الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الخِطط المقريزية المسمى بـ «المواعظ والاعتبار بذكر الخِطط والآثار» **
ويقال: كان مصر بن بيصر مع جدّ أبيه نوح عليه السلام في السفينة فدعا له أن يسكنه الله الأرض الطيبة المباركة التي هي أم البلاد وغوث العباد ونهرها أفضل الأنهار ويجعل له فيها أفضل البركات ويسخر له الأرض ولولده ويذللها ويقوّيهم عليها فسأله عنها فوصفها له وأخبره بها وكان بيصر بن حام قد كبر وضعف فساقه ولده مصرايم وجميع إخوته إلى مصر فنزلوها وبذلك سميت: مصر. وملك بعده: ابنه قبطيم ويقال له: قفط بن مصرايم وهو أوّل من عمل العجائب بعد الطوفان فاستخرج المعادن وشق الأنهار ونصب الأعلام والمنارات وعمل الطلسمات. ويقال: إنّ مصرايم لما مات اختلف أولاده من بعده وكان قفط أصغرهم فاجتمعوا عند الأهرام ورضوا بأن من غلب منهم أخاه أخذ الملك فتحارب أشموم وأتريب فغلب أتريب ثم تحارب صا هو وأشموم فغلب أشموم ثم تحارب قفط وصا فغلب قفط فأخذ قفط الملك بعد أبيه وأطاعه أخوته وسكن مدينة منف دار مملكة أبيه وتزوّج امرأة ولدت له أربعة أولاد هم: قفطريم وأشمون وأتريب وصا فتناسلوا وكثروا وعمروا البلاد ثم إنه قسم الأرض بين أولاده الأربعة عند وفاته فجعل لولده قفطريم من أسوان إلى قفط وجعل لولده أشمون من مدينة قفط إلى مدينة منف وجعل لولده أتريب الجرف كله وجعل لولده صا من ناحية البحيرة إلى الغرب وجعل أمرهم إلى قفطريم وأمر كل واحد منهم أن يبني لنفسه مدينة في حيزه وجعل لنفسه سربًا تحت الجبل الكبير وصفحه بالمرمر وعمل فيه منافذ للريح فصارت تنخرق فيه بدويّ عظيم وأقام في السرب رؤوسًا من نحاس مطلية تضيء كالسرج ليلًا ونهارًا. ولما مات وضع جسده بهذا السرب في جرن من ذهب بعدما ألبس ثيابًا منسوجة بالدر والمرجان وأقيم عند رأسه عمود من مرمر عليه جوهرة تضيء وعمل حول الجرن توابيت من حجارة ملوّنة حولها مصاحف الحكمة ووضعت عنده أمواله وكنوزه وذخائره وزبروا عليه كما زبروا على أبيه وانتقل كل من أولاده إلى حيزه فانتقل صا بأهله وأولاده وسكن مدينة صا الآتي ذكرها. ويقال: كانت البلبلة في أيام قفط وأنه ألهمه الله تعالى اللغة القبطية وأنه أقام ملكًا أربعمائة وثمانين سنة ومات فدفن بأرض الواحات وملك بعده أخو أشمن بن مصر وقيل: بل أسكن في حياته ابنه قفطريم في حيزه فشرع في العمارة وكان جبارًا عظيم الخلقة فأثار من المعادن ما لم يثره أحد قبله وبنى مدينة دندرة وعمل في جبل قفط منارًا عاليًا يُرى منه البحر الشرقيّ ووجد هناك معادن من الزئبق وعمل البركة التي سماها صيادة الطير وهلك عاد بالريح في آخر أيامه وفي أيامه أثارت الشياطين الأصنام التي أغرقها الطوفان فعبدت وأقام ملكًا أربعمائة وثمانين سنة ومات.
