فصل: (سورة إبراهيم: آية 4)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الزمخشري:

سورة إبراهيم عليه السلام مكية، إلا آيتي 28 و29 فمدنيتان وآياتها 52 نزلت بعد سورة نوح.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ:

.[سورة إبراهيم: الآيات 1- 3]

{الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجًا أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (3)}.
{كِتابٌ} هو كتاب، يعنى السورة. وقرئ: {ليخرج الناس}. و{الظلمات والنور}: استعارتان للضلال والهدى {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} بتسهيله وتيسيره، مستعار من الإذن الذي هو تسهيل للحجاب، وذلك ما يمنحهم من اللطف والتوفيق {إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} بدل من قوله: {إلى النور} بتكرير العامل، كقوله: {لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} ويجوز أن يكون على وجه الاستئناف، كأنه قيل: إلى أى نور؟ فقيل: إلى صراط العزيز الحميد. وقوله: {اللَّهِ} عطف بيان للعزيز الحميد، لأنه جرى مجرى الأسماء الأعلام لغلبته واختصاصه بالمعبود الذي تحق له العبادة كما غلب النجم في الثريا. وقرئ بالرفع على: هو اللّه. الويل: نقيض الوأل، وهو النجاة اسم معنى، كالهلاك، إلا أنه لا يشتق منه فعل، إنما يقال: ويلا له، فينصب نصب المصادر، ثم يرفع رفعها لإفادة معنى الثبات، فيقال: ويل له، كقوله سلام عليك. ولما ذكر الخارجين من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان توعد الكافرين بالويل. فإن قلت: ما وجه اتصال قوله: {مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ} بالويل؟ قلت: لأنّ المعنى أنهم يولولون من عذاب شديد، ويضجون منه، ويقولون: يا ويلاه، كقوله: {دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُورًا}.
{الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ} مبتدأ خبره: {أولئك في ضلال بعيد} ويجوز أن يكون مجرورًا صفة للكافرين، ومنصوبا على الذمّ، أو مرفوعا على أعنى الذين يستحبون أو هم الذين يستحبون. والاستحباب: الإيثار والاختيار، وهو استفعال من المحبة، لأنّ المؤثر للشيء على غيره كأنه يطلب من نفسه أن يكون أحبّ إليها وأفضل عندها من الآخر. وقرأ الحسن: {ويصدّون}، بضم الياء وكسر الصاد. يقال: صدّه عن كذا، وأصدّه. قال:
أُنَاسٌ اصَدُّوا النَّاسَ بِالسَّيْفِ عَنْهُمُ

والهمزة فيه داخلة على صدّ صدودًا، لتنقله من غير التعدّى إلى التعدّى. وأما صدّه، فموضوع على التعدية كمنعه، وليست بفصيحة كأوقفه، لأنّ الفصحاء استغنوا بصدّه ووقفه عن تكلف التعدية بالهمزة {وَيَبْغُونَها عِوَجًا} ويطلبون لسبيل اللّه زيغًا واعوجاجًا، وأن يدلوا الناس على أنها سبيل ناكبة عن الحق غير مستوية، والأصل: ويبغون لها، فحذف الجار وأوصل الفعل {فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} أى ضلوا عن طريق الحق، ووقفوا دونه بمراحل. فإن قلت: فما معنى وصف الضلال بالبعد. قلت: هو من الإسناد المجازى، والبعد في الحقيقة للضالّ، لأنه هو الذي يتباعد عن الطريق، فوصف به فعله، كما تقول: جدّ جدّه. ويجوز أن يراد: في ضلال ذي بعد. أو فيه بعد، لأنّ الضالّ قد يضلّ عن الطريق مكانًا قريبًا وبعيدًا.

