفًا حلوى وستين منسفًا شواء قال: وبعض الحكام بها في عيد من الأعياد امتدحه من أهلها خمسة وعشرون شاعرًا وفيها من لا يرضى بمدح القاضي وفيها من تقصر رتبته عن ذلك قال: وكان عدّة مسابك للسكر ويوصف أهلها بالمكارم. ذكر سمهود هذه المدينة بالجانب الغربيّ من النيل قال الأدفوي: كان بسمهود سبعة عشر حجرًا لاعتصار قصب السكر. ويقال: إنّ الفار لا يدخل قصبها. هذه المدينة من جملة عمل البهنسا بها كنيسة يظاهرها فيها بئر يقال لها بئر سيرس صغيرة لها عيد يعمل في اليوم الخامس والعشرين من بشنس أحد شهور القبط فيفور بها الماء عند مضي ست ساعات من النهار حتى يطفو ثم يعود إلى ما كان عليه ويستدل النصارى على زيادة النيل في كل سنة بقدر ما علا الماء من الأرض فيزعمون أنَّ الأمر في النيل وزيادته يكون موافقًا لذلك. ذكر أبويط هذه المدينة أيضًا من جملة البهنساوية كان بها منارة محكمة البناء إذا هزها الرجل تحرّكت يمينًا وشمالًا فيرى ميلها رؤية ظاهرة بانتقال ظلها عن موضعه. ذكر ملوى هذه المدينة بالجانب الغربيّ من النيل وأرضها معروفة بزراعة قصب السكر وكان بها عدة أحجار لاعتصاره وآخر من كان بها أولاد فضيل بلغت زراعتهم في أيام الناصر محمد بن قلاون ألفًا وخمسمائة فدّان من القصب في كل سنة فأوقع النشو ناظر الخاص الحوطة على موجودهم في سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة فوجد من جملة مالهم أربعة عشر ألف قنطار من القند حملها إلى دار القند بمصر سوى العسل وألزمهم بحمل ثمانية آلاف قنطار بعد ذلك وأفرج عنهم فوجدوا لهم حاصلًا لم يهتدِ له النشو فيه عشرة آلاف قنطار قند سوى مالهم من عبيد وغلال وغير ذلك. ذكر مدينة أنصِنا اعلم أن مدينة أنصنا إحدى مدائن صعيد مصر القديمة وفيها عدّة عجائب منها الملعب ويقال: إنه كان مقياس النيل وإنه من بناء دلوكة أحد من ملك مصر وكان كالطيلسان وفي دائرة عُمد على عدّة أيام السنة الشمسية كلها من الصوّان الأحمر الماتع ومسافة ما بين كل عمودين مقدار خطوة إنسان وكان ماء النيل يدخل إلى هذا الملعب من فوهة عند زيادة الماء فإذا بلغ ماء النيل الحدّ الذي كان إذ ذاك يحصل منه ريّ أرض مصر وكفايتها جلس الملك عند ذلك في مشرف له وصعد القوم من خواصه إلى رؤوس الأعمدة المذكورة فيتعادون عليها ما بين ذاهب وآت ويتساقطون من الأعمدة إلى الملعب وهو ممتلئ بالماء. قال أبو عبيد البكريّ: أنصنا بفتح أوّله وإسكان ثانيه بعده صاد مهملة مكسورة ونون وألف كورة من كور مصر معروفة منها: كانت سريّة النبيّ صلى الله عليه وسلم أمّ ابنه إبراهيم من قرية يقال لها حفن من قرى هذه الكورة ويقال: إن سحرة فرعون كانوا منها وإنه جلبهم منها يوم الموعد للقاء موسى عليه السلام. ويقال: إنّ التمساح لا يضرّ بساحل أنصنا لطلاسم وضعت بها وإنه إذا حاذى برّها انقلب على ظهره حتى يجاوزها ويقال: إنّ الذي بنى مدينة أنصنا أشمون بن مصرايم بن بيصر بن حام بن نوح وهي واقعة في شرفيّ النيل وكانت حسنة البساتين والمنتزهات كثيرة الثمار والفواكه وهي الآن خراب. وقال أبو حنيفة الدينوريّ: ولا ينبت البنج إلا بأنصنا وهو عود ينشر منه ألواح للسفن وربما أرعفت ناشرها ويباع اللوح منها بخمسين دينارًا ونحوها وإذا شدّ لوح منها بلوح وطرح في الماء ستة أيام صارا لوحًا واحدًا وكان لأنصنا سُور عتيق هدمه السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب وجعل على كل مركب منحدر في النيل جزأ من حمل صخره إلى القاهرة فنقل بأسره إليها. ذكر القيس اعلم أن القيس من البلاد التي تجاور مدينة البهنسا وكان يقال: القيس والبهنسا. قال ابن عبد الحكم: بعث عمرو بن العاص قيس بن الحارث إلى الصعيد فسار حتى أتى القيس فنزل بها فسميت