الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال القاسمي: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ}.أي: سبع سموات هي طرق للملائكة والكواكب فيها مسيرها.قال بعض علماء الفلك في تفسير هذه الآية: أي: سبعة أفلاك، للسبع سموات، لكل سماء طريق تجري بما معها من الأقمار. قال: فلذلك دلنا الله سبحانه بأن العالم الشمسيّ ينقسم إلى سبع طرائق، خلاف طريق الأرض الذي يعيّنه قوله تعالى: {فَوْقَكُمْ} فالمسافة ابتداء من منتصف البعد بين الشمس وعطارد تقريبًا، إلى منتهى فلك نبتون، تنقسم إلى سبعة أقسام بحسب بعد كل سيار. كل قسم تجري فيه سماء بما معها. ويسمى هذا الطريق فلكًا {وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ} أي: عن ذلك المخلوق، الذي هو السموات، أو جميع المخلوقات. فالتعريف على الأول، عهديّ، وعلى الثاني استغراقيّ. أي: ما كنا مهملين أمر الخلق، بل نحفظه وندبر أمره حتى يبلغ منتهى ما قدر له من الكمال، حسبما اقتضته الحكمة، وتعلقت به المشيئة.{وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ} أي: بتقدير يصلون معه إلى منفعتهم. أو بمقدار ما علمناه من حاجاتهم: {فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرض} أي: جعلناه قارًّا فيها، يتفجر من الأماكن التي أراد سبحانه إحياءها كقوله: {فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرض} [الزمر: 21]، {وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} أي: إزالته بالتغوير وبغيره، كما قدرنا على إنزاله. ففي تنكير ذهاب إيماء إلى كثرة طرقه، ومبالغة في الإبعاد به.قال الزمخشري: فعلى العباد أن يستعظموا النعمة في الماء، ويقيّدوها بالشكر الدائم، ويخافوا نفارها، إذا لم تشكر.{فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا} أي: في الجنات: {فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ}..قال الشنقيطي: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17)}.في قوله تعالى طرائق، وجهان من التفسير:أحدهما: أنها قيل لها طرائق، لأن بعضها فوق بعض من قولهم: طارق النعل إذا صيرها طاقًا فوق طاق، وركب بعضها عَلَى بعض، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «كأن وجوههم المجان المطرقة» أي التراس التي جعلت لها طبقات بعضها فوق بعض، ومنه قول الشاعر يصف نعلًا له مطارقة:يعني: نعال الإبل، ومنه قولهم: طائر طراق الريش، ومطرقة إذا ركب بعض ريشه بعضًا، ومنه قول زهير يصف بازيًا: وقول ذي الرمة يصف بازيًا أيضًا: وقول الآخر يصف قطاة: فعلى هذا القول فقوله: {سَبْعَ طَرَآئِقَ} يوضح معناه قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ الله سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا} [نوح: 15] الآية، وهذا قول الأكثر.الوجه الثاني: أنها قيل لها طرائق، لأنها طرق الملائكة في النزول والعروج، وقيل: لأنها طرائق الكواكب في مسيرها، وأما قول من قال قيل لها طرائق لأن الكل سماء طريقة، وهيأة غير هيأة الأخرى وقول من قال: طرائق؟ أي مبسوطات فكلاهما ظاهر البعد، وقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا عَنِ الخلق غَافِلِينَ} قد قدمنا أن معناه كقوله: {وَيُمْسِكُ السماء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض} [الحج: 65] لأن من يمسك السماء لو كان يغفل لسقطت فأهلكت الخلق كما تقدم إيضاحه وقال بعضهم {وَمَا كُنَّا عَنِ الخلق غَافِلِينَ} بل نحن القائمون بإصلاح جميع شؤونهم، وتيسير كل ما يحتاجون إليه وقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَآئِقَ} يعني السموات، مع عظمها فلا شك أنه قادر على خلق الإنسان كقوله تعالى: {لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس} [غافر: 57] وقوله تعالى: {أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السماء بَنَاهَا} [النازعات: 27] الآية. وقوله: {أَوَلَيْسَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض بِقَادِرٍ على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم} [يس: 81] والآيات بمثل هذا متعددة.