الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الخِطط المقريزية المسمى بـ «المواعظ والاعتبار بذكر الخِطط والآثار» **
فأقول: نعم فيقولون: هو حيّ عند اللّه يرزق ويجري عليه أجر رباطه ما أقامت الدنيا وله أجر شهيد حتى يحشر على ذلك وقال الذين ينظرون في الأهوية والبلدان وترتب الأقاليم والأمصار: أنه لم تطل أعمار الناس في بلد من البلدان طولها بمربوط من كورة الإسكندرية ووادي فرغانة. وقال الحسن بن صفوان: وأما الإسكندرية وتنيس وأمثالهما فقربها من البحر وسكون الحرارة والبرد عندهم وظهور ريح الصبا فيهم مما يصلح أمرهم ويرق طباعهم ويرفع همتهم وليس يعرض لهم ما يعرض لأهل اليشمون من غلظ الطبع والحمارية وقد وصف أهل الإسكندرية بالبخل قال جلال اللين بن مكرم بن أبي الحسن بن أحمد الخزرجي ملك الحفاظ: نزيل اسكندرية ليس يقري بغير الماء أو نعت السواري ويتحف حين يكرم بالهواء ال ملاتن والإشارة للمنار وذكر البحر والأمواج فيه ووصف مراكب الروم الكبار فلا يطمع نزيلهم بخبزِ فما فيها لذاك الحرف قاري وقال أحمد بن جردادية من الفسطاط إلى ذوات الساحل أربعة وعشرون ميلًا ثم إلى مربوط ثلاثون ميلًا ثم إلى كوم شريك ثلاثون ميلًا ثم إلى كريون أربعة وعشرون ميلًا ثم إلى الإسكندرية أربعة وعشرون ميلًا وقال آخر: وطريق الإسكندرية إذا نضَّب ماء النيل يأخذ بين المدائن والضياع وذلك إذا أخذت من شطنوف إلى سبك العبيد فهو منزل فيه منية لطيفة وبينهما اثنا عشر سقسًا ومن سبك إلى مدينة منوف وهي كبيرة فيها حمامات وأسواق وبها قوم فيهم يسار ووجوه من النار وبينهما ستة عشر سقسًا ومن منوف إلى محلة صرد وفيها منبر وحمام وفنادق وسوق صالح ستة عشر سقسًا ومن محلة صرد إلى سخا وهي مدينة كبيرة ذات حمامات وأسواق وعمل واسع وإقليم جليل له عامل بعسكر وجند وبه الكتان الكثير وزيت الفجل وقموح عظيمة ستة عشر سقسًا ومن سخا إلى شبركمية وهي مدينة كبيرة بها جامع وأسواق ستة عشر سقسًا ومن شبركمية إلى مسير وهي مدينة بها جامع وأسواق ستة عشر سقسًا ومن مسير إلى سنهور وهي مدينة ذات إقليم كبير وبها حمامات وأسواق وعمل كبير ستة عشر سقسًا ومن سنهور إلى التخوم وهي إقليم وبها حمامات وفنادق وأسواق ستة عشر سقسًا ومن التخوم إلى نسترو وكانت مدينة عظيمة حسنة على بحيرة اليشمون عشرون سقسًا ومن نسترو إلى البرلس وهي مدينة كثيرة الصيد في البحيرة وبها حمامات عشر سقسات ومن البرلس إلى اخنا وهي حصن على شط بحر الملح عشر سقسات ومن اخنا إلى رشيد وهي مدينة على النيل ومنها يصب النيل في البحر من فوهة تعرف بالأشتوم وهي المدخل ثلاثون سقسًا وكان بها أسواق صالحة وحمام وبها نخيل وضريبة على ما يحمل من الإسكندرية. وهذا الطريق الآخذ من شطنوف إلى رشيد ربما امتنع سلوكه عند زيادة النيل والثياب المنسوجة بالإسكندرية لا نظير لها وتحمل إلى أقطار الأرض وفي ثياب الإسكندرية ما يباع الكتان منه إذا عمل ثيابًا يقال لها الشرب كل زنة درهم بدرهم فضة وما يدخل في الطرز فيباع