الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال ابن عاشور: {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56)}.رجوع إلى قصص موسى عليه السلام مع فرعون.وهذه الجملة بين الجمل التي حكت محاورة موسى وفرعون وقعت هذه كالمقدمة لإعادة سَوق ما جرى بين موسى وفرعون من المحاورة.فيجوز أن تكون الجملة معطوفة على جملة: {قال فمن ربكما يا موسى} [طه: 49] باعتبار ما يقدّر قبل المعطوف عليها من كلام حذف اختصارًا، تقديره: فأتيَاهُ فقالاَ ما أمرناهما أن يقولاه قال فمن ربّكما إلخ.المعنى: فأتياه وقالا ما أمرناهما وأريناه آياتنا كلها على يد موسى عليه السلام.ويجوز أن تكون الجملة معترضة بين ما قبلها، والواو اعتراضيّة.وتأكيد الكلام بلام القسم وقد مستعمل في التعجيب من تصلّب فرعون في عناده، وقصد منها بيان شِدّته في كفره وبيان أن لموسى آيات كثيرة أظهرها الله لفرعون فلم تُجْد في إيمانه.وأجملت وعُممت فلم تفصل، لأنّ المقصود هنا بيان شدّة تصلبه في كفره بخلاف آية سورة الأعراف التي قصد منها بيان تعاقب الآيات ونصرتها.وإراءة الله إياه الآيات: إظهارها له بحيث شاهدها.وإضافة آيات إلى ضمير الجلالة هنا يفيد تعريفًا لآيات معهودة، فإن تعريف الجمع بالإضافة يأتي لما يأتي له التعريف باللاّم يكون للعهد ويكون للاستغراق، والمقصود هنا الأول، أي أرينا فرعون آياتنا التي جرت على يد موسى، وهي المذكورة في قوله تعالى: {في تسع آيات إلى فرعون وقومه} [النمل: 12].وهي انقلاب العصا حيّة، وتبدّل لون اليد بيضاء، وسِنُو القحط، والجراد، والقُمَّل، والضفادع، والدم، والطوفان، وانفلاق البحر.وقد استمر تكذيبه بعد جميعها حتى لما رأى انفلاق البحر اقتحمه طمعًا للظفر ببني إسرائيل.وتأكيد الآيات بأداة التوكيد {كُلَّها} لزيادة التعجيب من عناده.ونظيره قوله تعالى: {ولقد جاء آل فرعون النذر كذبوا بآياتنا كلها} في سورة القمر (41، 42).وظاهر صنيع المفسرين أنهم جعلوا جملة {ولَقَدْ أريناهُ ءاياتنا} عطفًا على جملة {قال فمن ربكما يا موسى} [طه: 49]، وجملة {قال فمن ربكما بيانًا لجملة فَكَذَّبَ وأبى}.فيستلزم ذلك أن يكون عزم فرعون على إحضار السحرة متأخّرًا عن إرادة الآيات كلها فوقعوا في إشكال صحة التعميم في قوله تعالى: {آياتِنَا كُلَّهَا} وكيف يكون ذلك قبل اعتراف السحرة بأنهم غلبوا مع أن كثيرًا من الآيات إنما ظهر بعد زمن طويل مثل: سني القحط، والدم، وانفلاق البحر.وهذا الحمل لا داعي إليه لأنّ العطف بالواو لا يقتضي ترتيبًا.{قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57)}.هذه الجملة متصلة بجملة {قال فما بال القرون الأولى} [طه: 51] وجواب موسى عنها.وافتتاحُها بفعل {قَالَ} وعدم عطفه لا يترك شكًّا في أن هذا من تمام المحاورة.وقوله: {أجِئتَنَا لِتُخْرِجَنَا من أرْضِنَا بِسِحْرِكَ} يقتضي أنه أراه آية انقلاب العصا حَيّة، وانقلاب يَده بيضاء.وذلك ما سمّاه فرعون سِحرًا.وقد صُرح بهذا المقتضى في قوله تعالى حكاية عنهما: {قال لئن اتخذت إلهًا غيري لأجعلنك من المسجونين قال أو لو جئتك بشيء مبين قال فأت به إن كنت من الصادقين فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين قال للملأ حوله إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره} الآية في سورة [الشعراء: 29- 35].وقد استغنى عن ذكره هنا بما في جملة {ولقد أريناه آياتنا كلها} [طه: 56] من العموم الشامل لآية انقلاب العصا حيّة.وإضافته السحرَ إلى ضمير موسى قُصد منها تحقير شأن هذا الذي سمّاه سحرًا.وأسنَدَ الإتيان بسحرٍ مثله إلى ضمير نفسه تعظيمًا لشأنه.ومعنى إتيانه بالسحر: إحضار السحرة بين يديه، أي فلنأتينك بسحر ممنْ شأنهم أن يأتوا بالسحر، إذ السحر لابد له من ساحر.