الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وعن رجل بلغ مشرق الأرض ومغربها وعن الروح فسألوا النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: أخبركم بما سألتم غدًا ولم يقل إن شاء الله فلبث الوحي. قال مجاهد: اثنى عشر ليلة وقيل خمسة عشر يومًا وقيل أربعين يومًا وأهل مكة يقولون وعدنا محمد غدًا وقد أصبحنا لا يخبرنا بشيء حتى حزن صلى الله عليه وسلم من مكث الوحي وشق عليه ما يقوله أهل مكة ثم نزل جبريل عليه السلام بقوله تعالى: {ولا تقولنّ لشيء إني فاعل ذلك غدًا إلا أن يشاء الله} [الكهف:ونزل في الفتية: {أم حسبت أنّ أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبًا} [الكهف].ونزل فيمن بلغ المشرق والمغرب {ويسألونك عن ذي القرنين} [الكهف] ونزل في الروح: {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي}. وقول الرازي: ومن الناس من طعن في هذه الرواية من وجوه، وذكر من جملة ذلك كيف يليق به أن يقول إني لا أعرف هذه المسألة مع أنها من المسائل المشهورة المذكورة مع جمهور الخلق غير لائق لأنّ ذلك علامة على نبوّته. قال الزمخشري: فبيّن لهم القصتين وأبهم أمر الروح وهو مبهم في التوراة فندموا على سؤالهم انتهى. واختلفوا في الروح الذي وقع السؤال عنه، فروى عن ابن عباس أنه جبريل عليه السلام وهو قول الحسن وقتادة، وروي عن علي أنه قال: ملك له سبعون ألف وجه لكل وجه سبعون ألف لسان يسبح الله تعالى بكلها. وقال مجاهد: خلق على صورة بني آدم لهم أيد وأرجل ورؤوس وليسوا بملائكة ولا ناس يأكلون الطعام. وقال سعيد بن جبير: لم يخلق الله تعالى خلقًا أعظم من الروح غير العرش، لو شاء أن يبتلع السموات السبع والأرضين السبع ومن فيهنّ بلقمة واحدة لفعل، صورة خلقه على صورة الملائكة، وصورة وجهه على صورة وجه الآدميين يقوم يوم القيامة على يمين العرش وهو أقرب الخلق إلى الله تعالى عند الحجب السبعين وأقرب إلى الله تعالى وهو ممن يشفع لأهل التوحيد ولولا أنّ بينه وبين الملائكة سترًا من نور لاحترق أهل السموات من نوره. وقيل الروح هو القرآن وقيل المراد منه عيسى فإنه روح الله تعالى وكلمته ومعناه أنه ليس كما تقوله اليهود ولا كما تقوله النصارى. وقال بعضهم: هو الروح المركب في الخلق الذي يحيا به الإنسان. قال البغوي: وهو الأصح وتكلم فيه قوم فقال بعضهم: هو الدم ألا ترى أنّ الحيوان إذا مات لا يفوت منه إلا الدم. وقال قوم: هو نفس الحيوان بدليل أنه يموت باحتباس النفس. وقال قوم: عرض. وقال قوم: هو جسم لطيف. وقال بعضهم: الروح معنى اجتمع فيه النور والطيب والعلم والعلو والبقاء ألا ترى أنه إذا كان موجودًا يكون الإنسان موصوفًا بجميع هذه الصفات وإذا خرج ذهب الكل. قال البغوي: وأولى الأقاويل أن يوكل علمه إلى الله عز وجل، وهو قول أهل السنة. قال عبد الله بن بريدة: إنّ الله تعالى لم يطلع على الروح ملكًا مقربًا ولا نبيًا مرسلًا بدليل قوله تعالى: {قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلًا} أي: في جنب علم الله تعالى.