بنظير وزنه مرّات عديدة. وذكر سيف بن عمر: أنّ عمرو بن العاص بعث إلى الإسكندرية وهو على عين شمس عوف بن مالك فنزل عليها وبعث يقول لأهلها: إن شئتم أن نزلوا فلكم الأمان فقالوا: نعم فراسلهم وتربصوا أهل عين شمس وسار المسلمون من بين ذلك. وقال ابن عبد الحكم: ويقال: إنّ المقوقس إنما صالح عمرو بن العاص لما فتح الإسكندرية حاصر أهلها ثلاثة أشهر وألحّ عليهم فخافوه وسأله المقوقس الصلح عنهم كما صالحه على القبط على أن يستنظر رأي الملك فحدّثنا يزيد بن أبي حبيب: أنّ المقوقس الرومي الذي كان ملكًا على مصر صالح عمرو بن العاص على أن يسير من أراد من الروم المسير ويقرّ من أراد من الروم على أمر قد سماه فبلغ ذلك هرقل ملك الروم فسخط أشد السخط وأنكر أشدّ الإنكار وبعث الجيوش فأغلقوا أبواب الإسكندرية وآذنوا عمرًا بالحرب فخرج إليه المقوقس فقال: أسألك ثلاثًا قال: ما هنّ. قال: لا تبذل للروم ما بذلت لي فإني قد نصحت لهم فاستغشوني. ولا تنقض القبط فإنّ النقض لم يأت من قبلهم وأن تأمر بي إذا متُّ فادفني في بخنس فقال عمرو: هذه أهونهنّ علينا قال: فخرج عمرو بالمسلمين حين أمكنهم الخروج وخرج معه جماعة من رؤساء القبط وقد أصلحوا لهم الطرق وأقاموا لهم الجسور والأسواق وصارت لهم القبط أعوانًا على ما أرادوا من قتال الروم وسمعت بذلك الروم فاستعدّت واستجاشت وقدمت عليهم مراكب من أرض الروم فيها جمع عظيم من الروم بالعدّة والسلاح فخرج إليهم عمرو من الفسطاط متوجهًا إلى الإسكندرية فلم ير منهم أحدًا حتى بلغ مربوط فلقي فيها طائفة من الروم فقاتلهم قتالًا خفيفًا فهزمهم الله ومضى عمرو بمن معه حتى لقي جمع الروم بكوم شريك فاقتتلوا ثلاثة أيام ثم فتح اللّه على المسلمين وولي الروم أكتافهم. ويقال: بل أرسل عمرو بن العاص شريك بن سميّ في آثارهم فأدركهم عند الكوم الذي يقال له: كوم شريك فهزمهم وكان على مقدّمة عمرو وعمرو بمربوط فألجأوه إلى الكوم فاعتصم به وأحاطت به الروم فلما رأى ذلك شريك بن سميّ أمر أبا ناعمة مالك بن ناعمة الصدفيّ وهو صاحب الفرس الأشقر الذي يقال له: أشقر صدف وكان لا يجاري سرعة فانحط عليهم من الكوم وطلبته الروم فلم تدركه حتى أتى عمرًا فأخبره فأقبل عمرو متوجهًا وسمعت به الروم فانصرفت ثم التقوا بسلطيس فاقتتلوا قتالًا شديدًا ثم هزمهم اللّه تعالى ثم التقوا بالكريون فاقتتلوا بها بضعة عشر يومًا وكان عبد اللّه بن عمرو على المقدّمة وحامل اللواء يومئذٍ وردان مولى عمرو فأصابت عبد الله بن عمرو جراحات كثيرة فقال: يا وردان لو تقهقرت قليلًا نصيب الروم فقال وردان: الروم تريد الروح أمامك وليس خلفك فتقدّم عبد اللّه فجاءه رسول أبيه يسأله عن جراحه فقال: أقول لها إذا جشأت وجاشت رويدك تحملي أو تستريحي وهذا البيت لعمرو بن الإطنابة وهو أنّ رجلًا من بني النجار كان مجاورًا لمعاذ بن النعمان فقتل فقال معاذ: لا أقتل به إلا عمرو بن الإطنابة وهو يومئذٍ أشرف الخزرج فقال عمرو: ألا من مبلغ الأكفاء عني وقد تهدي النصيحة للنصيح