الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الخِطط المقريزية المسمى بـ «المواعظ والاعتبار بذكر الخِطط والآثار» **
خَرج الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: كيف أنتم إذا لم تجبوا دينارًا ولا درهمًا قالوا: وكيف نرى ذلك كائنًا يا أبا هريرة قال: إي والذي نفس أبي هريرة بيده عن قول الصادق والمصدوق قالوا: عم ذلك قال: تنتهك ذمّته وذمّة رسوله فيشدّ اللّه عز وجل قلوب أهل الذمّة فيمنعون ما في أيديهم. قال أبو عمرو محمد بن يوسف الكنديّ في كتاب أمراء مصر وأمرة الحرّ بن يوسف أمير مصر كتب عبد اللّه بن الحبحاب صاحب خراجها إلى هشام بن عبد الملك بأنّ أرض مصر تحتمل الزيادة فزاد على كل دينار قيراطًا فانتقصت كورة تنو ونمي وقربيط وطرابية وعامة الحوف الشرقيّ فبعث إليهم الحر بأهل الديوان فحاربوهم فقتل منهم بشر كثير وذلك أول انتقاض القبط بمصر وكان انتقاضهم في سنة سبع ومائة ورابط الحرّ بن يوسف بدمياط ثلاثة أشهر ثم انتقض أهل الصعيد وحارب القبط عمالهم في سنة إحدى وعشرين ومائة فبعث إليهم حنظلة بن صفوان أمير مصر أهل الديوان فقتلوا من القبط ناسًا كثيرًا وظفر بهم وخرج بَخْنَسْ رجل من القبط في سمنود فبعث إليه عبد الملك بن مروان: موسى بن نصير أمير مصر فقتل بخنس في كثير من أصحابه وذلك في سنة اثنين وثلاثين ومائة وخالفت القبط برشيد. فبعث إليهم مروان بن محمد الجعديّ لما دخل مصر فارًا من بني العباس بعثمان بن أبي قسعة فهزمهم وخرج القبط على يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة أمير مصر بناحية سخا ونابذوا العمال وأخرجوهم وذلك في سنة خمسين ومائة وصاروا إلى شبرا سنباط وانضم إليهم أهل اليشرود والأريسية والنجوم فأتى الخبر يزيد بن حاتم فعقد لنصر بن حبيب المهلبيّ على أهل الديوان ووجوه مصر فخرجوا إليهم فبتهم القبط وقتلوا من المسلمين. فألقى المسلمون النار في عسكر القبط وانصرف المسلمون إلى مصر منهزمين. وفي ولاية موسى بن عليّ بن رباح على مصر خرج القبط ببلهيب في سنة ست وخمسين ومائة فخرج إليهم عسكر فهزمهم ثم انتقضوا مع من انتقض في سنة ست عشرة ومائتين فأوقع بهم الإفشين في ناحية اليشرود حتى نزلوا على حكم أمير المؤمنين عبد الله المأمون فحكم فيهم بقتل الرجال وبيع النساء والأطفال. فبيعوا وسبى أكثرهم. ومن حينئذِ أذل الله القبط في جميع أرض مصر وخذل شوكتهم فلم يقدر أحد منهم على الخروج ولا القيام على السلطان وغلب المسلمون على القرى فعاد القبط من بعد ذلك إلى كيد الإسلام وأهله بإعمال الحيلة واستعمال المكر وتمكنوا من النكاية بوضع أيديهم في كتاب الخراج وكان للمسلمين فيهم وقائع يأتي خبرها في موضعه من هذا الكتاب إن شاء اللّه تعالى. ذكر نزول العرب بريف مصر واتخاذهم الزرع معاشًا وما