الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن
.تفسير الآيات (93- 99): {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (93) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (96) الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)}.التفسير:فى الآية السابقة على هذه الآيات، رفع اللّه الحرج عن الضعفاء والمرضى، وعن الذين لا يجدون ما ينفقون، إذا هم لم يكونوا في موكب المجاهدين الذين يلقون العدوّ في ميدان القتال، إذ كانوا ومعهم أعذارهم التي تحول بينهم وبين القيام بهذا الأمر الذي ندب اللّه سبحانه وتعالى المؤمنين له.{لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} (الآية 91).وفى هذه الآية: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ} اتهام ومؤاخذة لمن تخلّفوا عن الجهاد، ولا عذر لهم.. لأنهم قادرون- بأشخاصهم على أداء هذا الواجب المفروض عليهم، فهم ليسوا ضعفاء، أو مرضى، وهم قادرون بأموالهم على أن يجدوا الزاد الذي يتزودون به للسفر.. من طعام، وحمولة، وسلاح..!وعلّة واحدة لا غير، هي التي قعدت بهم عن أن يكونوا في المجاهدين، هي أنهم {رضوا بأن يكونوا مع الخوالف}.إنه لا شيء يقعدهم عن هذا الأمر إلا إيثارهم العافية والسلامة لأنفسهم، وإلّا ضنّهم بالمال وبالجهد عن البذل في سبيل اللّه.. وذلك خذلان منهم للّه، فكان أن خذلهم اللّه، {وطبع اللّه على قلوبهم} فلم يروا بها سوء ما هم عليه.. {فهم لا يعلمون} ما وقع عليهم من غبن في هذا الموقف الذي وقفوه من أمر اللّه، والجهاد في سبيل اللّه.وفى مخالفة النظم لمقتضى السياق، في قوله تعالى: {إنما السبيل} إذ كان من مقتضى السياق أن يكون: إنما الحرج- في هذا ما يشير إلى ما بين الحالين من اختلاف.فالضعفاء والمرضى والذين لا يجدون ما ينفقون- هؤلاء ومن على شاكلتهم، واقعون تحت عفو اللّه، غير مطالبين بما هو مطلوب من أهل القوة والصحة والغنى.. فلا حرج عليهم، ولا جناح، إذا هم كانوا من المتخلفين.أما هؤلاء الأغنياء الذين تخلّفوا عن قدرة، فهم في مقام المؤاخذة، وفى معرض الجزاء والعقاب، ومن هنا كان السبيل مفتوحا، والطريق مكشوفا للجزاء الذي هم أهل له، وللعقاب الذي لابد هو واقع بهم، إن عاجلا وإن آجلا.ويشهد لهذا المعنى، قوله تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [42: الشورى].. فهؤلاء الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق، قد عرّضوا أنفسهم للنقمة والبلاء، وإنّه لا عاصم لهم يدفع عنهم هذا البلاء الذي سيحل بهم.. وقوله سبحانه: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا} [90: النساء] أي أن هؤلاء الكافرين الذين اعتزلوا القتال الذي بين المسلمين وبين الكافرين، وفاءوا إلى السّلم، ولم يبسطوا أيديهم أو ألسنتهم بأذى للمسلمين- فليس للمسلمين سبيل إلى قتالهم.فانظر في وجه هذا الكلام المشرق، تجد أنه كلام- وإن أخذ من أفواه الناس- قد نظمته بد القدرة، وجاءت به على هذا الإعجاز المبين.. فسبحان سبحان من هذا كلامه.وقوله تعالى: {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.هو إخبار للنبىّ والمؤمنين، وإنذار للمنافقين وذوى الأعذار الكاذبة، إخبار بما سيكون من هؤلاء المنافقين والمعذّرين حين يلقون النبيّ والمؤمنين بعد عودتهم من غزوة تبوك- بما لفّقوا من أعذار، وما نسجوا من أكاذيب، يبرّرون بها تخلفهم عن الجهاد مع المجاهدين.وقد أمر اللّه النبيّ والمؤمنين أن يبهتوا هؤلاء المعذّرين، وأن يفضحوهم على رءوس الأشهاد.. {لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ}.أي لن نصدّق ما تعتذرون به، ولن نقبله.. وليس هذا مما يشهد به حالكم، وتفضحه ألسنتكم وحسب، وإنما هو مما علمه اللّه منكم، وأطلع نبيّه عليه: {قد نبأنا اللّه من أخباركم}.