الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{وَقَالَ الذين أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء الله مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْء نَّحْنُ وَلا ءَابَاؤنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ من شيء} إنما قالوا ذلك استهزاء أو منعًا للبعثة والتكليف متمسكين بأن ما شاء الله يجب وما لم يشأ يمتنع فما الفائدة فيها، أو إنكارًا لقبح ما أنكر عليهم من الشرك وتحريم البحائر ونحوها محتجين بأنها لو كانت مستقبحة لما شاء الله صدورها عنهم ولشاء خلافه، ملجئًا إليه لا اعتذارًا إذ لم يعتقدوا قبح أعمالهم، وفيما بعده تنبيه على الجواب عن الشبهتين.{كَذَلِكَ فَعَلَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} فأشركوا بالله وحرموا حله وردوا رسله. {فَهَلْ عَلَى الرسل إِلاَّ البلاغ المبين} إلا الإِبلاغ الموضح للحق وهو لا يؤثر في هدى من شاء الله هداه لكنه يؤدي إليه على سبيل التوسط، وما شاء الله وقوعه إنما يجب وقوعه لا مطلقًا بل بأسباب قدرها له، ثم بين أن البعثة أمر جرت به السنة الإِلهية في الأمم كلها سببًا لهدى من أراد اهتداءه وزيادة لضلال من أراد ضلاله، كالغذاء الصالح فإنه ينفع المزاج السوي ويقويه ويضر المنحرف ويفنيه بقوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} يأمر بعبادة الله تعالى واجتناب الطاغوت. {فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى الله} وفقهم للإِيمان بإرشادهم. {وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضلالة} إذ لم يوفقهم ولم يرد هداهم، وفيه تنبيه على فساد الشبهة الثانية لما فيه من الدلالة على أن تحقق الضلال وثباته بفعل الله تعالى وإرادته من حيث أنه قسم من هدى الله، وقد صرح به في الآية الأخرى. {فَسِيرُواْ في الأرض} يا معشر قريش. {فانظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة المكذبين} من عاد وثمود وغيرهم لعلكم تعتبرون.{إِن تَحْرِصْ} يا محمد. {على هُدَاهُمْ فَإِنَّ الله لاَ يَهْدِى مَن يُضِلُّ} من يريد ضلاله وهو المعني بمن حقت عليه الضلالة، وقرأ غير الكوفيين {لاَّ يَهِدِّي} على البناء للمفعول وهو أبلغ. {وَمَا لَهُم مّن ناصرين} من ينصرهم بدفع العذاب عنهم.{وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ} عطف على {وَقَالَ الذين أَشْرَكُواْ} إيذانًا بأنهم كما أنكروا التوحيد أنكروا البعث مقسمين عليه زيادة في البيت على فساده، ولقد رد الله عليهم أبلغ رد فقال: {بلى} يبعثهم. {وَعْدًا} مصدر مؤكد لنفسه وهو ما دل عليه {بلى} فإن يبعث موعد من الله. {عَلَيْهِ} إنجازه لامتناع الخلف في وعده، أو لأن البعث مقتضى حكمته. {حَقًّا} صفة أخرى للوعد. {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} أنهم يبعثون وإما لعدم علمهم بأنه من مواجب الحكمة التي جرت عادته بمراعاتها، وإما لقصور نظرهم بالمألوف فيتوهمون امتناعه، ثم إنه تعالى بين الأمرين فقال: {لِيُبَيِّنَ لَهُمُ} أي يبعثهم {لِيُبَيّنَ لَهُمُ}. {الذي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ} وهو الحق. {وَلِيَعْلَمَ الذين كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كاذبين} فيما يزعمون، وهو إشارة إلى السبب الداعي إلى البعث المقتضي له من حيث الحكمة، وهو المميز بين الحق والباطل والمحق والمبطل بالثواب والعقاب ثم قال: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} وهو بيان إمكانية وتقريره أن تكوين الله بمحض قدرته ومشيئته لا توقف له على سبق المواد والمدد، وإلاَّ لزم التسلسل فكما أمكن له تكوين الأشياء ابتداء بلا سبق مادة ومثال أمكن له تكوينها إعادة بعده، ونصب ابن عامر والكسائي ها هنا وفي {يس} فيكون عطفًا على نقول أو جوابًا للأمر.