والمماثلة في قوله: {مِثْلِهِ} مماثلة في جنس السحر لا في قوته.وإنما جعل فرعون العلّة في مجيء موسى إليه: أنها قصده أن يخرجهم من أرضهم قياسًا منه على الذين يقومون بدعوة ضد الملوك أنهم إنما يبغون بذلك إزالتهم عن الملك وحلولَهم محلّهم، يعني أن موسى غرّته نفسه فحسب أنه يستطيع اقتلاع فرعون من ملكه، أي حسبتَ أنّ إظهار الخوارق يطوّع لك الأمة فيجعلونك ملكًا عليهم وتخرجني من أرضي.فضمير المتكلم المشارك مستعمل في التعظيم لا في المشاركة، لأنّ موسى لم يصدر عنه ما يشمّ منه إخراجهم من أرضهم.ويجوز أن يكون ضمير المتكلم المشارك مستعملًا في الجماعة تغليبًا، ونزّل فرعون نفسه واحدًا منها.وأراد بالجماعة جماعة بني إسرائيل حيث قال له موسى {فأرسِلْ معنا بني إسرائيل} [طه: 47]، أي جئت لتخرج بعض الأمة من أرضنا وتطمع أن يتبعك جميع الأمّة بما تظهر لهم من سحرك.والاستفهام في {أجِئْتَنَا} إنكاري، ولذلك فرّع عليه القسم على أن يأتيه بسحر مثله، والقسم من أساليب إظهار الغضب.واللام لام القسم، والنون لتوكيده.وقصد فرعون من مقابلة عمل موسى بمثله أن يزيل ما يخالج نفوس الناس من تصديق موسى وكونه على الحق، لعلّ ذلك يفضي بهم إلى الثورة على فرعون وإزالته من ملك مصر.وفرّع على ذلك طلب تعيين موعد بينه وبين موسى ليُحضر له فيه القائمين بسحر مثل سحره.والموعد هنا يجوز أن يراد به المصدر الميمي، أي الوعد وأن يراد به مكان الوعد، وهذا إيجاز في الكلام.وقوله: {مكانًا} بدل اشتمال من {موعدًا} بأحد معنييه، لأنّ الفعل يقتضي مكانًا وزمانًا فأبدل منه مكانُه.وقوله: {لا نُخْلِفُهُ} في قراءة الجمهور برفع الفعل صفةً ل {موعدًا} باعتبار معناه المصدري.وقرأه أبو جعفر بجزم الفاء من {نخلفْه} على أن {لا} ناهية.والنهي تحذير من إخلافه.و{سِوىً} قرأه نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي بكسر السين.وقرأه عاصم، وحمزة، وابن عامر، ويعقوب، وخلف بضم السين وهما لغتان، فالكسر بوزن فِعَل، قال أبو عليّ: وزن فِعَل يقلُّ في الصفات، نحو: قوم عِدىً.وقال أبو عبيدة، وأبو حاتم، والنحاس: كسر السين هو اللغة العالية الفصيحة، وهو اسم وصف مشتق من الاستواء: فيجوز أن يكون الاستواء استواء التوسط بين جهتين.وأنشد أبو عبيدة لموسى ابن جابر الحنفي:الفِزر: لقب لسعد بن زيد مناةَ بن تميم هو بكسر الفاء.والمعنى: قال مجاهد: إنه مكان نصف، وكأنّ المرادَ أنّه نصف من المدينة لئلا يشق الحضور فيه على أهل أطراف المدينة.وعن ابن زيد: المعنى مكانًا مستويًا، أي ليس فيه مرتفعات تحجب العين، أراد مكانًا منكشفًا للناظرين ليشهدوا أعمال موسى وأعمال السحرة.ثم تعيين الموعد غيرِ المخلَف يقتضي تعيين زمانه لا محالة، إذ لا يتصوّر الإخلاف إلاّ إذا كان للوعد وقت معيّن ومكان معيّن، فمن ثم طابقه جواب موسى بقوله: {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينةِ وأن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحىً}.فيقتضي أن محشر الناس في يوم الزينة كان مكانًا معروفًا.ولعلّه كان بساحة قصر فرعون، لأنّهم يجتمعون بزينتهم ولهوهم بمرأى منه ومن أهله على عادة الملوك في المواسم.فقوله: {يَوْمُ الزِّينَةِ} تعيين للوقت، وقوله: {وأن يُحْشَرَ النَّاسُ} تعيين للمكان، وقوله: {ضُحىً} تقييد لمطلق الوقت.والضحى: وقت ابتداء حرارة الشمس بعد طلوعها.ويوم الزينة كان يوم عيد عظيم عند القبط، وهو يوم كسر الخليج أوالخِلجان، وهي المنافذ والترع المجعولة على النيل لإرسال الزائد من مياهه إلى الأرضين البعيدة عن مجراه للسقي، فتنطلق المياه في جميع النواحي التي يمكن وصولها إليها ويزرعون عليها.