الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{وَلاَ تَتَّخِذُواْ أيمانكم دَخَلًا بَيْنَكُمْ} تصريح بالنهي عنه بعد التضمين تأكيدًا ومبالغة في قبح المنهي. {فَتَزِلَّ قَدَمٌ} أي عن محجة الإسلام. {بَعْدَ ثُبُوتِهَا} عليها والمراد أقدامهم، وإنما وحد ونكر للدلالة على أن زلل قدم واحدة عظيم فكيف بأقدام كثيرة. {وَتَذُوقُواْ السوء} العذاب في الدنيا. {بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ الله} بصدكم عن الوفاء أو صدكم غيركم عنه، فإن من نقض البيعة وارتد جعل ذلك سنة لغيره. {وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} في الآخرة.{وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ الله} ولا تستبدلوا عهد الله وبيعة رسوله صلى الله عليه وسلم. {ثَمَنًا قَلِيلًا} عرضًا يسيرًا، وهو ما كانت قريش يعدون لضعفاء المسلمين ويشترطون لهم على الارتداد. {إِنَّمَا عَندَ الله} من النصر والتغنيم في الدنيا والثواب في الآخرة. {هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} مما يعدونكم. {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} إن كنتم من أهل العلم والتمييز.{مَا عِندَكُمْ} من أعراض الدنيا. {يَنْفَدُ} ينقضي ويفنى. {وَمَا عِندَ الله} من خزائن رحمته. {بَاقٍ} لا ينفد، وهو تعليل للحكم السابق ودليل على أن نعيم أهل الجنة باق. {وَلَنَجْزِيَنَّ الذين صَبَرُواْ أَجْرَهُمْ} على الفاقة وأذى الكفار، أو على مشاق التكاليف، وقرأ ابن كثير وعاصم بالنون. {بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} بما يرجح فعله من أعمالهم كالواجبات والمندوبات، أو بجزاء أحسن من أعمالهم.{مَنْ عَمِلَ صالحا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى} بينه بالنوعين دفعًا للتخصيص. {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} إذ لا اعتداد بأعمال الكفرة في استحقاق الثواب، وإنما المتوقع عليها تخفيف العذاب. {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حياة طَيّبَةً} في الدنيا يعيش عيشًا طيبًا فإنه إن كان موسرًا فظاهر وإن كان معسرًا يطيب بالقناعة والرضا بالقسمة وتوقع الأجر العظيم في الآخرة، بخلاف الكافر فإنه إن كان معسرًا فظاهر وإن كان موسرًا لم يدعه الحرص وخوف الفوات أن يتهنأ بعيشه، وقيل في الآخرة. {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} من الطاعة.{فَإِذَا قَرَأْتَ القرءان} إذا أردت قراءته كقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ} {فاستعذ بالله مِنَ الشيطان الرجيم} فاسأل الله أن يعيذك من وساوسه لئلا يوسوسك في القراءة، والجمهور على أنه للاستحباب، وفيه دليل على أن المصلي يستعيذ في كل ركعة لأن الحكم المترتب على شرط يتكرر بتكرره قياسًا، وتعقيبه لذكر العمل الصالح والوعد عليه إيذان بأن الاستعاذة عند القراءة من هذا القبيل، وعن ابن مسعود قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: أعوذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم فقال: «قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم هكذا أقرأنيه جبريل عن القلم عن اللوح المحفوظ» {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ} تسلط وولاية {على الذين ءَامَنُواْ وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} على أولياء الله تعالى المؤمنين به والمتوكلين عليه فإنهم لا يطيعون أوامره ولا يقبلون وساوسه إلا فيما يحتقرون على ندور وغفلة ولذلك أمروا بالاستعاذة فذكر السلطنة بعد الأمر باستعاذة لئلا يتوهم منه أن له سلطانًا.{إِنَّمَا سلطانه على الذين يَتَوَلَّوْنَهُ} يحبونه ويطيعونه. {والذين هُم بِهِ} بالله أو بسبب الشيطان. {مُّشْرِكُونَ}.