الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{ثُمَّ نُنَجِّي} عطف على مضمون ما سبق تقديره نوردكم جميعا في جهنم {ثمّ ننجّى}- قرأ الكسائي بالتخفيف من الافعال والباقون بالتشديد من التفعيل {الَّذِينَ اتَّقَوْا} الشرك فيساقون إلى الجنة بلا تعذيب أو بعد التعذيب {وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ} أى الكافرين {فِيها} أى في النار {جِثِيًّا} (72) جميعا وقيل جاثين على الركب والمراد بالورود الدخول وإن كان بطريق المرور على الصراط الّذي هو على متن جهنم- وقال قوم من أهل الأهواء ليس المراد بالورود الدخول فانه من يدخلها لا ليخرج منها ابدا وقالوا النار لا يدخلها مؤمن ابدا لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها}- بل المراد به الحضور والروية فانهم يحضرون جميعا موضع الحساب وهو بقرب جهنم- ثم ينجى اللّه المتقين يأمرهم إلى الجنة ويذر الظالمين فيها جثيا يأمرهم إلى النار- نظيره قوله تعالى ولمّا ورد ماء مدين وقد كان موسى اشرف عليه ولم يدخله ويؤيده ما رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني بسند لا بأس به عن معاذ بن أنس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال من حرس وراء المسلمين في سبيل اللّه متطوعا لا بأخذ السلطان لم ير النار بعينه الا تحلة القسم وان اللّه تعالى يقول: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها}- قلنا اطلاق الورود على الاشراف والحضور والروية تجوز لا يجوز ارتكابه الا لضرورة ولا ضرورة هاهنا ويأبى عن هذا التأويل قوله تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا} لأن الانجاء والترك فيها لا يتصور الا بعد الدخول ولا دليل في الحديث على عدم الدخول فانه يثبت الروية تحلة القسم ولا ينفى الدخول ومعنى قوله تعالى: {أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ} بعد ورودهم لا يسمعون حسيسها إذ ابعدوا- وقيل لا يسمعون حسيسها عند ورودهم النار لأن اللّه تعالى يجعلها عليهم بردا وسلما- أخرج هناد والطبراني والبيهقي عن خالد بن معدان قال إذا ادخل أهل الجنة الجنة قالوا ربنا الم تعدنا أنا نرد النار- قال بلى ولكنّكم مررتم عليها وهى خامدة وأخرج ابن عدى والطبراني عن يعلى بن امية عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال «تقول النار للمؤمن يوم القيامة جزيا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبى» ولنا على كون الورود بمعنى الدخول ولو على سبيل المرور ما أخرج أحمد والحاكم وصححه والبيهقي عن أبى سميّه قال اختلفنا في الورود فقال بعضنا لا يدخلها مؤمن- وقال بعضنا يدخلونها جميعا ثمّ ننجى الّذين اتّقوا فلقيت جابر بن عبد اللّه فذكرت له فقال وأهوى بإصبعيه إلى اذنيه صمننا أن لم أكن سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول «لا يبقى بر ولا فاجر الا دخلها»- فيكون على المؤمن بردا وسلما كما كانت على ابراهيم- حتى أن للنار ضجيجا من بردهم {ثمّ ننجّى الّذين اتّقوا ونذر الظّالمين فيها جثيّا}- وذكر البغوي أنه روى ابن عيينة عن عمرو بن دينار أن نافع بن الأزرق ما روى عن ابن عباس رضى اللّه عنه في معنى الورود- فقال ابن عباس هو الدخول وقال نافع ليس الورود الدخول فتلا ابن عباس إنّكم وما تعبدون من دون اللّه حصب جهنّم أنتم لها واردون- أدخلها هؤلاء أم لا ثم قال يا نافع أما أنت وأنا سنروها وأنا أرجو أن يخرجنى اللّه وما أرى اللّه ليخرجك بتكذيبك- وأخرج سعيد بن منصور وعبد الرزاق وابن جرير وابن أبى حاتم والبيهقي عن مجاهد قال خاصم نافع بن الأزرق فذكر نحو ذلك وقال قراح ابن عباس {انّكم وما تعبدون من دون اللّه حصب جهنّم أنتم لها واردون} قال وردوا أم لا وقرأ {يقدم قومه يوم القيامة فاوردهم النّار} أوردها أم لا- أما أنا وأنت فسندخلها فانظر هل تخرج منها أم لا وأخرج من طريق العوفى عن ابن عباس في قوله تعالى: {وإن منكم الّا واردها} يعنى البر والفاجر الم تسمع قوله تعالى: {فاوردهم النّار وبئس الورد المورود} وقوله