الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***
{إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)} {إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْىِ أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا}. قد يبدو في بادئ النظر عدم التناسب بين مساق الآيات السالفة ومساق هاته الآية، فبينما كانت الآية السابقة ثناء على هذا الكتاب المبين، ووصف حالي المهتدين بهديه والناكبين عن صراطه وبيان إعجازه والتحدي به مع ما تخلل وأعقب ذلك من المواعظ والزواجر النافعة والبيانات البالغة والتمثيلات الرائعة، إذا بالكلام قد جاء يخبر بأن الله تعالى لا يعبأ أن يضرب مثلاً بشيء حقير أو غير حقير، فحقيق بالناظر عند التأمل أن تظهر له المناسبة لهذا الانتقال، ذلك أن الآيات السابقة اشتملت على تحدي البلغاء بأن يأتوا بسورة مثل القرآن، فلما عجزوا عن معارضة النظم سلكوا في المعارضة طريقة الطعن في المعاني فلبسوا على الناس بأن في القرآن من سخيف المعنى ما ينزه عنه كلام الله ليصلوا بذلك إلى إبطال أن يكون القرآن من عند الله بإلقاء الشك في نفوس المؤمنين وبذر الخصيب في تنفير المشركين والمنافقين. روى الواحدي في «أسباب النزول» عن ابن عباس أن الله تعالى لما أنزل قوله: {إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه} [الحج: 73] وقوله: {مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً} [العنكبوت: 41] قال المشركون أرأيتم أي شيء يصنع بهذا فأنزل الله: {إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها} وروي عن الحسن وقتادة أن الله لما ذكر الذباب والعنكبوت في كتابه وضرب بها المثل ضحك اليهود وقالوا ما يشبه أن يكون هذا كلام الله فأنزل الله: {إن الله لا يستحي} الآية. والوجه أن نجمع بين الروايتين ونبين ما انطوتا عليه بأن المشركين كانوا يفزعون إلى يهود يثرب في التشاور في شأن نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم وخاصة بعد أن هاجر النبيء صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فيتلقون منهم صوراً من الكيد والتشغيب فيكون قد تظاهر الفريقان على الطعن في بلاغة ضرب المثل بالعنكبوت والذباب فلما أنزل الله تعالى تمثيل المنافقين بالذي استوقد ناراً وكان معظمهم من اليهود هاجت أحناقهم وضاف خناقهم فاختلقوا هذه المطاعن فقال كل فريق ما نسب إليه في إحدى الروايتين ونزلت الآية للرد على الفريقين ووضح الصبح لذي عينين. فيحتمل أن ذلك قاله علماء اليهود الذين لا حظ لهم في البلاغة، أو قد قالوه مع علمهم بفنون ضرب الأمثال مكابرة وتجاهلاً. وكون القائلين هم اليهود هو الموافق لكون السورة نزلت بالمدينة، وكان أشد المعاندين فيها هم اليهود، ولأنه الأوفق بقوله تعالى: {وما يضل به إلا الفاسقين الذين ينقضون عهد الله} وهذه صفة اليهود، ولأن اليهود قد شاع بينهم التشاؤم والغلو في الحذر من مدلولات الألفاظ حتى اشتهروا باستعمال الكلام الموجه بالشتم والذم كقولهم {رَاعنا} [البقرة: 104]، قال تعالى: {فبدل الذين ظلموا منهم قولاً غير الذي قيل لهم} [البقرة: 59] كما ورد تفسيره في «الصحيح» ولم يكن ذلك من شأن العرب. وإما أن يكون قائله المشركون من أهل مكة مع علمهم بوقوع مثلِه في كلام بلغائهم كقولهم أَجرأُ من ذُبابة، وأسْمَع من قُرادٍ، وأطْيَشُ من فَراشة، وأضعف من بَعُوضَة. وهذا الاحتمال أدَلُّ، على أنهم ما قالوا هذا التمثيل إلا مكابرة ومعاندة فإنهم لما غُلبوا بالتحدي وعجزوا عن الإتيان بسورة من مثله تعلقوا في معاذيرهم بهاته السفاسف، والمكابرُ يقول ما لا يعتقد، والمحجوج المبهوت يستعوج المستقيم ويخفي الواضح، وإلى هذا الثاني ينزع كلام صاحب «الكشاف» وهو أوفق بالسياق. والسورة وإن كانت مدنية فإن المشركين لم يزالوا يُلقون الشبه في صحة الرسالة ويشيعون ذلك بعد الهجرة بواسطة المنافقين. وقد دل على هذا المعنى قوله بعده: {فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا} إلى قوله: {ويهدي به كثيراً}. فإن قيل: لم يكن الرد عقب نزول الآيات الواقع فيها التمثيل الذي أنكروه فإن البدار بالرد على من في مقاله شبهة رائجة يكون أقطع لشبهته من تأخيره زماناً. قلنا: الوجه في تأخير نزولها أن يقع الرد بعد الإتيان بأمثال معجبة اقتضاها مقام تشبيه الهيآت، فذلك كما يمنع الكريم عدوه من عطاء فيلمزه الممنوع بلمز البخل، أو يتأخر الكمي عن ساحة القتال مكيدة فيظنه ناس جبناً فيسرها الأول في نفسه حتى يأتيه القاصد فيعطيه عطاء جزلا، والثاني حتى يكر كرة تكون القاضية على قرنه. فكذلك لما أتى القرآن بأعظم الأمثال وأروعها وهي قوله: {مثلهم كمثل الذي استوقد} [البقرة: 17] {أو كصيب} [البقرة: 19] الآيات وقوله: {صم بكم عمي} [البقرة: 18] أتى إثر ذلك بالرد عليهم فهذا يبين لك مناسبة نزول هذه الآية عقب التي قبلها وقد غفل عن بيانه المفسرون. والمراد بالمثل هنا الشبه مطلقاً لا خصوص المركب من هيئة، بخلاف قوله فيما سبق {مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً} لأن المعنىَّ هنا ما طعنوا به في تشابيه القرآن مثل قوله: {لن يخلقوا ذباباً} [الحج: 73] وقوله: {كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً} [العنكبوت: 41]. وموقع (إنّ) هنا بيِّن. وأما الإتيان بالمسند إليه علماً دون غيره من الصفات فلأن هذا العلم جامع لجميع صفات الكمال فذكره أوقع في الإقناع بأن كلامه هو أعلى كلام في مراعاة ما هو حقيق بالمراعاة وفي ذلك أيضاً إبطال لتمويههم بأن اشتمال القرآن على مثل هذا المثل دليل على أنه ليس من عند الله فليس من معنى الآية أن غير الله ينبغي له أن يستحي أن يضرب مثلاً من هذا القبيل. ولهذا أيضاً اختير أن يكون المسند خصوص فعل الاستحياء زيادة في الرد عليهم لأنهم أنكروا التمثيل بهاته الأشياء لمراعاة كراهة الناس ومثل هذا ضرب من الاستحياء كما سنبينه فنبهوا على أن الخالق لا يستحي من ذلك إذ ليس مما يستحي منه، ولأن المخلوقات متساوية في الضعف بالنسبة إلى خالقها والمتصرف فيها، وقد يكون ذكر الاستحياء هنا محاكاة لقولهم أما يستحي رب محمد أن يضرب مثلاً بالذباب والعنكبوت. فإن قلت: إذا كان استعمال هذه الألفاظ الدالة على معان حقيرة غير مخل بالبلاغة فما بالُنا نرى كثيراً من أهل النقد قد نقدوا من كلام البلغاء ما اشتمل على مثل هذا كقول الفرزدق: من عِزّهم حجرَتْ كليبٌ بيتها *** زَرباً كأنهمُ لديهِ القُمَّل وقول أبي الطيب: أماتكمُ من قبل موتِكم الجهلُ *** وجركمُ من خفة بكمُ النمل وقول الطرمّاح: ولو أن بُرغوثاً على ظهر قملة *** يكرُّ على ضَبْعَيْ تميم لولَّت قلت أصول الانتقاد الأدبي تؤول إلى بيان ما لا يحسن أن يشتمل عليه كلام الأديب من جانب صناعة الكلام، ومن جانب صور المعاني، ومن جانب المستحسن منها والمكروه وهذا النوع الثالث يختلف باختلاف العوائد ومدارك العقول وأصالة الأفهام بحسب الغالب من أحوال أهل صناعة الأدب، ألا ترى أنه قد يكون اللفظ مقبولاً عند قوم غير مقبول عند آخرين، ومقبولاً في عصر مرفوضاً في غيره، ألا ترى إلى قول النابغة يخاطب الملك النعمان: :فإنكَ كالليل الذي هو مُدْركي *** وإن خِلْتُ أن المُنْتَأَى عنك واسع فإن تشبيه الملك بالليل لو وقع في زمان المولدين لعُدَّ من الجفاء أو العجرفة، وكذلك تشبيههم بالحية في الإقدام وإهلاك العدو في قول ذي الإصبع: عَذير الحي من عَدوَا *** نَ كانُوا حَيَّةَ الأرض وقول النابغة في رثاء الحارث الغسّاني: ماذا رُزِئْنا به من حيَّةٍ ذَكَرٍ *** نَضْنَاضَةٍ بالرزايا صِلّ أَصلاَلِ وقد زعم بعض أهل الأدب أن عليًّا بن الجهم مدح الخليفة المتوكل بقوله: أنت كالكلب في وفائك بالعه *** د وكالتيْس في قراع الخطوب وأنه لما سكن بغداد وعلقت نضارة الناس بخياله قال في أول ما قاله: عيون المها بين الرصافة والجسر *** جلبن الهوى من حيث أَدري ولا أدري وقد انتقد بشارٌ على كُثيِّر قوله: ألا إنما ليلى عصا خيزُرانة *** إذا لمسوها بالأكُف تلينُ فقال لو جعلها عصا مخ أو عصا زبد لما تجاوز من أن تكون عصا، على أن بشاراً هو القائل: إذا قامت لجارتها تثنت *** كأن عظامها من خيزران وشبَّه بشار عبدة بالحيَّة في قوله: وكأنها لما مشت *** أَيْمٌ تأود في كثيبْ والاستحياء والحياء واحد، فالسين