وقد قدمنا براهين البعث التي هذا البرهان من جملتها، وأكثرنا من أمثلتها وهي مذكورة هنا، ولم نوضحها هنا لأنا أوضحناها فيما سبق في النحل والبقرة. والعلم عند الله تعالى.{وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرض وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18)}.ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه أنزله من السماء ماء معظمًا نفسه جل وعلا بصيغة الجمع المراد بها التعظيم وأن ذلك الماء الذي أنزله من السماء أسكنه في الأرض لينتفع به الناس في الآبار، والعيون، ونحو ذلك. وأنه جل وعلا قادر على إذهابه لو شاء أن يذهبه فيهلك جميع الخلق بسبب ذهاب الماء من أصله جوعًا وعطشًا وبين أنه أنزله بقدر أي بمقدار معين عنده يحصل به نفع الخلق ولا يكثره عليهم، حتى يكون كطوفان نوح لئلا يهلكهم، فهو ينزله بالقدر الذي فيه المصلحة، دون المفسدة سبحانه جل وعلا ما أعظمه وما أعظم لطفه بخلقه. وهذه المسائل الثلاث التي ذكرها في هذه الآية الكريمة، جاءت مبينة في غير هذا الموضع.الأولى: التي هي كونه: أنزله بقدر أشار إليها في قوله: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} [الحجر: 21].والثانية: التي هي إسكانه الماء المنزل من السماء في الأرض بينها في قوله جل وعلا {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السماء مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرض} [الزمر: 21] والينبوع: الماء الكثير وقوله: {فَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} [الحجر: 22] على ما قدمنا في الحجر.والثالثة: التي هي قدرته على إذهابه أشار لها في قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَّعِينٍ} [الملك: 30] ويشبه معناها قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الودق يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ} [النور: 43] فصرح بأن الودق الذي هو المطر يخرج من خلال السحاب الذي هو المزن، وهو الوعاء الذي فيه الماء وبين أن السحابة تمتلئ من الماء حتى تكون ثقيلة لكثرة ما فيها من الماء في قوله تعالى: {حتى إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ} [الأعراف: 57] الآية فقوله: ثقالًا جمع ثقيلة، وثقلها إنما هو بالماء الذي فيها وقوله تعالى: {وَيُنْشِىءُ السحاب الثقال} [الرعد: 12] جمع سحابة ثقيلة.وهذه الآيات القرآنية تدل على أن الله يجمع الماء في المزن، ثم يخرجه من خلال السحاب، وخلال الشيء ثقوبه وفروجه التي هي غير مسدودة، وبين جل وعلا أنه هو الذي ينزله ويصرفه بين خلقه كيف يشاء، فيكثر المطر في بلاد قوم سنة، حتى يكثر فيها الخصب وتتزايد فيها النعم، ليبتلي أهلها في شكر النعمة، وهل يعتبرون بعظم الآية في إنزال الماء، ويقل المطر عليهم في بعض السنين، فتهلك مواشيهم من الجدب ولا تنبت زروعهم، ولا تثمر أشجارهم، ليبتليهم بذلك، هل يتوبون إليه، ويرجعون إلى ما يرضيه.وبين أنه مع الإنعام العام على الخلق بإنزال المطر بالقدر المصلح وإسكان مائه في الأرض ليشربوا منه هم، وأنعامهم، وينتفعوا به أبى أكثرهم إلا الكفر به، وذلك في قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاءً طَهُورًا لِّنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا وَنُسْقِيَهِ مِمَّا خَلَقْنَآ أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ فأبى أَكْثَرُ الناس إِلاَّ كُفُورًا} [الفرقان: 48- 50].