الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال ابن عاشور: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَا} الافتتاح بكلمة التسبيح من دون سبق كلام مُتضمّنٍ ما يَجب تنزيه الله عنه يؤذن بأن خبرًا عجيبًا يستقبله السامعون دالًا على عظيم القدرة من المتكلم ورفيع منزلة المتحدث عنه.فإن جملة التسبيح في الكلام الذي لم يقع فيه ما يوهم تشبيهًا أو تنقيصًا لا يليقان بجلال الله تعالى مثل {سبحان ربك رب العزة عما يصفون} [الصافّات: 180]. يتعين أن تكون مستعملة في أكثر من التنزيه، وذلك هو التعجيب من الخبر المتحدث به كقوله: {قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم} [النور: 16]، وقول الأعشى:ولما كان هذا الكلام من جانب الله تعالى والتسبيح صادرًا منه كان المعنى تعجيب السامعين، لأن التعجب مستحيلة حقيقته على الله لا لأن ذلك لا يلتفت إليه في محامل الكلام البليغ لإمكان الرجوع إلى التمثيل، مثل مجيء الرجاء في كلامه تعالى نحو {لعلكم تفلحون} [البقرة: 189]، بل لأنه لا يستقيم تعجب المتكلم من فعل نفسه، فيكون معنى التعجيب فيه من قبيل قولهم أتعجب من قول فلان كيْت وكيْت.ووجه هذا الاستعمال أن الأصل أن يكون التسبيح عند ظهور ما يدل على إبطال ما لا يليق بالله تعالى.ولما كان ظهور ما يدل على عظيم القدرة مزيلًا للشك في قدرة الله وللإشراك به كان من شأنه أن يُنطق المتأمل بتسبيح الله تعالى، أي تنزيهه عن العجز.وأصل صيغ التسبيح هو كلمة سبحان الله التي نُحت منها السبحلة.ووقع التصرف في صيغها بالإضمار نحو سبحانَك وسبحانه، وبالموصول نحو {سبحان الذي خلق الأزواج كلها} [يس: 36]، ومنه هذه الآية.والتعبير عن الذات العلية بطريق الموصول دون الاسم العلم للتنبيه على ما تفيده صلة الموصول من الإيماء إلى وجه هذا التعجيب والتنويه وسببه، وهو ذلك الحادث العظيم والعناية الكبرى.ويفيد أن حديث الإسراء أمر فَشا بين القوم، فقد آمن به المسلمون وأكبَره المشركون.وفي ذلك إدماج لرفعة قدر محمد وإثباتُ أنه رسول من الله، وأنه أوتي من دلائل صدق دعوته ما لا قِبل لهم بإنكاره، فقد كان إسراؤه إطلاعًا له على غائب من الأرض، وهو أفضل مكان بعد المسجد الحرام.و{أسرى} لغة في سَرَى، بمعنى سار في الليل، فالهمزة هنا ليست للتعدية لأن التعدية حاصلة بالباء، بل أسرى فعل مفتح بالهمزة مرادف سَرى، وهو مثل أبان المرادف بَان، ومثل أنهج الثوبُ بمعنى نَهَجَ أي بلِيَ، ف {أسرى بعبده} بمنزلة {ذهب الله بنورهم} [البقرة: 17].وللمبرد والسهيلي نكتة في التفرقة بين التعدية بالهمزة والتعدية بالباء بأن الثانية أبلغ لأنها في أصل الوضع تقتضي مشاركة الفاعل المفعولَ في الفعل، فأصل ذهب به أنه استصحبه، كما قال تعالى: {وسار بأهله} [القصص: 29].وقالت العرب أشبعهم شتمًا، ورَاحوا بالإبل.وفي هذا لطيفة تناسب المقام هنا إذ قال {أسرى بعبده} دون سرّى بعبْدَه، وهي التلويح إلى أن الله تعالى كان مع رسوله في إسرائه بعنايتهِ وتوفيقه، كما قال تعالى: {فإنك بأعيننا} [الطور: 48]، وقال: إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا [التوبة: 40].