والتاء فيه للمبالغة مثل استقدم واستأخر واستجاب، وهو انقباض النفس من صدور فعل أو تلقيه لاستشعار أنه لا يليق أو لا يحسن في متعارف أمثاله، فهو هيئة تعرض للنفس هي من قبيل الانفعال يظهر أثرها على الوجه وفي الإمساك عن ما من شأنه أن يُفعل. والاستحياء هنا منفي عن أن يكون وصفاً لله تعالى فلا يحتاج إلى تأويل في صحة إسناده إلى الله، والتعللُ لذلك بأن نفي الوصف يستلزم صحة الاتصاف تعللٌ غير مسلم. والضرب في قوله: {أن يضرب مثلاً} مستعمل مجازاً في الوضع والجعل من قولهم ضربَ خيمة وضرب بيتاً قال عبدة بن الطبيب: إنَّ التي ضربتْ بيتاً مُهاجِرَةً *** بكوفةِ الجُندِ غالت ودَّها غُولُ وقول الفرزدق: ضربت عليك العنكبوت بنسجها *** وقضى عليك به الكتابُ المُنْزَلُ أي جعل شيئاً مثلاً أي شبهاً، قال تعالى: {فلا تضربوا لله الأمثال} [النحل: 74] أي لا تجعلوا له مماثلاً من خلقه فانتصاب {مثلاً} على المفعول به. وجوز بعض أئمة اللغة أن يكون فعل ضرب مشتقاً من الضرب بمعنى المماثل فانتصاب {مثلاً} على المفعولية المطلقة للتوكيد لأن مثلاً مرادف مصدر فعله على هذا التقدير، والمعنى لا يستحي أن يشبِّه بشيء ما. والمثل المثيل والمشابه وغلب على مماثلة هيئة بهيئة وقد تقدم عند قوله تعالى: {مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً} [البقرة: 17] وتقدم هناك معنى ضرب المثل بالمعنى الآخر وتنكير {مثلاً} للتنويع بقرينة بيانه بقوله {بعوضة فما فوقها}. وما إبهامية تتصل بالنكرة فتؤكد معناها من تنويع أو تفخيم أو تحقير، نحو لأمر ما وأعطاه شيئاً ما. والأظهر أنها مزيدة لتكون دلالتها على التأكيد أشد. وقيل اسم بمعنى النكرة المبهمة. و {بعوضة} بدل أو بيان من قوله: {مثلاً}. والبعوضة واحدة البعوض وهي حشرة صغيرة طائرة ذات خرطوم دقيق تحوم على الإنسان لتمتص بخرطومها من دمه غذاء لها، وتعرف في لغة هذيل بالخموش، وأهل تونس يسمونه الناموس واحدته الناموسة وقد جعلت هنا مثلاً لشدة الضعف والحقارة. وقوله: {فما فوقها} عطف على {بعوضة}، وأصل فوق اسم للمكان المعتلي على غيره فهو اسم مبهم فلذلك كان ملازماً للإضافة لأنه تتميز جهته بالاسم الذي يضاف هو إليه فهو من أسماء الجهات الملازمة للإضافة لفظاً أو تقديراً ويستعمل مجازاً في المتجاوز غيره في صفة تجاوزاً ظاهراً تشبيهاً بظهور الشيء المعتلي على غيره على ما هو معتل عليه، ففوق في مثله يستعمل في معنى التغلب والزيادة في صفة سواء كانت من المحامد أو من المذام يقال: فلان خسيس وفوق الخسيس وفلان شجاع وفوق الشجاع، وتقول: أعطى فلان فوق حقه أي زائداً على حقه. وهو في هذه الآية صالح للمعنيين أي ما هو أشد من البعوضة في الحقارة وما هو أكبر حجماً. ونظيره قول النبيء صلى الله عليه وسلم «ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتبت له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة» رواه مسلم، يحتمل أقل من الشوكة في الأذى مثل نَخْبة النملة كما جاءَ في حديث آخر، أو ما هو أشد من الشوكة مثل الوخز بسكين وهذا من تصاريف لفظ فوق في الكلام ولذلك كان لاختياره في هذه الآية دون لفظ أقل ودون لفظ أقوى مثلاً موقع من بليغ الإيجاز. والفاء عاطفة (ما فوقها) على (بعوضة) أفادت تشريكهما في ضرب المثل بهما، وحقها أن تفيد الترتيب والتعقيب ولكنها هنا لا تفيد التعقيب وإنما استعملت في معنى التدرج في الرتب بين مفاعيل {أن يضرب} ولا تفيد أن ضرب المثل يكون بالبعوضة ويعقبه ضربه بما فوقها بل المراد بيان المثل بأنه البعوضة وما يتدرج في مراتب القوة زائداً عليها درجة تلي درجة فالفاء في مثل هذا مجاز مرسل علاقته الإطلاق عن القيد لأن الفاء موضوعة للتعقيب الذي هو اتصال خاص، فاستعملت في مطلق الاتصال، أو هي مستعارة للتدرج لأنه شبيه بالتعقيب في التأخر في التعقل كما أن التعقيب تأخر في الحصول ومنه: «رحم الله المحلقين فالمقصرين». والمعنى أن يضرب البعوضة مثلاً فيضرب ما فوقها أي ما هو درجة أخرى أي أحقر من البعوضة مثل الذرة وأعظم منها مثل العنكبوت والحمار. {فَأَمَّا الذين ءَامَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الذين كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً}. الفاء للتعقيب الذكري دون الحصولي أي لتعقيب الكلام المفصل على الكلام المجمل عطفت المقدر في قوله: {لا يستحي} لأن تقديره لا يستحي من الناس كما تقدم، ولما كان في الناس مؤمنون وكافرون وكلا الفريقين تلقى ذلك المثل واختلفت حالهم في الانتفاع به، نشأ في الكلام إجمال مقدر اقتضى تفصيل حالهم. وإنما عطف بالفاء لأن التفصيل حاصل عقب الإجمال. و (أما) حرف موضوع لتفصيل مجمل ملفوظ أو مقدر. ولما كان الإجمال يقتضي استشراف السامع لتفصيله كان التصدي لتفصيله بمنزلة سؤال مفروض كأن المتكلم يقول إن شئت تفصيله فتفصيله كيث وكيت، فلذلك كانت أما متضمنة معنى الشرط ولذلك لزمتها الفاء في الجملة التي بعدها لأنها كجواب شرط، وقد تخلو عن معنى التفصيل في خصوص قول العرب أما بعد فتتمحض للشرط وذلك في التحقيق لخفاء معنى التفصيل لأنه مبني على ترقب السامع كلاماً بعد كلامه الأول. وقدرها سيبويه بمعنى مهما يكن من شيء، وتلقفه أهل العربية بعده وهو عندي تقدير معنى لتصحيح دخول الفاء في جوابها وفي النفس منه شيء لأن دعوى قصد عموم الشرط غير بينة، فإذا جيء بأداة التفصيل المتضمنة معنى الشرط دل ذلك على مزيد اهتمام المتكلم بذلك التفصيل فأفاد تقوية الكلام التي سماها الزمخشري توكيداً وما هو إلا دلالة الاهتمام بالكلام، على أن مضمونه محقق ولولا ذلك لما اهتم به وبهذا يظهر فضل قوله: {فأما الذين آمنوا فيعلمون} الخ على أن يقال فالذين آمنوا يعلمون بدون أما والفاء. وجعل تفصيل الناس في هذه الآية قسمين لأن الناس بالنسبة إلى التشريع والتنزيل قسمان ابتداء مؤمن وكافر، والمقصود من ذكر المؤمنين هنا الثناء عليهم بثبات إيمانهم وتأييس الذين أرادوا إلقاء الشك عليهم فيعلمون أن قلوبهم لا مدخل فيها لذلك الشك. والمراد بالذين كفروا هنا إما خصوص المشركين كما هو مصطلح القرآن غالباً، وإما ما يشملهم ويشمل اليهود بناء على ما سلف في سبب نزول الآية. وإنما عبر في جانب المؤمنين بيعلمون تعريضاً بأن الكافرين إنما قالوا ما قالوا عناداً ومكابرة وأنهم يعلمون أن ذلك تمثيل أصاب المحز، كيف وهم أهل اللسان وفرسان البيان، ولكن شأن المعاند المكابر أن يقول ما لا يعتقد حسداً وعناداً. وضمير (أنه) عائد إلى المثل. و (الحق) ترجع معانيه إلى موافقة الشيء لما يحق أن يقع وهو هنا الموافق لإصابة الكلام وبلاغته. و(من ربهم) حال من (الحق) و(من) ابتدائية أي وارد من الله لا كما زعم الذين كفروا أنه مخالف للصواب فهو مؤذن بأنه من كلام من يقع منه الخطأ. وأصل (ماذا) كلمة مركبة من ما الاستفهامية وذا اسممِ الإشارة ولذلك كان أصلها أن يسأل بها عن شيء مشار إليه كقول القائل ماذا مشيراً إلى شيء حاضر بمنزلة قوله ما هذا. غير أن العرب توسعوا فيه فاستعملوه اسم استفهام مركباً من كلمتين وذلك حيث يكون المشار إليه معبراً عنه بلفظ آخر غير الإشارة حتى تصير الإشارة إليه مع التعبير عنه بلفظ آخر لمجرد التأكيد، نحو ماذا التواني، أو حيث لا يكون للإشارة موقع نحو: {وماذا عليهم لو آمنوا بالله} [النساء: 39] ولذلك يقول النحاة إن ذا ملغاة في مثل هذا التركيب. وقد يتوسعون فيها توسعاً أقوى فيجعلون ذا اسم موصول وذلك حين يكون المسؤول عنه معروفاً للمخاطب بشيء من أحواله فلذلك يُجرون عليه جملة أو نحوَها هي صلة ويجعلون ذا موصولاً نحو: {ماذا أنزل ربكم} [النحل: 24] وعلى هذين الاحتمالين يصح إعرابه مبتدأ ويصح إعرابه مفعولاً مقدماً إذا وقع بعده فِعل. والاستفهام هنا إنكاري أي جعل الكلام في صورة الاستفهام كناية به عن الإنكار لأن الشيء المنكر يستفهم عن حصوله فاستعمال الاستفهام في الإنكار من قبيل الكناية، ومثله لا يجاب بشيء غالباً لأنه غير مقصود به الاستعلام. وقد يلاحظ فيه معناه الأصلي فيجاب بجواب لأن الاستعمال الكنائي لا يمنع من إرادة المعنى الأصلي كقوله تعالى: {عم يتساءلون عن النبأ العظيم} [النبأ: 1، 2]. والإشارة بقوله: {بهذا} مفيدة للتحقير بقرينة المقام كقوله: {أَهذا الذي يذكر آلهتكم} [الأنبياء: 36]. وانتصب قوله: {مثلاً} على التمييز من (هذا) لأنه مبهم فحقَّ له التمييز وهو نظير التمييز للضمير في قولهم «رُبَّهُ رَجُلاً». {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين * الذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْدِ ميثاقه وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الارض أولاائك هُمُ الخاسرون}. بيان وتفسير للجملتين المصدرتين بأَما على طريقة النشر المعكوس لأن معنى هاتين الجملتين قد اشتمل عليهما معنى الجملتين السالفتين إجمالاً فإنَّ علم المؤمنين أنه الحق من ربهم هُدى، وقولَ الكافرين {ماذا أراد الله} الخ ضلال، والأظهر أن لا يكون قوله: {يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً} جواباً للاستفهام في قول الذين كفروا {ماذا أراد الله بهذا مثلاً} لأن ذلك ليس استفهاماً حقيقياً كما تقدم. ويجوز أن يجعل جواباً عن استفهامهم تخريجاً للكلام على الأسلوب الحكيم بحمل استفهامهم على ظاهره تنبيهاً على أن اللائق بهم أن يسألوا عن حكمة ما أراد الله بتلك الأمثال فيكون قوله: {يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً} جواباً لهم وردا عليهم وبياناً لحال المؤمنين، وهذا لا ينافي كون الاستفهام الذي قبله مكنى به عن الإنكار كما علمته آنفاً من عدم المانع من جمع المعنيين الكنائي والأصلي. وكونُ كلا الفريقين من المضلَّل والمهدى كثيراً في نفسه، لا ينافي نحو قوله: {وقليل من عبادي الشكور} [سبأ: 13] لأن قوة الشكر التي اقتضاها صيغة المبالغة، أخصُّ في الاهتداء. والفاسق لفظ من منقولات الشريعة أصله اسم فاعل من الفِسق بكسر الفاء، وحقيقة الفسق خروج الثمرة من قشرها وهو عاهة أو رداءة في الثمر فهو خروج مذموم يعد من الأدواء مثل ما قال النابغة: صِغار النوى مكنوزة ليس قِشْرُها *** إذا طار قِشْر التمر عنها بطائر قالوا ولم يسمع في كلامهم في غير هذا المعنى حتى نقله القرآن للخروج عن أمر الله تعالى الجازم بارتكاب المعاصي الكبائر، فوقع بعد ذلك في كلام المسلمين، قال رؤبة يصف إبلاً: فواسَقاً عن قَصْدهَا جوائراً *** يَهوين في نجد وغورٍ غائراً والفسق مراتب كثيرة تبلغ بعضها إلى الكفر. وقد أطلق الفسق في الكتاب والسنة على جميعها لكن الذي يستخلص من الجمع بين الأدلة هو ما اصطلح عليه أهل السنة من المتكلمين والفقهاء وهو أن الفسق غيرُ الكفر وأن المعاصي وإن كثرت لا تزيل الإيمان وهو الحق، وقد لقب الله اليهود في مواضع كثيرة من القرآن بالفاسقين وأحسب أنه المراد هنا وعزاه ابن كثير لجمهور من المفسرين. وإسناد الإضلال إلى الله تعالى مراعى فيه أنه الذي مكن الضالين من الكسب والاختيار بما خلق لهم من العقول وما فصل لهم من أسباب الخير وضده. وفي اختيار إسناده إلى الله تعالى مع صحة إسناده لفعل الضال إشارة إلى أنه ضلال متمكن من نفوسهم حتى صار كالجِبلة فيهم فهم مأيوس من اهتدائهم كما قال تعالى: {ختم الله على قلوبهم} [البقرة: 7]. فإسناد الإضلال إلى الله تعالى منظور فيه إلى خَلق أسبابه القريبة والبعيدةِ وإلا فإنَّ الله أمَر الناس كلهم بالهدى وهي مسألة مفروغ منها في علم الكلام. وقوله: {وما يضل به إلا الفاسقين} إما مسوق لبيان أن للفسق تأثيراً في زيادة الضلال لأن الفسق يرين على القلوب ويكسب النفوس ظلمة فتتساقط في الضلال المرة بعد الأخرى على التعاقب، حتى يصير لها دربة. وهذا الذي يؤذن به التعليق على الوصف المشتق إن كان المراد به هنا المعنى الاشتقاقي، فكأنه قيل هؤلاء فاسقون وما من فاسق إلا وهو ضال فما ثبت الضلال إلا بثبوت الفسق على نحو طريقة القياس الاقتراني، وإما مسوق لبيان أن الضلال والفسق أخوان فحيثما تحقق أحدهما أنبأ بتحقق الآخر على نحو قياس المساواة إذا أريد من الفاسقين المعنى اللقبي المشهور فلا يكون له إيذان بتعليل، وإما لبيان أن الإضلال المتكيف في إنكار الأمثال إضلال مع غباوة فلا يصدر إلا من اليهود وقد عرفوا بهذا الوصف. والقول في مذاهب علماء الإسلام في الفسق وتأثيره في الإيمان ليس هذا مقام بيانه إذ ليس هو المقصود من الآية. فإن كان محمل الفاسقين على ما يشمل المشركين واليهود الذين طعنوا في ضرب المثل كان القصر في قوله: {وما يضل به} الخ بالإضافة إلى المؤمنين ليحصل تمييز المراد من المضلل والمهتدى، وإن كان محمل الفاسقين على اليهود كان القصر حقيقياً ادعائياً أي يضل به كثيراً وهم الطاعنون فيه وأشدهم ضلالاً هم الفاسقون، ووجه ذلك أن المشركين أبعد عن الاهتداء بالكتاب لأنهم في شركهم، وأما اليهود فهم أهل كتاب وشأنهم أن يعلموا أفانين الكتب السماوية وضرب الأمثال فإنكارهم إياها غاية الضلال فكأنه لا ضلال سواه. وجملة {الذين ينقضون} إلى آخره صفة للفاسقين لتقرير اتصافهم بالفسق لأن هاته الخلال من أكبر أنواع الفسوق بمعنى الخروج عن أمر الله تعالى. وجوز أن تكون مقطوعة مستأنفة على أن (الذين) مبتدأ وقوله: {أولئك هم الخاسرون} خبر وهي مع ذلك لا تخرج عن معنى توصيف الفاسقين بتلك الخلال إذ الاستئناف لما ورد إثر حكاية حال عن الفاسقين تعين في حكم البلاغة أن تكون هاته الصلة من صفاتهم وأحوالهم للزوم الاتحاد في الجامع الخيالي وإلا لصار الكلام مقطعاً منتوفاً فليس بين الاعتبارين إلا اختلاف الإعراب وأما المعنى فواحد فلذلك كان إعرابه صفة أرجح أو متعيناً إذ لا داعي إلى اعتبار القطع. ومجيء الموصول هنا للتعريف بالمراد من الفاسقين أي الفاسقين الذين عرفوا بهذه الخلال الثلاث فالأظهر أن المراد من الفاسقين اليهود وقد أطلق عليهم هذا الوصف في مواضع من القرآن وهم قد عرفوا بما دلت عليه صلة الموصول كما سنبينه هنا بل هم قد شهدت عليهم كتب أنبيائهم بأنهم نقضوا عهد الله غير مرة وهم قد اعترفوا على أنفسهم بذلك فناسب أن يجعل النقض صلة لاشتهارهم بها، ووجه تخصيصهم بذلك أن الطعن في هذا المثل جرهم إلى زيادة الطعن في الإسلام فازدادوا بذلك ضلالاً على ضلالهم السابق في تغيير دينهم وفي كفرهم بعيسى، فأما المشركون فضلالهم لا يقبل الزيادة، على أن سورة البقرة نزلت بالمدينة وأكثر الرد في الآيات المدنية متوجه إلى أهل الكتاب. والنقض في اللغة حقيقة في فسخ وحل ما ركب ووصل، بفعل يعاكس الفعل الذي كان به التركيب، وإنما زدت قولي بفعل الخ ليخرج القطع والحرق فيقال نقض الحبل إذا حل ما كان أبرمه، ونقض الغزل ونقض البناء. وقد استعمل النقض هنا مجازاً في إبطال العهد بقرينة إضافته إلى (عهد الله) وهي استعارة من مخترعات القرآن بنيت على ما شاع في كلام العرب في تشبيه العهد وكل ما فيه وصل بالحبل وهو تشبيه شائع في كلامهم، ومنه قول مالك بن التيهان الأنصاري للنبيء صلى الله عليه وسلم يوم بيعة العقبة: «يا رسول الله إن بيننا وبين القوم حبالاً ونحن قاطعوها فنخشى إن أعزك الله وأظهرك أن ترجع إلى قومك» (يريد العهود التي كانت في الجاهلية بين قريش وبين الأوس والخزرج). وكان الشائع في الكلام إطلاق لفظ القطع والصرم وما في معناهما على إبطال العهد أيضاً في كلامهم. قال امرؤ القيس: وإن كنتتِ قد أزمعتتِ صرمي فأجملي *** وقال لبيد: أوَ لم تكن تدري نوارِ بأنَّني *** وَصَّالُ عَقد حبائل جَذّامها وقال: بل ما تَذكّر من نَوار وقد نَأَتْ *** وتقطَّعَتْ أَسبابُها ورِمَامُها وقال: فاقْطع لُبانة من تعرَّض وصلُه *** فلَشَرُّ واصِل خُلَّةٍ صَرَّامُها ووجه اختيار استعارة النقض الذي هو حل طَيَّات الحبل إلى إبطال العهد أنها تمثيل لإبطال العهد رويداً رويداً وفي أزمنة متكررة ومعالجة. والنقض أبلغ في الدلالة على الإبطال من القطع والصرم ونحوهما لأن في النقض إفساداً لهيأة الحبل وزوال رجاء عودها وأما القطع فهو تجزئة. وفي النقض رمز إلى استعارة مكنية لأن النقض من روادف الحبل فاجتمع هنا استعارتان مكنية وتصريحية وهذه الأخيرة تمثيلية وقد تقرر في علم البيان أن ما يرمز به للمشبه به المطروح في المكنية قد يكون مستعملاً في معنى حقيقي على طريقة التخييل وذلك حيث لا يكون للمشبه المذكور في صورة المكنية رديف يمكن تشبيهه برديف المشبه به المطروح مثل إثباتتِ الأظفار للمنية في قولهم أظفارُ المنية وإثباتتِ المخالببِ والناب للكُماة في قول أبي فِراس الحمداني: فلما اشتدت الهيجاءُ كنَّا *** أَشَدَّ مخالِباً وأَحَدَّ نابا وإثباتتِ اليد للشمال في قول لَبيد: وغداة ريححٍ قد كشفتُ وقِرَّةٍ *** إذْ أصبحت