: بعد مصر بن بيصر قفط بن مصر وأنّ الذي ملك بعد فقط أخوه اشمن ثم أتريب بن مصر ثم صا بن مصر ثم أبنه تدراس بن صا ثم ابنه ماليق بن تدراس ثم ابنه حزابا بن ماليق ثم ابنه كلكلي بن حزابا ويقال: إنّ أشمن لما ملك بعد أخيه سار إليه شدّاد بن هدّاد بن شدّاد بن عاد وملك أرض مصر وهدم مبانيها وبنى أهرامًا ومضى إلى موضع الإسكندرية فبناها وأقام دهرًا ثم خرجت العادية من أرض مصر فعاد أشمن إلى ملكه وأنه ملك بعده أخوه صا ثم ملك بعد صا ابنه تدراس وفي أيامه بعث اللّه صالحًا إلى ثمود ومات. فملك ابنه ماليق البودسير وكان من الجبابرة العظام عمل أعمالًا عظيمة منها منار فوقه قبة لها أربعة أركان في كل ركن كوّة يخرج منها في يوم معلوم عندهم من كل سنة دخان ملتف في ألوان شتى يستدلون بكل لون على شيء فإن خرج الدخان أخضر دل على العمارة والخصب في تلك السنة وإن خرج أبيض دل على الجدب وقلة الخير وإن خرج أحمر دل على الحروب وقصد الأعداء وإن خرج أصفر دل على النيران وآفات تحدث من الملك وإن خرج أسود دل على الأمطار والسيول وفساد بعض الأرض وإن خرج مختلطًا دل على كثرة الظلم وبغي الناس بعضهم على بعض. وعمل شجرة من نحاس تجذب سائر الوحوش حتى تصل إليها فلا تستطيع الحركة إلى أن تؤخذ فشبع أهل مصر من لحوم الوحوش واتفق أنّ غرابًا نقر عين صبي من أولاد الكهنة فقلعها فعمل شجرة من نحاس عليها غراب منشور الجناحين وفي منقاره حية وعلى ظهره أسطر فكانت الغربان تقع على هذه الشجرة ولا تبرح حتى تموت وكانت الرمال قد كثرت في أيامه على أرض مصر من ناحية الغرب فعمل صنمًا من صوّان أسود على قاعدة منه وفوق كتبه قفة فيها مسحاة ونقش على وجهه وصدره وذراعيه كتابة وجعل وجهه إلى الغرب فانكشفت الرمال ورجعت بها الرياح إلى ورائها وصارت تلالًا عاليةَ. وبعث بهرمس الحكيم إلى جبل القمر الذي يخرج منه النيل فعمل تماثيل النحاس وعدّل جانبي النيل وكان قبله يفيض في مواضع وينقطع في مواضع وسار مغرّبًا لينظر ما وراء ذلك فوقع على أرض واسعة ينخرق فيها الماء والأشجار فبنى فيها منتزهات وأقام بها وحوّل إليها عدة من أهله فعمروا تلك النواحي حتى صارت أرض الغرب كلها معمورة ثم خالطتهم البربر وجرت بينهم حروب كثيرة أفنتهم فخربت تلك البلاد ولم يبق منها إلا الواحات ثم إنّ البودسير احتجب عن الناس وصار يبرز وجهه من مقعده في النادر وربما خاطبهم من حيث لا يرونه. وذكر أبو الحسن المسعوديّ في كتاب أخبار الزمان: إنّ أوّل من تحقق بالكهانة وغير الدين وعبد الكواكب البودسير وتزعم القبط أنّ الكواكب كانت تخاطبه وأنّ له عجائب كثيرة منها: أنه استتر عن الناس عدة سنين من ملكه وكان يظهر لهم وقتًا بعد وقت مرّة في كل سنة وهو حلول الشمس في برج الحمل ويدخل الناس إليه فيخاطبهم وهم يرونه فيأمرهم وينهاهم ويحذرهم مخالفة أمره ثم بنيت له قبة من فضة مطلية