{والذين هاجروا فِي الله مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ} هم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه المهاجرون ظلمهم قريش فهاجر بعضهم إلى الحبشة ثم إلى المدينة وبعضهم إلى المدينة، أو المحبوسون المعذبون بمكة بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم بلال وصهيب وخباب وعمار وعابس وأبو جندل وسهيل رضي الله تعالى عنهم، وقوله. {فِي الله} أي في حقه ولوجهه. {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدنيا حَسَنَةًً} مباءة حسنة وهي المدينة أو تبوئة حسنة. {وَلأَجْرُ الآخرة أَكْبَرُ} مما يعجل لهم في الدنيا، وعن عمر رضي الله تعالى عنه: أنه كان إذا أعطى رجلًا من المهاجرين عطاء قال له خذ بارك الله لك فيه هذا ما وعدك الله في الدنيا وما ادخر لك في الآخرة أفضل. {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} الضمير للكفار أي لو علموا أن الله يجمع لهؤلاء المهاجرين خير الدارين لوافقوهم، أو للمهاجرين أي لو علموا ذلك لزادوا في اجتهادهم وصبرهم.{الذين صَبَرُواْ} على الشدائد كأذى الكفار ومفارقة الوطن، ومحله النصب أو الرفع على المدح. {وعلى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} منقطعين إلى الله مفوضين إليه الأمر كله.{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ} رد لقول قريش: الله أعظم من أن يكون رسوله بشرًا، أي جرت السنة الإِلهية بأن لا يبعث للدعوة العامة إلا بشرًا يوحي إليه على ألسنة الملائكة، والحكمة في ذلك وقد ذكرت في سورة الأنعام فإن شككتم فيه. {فاسألوا أَهْلَ الذكر} أهل الكتاب أو علماء الأخبار ليعلموكم. {إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ} وفي الآية دليل على أنه تعالى لم يرسل امرأة ولا ملكًا للدعوة العامة وقوله: {جَاعِلِ الملائكة رُسُلًا} معناه رسلًا إلى الملائكة أو إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وقيل لم يبعثوا إلى الأنبياء إلا متمثلين بصورة الرجال، ورد بما روي «أنه عليه الصلاة والسلام رأى جبريل صلوات الله عليه على صورته التي هو عليها مرتين»، وعلى وجوب المراجعة إلى العلماء فيما لا يعلم.{بالبينات والزبر} أي أرسلناهم بالبينات والزبر أي المعجزات والكتب، كأنه جواب: قائل قال: بم أرسلوا؟ ويجوز أن يتعلق بما أرسلنا داخلًا في الاستثناء مع رجالًا أي: وما أرسلنا إلا رجالًا بالبينات كقولك: ما ضربت إلا زيدًا بالسوط، أو صفة لهم أي رجالًا ملتبسين بالبينات، أو بيوحي على المفعولية أو الحال من القائم مقام فاعله على أن قوله فاسألوا اعتراض، أو بلا تعلمون على أن الشرط للتبكيت والإِلزام. {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر} أي القرآن وإنما سمي ذكرًا لأنه موعظة وتنبيه. {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ} في الذكر بتوسط إنزاله إليك مما أمروا به ونهوا عنه، أو مما تشابه عليهم والتبيين أعم من أن ينص بالمقصود، أو يرشد إلى ما يدل عليه كالقياس، ودليل العقل. {وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} وإرادة أن يتأملوا فيه فيتنبهوا للحقائق.{أَفَأَمِنَ الذين مَكَرُواْ السيئات} أي المكرات السيئات وهم الذين احتالوا لهلاك الأنبياء، أو الذين مكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم وراموا صد أصحابه عن الإِيمان. {أَن يَخْسِفَ الله بِهِمُ الأرض} كما خسف بقارون {أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} بغتة من جانب السماء كما فعل بقوم لوط.{أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ} أي متقلبين في مسايرهم ومتاجرهم. {فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ}.{أَوْ يَأْخُذَهُمْ على تَخَوُّفٍ} على مخافة بأن يهلك قومًا قبلهم فيتخوفوا فيأتيهم العذاب وهم متخوفون، أو على أن ينقصهم شيئًا بعد شيء في أنفسهم وأحوالهم حتى يهلكوا من تخوفته إذا تنقصته. روي أن عمر رضي الله تعالى عنه قال على المنبر: ما تقولون فيها فسكتوا فقام شيخ من هذيل فقال: هذه لغتنا التخوف التنقص، فقال هل تعرف العرب ذلك في أشعارها قال نعم، قال شاعرنا أبو كبير يصف ناقته:
فقال عمر عليكم بديوانكم لا تضلوا قالوا: وما ديواننا قال: شعر الجاهلية، فإن فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم. {فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} حيث لا يعاجلكم بالعقوبة.{أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إلى مَا خَلَقَ الله مِن شَيْءٍ} استفهام إنكار أي قد رأوا أمثال هذه الصنائع فما بالهم لم يتفكروا فيها ليظهر لهم كمال قدرته وقهره فيخافوا منه، وما موصولة مبهمة بيانها. {يَتَفَيَّؤُا ظلاله} أي أو لم ينظروا إلى المخلوقات التي لها ظلال متفيئة، وقرأ حمزة والكسائي: {تَروْا} بالتاء وأبو عمرو {تتفيؤ} بالتاء. {عَنِ اليمين والشمآئل} عن أيمانها وعن شمائلها أي عن جانبي كل واحد منها، استعارة من يمين الإِنسان وشماله، ولعل توحيد اليمين وجمع الشمائل باعتبار اللفظ والمعنى كتوحيد الضمير في ظلاله وجمعه في قوله: {سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ داخرون} وهما حالان من الضمير في ظلاله، والمراد من السجود الاستسلام سواء كان بالطبع أو الاختيار، يقال سجدت النخلة إذا مالت لكثرة الحمل وسجد البعير إذا طأطأ رأسه ليركب وسجدا حال من الظلال {وَهُمْ داخرون} حال من الضمير، والمعنى يرجع الظلال بارتفاع الشمس وانحدارها، أو باختلاف مشارقها ومغاربها بتقدير الله تعالى من جانب إلى جانب منقادة لما قدر لها من التفيؤ، أو واقعة على الأرض ملتصقة بها على هيئة الساجد والأجرام في أنفسها أيضًا داخرة أي صاغرة منقادة لأفعال الله تعالى فيها، وجمع {داخرون} بالواو لأن من جملتها من يعقل، أو لأن الدخور من أوصاف العقلاء، وقيل المراد ب {اليمين والشمآئل} يمين الفلك وهو جانبه الشرقي لأن الكواكب تظهر منه آخذة في الارتفاع والسطوع وشماله هو الجانب الغربي المقابل له من الأرض، فإن الظلال في أول النهار تبتدىء من المشرق واقعة على الربع الغربي من الأرض، وعند الزوال تبتدىء من المغرب واقعة على الربع الشرقي من الأرض.{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض} أي ينقاد انقيادًا يعم الانقياد لإرادته وتأثيره طبعًا والانقياد لتكليفه وأمره طوعًا ليصح إسناده إلى عامة أهل السموات والأرض وقوله: {مِن دَابَّةٍ} بيان لهما لأن الدبيب هو الحركة الجسمانية سواء كانت في أرض أو سماء. {والملائكة} عطف على المبين به عطف جبريل على الملائكة للتعظيم، أو عطف المجردات على الجسمانيات، وبه احتج من قال إن الملائكة أرواح مجردة أو بيان لما في الأرض والملائكة تكرير لما في السموات وتعيين له إجلالًا وتعظيمًا، أو المراد بها ملائكتها من الحفظة وغيرهم، وما لما استعمل للعقلاء كما استعمل لغيرهم كان استعماله حيث اجتمع القبيلان أولى من إطلاق من تغليبًا للعقلاء. {وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} عن عبادته.{يخافون رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ} يخافونه أن يرسل عذابًا من فوقهم، أو يخافونه وهو فوقهم بالقهر كقوله تعالى: {وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ} والجملة حال من الضمير في {لاَ يَسْتَكْبِرُونَ}، أو بيان له وتقرير لأن من خاف الله تعالى لم يستكبر عن عبادته. {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} من الطاعة والتدبير، وفيه دليل على أَنَّ الملائكة مكلفون مدارون بين الخوف والرجاء. اهـ. .قال ابن جزي: {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتقوا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا}.لما وصف مقالة الكفار الذين قالوا أساطير الأولين: قابل ذلك بمقالة المؤمنين، فإن قيل: لم نصب جواب المؤمنين وهو قولهم: خيرًا، رفع جواب الكافرين وهو أساطير الأولين؟ فالجواب: أن قولهم خيرًا منصوب بفعل مضمر تقديره أنزل خيرًا، ففي ذلك اعتراف بأن الله أنزله، وأما أساطير الأولين فهو خبر ابتداء مضمر تقديره هو أساطير الأولين، فلم يعترفوا بأن الله أنزله فلا وجه لنصبه، ولو كان منصوبًا لكان الكلام متناقضًا؛ لأن قولهم أساطير الأولين يقتضي التكذيب بأن الله أنزله، والنصب بفعل مضمر يقتضي التصديق بأن الله أنزله، لأن تقديره أنزل، فإن قيل: يلزم مثل هذا في الرفع، لأن تقديره هو أساطير الأولين، فإنه غير مطابق للسؤال الذي هو ماذا أنزل ربكم، الجواب: أنهم عدلوا بالجواب عن السؤال فقالوا هو أساطير الأولين، ولم ينزله الله {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ} ارتفع حسنة بالابتداء وللذين خبره، والجملة بدل من خيرًا، وتفسيره للخير الذي قالوا، وقيل: هي استئناف كلام الله تعالى، لا من كلام الذين قالوا خيرًا {جَنَّاتُ عَدْنٍ} يحتمل أن يكون هو اسم الممدوح بنعم، فيكون مبتدأ وخبره فيما قبله أو خبر ابتداء مضمر، ويحتمل أن يكون مبتدأ وخبره يدخلونها أو مضمر تقديره: لهم جنات عدن.{هَلْ يَنْظُرُونَ} أي ينتظرون، والضمير للكفار وإنما أن تأتيهم الملائكة يعني لقبض أرواحهم {أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} يعني قيام الساعة أو العذاب في الدنيا {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ} أي أصابهم جزاء سيئات ما عملوا {وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} أي أحاط بهم العذاب الذين كانوا به يستهزؤن، وهذا تفسيره حيث وقع {وَقَالَ الذين أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء الله مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ} قالوا ذلك على وجه المجادلة والمخاصمة والاحتجاج على صحة فعلهم؛ أي أن فِعلنا هو بمشيئة الله فهو صواب، ولو شاء الله أن لا نفعله ما فعلناه، والرّد عليهم بأن الله نهى عن الشرك ولكنه قضى على من يشاء من عباده، ويحتمل أن يكونوا قالوا ذلك في الآخرة على وجه التمني فإن {لو} تكون للتمني والمعنى هذا أنهم لما رأوا العذاب تمنوا أن يكونوا لم يعبدوا غيره، ولم يحرموا ما أحل الله من البحيرة وغيرها.{فَإِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ} قرئ بضم الياء وفتح الدال على البناء للمفعول أي لا يهدي غير الله من يضله الله وقرئ {يهدي} بفتح الياء وكسر الدال، والمعنى على هذا: لا يهدي الله من قضى بإضلاله {وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ} الضمير عائد على من يضل، لأنه في معنى الجمع.{بلى} ردّ على الذين أقسموا {لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ} أي أنه يبعثه {لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الذي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ} اللام تتعلق بما دل عليه أي يبعثهم ليبين لهم، وهذا برهان أيضًا على البعث، فإن الناس مختلفون في أديانهم ومذاهبهم، فيبعثهم الله ليبين لهم الحق فيما اختلفوا فيه {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ} الآية: برهان أيضًا على البعث، لأنه داخل تحت قدرة الله تعالى.{والذين هَاجَرُواْ فِي الله} يعني الذين هاجروا من مكة إلى أرض الحبشة، لأن الهجرة إلى المدينة كانت بعدها، وقيل: نزلت في أبي جندل بن سهيل وخبره مذكور في السير في قصة الحديبية، وهذا بعيد لأن السورة نزلت قبل ذلك {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدنيا حَسَنَةً} وعد أن ينزلهم بقعة حسنة، وهي المدينة التي استقروا بها، وقيل: إن حسنة صفة لمصدر؛ أي نبوئنهم تبوئة حسنة وقرئ {لنثوبنهم} بالثاء من الثواب {الذين صَبَرُواْ} وصف للذين هاجروا، ويحتمل إعرابه أن يكون نعتًا أو على تقدير: هم الذين أو مدح الذين {إِلاَّ رِجَالًا} ردّ على من استبعد أن يكون الرسول من البشر {فاسألوا أَهْلَ الذكر} يتعلق بأرسلنا الذي في أول الآية على التقديم والتأخير في الكلام، أو بأرسلنا مضمرًا وبيوحي أو بتعلمون.