بِيَد الشَّمال زِمامُها وقد يكون مستعملاً في معنى مجازي إذا كان للمشبه في المكنية رديف يمكن تشبيهه برديف المشبه به المضمر نحو {ينقضون عهد الله}، وقد زدنا أنها تمثيلية أيضاً والبليغ لا يفلت هاته الاستعارة مهما تأت له ولا يتكلف لها مهما عسرت فليس الجواز المذكور في قرينة المكنية إلا جوازاً في الجملة أي بالنظر إلى اختلاف الأحوال. وهذا الذي هو من روادف المشبه به في صورة المكنية وغيرها قد يقطع عن الربط بالمكنية فيكون استعارة مستقلة (وذلك حيث لا تذكر معه لفظاً يراد تشبيهه بمشبه به مضمر) نحو أن تقول فلان ينقض ما أبرم. وقد يربط بالمكنية وذلك حيث يذكر معه شيء أريد تشبيهه بمشبه به مضمر كما في الآية حيث ذكر النقض مع العهد. وقد يربط بمصرحة وذلك حيث يذكر مع لفظ المشبه به الذي الرادف من توابعه نحو قوله: «إن بيننا وبين القوم حبالاً نحن قاطعوها» وحينئذٍ يكون ترشيحاً للمجاز وهذه الاعتبارات متداخلة لامتضادة إذ قد يصح في الموضع اعتباران منها أو جميعها وإنما التقسيم بالنظر إلى ما ينظر إليه البليغ أول النظر. واعلم أن رديف المشبه به في المكنية إذا اعتبر استعارة في ذاته قد يتوهم أن اعتباره ذلك ينافي كونه رمزاً للمشبه به المضمر كالنقض فإنه لما أريد به إبطال العهد لم يكن من روادف الحبل، لكن لما كان إيذانه بالحبل سابقاً عند سماع لفظه لسبق المعنى الحقيقي إلى ذهن السامع حتى يتأمل في القرينة كفى ذلك السبق دليلاً ورمزاً على المشبه به المضمر فإذا حصل ذلك الرمز لم يضر فهمَ الاستعارة في ذلك اللفظ، وأجاب عبد الحكيم بأن كونه رادفاً بعد كونه استعارة بناء على أنه لما شبه به الرادف وسمي به صار رادفاً ادعائياً وفيه تكلف. و (عهد الله) هو ما عهد به أي ما أوصى برعيه وحفاظه، ومعاني العهد في كلام العرب كثيرة وتصريفه عرفي. قال الزجاج: «قال بعضهم ما أدري ما العهد» ومرجع معانيه إلى المعاودة والمحافظة والمراجعة والافتقاد ولا أدري أي معانيه أصل لبقيتها وغالب ظني أنها متفرع بعضها عن بعض والأقرب أن أصلها هو العهد مصدر عهده عهداً إذا تذكره وراجع إليه نفسه يقولون عهدتك كذا أي أتذكر فيك كذا وعهدي بك كذا، وفي حديث أم زرع «ولا يسأل عما عهد أي عما عهد وترك في البيت ومنه قولهم في عهد فلان أي زمانه لأنه يقال للزمان الذي فيه خير وشر لا ينساه الناس، وتعهد المكان أو فلاناً وتعاهده إذا افتقده وأحدث الرجوع إليه بعد ترك العهد والوصية ومنه ولي العهد. والعهد اليمين والعهد الالتزام بشيء، يقال عهد إليه وتعهد إليه لأنها أمور لا يزال صاحبها يتذكرها ويراعيها في مواقع الاحتراز عن خفرها. وسمي الموضع الذي يتراجعه الناس بعد البعد عنه معهداً. والعهد في الآية الذي أخذه الله على بني آدم أن لا يعبدوا غيره: {ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان} [يس: 60] الآية، فنقضه يشمل الشرك وقد وصف الله المشركين بنقض العهد في قوله: {والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه} الآية في سورة الرعد. (25) وفسر بالعهد الذي أخذه الله على الأمم على ألسنة رسلهم أنهم إذا بعث بعدهم رسول مصدق لما معهم ليؤمنن به: {وإذ أخذ الله ميثاق النبيئين لما آتيناكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه} [آل عمران: 81] الآيات لأن المقصود من ذلك أخذ العهد على أممهم. وفسر بالعهد الذي أخذه الله على أهل الكتاب ليبننه للناس: {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس} [آل عمران: 187] الآية في تفاسير أخرى بعيدة. والصحيح عندي أن المراد بالعهد هو العهد الذي أخذه الله على بني إسرائيل غير مرة من إقامة الدين وتأييد الرسل وأن لا يسفك بعضهم دماء بعض وأن يؤمنوا بالدين كله، وقد ذكرهم القرآن بعهود الله تعالى ونقضهم إياها في غير ما آية من ذلك قوله تعالى: {وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم} [البقرة: 40]. {ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً إلى قوله: فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم} [المائدة: 12 13] الخ وقوله: {لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلاً} [المائدة: 70] إلى قوله: {فعموا وصموا} [المائدة: 70، 71]. {وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم إلى قوله: {ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم} [البقرة: 80 84] إلى قوله: {وتكفرون ببعض} [البقرة: 85] بل إن كتبهم قد صرحت بعهود الله تعالى لهم وأنحت عليهم نقضهم لها وجعلت ذلك إنذاراً بما يحل بهم من المصائب كما في كتاب أرميا ومراثي أرميا وغير ذلك، بل قد صار لفظ العهد عندهم لقباً للشريعة التي جاء بها موسى. ولما كان قوله: {الذين ينقضون عهد الله} الآية وصفاً للفاسقين وكان المراد من الفاسقين اليهود كما علمت كان ذكر العهد إيماء إلى أن الفاسقين هنا هم، وتسجيلاً على اليهود بأنهم قد حق عليهم هذا الوصف من قبل اليوم بشهادة كتبهم وعلى ألسنة أنبيائهم فكان لاختيار لفظ العهد هنا وقع عظيم يتنزل منزلة المفتاح الذي يوضع في حل اللغز ليشير للمقصود فهو العهد الذي سيأتي ذكره في قوله تعالى: {وأوفوا بعهدي} [البقرة: 40]. والميثاق مفعال وهو يكون للآلة كثيراً كمرقاة ومرآة ومحراث، قال الخفاجي كأنه إشباع للمِفْعَل، وللمصدر أيضاً نحو الميلاد والميعاد وهو الأظهر هنا. والضمير للعهد أي من بعد توكيد العهد وتوثيقه. ولما كان المراد بالعهد عهداً غير معيّننٍ، بل كل ما عاهدوا عليه كان توكيد كل ما يفرضه المخاطب بما تقدمه من العهود وما تأخر عنه فهو على حد: {ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيده} [النحل: 91] فالميثاق إذن عهد آخر اعتبر مؤكداً لعهد سبقه أو لحقه. وقوله: {ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل} قيل ما أمر الله به أن يوصل هو قرابة الأرحام يعني وحيث ترجح أن المراد به بعض عمل اليهود فذلك إذ تقاتلوا وأخرجوا كثيراً منهم من ديارهم ولم تزل التوراة توصي بني إسرائيل بحسن معاملة بعضهم لبعض. وقيل الإعراض عن قطع ما أمر الله به أن يوصل هو موالاة المؤمنين. وقيل اقتران القول بالعمل. وقيل التفرقة بين الأنبياء في الإيمان ببعض والكفر ببعض. وقال البغوي يعني بما أمر الله به أن يوصل الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبجميع الرسل. وأقول تكميلاً لهذا إن مراد الله تعالى مما شرع للناس منذ النشأة إلى ختم الرسالة واحد وهو إبلاغ البشر إلى الغاية التي خلقوا لها وحفظ نظام عالمهم وضبط تصرفاتهم فيه على وجه لا يعتوره خلل، وإنما اختلفت الشرائع على حسب مبلغ تهييء البشر لتلقي مراد الله تعالى ولذلك قلما اختلفت الأصول الأساسية للشرائع الإلهية قال تعالى: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين} [الشورى: 13] الآية. وإنما اختلفت الشرائع في تفاريع أصولها اختلافاً مراعى فيه مبلغ طاقة البشر لطفاً من الله تعالى بالناس ورحمة منه بهم حتى في حملهم على مصالحهم ليكون تلقيهم لذلك أسهلَ، وعملُهم به أدوم، إلى أن جاءت الشريعة الإسلامية في وقت راهَقَ فيه البشرُ مَبلغَ غاية الكمال العقلي وجاءهم دين تناسب أحكامه وأصوله استعدادهم الفكري وإن تخالفت الأعصار وتباعدت الأقطار فكان ديناً عاماً لجميع البشر، فلا جرم أن كانت الشرائع السابقة تمهيداً له لتهييء البشر لقبول تعاليمه وتفاريعها التي هي غاية مراد الله تعالى من الناس ولذا قال تعالى: {إن الدين عند الله الإسلام} [آل عمران: 19]. فما من شريعة سلفت إلا وهي حلقة من سلسلة جعلت وِصلة للعُروة الوثقى التي لا انفصام لها وهي عروة الإسلام فمتى بلغها الناس فقد فَصوا ما قبلها من الحلق وبلغوا المراد، ومتى انقطعوا في أثناء بعض الحلق فقد قطعوا ما أراد الله وصله، فاليهود لما زعموا أنهم لا يحل لهم العدول عن شريعة التوارة قد قطعوا ما أمر الله به أن يوصل ففرقوا مجتمعه. والفساد في الأرض تقدم الكلام عليه عند قوله تعالى: {ألا إنهم هم المفسدون} [البقرة: 12] ومن الفساد في الأرض عكوف قوم على دين قد اضمحل وقت العمل به وأصبح غير صالح لما أراد الله من البشر فإن الله ما جعل شريعة من الشرائع خاصة وقابلة للنسخ إلا وقد أراد منها إصلاح طائفة من البشر معينة في مدة معينة في علمه، وما نسخ ديناً