{طه}.قدمنا أن الحق في هذه الحروف التي افتتحت بها سورها، أنها أسماء لها. وفيه إشارة إلى أنها مؤلفة منها. ومع ذلك ففي عجزهم عن محاكاتها أبلغ آية على صدقها. ونبه الإمام ابن القيم رحمه الله على نكتة أخرى في الكافية الشافية بقوله:
وانظر إلى السور التي افتتحت ** بأحْ رفها ترى سرًّا عظيم الشان
لم يأت قط بسورة إلا أتى ** في إثرها خبر عن القرآن
إذ كان إخبارًا به عنها ** وفي هذا الشفاءُ لطالب الإيمان
ويدل أن كلامه هو نفسها ** لا غيرها والحق ذو تبيان
فانظر إلى مبدا الكتاب وبعدها الـ ** أعراف ثم كذا إلى لقمان
مع تلوها أيضًا ومع حَمَ مع يسَ ** وافهم مقتضى الفرقان
{مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} أي: لتتعب بفرط تأسفك عليهم وعلى كفرهم، وتحسرك على أن يؤمنوا والشقاء في معنى التعب. ومنه المثل: أشقى من رائض مهر.وقوله تعالى: {إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} أي: تذكيرًا له. أي: {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} لتتعب بتبليغه، ولكن تذكرة لمن في قلبه خشية ورقة يتأثر بالإنذار. والقصد أنه ما عليك إلا أن تبلغ وتذكر، ولم يكتب عليك أن يؤمنوا لا محالة. وقد جرت السنة الإلهية في خطاب الرسول في مواضع من التنزيل، أن ينهاه عن الحزن عليهم وضيق الصدر بهم، كقوله تعالى: {فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ} [الأعراف: 2]، {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ} [الكهف: 6]، {وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْر} [آل عِمْرَان: 176]، وهذه الآية من هذا الباب أيضًا.وفي ذلك كله من تكريم الرسول صلوات الله عليه، وحسن العناية به والرأفة، ما لا يخفى. ثم أشار إلى تضخيم شأن هذا المنزل الكريم، لنسبته إلى المتفرد بصفاته وأفعاله، بقوله: {تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى الرَّحْمَنُ} قرئ بالرفع على المدح. أي: هو الرحمن. وبالجر على أنه صفة للموصول. وقوله: {عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} أي: علا وارتفع. قاله ابن جرير. وقد ذهب الخلف إلى جعل ذلك مجازًا عن الملك والسلطان. كقولهم: استوى فلان على سرير الملك، وإن لم يقعد على السرير أصلًا.وقد تقدم الكلام على ذلك في سورة الأعراف بما أغنى عن إعادته أيضًا.قال ابن كثير: والمسلك الأسلم في ذلك طريقة السلف، من إمرار ما جاء في ذلك من الكتاب والسنة، من غير تكييف ولا تحريف ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تمثيل.وقد أسلفنا ما حققته أئمة الفلك الحديث؛ من أن العرش جرم حقيقيّ موجود وأنه مركز العوالم كلها. أي: مركز الجذب والتدبير والتأثير والنظام.{لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى}. بيان لشمول قهره وملكته للكل. أي: كلها تحت ملكته وقهره وسلطنته وتأثيره. لا توجد ولا تتحرك ولا تسكن ولا تتغير ولا تثبت إلا بأمره. اهـ.