بأنكم وما تزجون شطري من القول المرغي والصريح سيقدم بعضكم عجلًا عليه وما أثر اللسان إلى الجروح أبت لي عفتي وأبى بلائي وأخذي الحمد بالثمن الربيح وإعطائي على المكروه مالي وإقدامي على البطل المشيح وقولي كلما جشأت وجاشت مكانك تحملي أو تستريحي بذي شطب كلون الملح صاف ونفسي لم تقر على القبيح الشطب: سعف النخل الأخضر الواحدة شطبة وجشأت: ارتفعت من حزن أو فزع وجاشت: دارت للغثيان وقيل: هما بمعنى ارتفع والمشيح: البارد المنكمش. فرجع الرسول إلى عمرو فأخبره بما قال فقال عمرو: هو ابني حقًا وصلى عمرو يومئذٍ صلاة الخوف ثم فتح اللّه للمسلمين وقتل منهم المسلمون مقتلة عظيمة واتبعوهم حتى بلغوا الإسكندرية فتحصن بها الروم وكان عليها حصون متينة لا ترام حصن دون حصن فنزل المسلمون ومعهم رؤساء القبط يمدّونهم بما احتاجوا إليه من الأطعمة والعلوفة فأقاموا شهرين ثم تحوّل فخرجت عليه خيل من ناحية البحيرة مستترة بالحصن فواقعوه فقتل يومئذٍ من المسلمين اثنا عشر رجلًا ورسل ملك الروم تختلف إلى الإسكندرية في المراكب بمادة الروم. وكان ملك الروم يقول: لئن ظهرت العرب على الإسكندرية ففي ذلك انقطاع الروم وهلاكهم لأنه ليس للروم كنائس أعظم من كنائس الإسكندرية وإنما كان عيد الروم حين غلبت العرب على الشام بالإسكندرية فقال الملك: لئن غلبونا على الإسكندرية هلكت الروم وانقطع ملكها فأمر بجهازه ومصلحته لخروجه إلى الإسكندرية حتى يباشر قتالها بنفسه فلما فرغ من جهازه صرعه اللّه عز وجل فأماته وكفى المسلمين مؤنته وكان موته في سنة تسع عشرة فكسر اللّه وقال الليث: مات هرقل في سنة عشرين وفيها فتحت قيسارية الشام. قال: واستأسدت العرب عند ذلك وألحت بالقتال على أهل الإسكندرية فقاتلوهم قتالًا شديدًا وخرج طرف من الروم من باب حصن الإسكندرية فحملوا على الناس فقتلوا رجلًا من مهرة واحتزوا رأسه ومضوا به فجعل المهريون يتغضبون ويقولون: لا ندفنه إلا برأسه فقال عمرو: تتغضبون كأنكم تتغضبون على من يبالي بغضبكم احملوا على القوم إذا خرجوا فاقتلوا منهم رجلًا ثم ارموا برأسه يرمونكم برأس صاحبكم فخرجت الروم إليهم فاقتتلوا فقتل من الروم رجل من بطارقتهم فاحتزوا رأسه ورموا به الروم فرمت الروم برأس المهري إليهم فقال: دونكم الآن فادفنوا صاحبكم. وكان عمرو يقول: ثلاث قبائل من مصر أما مهرة فقوم يقتلون ولا يقتلون وأما عافق فقوم يقتلون ولا يقتلون وأما بلى فأكثرها رجلًا صحب النبيّ صلى الله عليه وسلم وأفضلها فارسًا. وقال رجل لعمرو: لو جعلت المنجنيق ورميتهم به لهدم حائطهم فقال عمرو: تستطيع أن يفنى مقامك من الصف وقيل له: إنّ العدوّ قد غشوك ونحن نخاف على رايطة يريدون امرأته فقال: إذًا يتخذوا أرياطًا كثيرة. ولما استجرّ القتال بارز رجل من الروم مسلمة بن مخلد فصرعه الروميّ وألقاه عن فرسه وهوى إليه ليقتله حتى حماه رجل من أصحابه وكان مسلمة لا يقاوم ولكنها مقادير ففرحت بذلك الروم وشق على المسلمين وغضب عمرو بن العاص لذلك وكان مسلمة كثير اللحم