فالمعنى: الذي جعل عبده مُسريًا، أي ساريًا، وهو كقوله تعالى: {فأسر بأهلك بقطع من الليل} [هود: 81].وإذ قد كان السُرى خاصًا بسير الليل كان قوله: {ليلًا} إشارة إلى أن السير به إلى المسجد الأقصى كان في جُزء ليلة، وإلا لم يَكن ذكره إلا تأكيدًا، على أن الإفادة كما يقولون خير من الإعادة.وفي ذلك إيماء إلى أنه أسراء خارق للعادة لقطع المسافة التي بين مبدأ السير ونهايته في بعض ليلة، وأيضًا ليتوسل بذكر الليل إلى تنكيره المفيد للتعظيم.فتنكير {ليلًا} للتعظيم، بقرينة الاعتناء بذكره مع علمه من فعل {أسرى}، وبقرينة عدم تعريفه، أي هو ليل عظيم باعتبار جعله زمنًا لذلك السرى العظيم، فقام التنكير هنا مقام ما يدل على التعظيم.ألا ترى كيف احْتيج إلى الدلالة على التعظيم بصيغة خاصة في قوله تعالى: {إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر} [القدر: 1 2]. إذ وقعت ليلة القدر غير منكرة.وعَبْد المضاف إلى ضمير الجلالة هنا هو محمد كما هو مصطلح القرآن، فإنه لم يقع فيه لفظ العبد مضافًا إلى ضمير الغيبة الراجع إلى الله تعالى إلا مرادًا به النبي؛ ولأن خبر الإسراء به إلى بيت المقدس قد شاع بين المسلمين وشاع إنكاره بين المشركين، فصار المراد بعبده معلومًا.والإضافة إضافة تشريف لا إضافة تعريف لأن وصف العبودية لله متحقق لسائر المخلوقات فلا تفيد إضافته تعريفًا.والمسجد الحرام هو الكعبة والفِناء المحيط بالكعبة بمكة المتخذ للعبادة المتعلقة بالكعبة من طواف بها واعتكاف عندها وصلاة.وأصل المسجد: أنه اسم مكان السجود.وأصل الحرام: الأمر الممنوع، لأنه مشتق من الحَرْم بفتح فسكون وهو المنع، وهو يرادف الحرم.فوصف الشيء بالحرام يكون بمعنى أنه ممنوع استعماله استعمالًا يناسبه، نحو {حرمت عليكم الميتة} [المائدة: 3]. أي أكل الميتة، وقول عنترة: أي ممنوع قربانها لأنها زوجة أبيه وذلك مذموم بينهم ويكون بمعنى الممنوع من أن يعمل فيه عمل ما ويبين بذكر المتعلق الذي يتعلق به وقد لا يذكر متعلّقة إذا دل عليه العرف، ومنه قولهم: {الشهر الحرام} [البقرة: 194]. أي الحرام فيه القتال في عرفهم.وقد يحذف المتعلق لقصد التكثير، فهو من الحذف للتعميم فيَرجع إلى العموم العرفي، ففي نحو {البيت الحرام} [المائدة: 2]. يراد الممنوع من عُدوان المعتدين، وغزوِ الملوك والفاتحين، وعمللِ الظلم والسوءِ فيه.والحرام: فَعال بمعنى مفعول، كقولهم: امرأة حَصان، أي ممنوعة بعفافها عن الناس.فالمسجد الحرام هو المكان المعد للسجود، أي للصلاة، وهو الكعبة والفناء المجعول حرمًا لها.وهو يختلف سعة وضيقًا باختلاف العصور من كثرة الناس فيه للطواف والاعتكاف والصلاة.وقد بنى قريش في زمن الجاهلية بيوتهم حول المسجد الحرام.وجعل قُصي بقربه دارَ الندوة لقريش وكانوا يجلسون فيها حول الكعبة، فانحصر لما أحاطت به بيوت عشائر قريش.وكانت كل عشيرة تتخذ بيوتها متجاورة.ومجموع البيوت يسمى شِعبًا بكسر الشين.