الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال أبو السعود: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْرًا}.زيد {لك} لزيادة المكافحةِ بالعتاب على رفض الوصيةِ وقلة التثبّتِ والصبرِ لمّا تكرر منه الاشمئزازُ والاستنكار ولم يَرعَوِ بالتذكير حتى زاد النكير في المرة الثانية {قَالَ} أي موسى عليه الصلاة والسلام: {إِن سَأَلْتُكَ عَن شيء بَعْدَهَا} أي بعد هذه المرة {فَلاَ تُصَاحِبْنِى} وقرئ من الإفعال أي لا تجعلني صاحبك {قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنّى عُذْرًا} أي قد أعذرتَ ووجدتَ من قِبلي عُذرًا حيث خالفتُك ثلاثَ مرات. عن النبي صلى الله عليه وسلم: «رحم الله أخي موسى استحْيى فقال ذلك، لو لبث مع صاحبه لأبصرَ أعجبَ الأعاجيب» وقرئ: {لدُني} بتخفيف النون، وقرئ بسكون الدال كعضْد في عضُد.{فانطلقا حتى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ} هي أنطاكيةُ، وقيل: أَيْلةُ وهي أبعدُ أرض الله من السماء، وقيل: هي برقة، وقيل: بلدة بأندلس. عن النبي صلى الله عليه وسلم: «كانوا أهلَ قرية لئاما» وقيل: شرُّ القرى التي لا يضاف فيها الضيفُ ولا يُعرف لابن السبيل حقُّه، وقوله تعالى: {استطعما أَهْلَهَا} في محل الجرِّ على أنه صفةٌ لقرية، ولعل العدولَ عن استطعامهم على أن يكون صفةً للأهل لزيادة تشنيعهم على سوء صنيعِهم فإن الإباءَ من الضيافة وهم أهلُها قاطنون بها أقبحُ وأشنع. روي أنهما طافا في القرية فاستطعماهم فلم يطعموهما واستضافاهم {فَأَبَوْاْ أَن يُضَيّفُوهُمَا} بالتشديد، وقرئ بالتخفيف من الإضافة، يقال: ضافه إذا كان له ضيفًا وأضافه وضيّفه أنزله وجعله ضيفًا له، وحقيقةُ ضاف مال إليه من ضاف السهمُ عن الغرَض ونظيرُه زاره من الازورار.{فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ} أي يداني أن يسقُط فاستعيرت الإرادةُ للمشارفة للدِلالة على المبالغة في ذلك، والانقضاضُ الإسراعُ في السقوط وهو انفعالٌ من القضّ، يقال: قتُه فانقضّ، ومنه انقضاضُ الطير والكوكبِ لسقوطه بسرعة، وقيل: هو افْعِلالٌ من النقض كاحمرّ من الحُمرة، وقرئ: {أن ينقُض} من النقْض وأن ينقاض من انقاضّت السن إذا انشقت طولًا {فَأَقَامَهُ} قيل: مسحه بيده فقام، وقيل: نقضه وبناه، وقيل: أقامه بعمود عمَده به، قيل: كان سَمكُه مائةَ ذراع {قَالَ لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} تحريضًا له على أخذ الجُعْل لينتعشا به أو تعريضًا بأنه فضولٌ لما في لو من النفي، كأنه لما رأى الحِرمانَ ومِساسَ الحاجة واشتغالَه بما لا يعنيه لم يتمالك الصبرَ، واتخذ افتعل من تخِذ بمعنى أخذ كاتبع من تبع وليس من الأخذ عند البصريين، وقرئ: {لتَخِذْتَ} أي لأخذت، وقرئ بإدغام الذال في التاء.{قَالَ} أي الخَضِر عليه الصلاة والسلام: {هذا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ} على إضافة المصدرِ إلى الظرف اتساعًا وقد قرئ على الأصل، والمشارُ إليه إما نفسُ الفِراق كما في هذا أخوك، أو الوقتُ الحاضرُ أي هذا الوقتُ وقتُ فراق بيني وبينِك، أو السؤالُ الثالث، أي هذا سببُ ذلك الفراقِ حسبما هو الموعودُ {سَأُنَبّئُكَ} السين للتأكيد لعدم تراخي التنبئة {بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا}.