بذهب فصار يجلس في أعلاها وله وجه عظيم فيخاطبهم. فلما مات ملك بعده ابنه أرقليمون: وكان كاهنًا ساحرًا فعمل أعمالًا عظيمة منها: أنه كان يجلس في السحاب فيرونه في صورة إنسان عظيم وأقام مدّة على ذلك ثم إنه غاب عن أهل مصر وصاروا بغير ملك ثم رأوا صورة بحذاء جرم الشمس عند حلولها أوّل برج الحمل فأمرهم أن يقلدوا الملك عديم بن قفطيم وأعلمهم أنه ما بقي يعود إليهم. فولوا عليهم عديم بن قفطيم: وكان جبارًا عظيمًا وهو أوّل من صلب بمصر وذلك أنّ امرأةَ ورجلًا زنيا فصلبهما وجعل ظهر كل منهما لظهر الآخر وبنى أربع مدائن أودعها كنوزًا عظيمة وجعل عليها طلسمات وعدة عجائب وعمل منارًا على البحر الشرقيّ وعليه صنم إلى الشرق حتى لا يغلب البحر على أرض مصر وعمل قنطرة على النيل في أرض النوبة وأقام ملكًا مائة وأربعين سنة ومات وعمره سبعمائة وثلاثون سنة. وملك بعده ابنه شدّات بن عديم: وهو الذي تسميه العامة: شدّاد بن عاد وكان عالمًا كاهنًا ساحرًا ويقال: إنه هو الذي بنى الأهرام الدهشورية وعمل أعمالًا عظيمة وطلسمات عجيبة وبنى في الجانب الشرقيّ مدائن وفي أيامه بنيت قوص وغزا الحبشة وسباهم وأقام ملكًا تسعين سنة وهو أوّل من اتخذ الجوارح وصاد بها وولَّد الكلاب السلوقية وعمل في بركة سيوط تماسيح منصوبة تنصب إليها التماسيح من النيل انصبابًا فيقتلها ويعلق جلودها في السفن واتفق أنه طرد صيدًا فكبابه فرسه في وهدة فهلك. وكان قد غضب على بعض خدمه فرماه من جبل عالِ فتقطع فرأى أنه يصيبه مثل ذلك ولما هلك وضع في ناوس ودفنت معه أمواله وعمل عليه طلسم يمنعه ممن يقصده وكتب عليه: لا ينبغي لذي القدرة أن يخرج عن الواجب ولا يفعل ما لا يجوز له فعله فيجازي بعمله. هذا ناوس بن شدّات بن عديم فعل ما لا يحلّ له فعله فكوفئ عليه بمثله. وملك بعده ابنه منقاوش: وكان حكيمًا فاضلًا كاهنًا عمل أعمالًا عجيبة وبنى أشياء معجبة منها: أنه عمل هيكلًا لصور الكواكب على ثمانية فراسخ من منف وكنز من الأموال ما لا يحصى وفتح عليه من المعادن ما لم يفتح به على غيره وسار في الجنوب يومًا ثم سار مغرّبًا يومًا وبعض آخر فانتهى في اليوم الثالث إلى جبل أسود فعمل تحته أسرابًا ومغاير ودفن فيها أمواله وزبر عليها حتى أنه من كثرتها يقال: إنه دفن حمل اثني عشر ألف عجلة ذهبًا وجواهر وأقام أربع سنين يرسل في كل سنة عجلًا كثيرة يدفنها وبقيت آثار العجل تُرى فيما بين منف والمغرب زمانًا طويلًا وبنى هيكلًا للقمر ويقال: إنه هو الذي بنى مدينة منف لبناته وكنّ ثلاثين بنتًا وأنه ألزم الناس بعمل الكيمياء فكانوا لا يفترون عن عملها ليلًا ولا نهارًا حتى اجتمع عنده مال عظيم وجوهر كثير وهو الذي بنى مدينة عين شمس وقسم خراج مصر أرباعًا جعل الربع للملك والربع للجند والربع ينفق في مصالح الأرض والربع الرابع