وكانت كل عشيرة تسلك إلى المسجد الحرام من منفذ دُورها، ولم يكن للمسجد الحرام جدار يُحفظ به.وكانت المسالك التي بين دُور العشائر تسمى أبوابًا لأنها يسلك منها إلى المسجد الحرام، مثل باب بني شيبة، وباب بني هاشم، وباب بني مخزوم وهو باب الصفا، وباب بني سهم، وباب بني تيم.وربما عُرِف بعض الأبواب بجهة تقرب منه مثل بَاب الصفا ويسمى باب بني مخزوم.وباب الحزورة سمي بمكان كانت به سوق لأهل مكة تسمى الحَزْورة.ولا أدري هل كانت أبوابًا تغلق أم كانت منافذ في الفضاء فإن الباب يطلق على ما بين حاجزين.وأول من جعل للمسجد الحرام جدارًا يُحفظ به هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة سبعَ عشرة من الهجرة.ولُقب بالمسجد لأن إبراهيم عليه الصلاة والسلام جعله لإقامة الصلاة في الكعبة كما حكى الله عنه {ربنا ليقيموا الصلاة} [إبراهيم: 37].ولما انقرضت الحنيفية وترك أهل الجاهلية الصلاة تناسوا وصفهُ بالمسجد الحرام فصاروا يقولون: البيت الحرام.وأما قول عمر: إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام، فإنه عبر عنه باسمه في الإسلام.فغلبَ عليه هذا التعريف التوصيفي فصار له علمًا بالغلبة في اصطلاح القرآن.ولا أعرف أنه كان يعرف في الجاهلية بهذا الاسم، ولا على مسجد بيت المقدس في عصر تحريمه عند بَني إسرائيل.وقد تقدم وجه ذلك عند قوله تعالى: {فول وجهك شطر المسجد الحرام} في [البقرة: 144]، وعند قوله تعالى: {أن صدوكم عن المسجد الحرام} في أول العقود [المائدة: 2].وعلميته بمجموع الوصف والموصوف وكلاهما معَرّف باللام.فالجزء الأول مثل النجم والجزء الثاني مثل الصعِق، فحصل التعريف بمجموعهما، ولم يعد النحاةُ هذا النوع في أقسام العلم بالغلبة.ولعلهم اعتبروه راجعًا إلى المعرف باللام.ولابد من عده لأن علميته صارت بالأمرين.والمسجد الأقصى هو المسجد المعروف ببيتتِ المقدِس الكائن بإيلياء، وهو المسجد الذي بناه سليمان عليه الصلاة والسلام.والأقصى، أي الأبعد.والمراد بعده عن مكة، بقرينة جعله نهاية الإسراء من المسجد الحرام، وهو وصف كاشف اقتضاه هنا زيادة التنبيه على معجزة هذا الإسراء وكونه خارقًا للعادة لكونه قطْعَ مسافة طويلة في بعض ليلة.وبهذا الوصف الوارد له في القرآن صار مجموع الوصف والموصوف علمًا بالغلبة على مسجد بيت المقدس كما كان المسجد الحرام علمًا بالغلبة على مسجد مكة.وأحسب أن هذا العلم له من مبتكرات القرآن فلم يكن العرب يصفونه بهذا الوصف ولكنهم لما سمعوا هذه الآية فهموا المراد منه أنه مسجد إيلياء.ولم يكن مسجد لدين إلهي غيرهما يومئذٍ.وفي هذا الوصف بصيغة التفضيل باعتبار أصل وضعها معجزةٌ خفية من معجزات القرآن إيماء إلى أنه سيكون بين المسجدين مسجد عظيم هو مسجد طيبة الذي هو قَصِيٌ عن المسجد الحرام، فيكون مسجد بيت المقدس أقصى منه حينئذٍ.فتكون الآية مشيرة إلى جميع المساجد الثلاثة المفضلة في الإسلام على جميع المساجد الإسلامية، والتي بينها قول النبي: «لا تُشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجد الحرام، ومسجد الأقصى، ومسجدي».