وقوله تعالى: {وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} أي سيرى اللّه ورسوله ما يكون منكم بعد هذا من مواقف حيال الإسلام والمسلمين، من بغى وعدوان، ومخادعة ونفاق، أو مسالمة وسلام.ومعنى الرؤية هنا، العلم القائم على واقع الحال.وهذا ما جعل الرؤية معلقة على المستقبل: {وسيرى اللّه عملكم ورسوله} أي في حال تلبّسهم بما يعملون. أما رؤية اللّه سبحانه فهى مطلقة تشمل الزمان والمكان جميعا.وقوله سبحانه: {ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} تهديد لهؤلاء المعذّرين، بوضعهم تحت المراقبة التي لا تغفل، والتي تعلم سرّهم وجهرهم، وتأخذهم جميعا بما عملوا، فلا يفلت منهم أحد.قوله تعالى: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ}.يكشف عمّا في وجوه المنافقين من صفاقة، وأنهم لا يكترثون كثيرا بما يحببهم به النبيّ والمؤمنون من ردّ وردع، ومن تكذيب وبهت.والمنافق لا يلبس أثواب النفاق إلّا إذا كان صفيقا، لا يعرف الحياء سبيلا إليه، ولو كان في وجه المنافق شيء من الحياء، لما رضى لنفسه أن يلقى الناس بشخص غير شخصه، وبوجود غير وجوده! وليس هكذا شأن المؤمن باللّه.. إنه بإيمانه باللّه، واستناده إلى أقوى الأقوياء، لا يرى في هذا الوجود قوة يخشى بأسها، أو يرهب سلطانها، مادام مستمسكا بالحق، مستقيما على طريق العدل والإحسان.. ورحم اللّه البوصيرى إذ يقول:فالاستنصار برسول اللّه، هو التمسك بالشريعة التي جاء بها صلوات اللّه وسلامه عليه، فذلك هو الإيمان باللّه، واللّه سبحانه وتعالى يقول: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ}.وهكذا، كل من استقام على طريق الحق، يجد من نفسه القوة التي تنأى به عن سفساف الأمور، وترفعه عن الدنايا، فلا يأتى ما يخلّ بالمروءة، أو يشين الشرف..!وليس هذا في الإنسان وحده، بل إنه في عالم الحيوان.. فالحيوان الضعيف، يقوّى ضعفه بالاحتيال والمخادعة.. على حين أن الحيوان القوى يأخذ في حياته خطّا مستقيما واضحا.. وشتان بين الثعلب، والأسد.. فذاك من ضعفه مخادع مخاتل، وهذا من قوته ظاهر واضح. ذاك يأكل الجيف ولا يعافها، وهذا يعفّ عن أن يلوّث فمه بالميتة وإن هلك جوعا..!وأكثر من هذا، فإن عالم النبات يجرى على هذا الأسلوب من الحياة.الشجرة القوية، الطيبة، لا تأوى إليها الهوام، ولا تندس فيها الحشرات.. على حين أن الأشجار الواهية الضعيفة تكون مباءة للآفات، ومرتعا للحشرات والهوامّ.وأكثر من هذا أيضا.. عالم الجماد تجد فيه هذه الظاهرة واضحة على أتمّها.. فالأرض الصلبة لا تشوّه وجهها الأخاديد والحفر..! والمرتفع من الأرض لا يكون مستودعا للمياه الراكدة، والمستنقعات.. وقمة الجبل لا تكون محطّا لخسيس الطير أبدا.القوّة أبدا.. هي موطن السلامة والعافية، وهى مستودع الخير والحسن.فإذا كانت القوة قوة منبعثة من إيمان يعمر القلب، ويغذّى الوجدان، كانت قوة كلّها خير، ورحمة، وإحسان.والإيمان هو الزاد الذي يغذّى القوة الروحية في الإنسان، ذلك الزاد الذي تتجمع عناصره من الأعمال الصالحة التي نمت في ظل الإيمان، والتي تجمعها التقوى التي يقول اللّه سبحانه وتعالى فيها: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى} فهؤلاء المنافقون الذين ردّهم النبيّ والمؤمنون، وفضحوا ما جاءوا إليهم به من أعذار- هاهم أولاء يجيئون إلى النبيّ والمؤمنين بوجه آخر من وجوه نفاقهم، يجيئون بأعذارهم تلك التي كذّبها اللّه، وفضحها النبيّ والمؤمنون، فيزكّونها بالحلف كما يذكّى الذابح البهيمة بالذبح، بعد أن تموت وتتعفّن!! وماذا يريدون بهذا الحلف الكاذب؟يريدون أن يقبل النبيّ والمؤمنون أعذارهم، وأن يصدقوا منهم هذا الكذب المفضوح، وبهذا يتحقق لهم أمران:الأمر الأول: عدم فقدان الثقة في أنفسهم، وفى تلك البضاعة التي يتعاملون بها، لأنه لا وجود لهم إذا أفلت من بين أيديهم هذا الزاد الذي يعيشون فيه، وبارت تلك البضاعة التي هي رأس مالهم في الحياة.