الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال الشنقيطي: قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}.قال بعض اهل العلم: من تكريمه لبني آدم خلقه لهم على أكمل الهيئات وأحسنها. فإن الإنسان يمشي قائماَ منتصبًا على رجليه، ويأكل بيديه. وغيره من الحيوانات يمشي على أربع، ويأكل بفمه.ومما يدل لهذا من القرآن قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4]، وقوله: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} [غافر: 64] وفي الآية كلام غير هذا. والعلم عند الله تعالى.قوله تعالى: {وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البر والبحر} الآية. أي في البر على الأنعام، وفي البحر على السفن.والآيات الموضحة لذلك كثيرة جدًا. كقوله: {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الفلك تُحْمَلُونَ} [المؤمنون: 22]، وقوله: {والذي خَلَقَ الأزواج كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الفلك والأنعام مَا تَرْكَبُونَ} [الزخرف: 12] وقد قدمنا هذا مستوفى بإيضاح في سورة النحل.قوله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ}.قال بعض العلماء: المراد {بإمامهم} هنا كتاب أعمالهم.ويدل لهذا قوله تعالى: {وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ في إِمَامٍ مُّبِينٍ} [يس: 12]، وقوله: {وترى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أمَّةٍ تدعى إلى كِتَابِهَا اليوم تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 28]. وقوله: {وَوُضِعَ الكتاب فَتَرَى المجرمين مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ} [الكهف: 49] الآية، وقوله: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا} [الإسراء: 13] واختار هذا القول ابن كثير. لدلالة آية يس المذكورة عليه. وهذا القول رواية عن ابن عباس ذكرها ابن جرير وغيره، وعزاه ابن كثير لابن عباس وأبي العالية والضحاك والحسن.وعن قتادة ومجاهد: أن المراد {بإمامهم} نبيهم.ويدل لهذا القول قوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَآءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بالقسط وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [يونس: 47]، {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيدًا} وقوله: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِّنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا على هؤلاءآء} [النحل: 89] الآية، وقوله: {وَأَشْرَقَتِ الأرض بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الكتاب وَجِيءَ بالنبيين والشهدآء} [الزمر: 69] الآية.قال بعض السلف: وفي هذا أكبر شرف لأصحاب الحديث. لأن إمامهم النبي صلى الله عليه وسلم.وقال بعض أهل العلم: {بِإِمَامِهِمْ} أي بكتابهم الذي أنزل على نبيهم من التشريع. وممن قال به: ابن زيد، واختاره ابن جرير.وقال بعض أهل العلم: {يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} أي ندعو كل قوم بمن يأتمون به. فأهل الإيمان أئمتهم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم. وأهل الكفر أئمتهم سادتهم وكبراؤهم من رؤساء الكفرة. كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النار} [القصص: 41] الآية. وهذا الأخير أظهر الأقوال عندي. والعلم عند الله تعالى.فقد رأيت أقوال العلماء في هذه الآية، وما يشهد لها من قرآن. وقوله بعد هذا: {فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} من القرائن الدالة على ترجيح ما اختاره ابن كثير من أن الإمام في هذه الآية كتاب الأعمال.وذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الذين يؤتون كتابهم بأيمانهم يقرؤونه ولا يظلمونه فتيلًا.وقد أوضح هذا في مواضع أخر، كقوله: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَآؤُمُ اقرؤا كِتَابيَهْ} [الحاقة: 19]- إلى قوله- {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ ياليتني لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ} [الحاقة: 25] وقد قدمنا هذا مستوفى في أول هذه السورة الكريمة.وقول من قال: إن المراد {بإمامهم} أي يقال: يا فلان بن فلانة- قول باطل بلا شك. وقد ثبت في الصحيح من حديث ابن عمر مرفوعًا: «يرفع يوم القيامة لكل غادر لواء فيقال هذه غدرة فلان بن فلان».قوله تعالى: {وَمَن كَانَ فِي هذه أعمى فَهُوَ فِي الآخرة أعمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا}المراد بالعمى في هذه الآية الكريمة: عمى القلب لا عمى العين. ويدل لهذا قوله تعالى: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور} [الحج: 46] لان عمى العين مع إبصار القلب لا يضر، بخلاف العكس. فان أعمى العين يتذكر فتنفعه الذكرى ببصيرة قلبه، قال تعالى: {عَبَسَ وتولى أَن جَآءَهُ الأعمى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يزكى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذكرى} [عبس: 1-4].