التأويلُ رجْعُ الشيءِ إلى مآله والمرادُ به هاهنا المآلُ والعاقبةُ إذ هو المنبَّأُ به دون التأويل وهو خلاصُ السفينة من اليد العادِيَة، وخلاصُ أبوَي الغلام من شره مع الفوز بالبدل الأحسنِ واستخراجُ اليتيمين للكنز، وفي جعل صلةِ الموصول عدمَ استطاعةِ موسى عليه الصلاة والسلام للصبر دون أن يقال: بتأويل ما فعلتُ أو بتأويل ما رأيتَ ونحوِهما نوعُ تعريضٍ به عليه الصلاة والسلام وعتاب. اهـ..قال الألوسي: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْرًا}.زيادة {لَكَ} لزيادة المكافحة على رفض الوصية وقلة التثبت والصبر لما تكرر منه الاشمئزاز والاستنكار ولم يرعو بالتذكير حتى زاد في النكير في المرة الثانية.{قَالَ} أي موسى عليه السلام {إِن سَأَلْتُكَ عَن شَىْء} تفعله من الأعاجيب {بَعْدَهَا} أي بعد هذه المرة أو بعد هذه المسألة {فَلاَ تُصَاحِبْنِى} وقرأ عيسى، ويعقوب: {فَلا} بفتح التاء من صحبه أي فلا تكن صاحبي، وعن عيسى أيضًا {فَلا} بضم التاء وكسر الحاء من أصحبه ورواها سهل عن أبي عمرو أي فلا تصحبني إياك ولا تجعلني صاحبك؛ وقدر بعضهم المفعول الثاني علمك وليس بذاك.وقرأ الأعرج {فَلا} بفتح التاء والباء وشد النون، والمراد المبالغة في النهي أي فلا تكن صاحبي البتة، وهذا يؤيد كون المراد من النهي فيما لا تأكيد فيه التحريم، والمراد به الحزم بالترك والمفارقة لا الترخيص على معنى إن سألتك بعد فأنت مرخص في ترك صحبتي {قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنّى عُذْرًا} أي وجدت عذرًا من قبلي، وقال النووي: معناه قد بلغت إلى الغاية التي تعذر بسببها في فرافي حيث خالفتك مرة بعد مرة.وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رحمة الله علينا وعلى موسى لو صبر على صاحبه لرأي العجب لكن أخذته من صاحبه ذمامة فقال ذلك»، وقرأ نافع وعاصم {مِن لَّدُنّى} بتخفيف النون وهي حجة على س في منعه ذلك، والأكثرون على أنه حذف نون الوقاية وأبقى النون الأصلية المكسورة على ما هو القياس في الأسماء المضافة من أنها لا تلحقها نون الوقاية كوطني ومقامي، وقيل: إنه يحتمل أن يكون المذكور نون الوقاية والمضاف إنما هو لد بلا نون لغة في لدن فلا حذف أصلًا؛ وتعقب بأن نون الوقاية إنما هي في المبنى على السكون لتقيه الكسر ولد بلا نون مضموم.ورد بأنه لا مانع من أن يقال: إنها وقته من زوال الضم؛ وأشم شعبة الضم في الدال وروي عن عاصم أنه سكنها، وقال مجاهد: سوء غلط، ولعله أراد رواية وإلا فقد ذكروا أن لد بالفتح والسكون لغة في لدن، وقرأ عيسى {عُذْرًا} بضم الذال ورويت عن أبي عمرو وعن أبي: {عذري} بالإضافة إلى ياء المتكلم.{فانطلقا حتى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ}.الجمهور على أنها إنطاكية وحكاه الثعلبي عن ابن عباس، وأخرج ابن أبي حاتم من طريق قتادة عنه أنها برقة وهي كما في القاموس اسم لمواضع، وفي المواهب أنها قرية بأرض الروم والله تعالى أعلم، وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن السدي أنها باجروان وهي أيضًا اسم لمتعدد إلا أنه ذكر بعضهم أن المراد بها قرية بنواحي أرمينية، وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن سيرين أنها الأبلة بهمزة وباء موحدة ولا مشددة، وقيل: قرية على ساحل البحر يقال لها ناصرة