الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وفي بعض الروايات أنه قال: ضعوها في ذلك الغار، وهو غار إلى جنب صومعته، فوضعوها، فجاء الشيطان فقال له: انزل إِليها فامسحها بيدك تعافى، وتنصرف إلى أهلها، فنزل، فلما دنا إلى باب الغار دخل الشيطان فيها، فإذا هي تركض، فسقطت عنها ثيابها، فنظر العابد إلى شيء لم ير مثله حسنًا وجمالًا، فلم يتمالك أن وقع عليها، وضرب على أذنه، فجعل يختلف اليها إلى أن حملت، فقال له الشيطان: ويحك يا برصيصا قد افتُضحت، فهل لك أن تقتل هذه وتتوب؟! فأن سألوك عنها فقل: جاء شيطانها، فذهب بها، فلم يزل بها حتى قتلها، ودفنها، ثم رجع إلى صومعته، فأقبل على صلاته إِذ جاء إخوتها يسألون عنها، فقالوا: يا برصيصا! ما فعلت أختنا؟ قال: جاء شيطانها فذهب بها، ولم أطقه، فصدَّقوه، وانصرفوا.وفي بعض الروايات أنه قال: دعوت لها، فعافاها الله، ورجعتْ اليكم، فتفرَّقوا ينظرون لها أثرًا، فلما أمسَوْا جاء الشيطان إلى كبيرهم في منامه، فقال: ويحك: إِن برصيصا فعل بأختك كذا وكذا.وإنه دفنها في موضع كذا من جبل كذا، فقال: هذا حلم، وبرصيصا خير من ذلك، فتتابع عليه ثلاث ليال، ولا يكترث، فانطلق إِلى الأوسط كذلك، ثم إلى الأصغر مثل ذلك، فقال الأصغر لإخوته: لقد رأيت كذا وكذا، فقال الأوسط: وأنا والله، فقال الأكبر: وأنا والله، فأتوا برصيصا، فسألوه عنها.فقال: قد أعلمتكم بحالها، فكأنكم اتَّهمتموني، قالوا: لا والله، واستحيَوْا، وانصرفوا، فجاءهم الشيطان فقال: ويحكم إنها لمدفونة في موضع كذا وكذا، وإن إِزارها لخارج من التراب، فانطلقوا، فحفروا عنها، فرأوها، فقالوا: يا عدوَّ الله لم قتلتها؟ اهبط.فهدموا صومعته، ثم أوثقوه، وجعلوا في عنقه حبلًا، ثم قادوه إلى الملك فأقرَّ على نفسه، وذلك أن الشيطان عرض له، فقال: تقتلها ثم تكابر، فاعترف، فأمر الملك بِقَتْلِهِ وصَلْبِهِ، فعرض له الأبيض، فقال: أتعرفني؟ قال: لا، قال: أنا صاحبك الذي علَّمتك الدعوات، ويحك ما اتَّقيت الله في أمانة خنت أهلها، أما استحيَيْتَ من الله؟! ألم يكفك ذلك حتى أقررت ففضحت نفسك وأشباهك بين الناس؟! فإن مِتَّ على هذه الحالة لم تفلح، ولا أحدٌ من نظرائك، قال: فكيف أصنع؟ قال: تطيعني في خصلة حتى أُنجيك، وآخذ بأعينهم، وأُخرجك من مكانك، قال: ما هي؟ قال: تسجد لي، فسجد له، فقال: هذا الذي أردت منك صارت عاقبة أمرك أن كفرت {إني بريء منك} ثم قتل.فضرب الله هذا المثل لليهود حين غَرَّهم المنافقون، ثم أسلموهم.قوله تعالى: {إني أخاف الله} ونصب ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو ياء {إِنيَ} وأسكنها الباقون.وقد بيَّنا المعنى في [الأنفال: 48] {فكان عاقبتهما} يعني: الشيطان وذلك الكافر.قوله تعالى: {ولتنظر نفس ما قدمت لغد} أي: لينظر أحدكم أيّ شيء قَدَّم؟ أعملًا صالحًا يُنجيه؟ أم سيئًا يُوبِقُه؟ {ولا تكونوا كالذين نسوا الله} أي: تركوا أمره {فأنساهم أنفسهم} أي: أنساهم حظوظ أنفسهم، فلم يعملوا بالطاعة، ولم يقدِّموا خيرًا.قال ابن عباس: يريد قريظة، والنضير، وبني قينقاع.