الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.فَصْلٌ فِي بَيَانِ بِشَارَاتِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَغَيْرِهِمَا بِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ سَبَقَ لَنَا ذِكْرُ بِشَارَاتِ كُتُبِ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِنَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ، بَعْضُهَا بِالْإِجْمَالِ، وَبَعْضُهَا بِشَيْءٍ مِنَ التَّفْصِيلِ، وَفِي مَوَاضِعَ مِنَ الْمَنَارِ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ فَهَارِسِهِمَا، وَنُرِيدُ هُنَا أَنْ نُفَصِّلَ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلًا كَافِيًا؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَكَانُ الْمُنَاسِبُ لَهُ أَتَمَّ الْمُنَاسَبَةِ، فَنَقُولُ:كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى يَتَنَاقَلُونَ خَبَرَ بَعْثَتِهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا بَيْنَهُمْ وَيَذْكُرُونَ الْبِشَارَاتِ بِهِ مَنْ كُتُبِهِمْ، حَتَّى إِذَا مَا بَعَثَهُ اللهُ تَعَالَى بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ آمَنَ بِهِ كَثِيرُونَ، وَكَانَ عُلَمَاؤُهُمْ يُصَرِّحُونَ بِذَلِكَ كَعَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ وَأَصْحَابِهِ مِنْ عُلَمَاءِ الْيَهُودِ، وَتَمِيمٍ الدَّارِيِّ مِنْ عُلَمَاءِ النَّصَارَى، وَغَيْرِهِمُ الَّذِينَ أَسْلَمُوا فِي عَصْرِ النَّبِيِّ- صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَرَضِيَ عَنْهُمْ-، وَالرِّوَايَاتُ فِي هَذِهِ كَثِيرَةٌ، وَمِنْ أَعْجَبِهَا قِصَّةُ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ رضي الله عنه وَأَمَّا الَّذِينَ أَبَوْا وَاسْتَكْبَرُوا فَكَانُوا يَكْتُمُونَ الْبِشَارَاتِ بِهِ فِي كُتُبِهِمْ. وَيُؤَوِّلُونَ مَا بَقِيَ مِنْهَا لِمَنِ اطَّلَعَ عَلَيْهِ، وَيَكْتُمُونَهُ عَمَّنْ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ، وَقَدْ أَرْبَى الْمُتَأَخِّرُونَ وَلاسيما الْإِفْرِنْجَ مِنْهُمْ عَلَى الْمُتَقَدِّمِينَ فِي الْمُكَابَرَةِ وَالتَّأْوِيلِ وَالتَّضْلِيلِ؛ لِذَلِكَ وَضَّحَ الْعَلَّامَةُ الْمُحَقِّقُ الشَّيْخُ رَحْمَةُ اللهِ الْهِنْدِيُّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِهِ إِظْهَارِ الْحَقِّ بِأُمُورٍ جَعَلَهَا مُقَدِّمَاتٍ لِبِشَارَاتِ تِلْكَ الْكُتُبِ بِهِ صلى الله عليه وسلم فَرَأَيْنَا أَنْ نَقْتَبِسَهَا بِنَصِّهَا. قَالَ- رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- فِي سِيَاقِ مَسَالِكِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى نُبُوَّتِهِ صلى الله عليه وسلم مَا نَصُّهُ:الْمَسْلَكُ السَّادِسُ أَخْبَارُ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ عَلَيْهِ عَنْ نُبُوَّتِهِ عليه السلام:وَلَمَّا كَانَ الْقِسِّيسُونَ يُغَلِّطُونَ الْعَوَامَّ فِي هَذَا الْبَابِ تَغْلِيطًا عَظِيمًا، اسْتَحْسَنْتُ أَنْ أُقَدِّمَ عَلَى نَقْلِ تِلْكَ الْأَخْبَارِ أُمُورًا ثَمَانِيَةً تُفِيدُ النَّاظِرَ بَصِيرَةً.