{وَإِذَا بَدَّلْنَا ءايَةً مَّكَانَ ءايَةٍ} بالنسخ فجعلنا الآية الناسخة مكان المنسوخة لفظًا أو حكمًا. {والله أَعْلَمُ بِمَا يُنَزّلُ} من المصالح فلعل ما يكون مصلحة في وقت يصير مفسدة بعده فينسخه، وما لا يكون مصلحة حينئذ يكون مصلحة الآن فيثبته مكانه، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو {يُنَزل} بالتخفيف. {قَالُواْ} أي الكفرة. {إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ} متقول على الله تأمر بشيء ثم يبدو لك فتنهى عنه، وجواب {إِذَا} {والله أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ}، اعتراض لتوبيخ الكفار على قولهم والتنبيه على فساد سندهم ويجوز أن يكون حالًا. {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} حكمة الأحكام ولا يميزون الخطأ من الصواب.{قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القدس} يعني جبريل عليه الصلاة والسلام، وإضافة الروح إلى القدس وهو الطهر كقولهم: حاتم الجود وقرأ ابن كثير: {رُوحُ القدس} بالتخفيف وفي {ينزل} و{نزله} تنبيه على أن إنزاله مدرجًا على حسب المصالح بما يقتضي التبديل. {مّن رَّبِّكَ بالحق} ملتبسًا بالحكمة. {لِيُثَبِّتَ الذين ءَامَنُواْ} ليثبت الله الذين آمنوا على الإيمان بأنه كلامه، وأنهم إذا سمعوا الناسخ وتدبروا ما فيه من رعاية الصلاح والحكمة رسخت عقائدهم واطمأنت قلوبهم. {وَهُدًى وبشرى لِلْمُسْلِمِينَ} المنقادين لحكمه، وهما معطوفان على محل {لِيُثَبِّتَ} أي تثبيتًا وهداية وبشارة، وفيه تعريض بحصول أضداد ذلك لغيرهم وقرئ {لِيُثَبّتَ} بالتخفيف.{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلّمُهُ بَشَرٌ} يعنون جبرًا الرومي غلام عامر بن الحضرمي، وقيل جبرًا ويسارًا كانا يصنعان السيوف بمكة ويقرآن التوراة والإنجيل، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يمر عليهما ويسمع ما يقرآنه، وقيل عائشًا غلام حويطب بن عبد العزى قد أسلم وكان صاحب كتب، وقيل سلمان الفارسي. {لّسَانُ الذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ} لغة الرجل الذي يميلون قولهم عن الاستقامة إليه، مأخوذ من لحد القبر، وقرأ حمزة والكسائي: {يلحدون} بفتح الياء والحاء، لسان أعجمي غير بين. {وهذا} وهذا القرآن. {لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} ذو بيان وفصاحة، والجملتان مستأنفتان لإِبطال طعنهم، وتقريره يحتمل وجهين أحدهما: أن ما سمعه منه كلام أعجمي لا يفهمه هو ولا أنتم والقرآن عربي تفهمونه بأدنى تأمل، فكيف يكون ما تلقفه منه، وثانيهما: هب أنه تعلم منه المعنى باستماع كلامه لكن لم يتلقف منه اللفظ، لأن ذلك أعجمي وهذا عربي والقرآن كما هو معجز باعتبار المعنى فهو معجز من حيث اللفظ، مع أن العلوم الكثيرة التي في القرآن لا يمكن تعلمها إلا بملازمة معلم فائق في تلك العلوم مدة متطاولة، فكيف تعلم جميع ذلك من غلام سوقي سمع منه في بعض أوقات مروره عليه كلمات أعجمية لعلهما لم يعرفا معناها، وطعنهم في القرآن بأمثال هذه الكلمات الركيكة دليل على غاية عجزهم.{إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بآيات الله} لا يصدقون أنها من عند الله. {لاَ يَهْدِيهِمُ الله} إلى الحق أو إلى سبيل النجاة، وقيل إلى الجنة. {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} في الآخرة، هددهم على كفرهم بالقرآن بعدما أماط شبهتهم ورد طعنهم فيه، ثم قلب الأمر عليهم فقال: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الكذب الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بآيات الله} لأنهم لا يخافون عقابًا يردعهم عنه. {وأولئك} إشارة إلى الذين كفروا أو إلى قريش. {هُمُ الكاذبون} أي الكاذبون على الحقيقة، أو الكاملون في الكذب لأن تكذيب آيات الله والطعن فيها بهذه الخرافات أعظم الكذب، أو الذين عادتهم الكذب لا يصرفهم عنه دين ولا مروءة، أو الكاذبون في قولهم: {إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ} {إِنَّمَا يُعَلّمُهُ بَشَرٌ}.