تنبيه:اختلف في المخاطب بقوله تعالى: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلًا} فقيل هو النبيّ صلى الله عليه وسلم وقيل اليهود فإنهم يقولون: أوتينا التوراة وفيها العلم الكبير وقيل عام. روي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال لهم ذلك قالوا: نحن مختصون بهذا الخطاب أم أنت معنا فيه فقال: «نحن وأنتم لم نؤت من العلم إلا قليلًا» فقالوا: ما أعجب شأنك ساعة تقول: {ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا} [البقرة] وساعة تقول: هذا فنزلت. {وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ} [لقمان] الآية قال الزمخشري: وليس ما قالوا بلازم لأنّ القلة والكثرة يدوران مع الإضافة فيوصف الشيء بالقلة مضافًا إلى ما فوقه، وبالكثرة مضافًا إلى ما تحته، فالحكمة التي أوتيها العبد خير كثير في نفسها إلا أنها إذا أضيفت إلى علم الله فهي قليلة. وقيل: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يعلم معنى الروح ولكن لم يخبر به لأن ترك أخباره كان علمًا لنبوّته. قال البغوي: والأوّل أصح أنّ الله استأثره بعلمه انتهى.وعن أبي يزيد لقد مضى النبيّ صلى الله عليه وسلم وما يعلم الروح. وقال الرازي: قوله تعالى: {قل الروح من أمر ربي} من فعل ربي وهذا الجواب يدل على أنهم سألوه أنّ الروح قديمة أو حادثة فقال: بل هي حادثة، وإنما حصلت بفعل الله وتكوينه وإيجاده، ثم احتج على إحداث الروح بقوله: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلًا} بمعنى أنّ الروح في مبدأ الفطرة تكون خالية عن العلوم والمعارف ثم تحصل المعارف والعلوم فهي لا تزال تكون في التغير من حال إلى حال، وفي التبديل من نقصان إلى كمال والتغير والتبدّل من أمارات الحدوث. فقوله: {قل الروح من أمر ربي} يدل على أنهم سألوه أنّ الروح هل هي حادثة أو قديمة فأجاب بأنها حادثة واقعة بتخليق الله تعالى وتكوينه وهو المراد من قوله تعالى: {قل الروح من أمر ربي}. ثم استدل على حدوث الأرواح بتغيرها من حال إلى حال، وهو المراد بقوله: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلًا} فهذا ما نقوله في هذا الباب انتهى. وهو نص لطيف. ولما بيّن سبحانه وتعالى أنهم ما آتاهم من العلم إلا قليلًا بيّن أنه لو شاء أن يأخذ منهم ذلك القليل أيضًا لقدر عليه بقوله تعالى: {ولئن شئنا} أي: ومشيئتنا لا يتعاظمها شيء واللام موطئة للقسم وأجاب عن القسم بما أغنى عن جواب الشرط فقال: {لنذهبنّ} أي: بما لنا من العظمة ذهابًا محققًا {بالذي أوحينا إليك} بأن نمحو حفظه من القلوب وكتابته من الكتب وهذا وإن كان امرًا مخالفًا للعادة إلا أنه تعالى قادر عليه. {ثم} أي: بعد الذهاب به {لا تجد لك به علينا وكيلًا} أي: لا تجد من تتوكل عليه في ردّ شيء منه وإعادته مسطورًا محفوظًا. وقوله تعالى: {إلا رحمة من ربك} استثناء متصل لأنه مندرج في قوله وكيلًا. والمعنى إلا أن يرحمك ربك فيردّه عليك أو منقطع فتقدر لكن عند البصريين أو بل رحمة من ربك عند الكوفيين. والمعنى ولكن رحمة من ربك أو بل رحمة من ربك بتركه غير مذهوب به وهذا امتنان من الله تعالى ببقاء القرآن. قال الرازي: وهذا تنبيه على أنّ لله تعالى على جميع العلماء نوعين من المنة أحدهما: تسهيل ذلك العلم عليهم. والثاني: إبقاء حفظه عليهم فعلى كل ذي علم أن لا يغفل عن هاتين النعمتين وعن القيام بشكرهما وهما منة من الله تعالى عليه بحفظ العلم ورسوخه في صدره ومنته عليه في بقاء المحفوظ. فإن قيل: كيف يذهب القرآن وهو كلام الله تعالى؟