وثانى الأمرين- وهو تبع للأمر الأول- أن يعرض النبيّ والمؤمنون عنهم، فلا يأخذونهم باللّوم، ولا يضعونهم موضع الاتهام.وقد دعا اللّه النبيّ والمؤمنين أن يعرضوا عنهم، ولكن لا إعراض المصدّق أو المتسامح، بل إعراض المشمئز المتقزّز النافر من شيء كريه، تؤذيه رائحته: {إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ}.فإنهم لو سلموا من أذى النبيّ والمسلمين، فلن يسلموا من عقاب اللّه، ومن عذاب السعير المعدّ لهم.قوله تعالى: {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ}.هو بيان لحلف يحلف به المنافقون، يريدون به أكثر مما يريده الذين حلفوا منهم، وكانوا يريدون به أن يعرض عنهم النبي والمؤمنون، فلا ينالوهم بأذى.أما هؤلاء، فإنهم يبغون بحلفهم أن يرضى النبيّ والمؤمنون عنهم، وأن يخلطوهم بهم..!وقد أيأس اللّه المنافقين من أن ينالوا بحلفهم هذا الرضا الذي طلبوه، وأنه حتى لو رضى النبي والمؤمنون عنهم- وهذا ما لا يكون أبدا- فلن يرضى اللّه عنهم: {فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ}.قوله تعالى: {الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.تشير الآية الكريمة هنا إلى ما للبيئة من أثر في طبيعة الإنسان، وفى رسم معالم شخصيته، وتحديد مواقفه من الحياة.والبادية، وما فيها من جفاف، وجدب وقسوة، قد طبعت الكائنات فيها- وبخاصة الإنسان- بطابعها الجاف الجديب القاسي.. وفى المثل: من بدا جفا.ومن هنا كانت الطبيعة الحادّة في نفس البدوىّ، ذاهبة به مذهب الغلوّ والتطرف.فالمنافقون من أهل البادية على نفاق أشد وأسوأ من نفاق سكان الحضر.وكذلك كفرهم.. هو كفر غليظ كثيف مغلق، لا تطلع عليه ضوءة من الحق أبدا، وإنهم لبعدهم عن مواقع الهدى من رسول اللّه، ومن المؤمنين، قد فاتهم خير كثير، إذ لم يعلموا ما بين يدى اللّه من دين اللّه، ومن شريعة اللّه.. ومن علم منهم شيئا من هذا، لم يعلمه علم تحقق ويقين.وفى قوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} دعوة لهؤلاء الأعراب أن ينزعوا لباس البداوة، وأن يخرجوا من حياتهم تلك، إلى حياة الحضر، وأن يقتربوا من مواطن العلم والمعرفة، حيث يلقون رسول اللّه، ويأخذون عنه، ويخالطون المؤمنين، ويحذون حذوهم.. فاللّه سبحانه {عليم حكيم} ولا يعرف الطريق إلى اللّه، ويحسن التعامل معه، إلا أهل العلم والحكمة.فالإسلام إذ يشنع على البداوة، وإذ يصم أهلها بالنفاق الكريه، والكفر الغليظ، والجهل الفاضح- الإسلام بهذا يدعو إلى العمران، ويحرض على المدنية، ويبغض إلى الناس العزلة والوحشة وقبول الحياة، كما هى، من غير معالجة لأشيائها، ووضع بصمة الإنسان العالم الحكيم عليها.قوله تعالى: {وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.الأعراب الذين دخلوا في الإسلام على غير علم أو نظر، لم يكن لهذا الدين أثر في نفوسهم، ولا لشريعته حساب في ضمائرهم.. إنهم مسلمون، وليسوا مؤمنين، كما وصفهم اللّه سبحانه وتعالى بقوله: {قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [14: الحجرات] هؤلاء الأعراب إذا دعوا إلى الإنفاق في سبيل اللّه، بحكم أنهم مسلمون، تجب عليهم الزكاة، كما يجب عليهم الجهاد بالمال والنفس في سبيل اللّه- إذا دعوا إلى الإنفاق لم ينفقوا إلا تحت هذا الحكم الملزم لهم، لا عن طواعية واختيار، ولهذا يعدّون ما ينفقون في هذا الوجه مغرما، لأنهم أنفقوه في غير ما يشتهون، فهم لهذا ينظرون إلى الوجه الذي أنفقوه فيه نظر حقد وكراهية، ويتربصون بالمسلمين وبالمجاهدين الدوائر، أي يتمنون لهم الهزيمة والضياع، حتى لا يكون للإسلام يد عليهم تأخذ من أموالهم ما تأخذ من صدقات.والدوائر جمع دائرة، وهى خط أشبه بالحلقة، يدور حول نقطة ارتكاز في وسطه.. وقد استعيرت للشر يقع بالإنسان أو الجماعة، في مجال الصراع مع قوة أخرى معادية، فيقال دارت عليهم الدائرة، أي هزموا، وذلك يعنى أنهم قد أطبق عليهم العدوّ وأحكم عليهم إغلاق طريق الإفلات أو الفرار، فكانوا وكأنّ العدوّ دائرة عليهم.