قوله تعالى: {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل} أخبر الله بهذا عن تعظيم شأن القرآن، وأنه لو جعل في جبل- على قساوته وصلابته- تمييزًا، كما جعل في بني آدم، ثم أنزل عليه القرآن لتشقَّق من خشية الله، وخوفًا أن لا يؤدِّيَ حق الله في تعظيم القرآن.و(الخاشع): المتطأطئ الخاضع، و(المتصدِّع): المتشقِّق.وهذا توبيخ لمن لا يحترم القرآن، ولا يؤثِّر في قلبه مع الفهم والعقل، وَيَدُلُّك على هذا المثل قوله تعالى: {وتلك الأمثال نضربها للناس} ثم أخبر بعظمته وربوبيته، فقال تعالى: {هو الله الذي لا إله إلا هو} قال الزجاج: قوله تعالى: {هو الله} ردٌّ على قوله تعالى: في أول السورة: {سبح لله ما في السموات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم}.فأما هذه الأسماء، فقد سبق ذكر {الله}، و{الرحمن}، و{الرحيم} في (الفاتحة) وذكرنا معنى {عالم الغيب والشهادة} في [الأنعام: 73].و{الملك} في سورة [المؤمنين: 116].فأما {القدوس} فقرأ أبو الأشهب، وأبو نهيك، ومعاذ القارئ بفتح القاف.قال أبو سليمان الخطابي: {القدوس}: الطاهر من العيوب، المنزَّه عن الأنداد والأولاد.(والقدس): الطهارة. ومنه سمي: بيت المقدس، ومعناه: المكان الذي يُتَطَهَّرُ فيه من الذنوب، وقيل للجنة: حظيرة القدس، لطهارتها من آفات الدنيا.والقدس: السطل الذي يتطهر فيه، ولم يأت من الأسماء على فُعُّول بضم الفاء الا (قُدُّوس)، و(سُبُّوح) وقد يقال أيضًا: قَدُّوس، وسَبُّوح، بالفتح فيهما، وهو القياس في الأسماء، كقولهم سَفَّود، وكَلُّوب.فأما {السلام} فقال ابن قتيبة: سمى نفسه سلامًا، لسلامته مما يلحق الخلق من العيب والنقص والفناء.وقال الخطابي: معناه: ذو السلام.والسلام في صفة الله سبحانه: هو الذي سَلِمَ من كل عيب، وبرئ من كل آفة ونقص يلحق المخلوقين.قال: وقد قيل: هو الذي سَلِمَ الخلقُ من ظلمه.فأما {المؤمن}، ففيه ستة أقوال:أحدها: أنه الذي أَمِنَ الناسُ ظلمَهُ، وأَمِنَ مَنْ آمَنَ به عذابَهُ، قاله ابن عباس، ومقاتل.والثاني: أنه المجير، قاله القرظي.والثالث: الذي يصدِّق المؤمنين إذا وحَّدوه، قاله ابن زيد.والرابع: أنه الذي وَحَّد نفسه، لقوله تعالى: {شهد الله أنه لا إِله إلا هو} [آل عمران: 18] ذكره الزجاج.والخامس: أنه الذي يُصدِّق عباده وعده، قاله ابن قتيبة.والسادس: أنه يصدِّق ظنون عباده المؤمنين، ولا يُخيِّب آمالَهم، كقول النبي عليه الصلاة والسلام فيما يحكيه عن ربه عز وجل: {أنا عند ظن عبدي بي} حكاه الخطابي.فأما {المهيمن} ففيه أربعة أقوال:أحدها: أنه الشهيد، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والكسائي.قال الخطابي: ومنه قوله تعالى: {ومهيمنًا عليه} [المائدة: 48]، فالله الشاهد على خلقه بما يكون منهم من قول أو فعل.والثاني: أنه الأمين، قاله الضحاك، قال الخطابي: وأصله: مؤيمن، فقلبت الهمزة هاءً، لأن الهاء أخَفُّ عليهم من الهمزة.ولم يأت مُفَيْعِلٌ في غير التصغير، إلا في ثلاثة أحرف (مسيطر) و(مُبيطر) و(مهيمن) وقد ذكرنا في سورة [الطور: 37] عن أبي عبيدة، أنها خمسة أحرف:والثالث: المصدِّق فيما أخبر، قاله ابن زيد.والرابع: أنه الرقيب على الشيء، والحافظ له، قاله الخليل.قال الخطابي: وقال بعض أهل اللغة.الهيمنة: القيام على الشيء، والرعاية له، وأنشد:
يريد القائم على الناس بعده بالرِّعاية لهم.وقد زدنا هذا شرحًا في [المائدة: 48] وبيَّنَّا معنى: {العزيز} في [البقرة: 129].فأما {الجبار}، ففيه أربعة أقوال:أحدها: أنه العظيم، قاله ابن عباس.والثاني: أنه الذي يقهر الناس ويجبرهم على ما يريد، قاله القرظي والسدي.وقال قتادة: جبر خلقه على ما شاء.وحكى الخطابي: أنه الذي جبر الخلق على ما أراد من أمره ونهيه.يقال: جبره السلطان، وأجبره.والثالث: أنه الذي جبر مفاقر الخلق، وكفاهم أسباب المعاش والرزق.والرابع: أنه العالي فوق خلقه، من قولهم: تجبر النبات: إِذا طال وعلا، ذكر القولين الخطابي.فأما {المتكبر} ففيه خمسة أقوال:أحدها: أنه الذي تكبَّر عن كل سوءٍ، قاله قتادة.والثاني: أنه الذي تكبَّر عن ظلم عباده، قاله الزجاج.والثالث: أنه ذو الكبرياء، وهو الملك، قاله ابن الأنباري.والرابع: أنه المتعالى عن صفات الخلق.والخامس: أنه الذي يتكبَّر على عتاة خلقه، إذا نازعوه العظمة، فقصمهم، ذكرهما الخطابي.قال: والتاء في {المتكبر} تاء التفرُّد والتخصُّص، لأن التعاطي، والتكلّف، والكبر لا يليق بأحد من المخلوقين، وإنما سمة العبد الخضوع والتذلل.وقيل: إن المتكبر من الكبرياء الذي هو عظمة الله، لا من الكبر الذي هو مذموم في الخلق.وأما {الخالق}، فقال الخطابي: هو المتبدئ للخلق المخترع لهم على غير مثال سبق، فأما في نعوت الآدميين، فمعنى الخلق: كقول زهير: يقول: إذا قدرت شيئًا قطعته، وغيرك يقدر ما لا يقطعه، أي: يتمنَّى ما لا يبلغه، و{البارئ} الخالق.يقال: بَرَأَ الله الخلق، يَبْرَؤُهُمْ.{والمصوِّر}: الذي أنشأ خلقه على صُوَرٍ مختلفةٍ ليتعارفوا بها.ومعنى التصوير: التخطيط، والتشكيل.وقرأ الحسن، وأبو الجوزاء، وأبو عمران، وابن السميفع، {البارئ المصور} بفتح الواو والراء جميعًا، يعني: آدم عليه السلام.وما بعد هذا قد تقدم بيانه [الأعراف: 180، والإسراء: 110] إلى آخر السورة. اهـ. .قال الخازن: قوله: {سبح لله ما في السموات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم}قال المفسرون: نزلت هذه السورة في بني النضير وهم طائفة من اليهود وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل المدينة صالحه بنو النضير على أن لا يقاتلوه ولا يقاتلوا معه فقبل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرًا وظهر على المشركين قال بنو النضير والله إنه النبي الأمي الذي نجد نعته في التوراة لا ترد له راية فلما غزا أحدًا وهزم المسلمون ارتابوا وأظهروا العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين ونقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وركب كعب بن الأشرف في أربعين راكبًا من اليهود إلى مكة فأتوا قريشًا فحالفوهم وعاقدوهم على أن تكون كلمتهم واحدة على محمد صلى الله عليه وسلم ودخل أبو سفيان في أربعين من قريش وكعب بن الأشرف في أربعين من اليهود المسجد الحرام وأخذ بعضهم على بعض الميثاق بين أستار الكعبة ثم رجع كعب وأصحابه إلى المدينة فنزل جبريل فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما تعاقد عليه كعب وأبو سفيان وأمره بقتل كعب بن الأشرف فقتله محمد بن مسلمة غيلة.