تعالى: {ونسوق المجرمين إلى جهنّم وردا}- وأخرج الحاكم عن ابن مسعود أنه سئل عن قوله تعالى: {وإن منكم الّا واردها} قال وان منكم الّا داخلها وأخرج البيهقي عن عكرمة عن ابن عباس في الآية قال لا يبقى أحد الا دخلها فهذه الآيات مفسرة للورود بالدخول- وأخرج أحمد والترمذي والحاكم وصححه والبيهقي عن ابن مسعود في قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها} قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «يرد الناس كلهم النار ثم يصدرون عنها بأعمالهم فاوّلهم كلمح البرق ثم كالريح ثم كحفر الفرس ثم كالراكب في رحله ثم كشد الرجل ثم كمشيه» وأخرج ابن أبى حاتم عن ابن مسعود قال يرد الناس جميعا ورودهم قيامهم حول النار ثم يصدون عن الصراط بأعمالهم فمنهم مثل البرق ومنهم من يمرّ مثل الريح ومنهم من يمر مثل الطير ومنهم من يمر كاجز والخيل ومنهم من يمرّ كأجود الابل ومن يمرّ كعدو الرجل حتى أن آخرهم سيرا نوره على موضع إبهام قدميه يمر يتكفاء به الصراط وأخرجها الشيخان عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد فيلج النار الا تحلة القسم- ثم قرأ سفيان وان منكم الّا واردها- وأخرج الطبراني عن عبد بن بشير الأنصاري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «من مات له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث لم يرد الا عابر سبيل» يعنى الجواز على الصراط- وأخرج ابن جرير عن غنيم بن قيس قال ذكروا ورود النار فقال كعب تمسك النّار الناس كانها بين اهالة حتى يستوى عليها أقدام الخلائق برهم وفاجرهم- ثم ينادى مناد أن أمسكي أصحابك ودعي أصحابي- قال فيخسف بكل ولى لها هي اعلم بهم من الرجل بولده يخرج المؤمنون ندية ثيابهم قال السيوطي فسر بعض علماء أهل السنة الورود بالدخول وهو أحد القولين في الآية ورجّهه القرطبي واستشهد بحديث جابر ونحوه ومنه بعضهم بالمرور على الصراط ورحجه النووي واستشهد بما روى عن ابن مسعود وفيه ذكر المرور على الصراط وحديث أبى هريرة ونحوهما قلت إذا كان الصراط على متن جهنم فالمرور يستلزم الدخول ولا يقضى الدخول الوقوع في النار ألبتة ولذلك قلت فالمراد بالورود الدخول وان كان على طريق المرور على الصراط جميعا بين الأحاديث فان قيل قول الحسن الورود الممر عليها من غير أن يدخلها (كذا أخرج البيهقي عنه) على أن المروي غير الدخول- قلت المراد بالدخول في قول الحسن الوقوع والاستقرار في النار لا مطلق الدخول هكذا.فيما أخرج هناد عن حفصة انها قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «انى لارجو أن لا يدخلها أحد شهد بدر أو الحديبية. قالت يا رسول اللّه أليس اللّه يقول {وان منكم الّا واردها كان على ربّك حتما مقضيّا}-قال ألم تسمعي قال: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا}» المراد فيه بعدم الدخول عدم الوقوع والاستقرار بدليل قوله الم تسمعيه قال ثمّ ننجّى- فان هذا الجواب صريح في أن المراد بعدم الدخول عدم الاستقرار الّذي مفاد الانجاء وقال السيوطي قد اشفق كثير من السلف من تحقيق الورود واحتمال الصدور- أخرج هناد واحمد في الزهد وسعيد بن منصور والحاكم والبيهقي عن حازم بن أبى حازم رضى اللّه عنه قال بكى عبد اللّه بن رواحة رضى اللّه عنه فقالت امرأته ما يبكيك قال انى انبئت انى وارد النار ولم انباء انى صادر وأخرج هناد والبيهقي عن أبى إسحاق قال قام أبو ميسرة عمرو بن شرحبيل إلى فراشة فقال ليت أمي لم تلد في فقالت امرأته لم فقال لأن اللّه أخبرنا أنا واردو النار ولم يبين أنا صادرون عنها وأخرج أحمد في الزهد عن الحسن قال قال رجل لاخيه هل أتاك انّك وارد النار قال نعم فقال فهل أتاك انك صادر عنها قال لا- قال ففيم الضحك إذا فمارئى ضاحكا حتّى مات. اهـ.