أجيب: بأنّ المراد محو ما في المصاحف وإذهاب ما في الصدور. قال عبد الله بن مسعود: اقرؤوا القرآن قبل أن يرفع فإنه لا تقوم الساعة حتى يرفع قيل هذه المصاحف ترفع فكيف ما في صدور الناس قال: يسري عليه ليلًا فيرفع ما في صدورهم فيصبحون لا يحفظون شيئًا ولا يجدون في المصاحف شيئًا ثم يفيضون في الشعر.وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: لا تقوم الساعة حتى يرفع القرآن من حيث نزل له دويّ تحت العرش كدويّ النحل فيقول الرب ما لك؟ فيقول: يا رب أتلى ولا يعمل بي. وفي رواية لابن مسعود أوّل ما تفقدون من دينكم الأمانة وآخر ما تفقدون الصلاة وليصلين قوم ولا دين لهم وأنّ هذا القرآن تصبحون يومًا وما فيكم منه شيء فقال رجل: كيف ذلك وقد أثبتناه في قلوبنا وأثبتناه في مصاحفنا وتعلمه أبناؤنا ويعلمه أبناؤنا أبناؤهم؟ فقال: يسري عليه ليلًا فيصبح الناس منه فقراء ترفع المصاحف وينزع ما في القلوب وقوله تعالى: {إن فضله كان} أي: ولم يزل {عليك كبيرًا} فيه قولان أحدهما المراد منه أنّ فضله كان عليك كبيرًا بسبب إبقاء العلم والقرآن عليك. ثانيهما أنّ المراد أنّ فضله كان عليك كبيرًا بسبب أنه جعلك سيد ولد آدم وختم بك النبيين وأعطاك المقام المحمود، وقد أنعم عليك أيضًا بإبقاء العلم والقرآن عليك.ونزل حين قال الكفار للنبيّ صلى الله عليه وسلم لو نشاء لقلنا مثل هذا القرآن. اهـ.
.قال الشوكاني في الآيات السابقة: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78)}.لما ذكر سبحانه الإلهيات والمعاد والجزاء أردفها بذكر أشرف الطاعات، وهي الصلاة، فقال: {أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس}.وقد أجمع المفسرون على أن هذه الآية المراد بها: الصلوات المفروضة.وقد اختلف العلماء في الدلوك المذكور في هذه الآية على قولين: أحدهما: أنه زوال الشمس عن كبد السماء، قاله عمر وابنه، وأبو هريرة، وأبو برزة، وابن عباس، والحسن، والشعبي، وعطاء، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، وأبو جعفر الباقر، واختاره ابن جرير.والقول الثاني: أنه غروب الشمس، قاله علي، وابن مسعود، وأبيّ بن كعب، وروي عن ابن عباس.قال الفراء: دلوك الشمس: من لدن زوالها إلى غروبها.قال الأزهري: معنى الدلوك في كلام العرب الزوال، ولذلك قيل للشمس إذا زالت نصف النهار: دالكة، وقيل لها إذا أفلت: دالكة، لأنها في الحالتين زائلة.قال: والقول عندي أنه زوالها نصف النهار لتكون الآية جامعة للصلوات الخمس، والمعنى: أقم الصلاة من وقت دلوك الشمس {إلى غسق الليل} فيدخل فيها الظهر والعصر وصلاتا غسق الليل، وهما العشاءان، ثم قال: {وقرآن الفجر} هذه خمس صلوات.وقال أبو عبيد: دلوكها غروبها، ودلكت براح: يعني الشمس أي: غابت، وأنشد قطرب على هذا قول الشاعر:اسم من أسماء الشمس على وزن حذام وقطام، ومن ذلك قول ذي الرمة: أي: الغوارب، وغسق الليل: اجتماع الظلمة.قال الفراء والزجاج: يقال غسق الليل وأغسق: إذا أقبل بظلامه، قال أبو عبيد: الغسق: سواد الليل.