ثقيل البدن فقال عمرو عند ذلك: ما بال الرجل السته الذي يشبه النساء يتعرّض مداخل الرجال ويتشبه بهم فغضب من ذلك مسلمة ولم يراجعه ثم اشتدَّ القتال حتى اقتحموا حصن الإسكندرية فقاتلهم العرب في الحصن ثم جاشت عليهم الروم حتى أخرجوهم جميعًا من الحصن إلا أربعة نفر تفرّقوا في الحصن وأغلقوا عليهم باب الحصن أحدهم: عمرو بن العاص والآخر مسلمة ولم نحفظ الآخرين وحالوا بينهم وبين أصحابهم ولا يدري الروم من هم فلما رأى ذلك عمرو بن العاص وأصحابه التجأوا إلى ديماس من حماماتهم فدخلوا فيه فاحترزوا به فأمروا روميًا أن يكلمهم بالعربية فقال لهم: إنكم قد صرتم بأيدينا أسارى فاستأسروا ولا تقتلوا أنفسكم فامتنعوا عليه ثم قال لهم: إن في أيدي أصحابكم منا رجالًا أسروهم ونحن نعطيكم العهود نفادي بكم أصحابنا ولا نقتلكم فأبوا عليه فلما رأى ذلك الروميّ منهم قال لهم: هل لكم إلى خصلة وهي نصف فإن غلب صاحبنا صاحبكم استأسرتم لنا وأمكنتمونا من أنفسكم وإن غلب صاحبكم صاحبنا خلينا سبيلكم إلى أصحابكم فرضوا بذلك وتعاهدوا عليه وعمرو ومسلمة وصاحباهما في الحصن في الديماس فتداعوا إلى البراز فبرز رجل من الروم وقد وثقت الروم بنجدته وشدّته وقالوا: يبرز رجل منكم لصاحبنا فأراد عمرو أن يبرز فمنعه مسلمة وقال: ما هذا تخطئ مرّتين تشذ من أصحابك وأنت أمير وإنما قوامهم بك وقلوبهم معلقة نحوك لا يدرون ما أمرك ولا ترضى حتى تبارز وتتعرّض للقتل فإن قتلت كان ذلك بلاء على أصحابك مكانك وأنا أكفيك إن شاء الله تعالى فقال عمرو: دونك فربما فرّجها الله بك فبرز مسلمة للرومي فتجاولا ساعة ثم أعانه الله عليه فقتله. فكرّ مسلمة وأصحابه ووفى لهم الروم بما عاهدوهم عليه ففتحوا لهم باب الحصن فخرجوا ولا يدري الروم أن أمير القوم فيهم حتى بلغهم بعد ذلك فأسفوا على ذلك وأكلوا أيديهم تغيظًا على ما فاتهم فلما خرجوا استحيى عمرو مما كان قال لمسلمة حين غضب فقال عمرو عند ذلك: استغفر لي ما كنت قلت لك فاستغفر له وقال عمرو: ما أفحشت قط إلا ثلاث مرار: مرّتين في الجاهلية وهذه الثالثة وما منهنّ مرّة إلا وقد ندمت وما استحييت من واحدة منهنّ أشدّ مما استحييت مما قلت لك ووالله إني لأرجو أن لا أعود إلى الرابعة ما بقيت قال: وأقام عمرو محاصر الإسكندرية أشهرًا فلما بلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ما أبطأوا بالفتح إلا لما أحدثوا وكتب إلى عمرو بن العاص: أمّا بعد فقد عجبت لإبطائكم عن فتح مصر إنكم تقاتلونهم منذ سنين وما ذاك إلا لما أحدثتم وأحببتم من الدنيا ما أحب عدوّكم فإن الله تبارك وتعالى لا ينصر قومًا إلا بصدى ليالهم وقد كنت وجهت إليك أربعة نفر وأعلمتك أن الرجل منهم مقاوم ألف رجل على ما كنت أعرف إلا أن يكونوا غيَّرهم ما غيَّر غيرهم فإذا أتاك كتابي هذا فاخطب الناس وحضهم على قتال عدوّهم ورغبهم في الصبر والنية وقدّم أولئك الأربعة في صدور الناس ومر الناس جميعًا أن يكونوا لهم صدمة واحدة كصدمة رجل واحد وليكن ذلك عند الزوال يوم الجمعة