الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{ياصاحبى السجن أَمَّا أَحَدُكُمَا} يعني الشرابي. {فَيَسْقِى رَبَّهُ خَمْرًا} كما كان يسقيه قبل ويعود إلى ما كان عليه. {وَأَمَّا الآخر} يريد به الخباز. {فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطير مِن رَّأْسِهِ} فقالا كذبنا فقال: {قُضِىَ الأمر الذي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} أي قطع الأمر الذي تستفتيان فيه، وهو ما يؤول إليه أمركما ولذلك وحده، فإنهما وإن استفتيا في أمرين لكنهما أرادا استبانة عاقبة ما نزل بهما.{وَقَالَ لِلَّذِى ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مّنْهُمَا} الظان يوسف إن ذكر ذلك عن اجتهاد وإن ذكره عن وحي فهو الناجي إلا أن يؤول الظن باليقين. {اذكرنى عِندَ رَبّكَ} اذكر حالي عند الملك كي يخلصني. {فَأَنْسَاهُ الشيطان ذِكْرَ رَبّهِ} فأنسى الشرابي أن يذكره لربه، فأضاف إليه المصدر لملابسته له أو على تقدير ذكر أخبار ربه، أو أنسي يوسف ذكر الله حتى استعان بغيره، ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام «رحم الله أخي يوسف لو لم يقل: {اذكرنى عِندَ رَبّكَ} لما لبث في السجن سبعًا بعد الخمس» والاستعانة بالعباد في كشف الشدائد وإن كانت محمودة في الجملة لكنها لا تليق بمنصب الأنبياء. {فَلَبِثَ في السجن بِضْعَ سِنِينَ} البضع ما بين الثلاث إلى التسع من البضع وهو القطع.{وَقَالَ الملك إِنّى أرى سَبْعَ بقرات سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ} لما دنا فَرَجه رأى الملك سبع بقرات سمان خرجن من نهر يابس وسبع بقرات مهازيل فابتلعت المهازيل السمان. {وَسَبْعَ سنبلات خُضْرٍ} قد انعقد حبها. {وَأُخَرَ يابسات} وسبعًا أخر يابسات قد أدركت فالْتَوَتِ اليابسات على الخضر حتى غلبت عليها، وإنما استغنى عن بيان حالها بما قص من حال البقرات، وأجرى السمان على المميز دون المميز لأن التمييز بها ووصف السبع الثاني بالعجاف لتعذر التمييز بها مجردًا عن الموصوف فإنه لبيان الجنس، وقياسه عجف لأنه جمع عجفاء لكنه حمل على: {سِمَانٍ} لأنه نقيضه. {يأَيُّهَا الملأ أَفْتُونِى في رؤياى} عبروها. {إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} إن كنتم عالمين بعبارة الرؤيا وهي الانتقال من الصور الخيالية إلى المعاني النفسانية التي هي مثالها من العبور وهي المجاوزة، وعبرت الرؤيا عبارة أثبت من عبرتها تعبيرًا واللام للبيان أو لتقوية العامل فإن الفعل لما أخر عن مفعوله ضعف فقوي باللام كاسم الفاعل، أو لتضمن: {تَعْبُرُونَ} معنى فعل يعدى باللام كأنه قيل: إن كنتم تنتدبون لعبارة الرؤيا.{قَالُواْ أضغاث أَحْلاَمٍ} أي هذه أضغاث أحلام وهي تخاليطها جمع ضغث وأصله ما جمع من أخلاط النبات وحزم فاستعير للرؤيا الكاذبة، وإنما جمعوا للمبالغة في وصف الحلم بالبطلان كقولهم: فلان يركب الخيل، أو لتضمنه أشياء مختلفة. {وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأحلام بعالمين} يريدون بالأحلام المنامات الباطلة خاصة أي ليس لها تأويل عندنا، وإنما التأويل للمنامات الصادقة فهو كأنه مقدمة ثانية للعذر في جهلهم بتأويله.{وَقَالَ الذي نَجَا مِنْهُمَا} من صاحبي السجن وهو الشرابي. {وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ} وتذكر يوسف بعد جماعة من الزمان مجتمعة أي مدة طويلة. وقرئ: {إمة} بكسر الهمزة وهي النعمة أي بعدما أنعم عليه بالنجاة، وأمه أي نسيان يقال أمه يأمه أمها إذا نسي، والجملة اعتراض ومقول القول. {أَنَاْ أُنَبّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ} أي إلى من عنده علمه أو إلى السجن.