وقد تقدمت القصة في سورة آل عمران وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد اطلع منهم على خيانة حين أتاهم يستعينهم في دية الرجلين المسلمين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري في منصرفه من بئر معونة فهموا بطرح حجر على النبي صلى الله عليه وسلم من الحصن فعصمه الله منهم وأخبره بذلك وقد تقدمت القصة في سورة المائدة.فلما قتل كعب بن الأشرف أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر الناس بالمسير إلى بني النضير وكانوا بقرية يقال لها زهرة فلما سار إليها النبي صلى الله عليه وسلم وجدهم ينوحون على كعب بن الأشرف فقالوا يا محمد واعية على أثر واعية وباكية على أثر باكية قال نعم فقالوا ذرنا نبك شجونا ثم ائتمر أمرك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اخرجوا من المدينة» فقالوا الموت أقرب إلينا من ذلك ثم تنادوا بالحرب وأذنوا بالقتال ودس المنافقون عبد الله بن أبي وأصحابه إليهم أن لا تخرجوا من الحصين فإن قاتلوكم فنحن معكم ولا نخذلكم ولننصرنكم ولئن أخرجتم لنخرجن معكم فدربوا على الأزقة وحصنوها ثم إنهم أجمعوا على الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسلوا إليه أن اخرج إلينا في ثلاثين رجلًا من أصحابك وليخرج منا ثلاثون حتى نلتقي بمكان نصف بيننا وبينك فيسمعوا منك فإن صدقوك وآمنوا بك آمنا كلنا فخرج النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاثين من أصحابه وخرج إليه ثلاثون حبرًا من اليهود حتى كانوا في براز من الأرض فقال بعض اليهود لبعض كيف تخلصون إليه ومعه ثلاثون رجلًا من أصحابه كلهم يحب الموت قبله ولكن أرسلوا إليه كيف نفهم ونحن ستون اخرج في ثلاثة من أصحابك ويخرج إليك كثلاثة من علمائنا فيسمعون منك فإن آمنوا بك آمنا بك وصدقناك، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة من أصحابه وخرج ثلاثة من اليهود معهم الخناجر وأرادوا الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسلت امرأة ناصحة من بني النضير إلى أخيها وهو رجل مسلم من الأنصار فأخبرته بما أراد بنو النضير من الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل أخوها سريعًا حتى أدرك النبي صلى الله عليه وسلم فساره بخبرهم قبل أن يصل إليهم فرجع النبي صلى الله عليه وسلم فلما كان من الغد صبحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكتائب فحاصرهم إحدى وعشرين ليلة فقذف الله في قلوبهم الرعب وأيسوا من نصر المنافقين فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلح فأبى عليهم إلا أن يخرجوا من المدينة على ما يأمرهم به فقبلوا ذلك فصالحهم على الجلاء وعلى أن لهم ما أقلت الإبل من أموالهم إلا الحلقة وهي السلاح وعلى أن يخلوا لهم ديارهم وعقارهم وسائر أموالهم.
|