.قال عبد الكريم الخطيب: قوله تعالى: {وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا}.. هو إنكار لهذا القول المنكر الذي يقوله الذين لا يؤمنون بالبعث، وهو استبعادهم أن يبعث الموتى، بعد أن تبلى أجسادهم، وتحلل وتصير ترابا.. والإنسان هنا ليس إنسانا بعينه، وإنما هو جنس للإنسان، يدخل فيه كل من يقول هذا القول، ويعتقده.. وقوله تعالى: {أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا}.. هو ردّ على هذا الإنسان الذي يمثل الإنسانية الضالة المنكرة للبعث، التي يقال على لسانها هذا القول: «أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا؟» أفلا يذكر هذا الإنسان كيف كان خلقه؟ ثم ألا يذكر أين كان هو قبل أن يولد؟ لقد كان عدما، لا وجود له، ثم صار هذا الكائن الذي يقف من ربّه موقف المحادّ المحارب؟ ثم لينظر هذا الإنسان: أخلق مخلوق من عدم.. أهون، أم خلق مخلوق من بقايا مخلوق؟ لينظر في هذه القضية على مستواه البشرىّ، وسيرى أن إيجاد شيء من عدم مستحيل استحالة مطلقة، أما إيجاد شيء من حطام شىء، فهو واقع في حدود الإمكان، المتاح للإنسان..!!فإذا كان ذلك كذلك في حدود الإنسان، المخلوق، الضعيف.. أفيعجز اللّه القادر القوىّ، الذي خلق الإنسان من عدم- أن يعيد هذا الإنسان مرة أخرى، بعد أن يرجعه إلى العدم، أو ما يشبه العدم؟..{وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} (78- 79: يس)..قوله تعالى: {فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا}.الخطاب هنا للنبىّ، صلوات اللّه وسلامه عليه، وفي القسم له بربّه وإضافته إلى ربّه، تكريم عظيم له، واستدناء له من ربّه، وإفضاء إليه بهذا الخبر، الذي يردع الظالمين ويفزعهم..فهؤلاء المشركون، الضالون، المكذبون بيوم الدّين، سيحشرون مع الشياطين، حشرا واحدا، يجمع بينهم.. إذ كانوا على شاكلة واحدة.. ثم هم بعد هذا الحشر مدعرون إلى جهنم، يساقون إليها سوقا، ويجتمعون حولها، جاثين على ركبهم، في هوان وذلة، حيث يشهدون بأعينهم المنزل الذي سينزلونه منها! قوله تعالى: {ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا}.. ننزعن: نخرجنّ، والنزع إخراج الشيء بشدة وقوة، وقهر. والشيعة: الجماعة على رأى واحد، يلتقون عنده، ويتناصرون عليه.. والعتىّ: العتو، والمشاقّة، والخلاف القائم على الظلم.. والصّلىّ: الاصطلاء بالنار والقرب منها، والمراد به هنا: الاحتراق بها.. والآيتان تصوران بعض مشاهد القيامة، وما يقع للظالمين، والضالين، من أهوال في هذا اليوم العظيم..ففى هذا اليوم يحضر المجرمون جميعا، حول جهنّم، جاثين على ركبهم، حيث لا يستطيعون القيام على أرجلهم، مما أصابهم من هول، انحلّت به عزائمهم، وانهدّت منه قواهم، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: {فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ} (45: الذاريات).. ثم إذا اجتمع جمع هؤلاء المجرمين حول جهنم، انتزع من بينهم أئمة الضلال فيهم، وقادة الكفر منهم، ثم يلقى بهم في جهنم، حيث يشهد أتباعهم بأعينهم ما يلقون من بلاء، سيلقونه هم عما قليل، وحيث يرى هؤلاء الأئمة أن زعامتهم وإمامتهم في الدنيا، لم تكن إلّا وبالا عليهم، وأن أتباعهم أحسن حالا منهم، وأن مواقع الضّلال والفتن، وإن كانت كلها سوءا ووبالا، فإن المتأخر فيها خير من المتقدم، والتابع أدنى إلى السلامة من المتبوع.. وفي المثل: (كن في الفتنة ذنبا)!- وفي قوله تعالى: {أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا}- في هذا ما يسأل عنه.. وهو: لم عدّى المصدر (عتىّ) بحرف الجرّ (على) الذي يفيد الاستعلاء..بمعنى {أيهم أشد عتيّا على الرحمن}.. وكان يمكن أن يكون النظم هكذا: (أيهم أشد للرحمن عتيّا) بتعدية المصدر بحرف الجرّ اللام الذي يفيد الملك، ثم التفلّت من هذا الملك!! فما سرّ هذا؟نقول:- واللّه أعلم- إنّ ذكر الصفة الكريمة (الرحمن) هنا، دون صفات المولى جلّ وعلا، كالقوىّ والعزيز، والقادر- إن هذا يشير إلى شناعة هذا الجرم الذي يتلبس به المجرمون، ويتخذون به موقفا معاديا، ومحاربا، لأرحم الراحمين، الذي لو شاء لمسخهم قردة وخنازير، ولو شاء لرماهم بكل داء، ولأخذ سمعهم، وأبصارهم، وسلط عليهم من الأوبئة ما يجعل أنفاسهم تتقطع أنينا وصراخا.. إلى غير ذلك مما في قدرة اللّه، ومما رأوا منه مارأوا في بعض الناس منهم..