ولا شك أن من جملة من أبى منهم إلا كفورًا الذين يزعمون أن المطر لم ينزله منزل هو فاعل مختار، وإنما نزل بطبيعته، فالمنزل له عندهم: هو الطبيعة، وأن طبيعة الماء التبخر، إذا تكاثرت عليه درجات الحرارة من الشمس أو الاحتكاك بالريح، وأن ذلك البخار يرتفع بطبيعته. ثم يجتمع، ثم يتقاطر. وأن تقاطره ذلك أمر طبيعي لا فاعل له، وأنه هو المطر. فينكرون نعمة الله في إنزاله المطر وينكرون دلالة إنزاله على قدرة منزله، ووجوب الإيمان به واستحقاقه للعبادة وحده، فمثل هؤلاء داخلون في قوله: {فأبى أَكْثَرُ الناس إِلاَّ كُفُورًا} [الفرقان: 50] بعد قوله: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ}.وقد صرح في قوله: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ} أنه تعالى، هو مصرف الماء، ومنزله حيث شاء كيف شاء. ومن قبيل هذا المعنى: ما ثبت في صحيح مسلم من حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال «صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية في أثر السماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: أصبح من عبادي مؤمن بي، وكافر بي: فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب» هذا لفظ مسلم رحمه الله في صحيحه، ولا شك أن من قال: مطرنا ببخار كذا مسندًا ذلك للطبيعة، أنه كافر بالله مؤمن بالطبيعة والبخار. والعرب كانوا يزعمون أن بعض المطر أصله من البحر، إلا أنهم يسندون فعل ذلك الفاعل المختار جل وعلا، ومن أشعارهم في ذلك قول طرفة بن العبد: فقوله: بنات البحر يعني: المزن التي أصل مائها من البحر.وقول أبي ذؤيب الهذلي. ولا شك أن خالق السموات والأرض جل وعلا، هو منزل المطر على القدر الذي يشاء كيف يشاء سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا.{فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19)}.قد قدمنا الآيات الموضحة لما دلت عليه هذه الآية الكريمة في سورة النحل، في الكلام على قوله تعالى: {يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزرع والزيتون والنخيل والأعناب} [النحل: 11] الآية وغيرها، فأغنى ذلك عن إعادته هنا. اهـ. .قال ابن عاشور: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17)}.انتقال من الاستدلال بخلق الإنسان إلى الاستدلال بخلق العوالم العلوية لأن أمرها أعجب، وإن كان خلق الإنسان إلى نظره أقرب، فالجملة عطف على جملة {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين} [المؤمنون: 12] وإنما ذكر هذا عقب قوله: {ثم إنكم يوم القيامة تُبعثون} [المؤمنون: 16] للتنبيه على أن الذي خلق هذا العالم العلوي ما خلقه إلاّ لحكمة، وأن الحكيم لا يهمل ثواب الصالحين على حسناتهم، ولا جزاء المسيئين على سيئاتهم، وأن جعْله تلك الطرائق فوقنا بحيث نراها ليدلنا على أن لها صلة بنا لأن عالم الجزاء كائن فيها ومخلوقاته مُستقرة فيها، فالإشارة بهذا الترتيب مثل الإشارة بعكسه في قوله: {وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلاّ بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون إنّ يوم الفصل ميقاتهم أجمعين} [الدخان:38- 40].والطرائق: جمع طريقة وهي اسم للطريق تذكر وتؤنث، والمراد بها هنا طرائق سير الكواكب السبعة وهي أفلاكها، أي الخطوط الفرضية التي ضَبط الناس بها سُمُوتَ سَيْر الكواكب، وقد أطلق على الكوكب اسم الطارق في قوله تعالى: {والسماء والطارق} [الطارق: 1] من أجل أنه ينتقل في سمت يسمى طريقة فإن الساير في طريق يقال له: طارق، ولا شك أن الطرائق تستلزم سائرات فيها، فكان المعنى: خلقنا سيَّارات وطرائقها.وذِكر {فوقكم} للتنبيه على وجوب النظر في أحوالها للاستدلال بها على قدرة الخالق لها تعالى فإنها بحالة إمكان النظر إليها والتأمل فيها.ولأن كونها فوق الناس مما سهل انتفاعهم بها في التوقيت ولذلك عقب بجملة {وما كنا عن الخلق غافلين} المشعر بأن في ذلك لطفًا بالخلق وتيسيرًا عليهم في شؤون حياتهم، وهذا امتنان، فالواو في جملة {وما كنا عن الخلق غافلين} للحال، والجملة في موضع الحال، وفيه تنبيه للنظر في أن عالم الجزاء كائن بتلك العوالم قال تعالى: {وفي السماء رزقكم وما توعدون} [الذاريات: 22].
|