إلا لتمام وقت صلوحيته للعمل به فالتصميم على عدم تلقي الناسخ وعلى ملازمة المنسوخ هو عمل بما لم يبق فيه صلاح للبشر فيصير ذلك فساداً في الأرض لأنه كمداواة المريض بدواء كان وصف له في حالة تبدلت من أحوال مرضه حتى أتى دين الإسلام عاماً دائماً لأنه صالح للكل. وقوله: {أولئك هم الخاسرون} قصر قلب لأنهم ظنوا أنفسهم رابحين وهو استعارة مكنية تمثيلية تقدمت في قوله تعالى: {فما ربحت تجارتهم} [البقرة: 16]. وذكر الخسران تخييل مراد منه الاستعارة في ذاته على نحو ما قرر في {ينقضون عهد الله} فهذه الآية ظاهرة في أنها موجهة إلى اليهود لما علمت عند قوله: {وما يضل به إلا الفاسقين} ولما علمت من كثرة إطلاق وصف الفاسقين على اليهود، وإن كان الذين طعنوا في أمثال القرآن فريقين: المشركين واليهود، كما تقدم، وكان القرآن قد وصف المشركين في سورة الرعد (25) وهي مكية بهذه الصفات الثلاث في قوله: {والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار} فالمراد بهم المشركون لا محالة فذلك كله لا يُناكد جعل آية سورة البقرة موجهة إلى اليهود إذ ليس يلزم المفسر حمله آي القرآن على معنى واحد كما يوهمه صنيع كثير من المفسرين حتى كان آي القرآن عندهم قوالب تفرغ فيها معان متحدة. واعلم أن الله قد وصف المؤمنين بضد هذه الصفات في قوله تعالى: {إنما يتذكر أولو الألباب الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل} الآية في سورة الرعد (25). واعلم أن نزول هذه الآيات ونحوها في بعض أهل الكتاب أو المشركين هو وعيد وتوبيخ للمشركين وأهل الكتاب وهو أيضاً موعظة وذكرى للمؤمنين ليعلم سامعوه أن كل من شارك هؤلاء المذمومين فيما أوجب ذمهم وسبب وعيدهم هو آخذ بحظ مما نالهم من ذلك على حسب مقدار المشاركة في الموجب.
{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)} ثُني عنان الخطاب إلى الناس الذين خوطبوا بقوله آنفاً: {يأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم} [البقرة: 21]، بعد أن عقب بأفانين من الجمل المعترضة من قوله: {وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري} [البقرة: 25] إلى قوله: {الخاسرون} [البقرة: 27]. وليس في قوله: {كيف تكفرون بالله} تناسب مع قوله: {إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما} [البقرة: 26] وما بعده مما حكى عن الذين كفروا في قولهم: {ماذا أراد الله بهذا مثلاً} [البقرة: 26] حتى يكون الأنتقالُ إلى الخطاب في قوله: {تكفرون} التفاتاً، فالمناسبة بين موقع هاته الآية بعد ما قبلها هي مناسبة اتحاد الغرض، بعد استيفاء ما تخلل واعترض. ومن بديع المناسبة وفائق التفنن في ضروب الانتقالات في المخاطبات أن كانت العلل التي قرن بها الأمر بعبادة الله تعالى في قوله: {يأيها الناس اعبدوا ربكم} [البقرة: 21] الخ هي العلل التي قرن بها إنكار ضد العبادة وهو الكفر به تعالى في قوله هنا: {كيف تكفرون بالله} فقال فيما تقدم: {الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون} [البقرة: 21] {الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناء} [البقرة: 22] الآية وقال هنا: {وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً ثم استوى إلى السماء} [البقرة: 29] وكان ذلك مبدأ التخلص إلى ما سيرد من بيان ابتداء إنشاء نوع الإنسان وتكوينه وأطواره. فالخطاب في قوله: {تكفرون} متعين رجوعه إلى (الناس) وهم المشركون لأن اليهود لم يكفروا بالله ولا أنكروا الإحياء الثاني. و (كيف) اسم لا يعرف اشتقاقه يدل على حالة خاصة وهي التي يقال لها الكيفية نسبة إلى كيف ويتضمن معنى السؤال في أكثر موارد استعماله فلدلالته على الحالة كان في عداد الأسماء لأنه أفاد معنى في نفسه إلا أن المعنى الاسمي الذي دل عليه لما كان معنى مبهماً شابه معنى الحرف فلما أشربوه معنى الاستفهام قوي شبهه بالحروف لكنه لا يخرج عن خصائص الأسماء فلذلك لا بد له من محلِّ إعراب، وأكثر استعماله اسمُ استفهام فيعرب إعراب الحال. ويستفهم بكيف عن الحال العامة. والاستفهام هنا مستعمل في التعجيب والإنكار بقرينة قوله: {وكنتم أمواتاً} الخ أي إن كفركم مع تلك الحالة شأنه أن يكون منتفياً لا تركن إليه النفس الرشيدة لوجود ما يصرف عنه وهو الأحوال المذكورة بعْدُ فكان من شأنه أن يُنكر فالإنكار متولد من معنى الاستفهام ولذلك فاستعماله فيهما من إرادة لازم اللفظ، وكأن المنكر يريد أن يقطع معذرة المخاطب فيظهر له أنه يتطلب منه الجواب بما يُظهر السبب فيُبطل الإنكار والعجَب حتى إذا لم يبد ذلك كان حقيقاً باللوم والوعيد. والكفر بضم الكاف مصدر سماعي لكَفَر الثلاثي القاصر وأصله جَحْد المنعَم عليه نعمةَ المنْعِم، اشتق من مادة الكَفر بفتح الكاف وهو الحَجب والتغطية لأن جاحد النعمة قد أخفى الاعتراف بها كما أن شاكرها أعلنها. وضده الشكر ولذلك صيغ له مصدر على وزان الشُّكر وقالوا أيضاً كفران على وزن شُكران، ثم أطلق الكفر في القرآن على الإشراك بالله في العبادة بناء على أنه أشد صور كفر النعمة إذ الذي يترك عبادة من أنعم عليه في وقت من الأوقات قد كفر نعمته في تلك الساعة إذ توجَّهَ بالشكر لغير المنعِم وتركَ المنعِم حين عزمه على التوجه بالشكر ولأن عزم نفسه على مداومة ذلك استمرار في عقد القلب على كفر النعمة وإن لم يتفطن لذلك، فكان أكثرُ إطلاق الكفر بصيغة المصدر في القرآن على الإشراك بالله ولم يَرد الكفر بصيغة المصدر في القرآن لغير معنى الإشراك بالله. وقل ورود فعل الكفر أو وصف الكافر في القرآن لجحد رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وذلك حيث تكون قرينة على إرادة ذلك كقوله: {ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين} [البقرة: 105] وقولِه: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} [المائدة: 44] يريد اليهود. وأما إطلاقه في السنة وفي كلام أئمة المسلمين فهو الاعتقاد الذي يخرج معتقده عن الإسلام وما يدل على ذلك الاعتقاد من قول أو فعل دلالة لا تحتمل غير ذلك. وقد ورد إطلاق الكفر في كلام الرسول عليه السلام وكلام بعض السلف على ارتكاب جريمة عظيمة في الإسلام إطلاقاً على وجه التغليظ بالتشبيه المفيد لتشنيع ارتكاب ما هو من الأفعال المباحة عند أهل الكفر ولكن بعض فرق المسلمين يتشبثون بظاهر ذلك الإطلاق فيقضون بالكفر على مرتكب الكبائر ولا يلتفتون إلى ما يعارض ذلك في إطلاقات كلام الله ورسوله. وفرق المسلمين يختلفون في أن ارتكاب بعض الأعمال المنهي عنها يدخل في ماهية الكفر وفي أن إثبات بعض الصفات لله تعالى أو نفي بعض الصفات عنه تعالى داخل في ماهية الكفر على مذاهب شتى. ومذهب أهل الحق من السلف والخلف أنه لا يكفر أحد من المسلمين بذنب أو ذنوب من الكبائر فقد ارتكبت الذنوب الكبائر في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء فلم يعاملوا المجرمين معاملة المرتدين عن الدين، والقول بتكفير العصاة خطر على الدين لأنه يؤول إلى انحلال جامعة الإسلام ويهون على المذنب الانسلاخ من الإسلام منشداً «أنا الغريق فما خوفي من البلل». ولا يكفر أحد بإثبات صفة لله لا تنافي كماله ولا نفي صفة عنه ليس في نفيها نقصان لجلاله فإن كثيراً من الفرق نفوا صفات ما قصدوا بنفيها إلا إجلالاً لله تعالى وربما أفرطوا في ذلك كما نفى المعتزلة صفات المعاني وجواز رؤية الله تعالى، وكثير من الفرق أثبتوا صفات ما قصدوا من إثباتها إلا احترام ظواهر كلامه تعالى كما أثبت بعض السلف اليد والإصبع مع جزمهم بأن الله لا يشبه الحوادث. والإيمان ذكر معناه عند قوله تعالى: {الذين يؤمنون بالغيب} [البقرة: 3]. وقوله: {وكنتم أمواتاً فأحياكم} جملة حالية وهي تخلص إلى بيان ما دلت عليه (كيف) بطريق الإجمال وبيان أولى الدلائل على وجوده وقدرته وهي ما يشعر به كل أحد من أنه وجد بعد عدم. ولقد دل قوله تعالى: {وكنتم أمواتاً فأحياكم} أن هذا الإيجاد على حال بديع وهو أن الإنسان كان مركب أشياء موصوفاً بالموت أي لا حياة فيه إذ كان قد أخذ من العناصر المتفرقة في الهواء والأرض فجمعت في الغذاء وهو موجود ثاننٍ ميت ثم استخلصت منه الأمزجة من الدم وغيره وهي ميتة، ثم استخلص منه النطفتان للذكر والأنثى، ثم امتزج فصار علقة ثم مضغة كل هذه أطوار أولية لوجود الإنسان وهي موجودات