.[سورة إبراهيم: آية 4]

{وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)}.
{إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} أى ليفقهوا عنه ما يدعوهم إليه، فلا يكون لهم حجة على اللّه. ولا يقولوا: لم نفهم ما خوطبنا به، كما قال: {وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُ}.
فإن قلت: لم يبعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى العرب وحدهم، وإنما بعث إلى الناس جميعًا {قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} بل إلى الثقلين، وهم على ألسنة مختلفة، فإن لم تكن للعرب حجه فلغيرهم الحجة وإن لم تكن لغيرهم حجة فلو نزل بالعجمية، لم تكن للعرب حجة أيضًا. قلت: لا يخلو إمّا أن ينزل بجميع الألسنة أو بواحد منها، فلا حاجة إلى نزوله بجميع الألسنة، لأن الترجمة تنوب عن ذلك وتكفى التطويل، فبقى أن ينزل بلسان واحد، فكان أولى الألسنة لسان قوم الرسول، لأنهم أقرب إليه، فإذا فهموا عنه وتبينوه وتنوقل عنهم وانتشر. قامت التراجم ببيانه وتفهيمه، كما ترى الحال وتشاهدها من نيابة التراجم في كل أمّة من أمم العجم، مع ما في ذلك من اتفاق أهل البلاد المتباعدة، والأقطار المتنازحة، والأمم المختلفة والأجيال المتفاوتة، على كتاب واحد، واجتهادهم في تعلم لفظه وتعلم معانيه، وما يتشعب من ذلك من جلائل الفوائد، وما يتكاثر في إتعاب النفوس وكدّ القرائح فيه، من القرب والطاعات المفضية إلى جزيل الثواب، ولأنه أبعد من التحريف والتبديل، وأسلم من التنازع والاختلاف، ولأنه لو نزل بألسنة الثقلين كلها- مع اختلافها وكثرتها، وكان مستقلا بصفة الإعجاز في كل واحد منها، وكلم الرسول العربي كل أمّة بلسانها كما كلم أمّته التي هو منها يتلوه عليهم معجزًا- لكان ذلك أمرًا قريبًا من الإلجاء. ومعنى {بِلِسانِ قَوْمِهِ} بلغة قومه. وقرئ: {بلسن قومه}.
واللسن واللسان: كالريش والرياش، بمعنى اللغة. وقرئ: {بلسن قومه} بضم اللام والسين مضمومة أو ساكنة، وهو جمع لسان، كعماد وعمد وعمد على التخفيف. وقيل: الضمير في قومه لمحمد صلى اللّه عليه وسلم، ورووه عن الضحاك. وأن الكتب كلها نزلت بالعربية، ثم أدّاها كل نبىّ بلغة قومه، وليس بصحيح، لأنّ قوله: {لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} ضمير القوم وهم العرب، فيؤدّى إلى أن اللّه أنزل التوراة من السماء بالعربية ليبين للعرب، وهذا معنى فاسد {فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ} كقوله: {فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} لأنّ اللّه لا يضلّ إلا من يعلم أنه لن يؤمن. ولا يهدى إلا من يعلم أنه يؤمن. والمراد بالإضلال: التخلية ومنع الألطاف، وبالهداية: التوفيق واللطف، فكان ذلك كناية عن الكفر والإيمان {وَهُوَ الْعَزِيزُ} فلا يغلب على مشيئته {الْحَكِيمُ} فلا يخذل إلا أهل الخذلان، ولا يلطف إلا بأهل اللطف.

.[سورة إبراهيم: آية 5]

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5)}.
{أَنْ أَخْرِجْ} بمعنى أى أخرج، لأنّ الإرسال فيه معنى القول، كأنه قيل: أرسلناه وقلنا له أخرج. ويجوز أن تكون أن الناصبة للفعل، وإنما صلح أن توصل بفعل الأمر، لأنّ الغرض وصلها بما تكون معه في تأويل المصدر وهو الفعل والأمر، وغيره سواء في الفعلية. والدليل على جواز أن تكون الناصبة للفعل: قولهم أو عز إليه بأن افعل، فأدخلوا عليها حرف الجر.
وكذلك التقدير بأن أخرج قومك {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} وأنذرهم بوقائعه التي وقعت على الأمم قبلهم: قوم نوح وعاد وثمود. ومنه أيام العرب لحروبها وملاحمها، كيوم ذي قار، ويوم الفجار، ويوم قضة وغيرها، وهو الظاهر. وعن ابن عباس رضى اللّه عنهما: نعماؤه وبلاؤه.
فإهلاك القرون {لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} يصبر على بلاء اللّه ويشكر نعماءه، فإذا سمع بما أنزل اللّه من البلاء على الأمم، أو أفاض عليهم من النعم، تنبه على ما يجب عليه من الصبر والشكر واعتبر.
وقيل: أراد لكل مؤمن، لأنّ الشكر والصبر من سجاياهم، تنبيهًا عليهم.