كان في نزولهم من الأحداث قال الكندي: وفي ولاية الوليد بن رفاعة الفهميّ على مصر نقلت قيس إلى مصر في سنة تسع ومائة ولم يكن بها أحد منهم قبل ذلك إلا ما كان من فهم وعدوان فوفد ابن الحبحاب على هشام بن عبد الملك فسأله أن ينقل إلى مصر منهم أبياتًا فأذن له هشام في لحاق ثلاثة آلاف منهم وتحويل ديوانهم إلى مصر على أن لا ينزلهم بالفسطاط فعرض لهم ابن الحبحاب وقدم بهم فأنزلهم الحوف الشرقيّ وفرّقهم فيه. ويقال: إن عبيد الله بن الحبحاب لما ولاه هشام بن عبد الملك مصر قال: ما أرى لقيس فيها حظًا إلا لناس من جديلة وهم فهم وعدوان. فكتب إلى هشام: إنّ أمير المؤمنين أطال اللّه بقاءه قد شرّف هذا الحيّ من قيس ونعشهم ورفع من ذكرهم وإني قدمت مصر ولم أر لهم حظًا إلا أبياتًا من فهم وفيها كُوَر ليس فيها أحد وليس يضر بأهلها نزولهم معهم ولا يكسر ذلك فكتب إليه هشام: أنت وذاك فبعث إلى البادية فقدم عليه مائة أهل بيت من بني نضر ومائة أهل بيت من بني سليم فأنزلهم بلبيس وأمرهم بالزرع ونظر إلى الصدقة من العشور فصرفها إليهم فاشتروا إبلًا فكانوا يحملون الطعام إلى القلزم وكان الرجل يصيب في الشهر العشرة دنانير وأكثر ثم أمرهم باشتراء الخيول فجعل الرجل يشتري المهر فلا يمكث إلا شهرًا حتى يركب وليس عليهم مؤونة في علف إبلهم ولا خيلهم لجودة مرعاهم. فلما بلغ ذلك عامة قومهم تحملوا إليهم فوصل إليهم خمسمائة أهل بيت من البادية فكانوا على مثل ذلك فأقاموا سنة فأتاهم نحو من خمسمائة أهل بيت فصار ببلبيس: ألف وخمسمائة أهل بيت من قيس حتى إذا كان زمن مروان بن محمد وولى الحوثرة بن سهيل الباهلي مصر. مالت إليه قيس فمات مروان وبها ثلاث آلاف أهل بيت ثم توالدوا وقدم عليهم من البادية من قدم. وفي سنة ثمان وسبعين ومائة كشف إسحاق بن سليمان بن عليّ بن عبد اللّه بن عباس أمير مصر أمر الخراج وزاد على المزارعين زيادة أجحفت بهم فخرج عليهم أهل الحوف وعسكروا فبعث إليهم الجيوش وحاربهم فقتل من الجيش جماعة فكتب إلى أمير المؤمنين: هارون الرشيد يخبره بذلك فعقد لهرثمة بن أعين في جيش عظيم وبعث به إلى مصر فنزل الحوف وتلقاه أهله بالطاعة وأذعنوا بأداء الخراج فقبل هرثمة منهم واستخرج خراجه كله ثم إن أهل الحوف خرجوا على الليث بن الفضل البيودي أمير مصر وذلك أنه بعث بمساح يمسحون عليهم أراضي زرعهم فانتقصوا من القصبة أصابع فتظلم الناس إلى الليث فلم يسمع منهم فعسكروا وساروا إلى الفسطاط فخرج إليهم الليث في أربعة آلاف من جند مصر في شعبان سنة ست وثمانين ومائة فالتقى معهم في رمضان فانهزم عنه الجند في ثاني عشره وبقي في نحو المائتين فحمل بمن معه على أهل الحوف فهزمهم حتى بلغ بهم غيفة وكان التقاؤهم على أرض جب عميرة وبعث الليث إلى الفسطاط بثمانين رأسًا من رؤوس القيسية