وقد ردّ اللّه على المنافقين الذين يتربصون بالمؤمنين الدائرة بقوله: {عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ}.فقضى اللّه عليهم هذا القضاء، وتوعدهم به، وهو أن الدائرة التي ينتظرونها في المسلمين، لن تقع في المسلمين، الذين سيكتب اللّه لهم العزة والغلب، وإنما ستحلّ الدائرة بهؤلاء المنافقين، وسينزل بهم الخزي والسوء.وفى قوله تعالى: {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} تهديد لهؤلاء المنافقين بمراقبة اللّه سبحانه وتعالى لهم، واطّلاعه على ما يسرّون وما يعلنون، وأنه سبحانه مؤاخذهم بما كانوا يكسبون.قوله تعالى: {وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.ليس الأعراب جميعا على حال سواء، فإذا كانت الصحراء تنبت الشوك والحسك، وتؤوي الوحوش والحيّات، فإنها تخرج العرار والريحان، وتتحلّى بالظّباء والنّعام.وإذا كان في أعراب البادية، الجفاة، وأهل الوحشة والجهالة، فإن فيهم ذوى النفوس الرقيقة، والقلوب المتفتحة، والوجدانات الشفيفة.. التي تذوب رقة وعذوبة.. إن هؤلاء أشبه بالأنسام العليلة الرطبة، التي تهمس بها أنفاس الصحراء بين الحين والحين في آذان الأصائل والأشجار، فتبعث الرّوح والعافية في كيان الأحياء، التي كادت تهلك من لفحات الهجير، ووقدات السّموم!.ففى أعراب البادية الشعراء، والحكماء، وأصحاب الفراسة والألمعية التي تلمح بذكائها الفطري ما لا تلمحه العين المبصرة وراء المجهر، وتكشف بصدق حدسها وظنّها من خفايا النفوس، ما لا يكشفه عالم النفس بأدوات علمه، ومقاييس فنّه.والذين دخلوا الإسلام من هؤلاء الأعراب، من ذوى النظر، والحكمة، قد عرفوا هذا الدّين معرفة كاشفة، فازدادت به بصائرهم استضاءة وتألفا، واستروحت منه قلوبهم روح الطمأنينة واليقين.. فصحبوا هذا الدين صحبة المؤاخاة والمخالطة، وعايشوه معايشة الأمن والعافية، وأمسكوا به إمساك الأرض الطيبة هو اطل الغيث السّخىّ.. فاهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج. فإذا أنفق هؤلاء المؤمنون من الأعراب نفقة في سبيل اللّه احتسبوها قربات يتقربون بها إلى اللّه، ويبتغون بها مرضاته، ويلتمسون منها صلوات اللّه وبركات دعائه.وفى قوله تعالى: {وَصَلَواتِ الرَّسُولِ} بالعطف على قوله سبحانه: {قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ} إشارة إلى أن صلوات الرسول، أي دعاءه لمن يقدّم له الصدقات، هي مما يتقرب به المتقربون إلى اللّه.. فهى صدقات إلى صدقاتهم، يضيفها الرسول إليهم لتزيد في قربهم إلى اللّه.فلقد، كان الرسول- صلوات اللّه وسلامه عليه- يصلّى على المتصدق، أي يدعو له، بالخير، والبركة، وذلك امتثالا لقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ}.وقوله تعالى: {أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ} هو توكيد للمفهوم الضمنى الذي أفاده عطف صلوات الرسول على قوله تعالى: {قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ}.فهذه الصلوات والدعوات من الرسول هي قربة لهم عند اللّه، بمعنى أن دعاء الرسول للمؤمن، يعنى رضا الرسول عنه، وهذا الرضا هو في ذاته قربة عند اللّه للمؤمن، ينال به رضا اللّه ومغفرته، سواء أكان دعاء الرسول ورضاه عن نفقة أنفقها المؤمن، أو عن كلمة طيبة قالها، أو مسعى حميد سعى به بين المسلمين، أو موقف كريم وقفه، أو مشهد حسن شهده.. وقد دعا الرسول- صلوات اللّه وسلامه عليه- لعثمان رضى اللّه عنه، حين أنفق ما أنفق في تجهيز جيش العسرة فقال: «اللّهم ارض عن عثمان فإنى أصبحت عنه راضيا»! فكان عثمان بذلك أحد العشرة المبشرين بالجنّة.وقوله تعالى: {سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} هو الجزاء الذي سيجزيه اللّه هؤلاء الذين أنفقوا في سبيل اللّه، فنالوا رضا اللّه عنهم، ورضا رسوله، وصلواته عليهم.
|