ميتة ثم بثت فيه الحياة بنفخ الروح فأخذ في الحياة إلى وقت الوضع فما بعده، وكان من حقهم أن يكتفوا به دليلاً على انفراده تعالى بالإلهية. وإطلاق الأموات هنا مجاز شائع بناء على أن الموت هو عدم اتصاف الجسم بالحياة سواء كان متصفاً بها من قبل كما هو الإطلاق المشهور في العرف أم لم يكن متصفاً بها إذا كان من شأنه أن يتصف بها فعلى هذا يقال للحيوان في أول تكوينه نطفة وعلقة ومضغة ميت لأنه من شأنه أن يتصف بالحياة فيكون إطلاق الأموات في هذه الآية عليهم حين كانوا غير متصفين بالحياة إطلاقاً شائعاً والمقصود به التمهيد لقوله: {فأحياكم} ثم التمهيد والتقريب لقوله: {ثم يميتكم ثم يحييكم}. وقال كثير من أئمة اللغة الموت انعدام الحياة بعد وجودها وهو مختار الزمخشري والسكاكي وهو الظاهر، وعليه فإطلاق الأموات عليهم في الحالة السابقة على حلول الحياة استعارة. واتفق الجميع على أنه إطلاق شائع في القرآن فإن لم يكن حقيقة فهو مجاز مشهور قد ساوى الحقيقة وزال الاختلاف. والحياة ضد الموت، وهي في نظر الشرع نفخ الروح في الجسم. وقد تعسر تعريف الحياة أو تعريف دوامها على الفلاسفة المتقدمين والمتأخرين تعريفاً حقيقياً بالحد، وأوضح تعاريفها بالرسم أنها قوة ينشأ عنها الحس والحركة وأنها مشروطة باعتدال المزاج والأعضاء الرئيسية التي بها تدوم الدورة الدموية، والمراد بالمزاج التركيب الخاص المناسب مناسبة تليق بنوع ما من المركبات العنصرية وذلك التركيب يحصل من تعادل قوى وأجزاء بحسب ما اقتضته حالة الشيء المركب مع انبثاث الروح الحيواني، فباعتدال ذلك التركيب يكون النوع معتدلاً ولكل صنف من ذلك النوع مزاج يخصه بزيادة تركيب، ولكل شخص من الصنف مزاج يخصه ويتكون ذلك المزاج على النظام الخاص تنبعث الحياة في ذي المزاج في إبان نفخ الروح فيه وهي المعبر عنها بالروح النفساني. وقد أشار إلى هذا التكوين حديث الترمذي عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه المَلك فينفخ فيه الروح» فأشار إلى حالات التكوين التي بها صار المزاج مزاجاً مناسباً حتى انبعثت فيه الحياة، ثم بدوام انتظام ذلك المزاج تدوم الحياة وباختلاله تزول الحياة، وذلك الاختلال هو المعبر عنه بالفساد، ومن أعظم الاختلال فيه اختلال الروح الحيواني وهو الدم إذا اختلت دورته فعرض له فساد، وبعروض حالة توقف عمل المزاج وتعطل آثاره يصير الحي شبيهاً بالميت كحالة المغمى عليه وحالة العضو المفلوج، فإذا انقطع عمل المزاج فذلك الموت. فالموت عدم والحياة ملكة وكلاهما موجود مخلوق قال تعالى: {الذي خلق الموت والحياة} في سورة الملك (2). وليس المقصود من قوله: وكنتم أمواتاً فأحياكم} الامتنان بل هو استدلال محض ذكر شيئاً يعده الناس نعمة وشيئاً لا يعدونه نعمة وهو الموتتان فلا يشكل وقوع قوله: {أمواتاً} وقوله: {ثم يميتكم} في سياق الآية. وأما قوله: {ثم يحييكم ثم إليه ترجعون} فذلك تفريع عن الاستدلال وليس هو بدليل إذ المشركون ينكرون الحياة الآخرة فهو إدماج وتعليم وليس باستدلال، أو يكون ما قام من الدلائل على أن هناك حياة ثانية قد قام مقام العلم بها وإن لم يحصل العلم فإن كل من علم وجود الخالق العدل الحكيم ورأى الناس لا يجْرُون على مقتضى أوامره ونواهيه فيرى المفسد في الأرض في نعمة والصالح في عناء علم أن عدل الله وحكمته ما كان ليُضيع عمل عامل وأن هنالك حياة أحكم وأعدل من هذه الحياة تكون أحوال الناس فيها على قدر استحقاقهم وسمو حقائقهم. وقوله: {ثم إليه ترجعون} أي يكون رجوعكم إليه، شُبِّه الحضور للحساب برجوع السائر إلى منزله باعتبار أن الله خلق الخلق فكأنهم صَدروا من حضرته فإذا أحياهم بعد الموت فكأنهم أرجعَهم إليه وهذا إثبات للحشر والجزاء. وتقديم المتعلِّق على عامله مفيد القصر وهو قصر حقيقي سيق للمخاطَبين لإفادتهم ذلك إذ كانوا منكرين ذلك وفيه تأييس لهم من نفع أصنامهم إياهم إذ كان المشركون يحاجون المسلمين بأنه إن كان بعث وحشر فسيجدون الآلهة ينصرونهم. و {تُرجَعون} بضم التاء وفتح الجيم في قراءة الجمهور، وقرأهُ يعقوب بفتح التاء وكسر الجيم والقراءة الأولى على اعتبار أن الله أرجعهم وإن كانوا كارهين لأنهم أنكروا البعث والقراءة الثانية باعتبار وقوع الرجوع منهم بقطع النظر عن الاختيار أو الجبر.
{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)} {هُوَ الذى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الارض جَمِيعاً}. هذا، إما استدلال ثاننٍ على شناعة كفرهم بالله تعالى وعلى أنه مما يقضي منه العجب فإن دلائل ربوبية الله ووحدانيته ظاهرة في خلق الإنسان وفي خلق جميع ما في الأرض فهو ارتقاء في الاستدلال بكثرة المخلوقات، وفصْل الجملةِ السابقة يجوز أن يكون لمراعاة كمال الاتصال بين الجملتين لأن هذه كالنتيجة للدليل الأول لأن في خلق الأرض وجميع ما فيها وفي كون ذلك لمنفعة البشر إكمالاً لإيجادهم المشار إليه بقوله: {وكنتم أمواتاً فأحياكم} [البقرة: 28] لأن فائدة الإيجاد لا تكمل إلا بإمداد الموجود بما فيه سلامته من آلام الحاجة إلى مقومات وجوده. ويجوز أن يكون ترك العطف لدفع أن يوهم العطف أن الدليل هو مجموع الأمرين فبترك العطف يعلم أن الدليل الأول مستقل بنفسه وفي الأول بُعد وفي الثاني مخالفة الأصل لأن أصل الفصل أن لا يكون قطعاً على أنه توهم لا يضير. وإما أن يكون قوله: {هو الذي خلق} امتناناً عليهم بالنعم لتسجيل أن إشراكهم كفران بالنعمة أدمج فيه الاستدلال على أنه خالق لما في الأرض من حيوان ونبات ومعادن استدلالاً بما هو نعمة مشاهدة كما أشار إليه قوله: {لكم} فيكون الفصل بين الجملتين كما قرر آنفاً، ولم يلتفت إلى ما في هذه الجملة من مغايرة للجملة الأولى بالامتنان لأن ما أدمج فيها من الاستدلال رجح اعتبار الفصل. والخلق تقدم تفسيره عند قوله تعالى: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم} [البقرة: 21]. والأرض اسم للعالم الكروي المشتمل على البر والبحر الذي يعمره الإنسان والحيوان والنبات والمعادن وهي المواليد الثلاثة وهذه الأرض هي موجود كائن هو ظرف لما فيه من أصناف المخلوقات، وحيث إن العبرة كائنة في مشاهدة الموجودات من المواليد الثلاثة، علق الخلق هنا بما في الأرض مما يحتويه ظرفها من ظاهره وباطنه ولم يعلق بذات الأرض لغفلة جل الناس عن الاعتبار ببديع خلقها إلا أن خالق المظروف جدير بخلق الظرف إذ الظرف إنما يقصد لأجل المظروف فلو كان الظرف من غير صنع خالق المظروف للزم إما تأخر الظرف عن مظروفه وفي ذلك إتلاف المظروف، والمشاهدةُ تنفي ذلك، وإما تقدم الظرف وذلك عبث. فاستفادة أنه خلق الأرض مأخوذة بطريق الفحوى فمن البعيد أن يجَوِّز صاحب «الكشاف» أن يراد بالأرض الجهة السفلية كما يراد بالسماء الجهة العلوية، وبعده من وجهين أحدهما أن الأرض لم تطلق قط على غير الكرة الأرضية إلا مجازاً كما في قول شاعر أنشده صاحب «المفتاح» في بحث التعريف باللام ولم ينسبه هو ولا شارحوه: الناس أرض بكل أرض *** وأنت من فوقهم سماء بخلاف السماء أطلقت على كل ما علا فأظل، والفرق بينهما أن الأرض شيء مشاهد والسماء لا يتعقل إلا بكونه شيئاً مرتفعاً. الثاني على تسليم القياس فإن السماء لم تطلق على الجهة العليا حتى يصح إطلاق الأرض على الجهة السفلى بل إنما تطلق السماء على شيء عال لا على نفس الجهة. وجملة: {هو الذي خلق لكم} صيغة قصر وهو قصر حقيقي سيق للمخاطبين من المشركين الذين لا شك عندهم في أن الله خالق ما في الأرض ولكنهم نُزلوا منزلةَ الجاهل بذلك فسيق لهم الخبر المحصور لأنهم في كفرهم وانصرافهم عن شكره والنظر في دعوته وعبادته كحال من يجهل أن الله خالق جميع الموجودات. ونظير هذا قوله: {أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون} [النحل: 17] {إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له} [الحج: 73] فإن المشركين ما كانوا يثبتون لأصنامهم قدرة على الخلق وإنما جعلوها شفعاء ووسائط وعبدوها وأعرضوا عن عبادة الله حق عبادته ونسوا الخلق الملتصق بهم وبما حولهم من الأحياء والمقصود من الكلام فيما أراه موافقاً للبلاغة التذكير بأن الله هو خالق الأرض وما عليها وما في داخلها وأن ذلك كله خلقه بقدر انتفاعنا بها وبما فيها في مختلف الأزمان والأحوال فأُوجز الكلامُ إيجازاً بديعاً بإقحام قوله: {لكم} فأَغْنَى عن جملة كاملة فالكلام مسوق مساق إظهار عظيم القدرة وإظهار عظيم المنة على البشر وإظهار عظيم منزلة الإنسان عند الله تعالى، وكل أولئك يقتضي اقتلاع الكفر من نفوسهم. وفي هذه الآية فائدتان: الأولى: أن لام التعليل دلت على أن خلق ما في الأرض كان لأجل الناس وفي هذا تعليل للخلق وبيان لثمرته وفائدتهِ فتثار عنه مسألةُ تعليل أفعال الله تعالى وتعلقها بالأغراض والمسألة مختلف فيها بين المتكلمين اختلافاً يشبه أن يكون لفظياً فإن جميع المسلمين اتفقوا على أن أفعال الله تعالى ناشئة عن إرادة واختيار وعلى وفق علمه وأن جميعها مشتمل على حِكَم ومصالح وأن تلك الحكم هي ثمرات لأفعاله تعالى ناشئة عن حصول الفعل فهي لأجل حصولها عند الفعل تثمر غايات، هذا كله لا خلاف فيه وإنما الخلاف في أنها أتوصف بكونها أغراضاً وعللاً غائية أم لا؟ فأثبت ذلك جماعة استدلالاً بما ورد من نحو قوله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56]، ومنع من ذلك أصحاب الأشعري فيما عزاه إليهم الفخر في «التفسير» مستدلين بأن الذي يفعل لغرض يلزم أن يكون مستفيداً من غرضه ذلك ضرورة أن وجود ذلك الغرض أَوْلَى بالقياس إليه من عدمه، فيكون مستفيداً من تلك الأولوية ويلزم من كون ذلك الغرض سبباً في فعله أن يكون هو ناقصاً في فاعليته محتاجاً إلى حصول السبب. وقد أجيب بأن لزوم الاستفادة والاستكمال إذا كانت المنفعة راجعة إلى الفاعل، وأما إذا كانت راجعة للغير كالإحسان فَلا، فردَّه الفخر بأنه إذا كان الإحسان أرجح من غيره وأولى لزمت الاستفادة. وهذا الرد باطل لأن الأرجحية لا تستلزم الاستفادة أبداً بل إنما تستلزم تعلق الإرادة، وإنما تلزم الاستفادةُ لو ادعينا التعين والوجوب. والحاصل أن الدليل الذي استدلوا به يشتمل على مقدمتين سفسطائيتين أولاهما قولهم إنه لو كان الفعل لغرض للزم أن يكون الفاعل مستكملاً به وهذا سفسطة شُبِّه فيها الغرض النافع للفاعل بالغرض بمعنى الداعي إلى الفعل والراجع إلى ما يناسبه من الكمال لا توقف كماله عليه. الثانية قولهم إذا كان الفعل لغرض كان الغرض سبباً يقتضي عجز الفاعل وهذا شُبه فيه السبب الذي هو بمعنى الباعث بالسبب الذي يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم وكلاهما يطلق عليه سبب. ومن العجائب أنهم يسلمون أن أفعال الله تعالى لا تخلو عن الثمرة والحكمة ويمنعون أن تكون تلك الحكم عللاً وأغراضاً مع أن ثمرة فعل الفاعل العالم بكل شيء لا تخلو من أن تكون غرضاً لأنها تكون داعياً للفعل ضرورة تحقق علم الفاعل وإرادته. ولم أدر أي حرج نظروا إليه حين منعوا تعليل أفعال الله تعالى وأغراضها. ويترجح عندي أن هاته المسألة اقتضاها طرد الأصول في المناظرة، فإن الأشاعرة لما أنكروا وجوب فعل الصلاح والأصلح أَورد عليهم المعتزلة أو قدَّرُوا هُم في أنفسهم أن يُورَد عليهم أن الله تعالى لا يفعل شيئاً إلا لغرض وحكمة ولا تكون الأغراض إلا المصالح فالتزموا أن أفعال الله تعالى لا تناط بالأغراض ولا يعبر عنها بالعلل وينبئ عن هذا أنهم لما ذكروا هذه المسألة ذكروا في أدلتهم الإحسان للغير ورعي المصلحة. وهنالك سبب آخر لفرض المسألة وهو التنزه عن وصف أفعال الله تعالى بما يوهم المنفعة له أو لغيره وكلاهما باطل لأنه لا ينتفع بأفعاله ولأن الغير قد لا يكون فعلُ الله بالنسبة إليه منفعةً. هذا وقد نقل أبو إسحاق الشاطبي في «الموافقات» عن جمهور الفقهاء والمتكلمين أن أحكام الله تعالى معللة بالمصالح ودرء المفاسد، وقد جمع الأقوال الشيخ ابن عرفة في «تفسيره» فقال: «هذا هو تعليل أفعال الله تعالى وفيه خلاف وأما أحكامه فمعللة». الفائدة الثانية: أخذوا من قوله تعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً} أن أصل استعمال الأشياء فيما يراد له من أنواع الاستعمال هو الإباحة حتى يدل دليل على عدمها لأنه جعل ما في الأرض مخلوقاً لأجلنا وامتن بذلك علينا وبذلك قال الإمام الرازي والبيضاوي وصاحب «الكشاف» ونسب إلى المعتزلة وجماعة من الشافعية والحنفية منهم الكرخي ونسب إلى الشافعي. وذهب المالكية وجمهور الحنفية والمعتزلة في نقل ابن عرفة إلى أن الأصل في الأشياء الوقف ولم يروا الآية دليلاً قال ابن العربي في «أحكامه»: «إنما ذكر الله تعالى هذه الآية في معرض الدلالة والتنبيه على طريق العلم والقدرة وتصريف المخلوقات بمقتضى التقدير والإتقان بالعلم» الخ. والحق أن الآية مجملة قصد منها التنبيه على قدرة الخالق بخلق ما في الأرض وأنه خلق لأجلنا إلا أن خلقه لأجلنا لا يستلزم إباحة استعماله في كل ما يقصد منه بل خلق لنا في الجملة، على أن الامتنان يصدق إذا كان لكل من الناس بعض مما في العالم بمعنى أن الآية ذكرت أن المجموع للمجموع لا كل واحد لكل واحد كما أشار إليه البيضاوي لا سيما وقد خاطب الله بها قوماً كافرين منكراً عليهم كفرهم فكيف يعلمون إباحة أو منعاً، وإنما محل الموعظة هو ما خلقه الله من الأشياء التي لم يزل الناس ينتفعون بها من وجوه متعددة. وذهب جماعة إلى أن أصل الأشياء الحظر ونقل عن بعض أهل الحديث وبعض المعتزلة فللمعتزلة الأقوال الثلاثة كما قال القرطبي. قال الحموي في «شرح كتاب الأشباه» لابن نجيم نقلاً عن الإمام الرازي وإنما تظهر ثمرة المسألة في حكم الأشياء أيام الفترة قبل النبوة أي فيما ارتكبه الناس من تناول الشهوات ونحوها ولذلك كان الأصح أن الأمر موقوف وأنه لا وصف للأشياء يترتب من أجله عليها الثواب والعقاب. وعندي أن هذا لا يحتاج العلماء إلى فرضه لأن أهل الفترة لا شرع لهم وليس لأفعالهم أحكام إلا في وجوب التوحيد عند قوم، وأما بعد ورود الشرع فقد أغنى الشرع عن ذلك فإن وجد فعل لم يدل عليه دليل من نص أو قياس أو استدلال صحيح فالصحيح أن أصل المضار التحريم والمنافع الحل وهذا الذي اختاره الإمام في «المحصول» فتصير للمسألة ثمرة باعتبار هذا النوع من الحوادث في الإسلام. {ثُمَّ استوى إِلَى السمآء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سموات وَهُوَ بِكُلِّ شَئ عَلِيمٌ}. انتقال من الاستدلال بخلق الأرض وما فيها وهو مما علمه ضروري للناس، إلى الاستدلال بخلق ما هو أعظم من خلق الأرض وهو أيضاً قد يُغفل عن النظر في الاستدلال به على وجود الله، وذلك خلق السماوات، ويشبه أن يكون هذا الانتقال استطراداً لإكمال تنبيه الناس إلى عظيم القدرة. وعَطَفَتْ (ثُمَّ) جملةَ (استوى) على جملة {خَلَقَ لكم}. ولدلالة (ثُمَّ) على الترتيب والمهلة في عطف المفرد على المفرد كانت في عطف الجملة على الجملة للمهلة في الرتبة وهي مهلة تخييلية في الأصل تشير إلى أن المعطوف بثُم أعرق في المعنى الذي تتضمنه الجملة المعطوف عليها حتى كأنَّ العَقْل يتمهل في الوصول إليه بعد الكلام الأول فينتبه السامع لذلك كي لا يغفل عنه بما سمع من الكلام السابق، وشاع هذا الاستعمال حتى صار كالحقيقة، ويسمى ذلك بالترتيب الرتبي وبترتب الإخبار (بكسر الهمزة) كقوله تعالى: {فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فَكُّ رقبةٍ} [البلد: 11 13] إلى أن قال: {ثم كان من الذين آمنوا} [البلد: 17] فإن قوله: {فَكُّ رقبة} خبرُ مبتدأ محذوف ولما كان ذكر هاته الأمور التي يعز إيفاؤها حقها مما يُغفل السامع عن أمر آخر عظيم نُبه عليه بالعطف بثم للإشارة إلى أنه آكد وأهم، ومنه قول طرفة بن العبد يصف راحلته: جَنُوح دِفاق عَنْدَلٌ ثم أُفرِعَت *** لَهَا كَتِفَاها في مُعَالىً مُصَعَّد فإنه لما ذكر من محاسنها جملة نبه على وصف آخر أهم في صفات عنقها وهو طول قامتها قال المرزوقي في «شرح الحماسة» في شرح قول جَعفر بن عُلبة الحارثي: لا يَكْشِفُ الغَمَّاءَ إلاَّ ابنُ حُرَّة *** يَرَى غَمَرَاتتِ المَوْتتِ ثم يزورها إن ثم وإن كان في عطفه المفرد على المفرد يدل على التراخي فإنه في عطفه الجملة على الجملة ليس كذلك وذكر قوله تعالى: {ثم كان من الذين آمنوا} ا ه. وإفادة التراخي الرتبي هو المعتبر في عطف ثم للجمل سواء وافقت الترتيب الوجودي مع ذلك أو كان معطوفها متقدماً في الوجود وقد جاء في الكلام الفصيح ما يدل على معنى البعدية مراداً منه البعدية في الرتبة وإن كان عكس الترتيب الوجودي فتكون البعدية مجازية مبنية على تشبيه البَوْن المعنوي بالبعد المكاني أو الزماني ومنه قوله تعالى: {همَّاز