ورجع إلى الفسطاط وعاد أهل الحوف إلى منازلهم ومنعوا الخراج. فخرج ليث إلى أمير المؤمنين هارون الرشيد في محرم سنة سبع وثمانين ومائة وسأله أن يبعث معه بالجيوش فإنه لا يقدر على استخراج الخراج من أهل الحوف إلا بجيش يبعث معه وكان محفوظ بن سليم بباب الرشيد فرفع محفوظ إلى الرضيد يضمن له خراج مصر عن آخره بلا سوط ولا عصا فولاه الخراج وصرف ليث بن الفضل عن صلاة مصر وخراجها وفي ولاية الحسين بن جميل امتنع أهل الحوف من أداء الخراج فبعث أمير المؤمنين هارون الرشيد يحيى بن معاذ في أمرهم فنزل بلبيس في شوال سنة إحدى وتسعين ومائة وصرف الحسين بن جميل عن وولى مالك بن دلهم وفرغ يحيى بن معاذ من أمر الحوف وقدم الفسطاط في جمادى الآخرة فورد عليه كتاب الرشيد يأمره بالخروج إليه فكتب إلى أهل الحوف: أن اقدموا حتى أوصي بكم مالك بن دلهم وأدخل بينكم وبينه في أمر خراجكم فدخل كل رئيس منهم من اليمانية والقيسية وقد أعدّ لهم القيود فأمر بالأبواب فأخذت ثم دعا بالحديد فقيدهم وتوجه بهم للنصف من رجب منها. وفي أمارة عيسى بن يزيد الجلوديّ على مصر ظلم صالح بن شيرزاد عامل الخراج الناس وزاد عليهم في خراجهم فانتقض أهل أسفل الأرض وعسكروا فبعث عيسى بابنه محمد في جيش لقتالهم فنزل بلبيس وحاربهم فنجا من المعركة بنفسه ولم ينج أحد من أصحابه وذلك في صفر سنة أربع عشرة ومائتين فعزل عيسى عن مصر. وولى عمير بن الوليد التميميّ فاستعدّ لحرب أهل الحوف وسار في جيوشه في ربيع الآخر فزحفوا عليه واقتتلوا فقتل من أهل الحوف جمع وانهزموا فتبعهم عمير في طائفة من أصحابه فعطف عليه كمين لأهل الحوف فقتلوه لست عشرة ليلة خلت من ربيع الآخر. فولى عيسى الجلولي ثانيًا وسار إليهم فلقيهم بمنية مطر فكانت بينهم وقعة آلت إلى أن انهزم منهم إلى الفسطاط وأحرق ما ثقل عليه من رحله وخندق على الفسطاط وذلك في رجب وقدم أبو إسحاق بن الرشيد من العراق فنزل الحوف وأرسل إلى أهله فامتنعوا من طاعته فقاتلهم في شعبان ودخل وقد ظفر بعدة من وجوههم إلى الفسطاط في شوال ثم عاد إلى العراق في المحرّم سنة خمس عشرة ومائتين بجمع من الأسارى. فلما كان في جمادى الأولى سنة ست عشرة ومائتين انتقض أسفل الأرض بأسره عرب البلاد وقبطها وأخرجوا العمال وخلعوا الطاعة لسوء سيرة عمال السلطان فيهم فكانت بينهم وبين عساكر الفسطاط حروب امتدّت إلى أن قدم الخليفة عبد اللّه أمير المؤمنين المأمون إلى مصر لعشر خلون من المحرّم سنة سبع عشرة ومائتين فسخط على عيسى بن منصور الرافقي وكان على أمارة مصر وأمر بحل لوائه وأخذه بلباس البياض عقوبة له. وقال: لم يكن هذا الحدث العظيم إلا عن فعلك وفعل عمالك حملتم الناس ما لا يطيقون وكتمتني الخبر حتى تفاقم الأمر واضطرب البلد. ثم عقد المأمون على جيش بعث به إلى الصعيد