يدفن لحادثة تحدث وهو الذي قسم أرض مصر على مائة وثلاثين كورة وأقام ملكًا إحدى وتسعين سنة ومات. فملك بعده ابنه عديم بن منقاوش: وكان جبارًا لا يطاق وفي أيامه كان نزول الملكين اللذين يعلمان الناس السحر والقبط تزعم أنهما نزلا بأرض مصر ثم نقلا إلى بابل. ثم ملك بعده أخوه مناوش بن منقاوش وكان عالمًا كاهنًا فاضلًا بنى مواضع كثيرة في الجبال والصحارى وكنز فيها كنوزًا عظيمةً وأقام عليها أعلامًا وبنى في صحراء الغرب مدينة وأقام لها منارًا وكنز حولها كنوزًا عظيمة وجعل فيها شجرة تطلع كل لون من الفاكهة وهو أوّل من عبد البقر بمصر وكان يطلب الحكمة ويستخرج كتبها وكذا كان كل من ملك منهم يجتهد في أن يعمل له غريبة من الأعمال لم تعمل لمن كان قبله وتثبت في كتبهم وتزبر على الحجارة. ولما مات ملك بعده ابنه هرميس: وكان قليل الحكمة فلم يعمل شيئًا مما عمله آباؤه ومات وقد أقام إحدى عشرة سنة. فملك بعده أشمون بن قبطيم بن مصر بن بيصر بن حام بن نوح: وكان حيزه من أشمون إلى منف في الغرب وحيزه في الشرق إلى حدّ البحر الملح مما يحاذي برقة وهو آخر حدّ مصر ومن بلاد الصعيد إلى حدود أخميم وكانت منزله بمدينة الأشمونين وكان طولها اثني عشر ميلًا في مثلها وبنى في شرقيّ النيل مدينة أنصنا وبنى بها قصرًا عظيمًا واتخذ بها أبنية وملاعب وعجائب كثيرة وبنى مدينة طهراطيس وهو أوّل من لعب بالكرة والصولجان. ويقال: إنه بنى مدنًا كثيرة عمل فيها عجائب منها: مدينة في سفح الجبل لها أربعة أبواب من كل ناحية باب فعلى الباب الشرقيّ: صورة عقاب وعلى الباب الغربيّ: صورة ثور وعلى الباب الشماليّ: صورة أسد وعلى الباب الجنوبيّ: صورة كلب وفي هذه الصور روحانيات تنطق فإذا قدم غريب لا يقدر على الدخول إليها إلا بإذن الموكلين بها ودفن تحت كل شكل من هذه الأشكال الأربعة صنفًا من الكنوز وغرس في هذه المدينة شجرة مولدة تثمر كل لون من الفاكهة ونصب منارًا طوله ثمانون ذراعًا فوقه قبة تتلوّن كل يوم لونًا حتى تمضي سبعة أيام ثم تعود إلى اللون الأوّل فكانت تلك المدينة تكسى من تلك الألوان شعاعًا مثل لونها وأجرى حول المنار ماء شقه من النيل وجعل فيه سمكًا من كل لون وأقام حول المدينة طلسمات في هيئة أناس رؤوسها كالقردة وأسكن هذه المدينة السحرة فعرفت بمدينة السحرة وكانوا يعملون فيها أصناف السحر. وبنى بالقرب منها مدينة عرفت بذات العجائب وبنى مجالس مصفحة بزجاج ملوّن في وسط النيل وبنى سربًا تحت الأرض من الأشمونين إلى أنصنا. وقيل: إنه هو الذي بنى مدينة عين شمس وأنه ملك ثمانمائة سنة وأنّ قوم عاد انتزعوا منه الملك بعد ستمائة سنة وأقاموا بمصر تسعين سنة فأصابهم وباء خرجوا منه إلى المدينة بطريق الحجاز إلى وادي القرى فعاد أشمون بعد خروج العادية إلى ملك مصر وهو أوّل من عمل النوروز