مَشَّاءٍ بنَميم منَّاععٍ للخير مُعْتَد أثيم عُتُلّ بعدَ ذلك زنيم} [القلم: 11 13] فإن كونه عُتُلا وزنيماً أسبق في الوجود من كونه همَّازاً مشَاء بنميم لأنهما صفتان ذاتيتان بخلاف هماز مشاء بنميم، وكذلك قوله تعالى: {فإن الله هو مولاه وجبريل وصالحُ المؤمنين والملائكةُ بعد ذلك ظهير} [التحريم: 4]. فإذا تمحضت ثم للتراخي الرتبي حملت عليه وإن احتملته مع التراخي الزمني فظاهر قول المرزوقي: «فإنه في عطف الجملة ليس كذلك» إنه لا يَحتمل حينئذٍ التراخي الزمني. ولكن يظهر جَواز الاحتمالين وذلك حيث يكون المعطوف بها متأخراً في الحصول على ما قبلها وهو مع ذلك أهم كما في بيت جعفر بن عُلبة. قلت وهو إما مجاز مرسل أو كناية، فإن ألقت (ثم) وأريد منها لازم التراخي وهو البعد التعظيمي كما أريد التعظيم من اسم الإشارة الموضوع للبعيد، والعلاقة وإن كانت بعيدة إلا أنها لشهرتها في كلامهم واستعمالهم ومع القرائن لم يكن هذا الاستعمال مردوداً. واعلم أني تتبعت هذا الاستعمال في مواضعه فرأيته أكثر ما يرد فيما إذا كانت الجمل إخباراً عن مخبر عنه واحد بخلاف ما إذا اختلف المخبر عنه فإن (ثم) تتعين للمهلة الزمنية كقوله تعالى: {وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم إلى قوله: ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم} [البقرة: 84، 85] أي بعد أن أخذنا الميثاق بأزمان صرتم تقتلون أنفسكم ونحو قولك: مرت كتيبة الأنصار ثم مرت كتيبة المهاجرين. فأما هذه الآية فإنه إذا كانت السماوات متأخراً خلقها عن خلق الأرض فثُم للتراخي الرتبي لا محالة مع التراخي الزمني وإن كان خلق السماوات سابقاً فثُم للترتيب الرتبي لا غير. والظاهر هو الثاني. وقد جرى اختلاف بين علماء السلف في مقتضى الأخبار الواردة في خلق السماوات والأرض فقال الجمهور منهم مجاهد والحسن ونسب إلى ابن عباس إن خلق الأرض متقدم على خلق السماء لقوله تعالى هنا: {ثم استوى إلى السماء} وقوله في سورة حم السجدة (9 11): {قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين} إلى أن قال: ثم استوى إلى السماء وهي دخان. وقال قتادة والسدي ومقاتل إن خلق السماء متقدم واحتجوا بقوله تعالى: بناها رَفع سمكها فسواها إلى قوله: {والأرضَ بعد ذلك دحاها} [النازعات: 27 30]. وقد أجيب بأن الأرض خلقت أولاً ثم خلقت السماء ثم دُحيت الأرض فالمتأخر عن خلق السماء هو دحْو الأرض، على ما ذهب إليه علماء طبقات الأرض من أن الأرض كانت في غاية الحرارة ثم أخذت تبرد حتى جمدت وتكونت منها قشرة جامدة ثم تشققت وتفجرت وهبطت منها أقسام وعلت أقسام بالضغط إلا أن علماء طبقات الأرض يقدرون لحصول ذلك أزمنة متناهية الطول وقدرة الله صالحة لإحداث ما يحصل به ذلك التقلب في أمد قليل بمقارنة حوادث تعجل انقلاب المخلوقات عما هي عليه. وأرجح القولين هو أن السماء خلقت قبل الأرض لأن لفظ {بعد ذلك} أظهر في إفادة التأخر من قوله: {ثم استوى إلى السماء} ولأن أنظار علماء الهيئة ترى أن الأرض كرة انفصلت عن الشمس كبقية الكواكب السيارة من النظام الشمسي. وظاهر سفر التكوين يقتضي أن خلق السماوات متقدم على الأرض. وأحسب أن سلوك القرآن في هذه الآيات أسلوب الإجمال في هذا الغرض لقطع الخصومة بين أصحاب النظريتين. والسماء إن أريد بها الجو المحيط بالكرة الأرضية فهو تابع لها متأخر عن خلقها، وإن أريد بها الكواكب العلوية وذلك هو المناسب لقوله: {فسوتهن سبع سموات} فالكواكب أعظم من الأرض فتكون أسبق خلقاً وقد يكون كل من الاحتمالين ملاحظاً في مواضع من القرآن غير الملاحظ فيها الاحتمال الآخر. والاستواء أصله الاستقامة وعدم الاعوجاج يقال صراط مستو، واستوى فلان وفلان واستوى الشيء مطاوع سواء، ويطلق مجازاً على القصد إلى الشيء بعزم وسرعة كأنه يسير إليه مستوياً لا يلوي على شيء فيعدى بإلى فتكون (إلى) قرينة المجاز وهو تمثيل، فمعنى استواء الله تعالى إلى السماء تعلق إرادته التنجيزي بإيجادها تعلقاً يشبه الاستواء في التهيئ للعمل العظيم المتقن. ووزن استوى افتعل لأن السين فيه حرف أصلي وهو افتعال مجازي وفيه إشارة إلى أنه لما ابتدأ خلق المخلوقات خلق السماوات ومن فيها ليكون توطئة لخلق الأرض ثم خلق الإنسان وهو الذي سيقت القصة لأجله. و (سواهن) أي خلقهن في استقامة، واستقامة الخلق هي انتظامه على وجه لا خلل فيه ولا ثلم. وبين استوى وسواهن الجناس المحرف. والسماء مشتقة من السمو وهو العلو واسم السماء يطلق على الواحد وعلى الجنس من العوالم العليا التي هي فوق العالم الأرضي والمراد به هنا الجنس بقرينة قوله: {فسواهن سبع سماوات} إذ جعلها سبعاً، والضمير في قوله: {فسواهن} عائد إلى (السماء) باعتبار إرادة الجنس لأنه في معنى الجمع وجوز صاحب «الكشاف» أن يكون المراد من السماء هنا جهة العلو، وهو وإن صح لكنه لا داعي إليه كما قاله التفتزاني. وقد عد الله تعالى في هذه الآية وغيرها السماوات سبعاً وهو أعلم بها وبالمراد منها إلا أن الظاهر الذي دلت عليه القواعد العلمية أن المراد من السماوات الأجرام العلوية العظيمة وهي الكواكب السيارة المنتظمة مع الأرض في النظام الشمسي ويدل لذلك أمور: أحدها: أن السماوات ذكرت في غالب مواضع القرآن مع ذكر الأرض وذكر خلقها هنا مع ذكر خلق الأرض فدل على أنها عوالم كالعالم الأرضي وهذا ثابت للسيارات. ثانيها: أنها ذكرت مع الأرض من حيث إنها أدلة على بديع صنع الله تعالى فناسب أن يكون تفسيرها تلك الأجرام المشاهدة للناس المعروفة للأمم الدال نظام سيرها وباهر نورها على عظمة خالقها. ثالثها: أنها وصفت بالسبع وقد كان علماء الهيئة يعرفون السيارات السبع من عهد الكلدان وتعاقب علماء الهيئة من ذلك العهد إلى العهد الذي نزل فيه القرآن فما اختلفوا في أنها سبع. رابعها: أن هاته السيارات هي الكواكب المنضبط سيرها بنظام مرتبط مع نظام سير الشمس والأرض، ولذلك يعبر عنها علماء الهيئة المتأخرون بالنظام الشمسي فناسب أن تكون هي التي قرن خلقها بخلق الأرض. وبعضهم يفسر السماوات بالأفلاك وهو تفسير لا يصح لأن الأفلاك هي الطرق التي تسلكها الكواكب السيارة في الفضاء، وهي خطوط فرضية لا ذوات لها في الخارج. هذا وقد ذكر الله تعالى السماوات سبعاً هنا وفي غير آية، وقد ذكر العرش والكرسي بما يدل على أنهما محيطان بالسماوات وجعل السماوات كلها في مقابلة الأرض وذلك يؤيد ما ذهب إليه علماء الهيئة من عد الكواكب السيارة تسعة وهذه أسماؤها على الترتيب في بعدها من الأرض: نِبْتون، أُورَانوس، زُحَل، المشتري، المريخ، الشمس، الزهرة، عطارد، بلكان. والأرض في اصطلاحهم كوكب سيار، وفي اصطلاح القرآن لم تعد معها لأنها التي منها تنظر الكواكب وعُد عوضاً عنها القمر وهو من توابع الأرض فعده معها عوض عن عد الأرض تقريباً لأفهام السامعين. وأما الثوابت فهي عند علماء الهيئة شموس سابحة في شاسع الأبعاد عن الأرض وفي ذلك شكوك. ولعل الله لم يجعلها سماوات ذات نظام كنظام السيارات السبع فلم يعدها في السماوات أو أن الله إنما عد لنا السماوات التي هي مرتبطة بنظام أرضنا. وقوله: {وهو بكل شيء عليم} نتيجة لما ذكره من دلائل القدرة التي لا تصدر إلا من عليم فلذلك قال المتكلمون، إن القدرة يجري تعلقها على وفق الإرادة، والإرادةَ على وفق العلم. وفيه تعريض بالإنكار على كفرهم والتعجيب منه فإن العليم بكل شيء يقبح الكفر به. وهذه الآية دليل على عموم العلم وقد قال بذلك جميع الملِّيِّين كما نقله المحقق السلكوتي في «الرسالة الخَاقَانِيَّة» وأنكر الفلاسفة علمه بالجزئيات وزعموا أن تعلق العلم بالجزئيات لا يليق بالعلم الإلهي وهو توهم لا داعي إليه. وقرأ الجمهور هاء «وهو» بالضم على الأصل، وقرأها قالون وأبو عمرو والكسائي وأبو جعفر بالسكون للتخفيف عند دخول حرف العطف عليه، والسكون أكثر من الضم في كلامهم وذلك مع الواو والفاء ولاممِ الابتداء ووجهه أن الحروف التي هي على حرف واحد إذا دخلت على الكلمة تنزلت منزلة الجزء منها فصارت الكلمة ثقيلة بدخول ذلك الحرف فيها فخففت بالسكون كما فعلوا ذلك في حركة لام الأمر مع الواو والفاء، ومما يدل على أن أفصح لغات العرب إسكان الهاء مِن (هو) إذا دخل عليه حرف، أنك تجده في الشعر فلا يتزن البيت إلا بقراءة الهاء ساكنة ولا تكاد تجد غير ذلك بحيث لا يمكن دَعوى أنه ضرورة. [
|