{مَن كَفَرَ بالله مِن بَعْدِ إيمانه} بدل من الذين لا يؤمنون وما بينهما اعتراض، أو من {أولئك} أو من {الكاذبون}، أو مبتدأ خبره محذوف دل عليه قوله: {فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ} ويجوز أن ينتصب بالذم وأن تكون من شرطية محذوفة الجواب دل عليه قوله: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ} على الافتراء أو كلمة الكفر، استثناء متصل لأن الكفر لغة يعم القول والعقد كالإِيمان. {وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان} لم تتغير عقيدته، وفيه دليل على أن الإِيمان هو التصديق بالقلب. {ولكن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} اعتقده وطاب به نفسًا. {فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مّنَ الله وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} إذ لا أعظم من جرمه. روي أن قريشًا أكرهوا عمارًا وأبويه ياسرًا وسمية على الارتداد، فربطوا سمية بين بعيرين وجيء بحربة في قبلها وقالوا: أنك أسلمت من أجل الرجال فقتلت، وقتلوا ياسرًا وهما أول قتيلين في الإِسلام، وأعطاهم عمار بلسانه ما أرادوا مكرهًا فقيل: يا رسول الله إن عمارًا كفر فقال: «كلا إن عمارًا ملىء إيمانًا من قرنه إلى قدمه، واختلط الإيمان بلحمه ودمه» فأتى عمار: رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكي، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح عينيه ويقول: «ما لك إن عادوا لك فعد لهم بما قلت»، وهو دليل على جواز التكلم بالكفر عند الإكراه وإن كان الأفضل أن يتجنب عنه إعزازًا للدين كما فعله أبواه لما روي أن مسيلمة أخذ رجلين فقال لأحدهما: ما تقول في محمد؟ قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فما تقول فيَّ فقال: أنت أيضًا فخلاه، وقال للآخر ما تقول في محمد قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال فما تقول في؟ قال: أنا أصم، فأعاد عليه ثلاثًا فأعاد جوابه فقتله، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أما الأول فقد أخذ برخصة الله، وأما الثاني فقد صدع بالحق فهنيئًا له» {ذلك} إشارة إلى الكفر بعد الإِيمان أو الوعيد. {بِأَنَّهُمُ استحبوا الحياة الدنيا على} بسبب أنهم آثروها عليها. {وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين} أي الكافرين في علمه إلى ما يوجب ثبات الإيمان ولا يعصمهم من الزيغ.{أُولَئِكَ الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وأبصارهم} فأبت عن إدراك الحق والتأمل فيه. {وأولئك هُمُ الغافلون} الكاملون في الغفلة إذ أغفلتهم الحالة الراهنة عن تدبر العواقب.{لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخرة هُمُ الخاسرون} إذ ضيعوا أعمارهم وصرفوها فيما أفضى بهم إلى العذاب المخلد.{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجروا مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ} أي عذبوا كعمار رضي الله تعالى عنه بالولاية والنصر، و{ثُمَّ} لتباعد حال هؤلاء عن حال أولئك، وقرأ ابن عامر فتنوا بالفتح أي من بعد ما عذبوا المؤمنين كالحضرمي أكره مولاه جبرًا حتى ارتد ثم أسلم وهاجر. {ثُمَّ جاهدوا وَصَبَرُواْ} على الجهاد وما أصابهم من المشاق. {إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا} من بعد الهجرة والجهاد والصبر. {لَغَفُورٌ}، لما فعلوا قبل. {رَّحِيمٌ} منعم عليهم مجازاة على ما صنعوا بعد. اهـ.