وارتحل هو إلى سخا وبعث بالأفشين إلى القبط وقد خلعوا الطاعة فأوقع بهم في ناحية البشرود وحصرهم حتى نزلوا على حكم أمير المؤمنين فحكم فيهم المأمون بقتل الرجال وبيع النساء والأطفال فسبى أكثرهم وتتبع المأمون كل من يومي إليه بخلاف فقتل ناسًا كثيرًا ورجع إلى الفسطاط في صفر ومضى إلى حلوان وعاد فارتحل لثمان عشرة خلت من صفر وكان مقامه بالفسطاط وسخا وحلوان تسعة وأربعين يومًا. وكان خراج مصر قد بلغ في أيام المأمون على حكم الإنصاف في الجباية أربعة آلاف ألف دينار ومائتي ألف دينار وسبعة وخمسين ألف دينار. ويقال: إن المأمون لما سار في قرى مصر كان يبني له بكل قرية دكة يضرب عليها سرادقة والعساكر من حوله وكان يقيم في القرية يومًا وليلة فمرّ بقرية يقال لها: طاء النمل فلم يدخلها لحقارتها فلما تجاوزها خرجت إليه عجوز تعرف بمارية القبطية صاحبة القرية وهي تصيح فظنها المأمون مستغيثة متظلمة فوقف لها وكان لا يمشي أبدًا إلا والتراجمة بين يديه من كل جنس فذكروا له إن القبطية قالت: يا أمير المؤمنين نزلت في كل ضيعة وتجاوزت ضيعتي والقبط تعيرني بذلك وأنا أسأل أمير المؤمنين أن يشرفني بحلوله في ضيعتي ليكون لي الشرف ولعقبي ولا تشمت الأعداء بي وبكت بكاءً كثيرًا. فرقّ لها المأمون وثنى عنان فرسه إليها ونزل فجاء ولدها إلى صاحب المطبخ وسأله كم تحتاج من الغنم والدجاج والفراخ والسمك والتوابل والسكر والعسل والطيب والشمع والفاكهة والعلوفة وغير ذلك مما جرت به عادته فأحضر جميع ذلك إليه بزيادة. وكان مع المأمون أخوه المعتصم وابنه العباس وأولاد أخيه الواثق والمتوكل ويحيى بن أكثم والقاضي أحمد بن داود فأحضرت لكل واحد منهم ما يخصه على انفراده ولم تكل أحدًا منهم ولا من القوّاد إلى غيره ثم أحضرت للمأمون من فاخر الطعام ولذيذه شيئًا كثيرًا حتى أنه استعظم ذلك. فلما أصبح وقد عزم على الرحيل حضرت إليه ومعها عشر وصائف مع كل وصيفة طبق. فلما عاينها المأمون من بعد. قال لمن حضر: قد جاءتكم القبطية بهدية الريف الكامخ والصحناه والصبر فلما وضعت ذلك بين يديه إذا في كل طبق كيس من ذهب فاستحسن ذلك وأمرها بإعادته. فقالت: لا واللّه لا أفعل فتأمّل الذهب فإذا به ضرب عام واحد كله فقال: هذا والله أعجب ربما يعجز بيت مالنا عن مثل ذلك. فقالت: يا أمير المؤمنين لا تكسر قلوبنا ولا تحتقر بنا فقال: إن في بعض ما صنعت لكفاية ولا نحب التثقيل عليك فردي مالك بارك الله فيك فأخذت قطعة من الأرض وقالت: يا أمير المؤمنين هذا وأشارت إلى الذهب من هذا وأشارت إلى الطينة التي تناولتها من الأرض ثم من عدلك يا أمير المؤمنين وعندي من هذا شيء كثير فأمر به فأخذ منها وأقطعها عدة ضياع وأعطاها من قريتها طاء النمل مائتي فدّان بغير خراج وانصرف متعجبًا من كبر مروءتها وسعة حالها.
|