فهؤلاء المجرمون- وتلك رحمة اللّه بهم- يخرجون عن طاعة الرحمن، بل ويحاربونه، بل ويستعلون على الولاء له، والانقياد لأمره..والصّورة تمثل معركة بين هؤلاء العتاة المجرمين، وبين رحمة اللّه.. حيث تدعوهم الرحمة إلى رحابها، وتفسح لهم الطريق إليها، وهم يتأبّون عليها، ويتفلّتون منها.. فهم في هذا أشبه بالمغالبين لرحمة اللّه، وهذا أسوأ ما يمكن أن تكون عليه حال إنسان.. من شقاء غليظ، لا تنفذ إليه فيه بارقة من رجاء في عافية، أو خروج من بلاء.. [سورة مريم: الآيات 71- 72].{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (72)}.التفسير:قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا}.جهنم.. هل يردها الناس جميعا؟الضمير في واردها يعود إلى جهنم، المذكورة في قوله تعالى: {ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا}.. أمّا الضمير في (منكم) فقد اختلف فيه ويكاد إجماع المفسّرين ينعقد على أن المراد به الناس جميعا، مؤمنهم وكافرهم.. بمعنى أن كلّ إنسان، حتى الأنبياء، والرسل، سيردون النار ويمرّون بها، ويشهدون أهوالها، دون أن يصيبهم منها أذى، بل ستكون بردا، وسلاما عليهم.. ويأتون على هذا الرأى بأحاديث، وأقوال تشهد له!! ثم يقوى من هذا الرأى عندهم قوله تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا}! ثم هم- من جهة أخرى- يدفعون ما قد يثور في النفس من تخوّف على المؤمنين من هذه التجربة التي يمرّون بها، والتي إن سلمت منها أجسامهم، فلن تسلم منها مشاعرهم- هم يدفعون هذا، بأن المؤمنين حين يمرّون بجهنم، ثم يخلصون منها إلى الجنة، يشهدون عظمة النعمة وجلالها، التي أنعم اللّه بها عليهم، إذ عافاهم من هذا البلاء العظيم، الذي رأوه رأى العين!! ونحن نردّ هذا القول، ونأخذ بما هو أولى وأكرم بكرم اللّه، وفضله، وقدرته على إبلاغ نعمته إلى عباده المخلصين، خالصة من كل شائبة أو كدر! فنقول: إن الضمير في (منكم) يعود إلى هؤلاء المجرمين الذين سيقوا إلى جهنم، واجتمعوا حولها جاثين على ركبهم، لم يدخلوها بعد.. ثم ينتزع من بينهم أئمتهم، وقادة الضلال والكفر فيهم، فيلقى بهم في جهنم.. كما جاء في قوله تعالى: {ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا}.وإلى هنا لم يكن قد انكشف أمر الأتباع، المتعلقين بهؤلاء الأئمة.. فجاء قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها} ليكشف لهؤلاء الأتباع عن مصيرهم وأنهم مأخوذون بما أخذ به هؤلاء القادة الذين سبقوهم إلى جهنم! {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها} {كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} أي أمرا قضى به اللّه سبحانه وتعالى على الظالمين، من الكافرين، والمشركين، وأصحاب الضلالات أن يردوا جهنم، وأن يقفوا على هذا المورد الوبيل، كما يقول سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} (140: النساء) وكما يقول جل شأنه: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} (119: هود) وكما يقول سبحانه: {إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ} (98: الأنبياء).. فجهنم هي الحكم الذي قضى به الحق جل وعلا على أهل الشّقوة من الناس.. ثم إنه ليس يصحّ أن يكون من تكريم المؤمنين في هذا اليوم، وعلى رأسهم الأنبياء، والرسل والصديقون، والأولياء، والأبرار، والشهداء- ليس يصح أن يكون من مظاهر تكريمهم أن يدخلوا في هذه التجربة القاسية، وأن يردوا هذا المورد الجهنمى، وهم إنما سعوا إلى اللّه، وأحبّوا لقاءه، ليخلصوا من أكدار الدنيا.. فهل مما يقع في التصور أن يكون أول ما يلقونه في الآخرة، هو هذا الوجه الكريه المشئوم منها، وهو جهنم؟وكيف يرد المؤمنون وعلى رأسهم الأنبياء والرسل، هذا المورد الذي لا يرده إلّا الخاطئون، والذي يصفه الحق تبارك وتعالى بقوله عن فرعون: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} (98: هود)؟ ثم كيف، واللّه سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} (101- 103: الأنبياء)
|