.قال ابن جزي: {إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان} يعني بالعدل: فعل الواجبات، وبالإحسان: المندوبات، وذلك في حقوق الله تعالى وفي حقوق المخلوقين، قال ابن مسعود: هذه أجمع آية في كتاب الله تعالى: {وَإِيتَاء ذِي القربى} الإيتاء مصدر آتى بمعنى أعطى، وقد دخل ذلك في العدل والإحسان، ولكنه جرده بالذكر اهتمامًا به {وينهى عَنِ الفحشاء} قيل: يعني الزنا، واللفظ أعم من ذلك {والمنكر} هو أعم من الفحشاء، لأنه يعم جميع المعاصي {والبغي} يعني الظلم.{وَلاَ تَنقُضُواْ الأيمان} هذا في الأيمان التي في الوفاء بها خير، وأما ما كان تركه أولى، فليكفر عن يمينه وليفعل الذي هو خير منه، كما جاء في الحديث، أو تكون الأيمان هنا ما يحلفه الإنسان في حق غيره، أو معاهدة لغيره {وَقَدْ جَعَلْتُمُ الله عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} أي رقيبًا ومتكفلًا بوفائكم بالعهد، وقيل: إن هذه الآية نزلت في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: فيما كان بين العرب من حلف في الجاهلية {وَلاَ تَكُونُواْ كالتي نَقَضَتْ غَزْلَهَا} شبّه الله من يحلف ولم يفِ بيمينه بالمرأة التي تغزل غزلًا قويًا ثم تنقضه.ورُوي أنه كان بمكة امرأة حمقاء تسمى ريطة بنت سعد، كانت تفعل ذلك وبها وقع التشبيه، وقيل إنما شبه بامرأة غير معينة {أنكاثا} جمع نكث، وهو ما ينكث أن ينقض، وانتصابه على الحال {تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ} الدخل الدغل، وهو قصد الخديعة {أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أربى مِنْ أُمَّةٍ} أن في موضع المفعول من أجله: أي بسبب أن تكون أمة، ومعنى أربى: أكثر عددًا أو أقوى، ونزلت الآية في العرب الذين كانت القبيلة منهم تحالف الأخرى، فإذا جاءها قبيلة أقوى منها وغدرت بالأولى وحالفت الثانية، وقيل: الإشارة بالأربى هنا إلى كفّار قريش؛ إذ كانوا حينئذٍ أكثر من المسلمين. {إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ الله بِهِ} الضمير للأمر بالوفاء، أو لكون أمة أربى من أمة، فإن ذلك يظهر من يحافظ على الوفاء أولًا.{فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا} استعارة في الرجوع عن الخير إلى الشر، وإنما أفرد القدم ونكّرها: لاستعظام الزلل في قدم واحدة فكيف في أقدام كثيرة {وَتَذُوقُواْ السواء} يعني في الدنيا {بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ الله} يدل على أن الآية فيمن بايع النبي صلى الله عليه وسلم {وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} يعني في الآخرة.[البقرة: 41]. الثمن القليل عرض الدنيا، وهذا نهي لمن بايع النبي صلى الله عليه وسلم أن ينكث، لأجل ضعف الإسلام حينئذٍ وقوة الكفّار، ورجاء الانتفاع في الدنيا إن رجع عن البيعة {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ} أي يفنى.{فَلَنُحْيِيَنَّهُ حياوة طَيِّبَةً} يعني في الدنيا، قال ابن عباس: هي الرزق الحلال، وقيل: هي القناعة، وقيل: هي حياة الآخرة {فَإِذَا قَرَأْتَ القرآن فاستعذ بالله} ظاهراللفظ أن يستعاذ بعد القراءة، لأن الفاء تقتضي الترتيب، وقد شذ قوم فأخذوا بذلك، وجمهور الأمة على أن الاستعاذة قبل القراءة، وتأويل الآية: إذا أردت قراءة القرآن فاستعذ بالله {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سلطان على الذين آمَنُواْ} أي ليس له عليهم سبيل ولا يقدر على إضلالهم {إِنَّمَا سلطانه على الذين يَتَوَلَّوْنَهُ} أي يتخذونه وليًا {والذين هُم بِهِ مُشْرِكُونَ} الضمير لإبليس، والباء سببية.{وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً} التبديل هنا النسخ، كان الكفار إذا نسخت آية، يقولون: هذا افتراء ولو كان من عند الله لم يبدل {والله أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} جملة اعتراض بين الشرط وجوابه، وفيها رد على الكفار أي الله أعلم بما يصلح للعباد في وقت ثم ما يصلح لهم بعد ذلك {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القدس} يعني جبريل {بالحق} أي مع الحق في أوامره ونواهيه وأخباره، ويحتمل أن يكون قوله بالحق بمعنى حقًا أو بمعنى أنه واجب النزول.{أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} كان بمكة غلام أعجمي أسمه يعيش، وقيل: كانا غلامين اسم أحدهما جبر والآخر يسار، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس إليهما ويدعوهما إلى الإسلام، فقالت قريش: هذان يعلمان محمدًا {لِّسَانُ الذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ} اللسان هنا بمعنى اللغة والكلام، ويلحدون من ألحد إذا مال، وقرئ بفتح الياء من لحد، وهما بمعنى واحد، وهذا ردّ عليهم فإن الشخص الذي أشاروا إليه يعلمه أعجمي اللسان؛ وهذا القرآن عربي في غاية الفصاحة فلا يمكن أن يأتي به أعجمي.{إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بآيات الله لاَ يَهْدِيهِمُ الله} هذا في حق من علم الله منه أنه لا يؤمن كقوله: {إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ} [يونس: 96]، فاللفظ عام يراد به الخصوص، كقوله: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ سَوَاء عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ} [البقرة: 6]، وقال ابن عطية: المعنى إن الذين لا يهديهم الله لا يؤمنون بالله، ولكنه قدم في هذا الترتيب وأخر، تهكمًا لتقبيح أفعالهم {إِنَّمَا يَفْتَرِي الكذب الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بآيات الله} ردّ على قولهم: إنما أنت مفتر؛ يعني: إنما يليق الكذب بمن لا يؤمن لأنه لا يخاف الله، وأما من يؤمن بالله فلا يكذب عليه {وأولئك هُمُ الكاذبون} الإشارة إلى الذين لا يؤمنون بالله: أي هم الذين عادتهم الكذب لأنهم لا يبالون بالوقوع في المعاصي، ويحتمل أن يكون المنسوب إليهم قولهم إنما أنت مفتر.{مَن كَفَرَ بالله} الآية: من شرطية في موضع رفع بالابتداء، وكذلك من في قوله من شرح، لأنه تخصيص من الأول، وقوله: {فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ} جواب على الأولى والثانية، لأنهم بمعنى واحد أو يكون جوابًا للثانية، وجواب الأولى محذوف يدل عليه جواب الثانية، وقيل: من كفر بدل من الذين لا يؤمنون أو من المبتدأ في قوله أولئك هم الكاذبون، أو من الخبر {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ} استثنى من قوله من كفر، وذلك أن قومًا ارتدوا عن الإسلام، فنزلت فيهم الآية، وكان فيهم من أكره على الكفر فنطق بكلمة الكفر، وهو يعتقد الإيمان منهم عمار بن ياسر، وصهيب، وبلال فعذرهم الله.روي أن عمار بن ياسر شكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صنع به من العذاب وما تسامح به من القول، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كيف تجد قلبك؟ قال أجده مطمئنًا بالإيمان، قال فأجبهم بلسانك، فإنه لا يضرك» وهذا الحكم في من أكره بالنطق على الكفر، وأما الإكراه على فعل هو كفر كالسجود للصنم فاختلف هل تجوز الإجابة إليه أم لا؟ فأجازه الجمهور، ومنعه قوم وكذلك قال مالك: لا يلزم المكره يمين ولا طلاق ولا عتق ولا شيء فيما بينه وبين الله، ويلزمه ما كان من حقوق الناس، ولا تجوز الإجابة إليه كالإكراه على قتل أحد أو أخذ ماله.{ذلك بِأَنَّهُمُ استحبوا الحياة الدنيا} الإشارة إلى العذاب، والباء للتعليل، فعلل عذابهم بعلتين: إحداهما إيثارهم الحياة الدنيا، والأخرى أن الله لا يهديهم {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ} قرأ الجمهور: {فتنوا} بضم الفاء: أي عذبوا فالآية على هذا في عمار وشبهه من المعذبين على الإسلام، قرأ ابن عامر بفتح الفاء: أي عذاب المسلمين، فالآية على هذا فيمن عذّب المسلمين، ثم هاجر وجاهد كالحضرمي وأشباهه.{إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} كرر إن ربك توكيدًا، والضمير في بعدها يعود على الأفعال المذكورة وهي الجهاد والصبر. اهـ.
|