قال قيس بن الرقيات: وقيل: غسق الليل: مغيب الشفق، ومنه قول زهير: وأصل الكلمة من السيلان يقال: غسقت: إذا سالت.وحكى الفراء غسق الليل وأغسق، وظلم وأظلم، ودجى وأدجى، وغبش وأغبش، وقد استدل بهذه الغاية، أعني قوله: {إلى غسق الليل} من قال: إن صلاة الظهر يتمادى وقتها من الزوال إلى الغروب، روي ذلك عن الأوزاعي، وأبي حنيفة وجوّزه مالك والشافعي في حال الضرورة، وقد وردت الأحاديث الصحيحة المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعيين أوقات الصلوات، فيجب حمل مجمل هذه الآية على ما بينته السنة فلا نطيل بذكر ذلك.قوله: {وقرآن الفجر} انتصاب {قرآن} لكونه معطوفًا على {الصلاة} أي: وأقم قرآن الفجر، قاله الفراء.وقال الزجاج والبصريون: انتصابه على الإغراء: أي فعليك قرآن الفجر.قال المفسرون: المراد بقرآن الفجر صلاة الصبح.قال الزجاج: وفي هذه فائدة عظيمة تدل على أن الصلاة لا تكون إلا بقراءة حتى سميت الصلاة قرآنًا، وقد دلت الأحاديث الصحيحة على أنه «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب»، وفي بعض الأحاديث الخارجة من مخرج حسن «وقرآن معها»، وورد ما يدل على وجوب الفاتحة في كل ركعة، وقد حررته في مؤلفاتي تحريرًا مجوّدًا.ثم علّل سبحانه ذلك بقوله: {إن قرآن الفجر مشهودًا} أي: تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار كما ورد ذلك في الحديث الصحيح، وبذلك قال جمهور المفسرين {وَمِنَ اليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ}: {من} للتبعيض، وانتصابه على الظرفية بمضمر، أي: قم بعض الليل فتهجد به، والضمير المجرور راجع إلى القرآن، وما قيل من أنه منتصب على الإغراء، والتقدير: عليك بعض الليل، فبعيد جدًا، والتهجد مأخوذ من الهجود.قال أبو عبيدة وابن الأعرابي: هو من الأضداد، لأنه يقال: هجد الرجل: إذا نام، وهجد: إذا سهر، فمن استعماله في السهر قول الشاعر: يعني: منتبهين، ومن استعماله في النوم قول الآخر: يعني: نيامًا.وقال الأزهري: الهجود في الأصل هو النوم بالليل، ولكن جاء التفعل فيه لأجل التجنب ومنه تأثم وتحرّج، أي: تجنب الإثم والحرج، فالمتهجد: من تجنب الهجود، فقام بالليل.وروي عن الأزهري أيضًا أنه قال: المتهجد: القائم إلى الصلاة من النوم، هكذا حكى عنه الواحدي، فقيد التهجد بالقيام من النوم، وهكذا قال مجاهد، وعلقمة، والأسود فقالوا: التهجد بعد النوم.قال الليث: تهجد إذا استيقظ للصلاة {نَافِلَةً لَّكَ} معنى النافلة في اللغة: الزيادة على الأصل، فالمعنى أنها للنبي صلى الله عليه وسلم نافلة زائدة على الفرائض، والأمر بالتهجد وإن كان ظاهره الوجوب لكن التصريح بكونه نافلة قرينة صارفة للأمر، وقيل: المراد بالنافلة هنا أنها فريضة زائدة على الفرائض الخمس في حقه صلى الله عليه وسلم، ويدفع ذلك التصريح بلفظ النافلة، وقيل: كانت صلاة الليل فريضة في حقه صلى الله عليه وسلم، ثم نسخ الوجوب فصار قيام الليل تطوعًا، وعلى هذا يحمل ما ورد في الحديث أنها عليه فريضة، ولأمته تطوع.قال الواحدي: إن صلاة الليل كانت زيادة للنبيّ صلى الله عليه وسلم خاصة لرفع الدرجات، لا للكفارات، لأنه غفر له من ذنبه ما تقدّم وما تأخر، وليس لنا بنافلة لكثرة ذنوبنا، إنما نعمل لكفارتها، قال: وهو قول جميع المفسرين.
|