فإنها ساعة تنزل الرحمة ووقت الإجابة وليعجّ الناس إلى الله ويسألوه النصر على عدوّهم فلما أتى عمرو بن العاص رضي الله عنه الكتاب جمع الناس وقرأ عليهم كتاب عمر رضي اللّه عنه ثم دعا أولئك النفر فقدّمهم أمام الناس وأمر الناس أن يتطهروا ويصلوا ركعتين ثم يرغبوا إلى الله تعالى ويسألوه النصر ففعلوا ففتح اللّه عليهم. ويقال: إنّ عمرو بن العاص استشار مسلمة فقال: أشر عليّ في قتال هؤلاء فقال له مسلمة: أرى أن تنظر إلى رجل له معرفة وتجارب من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فتعقد له على الناس فيكون هو الذي يباشر القتال ويكفيكه فقال عمرو: من ذلك قال: عبادة بن الصامت فدعاه عمرو فأتاه وهو راكب على فرسه فلما دنا منه أراد النزول فقال له عمرو: عزمت عليك إن نزلت ناولني سنان رمحك فناوله إياه فنزع عمرو عمامته عن رأسه وعقد له وولاه قتال الروم فتقدّم عبادة مكانه فصادف الروم وقاتلهم ففتح الله على يديه الإسكندرية من يومهم ذلك. وكان حصار الإسكندرية بعد موت هرقل تسعة أشهر وخمسة أشهر قبل ذلك وفتحت يوم الجمعة لمستهل المحرّم سنة إحدى وعشرين وقال أبو عمرو الكندي: وحاصر عمرو الإسكندرية ثلاثة أشهر ثم فتحها عنوة وهو الفتح الأوّل ويقال: بل فتحها عمرو لمستهل المحرّم سنة إحدى وعشرين. قال القضاعيّ عن الليث: أقام عمرو بالإسكندرية في حصارها وفتحها ستة أشهر ثم انتقل إلى الفسطاط فاتخذها دارًا في ذي القعدة. وقال ابن عبد الحكم: فلما هزم اللّه تعالى الروم وفتح الإسكندرية هرب الروم في البرّ والبحر فخلف عمرو بالإسكندرية ألف رجل من أصحابه ومضى ومن معه في طلب من هرب من الروم في البرّ فرجع من كان هرب من الروم في البحر إلى الإسكندرية فقتلوا من كان فيها من المسلمين إلا من هرب منهم وبلغ ذلك عمرًا فكرّ راجعًا ففتحها وأقام بها وكتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه: قد فتح علينا الإسكندرية بغير عقد ولا عهد فكتب إليه عمرو رضي الله عنه يقبح رأيه ويأمره أن لا يجاوزها. قال ابن لهيعة: وهو فتح الإسكندرية الثاني وكان سبب فتحها هذا: أن رجلًا يقال له: ابن بسامة كان بوّابًا فسأل عمرًا أن يؤمّنه على نفسه وأرضه وأهل بيته ويفتح له الباب فأجابه عمرو إلى ذلك ففتح له ابن بسامة الباب فدخل عمرو وقتل من المسلمين من حين كان من آمر الإسكندرية ما كان إلى أن فتحت اثنان وعشرون رجلًا وبعث عمرو بن العاص معاوية بن خديج وافدًا إلى عمر بن الخطاب بشيرًا له بالفتح فقال له معاوية: ألا تكتب معي فقال له عمرو: وما أصنع بالكتاب ألست رجلًا عربيًا تبلغ الرسالة وما رأيت وحضرت. فلما قدم على عمر أخبره بفتح الإسكندرية فخرّ عمر ساجدًا وقال: الحمد لله وقال معاوية بن خديج: بعثني عمرو بن العاص إلى عمر رضي الله عنه بفتح الإسكندرية فقدمت المدينة في الظهيرة فأنخت راحلتي بباب المسجد ثم دخلت المسجد فبينا أنا قاعد فيه إذ خرجت جارية من منزل عمر بن الخطاب رضي الله عنه فرأتني شاحبًا عليَّ ثياب السفر فأتتني وقالت: من أنت فقلت: أنا معاوية بن خديج رسول عمرو بن العاص فانصرفت عني ثم أقبلت تشد أسمع حفيف إزارها على ساقها حتى دنت مني ثم قالت: قم فأجب أمير المؤمنين يدعوك فتبعتها فلما دخلت فإذا بعمر يتناول رداءه بإحدى يديه ويشدّ إزاره بالأخرى فقال: ما عندك فقلت: خير يا أمير المؤمنين فتح اللّه الإسكندرية فخرج معي إلى المسجد فقال للمؤذن: أذن في الناس: الصلاة جامعة فاجتمع الناس ثم قال لي: قم فأخبر أصحابك فقمت فأخبرتهم ثم صلى ودخل منزله واستقبل القبلة فدعا بدعوات ثم جلس فقال: يا جارية هل من طعام. فأتت بخبز وزيت فقال: كل فأكلت حياءً ثم قال: كل فإن المسافر يحب الطعام فلو كنت آكلًا لأكلت معك فأصبت على حياء ثم قال: يا جارية هل من تمر فأتت بتمر في طبق فقال: كل فأكلت على حياء ثم قال: ماذا قلت يا معاوية حين أتيت المسجد قال: قلت: أمير المؤمنين قائل قال: بئس ما قلت أو بئس ما ظننت لئن نمت النهار لأضيعنّ الرعية ولئن نمت الليل لأضيعنّ نفسي فكيف بالنوم مع هذين يا معاوية. ثم كتب عمرو بن العاص بعد ذلك إلى عمر بن الخطاب: أمّا بعد! فإني فتحت مدينة لا أصف ما فيها غير أني أصبت فيها أربعة آلاف بنية بأربعة آلاف حمام وأربعين ألف يهودي عليهم الجزية وأربعمائة ملهى للملوك. وعن أبي قبيل: أنّ عمرًا لما فتح الإسكندرية وجد فيها: اثني عشر ألف بقال يبيعون البقل الأخضر وترحل من الإسكندرية في الليلة التي دخلها عمرو وفي الليلة التي خافوا فيها دخول عمرو سبعون ألف يهوديّ. وكان بالإسكندرية فيما أحصي من الحمامات: اثنا عشر ألف ديماس أصغر ديماس منها يسع ألف مجلس كل مجلس يسع جماعة نفر وكان عدة من بالإسكندرية من الروم مائتي ألف رجل فلحق بأرض الروم أهل القوّة وركبوا السفن وكاد بها مائه مرحب من المراكب الكبار فحمل فيها ثلاثون ألفًا مع ما قدروا عليه من المال والمتاع والأهل وبقي من بقي من الأسارى من بلغ الخراج فأحصي يومئذ ستمائة ألف سوى النساء والصبيان فاختلف الناس على عمرو في قسمها فكان أكثر الناس يريدون قسمها فقال عمرو: لا أقدر على قسمها حتى كتب إلى أمير المؤمنين فكتب إليه يعلمه بفتحها وشأنها ويعلمه أن المسلمين طلبوا قسمها فكتب إليه عمر: لا تقسمها وفرها يكون خراجها فيئًا للمسلمين وقوّة لهم على جهاد عدوّهم فأقرّها عمرو وأحصى أهلها وفرض عليهم الخراج فكانت مصر صلحًا كلها بفريضة دينارين على كل رجل لا يزاد على أحد منهم في جزية رأسه أكثر من دينارين إلا أنه يلزم بقدر ما يتوسع فيه من الأرض والزرع إلا الإسكندرية فإنهم كانوا يؤدّون الخراج والجزية على قدر ما يرى من وليهم لأنّ الإسكندرية فتحت عنوة بغير عهد ولا عقد ولم يكن لهم صلح ولا ذمّة. وقد كانت قرى من قرى مصر قاتلت فسبوا منها قرية يقال لها: بلهيب وقرية يقال لها: الخيس وقرية يقال لها: سلطيس فوقع سباياهم بالمدينة وغيرها فردّهم عمر بن الخطاب إلى قراهم وصيرهم وجماعة القبط أهل ذمة.