{يُوسُفُ أَيُّهَا الصديق} أي فأرسل إلى يوسف فجاءه فقال يا يوسف، وإنما وصفه بالصديق وهو المبالغ في الصدق لأنه جرب أحواله وعرف صدقه في تأويل رؤياه ورؤيا صاحبه. {أَفْتِنَا في سَبْعِ بقرات سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سنبلات خُضْرٍ وَأُخَرَ يابسات} أي في رؤيا ذلك. {لَّعَلّى أَرْجِعُ إِلَى الناس} أعود إلى الملك ومن عنده، أو إلى أهل البلد إذا قيل إن السجن لم يكن فيه. {لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ} تأويلها أو فضلك ومكانك، وإنما لم يبت الكلام فيهما لأنه لم يكن جازمًا بالرجوع فربما اخترم دونه ولا يعلمهم.{قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَبًا} أي على عادتكم المستمرة وانتصابه على الحال بمعنى دائبين، أو المصدر بإضمار فعله أي تدأبون دأبًا وتكون الجملة حالًا. وقرأ حفص: {دَأَبًا} بفتح الهمزة وكلاهما مصدر دأب في العمل. وقيل: {تَزْرَعُونَ} أمر أخرجه في صورة الخبر مبالغة لقوله: {فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ في سُنبُلِهِ} لئلا يأكله السوس، وهو على الأول نصيحة خارجة عن العبارة. {إِلاَّ قَلِيلًا مّمَّا تَأْكُلُونَ} في تلك السنين.{ثُمَّ يَأْتِى مِن بَعْدِ ذلك سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ} أي يأكل أهلهن ما ادخرتم لأجلهن فأسند إليهن على المجاز تطبيقًا بين المعبر والمعبر به. {إِلاَّ قَلِيلًا مّمَّا تُحْصِنُونَ} تحرزون لبذور الزراعة.{ثُمَّ يَأْتِى مِن بَعْدِ ذلك عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ الناس} يمطرون من الغيث أو يغاثون من القحط من الغوث. {وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} ما يعصر كالعنب والزيتون لكثرة الثمار. وقيل يحلبون الضروع. وقرأ حمزة والكسائي بالتاء على تغليب المستفتي، وقرئ على بناء المفعول من عصره إذا أنجاه ويحتمل أن يكون المبني للفاعل منه أي يغيثهم الله ويغيث بعضهم بعضًا، أو من أعصرت السحابة عليهم فعدي بنزع الخافض أو بتضمينه معنى المطر. وهذه بشارة بشرهم بها بعد أن أول البقرات السمان والسنبلات الخضر بسنين مخصبة والعجاف واليابسات بسنين مجدبة، وابتلاع العجاف السمان بأكل ما جمع في السنين المخصبة في السنين المجدبة، ولعله علم ذلك بالوحي أو بأن انتهاء الجدب بالخصب، أو بأن السنة الإِلهية على أن يوسع على عباده بعدما ضيق عليهم: {وَقَالَ الملك ائتونى بِهِ} بعد ما جاءه الرسول بالتعبير: {فَلَمَّا جَاءهُ الرسول} ليخرجه. {قَالَ ارجع إلى رَبّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النسوة الاتى قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} إنما تأنى في الخروج وقدم سؤال النسوة وفحص حالهن لتظهر براءة ساحته ويعلم أنه سجن ظلمًا فلا يقدر الحاسد أن يتوسل به إلى تقبيح أمره. وفيه دليل على أنه ينبغي أن يجتهد في نفي التهم ويتقي مواقعها. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «لو كنت مكانه ولبثت في السجن ما لبث لأسرعت الإِجابة» وإنما قال فاسأله ما بال النسوة ولم يقل فاسأله أن يفتش عن حالهن تهييجًا له على البحث وتحقيق الحال، وإنما لم يتعرض لسيدته مع ما صنعت به كرمًا ومراعاة للأدب وقرئ: {النسوة} بضم النون. {إِنَّ رَبّى بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} حين قلن لي أطع مولاتك، وفيه تعظيم كيدهن والاستشهاد بعلم الله عليه وعلى أنه بريء مما قذف به والوعيد لهن على كيدهن.{قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ} قال الملك لهن ما شأنكن والخطب أمر يحق أن يخاطب فيه صاحبه. {إِذْ رَاوَدتُنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ للَّهِ} تنزيه له وتعجب من قدرته على خلق عفيف مثله. {مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوء} من ذنب. {قَالَتِ امرأة العزيز الئن حَصْحَصَ الحق} ثبت واستقر من حصحص البعير إذا ألقى مباركهُ ليناخ قال:
أو ظهر من حص شعره إذا استأصله بحيث ظهرت بشرة رأسه. وقرئ على البناء للمفعول.{أَنَاْ راودته عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصادقين} في قولهِ: {هِىَ رَاوَدَتْنِى عَن نَّفْسِى}، {ذلك لِيَعْلَمَ} قاله يوسف لما عاد إليه الرسول وأخبره بكلامهن أي ذلك التثبت ليعلم العزيز. {أَنّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} بظهر الغيب وهو حال من الفاعل أو المفعول أي لم أخنه وأنا غائب عنه، أو وهو غائب عني أو ظرف أي بمكان الغيب وراء الأستار والأبواب المغلقة. {وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِى كَيْدَ الخائنين} لا ينفذه ولا يسدده، أو لا يهدي الخائنين بكيدهم فأوقع الفعل على الكيد مبالغة. وفيه تعريض براعيل في خيانتها زوجها وتوكيد لأمانته ولذلك عقبه بقوله: {وَمَا أُبَرِّئ نَفْسِى} أي لا أنزهها تنبيهًا على أنه لم يرد بذلك تزكية نفسه والعجب بحاله، بل إظهار ما أنعم الله عليه من العصمة والتوفيق. وعن ابن عباس أنه لما قال: {لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} قال له جبريل ولا حين هممت فقال: ذلك. {إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسوء} من حيث إنها بالطبع مائلة إلى الشهوات فتهم بها، وتستعمل القوى والجوارح في أثرها كل الأوقات. {إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبّى} إلا وقت رحمة ربي، أو إلا ما رحمه الله من النفوس فعصمه من ذلك. وقيل الاستثناء منقطع أي ولكن رحمة ربي هي التي تصرف الإِساءة. وقيل الآية حكاية قول راعيل والمستثنى نفس يوسف وأضرابه. وعن ابن كثير ونافع: {بالسّو} على قلب الهمزة واوًا ثم الادغام. {إِنَّ رَبّى غَفُورٌ رَّحِيمٌ} يغفر هَمَّ النفس ويرحم من يشاء بالعصمة أو يغفر للمستغفر لذنبه المعترف على نفسه ويرحمه ما استغفره واسترحمه مما ارتكبه. اهـ. .قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة: {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} إلى قوله تعالى: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)}التفسير:تقدير الكلام فحبسوه: {ودخل معه} أي مصاحبًا له في الدخول: {السجن فتيان} غلامان للملك الأكبر خبازه وشاربيه نقلًا عن أئمة التفسير أو استدلالًا برؤياهما المناسبة لحرفتهما. رفع إلى الملك أنهما أرادا سمه في الطعام والشراب فأمر بإدخالهما السجن ساعة إذ دخل يوسف: {قال أحدهما إني أراني} أي في المنام لقولهما: {نبئنا بتأويله} وهو حكاية حال ماضية: {أعصر خمرًا} أي عنبًا تسمية للشيء باسم ما يؤول إليه. وقيل: الخمر بلغة عمان اسم العنب. والضمير في قوله: {بتأويله} يعود إلى ما قصا عليه وقد يوضع الضمير موضع اسم الإشارة كأنه قيل: نبئنا بتأويل ذلك: {إنا نراك من المحسنين} عبارة الرؤيا.وكان أهل السجن يقصون عليه رؤياهم فيؤوّلها لهم، أو نراك من العلماء عرفا ذلك بالقرائن أو من المحسنين إلى أهل السجن كان يعود مرضاهم ويوسع عليهم ويراعي دقائق مكارم الأخلاق معهم، أو من المحسنين في طاعة الله وطلب مرضاته ففرج عنا الغمة بتأويل ما رأينا وإن كانت لك يد في تأويل الرؤيا. وعن قتادة: كان في السجن ناس قد انقطع رجاؤهم وطال حزنهم فجعل يقول: أبشروا اصبرا تؤجروا. فقالوا: ما أحسن وجهك وما أحسن خلقك فمن أنت يا فتى؟ فقال: أنا يوسف بن صفي الله يعقوب بن ذبيح الله إسحق بن خليل إبراهيم. فقال له عامل السجن: لو استطعت خليت سبيلك ولكني أحسن جوارك فكن في أي بيوت السجن شئت. وعن الشعبي ومجاهد أنهما تحالما له ليمتحناه فقال الشرابي: أراني في بستان فإذا بأصل كرم عليه ثلاثة عناقيد من عنب فقطعتها وعصرتها في كأس الملك وسقيته. وقال الخباز: إني أراني وفوق رأسي ثلاث سلال فيها أنواع الأطعمة، وإذا سباع الطير تنهش منها: {قال لا يأتيكما طعام} إلى آخره هذا ليس بجواب لهما ظاهرًا وإنما قدم هذا الكلام لوجوه منها: أن أحد التعبيرين لما كان هو الصلب وكان في إسماعه كراهة ونفرة أراد أن يقدم قبل ذلك ما يؤثق بقوله ويخرجه عن معرض التهمة والعداوة. أو أراد أن يبين علوّ مرتبته في العلم وأنه ليس من المعبرين الذين يعبرون عن ظن وتخمين، ولهذا قال السدي: أراد لا يأتيكما طعام ترزقانه في النوم. بين بذلك أن علمه بتأويل الرؤيا ليس مقصورًا على شيء دون غيره وقيل: إنه محمول على اليقظة وإنه ادعى معرفة الغيب كقول عيسى عليه السلام: {وأنبئكم بما تأكلون} [آل عمران: 49] أي أخبركما: {قبل أن يأتيكما} أنه أي طعام هو وأيّ لون هو وكيف تكون عاقبته أهو ضار أم نافع وأن فيه سمًا أم لا. فقد روي أن الملك كان إذا أراد قتل إنسان صنع له طعامًا مسمومًا فأرسله إليه. ثم قال: {ذلكما} أي هذا التأويل والإخبار بالمغيبات من قبيل الوحي والإلهام لا من التكهن والتنجيم الذي يكثر فيهما وقوع الخطأ. ثم بيّن سيرته وملته مشيرًا فيه إلى أنه رسول من عند الله ومنبهًا على أن الاشتغال بمصالح الدين أهم من الاشتغال بمصالح الدنيا حتى إن الرجل الذي سيصلب لعله يسلم فلا يموت على الكفر فقال: {إني تركت} أي رفضت بل ما كنت قط، ويجوز أن يكون قبل ذلك غير مظهر للتوحيد خوفًا منهم لأنه كان تحت أيديهم. وإنما كررت لفظة هم تنبيهًا على أنهم مختصون في ذلك الزمان بإنكار المعاد وتعريضًا بأن إيداعه السجن بعد معاينة الآيات الشاهدة على براءته لا يصدر إلا عمن ينكر الجزاء أشد الإنكار.والمراد باتباع ملة آبائه الاتباع في الأصول التي لا تتبدل بتبدل الشرائع، ومعنى التنكير في قوله: {من شيء} الرد على كل طائفة خالفت الملة الحنيفية من عبدة الأصنام والكواكب وغيرهم: {ذلك} التوحيد: {من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون} نعمة الإيمان أو نعمة إعطاء القدرة والاختيار على الإيمان فلا ينظرون في الدلائل، وهذا يناسب أصول المعتزلة. وعن بعضهم إنا لا نشكر الله على الإيمان بل الله يشكرنا عليه كما قال: {فأولئك كان سعيهم مشكورًا} [الإسراء: 19]: {يا صاحبي السجن} أراد يا صاحبي السجن كقوله يا سارق الليلة خصمهما بهذا النداء لأنهما دخلا السجن معه أو أراد يا ساكني السجن كقوله: {أصحاب النار} [الأعراف: 44] فسبب التعييين أنهما استفتياه في بين الساكنين. ثم أنكر عليهم عبارة الأصنام فقال: {أأرباب متفرقون} في العدد وفي الحجمية وفيما يتبعها من اختلاف الأعراض والأبعاض: {خير} إن فرض فيهم خير: {أم الله الواحد القهار} لأن وحدة المعبود تستدعي توحيد المطلب وتفريد المقصد، وكونه قهارًا غالبًا غير مغلوب من وجه يوجب حصول كل ما يرجى منه من ثواب وصلاح إذا تعلقت إرادته بذلك فلا يصلح للمعبودية إلا هو ولا تصلح حقيقة الإلهية في غيره فلذلك قال: {ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها} أي سميتم الآلهة بتلك الأسماء: {أنتم وآباؤكم} والخطاب لهما ولمن على دينهما من أهل مصر فكأنهم لا يعبدون إلا أسماء فارغة عن المسميات: {ما أنزل الله بها} بتسميتها: {من سلطان} أي حجة. ثم لما نفى معبودية الغير بين أن لا حكم في أمر الدين والعبادة إلا له فقال: {إن الحكم إلا لله} ثم ذكر ما حكم