.[سورة إبراهيم: آية 6]

{وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6)}.
{إِذْ أَنْجاكُمْ} ظرف للنعمة بمعنى الإنعام، أى إنعامه عليكم ذلك الوقت. فإن قلت: هل يجوز أن ينتصب بعليكم؟ قلت: لا يخلو من أن يكون صلة للنعمة بمعنى الإنعام، أو غير صلة إذا أردت بالنعمة العطية، فإذا كان صلة لم يعمل فيه، وإذا كان غير صلة بمعنى اذكروا نعمة اللّه مستقرّة عليكم عمل فيه، ويتبين الفرق بين الوجهين أنك إذا قلت: نعمة اللّه عليكم، فإن جعلته صلة لم يكن كلامًا حتى تقول فائضة أو نحوها، وإلا كان كلاما. ويجوز أن يكون {إذ} بدلا من نعمة اللّه، أى: اذكروا وقت إنجائكم، وهو من بدل الاشتمال. فإن قلت: في سورة البقرة {يُذَبِّحُونَ} وفي الأعراف {يُقَتِّلُونَ} وهاهنا {وَيُذَبِّحُونَ} مع الواو، فما الفرق؟ قلت: الفرق أنّ التذبيح حيث طرح الواو جعل تفسيرًا للعذاب وبيانًا له، وحيث أثبت جعل التذبيح لأنه أو في على جنس العذاب، وزاد عليه زيادة ظاهرة كأنه جنس آخر. فإن قلت: كيف كان فعل آل فرعون بلاء من ربهم؟ قلت: تمكينهم وإمهالهم، حتى فعلوا ما فعلوا ابتلاء من اللّه. ووجه آخر وهو أن ذلك إشارة إلى الإنجاء وهو بلاء عظيم، والبلاء يكون ابتلاء بالنعمة والمحنة جميعا، قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} وقال زهير:
فَأَبْلَاهُمَا خَيرَ البَلَاءِ الذي يَبْلُوا

.[سورة إبراهيم: آية 7]

{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (7)}.
{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ} من جملة ما قال مومى لقومه، وانتصابه للعطف على قوله: {نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} كأنه قيل: وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة اللّه عليكم، واذكروا حين تأذن ربكم.
ومعنى {تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ}: أذن ربكم. ونظير تأذن وأذن: توعد وأوعد، تفضل وأفضل. ولابد في تفعل من زيادة معنى ليس في أفعل، كأنه قيل: وإذ أذن ربكم إيذانا بليغا تنتفى عنده الشكوك وتنزاح الشبه. والمعنى: وإذ تأذن ربكم فقال لَئِنْ شَكَرْتُمْ أو أجرى {تَأَذَّنَ} مجرى، قال، لأنه ضرب من القول. وفي قراءة ابن مسعود: {وإذ قال ربكم لئن شكرتم}، أى لئن شكرتم يا بنى إسرائيل ما خولتكم من نعمة الإنجاء وغيرها من النعم بالإيمان الخالص والعمل الصالح {لَأَزِيدَنَّكُمْ} نعمة إلى نعمة، ولأضاعفن لكم ما آتيتكم {وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ} وغمطتم ما أنعمت به عليكم {إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ} لمن كفر نعمتي.

.[سورة إبراهيم: آية 8]

{وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8)}.
{وَقالَ مُوسى} إن كفرتم أنتم يا بنى إسرائيل والناس كلهم، فإنما ضررتم أنفسكم وحرمتموها الخير الذي لابد لكم منه وأنتم إليه محاويج، {اللَّهَ لَغَنِيٌّ} عن شكركم {حَمِيدٌ} مستوجب للحمد بكثرة أنعمه وأياديه، وإن لم يحمده الحامدون.