بمصر. وفي زمانه: بنيت مدينة البهنسا ولما مات جعل له ناوس في آخر حدّ الأشمونين ودفن فيه ومعه كنوزه العظيمة وعجائبه الكثيرة منها: ألف برنية من العقاقير المدبرة لفنون الأعمال وزبروا على ناوسه اسمه ونسبه وجعل عليه طلسم يمنعه ممن يقصده. وملك بعده ابنه صا: ثم بعد صا ابنه تدراس. وقيل: ملك مناقيوش وكان شجاعًا فاضلًا فاستأنف العمارة وبنى القرى ونصب الأعلام وعمل العجائب الهائلة وبنى مدائن منها مدينة أخميم وحوّل الكهنة إليها وأقام ملكًا نيفًا وأربعين سنة ومات فدفن في الهرم الشرقيّ ومعه كنوزه. وملك بعده ابنه وقد اختلف في اسمه وكان فاضلًا حازمًا معظمًا عند أهل مصر وهو أوّل من عمل المارستان وأول من عمل الميدان للرياضة وفي أيامه بنيت مدينة سنترية في صحراء الواحات ثم إنّ نساء تغايرن عليه فقتلته إحداهنّ بسكين فدفن في ناوس ومعه أمواله وعمل عليه طلسم يحفظه. وملك بعده ابنه مرقورة: وكان حكيمًا كاهنًا وهو أوّل من ذلل السباع وركبها وبنى المدن وملك بعده ابنه بلاطس: وكان صبيًا فدبرت أمّه أمر الملك وكانت حازمة فأجرت الأمور على أحسن ما يكون وأظهرت العدل ووضعت عن الناس الخراج فأحبّوها ولما كبر ابنها أحب الصيد فعملت له أمّه أعمالًا عجيبة وأقام ملكًا ثلاث عشرة سنة وجدّر فمات وانتقل الملك إلى أعمامه. فملك بعده أتريب بن قبطيم بن مصرايم وهو الثالث عشر من ملوك مصر بعد الطوفان وهو الذي بنى مدينة أتريب وعاش خمسمائة سنة منها مدّة ملكه ثلثمائة وستون سنة ويقال: إن النيل وقف في أيام أتريب مائة وأربعين سنة حتى أكُلت البهائم بأرض مصر ولم يبق بها بهيمة ورؤي أتريب ماشيًا وهو يبسط يديه ويقبضهما من الجوع ومات عامّة أهل مصر جوعًا ثم أغيثوا بعد ذلك وكثر الرخاء ودام مدة مائتي سنة وبيع كل أردب بدانق وأقل ولما مات اتهم أخوه صا بقتله وحاربه أهل مصر تسع سنين وقتلوه. فملكت بعده ابنته تدرورة: وكانت كاهنة ساحرة فساست الملك أحسن سياسة ودبرت الملك أجود تدبير وعملت طلسمات عجيبة منها طلسم منع الوحش والطير أن يشرب من النيل حتى مات أكثرها عطشًا ووقعت في زمانها صيحة ارتجت لها الأرض فهلكت. وملك بعدها أخوها قليمون بن أتريب: وكان حكيمًا فاضلًا فبنى البنيان وعمل الطلسمات وفي أيامه بنيت مدينة تنيس الأولى وبنيت مدينة دمياط وأقام ملكًا تسعين سنة ومات فدفن في ناوس. وملك بعده ابنه فرسون: وكان فاضلًا كاهنًا بنى المدائن وجدّد الهياكل وكان حدثًا فقصده بعض ملوك حمير في جموع عظيمة فخرج إليهم ولقيه بمدينة إيليا وقاتله قتالًا شديدًا حتى تفانى من الفريقين معظمهما وأظهر المصريون أشياء من سحرهم فانهزم الحميري في طائفة يسيرة وقتل فرسون عامّة أصحابه وأخذ ما كان معهم وعاد مظفرًا إلى مدينة منف وعمل منارًا على بحر القلزم في رأسه مرآة تجذب المراكب إلى الساحل حتى