وقال ابن عباس رضي الله عنه عنهما لما عمي في آخر عمره- كما روي عنه من وجوه- كما ذكره بن عبد البر وغيرة: وقوله في هذه الآية الكريمة: {فَهُوَ فِي الآخرة أعمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا} قال بعض أهل العلم: ليس الصيغة صيغة تفضيل، بل المعنى فهو في الآخرة أعمى كذلك لا يهتدي إلى نفع. وبهذا جزم الزمخشري.قال مقيده عفا الله عنه: الذي يتبادر إلى الذهن إن لفظة {أعمى} الثانية صيغة تفضيل. أي هو اشد عمى في الآخرة.ويدل عليه قوله بعده {وَأَضَلُّ سَبِيلًا} فإنها صيغة تفضيل بلا نزاع. والمقرر في علم العربية: أن صيغتي التعجب وصيغة التفضيل لا يأتيان من فعل الوصف منه على أفعل الذي أنثاه فعلاء. كما أشار له في الخلاصة بقوله: والظاهر أن ما وجد في كلام العرب مصوغًا من صيغة تفضيل أو تعجب غير مستوف للشروط- أنه يحفظ ولا يقاس عليه. كما أشار له في الخصلاة بقوله: ومن أمثلة ذلك قوله: وقال بعض العلماء: إن قوله في هذا البيت: وأبيضهم سربال طباخ ليس صيغة تفضيل، بل المعنى أنت وحدك الأبيض سربال طباخ من بينهم. اهـ. .قال الشعراوي: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} وهل هناك تكريم لبني آدم أعظم من أنْ يُعدّ لهم مُقوّمات حياتهم قبل أنْ يخلقهم؟ لقد رتَّب لهم الكون وخلق من أجلهم الأشياء{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا..} [البقرة: 29]إذن: فكل ما في الوجود مُسخَّر لكم من قبل أنْ تُوجَدوا؛ لأن خلق الله تعالى إما خادم وإما مخدوم، وأنت أيُّها الإنسان مخدوم من كل أجناس الكون حتى من الملائكة، ألم يَقُلْ الحق سبحانه: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ..} [الرعد: 11]وقال تعالى: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} [النازعات: 5]فالكون كله يدور من أجلك وفي خدمتك، يعطيك عطاءً دائمًا لا ينقطع دون سَعْي منك، لذلك نقول: كان من الواجب على العقل المجرد أنْ يقفَ وقفه تأمُّل وتفكُّر؛ ليصل إلى حَلٍّ للغز الكون، وليهتدي إلى أن له خالقًا مُبْدعًا، يكفي أن أنظر إلى آيات الله التي تخدمني، وليس له قدرة عليها، وليست تحت سيطرتي، فالشمس والقمر والنجوم والأرض والهواء والماء والمطر والسحاب كلها تعطيني وتُمدّني دون قدرة لي عليها، أليس من الواجب عليك عدلًا أن تقول: مَنِ الذي أعدّ لي كلَّ هذه الأشياء التي ما ادَّعاهَا أحد لنفسه؟فإذا ما صاح صائح منك أيُّها الإنسان وقال: أنا رسول من الرب الذي خلق لكم كل هذه المخلوقات، كان يجب عليكم أنْ تُرهِفُوا له السمع لتسمعوا ما جاء به؛ لأنه سوف يحلُّ لكم هذا اللغز الذي حيّركم.وسبق أنْ ضربنا مثلًا لذلك بالرجل الذي انقطعتْ به السُّبل في الصحراء حتى أشرف على الهلاك، فإذا هو بمائدة مُعدَّة بأطايب الطعام والشراب، أليس حَريًا به قبل أنْ تمتد يده إليها أنْ يفكر كيف أتتْه؟إذن: كان على الإنسان أن يُعمل عقله وفِكْره في معطيات الكون التي تخدمه وتسخر من أجله، وهي لا تأتمر بأمره ولا تخضع لقدرته.ولقد اختلف العلماء في بيان أَوْجُه التكريم في الإنسان، فمنهم مَنْ قال: كُرِّمَ بالعقل، وآخر قال: كُرِّمَ بالتمييز، وآخر قال: كُرِّمَ بالاختيار، ومنهم مَنْ قال: كُرِّمَ الإنسان بأنه يسير مرفوع القامة لا منحنيًا إلى الأرض كالبهائم، ومنهم مَنْ يرى أنه كُرِّمَ بشكل الأصابع وتناسقها في شكل بديع يسمح لها بالحركة السلسة في تناول الأشياء، ومنهم مَنْ يرى أنه كُرِّم بأن يأكلَ بيده لا بفمه كالحيوان. وهكذا كان لكل واحد منهم مَلْحظ في التكريم.ولنا في مسألة التكريم هذه ملحظ كنت أودُّ أنْ يلتفت إليه العلماء، أَلاَ وهو: أن الحق سبحانه خلق الكون كله بكلمة كُنْ إلا آدم، فقد خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه، قال تعالى: {ياإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]وقال: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر: 29]فقمة الفضل والتكريم أن خلق الله تعالى أبنا آدم بيده، بدليل أن الله جعلها حيثية له.ثم يقول الحق سبحانه: {يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ...}.أي: يوم القيامة، والداعي هو المنادي، والناس هم المدعوون، والنداء على الناس في هذا اليوم لا يكون بفلان بن فلان، بل ينادي القوم بإمامهم أي: برسولهم، فيقال: يا أمة محمد، يا أمة عيسى، يا أمة موسى، يا أمة إبراهيم.ثم يُفصّل هذا الإجمال، فتُنادى كل جماعة بمَنْ بلَّغهم وهداهم ودَلَّهم ليُغري الناس بنقل الفضل العلمي من أنفسهم إلى غيرهم.وقال بعضهم {بِإِمَامِهِمْ} أي: بأمهاتهم، وفي دعاء الناس بأمهاتهم في هذا الموقف تكريم لعيسى عليه السلام أولًا، وسَتْر على أولاد الإثم ثانيًا، حتى لا يُفضحوا على رؤوس الأشهاد في مثل هذا الموقف.ثم يقول تعالى: {فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَائِكَ يَقْرَؤونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [الإسراء: 71]
|