.[سورة إبراهيم: آية 9]

{أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9)}.
{وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ} جملة من مبتدإ وخبر، وقعت اعتراضا: أو عطف الذين من بعدهم على قوم نوح. و{لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ} اعتراض. والمعنى: أنهم من الكثرة بحيث لا يعلم عددهم إلا اللّه. وعن ابن عباس رضى اللّه عنه: بين عدنان وإسماعيل ثلاثون أبا لا يعرفون، وكان ابن مسعود إذا قرأ هذه الآية قال: كذب النسابون، يعنى أنهم يدّعون علم الأنساب، وقد نفى اللّه علمها عن العباد {فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ} فعضوها غيظا وضجرا مما جاءت به الرسل، كقوله عَضُّوا {عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ} أو ضحكا واستهزاء كمن غلبه الضحك فوضع يده على فيه. أو وأشاروا بأيديهم إلى ألسنتهم وما نطقت به من قولهم: {إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ} أى هذا جوابنا لكم ليس عندنا غيره، إقناطًا لهم من التصديق. ألا ترى إلى قوله: {فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ} وهذا قول قوى. أو وضعوها على أفواههم يقولون للأنبياء: أطبقوا أفواهكم واسكتوا. أو ردّوها في أفواه الأنبياء يشيرون لهم إلى السكوت. أو وضعوها على أفواههم يسكتونهم ولا يذرونهم يتكلمون. وقيل: الأيدى، جمع يد وهي النعمة بمعنى الأيادى، أى: ردوا نعم الأنبياء التي هي أجل النعم من مواعظهم ونصائحهم وما أوحى إليهم من الشرائع والآيات في أفواههم، لأنهم إذا كذبوها ولم يقبلوها، فكأنهم ردوها في أفواههم ورجعوها إلى حيث جاءت منه على طريق المثل {مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ} من الإيمان باللّه. وقرئ: {تدعونا}، بإدغام النون مُرِيبٍ موقع في الريبة أو ذي ريبة، من أرابه، وأراب الرجل، وهي قلق النفس وأن لا تطمئن إلى الأمر.

.[سورة إبراهيم: آية 10]

{قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (10)}.
{أَفِي اللَّهِ شَكٌّ} أدخلت همزة الإنكار على الظرف، لأن الكلام ليس في الشك، إنما هو في المشكوك فيه، وأنه لا يحتمل الشك لظهور الأدلة وشهادتها عليه {يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} أى يدعوكم إلى الإيمان ليغفر لكم أو يدعوكم لأجل المغفرة كقوله: دعوته لينصرنى، ودعوته ليأكل معى، وقال:
دَعَوْتُ لِمَا نَابَنِى مِسْوَرا ** فَلَبَّى فَلَبَّى يَدَىْ مِسْوَرِ

فإن قلت: ما معنى التبعيض في قوله: من ذنوبكم؟ قلت: ما علمته جاء هكذا إلا في خطاب الكافرين، كقوله: {وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ}، {يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} وقال في خطاب المؤمنين: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ} إلى أن قال: {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} وغير ذلك مما يقفك عليه الاستقراء، وكان ذلك للتفرقة بين الخطابين، ولئلا يسوى بين الفريقين في الميعاد. وقيل: أريد أنه يغفر لهم ما بينهم وبين اللّه، بخلاف ما بينهم وبين العباد من المظالم ونحوها {وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى} إلى وقت قد سماه اللّه وبين مقداره، يبلغكموه إن آمنتم، وإلا عاجلكم بالهلاك قبل ذلك الوقت {إِنْ أَنْتُمْ ما أنتم إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا} لا فضل بيننا وبينكم، ولا فضل لكم علينا، فلم تخصون بالنبوّة دوننا، ولو أرسل اللّه إلى البشر رسلا لجعلهم من جنس أفضل منهم وهم الملائكة {بِسُلْطانٍ مُبِينٍ} بحجة بينة، وقد جاءتهم رسلهم بالبينات والحجج، وإنما أرادوا بالسلطان المبين آية قد اقترحوها تعنتًا ولجاجا.