يؤخذ منها ما هو مقرّر عليها من المال وأقام ملكًا مائتي سنة وستين سنة ومات فدفن في ناوس خلف الجبل الأسود الشرقيّ وعمل فيه قبة تحتوي على اثني عشر بيتًا في كل بيت أعجوبة ودفن معه ماله وعمل عليه طلسم يحفظه. وملك بعده نحوه أربعة وصار الملك إلى صا بن قبطيم: وكان اصغر ولد أبيه وأحبهم إليه. ولما مات ملك بعده نونية الكاهنة: وكانت ساحرة فكانت تجلس على سرير من نار فإذا تحاكم إليها أحد وكان صادقًا شق تلك النار من غير أن تضرّه وإن كان كاذبًا أخذته تلك النار وكانت تتصوّر كل يوم في صور كثيرة الأشكال ثم بنت قصرًا واحتجبت فيه وجعلت في سوره أنابيب من نحاس مجوّفة وكتبت على كل أنبوب فنًا من الفنون التي يتحاكم الناس بها إليها فكان من أتاها في محاكمة وقف عند الأنبوب الذي فيه محاكمته وتكلم بما يريم وسأل عنه بصوت خفيّ فإذا فرغ جعل أذنه في الأنبوب فيأتيه منه جواب ما سأل ولم يزل هذا القصر والأنابيب حتى أتلفه بخت نصر. وملك بعدها مرقونس: وكان فاضلًا حكيمًا وكانت أمه بنت ملك النوبة فعملت عجائب وصُنع في أيامه كل غريبة وملك ثلاثًا وسبعين سنة ومات وعمره مائتان وأربعون سنة. فملك بعده ابنه ايساد وهو ابن خمس وأربعين سنة: وكان جبارًا طماح العين فانتزى امرأة أبيه وانكشف أمره معها وكان أكبر همه اللهو واللعب فجمع كل ملة في مملكته ورفض العلوم وأهمل أمر الهياكل والكهنة وترك النظر في أحوال الناس وبنى قصورًا على النيل ليتنزه فيها وأتلف أكثر الأموال في اللعب فكرهه الناس وكرههم إلى أن سمّوه فمات عن مائة وعشرين سنة. وملك بعده ابنه صا: ويقال: إنّ صا هو ابن مرقونس وهو أخود أيساد ولما ملك سكن منف ووعد الناس بخير وملك الأحياز كلها وعمل بها عجائب وطلسمات ورد الكهنة إلى مراتبهم ونفى الملهين وأهل الشرّ ونصب العقاب الذي عمله أبوه وشرف هيكله ودعا إليه وبنى بداخل الواحات مدينة ونصب قرب البحر أعلامًا كثيرة وجعل على الأطراف أصحاب أخبار يرفعون إليه ما يجري في حدودهم وعمل على حافتي النيل مناير يوقد عليها إذا حزبهم أمر أو قصدهم أحد وجعل بحافة بحر الملح منارًا يعلم به أمر البحر ويقال: إنه بنى أكثر مدينة منف وكل بنيان عظيم بالإسكندرية وكان لما ملك البلد بأسره جمع الحكماء ونظر في النجوم وكان بها حاذقًا فرأى أن مصر لا بد أن تغرق من نيلها وإنها تخرب على يد رجل يأتي من ناحية الشام فجمع كل فاعل بمصر وبنى مدينة في الواح الأقصى وقصده ملك الإفرنجة وملك منه مدينة منف وقدم معه ألف مركب وهدم أكثر الإسكندرية ودخل إلى النيل من رشيد حتى أخذ منف وفرّ منه صا إلى المدائن الداخلة وتحصن بها من عدوّه فامتنعت بالطلسمات أيامًا كثيرة ثم كانت العاقبة له وعاد عدوه منهزمًا ورجع إلى منف فتتبع الكهنة وقتل منهم كثيرًا وأقام ملكًا سبعًا وستين سنة وعاش مائة وسبعين