وزيادة المياه في النيل هو توقيت السنة القبطيّة، وذلك هو أول يوم من شهر توت القبطي، وهو أيلول بحسب التاريخ الإسكندري، وذلك قبل حلول الشمس في برج الميزان بثمانية عشر يومًا، أي قبل فصل الخريف بثمانية عشر يومًا، فهو يوافق اليوم الخامس عشر من شهر تشرين سبتمبر.وأول أيام شهر توت هو يوم النيروز عند الفرس، وذلك مبني على حساب انتهاء زيادة النيل لا على حساب بروج الشمس.واختار موسى هذا الوقت وهذا المكان لأنه يعلم أن سيكون الفلَجُ له، فأحبّ أن يكون ذلك في وقت أكثرَ مشاهِدًا وأوضح رؤيةً.{فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60)}.تفريع التولّي وجمع الكيد على تعيين موسى للموعد إشارة إلى أن فرعون بادر بالاستعداد لهذا الموعد ولم يُضععِ الوقت للتهيئة له.والتولّي: الانصراف، وهو هنا مستعمل في حقيقته، أي انصرف عن ذلك المجلس إلى حيثُ يُرسل الرسل إلى المدائن لجمع من عُرفوا بعلم السحر، وهذا كقوله تعالى في سورة النازعات (22، 23) {ثم أدبر يسعى فحشر فنادى}.ومعنى جمع الكيد: تدبير أسلوب مناظرة موسى، وإعداد الحيل لإظهار غلبة السحرة عليه، وإقناع الحاضرين بأنّ موسى ليس على شيء.وهذا أسلوب قديم في المناظرات: أن يسعى المناظر جهده للتشهير ببطلان حجّة خصمه بكلّ وسائل التلبيس والتشنيع والتشهير، ومباداته بما يفتّ في عضده ويشوش رأيه حتّى يذهب منه تدبيره.فالجمع هنا مستعمل في معنى إعداد الرأي.واستقصاء ترتيب الأمر، كقوله: {فأجمعوا أمركم} [يونس: 71]، أي جمع رأيه وتدبيره الذي يكيد به موسى.ويجوز أن يكون المعنى فجمع أهل كيده، أي جمع السحرة، على حد قوله تعالى: {فجمع السحرة لميقات يوم معلوم} [الشعراء: 38].والكَيْد: إخفاء ما به الضر إلى وقت فعله.وقد تقدّم عند قوله تعالى: {إن كيدي متين} في سورة الأعراف (183).ومعنى {ثُمَّ أتى} ثمّ حضر الموعدَ، وثم للمهلة الحقيقية والرتبية معًا، لأن حضوره للموعد كان بعد مضي مهلة الاستعداد، ولأن ذلك الحضور بعد جمع كيده أهمّ من جمع الكيد، لأنّ فيه ظهور أثر ما أعدّه.وجملة {قَالَ لَهُم موسى} مستأنفة استئنافًا بيانيًا، لأنّ قوله: {ثُمَّ أتى} يثير سؤالًا في نفس السامع أن يقول: فماذا حصل حين أتى فرعون ميقات الموعد.وأراد موسى مفاتحة السحرة بالموعظة.وضمير {لَهُم} عائد إلى معلوم من قوله: {فلنأتينك بسحر مثله} أي بأهل سحر، أو يكون الخطاب للجميع، لأنّ ذلك المحضر كان بمرأى ومسمع من فرعون وحاشيته، فيكون معاد الضمير ما دلّ عليه قوله: {فَجَمعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أتى}، أي جمع رجال كيده. اهـ. .قال الشعراوي: {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56)}.الآيات: الأمور العجيبة، كما نقول: فلان آية في الذكاء، آية في الحسن، آية في الكرم. يعني: عجيب في بابه، وسبق أنْ قسّمنا آيات الله إلى: آيات كونية كالشمس والقمر، وآيات لإثبات صِدْق الرسُل، وهي المعجزات وآيات القرآن الكريم، والتي تسمى حاملة الأحكام.لكن آيات الله عز وجل كثيرة ولا تُحصى، فهل المراد هنا أن فرعون رأى كل آيات الله؟ لا؛ لأن المراد هنا الآيات الإضافية، وهي الآيات التسعة التي جعلها الله حُجّة لموسى وهارون، ودليلًا على صِدْقهما، كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [الإسراء: 101].وهي: العصا واليد والطوفان والجراد والقُمَّل والضفادع والدم والسنين والنقص من الثمرات. تلك هي الآيات التي أراها الله لفرعون.والكلية في قوله: {آيَاتِنَا كُلَّهَا} [طه: 56] كلية إضافية. أي: كل الآيات الخاصة به كما تقول لولدك لقد أحضرتُ لك كل شي وليس المقصود أنك أتيتَ له بكل ما في الوجود، إنما هي كلية إضافية تعني كل شيء تحتاج إليه.
|