.[سورة إبراهيم: الآيات 11- 12]

{قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)}.
{إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} تسليم لقولهم، وأنهم بشر مثلهم، يعنون أنهم مثلهم في البشرية وحدها، فأما ما وراء ذلك فما كانوا مثلهم، ولكنهم لم يذكروا فضلهم تواضعًا منهم، واقتصروا على قولهم: {وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ} بالنبوّة، لأنه قد علم أنه لا يختصهم بتلك الكرامة إلا وهم أهل لاختصاصهم بها، لخصائص فيهم قد استأثروا بها على أبناء جنسهم {إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} أرادوا أن الإتيان بالآية التي اقترحتموها ليس إلينا ولا في استطاعتنا، وما هو إلا أمر يتعلق بمشيئة الله: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} أمر منهم للمؤمنين كافة بالتوكل، وقصدوا به أنفسهم قصدا أوليا وأمروها به، كأنهم قالوا: ومن حقنا أن نتوكل على اللّه في الصبر على معاندتكم ومعاداتكم وما يجرى علينا منكم. ألا ترى إلى قوله: {وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ} ومعناه: وأىّ عذر لنا في أن لا نتوكل عليه وَقَدْ هَدانا وقد فعل بنا ما يوجب توكلنا عليه، وهو التوفيق لهداية كل واحد منا سبيله الذي يجب عليه سلوكه في الدين، فإن قلت: كيف كرّر الأمر بالتوكل؟ قلت: الأول لاستحداث التوكل، وقوله: {فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} معناه فليثبت المتوكلون على ما استحدثوا من توكلهم وقصدهم إلى أنفسهم على ما تقدّم.

.[سورة إبراهيم: الآيات 13- 14]

{وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (14)}.
{لَنُخْرِجَنَّكُمْ}، {أَوْ لَتَعُودُنَّ} ليكونن أحد الأمرين لا محالة، إما إخراجكم وإما عودكم حالفين على ذلك. فإن قلت: كأنهم كانوا على ملتهم حتى يعودوا فيها. قلت: معاذ اللّه، ولكن العود بمعنى الصيرورة، وهو كثير في كلام العرب كثرة فاشية لا تكاد تسمعهم يستعملون صار، ولكن عاد، ما عدت أراه عاد لا يكلمني، ما عاد لفلان مال. أو خاطبوا به كل رسول ومن آمن به، فغلبوا في الخطاب الجماعة على الواحد {لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ} حكاية تقتضي إضمار القول، أو إجراء الإيحاء مجرى القول، لأنه ضرب منه. وقرأ أبو حيوة: {ليهلكنّ}، و{ليسكننكم} بالياء اعتبارًا لأوحى، وأن لفظه لفظ الغيبة، ونحوه قولك: أقسم زيد ليخرجن ولأخرجن.
والمراد بالأرض. أرض الظالمين وديارهم، ونحوه: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا}، {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ}. وعن النبي صلى اللّه عليه وسلم: «من آذى جاره ورثه اللّه داره» ولقد عاينت هذا في مدة قريبة: كان لي خال يظلمه عظيم القرية التي أنا منها ويؤذيني فيه، فمات ذلك العظيم وملكني اللّه ضيعته، فنظرت يوما إلى أبناء خالي يتردّدون فيها ويدخلون في دورها ويخرجون ويأمرون وينهون فذكرت قول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وحدّثتهم به، وسجدنا شكرًا للّه ذلِكَ إشارة إلى ما قضى به الله من إهلاك الظالمين إسكان المؤمنين ديارهم، أى ذلك الأمر حق {لِمَنْ خافَ مَقامِي} موقفي وهو موقف الحساب، لأنه موقف اللّه الذي يقف فيه عباده يوم القيامة، أو على إقحام المقام. وقيل: خاف قيامي عليه وحفظي لأعماله. والمعنى أنّ ذلك حق للمتقين، كقوله: {وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}.