الْأَمْرُ الْأَوَّلُ:إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ الْإِسْرَائِيلِيَّةَ مِثْلَ: أَشْعِيَا وَأَرْمِيَا وَدَانْيَالَ وَحِزْقِيَالَ وَعِيسَى عَلَيْهِمُ السَّلَامُ أَخْبَرُوا عَنِ الْحَوَادِثِ الْآتِيَةِ، كَحَادِثَةِ بُخْتُ نَصَّرَ، وَقُورَشَ وَالْإِسْكَنْدَرِ وَخُلَفَائِهِ. وَحَوَادِثِ أَرْضِ أَدُومَ وَمِصْرَ وَنِينَوَى وَبَابِلَ، وَيَبْعُدُ كُلَّ الْبُعْدِ أَلَّا يُخْبِرَ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ خُرُوجِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم الَّذِي كَانَ وَقْتَ ظُهُورِهِ كَأَصْغَرِ الْبُقُولِ، ثُمَّ صَارَ شَجَرَةً عَظِيمَةً تَنْأَوِي طُيُورُ السَّمَاءِ فِي أَغْصَانِهَا، فَكَسَرَ الْجَبَابِرَةَ وَالْأَكَاسِرَةَ، وَبَلَغَ دِينُهُ شَرْقًا وَغَرْبًا، وَغَلَبَ الْأَدْيَانَ وَامْتَدَّ دَهْرًا بِحَيْثُ مَضَى عَلَى ظُهُورِهِ مُدَّةَ أَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ وَثَمَانِينَ إِلَى هَذَا الْحِينِ، وَيَمْتَدُّ إِنْ شَاءَ اللهُ إِلَى آخِرِ بَقَاءِ الدُّنْيَا. وَظَهَرَ فِي أُمَّتِهِ أُلُوفٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ الرَّبَّانِيِّينَ، وَالْحُكَمَاءِ الْمُتْقِنِينَ وَالْأَوْلِيَاءِ ذَوِي الْكَرَامَاتِ وَالْمُجَاهَدَاتِ، وَالسَّلَاطِينِ الْعِظَامِ. وَهَذِهِ الْحَادِثَةُ كَانَتْ أَعْظَمُ الْحَوَادِثِ وَمَا كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ حَادِثَةِ أَرْضِ أَدُومَ وَنِينَوَى وَغَيْرِهِمَا، فَكَيْفَ يُجَوِّزُ الْعَقْلُ السَّلِيمُ أَنَّهُمْ أَخْبَرُوا عَنِ الْحَوَادِثِ الضَّعِيفَةِ وَتَرَكُوا الْأَخْبَارَ عَنْ هَذِهِ الْحَادِثَةِ الْعَظِيمَةِ!؟الْأَمْرُ الثَّانِي:أَنَّ النَّبِيَّ الْمُقَدَّمَ إِذَا أَخْبَرَ عَنِ النَّبِيِّ الْمُتَأَخِّرِ لَا يَشْتَرِطُ فِي إِخْبَارِهِ أَنْ يُخْبِرَ بِالتَّفْصِيلِ التَّامِّ بِأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنَ الْقَبِيلَةِ الْفُلَانِيَّةِ، فِي السَّنَةِ الْفُلَانِيَّةِ، فِي الْبَلَدِ الْفُلَانِيِّ، وَتَكُونُ صِفَتُهُ كَيْتَ وَكَيْتَ بَلْ يَكُونُ هَذَا الْإِخْبَارُ فِي غَالِبِ الْأَوْقَاتِ مُجْمَلًا عِنْدَ الْعَوَامِّ، وَأَمَّا عِنْدَ الْخَوَاصِّ فَقَدْ يَصِيرُ جَلِيًّا بِوَاسِطَةِ الْقَرَائِنِ، وَقَدْ يَبْقَى خَفِيًّا عَلَيْهِمْ أَيْضًا لَا يَعْرِفُونَ مِصْدَاقَهُ إِلَّا بَعْدَ ادِّعَاءِ النَّبِيِّ اللَّاحِقِ أَنَّ النَّبِيَّ الْمُتَقَدَّمَ أَخْبَرَ عَنِّي، وَظُهُورُ مُصَدِّقِ ادِّعَائِهِ بِالْمُعْجِزَاتِ، وَعَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ، وَبَعْدَ الِادِّعَاءِ وَظُهُورِ صِدْقِهِ يَصِيرُ جَلِيًّا عِنْدَهُمْ بِلَا رَيْبٍ؛ وَلِذَلِكَ يُعَاتَبُونَ كَمَا عَاتَبَ الْمَسِيحُ عليه السلام عُلَمَاءَ الْيَهُودِ بِقَوْلِهِ: (52) وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا النَّامُوسِيُّونَ لِأَنَّكُمْ أَخَذْتُمْ مِفْتَاحَ الْمَعْرِفَةِ، مَا دَخَلْتُمْ أَنْتُمْ، وَالدَّاخِلُونَ مَنَعْتُمُوهُمْ. كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي الْبَابِ الْحَادِي عَشَرَ مِنْ إِنْجِيلِ لُوقَا، وَعَلَى مَذَاقِ الْمَسِيحِيِّينَ قَدْ يَبْقَى خَفِيًّا عَلَى الْأَنْبِيَاءِ فَضْلًا عَنِ الْعُلَمَاءِ، بَلْ قَدْ يَبْقَى خَفِيًّا عَلَى النَّبِيِّ الْمُخْبَرِ عَنْهُ عَلَى زَعْمِهِمْ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنْ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا هَكَذَا (19)وَهَذِهِ هِيَ شَهَادَةُ يُوحَنَّا حِينَ أَرْسَلَ الْيَهُودُ مِنْ أُورْشَلِيمَ كَهَنَةً وَلَاوِيِّينَ، لِيَسْأَلُوهُ: مَنْ أَنْتَ؟ (20) فَاعْتَرَفَ وَلَمْ يُنْكِرْ وَأَقَرَّ إِنِّي لَسْتُ أَنَا الْمَسِيحُ (21) فَسَأَلُوهُ: إِذًا مَاذَا أَنْتَ إِيلِيَا؟ فَقَالَ: أَنَا لَسْتُ إِيلِيَا، فَسَأَلُوهُ: أَنْتَ النَّبِيُّ؟ فَأَجَابَ: لَا (22) فَقَالُوا لَهُ: مَنْ أَنْتَ لِنُعْطِيَ جَوَابًا لِلَّذِينِ أَرْسَلُونَا مَاذَا تَقُولُ عَنْ نَفْسِكَ؟ (23) قَالَ أَنَا صَوْتٌ صَارِخٌ فِي الْبَرِّيَّةِ قَوِّمُوا طَرِيقَ الرَّبِّ، كَمَا قَالَ أَشْعِيَا النَّبِيُّ (24) وَكَانَ الْمُرْسَلُونَ مِنَ الْفِرِيسِيِّينَ (25) فَسَأَلُوهُ وَقَالُوا لَهُ: فَمَا بَالُكَ تُعَمَّدُ إِنْ كُنْتَ لَسْتَ الْمَسِيحَ وَلَا إِيلِيَا وَلَا النَّبِيَّ؟وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي لَفْظِ النَّبِيِّ الْوَاقِعِ فِي الْآيَةِ (21، 25) لِلْعَهْدِ، وَالْمُرَادُ النَّبِيُّ الْمَعْهُودُ الَّذِي أَخْبَرَ عَنْهُ مُوسَى عليه السلام فِي الْبَابِ الثَّامِنَ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الْعُلَمَاءُ الْمَسِيحِيَّةُ، فَالْكَهَنَةُ وَالْلَاوِيُّونَ كَانُوا مِنْ عُلَمَاءِ الْيَهُودِ وَوَاقِفِينَ عَلَى كُتُبِهِمْ، وَعَرَفُوا أَيْضًا أَنَّ يَحْيَى عليه السلام نَبِيٌّ لَكِنَّهُمْ شَكُّوا فِي أَنَّهُ الْمَسِيحُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَوْ إِيلِيَا عليه السلام أَوِ النَّبِيُّ الْمَعْهُودُ الَّذِي أَخْبَرَ عَنْهُ مُوسَى عليه السلام، فَظَهَرَ مِنْهُ أَنَّ عَلَامَاتِ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ الثَّلَاثَةِ لَمْ تَكُنْ مُصَرِّحَةً فِي كُتُبِهِمْ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى الِاشْتِبَاهُ لِلْخَوَاصِّ فَضْلًا عَنِ الْعَوَامِّ فَلِذَلِكَ سَأَلُوا أَوَّلًا: أَنْتَ الْمَسِيحُ؟ فَبَعْدَمَا أَنْكَرَ يَحْيَى عليه السلام عَنْ كَوْنِهِ مَسِيحًا، سَأَلُوهُ: أَنْتَ إِيلِيَا؟ فَبَعْدَمَا أَنْكَرَ عَنْ كَوْنِهِ إِيلِيَا أَيْضًا سَأَلُوهُ: أَنْتَ النَّبِيُّ؛-أَيِ: الْمَعْهُودُ- وَلَوْ كَانَتِ الْعَلَامَاتُ مُصَرَّحَةً لَمَا كَانَ لِلشَّكِّ مَحَلٌّ، بَلْ ظَهَرَ مِنْهُ أَنَّ يَحْيَى عليه السلام لَمْ يَعْرِفْ نَفْسَهُ أَنَّهُ إِيلِيَا حَتَّى أَنْكَرَ فَقَالَ: لَسْتُ أَنَا، وَقَدْ شَهِدَ عِيسَى أَنَّهُ إِيلِيَا فِي الْبَابِ الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى قَوْلُ؟ عِيسَى عليه السلام فِي حَقِّ يَحْيَى عليه السلام هَكَذَا: (14) وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَقْبَلُوا فَهَذَا هُوَ إِيلِيَا الْمُزْمَعُ أَنْ يَأْتِيَ. وَفِي الْبَابِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى هَكَذَا (10) وَسَأَلَهُ تَلَامِيذُهُ قَائِلِينَ فَمَاذَا يَقُولُ الْكَتَبَةُ: إِنَّ إِيلِيَا يَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَ أَوَّلًا (11) فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ إِيلِيَا يَأْتِي أَوَّلًا وَيَرُدُّ كُلَّ شَيْءٍ (12) وَلَكِنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ إِيلِيَا قَدْ جَاءَ وَلَمْ يَعْرِفُوهُ، بَلْ عَمِلُوا بِهِ كُلَّ مَا أَرَادُوا، كَذَلِكَ ابْنُ الْإِنْسَانِ أَيْضًا سَوْفَ يَتَأَلَّمُ مِنْهُمْ (13) حِينَئِذٍ فَهِمَ التَّلَامِيذُ أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ عَنْ يُوحَنَّا الْمَعْمِدَانِ. وَظَهَرَ مِنَ الْعِبَارَةِ الْأَخِيرَةِ أَنَّ عُلَمَاءَ الْيَهُودِ لَمْ يُعَرِّفُوهُ بِأَنَّهُ إِيلِيَا، وَفَعَلُوا بِهِ مَا فَعَلُوا، وَأَنَّ الْحَوَارِيِّينَ أَيْضًا لَمْ يَعْرِفُوهُ بِأَنَّهُ إِيلِيَا، مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا أَنْبِيَاءَ فِي زَعْمِ الْمَسِيحِيِّينَ، وَأَعْظَمُ رُتْبَةٍ مِنْ مُوسَى عليه السلام، وَكَانُوا اعْتَمَدُوا مِنْ يَحْيَى عليه السلام، وَرَأَوْهُ مِرَارًا، وَكَانَ مَجِيئُهُ ضَرُورِيًّا قَبْلَ إِلَهِهِمْ وَمَسِيحِهِمْ. وَفِي الْآيَةِ (33) مِنَ الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنْ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا قَوْلُ يَحْيَى هَكَذَا:وَأَنَا لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُهُ لَكِنَّ الَّذِي أَرْسَلَنِي لِأُعَمَّدَ بِالْمَاءِ ذَاكَ قَالَ لِي: الَّذِي تَرَى الرُّوحَ نَازِلًا وَمُسْتَقِرًّا عَلَيْهِ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي يُعَمَّدُ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَأَنَا لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُهُ. عَلَى زَعْمِ الْقِسِّيسِينَ أَنَا لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُهُ مَعْرِفَةً جَيِّدَةً بِأَنَّهُ الْمَسِيحُ الْمَوْعُودُ بِهِ إِلَى ثَلَاثِينَ سَنَةً مَا لَمْ يَنْزِلِ الرُّوحُ الْقُدُسُ، لَعَلَّ كَوْنَ وِلَادَةِ الْمَسِيحِ مِنَ الْعَذْرَاءِ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُعَامَلَاتِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْمَسِيحِ، وَإِلَّا فَكَيْفَ يَصِحُّ هَذَا لَكِنِّي أَقْطَعُ النَّظَرُ عَنْ هَذَا وَأَقُولُ: إِنَّ يَحْيَى أَشْرَفُ الْأَنْبِيَاءِ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ بِشَهَادَةِ عِيسَى عليه السلام، كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي الْبَابِ الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى، وَإِنَّ عِيسَى عليه السلام إِلَهُهُ وَرَبُّهُ عَلَى زَعْمِ الْمَسِيحِيِّينَ، وَكَانَ مَجِيئُهُ ضَرُورِيًّا قَبْلَ الْمَسِيحِ، وَكَانَ كَوْنُهُ إِيلِيَا يَقِينِيًّا، فَإِذَا لَمْ يَعْرِفْ هَذَا النَّبِيُّ الْأَشْرَفُ نَفْسَهُ إِلَى آخِرِ الْعُمْرِ، وَلَمْ يَعْرِفْ إِلَهَهُ وَرَبَّهُ إِلَى الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَكَذَا لَمْ يَعْرِفِ الْحَوَارِيُّونَ الَّذِينَ هُمْ أَفْضَلُ مِنْ مُوسَى وَسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ مُدَّةَ حَيَاةِ يَحْيَى أَنَّهُ إِيلِيَا، فَمَاذَا رَتَّبَهُ الْعُلَمَاءُ وَالْعَوَامُّ عِنْدَهُمْ فِي مَعْرِفَةِ النَّبِيِّ اللَّاحِقِ بِخَبَرِ النَّبِيِّ الْمُتَقَدِّمِ عَنْهُ وَتَرَدُّدُهُمْ فِيهِ؟ وقيافا رَئِيسَ الْكَهَنَةِ كَانَ نَبِيًّا عَلَى شَهَادَةِ يُوحَنَّا، كَمَا هُوَ- مُصَرَّحٌ بِهِ فِي الْآيَةِ الْحَادِيَةِ وَالْخَمْسِينَ مِنَ الْبَابِ الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ إِنْجِيلِهِ، وَهُوَ أَفْتَى بِقَتْلِ عِيسَى عليه السلام وَكُفْرِهِ وَأَهَانَهُ، كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي الْبَابِ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى، وَلَوْ كَانَتْ عَلَامَاتُ الْمَسِيحِ فِي كُتُبِهِمْ مُصَرَّحَةً بِحَيْثُ لَا يَبْقَى الِاشْتِبَاهُ فيها عَلَى أَحَدٍ، مَا كَانَ مَجَالٌ لِهَذَا النَّبِيِّ الْمُفْتِي بِقَتْلِ إِلَهَهُ، وَبِكُفْرِهِ أَنْ يُفْتِيَ بِقَتْلِهِ وَكُفْرِهِ.