{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر} يعني القرآن {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} يحتمل أن يريد لتبين القرآن بسردك نصه وتعليمه للناس، أو لتبين معانيه بتفسير مشكلة، فيدخل في هذا ما بينته السنة من الشريعة.{أَفَأَمِنَ الذين مَكَرُواْ السيئات} يعني: كفار قريش عند جمهور المفسرين، والسيئات تحتمل وجهين: أحدهما: يريد به الأعمال السيئات؛ أي المعاصي فيكون: مكروا يتضمن معنى عملوا، والآخر أن يريد بالمكرات السيئات مكرهم بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ فيكون المكر على بابه {أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ} يعني في أسفارهم {فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ} أي بمفلتين حيث وقع {أَوْ يَأْخُذَهُمْ على تَخَوُّفٍ} فيه وجهان أحدهما: أن معناه على تنقص أي ينتقص أموالهم وأنفسهم شيئًا بعد شيء، حتى يهلكوا من غير أن يهلكهم جملة واحدة، ولهذا أشار بقوله: {فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}، لأن الأخذ هكذا أخف من غيره، وقد كان عمر بن الخطاب أشكل عليه معنى التخوف في الآية، حتى قال له رجل من هذيل: التخوف التنقص في لغتنا، والوجه الثاني: أنه من الخوف أي يهلك قومًا قبلهم فيتخرّفوا هو ذلك، فيأخذهم بعد أن توقعوا العذاب وخافوه، ذلك خلاف قوله: {وهم لا يشعرون}.{أَوَلَمْ يَرَوْاْ إلى مَا خَلَقَ الله مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُاْ ظِلاَلُهُ} معنى الآية اعتبار بانتقال الظل، ويعني بقوله: {ما خلق الله من شيء} الأجرام التي لها ظلال من الجبال والشجر والحيوان وغير ذلك، وذلك أن الشمس من وقت طلوعها إلى وقت الزوال يكون ظلها إلى جهة، ومن الزوال إلى الليل إلى جهة أخرى، ثم يمتدّ الظل ويعم بالليل إلى طلوع الشمس، وقوله: {يتفيؤ} من الفيء وهو الظل الذي يرجع، بعكس ما كان غدوة، وقال رؤبة بن العجاج: يقال بعد الزوال ظل وفيء، ولا يقال قبله إلا ظل، ففي لفظه: يتفيؤ هنا تجوز ما لوقوع الخصوص في موضع العموم، لأن المقصود الاعتبار من أول النهار إلى آخره، فوضع يتفيؤ موضع ينتقل أو يميل، والضمير في ظلاله يعود على ما أو على شيء {عَنِ اليمين والشمآئل} يعني عن الجانبين أي يرجع الظل من جانب إلى جانب، واليمين بمعنى الأيمان والشمائل، واستعار هنا الأيمان والشمائل للأجرام، فإن اليمين والشمائل إنما هما في الحقيقة للإنسان {سُجَّدًا لِلَّهِ} حال من الظلال، وقال الزمخشري حال من الضمير في ظلاله، إذ هو بمعنى الجمع لأنه يعود على قوله: {مِن شَيْءٍ}، فعلى الأول يكون السجود من صفة الظلال، وعلى الثاني يكون من صفة الأجرام، واختلف في معنى هذا السجود فقيل عبر به عن الخضوع والانقياد، وقيل هو سجود حقيقة {وَهُمْ دَاخِرُونَ} أي صاغرون وجمع بالواو والنون لأن الدخور من أوصاف العقلاء.{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض مِن دَآبَّةٍ} يحتمل أن يكون من دابة بيان لما في السموات وما في الأرض معًا، لأن كل حيوان يصح أن يوصف بأنه يدب، ويحتمل أن يكون بيانًا لما في الأرض خاصة وإنما قال: ما في السموات وما في الأرض ليعم العقلاء وغيرهم، ولو قال. من في السموات لم يدخل في ذلك غير العقلاء قال الزمخشري {والملائكة} إن كان قوله من دابة بيانًا لما في السموات والأرض، فقد دخل الملائكة في ذلك، وكرر ذكرهم تخصيصًا لهم بالذكر وتشريفًا، وإن كان من دابة لما في الأرض خاصة فلم تدخل الملائكة في ذلك فعطفهم على ما قبلهم {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ} هذا إخبار عن الملائكة، وهو بيان نفي الاستكبار، ويحتمل أن يريد فوقية القدرة والعظمة أو يكون من المشكلات التي يمسك عن تأويلها، وقيل: معناه يخافون أن يرسل عليهم عذابًا من فوقهم. اهـ.
|