سنة. وملك ابنه تدراس: واستولى على الأحياز كلها وصفًا له الوقت وملك مصر وكان محتكمًا مجزبًا ذا أيد وقوّة ومعرفة بالأمور فأظهر العدل وأقام الهياكل وأهلها قيامًا حسنًا وبنى بيتًا للزهرة وحفر خليج سخا وحارب بعض عمالقة الشام ودخل إلى فلسطين وقتل بها خلقًا وسبى بعض أهلها إلى مصر وغزا السودان من الزنج والحبشة ووجه في النيل بثلثمائة سفينة فلقي السودان وكانوا زهاء ألف ألف فهزمهم وقتل أكثرهم وأسر منهم خلقًا كثيرًا وساق الفيلة والنمور إلى مصر وعمل على حدود بلده منارات زبر عليها اسمه ومسيره وظفره وفي أيامه بعث الله نبيه صالحًا إلى ثمود ويقال: إنه هو الذي أنزل النوبة حيث هي وذلك أنه لما أوغل في أرض الحبشة وقتل أمم السودان وجد فيهم أمة تقرأ صحف آدم وشيث وإدريس فمنّ عليها وأنزلها على نحو من شهر من أرض مصر فسموا النوبة ومات بمنف. فملك بعده ابنه ماليق: وكان عاقلًا كريمًا حسن الصورة مجربا مخالفًا لأبيه وأهل مصر في عبادة الكواكب والبقر ويقال: إنه كان موحدًا على دين أجداده قبطيم ومصرايم وكانت القبط تذمه لذلك وأمر الناس باتخاذ كل قارة من الخيل واقتنى السلاح وأكثر الأسفار وأنشأ في بحر المغرب مائتي سفينة وخرج في جيش عظيم في البرّ والبحر وأتى البربر فهزمهم واستأصل أكثرهم وبلغ إفريقية وسار إلى الأندلس يريد الإفرنجة فلم يمرّ بأمّة إلا أبادها فحشد له ملك الإفرنجة وحاربه شهرًا ثم طلب صلحه وأهدى إليه فسار عنه ودوّخ الأمم المتصلة بالبحر الأخضر والقبط تذكر أنه رأى سبعين أعجوبة وعمل أعمالًا على البحر وزبر عليها اسمه ومسيره وخرّب مدن البربر ورجع فتلقاه أهل مصر بأصناف الرياحين وأنواع اللهو وفرشت له فملك بعده ابنه حزابا: وكان لينًا سهل الخلق قد عرفه أبوه التوحيد ونهاه عن عباده الأصنام فرجع عن ذلك بعده إلى دين قومه وغزا الهند والسودان بعدما عمل مائة سفينة على شكل سفن الهند وتجهز وحمل معه امرأته ووجوه أصحابه واستخلف ابنه كلكلي على مصر وكان صبيًا وجعل معه وزيرًا كاهنًا فمرّ على ساحل اليمن وعاث في مدائنه وبلغ سرنديب وأوقع بأهلها وبلغ جزيرة بين الهند والصين فأذعن له أهلها وتنقل في تلك الجزائر سنين فيقال: إنه أقام في سفره سبع عشرة سنة ورجع غانمًا فهابه الملوك وبنى عدة هياكل وأقام بها الأصنام للكواكب ثم غزا نواحي الشام فأطاعه أهله ورجع فغزا النوبة والسودان وضرب عليهم خراجًا يحملونه إليه ورفع أقدار الكهنة ومصاحفهم وكان يرى أن هذا الظفر بمعونة الكواكب له ومات وقد ملك خمسًا وسبعين سنة. فقام ابنه كلكلي وعقد له بالإسكندرية فأقام بها شهرًا ثم قدم إلى منف وكان أصناميًا فَسُرّ به أهل مصر وكان يحب الحكمة وإظهار العجائب ويقرّب أهلها ويجيزهم وعمل الكيمياء وخزن أموالًا عظيمة بصحارى الغرب وهو أوّل من أظهر علم الكيمياء بمصر وكان