وَنَقَلَ مَتَّى وَلُوقَا فِي الْبَابِ الثَّالِثِ، وَمُرْقُسُ وَيُوحَنَّا فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنْ أَنَاجِيلِهِمْ خَبَرَ أَشْعِيَا فِي حَقِّ يَحْيَى- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ-، وَأَقَرَّ يَحْيَى عليه السلام بِأَنَّ هَذَا الْخَبَرَ فِي حَقِّهِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ يُوحَنَّا، وَهَذَا الْخَبَرُ فِي الْآيَةِ الثَّالِثَةِ مِنَ الْبَابِ الْأَرْبَعِينَ مِنْ كِتَابِ أَشْعِيَا هَكَذَا (صَوَّتَّ الْمُنَادِي فِي الْبَرِّيَّةِ سَهِّلُوا طَرِيقَ الرَّبِّ أَصْلِحُوا فِي الْبَوَادِي سَبِيلًا لِإِلَهِنَا، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي شَيْءٍ مِنَ الْحَالَاتِ الْمُخْتَصَّةِ بِيَحْيَى عليه السلام لَا مِنْ صِفَاتِهِ، وَلَا مِنْ زَمَانِ خُرُوجِهِ وَلَا مَكَانِ خُرُوجِهِ، بِحَيْثُ لَا يَبْقَى الِاشْتِبَاهُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنِ ادِّعَاءُ يَحْيَى عليه السلام بِأَنَّ هَذَا الْخَبَرَ فِي حَقِّهِ، وَكَذَا ادِّعَاءُ مُؤَلِّفِي الْعَهْدِ الْجَدِيدِ لَمَا ظَهَرَ هَذَا لِلْعُلَمَاءِ الْمَسِيحِيَّةِ وَخَوَاصَّهُمْ فَضْلًا عَنِ الْعَوَامِّ؛ لِأَنَّ وَصْفَ النِّدَاءِ فِي الْبَرِّيَّةِ يَعُمُّ أَكْثَرَ الْأَنْبِيَاءِ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ الَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِ أَشْعِيَا عليه السلام، بَلْ يَصْدُقُ عَلَى عِيسَى عليه السلام أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُنَادِي مِثْلَ نِدَاءِ يَحْيَى عليه السلام: تُوبُوا لِأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاءِ، وَسَيَظْهَرُ لَكَ فِي الْأَمْرِ السَّادِسِ حَالُ الْإِخْبَارَاتِ الَّتِي نَقَلَهَا الْإِنْجِيلِيُّونَ فِي حَقِّ عِيسَى عليه السلام عَنِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَلَا نَدَّعِي أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ أَخْبَرُوا عَنْ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِخْبَارُ كُلٍّ مِنْهُمْ بِصِفَتِهِ مُفَصَّلًا بِحَيْثُ لَا يَكُونُ فِيهِ مَجَالُ التَّأْوِيلِ لِلْمُعَانِدِ.قَالَ الْإِمَامُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي ذَيْلِ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (2: 42): وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَظْهَرَ فِي الْبَاءِ فِي قَوْلِهِ: {بِالْبَاطِلِ} أَنَّهَا بَاءُ الِاسْتِعَانَةِ كَالَّتِي فِي قَوْلِكَ: كَتَبْتُ بِالْقَلَمِ. وَالْمَعْنَى: لَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ، بِسَبَبِ الشُّبَهَاتِ الَّتِي تُورِدُونَهَا عَلَى السَّامِعِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النُّصُوصَ الْوَارِدَةَ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ عليه السلام كَانَتْ نُصُوصًا خَفِيَّةً تَحْتَاجُ فِي مَعْرِفَتِهَا إِلَى الِاسْتِدْلَالِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ كَانُوا يُجَادِلُونَ فِيهَا، وَيُشَوِّشُونَ وَجْهَ الدَّلَالَةِ عَلَى الْمُتَأَمِّلِينَ فِيهَا بِسَبَبِ إِلْقَاءِ الشُّبَهَاتِ انْتَهَى كَلَامُهُ بِلَفْظِهِ.وَقَالَ الْمُحَقِّقُ عَبْدُ الْحَكِيمِ السَّيَالَكُوتِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى الْبَيْضَاوِيِّ: هَذَا فَصْلٌ يَحْتَاجُ إِلَى مَزِيدِ شَرْحٍ، وَهُوَ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَتَصَوَّرَ أَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ أَتَى بِلَفْظِةٍ مُعْرَضَةٍ، وَإِشَارَةٍ مُدْرَجَةٍ لَا يَعْرِفُهَا إِلَّا الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ. وَذَلِكَ لِحِكْمَةٍ إِلَهِيَّةٍ، وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ: مَا انْفَكَّ كُتَّابٌ مُنَزَّلٌ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ تَضَمُّنِ ذِكْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَكِنْ بِإِشَارَاتٍ، وَلَوْ كَانَ مُنْجَلِيًّا لِلْعَوَامِّ لَمَّا عُوتِبَ عُلَمَاؤُهُمْ فِي كِتْمَانِهِ، ثُمَّ ازْدَادَ ذَلِكَ غُمُوضًا بِنَقْلِهِ مِنْ لِسَانٍ إِلَى لِسَانٍ مِنَ الْعِبْرَانِيِّ إِلَى السُّرْيَانِيِّ، وَمِنَ السُّرْيَانِيِّ إِلَى الْعَرَبِيِّ. وَقَدْ ذَكَرْتُ مُحَصِّلَةَ أَلْفَاظٍ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ إِذَا اعْتَبَرْتَهَا وَجَدْتَهَا دَالَّةً عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ عليه السلام، بِتَعْرِيضٍ هُوَ عِنْدَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ جَلِيٌّ، وَعِنْدَ الْعَامَّةِ خَفِيٌّ. انْتَهَى كَلَامُهُ بِلَفْظِهِ.الْأَمْرُ الثَّالِثُ:ادِّعَاءُ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ مَا كَانُوا يَنْتَظِرُونَ نَبِيًّا آخَرَ غَيْرَ الْمَسِيحِ وَإِيلِيَا ادِّعَاءٌ بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ، بَلْ كَانُوا مُنْتَظِرِينَ لِغَيْرِهِمَا أَيْضًا، لِمَا عَلِمْتَ فِي الْأَمْرِ الثَّانِي أَنَّ عُلَمَاءَ الْيَهُودِ الْمُعَاصِرِينَ لِعِيسَى عليه السلام سَأَلُوا يَحْيَى عليه السلام أَوَّلًا: أَنْتَ الْمَسِيحُ؟ وَلَمَّا أَنْكَرَ سَأَلُوهُ: أَنْتَ إِيلِيَا؟ وَلِمَا أَنْكَرَ سَأَلُوهُ: أَنْتَ النَّبِيُّ؟ أَيِ النَّبِيُّ الْمَعْهُودُ الَّذِي أَخْبَرَ بِهِ مُوسَى، فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا النَّبِيَّ كَانَ مُنْتَظَرًا مِثْلَ الْمَسِيحِ وَإِيلِيَا، وَكَانَ مَشْهُورًا بِحَيْثُ مَا كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى ذِكْرِ الِاسْمِ بَلِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ كَانَتْ كَافِيَةً، وَفِي الْبَابِ السَّابِعِ مِنْ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا بَعْدَ نَقْلِ قَوْلِ عِيسَى عليه السلام هَكَذَا: (40) فَكَثِيرُونَ مِنَ الْجَمْعِ لَمَّا سَمِعُوا هَذَا الْكَلَامَ قَالُوا: هَذَا بِالْحَقِيقَةِ هُوَ النَّبِيُّ (41) وَآخَرُونَ قَالُوا: هَذَا هُوَ الْمَسِيحُ. وَظَهَرَ مِنَ الْكَلَامِ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ الْمَعْهُودَ عِنْدَهُمْ كَانَ غَيْرَ الْمَسِيحِ، وَلِذَلِكَ قَابَلُوهُ بِالْمَسِيحِ.الْأَمْرُ الرَّابِعُ:ادِّعَاءُ أَنَّ الْمَسِيحَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَلَا نَبِيَّ بَعْدَهُ بَاطِلٌ، لِمَا عَرَفْتَ فِي الْأَمْرِ الثَّالِثِ أَنَّهُمْ كَانُوا مُنْتَظِرِينَ لِلنَّبِيِّ الْمَعْهُودِ الْآخَرِ الَّذِي يَكُونُ غَيْرَ الْمَسِيحِ وَإِيلِيَا عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَلَمَّا لَمْ يَثْبُتْ بِالْبُرْهَانِ مَجِيئُهُ قَبْلَ الْمَسِيحِ فَهُوَ بَعْدُهُ؛ وَلِأَنَّهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِنُبُوَّةِ الْحَوَارِيِّينَ وَبُولَسَ، بَلْ بِنُبُوَّةِ غَيْرِهِمْ أَيْضًا، وَفِي الْبَابِ الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ كِتَابِ الْأَعْمَالِ هَكَذَا: (27) وَفِي تِلْكَ الْأَيَّامِ انْحَدَرَ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ أُورْشَلِيمَ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ (28) وَقَامَ وَاحِدٌ مِنْهُمُ اسْمُهُ أَغَابُوسَ وَأَشَارَ بِالرُّوحِ أَنَّ جُوعًا عَظِيمًا كَانَ عَتِيدًا أَنْ يَصِيرَ عَلَى جَمِيعِ الْمَسْكُونَةِ الَّذِي صَارَ فِي أَيَّامِ كَلَوِدْيُوسَ قَيْصَرَ. فَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ كَانُوا أَنْبِيَاءَ عَلَى تَصْرِيحِ إِنْجِيلِهِمْ. وَأَخْبَرَ وَاحِدٌ مِنْهُمُ اسْمُهُ أَغَابُوسُ عَنْ وُقُوعِ الْجَدْبِ الْعَظِيمِ، وَفِي الْبَابِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنَ الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ هَكَذَا: (10) وَبَيْنَمَا نَحْنُ مُقِيمُونَ أَيَّامًا كَثِيرَةً انْحَدَرَ مِنَ الْيَهُودِ نَبِيٌّ اسْمُهُ أَغَابُوسُ (11) فَجَاءَ إِلَيْنَا وَأَخَذَ مِنْطَقَةَ بُولَسَ وَرَبَطَ يَدَيْ نَفْسَهُ وَرِجْلَيْهِ وَقَالَ: هَذَا يَقُولُهُ الرُّوحُ الْقُدُسُ الرَّجُلُ الَّذِي لَهُ هَذِهِ الْمِنْطَقَةُ. هَكَذَا سَيَرْبُطُهُ الْيَهُودُ فِي أُورْشَلِيمَ وَيُسَلِّمُونَهُ إِلَى أَيْدِي الْأُمَمِ وَفِي هَذِهِ الْعِبَارَةِ أَيْضًا تَصْرِيحٌ بِكَوْنِ أَغَابُوسَ نَبِيًّا، وَقَدْ يَتَمَسَّكُونَ لِإِثْبَاتِ هَذَا الِادِّعَاءِ بِقَوْلِ الْمَسِيحِ الْمَنْقُولِ فِي الْآيَةِ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ مِنَ الْبَابِ السَّابِعِ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى هَكَذَا: احْتَرِزُوا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الْكَذَبَةِ الَّذِينَ يَأْتُونَكُمْ بِثَبَاتِ الْحُمْلَانِ وَلَكِنَّهُمْ مِنْ دَاخِلٍ ذِئَابٌ خَاطِفَةٌ. وَالتَّمَسُّكُ بِهِ عَجِيبٌ؛ لِأَنَّ الْمَسِيحَ عليه السلام أَمَرَ بِالِاحْتِرَازِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الْكَذَبَةِ لَا الْأَنْبِيَاءِ الصَّدَقَةِ أَيْضًا؛ وَلِذَلِكَ قَيَّدَ بِالْكَذَبَةِ. نَعَمْ، لَوْ قَالَ: احْتَرِزُوا مِنْ كُلِّ نَبِيٍّ يَجِيءُ بَعْدِي، لَكَانَ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ وَجْهٌ لِلتَّمَسُّكِ، وَإِنْ كَانَ وَاجِبَ التَّأْوِيلِ عِنْدَهُمْ لِثُبُوتِ نُبُوَّةِ الْأَشْخَاصِ الْمَذْكُورِينَ، وَقَدْ ظَهَرَ الْأَنْبِيَاءُ الْكَذَبَةُ الْكَثِيرُونَ فِي الطَّبَقَةِ الْأُولَى بَعْدَ صُعُودِهِ، كَمَا يَظْهَرُ مِنَ الرَّسَائِلِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْعَهْدِ الْجَدِيدِ فِي الْبَابِ الْحَادِيَ عَشَرَ مِنَ الرِّسَالَةِ الثَّانِيَةِ إِلَى أَهْلِ فورنيثوس هَكَذَا (12) وَلَكِنْ مَا أَفْعَلُهُ سَأَفْعَلُهُ لِأَقْطَعَ فُرْصَةَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ فُرْصَةً كَيْ يُوجَدُوا كَمَا نَحْنُ أَيْضًا فِيمَا يَفْتَخِرُونَ بِهِ (13) لِأَنَّ مِثْلَ هَؤُلَاءِ رُسُلٌ كَذَبَةٌ فَعَلَةٌ مَاكِرُونَ، مُغَيِّرُونَ شَكْلَهُمْ إِلَى شِبْهِ رُسُلِ الْمَسِيحِ. فَمُقَدِّسُهُمْ يُنَادِي بِأَعْلَى نِدَاءٍ أَنَّ الرُّسُلَ الْكَذَبَةَ الْغَدَّارِينَ ظَهَرُوا فِي عَهْدِهِ وَقَدْ تَشَبَّهُوا بِرُسُلِ الْمَسِيحِ.وَقَالَ آدمُ كلارك الْمُفَسِّرُ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ: هَؤُلَاءِ الْأَشْخَاصُ كَانُوا يَدَّعُونَ كَذِبًا أَنَّهُمْ رُسُلُ الْمَسِيحِ، وَمَا كَانُوا رُسُلَ الْمَسِيحِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَكَانُوا يَعِظُونَ وَيَجْتَهِدُونَ لَكِنْ مَقْصُودَهُمْ مَا كَانَ إِلَّا جَلْبَ الْمَنْفَعَةِ. وَفِي الْبَابِ الرَّابِعِ مِنَ الرِّسَالَةِ الْأُولَى لِيُوحَنَّا هَكَذَا: أَيُّهَا الْأَحْبَابُ لَا تُصَدِّقُوا كُلَّ رُوحٍ بَلِ امْتَحِنُوا الْأَرْوَاحَ هَلْ هِيَ مِنَ اللهِ؟ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ الْكَذَبَةَ كَثِيرُونَ قَدْ خَرَجُوا إِلَى الْعَالِمِ. فَظَهَرَ مِنَ الْعِبَارَتَيْنِ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ الْكَذَبَةَ قَدْ ظَهَرُوا فِي عَهْدِ الْحَوَارِيِّينَ. وَفِي الْبَابِ الثَّامِنِ مِنْ كِتَابِ الْأَعْمَالِ هَكَذَا: (9) وَكَانَ قُبُلًا فِي الْمَدِينَةِ رَجُلٌ اسْمُهُ سِيمُونُ يَسْتَعْمِلُ السِّحْرَ وَيُدْهِشُ شَعْبَ السَّامِرَةِ قَائِلًا إِنَّهُ شَيْءٌ عَظِيمٌ (10) وَكَانَ الْجَمِيعُ يَتَّبِعُونَهُ مِنَ الصَّغِيرِ إِلَى الْكَبِيرِ قَائِلِينَ: هَذَا هُوَ قُوَّةُ اللهِ الْعَظِيمَةِ. وَفِي الْبَابِ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنَ الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ هَكَذَا: وَلَمَّا اجْتَازَا الْجَزِيرَةَ إِلَى بَاقُوسَ وَجَدَا رَجُلًا سَاحِرًا نَبِيًّا كَذَّابًا يَهُودِيًّا اسْمُهُ باريشوع. وَكَذَا سَيَظْهَرُ الدَّجَّالُونَ الْكَذَّابُونَ يَدَّعِي كُلٌّ مِنْهُمْ أَنَّهُ الْمَسِيحُ، كَمَا أَخْبَرَ عِيسَى عليه السلام، وَقَالَ: لَا يُضِلُّكُمْ أَحَدٌ فَإِنَّ كَثِيرِينَ سَيَأْتُونَ بِاسْمِي قَائِلِينَ: أَنَا هُوَ الْمَسِيحُ وَيُضِلُّونَ كَثِيرِينَ. كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ فِي الْبَابِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ إِنْجِيلِ مَتَّى. فَمَقْصُودُ الْمَسِيحِ عليه السلام التَّحْذِيرُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ الْكَذَبَةِ وَالْمُسَحَاءِ الْكَذَبَةِ لَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الصَّادِقِينَ أَيْضًا؛ وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَ الْقَوْلِ الْمَذْكُورِ فِي الْبَابِ السَّابِعِ:مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ هَلْ يَجْتَنُونَ مِنَ الشَّوْكِ عِنَبًا أَوْ مِنَ الْحَسَكِ تِينًا. وَمُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الصَّادِقِينَ كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ ثِمَارُهُ عَلَى مَا عَرَفْتُ فِي الْمَسَالِكِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَلَا اعْتِبَارَ لِمَطَاعِنِ الْمُنْكِرِينَ كَمَا سَتَعْرِفُ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي؛ وَلِأَنَّ كُلَّ شَخْصٍ يَعْلَمُ أَنَّ الْيَهُودَ يُنْكِرُونَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- وَيُكَذِّبُونَهُ، وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ رَجُلٌ أَشَرُّ مِنْهُ مِنِ ابْتِدَاءِ الْعَالَمِ إِلَى زَمَانِ خُرُوجِهِ، وَكَذَا أُلُوفٌ مِنَ الْحُكَمَاءِ وَالْعُلَمَاءِ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَبْنَاءِ صِنْفِ الْقِسِّيسِينَ وَكَانُوا مَسِيحِيِّينَ ثُمَّ خَرَجُوا عَنْ هَذِهِ الْمِلَّةِ لِاسْتِقْبَاحِهِمْ إِيَّاهَا يُنْكِرُونَهُ وَيَسْتَهْزِئُونَ بِهِ وَبِمِلَّتِهِ وَأَلَّفُوا رَسَائِلَ كَثِيرَةً لِإِثْبَاتِ آرَائِهِمْ وَاشْتَهَرَتْ هَذِهِ الرَّسَائِلُ فِي أَكْنَافِ الْعَالَمِ وَيَزِيدُ مُتَّبِعُوهُمْ كُلَّ يَوْمٍ فِي دِيَارِ أُورُبَّا، فَكَمَا أَنَّ إِنْكَارَ الْيَهُودِ هَؤُلَاءِ الْحُكَمَاءِ وَالْعُلَمَاءِ فِي حَقِّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ غَيْرُ مَقْبُولٍ عِنْدَنَا، فَكَذَا إِنْكَارُ أَهْلِ التَّثْلِيثِ فِي حَقِّ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم غَيْرُ مَقْبُولٍ عِنْدَنَا.
|