وعن يزيد بن أبي حبيب: أنّ عمرًا سبى أهل بلهيب وسلطيس وقرطيا وسخا فتفرّقوا وبلغ أوّلهم المدينة حين نقضوا ثم كتب عمر بن الخطاب إلى عمرو بردّهم فردّ من وج منهم وفي رواية: إنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب في أهل سلطيس خاصة من كان منهم في أيديكم فخيروه بين الإسلام فإن أسلم فهو من المسلمين له مالهم وعليه ما عليهم وإن اختار دينه فخلوا بينه وبين قريته فكان البلهيبي خُير يومئذٍ فاختار الإسلام. وفي رواية: إنّ أهل سلطيس وصا وبلهيب ظاهروا الروم على المسلمين في جمع كان لهم فلما ظهر عليهم المسلمون استحلوهم وقالوا: هؤلاء لنا فيء مع الإسكندرية فكتب عمرو إلى عمر بن الخطاب بذلك فكتب إليه عمر: أن تجعل الإسكندرية وهؤلاء الثلاث قريات ذمّة للمسلمين وتضرب عليهم الخراج ويكون خراجهم وما صالح عليه القبط قوّة للمسلمين على عدوّهم ولا يجعلون فيئًا ولا عبيدًا ففعل ذلك. ويقال: إنما ردّهم عمر رضي الله عنه لعهد كان تقدّم لهم. وقال ابن لهيعة: جبى عمرو جزية الإسكندرية ستمائة ألف دينار لأنه وجد ثلثمائة ألف من أهل الذمّة فقدّر عليهم دينارين دينارين فبلغت ذلك وقيل: كانت جزية الإسكندرية ثمانية عشر ألف دينار فلما كانت خلافة هشام بن عبد الملك بلغت ستة وثلاثين ألف دينار ويقال: إنّ عمرو بن العاص استبقى أهل الإسكندرية فلم يقتل ولم يسب بل جعلهم ذمّة كأهل النوبة. ذكر ما كان من فعل المسلمين بالإسكندرية وانتقاض الروم قال ابن عبد الحكم: فأمّا الإسكندرية فلم يكن بها خطط وإنما كانت أخائذ من أخذ منزلًا نزل فيه هو وبنو أبيه وإنّ عمرو بن العاص لما فتح الإسكندرية أقبل هو وعبادة بن الصامت حتى علوا الكوم الذي فيه مسجد عمرو بن العاص فقال معاوية بن خديج: ننزل فنزل عمرو القصر ونزل أبو ذر منزلًا كان غربيّ المصلى الذي عند مسجد عمرو مما يلي البحر وقد انهدم ونزل معاوية بن خديج فوق التل وضرب عبادة بن الصامت خباءه فلم يزل فيه حتى خرج من الإسكندرية. ويقال: إنّ أبا الدوداء كان معه والله أعلم. قال: فلما استقامت لهم البلاد قطع عمرو بن العاص من أصحابه لرباط الإسكندرية ربع الناس وربعًا في السواحل والنصف مقيمون معه وكان يصير بالإسكندرية خاصة الربع في الصيف بقدر ستة أشهر ويعقب بعدهم شاتية ستة أشهر وكان لكل عريف قصر ينزل فيه بمن معه من أصحابه واتخذوا فيه أخائذٍ. وعن يزيد بن أبي حبيب: أن المسلمين لما سكنوا الإسكندرية في رباطهم ثم قفلوا ثم غزوا ابتدروا فكان الرجل منهم يأتي المنزل الذي كان فيه صاحبه قبل ذلك فيبتحره فيسكنه فلما غزوا قال عمرو: إني أخاف أن تخرّبوا المنازل إذا كنتم تتعاورونها فلما كان عند الكريون قال لهم: سيروا على بركة الله فمن ركز منكم رمحه في دار فهي له ولبني بنيه فكان الرجل يدخل الدار فيركز رمحه في منزل منها ثم يأتي الآخر فيركز رمحه في بعض بيوت الدار فكانت الدار تكون لقبيلتين وثلاث وكانوا يسكنونها حتى إذا قفلوا سكنها الروم وعليهم مرمّتها وكان يزيد بن أبي حبيب يقول: لا يحلّ من كرائها شيء ولا بيعها ولا يورث منها شيء إنما كانت لهم يسنونها في رباطهم.
|