وإليها تنسب النصارى قال في مجمع البيان وهو المروى عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه، وقيل: قرية في الجزيرة الخضراء من أرض الأندلس، قال ابن حجر: والخلاف هنا كالخلاف في {مجمع البحرين} ولا يوثق بشيء منه، وفي الحديث أتيا أهل قرية لئامًا {استطعما أَهْلَهَا} في محل الجر على أنه صفة لقرية، وجواب إذا {قَالَ} [الكهف: 78] الآتي إن شاء الله تعالى وسلك بذلك نحو ما سلك في القصة الثانية من جعل الاعتراض عمدة الكلام للنكتة التي ذكرها هناك شيخ الإسلام، وذهب أبو البقاء وغيره إلى أنه هو الجواب والآتي مستأنف نظير ما في القصة الأولى، والوصفية مختار المحققين كما ستعلمه إن شاء الله تعالى.وههنا سؤال مشهور وقد نظمه الصلاح الصفدي ورفعه إلى الإمام تقي الدين السبكي فقال:فأجاب السبكي بأن جملة {استطعما} محتملة لأن تكون في محل جر صفة لقرية وأن تكون في محل نصب صفة لأهل وأن تكون جواب إذا ولا احتمال لغير ذلك، ومن تأمل علم أن الأول متعين معنى وأن الثاني والثالث وأن احتملتهما الآية بعيدان عن مغزاها، أما الثالث فلأنه يلزم عليه كون المقصود الإخبار بالاستطعام عند الإتيان وأن ذلك تمام معنى الكلام، ويلزمه أن يكون معظم قصدهما أو هو طلب الطعام مع أن القصد هو ما أراد ربك مما قص بعد وإظهار الأمر العجيب لموسى عليه السلام، وأما الثاني فلأنه يلزم عليه أن تكون العناية بشرح حال الأهل من حيث هم هم ولا يكون للقرية أثر في ذلك ونحن نجد بقية الكلام مشيرًا إليها نفسها فيتعين الأول ويجب فيه {استطعما أَهْلَهَا} ولا يجوز استطعماهم أصلًا لخلو الجملة عن ضمير الموصوف.وعلى هذا يفهم من مجموع الآيات أن الخضر عليه السلام فعل ما فعل في قرية مذموم أهلها وقد تقدم منهم سوء صنيع من الإباء عن حق الضيف مع طلبه وللبقاع تأثير في الطباع ولم يهم فيها مع أنها حرية بالإفساد والإضاعة بل باشر الإصلاح لمجرد الطاعة ولم يعبأ عليه السلام بفعل أهلها اللئام، ويضاف إلى ذلك من الفوائد أن الأهل الثاني يحتمل أن يكون هم الأولون أو غيرهم أو منهم ومن غيرهم، والغالب أن من أتى قرية لا يجد جملة أهلها دفعة بل يقع بصره أولًا على البعض ثم قد يستقريهم فلعل هذين العبدين الصالحين لما أتيا قدر الله تعالى لهما استقراء الجميع على التدريج ليتبين به كمال رحمته سبحانه وعدم مؤاخذته تعالى بسوء صنيع بعض عباده، ولو قيل استطعماهم تعين إرادة الأولين فأتى بالظاهر إشعارًا بتأكيد العموم فيه وأنهما لم يتركا أحدًا من أهلها حتى استطعماه وأبي ومع ذلك قوبلوا بأحسن الجزاء، فانظر إلى هذه الأسرار كيف احتجبت عن كثير من المفسرين تحت الأستار حتى أن بعضهم لم يتعرض لشيء، وبعضهم ادعى أن ذلك تأكيد، وآخر زعم ما لا يعول عليه حتى سمعت عن شخص أنه قال: إن العدول عن استطعماهم لأن اجتماع الضميرين في كلمة واحدة مستثقل وهو قول يحكي ليردفان القرآن والكلام الفصيح مملوء من ذلك ومنه ما يأتي في الآية، ومن تمام الكلام فيما ذكر أن استطعما إن جعل جوابًا فهو متأخر عن الإتيان وإذا جعل صفة احتمل أن يكون الإتيان قد اتفق قبل هذه المرة وذكر تعريفًا وتنبيهًا على أنه لم يحملهما على عدم الإتيان لقصد الخير فهذا ما فتح الله تعالى علي والشعر يضيق عن الجواب وقد قلت: إلى آخر ما تحمس به، وفيه من المناقشة ما فيه.
|