به فقال: {أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم} الثابت بالبراهين: {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} أنه مبدأ المبادئ والمعاد الحقيقي فيتخذون غيره معبودًا ويجعلون لغيره من الأصنام والأجرام بالاستقلال فعلًا وتأثيرًا. ثم شرع في إجابة مقترحهما وهو تأويل رؤياهما فقال: {أما أحدكما} يعني الشرابي: {فيسقي ربه} سيده: {خمرا} يروى أنه قال له: ما رأيت من الكرمة وحسنها هو الملك وحسن حالك عنده، وأما القضبان الثلاثة فإنها ثلاثة أيام تمضي في السجن ثم تخرج وتعود إلى ما كنت عليه. وقال للثاني: ما رأيت من السلال ثلاثة أيام ثم تخرج فتصلب فتأكل الطير من رأسك. قوله: {قضي الأمر} قال في الكشاف: إنما وحد الأمر وهما أمران مختلفان استفتيا فيهما، لأن المراد بالأمر ما اتهما به من سم الملك وما سجنا لأجله فكأنهما استفتياه في الأمر الذي نزل بهما أعاقبته نجاة أم هلاك استدلالًا برؤياهما فقال: إن ذلك الذي ذكرت من أمر التأويل كائن لا محالة صدقتما أو كذبتما.وقيل: جحدا رؤياهما. وقيل: عكسا رؤياهما، فلما علم الخباز أن تأويل رؤياه شر أنكر كونه صاحب تلك الرؤيا فقال يوسف: إن الذي حكمت به لكل منكما واقع لابد منه ومن هنا قالت الحكماء: ينبغي أن لا يتصرف في الرؤيا ولا تغير عن وجهها فإن الفأل على ما جرى.{وقال} يوسف: {للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك} أي اذكر عند الملك أني مظلوم من جهة إخوتي أخرجوني وباعوني، ثم إني مظلوم من جهة النسوة اللاتي حسبتني. والضمير في: {ظن} إن كان للرجل الناجي فلا إشكال لأنهما ما كانا مؤمنين بنبوة يوسف بل كانا حسني الاعتقاد فيه وكأن قوله لم يفد في حقهما إلا مجرد الظن، وإن عاد إلى يوسف فيرد عليه أنه كان قاطعًا بنجاته فما المعنى للظن؟ وأجيب بأنه إنما ذكر ذلك التعبير بناء على الأصول المقررة في ذلك العلم فكان كالمسائل الاجتهادية. والأصح أنه قضي بذلك على سبيل ألبت والقطع لقوله: {لا يأتيكما طعام} إلى قوله: {ذلكما مما علمني ربي} فالظن على هذا بمعنى اليقين كقوله: {الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم} [البقرة: 46] أما الضمير في قوله: {فأنساه الشيطان} فمن الناس من قال: إنه يعود إلى الرجل الناجي أي أنساه الشيطان ذكر يوسف لسيده أو عند سيده فإضافة الذكر إلى الرب للملابسة لا لأجل أنه فاعل أو مفعول، أو المضاف محذوف تقديره فأنساه ذكر إخبار ربه وإسناد الإنساء إلى الشيطان مجاز لأن الإنساء عبارة عن إزالة العلم عن القلب والشيطان قدرة له على ذلك وإلا لأزال معرفة الله من قلوب بني آدم، وإنما فعله إلقاء الوسوسة وأخطار الهواجس التي هي من أسباب النسيان. ومنهم من قال: الضمير راجع إلى يوسف، والمراد بالرب هو الله تعالى أي الشيطان أنسى يوسف أن يذكر الله تعالى، وعلى القولين عوتب باللبث في السجن بضع سنين. والبضع ما بين الثلاثة إلى العشرة لأنه القطعة من العدد والبضع القطع ومثله العضب. والأكثرون على أن المراد في الآية سبع سنين. وعن ابن عباس: كان قد لبث خمس سنين وقد اقترب خروجه، فلما تضرع إلى ذلك الرجل لبث بعد ذلك سبع سنين. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «رحم الله يوسف لو لم يقل اذكرني عند ربك ما لبث في السجن» وعن مالك أنه لما قال له اذكرني عند ربك قيل له: يا يوسف اتخذت من دوني وكيلًا، لأطيلن حبسك. فبكى يوسف وقال: طول البلاء أنساني ذكر المولى فويل لإخوتي. قال المحققون: الاستعانة بغير الله في دفع الظلم جائزة. فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأخذه النوم ليلة من الليالي وكان يطلب من يحرسه على جاء سعد بن أبي وقاص فنام.
|