علمها مكتومًا وكان من تقدّمه من الملوك أمر بترك صنعتها فعملها كلكلي وملأ دور الحكمة منها حتى لم يكن الذهب في زمن بمصر أكثر منه في وقته ولا الخراج لأنه كان مائة ألف ألف وبضعة عشر ألف ألف مثقال فاستغنوا عن إثارة المعادن وعمل أيضًا واخترع أمورًا تخرج عن حدّ العقل حتى سمي حكيم الملوك وغلب جميع الكهنة في علومهم وكان يخبرهم بما يغيب عنهم وكان نمرود إبراهيم عليه السلام في وقته فاتصل بنمرود خبر حكمته وسحره فاستزاره وكان النمرود جبارًا مشوّه الخلق يسكن السواد من العراق وأتاه اللّه قوة وقدرة وبطشًا فغلب على كثير من الأمم فتقول القبط: إنّ النمرود لما استزار كلكلي وجه إليه أن يلقاه بموضع كذا فسار إلى الموضع على أربعة أفراس تحمله ذوات أجنحة وقد أحاط به نور كالنار وحوله صور هائلة وقد خيل بها وهو متوشح بثعبان متحزم ببعضه وقد فغر فاه وهو يضربه بقضيب آس فلما رآه النمرود هاله وأقرّ له بجليل الحكمة وسأله: أن يكون ظهيرًا له ويقال: إنه كان يرتفع ويجلس على الهرم الغربيّ في قبة تلوح على رأسه فإذا دهم أهل البلد أمر اجتمعوا حول الهرم فيقيم أيامًا لا يأكل ولا يشرب ثم استتر مدة حتى توهموا أنه هلك فطمع فيه الملوك وقصده ملك من الغرب في جيش عظيم حتى قدم وادي هبيب فأقبل حتى جللهم من سحره بشيء كالغمام شديد الحرّ فأقاموا تحته أيامًا متحيرين ثم طار إلى مصر وأمرهم بالخروج إلى الجيش فوجدوهم قد ماتوا هم ودوابهم فهابه الكهنة مهابة لم يهابوها أحدًا قبله وعمر طويلًا وغاب فلم يعلم خبره. وقال ابن عبد الحكم: إنّ كلكلي ابن حزابا ملكهم نحو مائة سنة ثم مات ولا ولد له. فملك أخوه ماليا بن حزابا. قال ابن وصيف شاه: وقام أخوه ماليا: وكان شرهًا كثير الأكل والشرب منفردًا بالرفاهية غير ناظر في شيء من الحكمة وجعل أمر البلد إلى وزيره واشتغل بالنساء وكان له من النساء ثمانون امرأة فهجم عليه ابنه طوطيس وهو سكران فقتله وقتل امرأة كانت عنده. وملك بعده ابنه طوطيس: ويقال: إنه عمرو بن امرئ القيس بن بابليون بن حمير بن سبا بن يشجب بن يعرب بن قحطان ويقال: الوليد بن الريان وأنه أحد فراعنة مصر من ولد دان بن قهلوج بن أمراز بن أشود بن سام بن نوح. وقيل: فراعنة مصر من ولد عملاق الأوّل بن لاود بن سام بن نوح وكان جبارًا جريئًا شديد البأس مُهابًا والقبط تزعم أنه أوّل الفراعنة بمصر وهو فرعون إبراهيم عليه السلام ويقال: إن الفراعنة سبعة هو أوّلهم وحفر نهرًا في شرقيّ مصر بسفح الجبل حتى ينتهي إلى مرفأ السفن في البحر الملح وكان يحمل إلى هاجر أمّ إسماعيل التي أعطاها إبراهيم عليه السلام الحنطة وأصناف الغلات فتصل إلى جدة فأحيى بلد الحجاز مدّة ويقال: إن كل ما حليت به الكعبة في ذلك العصر مما أهداه ملك مصر ولكثرة ما حمل إلى الحجاز سمته العرب من جرهم الصادوق.
|