وفائدة ذكر مبدأ الإسراء ونهايته بقوله: {من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصا} أمران:أحدهما: التنصيص على قطع المسافة العظمية في جزء ليلة، لأن كلا من الظرف وهو {ليلًا} ومن المجرورين {من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصا} قد تعلق بفعل {أسرى}، فهو تعلق يقتضي المقارنة، ليعلم أنه من قبيل المعجزات.وثانيهما: الإيماء إلى أن الله تعالى يجعل هذا الإسراء رمزًا إلى أن الإسلام جمع ما جاءت به شرائع التوحيد والحنيفية من عهد إبراهيم عليه الصلاة والسلام الصادر من المسجد الحرام إلى ما تفرع عنه من الشرائع التي كان مقرها بيت المقدس ثم إلى خاتمتها التي ظهرت من مكة أيضًا؛ فقد صدرت الحنيفية من المسجد الحرام وتفرعت في المسجد الأقصى.ثم عادت إلى المسجد الحرام كما عاد الإسراء إلى مكة لأن كل سُرى يعقبه تأويب.وبذلك حصل رد العجز على الصدر.ومن هنا يظهر مناسبة نزول التشريع الاجماعي في هذه السورة في الآيات المفتتحة بقوله تعالى: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه} ففيها: {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق} {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} {وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم} [الإسراء: 23: 35]. إيماء إلى أن هذا الدين سيكون دينًا يحكم في الناس وتنفذ أحكامه.والمسجد الأقصى هو ثاني مسجد بناه إبراهيم عليه السلام كما ورد ذلك عن النبي ففي الصحيحين عن أبي ذر قال: قلتُ يا رسول الله أي مسجد وُضع في الأرض أولُ؟ قال: «المسجدُ الحرام. قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى. قلت كمْ بينهما؟ قال أربعون سنة».فهذا الخبر قد بين أن المسجد الأقصى من بناء إبراهيم لأنه حُدد بمدة هي من مدة حياة إبراهيم عليه السلام وقد قُرن ذكره بذكر المسجد الحرام وهذا مما أهملَ أهل الكتاب ذكره وهو مما خَصّ الله نبيئه بمعرفته والتوراة تشهد له، فقد جاء في سفر التكوين في الإصحاح الثاني عشر: أن إبراهيم لما دخل أرض كنعان وهي بلاد فلسطين نصب خيمته في الجبل شرقي بيت إيل بيت إيل مدينة على بعد أحد عشر ميلًا من أورشليم إلى الشمال وهو بلد كان اسمه عند الفلسطينيين لوزا فسماه يعقوب: بيت إيل، كما في الإصحاح الثامن والعشرين من سفر التكوين وغربي بلاد عاي مدينة عبرانية تعرف الآن الطيبة وبنى هنالك مذبحًا للرب وهم يطلقون المذبح على المسجد لأنهم يذبحون القرابين في مساجدهم.قال عمر بن أبي ربيعة: أي مَكانَ المذبح من المسجد، لأن المحراب هو محل التعبد، قال تعالى: {وهو قائم يصلي في المحراب} [آل عمران: 39].ولا شك أن مسجد إبراهيم هو الموضع الذي توخى داود عليه السلام أن يضع عليه الخيمة وأن يبني عليه محرابه أو أوحى الله إليه بذلك، وهو الذي أوصى ابنَه سليمان عليه السلام أن يبني عليه المسجدَ، أي الهيكل.وقد ذكر مؤرخو العبرانيين ومنهم يوسيفوس أن الجبل الذي سكنه إبراهيم بأرض كنعان اسمه نَأبو وأنه هو الجبل الذي ابتنى عليه سليمان الهيكل وهو المسجد الذي به الصخرة.
|