به. وفال ابن يونس: قيس بن الحارث المراديّ ثم الكعبيّ شهد فتح مصر يروي عن عمر بن الخطاب وكان يفتي الناس في زمانه روى عنه سويد بن قيس وقيل: شديد بن قيس بن ثعلبة وروى عنه عسكر بن سوادة وهو الذي فتح القرية بصعيد مصر المعروفة بالقيس فنسبت إليه. وقال ابن الكنديّ: ولهم ثياب الصوف وأكسية المرعز وليس هي بالدنيا إلا بمصر وذكر بعض أهل مصر: أنّ معاوية بن أبي سفيان لما كبر كان لا يدفأ فاجتمعوا أنه لا يدفيه إلا الأكسية نُعمل بمصر من صوفها المرعز العسليّ العين المصبوغ فعمل له منها عدد فما احتاج منها إلا إلى واحد ولهم طراز القيس والبهنسا في الستور والمضارب يعرفون به ومنه طراز أهل الدنيا. وظهر بها بالقرب من البهنسا سرب في أيام السلطان الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب فأمر متولي البهنساوية بكشفه فجمع له أهل المعرفة بالعوم والغطس فكانوا ما ينيف على مائتي رجل ما فيهم إلا من نزل السرب فلم يجد له قرارًا ولا جوانب فأمر بعمل مركب طويل رقيق بحيث يمكن إدخاله من رأس السرب وشحنه بالأزراد والرجال وركب فيه حبالًا مربوطة في خوازيق عند رأس السرب وحمل مع الرجال آلات يعرفون بها أوقات الليل والنهار وعدة شموع وغيرها مما تستخرج به النار وتشعل به وأمرهم أن يسلكوا بالمركب في السرب حتى ينفد نصف ما معهم من الزاد فساروا بالمركب في ظلمة وهم يرخون الحبال ولا يجدون لما هم سائرون فيه من الماء جوانب فما زالوا حتى قلت أزوادهم فأبطلوا حركة المركب بالمجاذيف إلى داخل السرب وجرّوا الحبال ليرجعوا إلى حيث دخلوا حتى انتهوا إلى رأس السرب فكانت مدة غيبتهم في السرب ستة أيام أربعة منها دخولًا إلى جوفه وتطواف جوانبه ويومان رجوعًا إلى رأس السرب ولم يقفوا في هذه المدة على نهاية السرب فكتب بذلك الأمير علاء الدين الطنبغا والي البهنسا إلى الملك الكامل فتعجب عجبًا كثيرًا واشتغل عن ذلك بمحاربة الفرنج على دمياط فلما رحلوا عن دمياط وعادوا إلى القاهرة خرج بعد ذلك حتى شاهد السرب المذكور. اعلم أن: دروط وهي: بفتح الدال المهملة وضم الراء وسكون الواو وطاء اسم لثلاث قرى: دروط أشموم من الأشمونين ودروط سريان من الأشمونين أيضًا ودروط بلهاسة من ناحية البهنسا بالصعيد وبها جامع أنشأه زياد بن المغيرة بن زياد بن عمرو العتكيّ ومات في المحرّم سنة إحدى وتسعين ومائة فدفن به وقال فيه الشاعر: حلف الجود حلفه برّ فيها ما برا الله واحدًا كزياد كان غيثًا لمصر إذ كان حيًا وأمانًا من السنين الشداد ومات أخوه إبراهيم بن المغيرة سنة سبع وتسعين ومائة فقال الشاعر فيه: ابن المغيرة إبراهيم من ذهب يزداد حسنًا على طول الدهارير لو كان يملك ما في الأرض عجله إلى العفاة ولم يهمم بتأخير ومات أحمد بن زياد بن المغيرة في المحرّم سنة ست وثلاثين ومائتين فقال الشاعر فيه: أحمد مات ماجدًا مفقودًا ولقد كان أحمد محمودا ورث المجد عن أب ثم عمٍّ مثله ليس بعده موجودا هي من الأطفيحية تجاهها وادٍ به إلى وقتنا هذا شكل جمل من الحجر كأكبر ما يُرى من الجمال وأحسنها هيئة وهو قائم على أربعة وقد استقبل بوجهه المشرق وعلى فخذه الأيمن كتابة بقلمهم وهي أحرف مقطعة في ثلاثة أسطر ثم على نحو مائة وخمسين خطوة منه جمل آخر مثله سواء ووجهه إلى وجه الجمل الأوّل وليس عليه كتابة وفيما بين الجملين المذكورين هيئة أعدال قد مُلئت قماشًا عدّتها أربعون زكيبة موضوعة بالأرض عشرين تجاه عشرين وجميعها من حجارة ولا يشك من رآها أنها أحمال قماش وبعد مائة وخمسين خطوة منها جمل ثالث على هيئة الجملين المذكورين وهو أيضًا قائم وظهره إلى ظهر الجمل الثاني ووجهه إلى الجبل وهناك آخر الوادي وليس على هذا الجمل أيضًا كتابة أخبرني بذلك من لا اتهم روايته.
|